إمامة الشيعة وأثرها على التوحيد
إمامة الشيعة وأثرها على التوحيد
إبن التركماني ( تركمان أوغلو )
1432هـ / 2011م
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى :
﴿ وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ . . وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآَخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾[غافر/38-44].
﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾[الأنعام/79-81].
﴿ إِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [النحل/86]
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على سيِّدِ المُرسَلينَ مُحَمَّدٍ القائِلُ ( أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام فَبَشَّرَنِي أَنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ قُلْتُ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ قَالَ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ ) وعلى آله المطهرين وصحبه المكرمين.
وبعد:
مما لا شك فيه أن لعقيدة الإمامة التي آمن بها الشيعة، ونفاها غيرهم من المسلمين كان لها أكبر الأثر في إنقسام الأمة الإسلامية وتفرق كلمتها ـ وإن كان أهل السنة هم الغالبية في العالم، والشيعة لا يمثلون إلاّ أقل الربع.
ومما هو جدير بالذكر أن الإمامة لم تقف عند حدود الإعتقاد بل تعدت وشملت الدين برمته من أصول وفروع، وأصبحت لها لوازم وتفرعات عملية لا تنفك عنها، وهي تنخر في جسم هذه الأمة منذ مئات السنين. بل إن التشيع كدين ومذهب أصبح يتطور يوماً بعد يوم ليصبح ديناً مستقلاً عن الدين الإسلامي، وبديلاً عنه.
ولقد كنت وعدت القاريء الكريم أن أكتب عن ـ الإمامة وأثرها على التوحيد ـ فهاأنذا أكتب ما يسره الله تعالى لي بعد أن إستخرت الله تعالى، وقرأت العديد من الكتب التي كتبت في موضوعه من قبل الطرفين.
خطة البحث:
قسمت البحث إلى تمهيد وخمسة أبواب على النحو التالي:
أما التمهيد، فبينت فيه خطورة الشرك
الباب الأول
حقائق أساسية في إجتناب الشرك، أسميته بـ( حقائق السلامة)
الحقيقة الأولى: الغلو أصل كل شرك في بني آدم
المحور الأول: أساس الشرك هو الغلو في الصالحين
المحور الثاني: التشيع أساسه الغلو في أئمة أهل البيت
المحور الثالث: الصالحون يتبرؤون من الغالين
الحقيقة الثانية: لا إجتهاد في الشرك لأن قبح الشرك معلوم بالعقل والفطرة
الحقيقة الثالثة: سد الذرائع أولى من الوقوع في الشرك
الحقيقة الرابعة: العبادات مبناها على الإتباع، فلا نعبد إلا الله، ولا نعبده إلاّ بما شرع.
الحقيقة الخامسة: لا حق لأحد من المخلوق على الخالق
المحور الأول: حق الله على العباد
المحور الثاني: الفرق بين الخالق والمخلوق
المحور الثالث: حقوق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين
المحور الرابع: فضل الله تعالى على الأنبياء والأولياء
الباب الثاني
الغلو في الأنبياء والأولياء، أسبابه ونتائجه
الفصل الأول: من أين دخل الشرك على بني آدم؟
الفصل الثاني: أسباب الغلو في الصالحين
المحور الأول: نظرة الناس للأنبياء
المحور الثاني: لماذا يقع الإنسان في الغلو؟
الفصل الثالث: كيف نقطع أسباب الشرك؟
المحور الأول: ضوابط حب الأنبياء والأولياء
المحور الثاني: إعط كل ذي حق حقه
الفصل الرابع: نتائج الغلو
الباب الثالث
تحرير نقاط الخلاف بين السنة والشيعة في التوحيد
الفصل الأول: الخلل الشيعي في التوحيد
الفصل الثاني: الخلل الوهابي في التوحيد
الفصل الثالث: تحرير وتحديد نقاط الخلاف بين الطرفين
الباب الرابع
الخلاف في الدعاء والإستعانة
الفصل الأول: معنى الدعاء والإستعانة والإستغاثة والإستعاذة والنداء
الفصل الثاني: الدعاء في القرآن الكريم
المحور الأول: دعاء الأنبياء والصالحين في القرآن
المحور الثاني: أمر الله تعالى بدعائه بأسمائه الحسنى ولم يأمر بالتوجه إلاّ إليه
المحور الثالث: لا واسطة بين الله تعالى وبين عباده
الفصل الثالث: الدعاء في السنة النبوية الشريفة
الفصل الرابع: أدعية السلف الصالح من الصحابة والقرابة
الفصل الخامس: أدلة الفكر الشيعي في جواز دعاء الولي أو جواز الإستعانة به
الفصل السادس: الرد على أدلة الشيعة في جواز دعاء الأنبياء والأولياء
المحور الأول: قدرة الله تعالى وإذنه
المحور الثاني: توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية
المحور الثالث: سؤال الولي بعد الموت
المحور الرابع: دعاء الإمام أو الإستعانة به بعد وفاته ليس من الأسباب الطبيعية
المحور الخامس: الخروج من مقتضى الأسباب والعلل في الدعاء والطلب يوجب الخلل في العقيدة
المحور السادس: الفرق بين دعاء العبادة ودعاء المسألة
الباب الخامس
الخلاف في اثر الحياة والموت في الدعاء
الفصل الأول: حقيقة الموت وعلاقة الأحياء بالأموات
المحور الأول: الموت حقيقة، أم وهم
المحور الثاني: علاقة الأحياء بالأموات
أولاً : سماع الميت
ثانياً: إنتفاع الميت بالحي
ثالثاً: إنتفاع الحي بالميت
رابعاً: الصلاة على النبي دعاء
الفصل الثاني: ماهية الشفاعة التي يملكها الميت
المحور الأول : معنى الشفاعة
أولاً: الشفاعة حقيقة قرآنية
ثانياً: الشفاعة التي أكدها القرآن الكريم هي خاصة بيوم القيامة بعد الحشر
ثالثا: الشفاعة تكون بين الأحياء فقط
المحور الثاني: طلب الشفاعة من الأموات
الشفاعة في حياة الأنبياء
المحور الثالث: أسباب التوجه إلى غير الله تعالى في الدعاء أو الشفاعة
المحور الرابع: العلاقة السببية في التوسل بين السائل والمتوسل به
الفصل الثالث: الفرق بين الدعاء والتوسل والشفاعة
الطرق الشرعية لنيل الشفاعة
في السابع والعشرين من أيار( مايس ) 2011م
الموافق
للرابع والعشرين من ذي الحجة 1432هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
خطورة الشرك
الْعِبَادَةُ هِيَ الْغَايَةُ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ لَهَا الْعِبَادَ مِنْ جِهَةِ أَمْرِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ وَبِهَا أَرْسَلَ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ:﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل/36].
قال العلامة محمد بن الأمير الصنعاني:
( قال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل/36]. أي قائلين لأممهم أن اعبدوا الله. فأفاد بقوله ﴿ فِي كُلِّ أُمَّةٍ ﴾ أن جميع الأمم لم ترسل إليهم الرسل إلاّ لطلب توحيد العبادة، لا للتعريف بأن الله هو الخالق للعالم وأنه رب السموات والأرض، فإنهم مقرون بهذا. ولهذا لم ترد الآيات فيه ـ في الغالب ـ إلا بصيغة استفهام التقرير، نحو: ﴿ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ ﴾[فاطر/3] ﴿ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾[النحل/17] : ﴿ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾[إبراهيم/10] : ﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾[الأنعام/14] : ﴿ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ﴾[لقمان/11] : ﴿ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ﴾[فاطر/40] استفهام تقرير لهم لأنهم به مقرون.
وبهذا تعرف أن المشركين لم يتخذوا الأصنام والأوثان ولم يعبدوها ولم يتخذوا المسيح وأمه ولم يتخذوا الملائكة شركاء لله تعالى لأنهم أشركوهم في خلق السموات والأرض، بل اتخذوهم لأنهم يقربونهم إلى الله زلفى، كما قالوه. فهم مقرون بالله في نفس كلمات كفرهم وأنهم شفعاء عند الله. قال الله تعالى: ﴿ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾[يونس/18] فجعل الله تعالى اتخاذهم للشفعاء شركاً ونزه نفسه عنه لأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فكيف يثبتون شفعاء لهم لم يأذن الله لهم في شفاعة ولا هم أهل لها ولا يغنون عنهم من الله شيئا؟
وكل مشرك مقر بأن الله خالقه وخالق السموات والأرض وربهن ورب ما فيهما ورازقهم، ولهذا احتج عليهم الرسل بقولهم ﴿ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ ﴾ وبقولهم : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ﴾[الحج/73] والمشركون مقرون بذلك لا ينكرونه . . إذا تقرر عندك أن المشركين لم ينفعهم الإقرار بالله مع إشراكهم الأنداد من المخلوقين معه في العبادة ولا أغنى عنهم من الله شيئا وأن عبادتهم هي اعتقادهم فيهم أنهم يضرون وينفعون وأنهم يقربونهم إلى الله زلفى وأنهم يشفعون لهم عند الله تعالى، فنحروا لهم النحائر وطافوا بهم ونذروا النذور عليهم، وقاموا متذللين متواضعين في خدمتهم وسجدوا لهم، ومع هذا كله فهم مقرون لله بالربوبية وأنه الخالق ولكنهم أشركوا في عبادته، جعلهم مشركين ولم يعتد بإقرارهم هذا، لأنه نافاه فعلهم، فلم ينفعهم الإقرار بتوحيد الربوبية. فمن شأن من أقر لله تعالى بتوحيد الربوبية أن يفرده بتوحيد العبادة. فإن لم يفعل ذلك فالإقرار الأول باطل. وقد عرفوا ذلك وهم في طبقات النار فقالوا : ﴿ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾[الشعراء/97، 98] مع أنهم لم يسووهم به من كل وجه ولا جعلوهم خالقين ولا رازقين، لكنهم علموا وهم في قعر جهنم أن خلطهم الإقرار بذرة من ذرات الإشراك في توحيد العبادة صيرهم كمن سوى بين الأصنام وبين رب الأنام. قال الله تعالى : ﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ﴾[يوسف/106] أي ما يقر أكثرهم في إقراره بالله وبأنه خلقه وخلق السموات والأرض إلا وهو مشرك بعبادة الأوثان.
بل سمى الله الرياء في الطاعات شركاً، مع أن فاعل الطاعة ما قصد بها إلا الله تعالى، وإنما أراد طلب المنزلة بالطاعة في قلوب الناس. فالمرائي عبد الله لا غيره لكنه خلط عمله بطلب المنزلة في قلوب الناس، فلم يقبل له عبادة وسماها شركا )([1]).
والذي يعرف الشيعة عن كثب يرى أنهم متهاونون في مسألة التوحيد، إلى الحد الذي جعلهم يقعون في كثير من مفردات الشرك العملي والإعتقادي في حياتهم اليومية، دون أن يشعروا أو يحسوا بخطورة الأمر على مصيرهم في الحياة الآخرة.
وكان الخطب هيناًّ لو إقتصر الأمر على عوام الشيعة، بحيث يمكن الإعتذار عنهم بالجهل، وعدم الشعور بأهمية القضية في حياتهم الدنيوية والآخروية. لكن المشكلة تكمن في أن علماء الشيعة وفقهاءهم وخطباءهم يقعِّدون لهم القواعد ويهونون عليهم أمر الشرك ويمهدون لهم السبل التي تسهل الوقوع في الشرك في ممارساتهم اليومية العادية منها والدينية.
وتأتي خطورة الشرك للأسباب التالية:
· الشرك ظلم عظيم: قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾[لقمان/13].
والظلم هو: وضع الشيء في غير موضعه، فمن عبد غير الله؛ فقد وضع العبادة في غير موضعها، وصرفها لغير مستحقها، وذلك أعظم الظلم. فَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا، وبالمقابل على العبد أن لا يصدر منه ظلم لا لله ولا لغيره من الناس.
· إنه الذنب الذي لا يغفره الله تعالى : قال الله تعالى : ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ﴾[النساء/48]. وقطعاً فإن مما لا خلاف فيه، أن الله تعالى يغفر جميع الذنوب بالتوبة بما فيها الشرك، فوجب حمل الآية على عدم التوبة؛ ويشهد لها ما رواه الصدوق في كتاب التوحيد عن إبراهيم بن زياد الكرخي عن أبي عبد الله عن أبيه عن جده u قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من مات ولا يشرك بالله شيئا أحسن أو أساء دخل الجنة. ومن المعلوم أن التائب عن الذنب كمن لا ذنب له، وأن الله تعالى يغفر للعبد ما لم يغرغر، وأن التوبة تجُبُّ ما قبلها.
· إن الله أخبر أنه حرَّم الجنة على المشرك، وأنه خالد مخلد في نار جهنم، قال تعالى: ﴿ إِنَّهُ ُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ [المائدة/72].
· إن الشرك يُحبطُ جميعَ الأعمال، قال الله تعالى :﴿ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾[الأنعام/88]، وقال مخاطباً أفضل خلقه إليه:﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الزمر/65].
· الشرك بالله تعالى يوجب البراءة من المشرك ويبيح دمه وماله، : قال الله تعالى :﴿ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [التوبة/1]، ﴿ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ﴾ [التوبة/5]. وهناك أحكام أخرى أعرضنا عنها مخافة الإطالة.
الباب الأول
حقائق السلامة
الحقيقة الأولى: الغلو أصل كل شرك في بني آدم
المحور الأول: أساس الشرك هو الغلو في الصالحين
المحور الثاني: التشيع أساسه الغلو في أئمة أهل البيت
المحور الثالث: الصالحون يتبرؤون من الغالين
الحقيقة الثانية: لا إجتهاد في الشرك لأن قبح الشرك معلوم بالعقل والفطرة
الحقيقة الثالثة: سد الذرائع أولى من الوقوع في الشرك
الحقيقة الرابعة: العبادات مبناها على الإتباع، فلا نعبد إلا الله، ولا نعبده إلاّ بما شرع.
الحقيقة الخامسة: لا حق لأحد من المخلوق على الخالق
المحور الأول: حق الله على العباد
المحور الثاني: الفرق بين الخالق والمخلوق
المحور الثالث: حقوق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين
المحور الرابع: فضل الله تعالى على الأنبياء والأولياء
الباب الأول
حقائق السلامة
نظراً لخطورة الشرك على عاقبة الإنسان، فيجب على من أراد السلامة من النار والفوز برضاء الله تعالى وجنته؛ أن يتقيد بهذه القواعد التي تجنبه الوقوع في الشرك، أو وسائله التي قد تؤدي إلى الوقوع فيه:
الحقيقة الأولى
الغلو أصل كل شرك في بني آدم
تنتظم هذه الحقيقة في ثلاثة محاور:
المحور الأول: أساس الشرك هو الغلو في الصالحين:
إن دين الله تعالى وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، والله تعالى ما أمر عباده بأمر إلاّ إعترض الشيطان فيه بأمرين، لا يبالي بأيهما ظفر: إما إفراط فيه، أو تفريط.
قال الله تعالى وهو ينهى عن الغلو: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾[النساء/171]، ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ﴾ [المائدة/77] وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ )([2]).
أما التفريط فينشأ عن إتباع شهوة النفس والركون إلى ملذات الدنيا، وهذا علاجه لا يتطلب سوى مواعظ مؤثرة وتذكير بأن هذه الحياة قصيرة وفانية وزائلة وليست هي نهاية المطاف؛ بل يعقبها إما نعيم دائم، أو عذاب سرمدي.
وأما الإفراط فيه فهو أصل كل إنحراف عن الدين وعن جادة الصواب . ولا ينشأ الإفراط في الدين إلاّ عن إعتقاد القلب. فلا ينشأ إلاّ عن الحب سواء حب تطبيق شرائع الدين؛ أو حب عباد الله الصالحين.
فيتجاوز صاحبه الحدود والمديات التي رسمها الشارع الحكيم، ومن الطبيعي أن الذي يتجاوز الحدود المرسومة له سيتعدى حتماً على حدود الآخرين. وأكبر المشكلة في علاجه أن صاحبه يرى أنه على إستقامة من الأمر، وأنه لا طريق إلى الله تعالى غير طريقه، وأن من عداه فهو في ضلال مبين.
فللغلو صورتان:
الأولى: الزيادة على ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أقوال وأفعال وإعتقاد، وهذا الغلو يطلق عليه ( البدعة ). وله أمثلة كثيرة كغلو الخوارج في تكفير المسلمين بالذنوب، وغلو الشيعة في تكفير من عداهم من الفرق الإسلامية.
وهنالك أمثلة أخرى ، كإستحداث صلوات غير الصلوات المسنونة، أو أدعية مستحدثة لم تكن في القرون الأولى، والرهبانية التي إستحدثتها النصارى وما رعوها حق رعايتها؛ قال الله تعالى: ﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ﴾[الحديد/27]. . إلخ. وهذا ليس موضوعنا فلا نتشعب فيه.
الثانية: الغلو في الصالحين من البشر، كالأنبياء والأولياء، أو الغلو في عباد الله المكرمين من الملائكة والصالحين، كغلو النصارى في عيسى؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾[النساء/171].
وقال أيضا: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ﴾ [المائدة/77].
وهذا النوع من الغلو أخطر من النوع الأول، لأن فيه تعدٍّ لحدود الله، وهضم لحقوقه تعالى التي يتميز بها عن سائر خلقه.
بل إن أعظم الخطر فيه يكمن في إعطاء ما هو من خصائص الله تعالى لغيره من البشر أنبياء كانوا، أم أولياء.
ومتى ما وقع شيء من هذا القبيل، فقد وقع الشرك الذي من أبسط أشكاله مزاحمة المخلوق للخالق فيما هو من خصائص الألوهية أو الربوبية. قال الله تعالى: ﴿ ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾[الروم/28].
والتشيع أساسه حب أهل بيت النبي رضي الله عنهم، حبّاً أخرجهم من الإعتدال إلى الغلو فيهم، والتنقيص من شأن الصحابة الذين إعتقدوا فيهم أنهم ظلموا أهل البيت، وأخذوا منصب الخلافة منهم؛ ومن ثم تطور شيئاً فشيئاً وأخذ إتجاهاً آخر. وهذا ما سنبحثه في المحور الثاني.
المحور الثاني: التشيع أساسه الغلو في أئمة أهل البيت:
بدأ التشيع في أصل نشأته من حب علي بن أبي طالب y وأهل بيته الطاهرين، وتقديم محبتهم على محبة بعض الصحابة، من عدا الشيخين ـ أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما. ( فعن شريك بن عبد الله أنه سأله سائل: أيهما أفضل أبو بكر أو علي؟ فقال له: أبو بكر. فقال السائل: تقول هذا وأنت شيعي! فقال له: نعم من لم يقل هذا فليس شيعياً، والله لقد رقي هذه الأعواد علي، فقال: ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر، فكيف نرد قوله، وكيف نكذبه؟ والله ما كان كذاباً)([3]).
ثم تطور إلى تقديم خلافته على خلافة عثمان بن عفان y ، أي أنه كان أولى من عثمان في الخلافة على الأمة بعد عمر.
ثم تطور شيئاً فشيئاً إلى إختلاف عقائدي بعد أن كان لا يتعدى من هو الأولى في الحكم والسياسة. ثم تطور إلى الطعن والبراءة من الصحابة وأمهات المؤمنين رضي الله عنهن، ثم إلى القول بتحريف القرآن، ثم إلى الغلو في بعض أهل البيت، والإعتقاد فيهم بالعصمة، وأنهم يعلمون الغيب، ثم تشييد المقامات والأضرحة والعكوف على قبورهم، وما يصاحب ذلك من أنواع الطقوس والعبادات التي ما أنزل الله بها من سلطان.
يقول شيخهم عبدالله الممقاني: "إنا قد بينا غير مرة أن رمي القدماء الرجل بالغلو لا يعتمد عليه ولا يركن إليه لوضوح كون القول بأدنى مراتب فضائلهم (يعني الأئمة) غلواً عند القدماء، وكون ما نعده اليوم من ضروريات مذهب التشيع غلواً عند هؤلاء، وكفاك في ذلك عدّ الصدوق نفي السهو عنهم غلوًا، مع أنه اليوم من ضروريات المذهب، وكذلك إثبات قدرتهم على العلم بما يأتي (أي علم الغيب) بتوسط جبرائيل والنبي غلواً عندهم ومن ضروريات المذهب اليوم" [تنقيح المقال: 3/240)([4]).
ويقول الدكتور أحمد الكاتب:
( فنحن نعتقد أن أزمة الشيعة لم تبدأ من العصر الصفوي، وإنما ابتدأت من تحول فريق من الشيعة من التشيع "السياسي" إلى التشيع "الديني" في القرن الثاني الهجري. ولذا نعتقد أن الحل يكمن في تفكيك "التشيع الديني" والعودة إلى جوهر "التشيع السياسي". وأن في هذه العودة خيرا للشيعة وللعالم الإسلامي. وذلك لأن العالم الإسلامي لم يكن منقسما إلى طوائف في ظل التشيع السياسي، في أيام خلافة الإمام علي بن أبي طالب، الذي كان يجمع عليه الغالبية من المسلمين، وهو يمكن أن يتحد اليوم مرة أخرى على ذلك النوع من التشيع "السياسي" وإن لم يكن شخص الإمام علي أو أحد من أهل بيته موجودا في الوقت الراهن. إذ أن المهم هو الجوهر وليس الإطار، وجوهر التشيع يتمثل في روح العدل والحرية والشورى والوحدة، وهي مباديء لا تخص الشيعة فقط بل يجمع عليها عامة المسلمين)([5]).
ونحن نعتقد اليوم أن التشيع أساسه الغلو في أفراد من أهل البيت، وهم الذين اصطلحوا على تسميتهم بـ( الأئمة الإثنا عشر المعصومين). وفيما يلي أذكر جانباً من غلو الشيعة فيهم، مبيناً النتائج المترتبة عليه:
· القول بعصمتهم: والقول بعصمتهم من الذنوب الصغيرة والكبيرة، ومن السهو والغلط([6])، يعني مساواتهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، بل ربما ذكر لنا القرآن ذنوباً لبعض الأنبياء، بما لا يتعارض مع النبوة والتبليغ عن الله تعالى؛ والنبي كان عندما كان يُسأل عن ما لا يعلمه من الأحكام، أو عن أخبار الأمم الماضية، كان الوحي يأتيه فيعلمه. أما الإمام فهو فوق النبي في هذه المرتبة، لأنه لا يوحى إليه، فهو إذن يعلم كل شيء من غير أن يوحى إليه. وقالوا أن الأئمة ( ليسوا من قبيل الرواة عن النبي والمحدثين عنه، ليكون قولهم حجة من جهة أنهم ثقات في الرواية؛ بل لأنهم هم المنصوبون من الله تعالى على لسان النبي لتبليغ الأحكام الواقعية، فلا يحكمون إلا عن الأحكام الواقعية عند الله تعالى كما هي . . وأن ذلك يتحقق من طريق الإلهام كالنبي من طريق الوحي، أو من طريق التلقي عن المعصوم قبله " ) (المظفر/ أصول الفقه المقارن: 3/51)([7]).
يقول شيخ الإسلام إبن تيمية:
( وأيضا فجعل غير النبي مماثلا للنبي في ذلك قد يكون من أعظم الشبه والقدح في خاصة النبي فإنه إذا وجب أن يؤمن بجميع ما يقوله هذا كما يجب الإيمان بجميع ما يقوله النبي لم تظهر خاصة النبوة فإن الله أمرنا أن نؤمن بجميع ما أتى به النبيون فلو كان لنا من يساويهم في العصمة لوجب الإيمان بجميع ما يقوله فيبطل الفرق. . . وإذا ساوى النبي في وجوب طاعته في كل شيء ووجوب تصديقه في كل شيء ونفى كل غلط منه فيقال فأي شيء خاصة النبي التي انفرد بها عنه حتى صار هذا نبيا وهذا ليس بنبي. فإن قيل: بنزول الوحي عليه قيل إذا كان المقصود بنزول الوحي عليه قد حصل له فقد استراح من التعب الذي كان يحصل للنبي وقد شاركه في المقصود. وأيضا فعصمته إنما تكون بإلهام الحق له وهذا وحي.)([8]).
· قولهم بتحريف القرآن: هذا القول كان نتيجة لخلو القرآن من الأدلة الصحيحة الصريحة على عقيدة الإمامة التي بها فارق الشيعة المسلمين.
وخطورة هذا القول تكمن في الطعن في صحة الإسلام، والطعن في نبوة سيدنا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله وسلم ، ذلك أن القرآن هو المعجزة الخالدة لخاتم الأنبياء والمرسلين، وهو الدليل على صحة نبوته صلى الله عليه وآله وسلم , والطعن فيه، ولو في آية واحدة، أو حتى في حرف واحد منه، فإنه من شأنه أن يرفع الثقة فيه ومنه. فلا قرآن يبقى، ولا إستدلال بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ؛ فبذلك يبطل الكتاب ، وتبطل رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ولقد تنبه إلى هذا القول قديماً إبن حزم الأندلسي فقال: ( وأما قولهم (يعني النصارى) في دعوى الروافض تبديل القرآن فإن الروافض ليسوا من المسلمين). [الفصل: 2/213.]([9]) .
· الغلو في الأئمة وفي آثارهم والعكوف على المشاهد والقباب التي بُنيت على قبورهم:
وهذا أخطر أنواع الغلو لأنه يتعلق بحق الله تعالى في عبادته وحده، وإجتناب الشرك فيه.
وهم يسمون ما يجري عند قبور أئمتهم من الغلو بإحترام وتقدير عظماء الإسلام، وكأن إحترام وتوقير هؤلاء لا يكون إلاّ بتنقيص حق الله تعالى في الألوهية أو الربوبية.
وقد أخذ هذا الغلو صوراً متنوعة وأنواعا كثيرة من التصرفات القولية ، والفعلية، نذكر منها:
ـ إدعائهم بأن الأئمة يعلمون الغيب: جاء في الكافي عن الإمام جعفر u أنه قال في رواية طويلة أخذنا منها موضع الحاجة: ( ثُمَّ سَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ إِنَّ عِنْدَنَا عِلْمَ مَا كَانَ وَعِلْمَ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ قَالَ قُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ هَذَا وَاللَّهِ هُوَ الْعِلْمُ قَالَ إِنَّهُ لَعِلْمٌ وَلَيْسَ بِذَاكَ قَالَ قُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ فَأَيُّ شَيْءٍ الْعِلْمُ قَالَ مَا يَحْدُثُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ الْأَمْرُ مِنْ بَعْدِ الْأَمْرِ وَالشَّيْءُ بَعْدَ الشَّيْءِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) بل لقد بوّب الكليني باباً بعنوان: ( بَابُ أَنَّ الْأَئِمَّةَ u يَعْلَمُونَ عِلْمَ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِمُ الشَّيْءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ). وهذا ما يعني مساواتهم بالله تعالى في اخص خصوصيات الله تعالى، وهو علم الغيب، قال تعالى: { قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } [النمل/65].
ـ إدعائهم بأن لأئمتهم ولاية تكوينية ومقاما لا يبلغه ملك مقرب، ولا نبي مرسل: يقول إمامهم المعاصر الخوميني: ( إن للأئمة مقاما محمودا ودرجة سامية وخلافة تكوينية تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرات هذا الكون وأن من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا مقاماً لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل ). [الحكومة الإسلامية: ص52.]([10]).
ـ تفسيرهم للقرآن بشكل لا ينسجم لا مع اللغة ولا مع المنطق ولا مع العقل:
ففي قوله سبحانه: ﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر، آية: 65.]. جاء تفسيرها بما يلي: "يعني إن أشركت في الولاية غيره" [هذا لفظ الكليني في الكافي.].
وفي قوله تعالى: ﴿ ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ﴾ [غافر/12]
تقول رواياتهم: "عن أبي جعفر في قوله عز وجل:﴿ ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ﴾ بأن لعلي ولاية ﴿ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ ﴾ من ليست له ولاية ﴿ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ﴾" [البرقي/ كنز جامع الفوايد ص277، بحار الأنوار: 23/364، وانظر: تفسير القمي: 2/256، أصول الكافي: 1/421، البرهان 4/93-94، تفسير الصافي: 4/337.]([11]).
ـ وأخيراً ما نشاهده من الغلو عند أضرحة ائمتهم، من الحج والطواف فيها([12]) والدعاء عندها وتقريب الذبائح والنذور لها، ما لا يجوز السكوت عنها من قبل علمائهم، فضلاً عن الدفاع عنها وعمن يرتكبها بحجة أنها تصرفات غير صحيحة من قبل بعض العوام.
وهذه الأخيرة ستكون محل بحثنا في هذا الكتاب ، نسأل الله تعالى أن يجنبنا الزلل، ويوفقنا لما يحبه ويرضاه لنا ولأمة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المحور الثالث: الصالحون يتبرؤون من الغالين:
ذكرنا في المحور الأول، أن أول شرك حدث في الأرض كان سببه الغلو في الصالحين، وليس في المفسدين والطالحين من البشر. ولكن هذا الغلو كان مرفوضاً رفضاً قاطعاً من قبل الأنبياء وأولياء الله الصالحين.
ولهذا نرى أن الغلو في الأنبياء والصالحين لم يقع في حياتهم، وإنما وقع بعد موتهم؛ وإذا حدث أن وقع الغلو فيهم في حياتهم، أو وصل إلى سمعهم شيء من هذا القبيل، كانوا من أشد الناس محاربة لهم.
فهذا علي y لما غلا فيه عبدالله بن سبأ ومن تبعه نفى إبن سبأ إلى المدائن، وأحرق الغلاة الذين لم يرجعوا عن غلوهم فيه، وَخَدَّ لَهُمْ أَخَادِيدَ عِنْدَ بَابِ مَسْجِدِ بَنِي كِنْدَةَ وَقِيلَ إنَّهُ أَنْشَدَ :
لَمَّا رَأَيْت الْأَمْرَ أَمْرًا مُنْكَرًا أَجَّجْت نَارِي وَدَعَوْت قنبرا
وفي الوسائل للحر العاملي: عن مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْكَشِّيُّ فِي كِتَابِ الرِّجَالِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قُولَوَيْهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ الْعَبْدِيِّ عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ u قَالَ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَبَإٍ كَانَ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ وَكَانَ يَزْعُمُ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ u هُوَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ فَبَلَغَ ذَلِكَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ u فَدَعَاهُ فَسَأَلَهُ فَأَقَرَّ وَقَالَ نَعَمْ أَنْتَ هُوَ وَقَدْ كَانَ أُلْقِيَ فِي رُوعِي أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ وَأَنَا نَبِيٌّ فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ u وَيْلَكَ قَدْ سَخِرَ مِنْكَ الشَّيْطَانُ فَارْجِعْ عَنْ هَذَا ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ وَتُبْ فَأَبَى فَحَبَسَهُ وَاسْتَتَابَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَلَمْ يَتُبْ فَأَخْرَجَهُ فَأَحْرَقَهُ بِالنَّارِ الْحَدِيثَ.
وكان رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أشد الناس تحذيراً لأمته لئلا يقع فيهم ما وقع عند اليهود والنصارى.
جاء في تفسير الإمام الحسن العسكريّ (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال: كانَ رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قاعـداً ذات يوم هو وعليّ (عليه السلام) إذ سمع قائلاً يقول: «ما شاءَ الله وشاءَ محمّد»، وسمع آخر يقول: «ما شاءَ الله وشاءَ عليّ». فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
«لا تقرنوا محمّداً ولا عليّاً بالله عزّ وجلّ، ولكن قولوا: ما شاءَ الله، ثُمّ ما شاءَ محمّد... ما شاءَ الله، ثُمّ ما شاءَ عليّ. إنّ مشيئة الله هي القاهرة التي لا تُساوى ولا تُكافأ لا تُدانى...».]إثبات الهداة للحرّ العامليّ/3/767ـ768[13])()
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ( جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَاجِعُهُ الْكَلَامَ فَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ فَقَالَ جَعَلْتَنِي لِلَّهِ عَدْلًا مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ) (مسند أحمد - (ج 7 / ص 110).
وعند إبن ماجه عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ( قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَلَفَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَقُلْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ وَلَكِنْ لِيَقُلْ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شِئْتَ) (سنن ابن ماجه - (ج 6 / ص 324).
نعم كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حذر شديد من أن لا يقع في أمته من الغلو الذي وقع في بني إسرائيل من عبادة العجل، وغلوهم في عيسى وعزير. ولهذا حذّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الغلو في آثاره بعد موته :
فقد جاء في وسائل الشيعة عن مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم : ( لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي قِبْلَةً وَلَا مَسْجِداً فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَعَنَ الْيَهُودَ حَيْثُ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ ) (وسائلالشيعة ج : 5 ص : 162).
وَفِي الْعِلَلِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى بْنِ الْمُتَوَكِّلِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ حَرِيزٍ عَنْ زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ u قَالَ قُلْتُ لَهُ الصَّلَاةُ بَيْنَ الْقُبُورِ قَالَ بَيْنَ خَلَلِهَا وَلَا تَتَّخِذْ شَيْئاً مِنْهَا قِبْلَةً فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم نَهَى عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي قِبْلَةً وَلَا مَسْجِداً فَإِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ) (وسائلالشيعة ج : 5 ص : 162).
وفي الصحيحين عن عَائِشَةَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَالَا: لَمَّا نُزِلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ : ( لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ مِثْلَ مَا صَنَعُوا ) (صحيح البخاري - (ج 2 / ص 215)و ( صحيح مسلم - (ج 3 / ص 126).
وبهذا تعلم كم كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حريصاً على أن لا يقع في أمته ما وقع لدى اليهود والنصارى من الغلو في آثار الأنبياء، مما جعله آخر كلامه ـ بأبي هو وأمي ـ وهو على فراش الموت.
الحقيقة الثانية
لا إجتهاد في الشرك، وحق الله أولى بالإعتبار حمايةً لجناب التوحيد
الإجتهاد في اللغة: بذل الوسع، وفي الاصطلاح: استفراغ الفقيه الوسع ليحصل له ظنٌّ بحكم شرعي؛ وبذل المجهود في طلب المقصود من جهة الاستدلال.([14])
وإذا كان المسلمون بحاجة إلى إجتهاد في معرفة أحكام الوقائع والحوادث اللامتناهية المستجدة في حياتهم، والتي ليس فيها نص صريح من الكتاب والسنة، إلاّ أن الإجتهاد يجب أن لا يقع في أصل أصول الدين ، وهو عبادة الله تعالى وحده التي من أجلها أرسلت الرسل وأنزلت الكتب. والتي بينها القرآن الكريم في مئات الآيات، إذ لا إجتهاد في مورد النص.
وإذا كان هنالك ثمة حاجة للإجتهاد في موضوع التوحيد والشرك، فيجب أن يقدم فيه حق الله تعالى على حقوق غيره، لما للشرك من خطر عظيم في الدنيا والآخرة، ولهذا فيجب على كل مَنْ يرغب بسلامة دينه أن يجتنب كل أمر دائر بين الجواز وعدمه في موضوع الشرك؛ أخذا بالحيطة لدينه؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)([15])
وقول الصادق u : ( لك أن تنظر الحزم وتأخذ الحائطة لدينك )([16])
وفي الصحيحين عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ :سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ. . ).([17])
وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُخَوِّفُونَ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ قَالَ لهم : ﴿ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾[الأنعام/80، 81]
وإذا كان ثمة حاجة إلى إجتهاد فيجب على المجتهد أن يتحرى مواقع مرضات الله تعالى، لا أن يتحرى ما من شأنه أن ينقص من حق الله تعالى ومن خصائصه التي تميزه عن الخلق، ويعطيه إلى أنبياء الله تعالى وأوليائه، بزعم الإحترام والتقدير لأولياء الله الصالحين؛ وكأن إحترام وتقدير الصالحين لا يكون إلاّ بتنقيص رب العالمين!
قبح الشرك معلوم بالعقل والفطرة:
وإذا كانت الأدلة السمعية والنقلية متوافرة في وجوب توحيد الله تعالى، وإجتناب كل ما يظن أنه من الشرك، فإن قبح الشرك مستقر في العقول والفطر السليمة:
قال العلامة إبن القيم:
( واعلم أنه إن لم يكن حسن التوحيد وقبح الشرك معلوما بالعقل مستقرا في الفطر فلا وثوق بشيء من قضايا العقل فإن هذه القضية من أجل القضايا البديهيات وأوضح ما ركب الله في العقول والفطر ولهذا يقول سبحانه عقيب تقرير ذلك أفلا تعقلون أفلا تذكرون وينفي العقل عن أهل الشرك ويخبر عنهم بأنهم يعترفون في النار أنهم لم يكونوا يسمعون ولا يعقلون وأنهم خرجوا عن موجب السمع والعقل وأخبر عنهم أنهم صم بكم عمي فهم لا يعقلون وأخبر عنهم إن سمعهم وأبصارهم وأفئدتهم لم تغن عنهم شيئا وهذا إنما يكون في حق من خرج عن موجب العقل الصريح والفطرة الصحيحة ولو لم يكن في صريح العقل ما يدل على ذلك لم يكن في قوله تعالى انظروا واعتبروا وسيروا في الأرض فانظروا فائدة فإنهم يقولون عقولنا لا تدل على ذلك وإنما هو مجرد إخبارك فما هذا النظر والتفكر والاعتبار والسير في الأرض وما هذه الأمثال المضروبة والأقيسة العقلية والشواهد العيانية أفليس في ذلك أظهر دليل على حسن التوحيد والشكر وقبح الشرك والكفر مستقر في العقول والفطر معلوم لمن كان له قلب حي وعقل سليم وفطرة صحيحة قال تعالى ﴿ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ وقال تعالى﴿ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ وقال تعالى﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ وقال تعالى ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ وقال تعالى ﴿ ذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُون﴾ وقال تعالى ﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ﴾ وقال تعالى﴿ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾.)([18]).
والفطرة التي فطر الله الناس عليها أصدق تعبير عن تعلق المخلوق بالخالق، وهذا شيء يجده الإنسان في نفسه إذا لم تفسد فطرته.
( في كتاب التوحيد وتفسير الإمام عليه السلام قال رجل للصادق عليه السلام : يابن رسول الله دلني على الله ما هو فقد أكثر عليّ المجادلون وحيروني فقال يا عبد الله هل ركبت سفينة قط ؟ قال : بلى ، قال : فهل كسرت بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك ؟ قال : بلى قال : فهل تعلق قلبك هناك أن شيئا من الأشياء قادر على أن يخلصك من ورطتك ؟ قال : بلى . قال الصادق عليه السلام : فذاك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حين لا منجي وعلى الإغاثة حين لا مغيث)([19]).
الحقيقة الثالثة
العمل بسد الذرائع أولى من الوقوع في الهلكة
لما كان الشرك هو أكبر ذنب على الإطلاق([20])، وهو الذنب الذي لا يغفره الله تعالى، وجب على المسلم أن يبذل غاية جهده في أن يجتنب الوقوع فيه مهما كلفه الأمر، بل عليه أن يجتنب كل ما من شأنه أن يقربه من الشرك، أو يؤدي إليه، أو يوصله إلى ما يُشك أنه منه.
قال العلامة إبن القيم:
( لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غايتها فوسيلة المقصود تابعة للمقصود وكلاهما مقصود لكنه مقصود قصد الغايات وهي مقصودة قصد الوسائل فإذا حرم الرب تعالى شيئا وله طرق ووسائل تفضي إليه فإنه يحرمها ويمنع منها تحقيقاً لتحريمه وتثبيتا له ومنعا أن يقرب حماه ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضا للتحريم وإغراء للنفوس به وحكمته تعالى وعلمه يأبي ذلك كل الإباء بل سياسة ملوك الدنيا تأبى ذلك فإن أحدهم إذا منع جنده أو رعيته أو أهل بيته من شيء ثم أباح له الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليه لعد متناقضا ولحصل من رعيته وجنده ضد مقصوده وكذلك الأطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة إليه وإلا فسد عليهم ما يرومون إصلاحه فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال ومن تأمل مصادرها ومواردها علم أن الله تعالى ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها والذريعة ما كان وسيلة وطريقا إلى الشيء. .) ثم إستدل على منع ما يؤدي إلى الحرام بوجوه:
الوجه الأول: قوله تعالى: ﴿ وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ فحرم الله تعالى سب آلهة المشركين مع كون السب غيظا وحمية لله وإهانة لآلهتهم لكونه ذريعة إلى سبهم لله تعالى وكانت مصلحة ترك مسبته تعالى أرجح من مصلحة سبنا لآلهتهم وهذا كالتنبيه بل كالتصريح على المنع من الجائز لئلا يكون سببا في فعل ما لا يجوز.
الوجه الثاني: قوله تعالى: ﴿ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ ﴾ [النور/31] فمنعهن من الضرب بالأرجل وإن كان جائزا في نفسه لئلا يكون سببا إلى سمع الرجال صوت الخلخال فيثير ذلك دواعي الشهوة منهم إليهن.
الوجه الرابع: قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا ﴾ نهاهم سبحانه أن يقولوا هذه الكلمة مع قصدهم بها الخير لئلا يكون قولهم ذريعة إلى التشبه باليهود في أقوالهم وخطابهم فإنهم كانوا يخاطبون بها النبي صلى الله عليه وسلم ويقصدون بها السب يقصدون فاعلا من الرعونة فنهى المسلمون عن قولها سدا لذريعة المشابهة ولئلا يكون ذلك ذريعة إلى أن يقولها اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم تشبها بالمسلمين يقصدون بها غير ما يقصده المسلمون.
الوجه الثالث عشر: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بناء المساجد على القبور ولعن من فعل ذلك ونهى عن تجصيص القبور وتشريفها واتخاذها مساجد وعن الصلاة إليها وعندها وعن إيقاد المصابيح عليها وأمر بتسويتها ونهى عن اتخاذها عيدا وعن شد الرحال إليها لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانا والإشراك بها وحرم ذلك على من قصده ومن لم يقصده بل قصد خلافه سدا للذريعة.([21])
الوجه الرابع عشر: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها وكان من حكمة ذلك أنهما وقت سجود المشركين للشمس وكان النهي عن الصلاة لله في ذلك الوقت سدا لذريعة المشابهة الظاهرة التي هي ذريعة إلى المشابهة في القصد مع بعد هذه الذريعة فكيف بالذرائع القريبة.([22])
الوجه الثالث والاربعون: انه صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد )([23]) وذم الخطيب الذي قال: من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن عصاهما فقد غوى سدا لذريعة التشريك في المعنى بالتشريك في اللفظ وحسما لمادة الشرك حتى في اللفظ ولهذا قال: للذي قال: له ما شاء الله وشئت : ( أجعلتني لله ندا ) فحسم مادة الشرك وسد الذريعة إليه في اللفظ كما سدها في الفعل والقصد فصلاة الله وسلامه عليه وعلى آله أكمل صلاة وأتمها وأزكاها وأعمها.
الوجه الحادي والسبعون: أنه نهى عن التداوي بالخمر وإن كانت مصلحة التداوي راجحة على مفسدة ملابستها سدا لذريعة قربانها واقتنائها ومحبة النفوس لها فحسم عليها المادة حتى في تناولها على وجه التداوي وهذا من أبلغ سد الذرائع).([24])
وقال الشيخ محمد حسين فضل الله في تفسير من ( وحي القرآن ) : وتحت عنوان ( الآية ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ [البقرة/219] في مستوى القاعدة الفقهية):
(وقد نستطيع إستيحاء هذه الفقرة، لتكون قاعدةً فقهية تقتضي تحريم كلّ ما كان ضرره أكبر من نفعه، حتى لو لم يرد فيه نص، باعتبار أنَّ القضية قد تكون عقلية يحكم العقل بها، ويدرك وجود الملاك الشرعي للتحريم في مواردها، لقبح ارتكاب ما يكون ضرره أكثر من نفعه، لأنه ظلم للنفس على مستوى الحالة الفردية، وقد يكون ظلماً للمجتمع بما يحدثه من الأضرار الاجتماعية، كما أنها عقلائية من خلال السيرة العقلائية الجارية في أمورهم العامة على الخاصة على ترك ما كان ضرره أكثر من نفعه).
هذا هو الفهم الصحيح لكل ما شأنه أن يحدث في الأمة من ضرر، فكيف إذا كان هذا الضرر واقعاً في حق الله تعالى ، من مجاوزة تعظيم المخلوق على حق الله تعالى ؟!
وقال (عبد السّلام زين العابدين أبو مالك الموسوي ) صاحب مراجعات في عصمة الأنبياء، وذلك رداً على التصرفات الخاطئة لعوام الشيعة عند مراقد الأئمة من دعائهم وطلبهم من الأئمة مباشرة:
( من الأفضل أنْ يكون السُّلوك منسجماً مَعَ عقيدةِ التوحيد حتّى في شكله التعبيري. وهذا ما نبّه إليه أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) أنفسُهُم في موارد عديدة. فقد جاءَ بخصوص بعض التعابير المتعارفة في أوساط النّاس ـ كقولنا: «لولا فلان لهلكتُ»، أو «لولا فلان لضاعَ عيالي»، أو القسم بحياة الآخَر بقـولنا: «لا وحياتِك»، وأمثال هذهِ التعابير الدّارجة ـ أنها من مصاديق الشِّرك في قولِهِ تعالى: ﴿ ومَا يُؤمِنُ أكثرهُم بِالله إِلاَّ وهُم مُشرِكون﴾ ]يوسف/106[.
فقد روى العيّاشي في تفسيره عن مالك بن عطيّة، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في الآية، قال:
«هو الرّجل يقول: لولا فلان لهلكتُ، ولولا فلان لأصبتُ كذا وكذا، ولضاع عيالي، ألا ترى أنهُ قد جعل لله شريكاً في ملكه يرزقه ويدفع عنه؟».
وهنا سأل مالك بن عطيّة الإمام الصّادق (عليه السلام)، لو أنّ الرّجل يقول: «لولا أن منَّ اللهُ عليَّ بفلان لهلكتُ». فقال الإمام (عليه السلام): «نعم، لا بأس بهذا».
ورواية اُخرى، في تفسير العيّاشي أيضاً، عن زرارة بن أعين، قال:
سألتُ أبا جعفر ( الإمام الباقر (عليه السلام) ) عن قول الله: ﴿ ومَا يُؤمِنُ أكثرهُم بِالله إِلاَّ وهُم مُشرِكون﴾، قال (عليه السلام): «من ذلك قول الرجل: لا وحياتِك».
يعلِّق العلاّمة الطباطبائي في تفسيره (الميزان) على الرواية الثانية بقوله:
«يعني القسم بغير الله لما فيه من تعظيمه بما لا يسـتحقّه بذاته، والأخبار في هذه المعاني كثيرة». ]الميزان/11/281[([25]).
وفي بحار الأنوار للمجلسي عن أبي سعيد الزهري عن أبي جعفر أو عن أبي عبد الله u قال: ( الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ).
فكل هذا يعني تغليب جانب التوحيد الذي هو حق الله تعالى على حق العبيد. لأن الإنسان سيسأل عن حق الله، أما حقوق الأنبياء والأولياء فعلى فرض مزاحمتها لحقوق الله تعالى، فالواجب الإخلال بها، حماية لجناب التوحيد.
على أنني أؤكد أنه لا تزاحم بين حق الله تعالى ( التوحيد ) وحق الأنبياء والأولياء في الإحترام والتقدير.
الحقيقة الرابعة
العبادات مبناها على الإتباع، فلا نعبد إلا الله، ولا نعبده إلاّ بما شرع
فالعبادات توقيفية مبناها على الإتباع لا على الهوى والإبتداع، لأن الله تعالى أكمل دينه ، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم أمر أمته كل ما يقربهم إلى الجنة ، ونهاهم عن كل ما يدخلهم النار، بحيث لم يبق لأحد أن يبتدع عبادة تقربه من الجنة.
فعلى هذا الأساس، نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن البدع.
روى الكافي عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ رَفَعَهُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ u قَالَا : ( كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَكُلُّ ضَلَالَةٍ سَبِيلُهَا إِلَى النَّارِ).
وفي نهج البلاغة عن علي u : ( مَا أُحْدِثَتْ بِدْعَةٌ إِلَّا تُرِكَ بِهَا سُنَّةٌ فَاتَّقُوا الْبِدَعَ وَالْزَمُوا الْمَهْيَعَ إِنَّ عَوَازِمَ الْأُمُورِ أَفْضَلُهَا وَإِنَّ مُحْدِثَاتِهَا شِرَارُهَا).
وفيه أيضاً عنه u : (وَإِنَّمَا النَّاسُ رَجُلَانِ مُتَّبِعٌ شِرْعَةً وَمُبْتَدِعٌ بِدْعَةً لَيْسَ مَعَهُ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بُرْهَانُ سُنَّةٍ وَلَا ضِيَاءُ حُجَّةٍ ).
وفي الوسائل للحر العاملي عَنْ عَلِيٍّ u قَالَ : ( اقْتِصَادٌ فِي سُنَّةٍ خَيْرٌ مِنِ اجْتِهَادٍ فِي بِدْعَةٍ ثُمَّ قَالَ تَعَلَّمُوا مِمَّنْ عَلِمَ فَعَمِلَ).
وقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ: ( فَإِنَّ الْإِسْلَامَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ .
وَالثَّانِي : أَنْ نَعْبُدَهُ بِمَا شَرَعَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا نَعْبُدَهُ بِالْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ ﴿ إنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ﴾ الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى : ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ﴾. فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ إلَّا بِمَا شَرَعَهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ لَا يَعْبُدُهُ بِالْأُمُورِ الْمُبْتَدَعَةِ كَمَا ثَبَتَ فِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ العرباض بْنِ سَارِيَةَ " قَالَ " التِّرْمِذِيُّ " : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَفِي مُسْلِمٍ " أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ : { خَيْرُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ }.([26]) (مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 1 / ص 12).
فالله تعالى يريد أن يُطاع من حيث يريد هو، لا بما يشتهيه العبد ويبتدعه من العبادات التي لا تتوافق إلاّ مع هوى نفسه.
روى المجلسي ( بالإسناد إلى الصدوق عن أبيه عن سعد عن ابن يزيد عن ابن أبي عمير عن هشام عن الصادق u قال أمر إبليس بالسجود لآدم فقال يا رب وعزتك إن أعفيتني من السجود لآدم لأعبدنك عبادة ما عبدك أحد قط مثلها قال الله جل جلاله: إني أحب أن أطاع من حيث أريد)([27]).
الحقيقة الخامسة
لا حق لأحد على الله تعالى
سنتناول هذه الحقيقة في أربعة محاور:
المحور الأول: حق الله على العباد:
في كتاب التوحيد للصدوق: عن معاذ بن جبل قال كنت رديف النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ( يا معاذ هل تدري ما حق الله عز وجل على العباد يقولها ثلاثا؟) قال: قلت: الله ورسوله أعلم فقال رسول الله: ( حق الله عز وجل على العباد أن لا يشركوا به شيئا) ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم : ( هل تدري ما حق العباد على الله عز وجل إذا فعلوا ذلك؟) قال: قلت: الله ورسوله أعلم قال: ( أن لا يعذبهم أو قال أن لا يدخلهم النار).
وهذا الحديث في الصحيحين أيضاً: عَنْ مُعَاذٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ ؟ قُلْت : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ : ( حَقُّهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا . يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ ؟ قُلْت اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ : حَقُّهُمْ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ).
وفي الكافي: عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ u قَالَ أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى آدَمَ u أَنِّي سَأَجْمَعُ لَكَ الْكَلَامَ فِي أَرْبَعِ كَلِمَاتٍ. قَالَ يَا رَبِّ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: وَاحِدَةٌ لِي وَوَاحِدَةٌ لَكَ وَوَاحِدَةٌ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ وَوَاحِدَةٌ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ النَّاسِ قَالَ يَا رَبِّ بَيِّنْهُنَّ لِي حَتَّى أَعْلَمَهُنَّ قَالَ أَمَّا الَّتِي لِي فَتَعْبُدُنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئاً وَأَمَّا الَّتِي لَكَ فَأَجْزِيكَ بِعَمَلِكَ أَحْوَجَ مَا تَكُونُ إِلَيْهِ وَأَمَّا الَّتِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ فَعَلَيْكَ الدُّعَاءُ وَعَلَيَّ الْإِجَابَةُ وَأَمَّا الَّتِي بَيْنَكَ وَبَيْنَ النَّاسِ فَتَرْضَى لِلنَّاسِ مَا تَرْضَى لِنَفْسِكَ وَتَكْرَهُ لَهُمْ مَا تَكْرَهُ لِنَفْسِكَ.
قال شيخ الإسلام إبن تيمية وهو يقرر أنه لا حق لأحد من الخلق على الله تعالى إلاّ ما أوجبه هو على نفسه قائلاً : ( وذلك أَنَّ النُّفُوسَ الْجَاهِلِيَّةَ تَتَخَيَّلُ أَنَّ الْإِنْسَانَ بِعِبَادَتِهِ وَعِلْمِهِ يَصِيرُ لَهُ عَلَى اللَّهِ حَقٌّ مِنْ جِنْسِ مَا يَصِيرُ لِلْمَخْلُوقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ كَاَلَّذِينَ يَخْدِمُونَ مُلُوكَهُمْ وَمُلَّاكَهُمْ فَيَجْلِبُونَ لَهُمْ مَنْفَعَةً وَيَدْفَعُونَ عَنْهُمْ مَضَرَّةً وَيَبْقَى أَحَدُهُمْ يَتَقَاضَى الْعِوَضَ وَالْمُجَازَاةَ عَلَى ذَلِكَ وَيَقُولُ لَهُ عِنْدَ جَفَاءٍ أَوْ إعْرَاضٍ يَرَاهُ مِنْهُ : أَلَمْ أَفْعَلْ كَذَا ؟ يَمُنُّ عَلَيْهِ بِمَا يَفْعَلُهُ مَعَهُ وَإِنْ لَمْ يَقُلْهُ بِلِسَانِهِ كَانَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ . وَتَخَيُّلُ مِثْلِ هَذَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ جَهْلِ الْإِنْسَانِ وَظُلْمِهِ وَلِهَذَا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ عَمَلَ الْإِنْسَانِ يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَيْهِ وَأَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْخَلْقِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى ﴿ إنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾ وقَوْله تَعَالَى ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ وقَوْله تَعَالَى ﴿ إنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ﴾ وقَوْله تَعَالَى ﴿ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ وَقَالَ تَعَالَى : فِي قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ﴿ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ ﴿ وَقَالَ مُوسَى إنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ وَقَالَ تَعَالَى : ﴿ وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا ﴾ وَقَالَ تَعَالَى : ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ . وَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ الْمَانُّ بِالْعَمَلِ فَقَالَ تَعَالَى : ﴿ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ وَقَالَ تَعَالَى : ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ . وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ : ( يَا عِبَادِي إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي . يَا عِبَادِي إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا وَلَا أُبَالِي فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ . يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا . يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا . يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْت كُلَّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ )([28]).
المحور الثاني: الفرق بين الخالق والمخلوق:
تحدث شيخ الإسلام رحمه الله تعالى عن الفرق بين الخالق والمخلوق فقال: ( وَبَيْنَ الْخَالِقِ تَعَالَى وَالْمَخْلُوقِ مِنْ الْفُرُوقِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى بَصِيرَةٍ . ( مِنْهَا أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى غَنِيٌّ بِنَفْسِهِ عَمَّا سِوَاهُ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُفْتَقِرًا إلَى غَيْرِهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ . وَالْمُلُوكُ وَسَادَةُ الْعَبِيدِ مُحْتَاجُونَ إلَى غَيْرِهِمْ حَاجَةً ضَرُورِيَّةً . و( مِنْهَا أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ يُحِبُّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَيَرْضَى وَيَفْرَحُ بِتَوْبَةِ التَّائِبِينَ فَهُوَ الَّذِي يَخْلُقُ ذَلِكَ وَيُيَسِّرُهُ فَلَمْ يَحْصُلْ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ إلَّا بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ . وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الَّذِينَ يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُنْعِمُ عَلَى عِبَادِهِ بِالْإِيمَانِ بِخِلَافِ الْقَدَرِيَّةِ . وَالْمَخْلُوقُ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ مَا يُحِبُّهُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ . وَ( مِنْهَا أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى أَمَرَ الْعِبَادَ بِمَا يُصْلِحُهُمْ وَنَهَاهُمْ عَمَّا يُفْسِدُهُمْ كَمَا قَالَ قتادة : إنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ الْعِبَادَ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ لِحَاجَتِهِ إلَيْهِمْ وَلَا يَنْهَاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ بُخْلًا عَلَيْهِمْ بَلْ أَمَرَهُمْ بِمَا يَنْفَعُهُمْ وَنَهَاهُمْ عَمَّا يَضُرُّهُمْ . بِخِلَافِ الْمَخْلُوقِ الَّذِي يَأْمُرُ غَيْرَهُ بِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَيَنْهَاهُ عَمَّا يَنْهَاهُ بُخْلًا عَلَيْهِ . وَهَذَا أَيْضًا ظَاهِرٌ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ الَّذِينَ يُثْبِتُونَ حِكْمَتَهُ وَرَحْمَتَهُ وَيَقُولُونَ : إنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ الْعِبَادَ إلَّا بِخَيْرِ يَنْفَعُهُمْ وَلَمْ يَنْهَهُمْ إلَّا عَنْ شَرٍّ يَضُرُّهُمْ ؛ بِخِلَافِ الْمُجَبِّرَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّهُ قَدْ يَأْمُرُهُمْ بِمَا يَضُرُّهُمْ وَيَنْهَاهُمْ عَمَّا يَنْفَعُهُمْ . وَ( مِنْهَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُنْعِمُ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَهُوَ الْمُنْعِمُ بِالْقُدْرَةِ وَالْحَوَاسِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا بِهِ يَحْصُلُ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ وَهُوَ الْهَادِي لِعِبَادِهِ فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِهِ . وَلِهَذَا قَالَ أَهْلُ الْجَنَّةِ : ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ﴾ وَلَيْسَ يَقْدِرُ الْمَخْلُوقُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ .
وَ( مِنْهَا أَنَّ نِعَمَهُ عَلَى عِبَادِهِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُحْصَى فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ الْعِبَادَةَ جَزَاءُ النِّعْمَةِ لَمْ تَقُمْ الْعِبَادَةُ بِشُكْرِ قَلِيلٍ مِنْهَا فَكَيْفَ وَالْعِبَادَةُ مِنْ نِعْمَتِهِ أَيْضًا . وَ( مِنْهَا أَنَّ الْعِبَادَ لَا يَزَالُونَ مُقَصِّرِينَ مُحْتَاجِينَ إلَى عَفْوِهِ وَمَغْفِرَتِهِ فَلَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ وَمَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَلَهُ ذُنُوبٌ يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى مَغْفِرَةِ اللَّهِ لَهَا : ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ ﴾ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْكُمْ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ } لَا يُنَاقِضُ قَوْله تَعَالَى ﴿ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ . فَإِنَّ الْمَنْفِيَّ نُفِيَ بِبَاءِ الْمُقَابَلَةِ وَالْمُعَاوَضَةِ كَمَا يُقَالُ بِعْت هَذَا بِهَذَا وَمَا أُثْبِتَ أُثْبِتَ بِبَاءِ السَّبَبِ فَالْعَمَلُ لَا يُقَابِلُ الْجَزَاءَ وَإِنْ كَانَ سَبَبًا لِلْجَزَاءِ وَلِهَذَا مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ قَامَ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى مَغْفِرَةِ الرَّبِّ تَعَالَى وَعَفْوِهِ فَهُوَ ضَالٌّ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ قَالُوا : وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ وَلَا أَنَا إلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةِ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَرُوِيَ بِمَغْفِرَتِهِ } وَمِنْ هَذَا أَيْضًا الْحَدِيثُ الَّذِي فِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَوْ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ . وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ لَهُمْ خَيْرًا مِنْ أَعْمَالِهِمْ } الْحَدِيثَ .
وَمَنْ قَالَ : بَلْ لِلْمَخْلُوقِ عَلَى اللَّهِ حَقٌّ فَهُوَ صَحِيحٌ إذَا أَرَادَ بِهِ الْحَقَّ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ بِوُقُوعِهِ فَإِنَّ اللَّهَ صَادِقٌ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ وَهُوَ الَّذِي أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِحِكْمَتِهِ وَفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ وَهَذَا الْمُسْتَحِقُّ لِهَذَا الْحَقِّ إذَا سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى بِهِ يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى إنْجَازَ وَعْدِهِ أَوْ يَسْأَلُهُ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي عَلَّقَ اللَّهُ بِهَا الْمُسَبَّبَاتِ كَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَهَذَا مُنَاسِبٌ وَأَمَّا غَيْرُ الْمُسْتَحِقِّ لِهَذَا الْحَقِّ إذَا سَأَلَهُ بِحَقِّ ذَلِكَ الشَّخْصِ فَهُوَ كَمَا لَوْ سَأَلَهُ بِجَاهِ ذَلِكَ الشَّخْصِ وَذَلِكَ سُؤَالٌ بِأَمْرِ أَجْنَبِيٍّ عَنْ هَذَا السَّائِلِ لَمْ يَسْأَلْهُ بِسَبَبِ يُنَاسِبُ إجَابَةَ دُعَائِهِ)([29]).
وقال أيضاً : ( وقد اتفق العلماء على وجوب ما يجب بوعده الصادق، وتنازعوا: هل يوجب بنفسه على نفسه؟ على قولين. ومن جوز ذلك احتج بقوله سبحانه: ﴿ كتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ وبقوله في الحديث الصحيح: "إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً" والكلام على هذا مبسوط في موضع آخر.
وأما الإيجاب عليه سبحانه وتعالى، والتحريم بالقياس على خلقه، فهذا قول القدرية، وهو قول مبتدع مخالف لصحيح المنقول وصريح المعقول، وأهل السنة متفقون على أنه سبحانه خالق كل شيء ومليكه، وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن العباد لا يوجبون عليه شيئا، ولهذا كان من قال من أهل السنة بالوجوب، قال: إنه كتب على نفسه، وحرم على نفسه لا أن العبد نفسه يستحق على الله شيئا، كما يكون للمخلوق على المخلوق، فإن الله هو المنعم على العباد بكل خير، فهو الخالق لهم، وهو المرسل إليهم الرسل، وهو الميسر لهم الإيمان، والعمل الصالح ومن توهم من القدرية، والمعتزلة ونحوهم أنهم يستحقون عليه من جنس ما يستحقه الأجير على من استأجره فهو جاهل في ذلك.
وإذا كان كذلك لم تكن الوسيلة إليه إلا بما منَّ به من فضله وإحسانه، والحق الذي لعباده هو من فضله وإحسانه، ليس من باب المعاوضة، ولا من باب ما أوجبه غيره عليه، فإنه سبحانه هو يتعالى عن ذلك)([30]).
فمع كل هذه الفروق الواضحة البيّنة بين الله تعالى الخالق وبين مَنْ هو من دونه من المخلوقات بما فيهم الأنبياء والأولياء؛ يأتي مَنْ يشتبه عليه الأمر لينتزع بعض خصائص الله تعالى ليعطيها إلى مخلوقاته من الأنبياء والصالحين بحجة إحترام وتقدير عظماء الإسلام!
والكلام في حق الله تعالى يجرنا إلى الكلام في حقوق الأنبياء والمرسلين، وحق الأولياء الصالحين، بل للمسلم على المسلم حقوق، منها حق الإسلام ، ومنها حق الوالدين ، ومنها حق الجيرة. . إلخ.
المحور الثالث: حقوق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين:
أما عن حقوق سيدنا المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وسلم فله حقوق على المسلمين يمكن أن نوجز أهمها بما يلي:
· وجوب الإيمان به، إذْ لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ بِدُونِ الْإِيمَانِ بِهِ وَلَا تَحْصُلُ النَّجَاةُ وَالسَّعَادَةُ بِدُونِهِ إذْ هُوَ الطَّرِيقُ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ ؛ وَلِهَذَا كَانَ رُكْنَا الْإِسْلَامِ : " أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ " وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْإِقْرَارُ ؛ لَا مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ .
· حبه وتقديم محبته على محبة سواه إلاّ الله تعالى. قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [التوبة/24].
· إنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، قال تعالى: ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ﴾ [الأحزاب/6].
· النصح لله ولرسوله ولعامة المسلمين. عن تميم الداري أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( الدِّينُ النَّصِيحَةُ قُلْنَا لِمَنْ قَالَ لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ )(صحيح مسلم - (ج 1 / ص 182)
· أن لا يتقدم بين يديه بأمر ولا نهي، وعدم رفع الصوت بحضرته حياً وميتاً، وعدم مناداته بإسمه، بل يُنادى بـ( يا رسول الله، أو يا نبي الله ). قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ [الحجرات/1، 2]. وقال: ﴿ لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور/63].
· تعزيره وتوقيره حياً وميتا. قال الله تعالى:﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف/157]. وقال: ﴿ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ [الفتح/9].
· وجوب طاعته وإتباعه في كل ما يأمر به، وينهى عنه. قال تعالى: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء/65]. وقال: ﴿ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [النور/51].
· وجوب الصلاة والسلام عليه في الصلاة، وعند الدخول إلى المسجد، وعند الخروج منه ، وكلما ذكر إسمه، وفي كل مجلس.
ولربما هنالك حقوق أخرى له صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين، ولكن الغرض ليس إحصاء تلك الحقوق؛ إنما لمعرفة ما يميز حقوق الله تعالى عن حقوق الأنبياء والرسل.
وأما المؤمنون وولاة الأمور من العلماء والأمراء ومن يدخل في ذلك من المشايخ والملوك فلهم حقوق بحسب ما يقومون به من الدين فيطاعون في طاعة الله ويجب لهم من النصيحة والمعاونة على البر والتقوى وغير ذلك ما هو من حقوقهم لعموم المؤمنين أيضا من المناصحة والموالاة وغيرها من الحقوق ما دل عليه الكتاب والسنة.
وأما عن حق المسلم على أخيه المسلم، ففي الصحيحين عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ رَدُّ السَّلَامِ وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ).
وبهذا يبين لنا أنه ليس في حقوق النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا في حقوق غيره حق يوجب أو يستحب أن يستغيث به الناس، ولا أن يدعوه من دون الله، ولا أن يتوجهوا إليه بطلب، أو إستعانة، أو . . أو . . إلخ؛ بل هذا كله حق خالص لله، فمن صرفه لغير الله فقد ظلم الله تعالى حقه.
المحور الرابع: فضل الله تعالى على الأنبياء والأولياء:
ومع كل هذه الحقوق التي ذكرناها للأنبياء، يبقى النبي كسائر مخلوقات الله تعالى في حدود كونه عبداً لله، مخلوقاً مربوباً له تعالى. بل أشرف منازل النبي أن يكون عبداً لله، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ } وَلِهَذَا حَقَّقَ اللَّهُ لَهُ نَعْتَ الْعُبُودِيَّةِ فِي أَرْفَعِ مَقَامَاتِهِ حَيْثُ قَالَ: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا ﴾. وَقَالَ تَعَالَى:﴿ فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾. وَقَالَ تَعَالَى:﴿ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ﴾.
وكذلك فإن نبي الله عيسى u كان أول ما تكلم به في المهد أنه قال: ﴿ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ﴾ [مريم/30] ولما غلا فيه النصارى، بين الله تعالى أن عيسى إنما هو عبد من عبيد الله تعالى، وأنه لن يستنكف عن عبادته، فقال: ﴿ لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا ﴾ [النساء/172].
وهكذا أولياء الله تعالى، كانوا من أشد الناس نهياً أن ينسبوا إلى شيء ولو يسير من الألوهية أو الربوبية؛ فقد جاء في رجال الكشي أن جعفر الصادق u قال: ( فوالله ما نحن إلا عبيد الذي خلقنا واصطفانا، ما نقدر على ضرّ ولا نفع، وإن رحمنا فبرحمته، وإنّ عذّبنا فبذنوبنا، والله ما لنا على الله حجّة، ولا معنا من الله براءة، وإنّا لميّتون ومقبورون ومنشورون ومبعوثون وموقوفون ومسئولون، ويلهم! ما لهم لعنهم الله فقد آذوا الله وآذوا رسوله صلى الله عليه وسلم في قبره، وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي صلوات الله عليهم.. أشهدكم أنّي امرؤ ولدني رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معي براءة من الله، إن أطعته رحمني، وإن عصيته عذّبني عذابًا شديدًا).
وفي رواية أخرى فيه عن أبي عبد الله (u) قال: لعن الله المغيرة بن سعيد إنه كان يكذب على أبي فأذاقه الله حرّ الحديد، لعن الله من قال فينا ما لا نقوله في أنفسنا ولعن الله من أزالنا عن العبودية لله الذي خلقنا وإليه مآبنا ومعادنا وبيده نواصينا).
فكل الوجود ـ بما فيهم الأنبياء والأولياء ـ مفتقر إلى الله تعالى، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [فاطر/15] .
وبعد هذا فأين حق الأنبياء والأولياء على الله تعالى حتى يكون هذا الحق حقاًّ وسبباً ووسيلةً إلى الطلب من الله تعالى ؟ ولأي سبب يتوجه البعض من المسلمين إلى غير الله تعالى في طلب السؤال وقضاء الحوائج؟ ولأي سبب يسمون الإمام موسى الكاظم بـ( باب الحوائج )؟ وهل هذا يعني أن الله تعالى لا يقضي الحوائج إلاّ عن طريق الكاظم؟
وماذا يحدث لو أن المسلمين سألوا الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، ولم يسألوا الله تعالى بحق الأنبياء والأولياء؟ هل أن الله تعالى سيغضب عليهم؟ أم أن الولي ( يزعل ) عليهم؟
إن علماء الشيعة كثيراً ما يذكرون في كتاباتهم، أن الإستعانة بالنبي أو الولي أو دعاءه مباشرة، أو التوسل به إنما هو من تعظيم شعائر الله تعالى وأنه تعظيم وإحترام للولي، بشرط أن لا يعتقد أن المستعان إله، أو رب، أو مفوض إليه بعض مراتب التدبير والربوبية.
ولا يخفى بطلان هذا الكلام على كل ذي عقل وبصيرة! وكأن الدعاء أو الإستعانة أو التوسل من حقوق النبي أو الولي, وليس من حق الله تعالى الخالص: ﴿ إيّاكَ نَعبُدُ وإيّاكَ نَستَعين﴾، ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾ [الأعراف/180] }، ﴿ أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ﴾[النمل/62].
فإذا كان صرف حق الله تعالى للأنبياء والأولياء، هو من باب التعظيم والإحترام، فكيف إذن هو الشرك؟
يقول الشيخ محمد حسين فضل الله :
(نحبّ أن نوجّه الانتباه إلى أنَّ التقاليد المتّبعة لدى العوام من المسلمين في تعظيم الأنبياء والأولياء وفي زيارة قبورهم قد تتخذ اتجاهاً خطيراً في خطّ الانحراف في التصوّر والممارسات، وذلك من خلال الجانب الشعوري الذي يترك تأثيره على الانفعالات الذاتية في الحالات المتنوّعة التي قد تدفع إلى المزيد من الممارسات المنحرفة في غياب الضوابط الفكرية التربوية، في ما ينطلق به التوجيه الإسلامي للحدود التي يجب الوقوف عندها من خلال طبيعة الحقائق الواقعية للعقيدة، لأنه لا يكفي، في استقامة العقيدة، أن لا يكون هناك دليل مانعٌ من عملٍ معيّنٍ، أو من كلماتٍ خاصةٍ، أو من طقوسٍ متنوّعةٍ، بل لا بُدَّ من الانفتاح على العناصر القرآنية للفكرة العقيدية، والأجواء المحيطة بها، والروحية المميّزة المتحركة في طبيعتها، حتى لا تختلط مظاهر الاحترام بين ما يقدَّم للخالق وما يقدَّم للمخلوق، بقطع النظر عمّا إذا كان ذلك شركاً أو كفراً، أو لم يكن. ولاسيما إذا عرفنا أنَّ الشعوب قد يقلّد بعضها بعضاً في الكثير من الطقوس والعادات في مظاهر الاحترام والتعظيم، ما قد يؤدي إلى التأثر الشعبي ببعض التقاليد الموجودة لدى بعض الشعوب غير الإسلامية التي قد تشتمل على العناصر الفكرية أو الروحية البعيدة عن فكر الإسلام وروحه.
إنَّ هناك نوعاً من التوازن في الحدود النفسية للارتباط الروحي بالأشخاص، من حيث الشكل أو المضمون، لا بُدَّ للمسلم من مراعاته من أجل الاحتفاظ بالأصالة الفكرية التوحيدية في خطّ الانفتاح على اللّه بما لا ينفتح به على غيره، أو في طبيعة الدعوة إلى اللّه بما لا يدعو به إلى غيره، لإبقاء الصفاء العقيدي في العمق الشعوري الروحي للإنسان المسلم، لأنَّ ذلك هو السبيل الأمثل للاستقامة على الخطّ المستقيم، لأننا لا نريد أن نصل في استغراقنا العاطفي إلى لونٍ من ألوان عبادة الشخصية في ما تتحرّك به مشاعر العاطفة بعيداً عن رقابة العقل، الأمر الذي يدفعنا إلى أن نتحمّل مسؤولياتنا في الساحة الفكرية، لنراقب طبيعة الأساليب الشعبية في ذلك كلّه؛ لنبقى من خلال المراقبة الدقيقة في مواقع التوازن الفكري والروحي في خط العقيدة)([31]).
الباب الثاني
الغلو في الأنبياء والأولياء، أسبابه ونتائجه
الفصل الأول: من أين دخل الشرك على بني آدم؟
الفصل الثاني: أسباب الغلو في الصالحين
المحور الأول: نظرة الناس للأنبياء:
المحور الثاني: لماذا يقع الإنسان في الغلو؟
الفصل الثالث: كيف نقطع أسباب الشرك؟
المحور الأول: ضوابط حب الأنبياء والأولياء:
المحور الثاني: إعط كل ذي حق حقه:
الفصل الرابع: نتائج الغلو
الباب الثاني
الغلو في الأنبياء والأولياء، أسبابه ونتائجه
مما لا شك فيه أن الغلو في الأنبياء والصالحين له تأثير سلبي على عقيدة الإنسان وسلوكه في الحياة الدنيا، وعلى عاقبته ومصيره يوم القيامة.
ذلك أن الغلو إنما ينشأ عن التعلق بالصالحين، والإعتقاد فيهم أن لهم جاهاً ومنزلة عند الله تعالى بما يؤثر على إرادة الله تعالى، بحيث لا يرد له طلب. فبمجرد الإلتجاء إلى الولي الصالح، فإنه سيتحرك بأقصى ما يستطيع لينقذ الذي لجأ إليه من عذاب الله؛ أو لا ينفك يتوسل بالله تعالى حتى يحقق له طلبه.
هذا هو إعتقاد الذين يلجأون إلى الأولياء ويطلبون منهم قضاء حوائجهم. فهو إعتقاد ناشيء عن سوء الظن بالله تعالى.
ما قدروا الله حق قدره حينما ظنوا أن الله تعالى لا يرحم عباده حتى يستشفع إليه بأحد من خلقه.
ما قدروا الله تعالى حق قدره حينما إعتقدوا أن الأولياء أرحم بالخلق من الخالق.
ما قدروا الله تعالى حق قدره حينما إعتقدوا أن الله تعالى لا يقبل توبة العبد إلاّ بتوسط الأولياء والصالحين.
صاحب هذا المعتقد يرتبط ويتعلق بالأولياء أكثر من تعلقه بالله تعالى. فتراه يتوجه في كل صغيرة وكبيرة، وفي كل شأن من شؤونه إلى الأولياء، وينسى أن له رباًّ سميعاً بصيراً عالماً بالسر والعلن، محيطاً مدركاً بالخلائق وأمورهم؛ لا تخفى عليه خافية: ﴿ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴾[لقمان/16].
وبالإضافة إلى ما سبق ذكره فإن هذا الإعتقاد يخرج الإنسان من العبودية لله تعالى إلى عبودية البشر. والله تعالى لا يرضى لعباده أن يكون بعضهم عبيد بعض ولو كانوا أنبياء وأولياء:﴿ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾[آل عمران/79، 80].
ولقد عبّر الصحابي الجليل ربعي بن عامر رسالة الإسلام في العبودية لله حينما قال لرستم قائد الفرس في معركة القادسية حينما سأله رستم: ( ما جاء بكم؟ قال: الله ابتعثنا، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عباده العبادة إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام)([32]).
فهذه المقولة أصدق تعبير عن فهم الصحابة لرسالة الإسلام التي نادى بها سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تحقيق العبودية لله تعالى ونفيها عن البشر كائناً مَنْ كان.
ومن الطبيعي أن يكون لهذا المعتقد المنحرف عن جادة الصواب أسباب ونتائج. وهي ما ستكون محل بحثنا في الفصول القادمة.
الفصل الأول
من أين دخل الشرك على بني آدم؟
الأجابة على هذا السؤال، يتطلب منّا معرفة بعض الحقائق:
الحقيقة الأولى:
إن أول البشر كان نبياًّ، فمن أين دخل الشرك نسله؟
مما لا يختلف فيه إثنان أن آدم عليه السلام بعد إقترافه الخطيئة بأكله من الشجرة، وهبوطه إلى الأرض كان نبياً وكان هو وزوجته حواء على التوحيد. ولما تناسل أولادهما كانوا على دين أبيهم.
يقول المفسرون وأرباب السير: كَانَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ عَشَرَةُ قُرُونٍ كُلُّهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ . وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ نُوحًا أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إلَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قَوْمِهِ إنَّهُمْ قَالُوا : ﴿ لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ﴾.
قال إبن جرير: ( وكان من خبرهم فيما بلغنا ما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن موسى، عن محمد بن قيس﴿ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ﴾ قال: كانوا قومًا صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صوّرناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوّروهم، فلما ماتوا، وجاء آخرون دبّ إليهم إبليس، فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يُسقون المطر فعبدوهم.) ( تفسير الطبري - (ج 23 / ص 639).
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: ﴿ وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً ﴾ قال: ( كان قوم مؤمنون قبل نوح u فماتوا فحزن عليهم الناس فجاء إبليس فاتخذ لهم صورهم ليأنسوا بها فأنسوا بها فلما جاءهم الشتاء أدخلوهم البيوت فمضى ذلك القرن وجاء القرن الآخر فجاءهم إبليس فقال لهم إن هؤلاء آلهة كانوا آباؤكم يعبدونها فعبدوهم وضل منهم بشر كثير فدعا عليهم نوح فأهلكهم الله )(بحار الأنوار ج : 3)
وفي علل الشرائع عن جعفر بن محمد u في قول الله عز وجل : ﴿ وقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً ﴾ قال: ( كانوا يعبدون الله عز وجل فماتوا فضج قومهم وشق ذلك عليهم فجاءهم إبليس لعنه الله فقال لهم أتخذ لكم أصناما على صورهم فتنظرون إليهم وتأنسون بهم وتعبدون الله فأعد لهم أصناما على مثالهم فكانوا يعبدون الله عز وجل وينظرون إلى تلك الأصنام فلما جاءهم الشتاء والأمطار أدخلوا الأصنام البيوت فلم يزالوا يعبدون الله عز وجل حتى هلك ذلك القرن ونشأ أولادهم فقالوا إن آباءنا كانوا يعبدون هؤلاء فعبدوهم من دون الله عز وجل فذلك قول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً الآية ﴾.( بحار الأنوار ج : 3).
الحقيقة الثانية:
بعد طوفان نوح u لم ينج من البشر سوى من آمن مع نوح، فمن أين دخل الشرك فيهم؟
إن نوحاً u كان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، وكان أول أولي العزم من الرسل، وقد دعا قومه الذين عبدوا يغوث ويعوق ونسرا، فما آمن معه إلاّ قليل، فدعا عليهم نوح بقوله: ﴿ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ﴾ [نوح/26، 27]:
فقال الله تعالى : ﴿ فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾( الشعراء:122) }.
فلم ينج من أهل الأرض إلاّ من آمن مع نوح، فمن أين دخل الشرك فيهم، حتى إحتاج الناس إلى أن يبعث الله فيهم الأنبياء والرسل، ليصححوا عقيدتهم، ويدعوهم إلى عبادة الله وحده. قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل/36]([33]).
الحقيقة الثالثة :
الدخول في الإسلام بنطق الشهادتين ليس بعاصم من الوقوع في الشرك أو الكفر:
وهذه الحقيقة هي إستنتاج من الحقيقتين السابقتين، إذ لو كانت الولادة على الإسلام، أو مجرد نطق ( لا إله إلاّ الله ) عاصماً من الوقوع في الشرك؛ فكيف وقع الناس في الشرك بعد نبي الله آدم u ؟
وكيف دخل الشرك بعد نوح u ، وقد علمنا أن الله تعالى قد أغرق جميع الكفار، ولم ينج من الناس إلاّ مَنْ كان قد آمن مع نوح وركب السفينة معه.
بل أكثر من هذا فقد وقع الشرك في بني إسرائيل وبحضرة نبي الله هارون عليه السلام، حين عبدوا العجل الذي أخرجه لهم السامري ، وذلك عندما ذهب موسى عليه السلام لميقات ربه.
التاريخ يعيد نفسه:
إن من يطلع على ممارسات الشيعة وبعض المتصوفة في مراقد الأئمة ومشايخ الدين يرى أن هذه الممارسات تتنافى تماماً مع العبودية الخالصة لله تعالى، فهذا الذي يطوف حول القبر، وهذا الذي يتضرع عند القبر طالباً من صاحب القبر أن يرزقه الولد، وهذا الذي يطلب منه أن يشفي مريضه، وهذا الذي يتمسح بحيطان المرقد، ويزحف من باب المشهد يقبل الأرض حتى يصل إلى القبر … إلخ.
قال العلامة الصنعاني:
(فإن قلت هؤلاء القبوريون يقولون: نحن لا نشرك بالله تعالى ولا نجعل له نداً والالتجاء إلى الأولياء والاعتقاد فيهم ليس شركا!
قلتُ: نعم : ﴿ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ﴾[آل عمران/167] لكن هذا جهل منهم بمعنى الشرك، فإن تعظيمهم الأولياء ونحرهم النحائر لهم شرك والله تعالى يقول : ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ﴾[الكوثر/2] أي: لا لغيره، كما يفيده تقديم الظرف. ويقول الله تعالى : ﴿ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ﴾[الجن/18] وقد عرفت بما قدمناه قريبا أنه صلى الله عليه وسلم قد سمى الرياء شركا، فكيف بما ذكرناه؟!
فهذه الذي يفعلونه لأوليائهم هو عين ما فعله المشركون وصاروا به مشركين، ولا ينفعهم قولهم: نحن لا نشرك بالله شيئا، لأن فعلهم أكذبَ قولهم.
فإن قلتَ: هم جاهلون أنهم مشركون بما يفعلونه. قلتُ: قد صرح الفقهاء في كتب الفقه في باب الردة أن من تكلم بكلمة الكفر يكفر، وإن لم يقصد معناها، وهذا دال على أنهم لم يعرفوا حقيقة الإسلام ولا ماهية التوحيد، فصاروا حينئذ كفارا كفرا أصليا. فالله تعالى فرض على عباده إفراده بالعبادة :﴿ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ﴾ [هود/26] وإخلاصها له : ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾[البينة/5] ومن نادى الله ليلا ونهارا وسرا وجهارا وخوفا وطمعا ثم نادى معه غيره فقد أشرك في العبادة. فإن الدعاء من العبادة، وقد سماه الله تعالى عبادة في قوله تعالى ﴿إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين﴾ [40:60] بعد قوله ﴿ادعوني أستجب لكم﴾.
فإن قلت: لا سواء، لأن هؤلاء قد قالوا "لا إله إلا الله" وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها." وقال لأسامة بن زيد:"لم قتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟" وهؤلاء يصلون ويصومون ويزكون ويحجون بخلاف المشركين. قلتُ: قال صلى الله عليه وسلم " إلا بحقها" وحقها إفراد الإلهية والعبودية لله تعالى. والقبوريون لم يفردوا الإلهية والعبادة، فلم تنفعهم كلمة الشهادة، فإنها لا تنفع إلا مع التزام معناها، كما لم ينفع اليهود قولها لإنكارهم بعض الأنبياء.
وكذلك من جعل غير من أرسله الله نبيا، لم تنفعه كلمة الشهادة. ألا ترى أن بني حنيفة كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويصلون ولكنهم قالوا: إن مسيلمة نبي. فقاتلهم الصحابة وسبوهم. فكيف بمن يجعل للولي خاصة الإلهية ويناديه للمهمات؟ وهذا أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه حرق أصحاب عبد الله ابن سبأ، وكانوا يقولون نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. ولكنهم غلوا في علي رضي الله عنه واعتقدوا فيه ما يعتقد القبوريون وأشباههم، فعاقبهم عقوبة لم يعاقب بها أحدا من العصاة، فإنه حفر لهم الحفائر وأجج لهم نارا وألقاهم فيها وقال:
لما رأيت الأمر أمر منكرا أججت ناري ودعوت قنبرا
وقال الشاعر في عصره
لترم بي المنية حيث شاءت إذا لم ترم بي في الحفرتين
إذا ما أججوا فيهم نارا رأيت الموت نقدا غير دين
والقصة في فتح الباري وغيره من كتب الحديث والسير.
وقد وقع إجماع الأمة على أن من أنكر البعث كفر وقتل ولو قال لا إله إلا الله، فكيف بمن يجعل لله ندا؟
فإن قلت قد أنكر صلى الله عليه وسلم على أسامة قتله لمن قال لا إله إلا الله كما هو معروف في كتب الحديث والسير، قلتُ: لا شك أن من قال: "لا إله إلا الله" من الكفار حقن دمه وماله حتى يتبين منه ما يخالف ما قاله، ولذا أنزل الله في قصة محلم بن جثامة آية:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا ﴾ [النساء/94] فأمرهم الله تعالى بالتثبت في شأن من قال كلمة التوحيد، فإن تبين التزامه لمعناها كان له ما للمسلمين وعليه ما عليهم. وإن تبين خلافه فلم يحقن دمه وماله بمجرد التلفظ. وهكذا كل من أظهر التوحيد وجب الكف عنه إلى أن يتبين منه ما يخالف ذلك. فإذا تبين لم تنفعه هذه الكلمة بمجردها. ولذلك لم تنفع اليهود ولا نفعت الخوارج مع ما انظم إليها من العبادة التي يحتقر الصحابة عبادتهم إلى جنبها، بل أمر صلى الله عليه وسلم بقتلهم، وقال: "لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد" وذلك لما خالفوا بعض الشريعة وكانوا شر القتلى تحت أديم السماء، كما ثبتت به الأحاديث. فثبت أن مجرد كلمة التوحيد غير مانع من ثبوت شرك من قالها لارتكابه لما يحالفها من عبادة غير الله)([34]).
ولتقريب مخالفة القول للفعل، وأنه لا عبرة بالقول إذا خالفه الفعل نقول:
لو فرضنا أنك دعوت صديقاً لك لزيارتك، فقلت له: هل لك أن تزورني عصر غدٍ في بيتي؟
فقال: نعم سأزورك.
وحل الغد وارتحل العصر ولم يأت إلى زياتك.
فهل تستطيع أن تعتبر هذا الصديق زائراً لك؟!
لقد قال أنه سيزورك بلسانه، ولكنه أخلف بوعده وخالف فعله قوله.
وهذا حال من تلفظ بالشهاديتن بلسانه، ولكنه لم يفعل ما يوجب عليه هاتين الشهادتين من إقرار وأفعال.
الفصل الثاني
أسباب الغلو في الصالحين
المحور الأول: نظرة الناس للأنبياء:
قبل أن نتعرف على أسباب الغلو الذي يقع من بعض الناس في الأنبياء والأولياء، علينا أن نعرف نظرة الناس إلى الأنبياء والرسل منذ قديم الزمان، وكيف كانوا يتعاملون معهم؛ فنقول:
الناس في نظرتهم للأنبياء والرسل ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: الذين لم يؤمنوا بالرسل:
هذا الصنف من الناس نظروا إلى منصب النبوة، على أنها منصب غير متصور أن يناله البشر؛ لأنهم كانوا يتصورون أن النبي يجب أن يمتلك قدرة خارقة على فعل ما يريده، ولهذا قالوا: لو أراد الله تعالى أن يرسل رسولاً لجعله من الملائكة، بإعتبار أن الملك لديه قدرة تفوق قدرة البشر؛ فلما رأوا الرسول أو النبي على أرض الواقع بشر لا يملك مما هو متصور في أذهانهم مما دفعهم إلى عدم الإيمان بهم، بل ومحاربتهم وقتلهم.
قال الشيخ محمد حسين فضل الله: وتحت عنوان: ( الأنبياء والتصور المنحرف عنهم:
( لعل مشكلة الأنبياء هي في التصور المنحرف لدى الناس الذين كانوا يعيشون معهم عن فكرة النبوة والنبيّ، فقد كانوا يعتقدون بأن النبوّة حالةٌ غير عادية، باعتبارها تفويضاً إلهياً للنبيّ بأن يتحرك في الأرض مع الناس بقدرة خارقة، لأنه وكيل الله لدى الإنسان، فيجب أن يتمتع بإمكاناتٍ عظيمةٍ يغيّر بها الكون، ويحكم بها الحياة، فيعمل كل ما يريد، أو ما يراد منه، من تغيير ظاهرةٍ كونيةٍ، أو الإتيان بما يعجز البشر عن مثله.
لذا كانوا يتصوّرون أن النبي لا يمكن أن يكون بشراً، وكون محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يملك مثل هذه القدرة المطلقة، فقد مثل ذلك مشكلةً في علاقة الناس به وإيمانهم برسالته، مما أثار في فكرهم حالة شكٍ أو استهزاءٍ. وفي هذا الاتجاه، كان حوار قريش مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حول مسألة الرسالة، وشروطهم للإيمان بها وبه، من خلال ما كانوا يسمعونه من معجزة موسى أو عيسى، وغيرهما من الأنبياء u في ما يدهش الفكر ويخطف البصر من خوارق العادة... وإذا كان القرآن هو المعجزة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنهم لا يرون في ذلك حالةً غير عادية، لأنها لا تتصل بالظاهرة الكونية، بل ترتبط بالعنصر الغني للتعبير، مما يمكن أن يكون قمةً في الإبداع لا يبلغها أحد، ولكنها لا تتلاءم مع معجزات الأنبياء الآخرين، ولا تغيّر أية ظاهرةٍ من ظواهر الحياة حولهم.
ولكنّنا نعلم أن الله قد أرسل رسله كي يفتحوا عقول الناس وقلوبهم على الحق، من خلال المنهج الفكري الذي يقودهم إلى اكتشافه بالفكر الدائب على البحث، والوحي المنفتح على تفاصيل الحقيقة... ولم تكن المعجزة أساساً في ذلك، بل كانت ردّاً للتحدّي الكبير الذي يحاول أن يُسقط الدعوة أمام الناس، كما في مسألة فرعون وموسى وأمثالها. ولذلك لم يستجب النبي صلى الله عليه وآله وسلم للتحديات الطارئة الذاتية، لأنها لا تمثل شيئاً في حركة الدعوة، ولا تثير أيّ غبار في وجهته العملية إلا بشكل بسيط.)([35])
ثم يضيف قائلا: وتحت عنوان: ( الواقعية في الخصوصية البشرية):
( ولكن الله يُعلّم رسوله بأن هذه الأمور لا تقع في نطاق قدرته، لأنه بشر لا يملك أن يقوم بأيّ عملٍ خارقٍ للعادة من خلال قدراته الذاتية، فهو مجرد رسول يُوحَى إليه ليبلِّغ الناس ما يريد الله له أن يبلِّغه في وحيه، وليس من شأن الرسالة أن تغير الكون في نظامه الكوني، بل إن دورها أن تغيّره في نظامه الإنساني العملي... ولذلك، فلا مجال لأيّ شيءٍ مما تقترحونه ﴿ قُلْ سُبْحَانَ رَبّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً﴾ وليس عليّ إلا أن أبلغكم رسالات ربي، وأفتح عقولكم من خلال الحوار الذي يقودكم إلى الحجة على صدق الرسالة.
﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءهُمُ الْهُدَى ﴾ في وحي الله على يد رسوله، ﴿ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولاً ﴾ في استغراب يوحي بالإنكار أو بالشك، انطلاقاً من التصور الخاطىء الذي يرى الرسالة شيئاً من شؤون الملك، لا من شؤون الإنسان. ولكن الله يعالج المسألة بتصحيح هذا التصور، فإن الرسالة تفرض الدعوة بالفكر وبالقدوة، فلا بد من أن يكون الرسول من الناس، ليكون تجسيده للرسالة في سلوكه أساساً للإيمان بواقعية الفكرة التي يدعو إليها، من خلال خصوصيته البشريّة، أما إذا كان ملكاً، فإن الناس سيحتجّون بعدم امتلاكهم قدرة الملك على تجسيد أخلاقية الرسالة في الحياة. وربّما كانت المسألة تتجه إلى المقولة التي تؤكد على أن الإنسان لا يتحمل النظر إلى الملك، ﴿ قُل لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ ﴾ لكان من الضروري أن يكون الرسول إليهم منهم، ليتناسب فكره مع فكرهم، وقدرته العملية مع قدرتهم. ﴿ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ مَلَكًا رَّسُولاً﴾ لأن ذلك هو الذي يجعل إمكانات النجاح متوفرة في تجربته الرسالية.)([36])
وعن الحكمة من جعل الرسول من البشر: يقول شيخ الإسلام إبن تيمية:
( وأما حكمته في إرسال بشر: فقد ذكر أنّه من جنسهم، وأنّه بلسانهم؛ فهو أتمّ في الحكمة والرحمة، وذكر أنّهم لا يمكنهم الأخذ عن المَلَك، وأنّه لو نزّل ملكاً، لكان يجعله في صورة بشر، ليأخذوا عنه.. .
ولهذا لم يكن البشر يرون الملائكة إلا في صورة الآدميين؛ كما كان جبريل يأتي في صورة دحية الكلبي . . وكذلك لما جاءت الملائكة إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم، وامرأته حاضرة، كانوا في صورة بشر، وبشّروها بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب. . وأيضاً جاؤوا لوط عليه السلام في صورة شباب حسان، وجبريل جاء إلى مريم في صورة بشر. قال الله تعالى: ﴿ فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً ﴾[سورة مريم، الآيات 16-19]([37]).
ولقد رد الله تعالى على هذا الصنف من الناس قائلاً: ﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا ﴾ [الإسراء/94، 95].
وقال أيضاً: ﴿ وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ( 8 ) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ﴾[الأنعام/9].
هذا هو الصنف الأول، جعلهم هذا التصور الخاطئ لمنصب النبوة والنبي، أن يعرضوا عن الإيمان بهم. قائلين: ﴿ لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾ [فصلت/14]، ﴿ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ ﴾[المؤمنون/24].
الصنف الثاني: وهم المؤمنون بالأنبياء بالغيب، ولم يعايشوا الأنبياء والمرسلين، وتصوروا أن النبي أو الرسول بمنزلته المقربة من الله تعالى له من القدرات والخصائص ما يؤهلهم أن يكونوا واسطة بينهم وبين الله تعالى، ولكنهم لم يعايشوا الأنبياء ليروهم على صورتهم الحقيقية من كونهم بشر لا يختلفون عنهم في شيء سوى الوحي، وأنهم بأخلاقهم الحسنة وأفعالهم الحميدة وصلوا إلى أن إختارهم الله تعالى وأصطفاهم لرسالته﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾[الكهف/110].
هذا الصنف، عكس الصنف الأول، فإن أولئك أدى تصورهم الخاطئ عن الأنبياء إلى الكفر وعدم الإيمان بهم.
ولكن هذا الصنف الثاني أدى إيمانهم وحبهم المغلوط إلى إشراكهم في بعض خصائص الله تعالى، وكلا الصنفين أخرجهم هذا الغلو من حضيرة الإيمان إلى حضيرة الشرك.
فالنصارى الذين غلو في عيسى عليه السلام حتى قالوا :﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ﴾[المائدة/17]،أو أن :﴿ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّه ﴾[التوبة/30].هل قالوا ما قالوا حبّاً به، أم كُرهاً له؟
هذا النوع من الحب مرفوض عند الله تعالى رفضاً قاطعاً، لم يأمر به عيسى ولا الأنبياء عليهم السلام، ولا الملائكة المقربون. قال الله تعالى: ﴿ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران/79، 80].
ولهذا وحتى يبرئ الله تعالى ساحة نبيه عيسى u من هذا الكفر، فقد صور لنا مشهداً من مشاهد الآخرة لم تقع بعد، وما ذلك، إلاّ تعليماً وإرشاداً للمسلمين لئلا يقعوا فيما وقع فيه اليهود والنصارى. قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾[المائدة/116، 117].
وأيضا فإن الذين غلو في سيدنا علي t وفي أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ما دفعهم إلى هذا الغلو إلاّ حبهم الخاطئ لهم، وتصورهم أن منزلة هؤلاء عند الله توجب أن يتقرب الناس منهم ولو بالقول فيهم ما لا يقال إلاّ في الله تعالى، لأن رضاء الله تعالى في تصورهم يمر عبر رضا هؤلاء، ونسوا أن حب الشيء يعمي ويصم، وهذا هو سر الشرك والكفر الذي يقع فيه عامة المنتسبين إلى الإسلام من حيث لا يدرون([38]).
الصنف الثالث: وهم وسط بين الصنفين:
وهؤلاء علموا أن الله تعالى أرسل الرسل والأنبياء ليكون الدين كله لله ، وليعبدوا الله وحده لا شريك له ، ومُبَشِّرِينَ مَنْ أَطَاعَهُمْ بِالثَّوَابِ وَمُنْذِرِينَ مَنْ عَصَاهُمْ بِالْعِقَابِ.
كما علموا أن الرسل عليهم الصلاة والسلام هم بشر كسائر البشر، وأن الله تعالى خصهم بالوحي وكلفهم برسالته لكونهم أفضل الناس خُلُقاً وأمانةً وورعاً وتقوى.
كما علموا أن علاقتهم بالأنبياء والرسل إنما هي في العلاقة برسالته، ( لا لوناً من ألوان الاستغراق في شخصيته والارتباط بذاته، لأن الله لا يريد للناس أن يلتقوا بالرسول من خلال ذاته، بل من خلال أنّه يمثل الرمز الحيّ للرسالة، ليبحثوا في ذاته عن عناصر الرسالة في فكره وروحه وجهاده المتحرك في أكثر من اتجاهٍ )([39]).
هذا الصنف آمن بالرسل، على أنهم مبلغين عن الله تعالى، فآمنوا بهم وبرسالتهم، ونصروهم، دون غلو فيهم، ودون أن يبخسوا حقهم من التبجيل والتوقير.
هذا الصنف جسّده السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وعلى رأسهم أبي بكر الصديق y حينما قدم من السنح يوم وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فلما كشف وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتأكد من وفاته، قبّله قائلاً: ( بأبي أنت وأمي يا رسول الله، طِبْتَ حيّاً وميِّتاّ ) ثم خرج إلى الناس وقال: ( أيها الناس مَنْ كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومَنْ كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت )ثم تلا قوله تعالى: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ﴾.
فعلموا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما فارق الدنيا إلاّ بعد أن بلّغ الرسالة وأدى الأمانة، ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾[المائدة/3]. فلم يبق شيء من الدين ناقصاً إلاّ وفيه كتاب أو سنة([40]).
وعلى هذا فكل إضافة إلى الدين بعد أن لم تكن من غير وجه إقتضاء، فهي من البدع المذمومة([41]).
المحور الثاني:
لماذا يقع الإنسان في الغلو؟
يقول الشيخ محمد حسين فضل الله، وهو يحدد الأسباب التي تجعل البعض من الناس يلجأ إلى غير الله تعالى:
﴿ وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً ﴾ تلك هي خلفية الشرك لدى هؤلاء الناس، فهم يشعرون بالضعف الذي يسيطر عليهم في كثير من جوانب الحياة، ويبحثون عن أساس للقوة والحماية، فيلجأون إلى الملائكة، والجن، والقديسين من البشر، والطغاة من الملوك والرؤساء، ويتخيلون لهم خصائص مقدسة تمنحهم إمكانات عجائبية تنقذهم من الأشباح المخيفة والأحداث المرعبة، والأمراض المهلكة، والأوضاع الصعبة ونحو ذلك... وتبدأ عملية العبادة بالأساليب المتنوعة في تقديم القرابين وأداء طقوس الطاعة التي ينفّذون بها كل أوامرهم وتبعدهم عن نواهيهم، ويتعاظم الخيال المقدس في أفكارهم ومشاعرهم، فيتصورونهم في مواقع الآلهة، ويتحولون في وعيهم إلى شركاء لله بدرجات متفاوتة.
وربما يفكر البعض من هؤلاء المتألِّهين، أنهم الأقرب إلى الله، من خلال ذلك، وهكذا هم يستطيعون التوسط إلى الله، ليقرِّبوهم إليه، لأن عظمته تمنع الناس العاديين من أن يتصلوا به في مرحلة التصور، لتتحول إلى فكرة التقديس في مرحلة العبادة.
إن القضية كل القضية، هي أن الضعفاء الذين يعيشون المذلّة، يبحثون في خيالات التخلُّف عما يعطيهم شيئاً من العزة ويمنحهم شيئاً من القوة. ولكنهم سيكتشفون خطأ هذه الأفكار عندما يواجهون هؤلاء الآلهة، في يوم القيامة، في الموقف العصيب أمام الله، إذ سيتبرأ كل هؤلاء منهم بعد أن يحمّلوهم المسؤولية عن جميع أعمالهم، لأنهم أضعف من أن يستطيعوا لهم شيئاً.)([42]).
فإذا عرفت أن الدافع لهؤلاء هو إعتقادهم بأن لهؤلاء الذين يلجأون إليهم في الشدائد لهم خصائص مقدسة تمنحهم إمكانات عجائبية تنقذهم من الأشباح المخيفة والأحداث المرعبة، والأمراض المهلكة، والأوضاع الصعبة ونحو ذلك، علمت حينئذٍ أن المسألة هي مسألة عقيدة، وليست مجرد تصرفات خاطئة يقوم بها البعض من السذج من الناس.
وإذا كانت المسألة مرتبطة بعقيدة هؤلاء في أن الأئمة لهم إمكانات وقدرات تقترب من إمكانات وقدرات الخالق عز وجل, وجب حلها بما ينسجم مع عظمة الخالق، وما يستحقه من صفات الكمال، ووجوب زرع ذلك في أذهان وعقائد الناس، بدلاً من تعلقهم بالأنبياء أو الأولياء الذين هم عبيد مخلوقون مربوبون لله، ﴿ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنبياء/26، 27].
ويزيد الشيخ صفي الرحمن المباركفوري الأمر وضوحاً فيقول:
( أما فكرة الشرك وعبادة الأصنام، فقد نشأت فيهم ( أهل الجاهلية) على أساس أنهم لما رأوا الملائكة والرسل والنبيين وعباد الله الصالحين من الأولياء والأتقياء والقائمين بأعمال الخير ـ لما رأوهم أنهم أقرب خلق الله إليه، وأكرمهم درجة وأعظمهم منزلة عنده، وأنهم قد ظهرت على أيديهم بعض الخوارق والكرامات، ظنوا أن الله أعطاهم شيئاً من القدرة والتصرف في بعض الأمور التي تخص بالله سبحانه وتعالى، وأنهم لأجل تصرفهم هذا ولأجل جاههم ومنزلتهم عند الله يستحقون أن يكونوا وسطاء بين الله سبحانه وتعالى وبين عامة عباده، فلا ينبغي لأحد أن يعرض حاجته على الله إلاّ بواسطة هؤلاء؛ لأنهم يشفعون له عند الله، وأن الله لا يرد شفاعتهم لأجل جاههم، كلك لا ينبغي القيام بعبادة الله إلاّ بواسطة هؤلاء لأنهم بفضل مرتبتهم سوف يقربونه إلى الله زلفى.
ولما تمكن منهم هذا الظن ورسخ فيهم هذا الإعتقاد إتخذوهم أولياء، وجعلوهم وسيلة فيما بينهم وبين الله سبحانه وتعالى، وحاولوا التقرب إليهم بكل ما رأوه من أسباب التقرب؛ فنحتوا لمعظمهم صوراً وتماثيل، إما حقيقة تطابق صورهم التي كانوا عليها، وإما خيالية تطابق ما تخيلوا لهم من الصور في أذهانهم([43]) ـ وهذه الصور والتماثيل هي التي تسمى بالأصنام.
وربما لم ينحتوا لهم صوراً ولا تماثيل، بل جعلوا قبورهم وأضرحتهم وبعض مقراتهم ومواضع نزولهم وإستراحتهم أماكن مقدسة، وقدموا إليها النذور والقرابين، وأتوا لها بأعمال الخضوع والطاعات، وهذه الأضرحة والمقرات والمواضع هي التي تسمى بالأوثان.)([44]).
هذا الكلام وإن كان قد قيل في أهل الجاهلية، إلاّ أن واقع المسلمين المنحرفين عن التوحيد الصحيح لا يخرج عنه، وهذه الأضرحة والمشاهد التي ما أمر الله تعالى ببنائها ولا بزيارتها بهذه الكيفية شاهد صارخ لما آلت إليه حال المسلمين من تطابق واقعهم مع حال الجاهلية السابقة.
وكما أسلفنا سابقاً فإن الغلو أساسه ناتج عن عقيدة القلب، ولا سلطان عليه لأحد غير الله تعالى، ولهذا فإن الملوك والجبابرة الذين قهروا الناس واستعبدوهم بالقوة، ما أن يزيل ملكهم وسلطانهم وقوتهم حتى يتحلل الناس من عبوديتهم.
أما الغلو في الصالحين فأساسه إيمان وإعتقاد بأن لهؤلاء الصالحين منزلة عند الله تعالى، فترى الناس يتعلقون بهم طوعاً من غير إكراه ولا قوة.
ولما كان الأنبياء وعباد الله الصالحين من أبعد الناس عن الشرك وأعظمهم معرفة لحق الله تعالى، لذا كانوا على حذر شديد في حياتهم أن لا يغالي فيهم الناس ليحولوهم إلى إله مصغر ترفع إليهم الحوائج ليكونوا واسطة بين الله تعالى وبين عباده، ولكنهم ما أن يموتوا حتى يتحولوا في أذهان الناس وتصوراتهم إلى قوة غيبية لها سلطة كاملة، أو سلطة جزئية على الكون؛ وهذا ما تسمى عند الشيعة بـ ( الولاية التكوينية للأئمة) فقد أقرها الخوميني ومن سار على دربه، وأنكرها محمد حسين فضل الله ومن لا يجنح منهم إلى ذلك الغلو الذي يعطي للأئمة منزلة وخصائص تفوق منزلة الأنبياء والرسل؛ بل يجعلونهم يشاركون الله تعالى في أخص صفاته وخصائصه في قدرته التي ليس لها حدود وفي علمه للغيب.
هذا ولم يقف الأمر عند حد تعظيم الشيعة لأئمتهم الذين يظنون فيهم أنهم معصومون، بل تعدى الأمر إلى فقهاء الشيعة، ( فقد اتخذوهم أرباباً من دون الله تعالى و(مراجع) يرجعون إليهم في الأصول والفروع دون تفريق، وفي الكبيرة والصغيرة بلا تحقيق، أو رجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله! بل يعتقدون أن فهم الكتاب والسنة حكر عليهم ولا يكون إلا بواسطتهم لا يستجيزون تخطئتهم وإنما يقلدونهم تقليدا أعمى حتى صرح كبار علمائهم أن الاعتراض على الفقيه بمنزلة الاعتراض على الله وهو شرك بالله! منهم محمد رضا المظفر وإبراهيم الزنجاني إذ يقول كلاهما بالنص الواحد:
(عقيدتنا في المجتهد الجامع للشرائط أنه نائب عام للإمام u في حال غيبته. وهو الحاكم والرئيس المطلق. له ما للإمام في الفصل في القضايا والحكومة بين الناس، والراد عليه راد على الإمام والراد على الإمام راد على الله تعالى وهو علـى حد الشرك بالله كما جاء في الحديث عن صادق آل البيت عليهم السلام)([45]).
وهذه - في قرآننا - هي عقيدة اليهود والنصارى في أحبارهم ورهبانهم، كما أخبـر تعالى عنهم فقال: )اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ (31)( التوبة. ولا شك أن أهل الكتاب لم يقولوا عن علمائهم أنهم أربابهم أو خالقوهم، ولم يعبدوهم بأن ركعوا وسجدوا لهم، وإنما أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم واتبعوهم دون نقاش، وأنزلوا كلامهم وأوامرهم منزلة كلام الله وأمره. فتلك عبادتهم إياهم، واتخاذهم لهم أرباباً من دون الله .
وفي الوقت نفسه يستولون على أموالهم بحجة ما يسمونه بـ(الخمس) و(الحقوق الشرعية) و(ثلث الأموات) وغيرها من الأسماء والحيل، يتمتعون بها وبأعراضهم باسم (المتعة)، ويؤسسون الشركات المالية الضخمة في الدول الأجنبية كمؤسسة آل الخوئي في لندن.
إن جزءاً كبيراً من هذه الأموال يستثمرونها في التآمر السياسي وإثارة الفتن والقلاقل وعدم الاستقرار. يقول تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ((التوبة: 46)([46]).
والآن لنا أن نتساءل ما الذي أوقع بعض المسلمين في الافتتان بقبور الصالحين ومشاهدهم، مع العلم بأن ساكنيها أموات، لا يملكون لهم ضرا ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً؟
( قيل: أوقعهم في ذلك أمور:
منها: الجهل بحقيقة ما بعث الله به رسوله، بل جميع الرسل من تحقيق التوحيد وقطع أسباب الشرك.
ومنها: أحاديث مكذوبة مختلقة، على رسول الله صلى الله تعالى وآله وسلم تناقض دينه، وما جاء به كحديث: "إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور" وحديث: "لو أحسن أحدكم ظنه بحجر نفعه" وأمثال هذه الأحاديث التي هي مناقضة لدين الإسلام.
ومنها: حكايات حكيت لهم عن تلك القبور: أن فلانا استغاث بالقبر الفلاني في شدة فخلص منها. وفلاناً دعاه به في حاجة فقضيت له. وفلانا نزل به ضر فاسترجى صاحب ذلك القبر فكشف ضره.)([47]).
الفصل الثالث
كيف نقطع أسباب الشرك؟
لكي نقطع أسباب الشرك من جذورها، علينا إجتناب الطرق والوسائل التي قد تؤدي إلى الوقوع في الشرك.
وقد علمت أن أول شرك وقع في بني آدم كان سببه الغلو في الأنبياء والصالحين؛ لذا وجب علينا معرفة ضوابط حب الأنبياء والأولياء، والتفريق بين هذا الحب والتعظيم، والغلو الذي غالباً ما يؤدي إلى الوقوع في الشرك.
وسنتناول الكلام فيه في محورين:
المحور الأول:
ضوابط حب الأنبياء والأولياء:
إذ ليس الحب مجرد كلمات تطلق أو شعارات ترفع، بل يجب أن تقرن بأفعال تترجم هذا الحب إلى حقيقة على أرض الواقع، وإلاّ كان زعماً وادعاءً فارغا.
فمثلاً لو قال لك إنسان أنه يحب القراءة، ولكنك كلما تجلب له كتاباً ليقرأه إحتج عليك بأنواع من الحجج ليتهرب من القراءة؛ فهل هذا الإنسان صادق في حبه للقراءة؟
لاشك أن حبه للقراءة مجرد دعوى، لا أساس لها من الصحة.
أما حب الله تعالى، وحب أنبيائه، وحب أوليائه، فيحتاج إلى دليل وبرهان. إذ ليس هو مجرد إحساس عاطفي يمكن أن تعبر عنه بكلمة أو بسمة، بل له ميزان دقيق من خلاله يمكن أن يوزن، أو قل من خلاله يمكن أن يُفرق بين الحب الصادق والإدعاء الكاذب.
وحَقِيقَةَ الْمَحَبَّةِ أَنْ يُحِبَّ الْمَحْبُوبَ وَمَا أَحَبَّهُ وَيَكْرَهَ مَا يَكْرَهُهُ، وَمَنْ صَحَّتْ مَحَبَّتُهُ امْتَنَعَتْ مُخَالَفَتُهُ لِأَنَّ الْمُخَالَفَةَ إنَّمَا تَقَعُ لِنَقْصِ الْمُتَابَعَةِ وَيَدُلُّ عَلَى نَقْصِ الْمَحَبَّةِ.
يقول الإمام جعفر الصادق u : (مَا أَحَبَّ اللَّهَ مَنْ عَصَاهُ ثُمَّ تَمَثَّلَ:
تَعْصِي الْإِلَهَ وَأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ هَذَا مُحَالٌ فِي الْفِعَالِ بَدِيعُ
لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقاً لَأَطَعْتَهُ إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ )([48])
وعلى مثل هذا الأمر أنزل الله تعالى قوله : ﴿ قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾ ( آل عمران:31).
وفي نهج البلاغة عن سيدنا علي y أنه قال: ( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِالْأَنْبِيَاءِ أَعْلَمُهُمْ بِمَا جَاءُوا بِهِ ثُمَّ تَلَا: ﴿ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ﴾الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ وَلِيَّ مُحَمَّدٍ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَإِنْ بَعُدَتْ لُحْمَتُهُ وَإِنَّ عَدُوَّ مُحَمَّدٍ مَنْ عَصَى اللَّهَ وَإِنْ قَرُبَتْ قَرَابَتُهُ).
وبهذا يتبين أن محبة الله تعالى إنما تأتي عن طريق إتباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي محبته ومحبة الصالحين تابع لمحبة الله تعالى ، فَكُلُّ مَنْ ادَّعَى أَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَلَمْ يَتَّبِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ كَذَبَ لَيْسَتْ مَحَبَّتُهُ لِلَّهِ وَحْدَهُ بَلْ إنْ كَانَ يُحِبُّهُ فَهِيَ مَحَبَّةُ شِرْكٍ فَإِنَّمَا يَتَّبِعُ مَا يَهْوَاهُ كَدَعْوَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مَحَبَّةَ اللَّهِ فَإِنَّهُمْ لَوْ أَخْلَصُوا لَهُ الْمَحَبَّةَ لَمْ يُحِبُّوا إلَّا مَا أَحَبَّ فَكَانُوا يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ ، وهل هناك نبي أو ولي يقول للناس إتخذوني إلهاً، أو قولوا لي إبن الله، أو ادعوني من دون الله: ﴿ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾[آل عمران/79، 80]
قال بعض الحكماء: ليس الشأن في أن تُحبّ الله، الشأنُ في أن يكونَ هو يُحِبُّكَ. لأنك لن تجد على وجه الأرض من يقول : لا أحب الله ولا أخافه، بل حتى إبليس قال إني أخاف الله رب العالمين : ﴿ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾ [الحشر/16]. فهذا الإدعاء يجري على لسان الصادق والكاذب؛ فالشأن إذن هو محبة الله للمرء، وهو إنّما يُحِبُّ من اتَّبع الرسول، ويحب المحسنين، ويحب المتقين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص، ويحب الصابرين، ويحب المقسطين، ويحب المتوكلين، ولا يحب الكافرين، ولا يحب الظالمين، ولا يحب المفسدين، ولا يحب المسرفين؛ وإلاّ فالمشركون وأهل الكتاب يدّعون أنّهم يُحبُّون الله تعالى، ويحبون أنبياءه وأولياءه ؛ بل من حبهم قالوا في عيسى وعزير عليهما السلام ما قالوه. فهل مثل هذا الحب ينفع صاحبه يوم القيامة؟
المحور الثاني:
إعط كل ذي حق حقه:
بداية نقول: لا تعارض بين حق الله تعالى في التوحيد والعبادة، وبين تعظيم وتوقير وإحترام الأنبياء والأولياء.
فحق الله تعالى يتجلى في الإيمان والتصديق به تعالى وعبادته ( الصلاة، الصوم، الحج والطواف، والدعاء، والإستعانة, والإستغاثة، والتوكل، والإنابة . . إلخ.
وحقيقة الشرك هو تشبه المخلوق بالخالق أو تشبيه الخالق بالمخلوق, فإن من خصائص الإلهية التفرد بملك الضر والنفع والعطاء والمنع، وذلك يوجب تعليق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل به وحده.
فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق، وجعل ما لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا -فضلا عن غيره- شبيها لمن له الأمر كله، فأزمة الأمور كلها بيديه، ومرجعها إليه فما شاء كان وما لم يشاء لم يكن، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، بل إذا فتح لعبده باب رحمته لم يمسكها أحد، وإن أمسكها عنه لم يرسلها إليه أحد.
وحق الأنبياء وبخاصة نبينا الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم : يتجلى في الإيمان به وبما جاء به من أمر ونهي، وحبه الذي يتجلى في اتباعه والأخذ بسنته، والإكثار من ذكره وتمني رؤيته والشوق إلى لقائه وتقديم محبته على محبة النفس والمال، ومحبة من أحبهم، وبغض من أبغضهم, وتوقيره، وتعظيمه, وتعزيره, ونصرته، والذب عنه . . إلخ.
أما حق الأولياء, وحق الآباء على الأبناء, وحق المسلم على المسلم، وحق الجار على الجار, وحق الضيف، وحق الزوجة، وغيرها من الحقوق التي جاء بها ديننا الحنيف؛ فقد بينتها الشريعة بشكل واضح لا لبس فيها, ولا تداخل.
ولو فرضنا ـ جدلاً ـ أن هناك تداخلاً في هذه الحقوق, فإن حق الله تعالى أولى بالإعتبار والتقديم، ذلك لأنه ليس في إعطاء حق المخلوق للخالق بما يليق بجلاله وكماله غلو ولا إسراف، فإن حق الله تعالى على المخلوق فوق الحصر؛ ولهذا فمهما عظّمتَ الخالق، ومهما أثنيتَ عليه فلا توفي جزءاً يسيراً من حقه عليك. ولهذا كان نبينا صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ( لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك ) في حين أن المخلوق نبياً كان أم ولياً، فإن له حقوقاً محدودة، فمن تجاوزها فقد وقع في الغلو، وكل غلو فيهم إنما هو مجاوزة لحق الله تعالى وتعدٍّ على حدوده، وهو بالتالي وقوع في المحذور الذي هو إما شرك أكبر لا يغفره الله تعالى، أو شرك أصغر أكبر من كل كبائر الإثم والذنوب.
مع أننا نؤكد دائماً وأبداً أنه ليس من حقوق الأنبياء والأولياء خاصة بعد وفاتهم: دعاؤهم، أو الإستعانة بهم أو التوسل بهم، أو طلب الشفاعة منهم.
وأيضاً فإن هذا ليس من تعظيم الأنبياء والأولياء والصالحين، لأنهم ما وصلوا إلى منزلة تقربهم إلى الله تعالى إلاّ بشدة تعظيمهم لله تعالى، وبشدة تمسكهم بشرع الله تعالى. فليس فيهم من يحب أن يُعبد من دون الله، ولا أن يتعدى أحد فيهم على حق الله تعالى في إخلاص العبادة له وحده تعالى.
وسيسأل الله تعالى كل من عُبِدَ من دونه في الأرض وفي السماء، فإن كان برضاه أدخله الله تعالى في النار مع الذين عبدوهم: ﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ﴾[الأنبياء/98]. أما الذين عبدوا الملائكة، والأنبياء والصالحين الذين سيتبرؤون من عبادتهم: ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ ﴾[سبأ/40، 41],﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾[المائدة/116، 117]. فهؤلاء قد قال الله تعالى فيهم: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾[الأنبياء/101ــ 103].
وبهذا يتبين أن دعوى حب الأولياء وتعظيمهم وإحترامهم بإعطائهم حق الله الخالص في الألوهية أو الربوبية، أو جعلهم الواسطة بين الله تعالى وبين عباده، أو تقريب النذور والقرابين إلى أضرحتهم ومقاماتهم؛ كلها مصادمة لحق الله تعالى في التعظيم والعبادة.
الفصل الرابع
النتائج المترتبة على الغلو في الأنبياء والأولياء
قلنا أن الغلو في الأنبياء والأولياء لم يكن ليقع في حياتهم، فهم أشد الناس محاربة لكل ما يخدش جناب التوحيد وحق الله تعالى في العبادة.
ولكن الذي حدث أن الغلو فيهم وقع بعد وفاتهم، ولعل من أكبر صور الغلو في الأولياء هو ما نشاهده من الغلو في آثارهم وقبورهم والأضرحة والقبب المزركشة المقامة على قبورهم، والزيارات المستمرة لها ليلاً ونهاراً، وأفواجاً وجماعات، وركبانا ومشاة، ونساءً ورجالاً، وشيوخاً وأطفالاً.
فبالإضافة إلى أن هذه الأضرحة أصبحت أمكنة رسمية وعلنية لأنواع من الأفعال الشركية التي تناقض التوحيد، فإنها أيضاً أصبحت أماكن للإختلاط غير المشروع بين الرجال والنساء، وأصبحت مكاناً خصباً لإنشاء علاقات جنسية بينهما، وأماكن لعقد اللقاءات المسمومة بين الشباب والشابات، هذا إذا إستثنينا نكاح المتعة الذي يجري بمباركة رجال الدين الشيعة، بحجة أنها من مسلمات الشيعة.
هذا وقد ذكر إبن القيم بعض النتائج المترتبة على تعظيم قبور الأولياء والمشاهد والقبب المقامة عليها ننقلها بإختصار:
( نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن الصلاة إلى القبور، وهؤلاء يصلون عندها. ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد، ويسمونها مشاهد، مضاهاة لبيوت الله تعالى. ونهى عن إيقاد السرج عليها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها. ونهى أن تتخذ أعياداً، وهؤلاء يتخذونها أعياداً ومناسك، ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر.
وأمر بتسوية القبور ونهى عن الكتابة عليها، وهؤلاء يتخذون عليها الألواح، ويكتبون عليها القرآن وغيره.
ونهى أن يزاد عليها غير ترابها، أو أن يبنى القبر بأجر، وأعظم ذلك اتخاذها مساجد، وإيقاد السرج عليها.
وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجاً، ووضعوا له مناسك، حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتاباً وسماه "مناسك حج المشاهد" مضاهاة منه بالقبور للبيت الحرام، ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام، ودخول في دين عباد الأصنام([49]).
فانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقصده من النهى عما تقدم ذكره في القبور، وبين ما شرعه هؤلاء وقصدوه. ولا ريب أن في ذلك من المفاسد ما يعجز العبد عن حصره.
فمنها: تعظيمها المواقع في الافتتان بها. ومنها: اتخاذها عيدا. ومنها: السفر إليها. ومنها: مشابهة عبادة الأصنام بما يفعل عندها: من العكوف عليها، والمجاورة عندها. وتعليق الستور عليها وسدانتها، وعبادها يرجحون المجاورة عندها على المجاورة عند المسجد الحرام، ويرون سدانتها أفضل من خدمة المساجد، والويل عندهم لقيمها ليلة يطفئ القنديل المعلق عليها. ومنها: النذر لها ولسدنتها. ومنها: اعتقاد المشركين بها أن بها يكشف البلاء، وينصر على الأعداء، ويستنزل غيث السماء، وتفرج الكروب، وتقضى الحوائج، وينصر المظلوم، ويجار الخائف، وإلى غير ذلك. ومنها: الدخول في لعنة الله تعالى ورسوله باتخاذ المساجد عليها، وإيقاد السرج عليها، ومنها: الشرك الأكبر الذي يفعل عندها. ومنها: إيذاء أصحابها بما يفعله المشركون بقبورهم، فإنهم يؤذيهم بما يفعل عند قبورهم. ويكرهونه غاية الكراهة.
ومنها: مشابهة اليهود والنصارى في اتخاذ المساجد والسرج عليها ومنها: محادة الله ورسوله ومناقضة ما شرعه فيها. ومنها: التعب العظيم مع الوزر الكثير، والإثم العظيم. ومنها: إماتة السنن وإحياء البدع.
ومنها: تفضيلها على خير البقاع وأحبها إلى الله. فإن عباد القبور يقصدونها مع التعظيم والاحترام والخشوع ورقة القلب والعكوف بالهمة على الموتى بما لا يفعلونه في المساجد. ولا يحصل لهم فيها نظيره ولا قريب منه.، ومنها: أن ذلك يتضمن عمارة المشاهد وخراب المساجد. ودين الله الذي بعث به رسوله بضد ذلك.
ومنها: أن الذي شرعه الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم عند زيارة القبور: إنما هو تذكر الآخرة، والإحسان إلى المزور بالدعاء له، والترحم عليه، والاستغفار له، وسؤال العافية له. فيكون الزائر محسناً إلى نفسه وإلى الميت، فقلب هؤلاء المشركون الأمر، وعكسوا الدين وجعلوا المقصود بالزيارة الشرك بالميت، ودعاءه والدعاء به، وسؤاله حوائجهم، واستنزال البركات منه، ونصره لهم على الأعداء ونحو ذلك. فصاورا مسيئين إلى نفوسهم وإلى الميت
ولو لم يكن إلا بحرمانه بركة ما شرعه الله تعالى من الدعاء له والترحم عليه والاستغفار له)([50]).
وقال شيخ الإسلام إبن تيمية رحمه الله:
( لم يقل أحد من أئمة السلف : إن الصلاة عند القبور وفي مشاهد القبور مستحبة، أو فيها فضيلة، ولا أن الصلاة هناك والدعاء أفضل من الصلاة في غير تلك البقعة والدعاء، بل اتفقوا كلهم على أن الصلاة في المساجد والبيوت أفضل من الصلاة عند القبور قبور الأنبياء والصالحين سواء سميت [ مشاهد ] أو لم تسم .
وقد شرع اللّه ورسوله في المساجد دون المشاهد أشياء، فقال تعالى: } وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا { [ البقرة : 114 ] ، ولم يقل: المشاهد. وقال تعالى: } وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ { [ البقرة : 187 ] ولم يقل: في المشاهد، وقال تعالى: } قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ { [ الأعراف : 29 ] ، وقال تعالى : } إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ { [ التوبة : 18 ] ، وقال تعالى: } وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا { [ الجن : 18 ] وقال صلى الله عليه وسلم: " صلاة الرجل في المسجد تفضل على صلاته في بيته وسوقه بخمس وعشرين ضعفا " ، وقال صلى الله عليه وسلم : " من بنى للّه مسجداً بنى اللّه له بيتا في الجنة " )([51]).
وها أنا أنقل للقاريء الكريم مما جاء في كتب الشيعة من الروايات في النهي عن البناء على القبور، والصلاة عندها، والطواف حولها، متضمناً جميع ما ذكره إبن تيمية وتلميذه إبن القيم:
ففي وسائل الشيعة: عَنْ عُمَرَ بْنِ وَاقِدٍ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ u فِي حَدِيثٍ أَنَّهُ قَالَ إِذَا حُمِلْتُ إِلَى الْمَقْبُرَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِمَقَابِرِ قُرَيْشٍ فَالْحَدُونِي بِهَا وَلَا تَرْفَعُوا قَبْرِي أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ أَصَابِعَ مُفَرَّجَاتٍ الْحَدِيثَ.
وفي الكافي :عَنِ الْحَلَبِيِّ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ u يُغَسَّلُ الْمَيِّتُ ثَلَاثَ غَسَلَاتٍ مَرَّةً بِالسِّدْرِ وَمَرَّةً بِالْمَاءِ يُطْرَحُ فِيهِ الْكَافُورُ وَمَرَّةً أُخْرَى بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ ثُمَّ يُكَفَّنُ وَقَالَ إِنَّ أَبِي كَتَبَ فِي وَصِيَّتِهِ أَنْ أُكَفِّنَهُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ أَحَدُهَا رِدَاءٌ لَهُ حِبَرَةٌ وَثَوْبٌ آخَرُ وَقَمِيصٌ قُلْتُ وَلِمَ كَتَبَ هَذَا قَالَ مَخَافَةَ قَوْلِ النَّاسِ وَعَصَّبْنَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِعِمَامَةٍ وَشَقَقْنَا لَهُ الْأَرْضَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ كَانَ بَادِناً وَأَمَرَنِي أَنْ أَرْفَعَ الْقَبْرَ مِنَ الْأَرْضِ أَرْبَعَ أَصَابِعَ مُفَرَّجَاتٍ وَذَكَرَ أَنَّ رَشَّ الْقَبْرِ بِالْمَاءِ حَسَنٌ.
وفيه أيضاً: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ u قَالَ يُدْعَى لِلْمَيِّتِ حِينَ يُدْخَلُ حُفْرَتَهُ وَيُرْفَعُ الْقَبْرُ فَوْقَ الْأَرْضِ أَرْبَعَ أَصَابِعَ.
وفيه: عَنِ السَّكُونِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ u أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم نَهَى أَنْ يُزَادَ عَلَى الْقَبْرِ تُرَابٌ لَمْ يُخْرَجْ مِنْهُ.
وفي وسائل الشيعة: عن مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: قَالَ الصَّادِقُ u : كُلُّ مَا جُعِلَ عَلَى الْقَبْرِ مِنْ غَيْرِ تُرَابِ الْقَبْرِ فَهُوَ ثِقْلٌ عَلَى الْمَيِّتِ.
وفيه أيضاً : عَنِ ابْنِ الْقَدَّاحِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ u قَالَ: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ u: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فِي هَدْمِ الْقُبُورِ وَكَسْرِ الصُّوَرِ.
وفيه: عَنْ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّوْفَلِيِّ عَنِ السَّكُونِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ u قَالَ: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ صلى الله عليه وآله وسلم: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ فَقَالَ: لَا تَدَعْ صُورَةً إِلَّا مَحَوْتَهَا وَلَا قَبْراً إِلَّا سَوَّيْتَهُ وَلَا كَلْباً إِلَّا قَتَلْتَهُ.
وَرَوَاهُ الْبَرْقِيُّ فِي الْمَحَاسِنِ عَنِ النَّوْفَلِيِّ مِثْلَهُ.
وفيه: عَنْ جَرَّاحٍ الْمَدَائِنِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ u قَالَ: لَا تَبْنُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَوِّرُوا سُقُوفَ الْبُيُوتِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم كَرِهَ ذَلِكَ.
وفيه: مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم : لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي قِبْلَةً وَلَا مَسْجِداً فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَعَنَ الْيَهُودَ حَيْثُ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ.
وفيه: عَنْ زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ u قَالَ: قُلْتُ لَهُ الصَّلَاةُ بَيْنَ الْقُبُورِ قَالَ: بَيْنَ خَلَلِهَا وَلَا تَتَّخِذْ شَيْئاً مِنْهَا قِبْلَةً فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم نَهَى عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي قِبْلَةً وَلَا مَسْجِداً فَإِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ.
وفي الْإِرْشَادِ للْمُفِيدُ: عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى مَوْلَى آلِ سَامٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ u قَالَ إِنَّ أَبِي اسْتَوْدَعَنِي مَا هُنَاكَ فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ ادْعُ لِي شُهُوداً فَدَعَوْتُ لَهُ أَرْبَعَةً مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالَ اكْتُبْ هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ يَعْقُوبُ بَنِيهِ إِلَى أَنْ قَالَ وَأَوْصَى مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يُكَفِّنَهُ فِي بُرْدِهِ الَّذِي كَانَ يُصَلِّي فِيهِ الْجُمُعَةَ وَأَنْ يُعَمِّمَهُ بِعِمَامَتِهِ وَأَنْ يُرَبِّعَ قَبْرَهُ وَيَرْفَعَهُ أَرْبَعَةَ أَصَابِعَ وَأَنْ يَحُلَّ عَنْهُ أَطْمَارَهُ عِنْدَ دَفْنِهِ الْحَدِيثَ. وَرَوَاهُ الْكُلَيْنِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِثْلَهُ.
وفي وسائل الشيعة: عَنْ عُبَيْدِ بْنِ زُرَارَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ u يَقُولُ: الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إِلَّا بِئْرَ غَائِطٍ أَوْ مَقْبَرَةً أَوْ حَمَّاماً.
وفيه: عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ زَيْدٍ عَنِ الصَّادِقِ عَنْ آبَائِه عليهم السلامِ فِي حَدِيثِ الْمَنَاهِي قَالَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَنْ تُجَصَّصَ الْمَقَابِرُ وَيُصَلَّى فِيهَا وَنَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ فِي الْمَقَابِرِ وَالطُّرُقِ وَالْأَرْحِيَةِ وَالْأَوْدِيَةِ وَمَرَابِطِ الْإِبِلِ وَعَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ.
وفي الكافي: عَنْ مُصَدِّقٍ عَنْ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ u فِي حَدِيثٍ قَالَ سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يُصَلِّي بَيْنَ الْقُبُورِ قَالَ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقُبُورِ إِذَا صَلَّى عَشَرَةَ أَذْرُعٍ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَعَشَرَةَ أَذْرُعٍ مِنْ خَلْفِهِ وَعَشَرَةَ أَذْرُعٍ عَنْ يَمِينِهِ وَعَشَرَةَ أَذْرُعٍ عَنْ يَسَارِهِ ثُمَّ يُصَلِّي إِنْ شَاءَ.
وفي وسائل الشيعة: عن يُونُسَ بْنِ ظَبْيَانَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ u أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم نَهَى أَنْ يُصَلَّى عَلَى قَبْرٍ أَوْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ أَوْ يُبْنَى عَلَيْهِ.
وفيه أيضاً: عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ u قَالَ إِنَّ جَبْرَئِيلَ u قَالَ إِنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتاً فِيهِ صُورَةٌ وَلَا كَلْبٌ يَعْنِي صُورَةَ إِنْسَانٍ وَلَا بَيْتاً فِيهِ تَمَاثِيلُ .
وفيه: عَنْ حَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَلِيّاً كَانَ يَكْرَهُ الصُّورَةَ فِي الْبُيُوتِ.
وفي الكافي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَحَدِهِمَا u أَنَّهُ قَالَ: لَا تَشْرَبْ وَأَنْتَ قَائِمٌ وَلَا تَبُلْ فِي مَاءٍ نَقِيعٍ وَلَا تَطُفْ بِقَبْرٍ وَلَا تَخْلُ فِي بَيْتٍ وَحْدَكَ وَلَا تَمْشِ فِي نَعْلٍ وَاحِدٍ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ أَسْرَعَ مَا يَكُونُ إِلَى الْعَبْدِ إِذَا كَانَ عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ وَقَالَ: إِنَّهُ مَا أَصَابَ أَحَداً شَيْءٌ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ فَكَادَ أَنْ يُفَارِقَهُ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
وبطبيعة الحال فإن جميع هذه الروايات موجودة لدى أهل السنة والجماعة، ولكني أحببت إيراد ما ورد في كتب الشيعة فقط؛ لعلمي المسبق أنهم لا يعترفون بصحة أحاديث أهل السنة والجماعة المنقولة نقلاً صحيحاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الباب الثالث
تحرير نقاط الخلاف بين أهل السنة والشيعة في التوحيد
الفصل الأول: الخلل الشيعي في التوحيد
الفصل الثاني: الخلل الوهابي في التوحيد
الفصل الثالث: تحرير وتحديد نقاط الخلاف بين الطرفين
الباب الثالث
تحرير نقاط الخلاف بين أهل السنة والشيعة في التوحيد
من خلال ما قرأته من كتب الطرفين في مسألة التوحيد والشرك، ومن خلال الردود التي كتبت بينهما؛ إستطعت التوصل إلى تحرير مكامن النزاع والخلاف بينهما.
والخلاف والنزاع إذا أمكن تحريره وتحديد جوهره، أصبح من السهل علاجه من خلال عرضه على كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم .
قال تعالى: ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾[النساء/59] ومعنى الرد إلى الله سبحانه الرد إلى كتابه، ومعنى الرد إلى رسوله صلى الله عليه وسلم الرد إلى سنته بعد وفاته.
فمن كان دليل الكتاب والسنة معه فهو على الحق وهو الأولى بالحق وإن كان واحدا. ومن كان دليل الكتاب والسنة عليه لا له كان هو المخطئ، وإن كانوا عددا كثيرا.
وبهذا حكم أمير المؤمنين u في عهده إلى الأشتر فقال: ( واردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب ويشتبه عليك من الأمور فقد قال الله سبحانه لقوم أحب إرشادهم: ﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ فالرد إلى الله الأخذ بمحكم كتابه والرد إلى الرسول الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة.)([52]).
وإذا كان المسلمون قد إختلفوا في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فالشيعة لا يعترفون بصحة ما في كتب الحديث عند أهل السنة؛ وأهل السنة لا يعترفون بصحة كتب الروايات عند الشيعة؛ ولكنهم يستطيعون أن ينظروا إلى الأمر الذي اختلفوا فيه، ما كان حكمه عند المهاجرين والأنصار الذين رضي الله عنهم، ورضي عن الذين اتبعوهم بإحسان، والقرون الثلاثة الأولى الذين هم خير أمة أخرجت للناس هل فعله أؤلئك أم تركوه؟ فما فعلوه نفعله، وما تجنبوا فعله نتجنبه، وهذا أسلم الطرق وأقلها كلفة في نيل رضاء الله تعالى، والإبتعاد عن الوقوع في الشبهات والمهالك.
وهنا أود الإشارة إلى أن جل الزيارات التي تقوم بها الشيعة بطقوسها وكيفياتها إلى مراقد الأئمة، هي من البدع التي ما تعبّد بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا تعبّد بها سيدنا علي ولا الحسن ولا الحسين عليهم السلام، وإنما أُبتدعت بعدهم. وسنأتي على الكلام فيها في موضعها إن شاء الله تعالى.
الفصل الأول
الخلل الشيعي في التوحيد
من خلال إطلاعي عن كثب على واقع الشيعة العملي، ومن خلال قراءتي المستمرة لما كتبوه في التوحيد والشرك، وما كتبوه في الرد على أهل السنة ( الوهابية ) ورد الوهابية عليهم، تبين لي أن الخلل في الفكر الشيعي يكمن في :
الخلل الأول: إصرارهم على إقتحام قلاع الشرك، والسبل المؤدية إليه، وعدم التقيد بقواعد السلامة التي أسلفنا ذكرها في الباب الأول؛ وإصرارهم على تغليب جانب الإئمة على حق الله تعالى في الدعاء والإستعانة والإستغاثة.
وبطبيعة الحال لم يأت هذا الإصرار عن فراغ، إنما أتى من خلال ما ورثوه من عقائد غالية في أئمتهم، وطقوس وممارسات يومية ورثوها عن الآباء والأسلاف وما توارثوه في كتبهم من روايات لا تمت إلى الإسلام بصلة، ويرفضها الكتاب والسنة. بل هي من وضع الزنادقة بعد وفاة أئمة أهل البيت رضي الله تعالى عنهم.
ومع أنهم رووا في كتبهم عن الأئمة أنهم قالوا لهم: ( دعوا ما خالف كتاب الله وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )([53])، إلا أنهم لجأوا إلى تبرير ما يخالف كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم إلى مثل هذه الرواية المروية (عن سفيان بن السمط قال: قلت لأبي عبد الله u جعلت فداك إن رجلا يأتينا من قبلكم يعرف بالكذب فيحدث بالحديث فنستبشعه فقال أبو عبد الله u: ( يقول لك إني قلت لليل إنه نهار أو للنهار إنه ليل قال: لا، قال: فإن قال لك هذا إني قلته فلا تكذب به فإنك إنما تكذبني)([54])، وتخلصوا من كل ما هو مشترك بينهم وبين أهل السنة، عن طريق مبدأ ( ما خالف العامة ففيه الرشاد )([55]).
فالخلل الأول الذي وقعوا فيه إذن يأتي من تغليب جانب الأئمة على حق الله تعالى ؛ ولم أقل حق الأئمة، لأن حق الإمام لا يتعارض مع حق الله تعالى في التوحيد.
أما الخلل الثاني: فيكمن في حصرهم لكلمة ( من دون الله ) التي وردت في القرآن في مواضع كثيرة بـ( الأصنام ) فقط، على أساس أن هذه الآيات نزلت يومها وهي تخاطب المشركين الذين كانوا يعبدون الأصنام والأوثان.
وبصنيعهم هذا أخرجوا أئمتهم من مدلول هذه الكلمة، فمهما أتوا من أفعال تجاه أئمتهم تعتبر في حقيقتها عبادة لله عز وجل، فهي في نظرهم، إما لا تعتبر من العبادات، أو أن صرفها للإمام هي بمثابة جعلها لله سبحانه وتعالى.
وكان الأجدر بهم أن يحملوا هذه الكلمة على عمومها لتشمل كل معبود من دون الله تعالى، سواء من البشر أو الشجر أو الحجر؛ لأن القرآن الكريم نزل يخاطب البشرية عموماً في كل زمان ومكان، وهي شريعة الله تعالى الصالحة للتطبيق منذ نزولها وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
الخلل الثالث: يكمن في عدم إعتبار بعض مصاديق الشرك من الشرك بالله، كدعاء الإمام والطلب منه في الأمور التي هي من خصائص الله تعالى([56]).
يقول شيخهم عبدالله دشتي: ( خلاصة وحصيلة العرض السابق: المهم بهذا العرض يظهر سخف الاستدلال على شرك من يدعو الأنبياء أو الأولياء دعاء مسألة بمثل قوله تعالى ﴿ أَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ﴾ الجن / 18 أو قوله تعالى ﴿ وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ ﴾ يونس / 106 كما في استدلالات ابن عبدالوهاب، فمن الواضح أنها آيات تتحدث عن دعاء العبادة لا دعاء المسألة ، ولا يشك أحد بأن من يدعو غير الله دعاء عبادة مشرك)([57]).
ويقول أيضاً: ( فمن يستشفع بالميت ينطلق من الاعتقاد بأن له حياة برزخية يسمع بها الأحياء ويستند في ذلك على الآيات والروايات، وإذا ثبت أنه يسمع ويرد، فهذا يعني أنه يمكن له أن يخاطب ربه ويستشفع لطالب الشفاعة ، وكل من يدعو بعض الأنبياء والأولياء ويطلب منهم الشفاعة حال موتهم ينطلق من ذلك وإن أمكن أن يكون مخطئا بسبب خطأ الأدلة وأما مشركا فلا)([58]).
ويقول شيخهم جعفر السبحاني: ( حصر العبادة باللّه سبحانه ـ أمر لا غبار عليه . . أي لا نزاع لأحد في أنّه لا تجوز عبادة غيره، وإنّما الكلام في أنّ هذا الأمر هل هو عبادة غيره سبحانه أو لا ؟)([59]).
ويقول أيضاً: ( التوحيد في العبادة: والمراد منه حصر العبادة في اللّه سبحانه، وهذا هو الأصل المتّفق عليه بين جميع المسلمين بلا أيّ اختلاف فيهم قديماً أو حديثاً فلا يكون الرجل مسلماً ولا داخلاً في زمرة المسلمين إلاّ إذا اعترف بحصر العبادة في اللّه، أخذاً بقوله سبحانه: ﴿ إيّاكَ نَعْبُدُ وَإيّاكَ نَسْتَعين﴾ (الفاتحة|5) وليس أصل بين المسلمين أبين وأظهر من هذا الأصل، فقد اتّفقوا على العنوان العام جميعهم ومن تفوّه بجواز عبادة غيره فقد خرج عن حظيرة الإسلام.
نعم وقع الاختلاف في المصاديق والجزئيات لهذا العنوان، فهل هي عبادة غير اللّه أو أنّها تكريم واحترام وإكبار وتبجيل)([60]).
ويقول شيخهم جعفر كاشف الغطاء: ( وإذا تبيّن بهذه الأخبار المتواترة، أنهم يسمعون ويعقلون ويعرفون من يخاطبهم، صحّ لنا أن نخاطبهم مخاطبة الأحياء فنلتمس دعاءهم، ونقسم عليهم بالأقسام في أن يكونوا شفعاء لنا في الدنيا وفي يوم القيام، لأنّ الشفاعة أظهر فرديها أنها دعاء خاص، واختصاص الخواص بها باعتبار قبولها.
فلو قال قائل لنبي، أو وصي، أو عبد صالح: إشفع لي، أو إدع لي، أو أغثني، أو أعنّي (أي بدعائك)، أو قال: إقض لي حاجتي، أو إرزقني مالاً، وأدفع الضرر عني، ونحو ذلك ولا يريد سوى التوسط بالدعاء وسؤال الله، لم يكن عليه شيء)([61]).
ويقول شيخهم أبو القاسم الخوئي: (والذي أوقع ابن تيمية في الغلط - إن لم يكن عامدا لتفريق كلمة المسلمين - وهو تخيله أن الأمور المذكورة شرك بالله، وعبادة لغيره. ولم يدرك أن هؤلاء الذين يأتون بهذه الأعمال يعتقدون توحيد الله، وأنه لا خالق ولا رازق سواه، وأن له الخلق والأمر، وإنما يقصدون بأفعالهم هذه تعظيم شعائر الله، وقد علمت أنها راجعة إلى تعظيم الله والخضوع له والتقرب إليه سبحانه، والخلوص لوجهه الكريم، وأنه ليس في ذلك أدنى شائبة للشرك، لان الشرك - كما عرفت - أن يعبد الإنسان غير الله. والعبادة إنما تتحقق بالخضوع لشئ على أنه رب يعبد، وأين هذا من تعظيم النبي الأكرم وأوصيائه الطاهرين – عليهم السلام - بما هو نبي وهم أوصياء، وبما أنهم عباد مكرمون، ولا ريب في أن المسلم لا يعبد النبي أو الوصي فضلا عن أن يعبد قبورهم. وصفوة القول: أن التقبيل والزيارة وما يضاهيهما من وجوه التعظيم لا تكون شركا بأي وجه من الوجوه، وبأي داع من الدواعي، ولو كان كذلك لكان تعظيم الحي من الشرك أيضا، إذ لا فرق بينه وبين الميت من هذه الجهة)([62]).
الخلل الرابع: تشبيههم للخالق بالمخلوق:([63])
يقول شيخهم جعفر كاشف الغطاء: (فمن أراد الاستجارة والاستغاثة بـ (زيد) فله طريقان:
أحدهما: أن يهتف بإسمه.
وثانيهما: أن ينادي بصفاته، أو مكانه، أو خدمه.
وثانيهما أقرب إلى الأدب، وأرغب لطباع أرباب الرتب، فلا يكون المستغيث ببيت الله، أو بصفات الله، أو برسل الله، أو المقربين عند الله، إلا مستغيثاً بالله؛ فكلّما دعا مخلوقاً مقرباً عند الله، أو استغاث به قاصداً بحسن التعبير الأستغاثة باللطيف الخبير، فليس عليه بأس في ذلك، بل هو سالك في الآداب أحسن المسالك)([64]).
وقال أيضاً: ( وإن أريد دعاؤه والأستغاثة به للدعاء والشفاعة، أو من التصرف في العبارة، كما تقول: يا رحمة الله، ويا بيت الله، ويا عبدالله، ولا تريد إلاّ نداء الله ودعاءه، واستغاثتة، فهذا من أعظم الطاعات، وفيه محافظة على الآداب من كل الجهات)([65]).
الخلل الخامس: الشرك لا يتحقق حتى يكون هناك إستغراق في عبادة غيره من موقع التأله: أي الإعتقاد الخاص بألوهية أو ربوبية المدعو.
يقول شيخهم محمد حسين فضل الله: (أمّا الشرك في عبادة اللّه، فإنه ينطلق من الاستغراق في عبادة غيره من موقع التألّه، أو من موقع الإيحاء بالأسرار الإلهية الكامنة في ذاته)([66]).
ويقول شيخهم جعفر كاشف الغطاء: (وبيانه: أنّ لفظ (الدعاء) لا يراد به المعنى اللغوي، وإلاّ لكفر جميع الخلق، فالمراد دعاء العبودية والمربوبية، كمن دعا الأصنام أو الصالحين، مع إعتقاد ربوبيتهم، وقصد عبوديتهم، مكتفين بها عن عبادة الله، أو مشركين أولئك مع الله لقصد وصول النفع إليهم منهم، وليقربوا إلى الله زلفى)([67]).
ويقول شيخهم جعفر السبحاني في قوله تعالى﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ﴾ [النساء/64]: ( ومن يتوسل من المسلمين بعد رحيل نبيهم الاَكرم فإنّما يتوسل بنفس ذلك الملاك الموجود في زمن حياته لا بملاك انّه مسيطر على العالم، واختصاص الآية ـ على زعمهم ـ بحياة النبيّ لا يضر بالاستدلال، لانّ الهدف هو أنّ الداعي للتوسل في كلتا الفترتين أمر واحد سواء اختصت الآية بفترة الحياة أم لا.)([68]).
ثم يضيف قائلاً: ( والذي كان يجمع المشركين في معسكر واحد هو اعتقادهم بمالكية الآلهة شيئاً من الربوبية وإدارة الكون وحياة الاِنسان)([69]).
ويقول أيضاً: ( وعلى ضوء هذه التعاريف الثلاثة يظهر الفرق الجوهري بين التوحيد في العبادة والشرك فيها، فكلّ خضوع نابع عن اعتقاد خاص بإلهية المخضوع له وربوبيته أو تفويض الاَمر إليه فهو عبادة للمخضوع له سواء كان ذلك الاعتقاد الخاص في حقّ المعبود حقاً ـ كما في اللّه سبحانه ـ أو باطلاً كما في حقّ الأصنام. وعلى كلّ تقدير فالخضوع الناجم عن هذا النوع من الاعتقاد، عبادة للمخضوع له.
وأمّا لو كان الخضوع مجرداً عن هذه العقيدة فهو تعظيم وتكريم، وليس بعبادة، ولا يكون الخاضع مشركاً، ولا عمله موصوفاً بالشرك، غاية الأمر ربما يكون حلالاً كما في الخضوع أمام الأنبياء والأولياء ومن وجب له حقّ بالتعليم والتربية، وربما يكون حراماً كالسجود أمام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والولي «عليه السلام» وغيرهما لا لاَنّه عبادة للمسجود له، بل لأنه لا يجوز السجود لغيره سبحانه وانّ السجود خضوع لا يليق بغيره.
وبمثل هذا البيان تتميز العبادة عن التعظيم، فتقبيل المصحف وضرائح الأنبياء وما يمتّ إليهم بصلة إذا كان فارغاً عن اعتقاد الاُلوهية والربوبية والتفويض فهو ليس عبادة للمخضوع له.)([70]).
ومما قاله أيضاً: ( إنّ العبادة ليست خضوعاً فارغاً مهما بلغ أعلاه بل خضوعاً نابعاً عن عقيدة خاصة وهي الاعتقاد بكون المخضوع له ربّاً، أو إلهاً، أو مصدراً للاَفعال الاِلهية )([71]).
ويقول شيخهم ناصر مكارم الشيرازي: ( من الشرك أن يطلب الإنسان من أحدٍ شيئاً يختص به الخالق, ومن الشرك أن يتجه الإنسان في ذلك الطلب إلى فرد يعتبره قادراً بشكل مستقل عن تلبية ذلك الطلب. أما إذا طلب الإنسان من أحدٍ شفاعةً منحها له الله، فما ذلك بشرك؛ بل هو عين الإيمان والتوحيد، ويشهد على ذلك كلمة ـ مع ـ في قوله تعالى: ﴿ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ﴾ [الجن/18]، التي تفيد أن المنهي عنه هو دعوة شخص نعتبره في منزلة الله, ونعتبره مصدراً مستقلاً في التأثير)([72]).
هذا هو مجمل الخلل الفكري الشيعي في التوحيد والشرك. وسنناقشه لاحقاَ بعد أن نبين مجمل الخلل الوهابي في التوحيد والشرك من وجهة نظر الشيعة.
الفصل الثاني
الخلل الوهابي في التوحيد والشرك في نظر علماء الشيعة
من خلال الإطلاع على ما كتبه علماء الشيعة في الرد على الوهابية ، نتبين أن الخلل عندهم يكمن في: ([73])
الخلل الأول: خلل في اعتبار المشركين موحدين في الربوبية وتخصيصهم بشرك العبادة.
الخلل الثاني: إن جوهر الخلل عند الوهابية يتركز في تحديد المقصود بالعبادة وتحديد مصاديقه فهم عرفوا المتعبد به لا العبادة أي التعبد.
الخلل الثالث: حذف قيد مقوم في تعريف العبادة التي يقصد بها العمل المتعبد به ، وهو توقف العمل العبادي على النية.
الخلل الرابع: الخلط بين دعاء العبادة ودعاء المسألة، إذ لا بد من تقييد دعاء المسألة الشركي. وقالوا: جوهر الخلل يكمن في اعتبارهم دعاء المسألة موجبا للشرك ولا أثر لكون المدعو قادرا أو غير قادر .
هذا هو مجمل الخلل الذي يعتبره علماء الشيعة في الفكر الوهابي في موضوع التوحيد والشرك.
الفصل الثالث
تحرير وتحديد نقاط الخلاف بين الطرفين
السنة والشيعة متفقان على أن عبادة غير الله تعالى شرك أكبر، هذا من حيث الإجمال؛ ولكنهم مختلفون في تحديد مصاديق العبادة التي لا تجوز إلاّ لله تعالى.
يقول شيخ الشيعة أبو القاسم الخوئي في تفسير البيان ـ وما أعظمه من قول ـ : ( فان غير الله - أياً كان - محتاج إلى الله في جميع شؤونه وأطواره والمعبود لا بد وأن يكون غنيا، وكيف يعبد الفقير فقيرا مثله ؟ !. وعلى الجملة: الإيمان بالله يقتضي أن لا يعبد الإنسان أحدا سواه، ولا يسأل حاجته إلا منه، ولا يتكل إلا عليه، ولا يستعين إلا به، وإلا فقد أشرك بالله وحكم في سلطانه غيره: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ﴾ [الإسراء/23].
ولكن هذا الكلام لا تجد له رصيداً في أرض الواقع، فعند الشيعة دعاء الإمام والطلب منه والإستعانة به ربما أفضل من اللجوء إلى الله تعالى ودعائه والإستعانة به. وهذا ما نشاهده في حياتهم اليومية:
فالذي يريد أن يقوم من مقامه يقول: ( يا علي ).
والذي يطلب الولد يذهب إلى قبر الإمام ويطلب منه.
والذي يقع في شدة وضيق يقول: ( إدركني يا علي ). أو ( دخيلك يا أبا الفضل ).
ونحن إذا أمعنّا النظر في الخلاف بين السنة والشيعة في موضوع التوحيد والشرك، لأمكننا أن نحصره بالآتي:
هناك خلاف في تحديد مصاديق العبادة، فكلا الطرفين متفقان على أن الصلاة بما يتضمنها من ركوع وسجود هي بمجردها عبادة، وصرفها إلى من هو من دون الله شرك واضح. يقول شيخهم عبدالله دشتي: ( إضافة إلى ما سبق من كون قصد عنوان العبادة لغير الله هو المحقق للشرك هناك بعض الأعمال التي لا تنفك عن كونها عبادة، فلا يمكن أن نقبل قول من يقول أنا أصلي لفلان قربة إلى الله، لأن العبادية من ذاتيات عنوان الصلاة لا تنفك عنه، فما وقع به شرك في العبادة، ولكن ليس بالضرورة أن نحكم عليه بذلك إذا لم نحرز التفاته إلى التلازم بين عنوان الصلاة وعنوان التعبد أي إلى أن هذا العمل المتعبد به لا ينفك عن عنوان التعبد، وكما يقال في الفقه لم يلتفت إلى اللوازم الباطلة لفعله.
وأما إذا كان الحديث عن مجرد الأفعال أو الأعمال المتعبد بها من دون أن يكون هناك تلازم بين عنوان العمل وعنوان التعبد والخضوع الخاص الذي لا يكون إلا لله، فهنا العمل في حد ذاته وبدون ملاحظة النية والقصد يحتمل وقوعه على أحد نحوين:
الأول: يقصد به عبادة، وقد يكون المقصود بالعبادة هو الله فهو من التوحيد، وقد يقصد به غير الله فيكون شركا، فما يفعله عبدة الأصنام من السجود لأصنامهم بقصدها في الخضوع العبادي الخاص يعد شركا جليا.
الثاني: لا يقصد به العبادة بل يقصد به شيء آخر كالاحترام والتقدير، فهنا إن كان بأمر الله وبطلب منه عز وجل سيكون العمل احتراما وتقديرا لمن أقيم العمل له.
ولكن عبادة لله، ومثاله الواضح السجود، فقد وقع لآدم u ولم يكن شركا وكان كما في بعض الأخبار طاعة لله وإكراما لآدم ، ومثله من يقبل الحجر الأسود بقصد عبادة الله فهو يفعل بعض ما ندب إليه الشرع فليس ذلك عبادة للحجر بل عبادة لله.
والخلاصة يتحقق الشرك بقصد عبادة غير الله بمعنى التعبد بل كذلك الأمر لو فرض قصد عنوان آخر لا ينفك عن العبادة وعنوان الصلاة مثال لذلك، ففعل ذلك عمل شركي بمجرد فعله للغير، ولكن قد لا نحكم بكفر فاعله ما لم نحرز قيام الحجة عليه ورفع الشبه عنه.
وأما إذا لوحظ العمل بمجرده ومن دون أن يكون هناك تلازم بينه وبين عنوان التعبد ، فمجرد فعله للغير لا يمكن أن يعد شركا مع افتراض خلوه من نية العبادة أي الخضوع الخاص الذي لا يكون إلا لله)([74]).
إلى هذا الحد فالطرفان متفقان على أن هناك بعض الأفعال لا تنفك عن كونها عبادة لله تعالى من دون النظر إلى قصد الفاعل، ومثال على ذلك ـ الصلاة.
في حين يختلف الطرفان على مصاديق أخرى للعبادة ـ كالدعاء والإستعانة ـ فالفكر السني ( السلفي الوهابي ) يعتبر دعاء الإمام أو الإستعانة به، أو الإستغاثة به, أو الطلب منه بعد وفاته ما هو من خصائص الرب شركاً. وذلك لأن مثل هذا الدعاء أو الإستعانة لا تنفك عن إعتقاد الداعي بأن للمدعو نوعاً من التصرف أو التدبير، مع الله، أو بإذن الله كما تقول الشيعة. كما أن الله تعالى قد سمّى دعاء المسألة عبادة، في آيات كثيرة مثل قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا ﴾ [الإسراء/67] ، وقوله تعالى: ﴿ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ﴾[العنكبوت/65]، فهل لعاقل أن يقول أن المقصود بالدعاء هنا صلاة أو صيام؛ أم أن المقصود هو دعاء المسألة؟
في حين يستند الفكر الشيعي في جواز ذلك بإعتبار أن دعاء المسألة يختلف عن دعاء العبادة، وأن من الأدب أن يتوجه الإنسان بطلبه إلى الولي مادام لا يعتقد أن الولي ليس مصدراً مستقلاً في التأثير. وأنه لا يعتقد بألوهية أو ربوبية المدعو. يقول آيتهم العظمى الخوميني: ( إن الشرك هو طلب الحاجة من غير الله، مع الاعتقاد بأن هذا الغير هو إله ورب، وأما إذا طلب الحاجة من الغير من غير هذا الاعتقاد فذلك ليس بشرك، ولا فرق في هذا المعنى بين الحي والميت، ولهذا لو طلب أحد حاجته من الحجر والمدر لا يكون شركاً، مع أنه قد فعل باطلاً)([75]).
هناك خلاف في دعاء الحي ودعاء الميت، فالفكر السني ( الوهابي ) يعتبر طلب الدعاء من الحي للحي والميت جائزاً ومفيداً. أما بعد وفاة الولي فإنه وإن إعتبرناه حياً في عالم البرزخ، أو عند ربه ففي الحالتين إنتقل إلى عالم آخر وإنقطعت صلته وعمله بالحياة الدنيا، إلاّ ما كان هو سبباً فيه. في حين أن الفكر الشيعي يرى أن الولي حيٌّ في قبره وأنه يسمع ويرى ويدعو ويشفع لمن يطلب منه الدعاء أو الشفاعة.
هناك خلاف حول دعاء الولي الميت مباشرة، أو التوسل به وطلب الشفاعة منه. فالفكر السني ( الوهابي ) يرى أن التوجه إلى الولي الميت بالدعاء المباشر والطلب منه شركاً؛ أما التوسل أو طلب الشفاعة فبدعة وعمل غير جائز. في حين أن الفكر الشيعي لا يرى بأساً من ذلك بإعتبار أن من يتوسل من المسلمين بعد رحيل نبيهم الأكرم فإنّما يتوسل بنفس ذلك الملاك الموجود في زمن حياته لا بملاك انّه مسيطر على العالم. فلو قال قائل لنبي، أو وصي، أو عبد صالح: إشفع لي، أو أدع لي، أو أغثني، أو أعنّي (أي بدعائك)، أو قال: إقض لي حاجتي، أو إرزقني مالاً، وأدفع الضرر عني، ونحو ذلك ولا يريد سوى التوسط بالدعاء وسؤال الله، لم يكن عليه شيء.
هناك خلاف لفظي في مدلول كلمتي ( الرب، والإله )، فالفكر السني ( الوهابي ) يقول: إن المشركين كانوا يعتقدون بأن آلهتهم التي يعبدونها لا تملك من التدبير المستقل شيئاً، بل يقتصر دور آلهتهم على طلب القربى والشفاعة من الله، والدليل أن القرآن ذكر إعترافهم بأن الخالق والمدبر لأمر الكون هو الله: ﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾( يونس:31). في حين أن الفكر الشيعي يدعي أن شرك المشركين كان لأجل إعتقادهم بأن لآلهتم تدبيراً مستقلاً مع الله، أو من دون الله. يقول شيخهم عبدالله دشتي: (الأظهر أن العرب كانوا يعتقدون بأن الله مبدع هذا الكون، ولكنهم كانوا يعتقدون بأن إدارة بعض شئون الكون أوكلت للآلهة الصغيرة التي تمتلك القدرة الذاتية على النفع الضر، وإن بقيت أمور أساسية ليست إلا في مقدور الإله الأكبر وطريق تحصيلها شفاعة الآلهة الصغيرة، بل الألوهية في العرف الديني البشري تعني القدرة الذاتية )([76]).
ويقول أيضاً: ( فالقول بأن المشركين يقرون حقيقة بأن الله هو الخالق الأوحد وهو المدبر الأوحد فيكونون موحدين في الربوبية ولا يرون أن هناك آلهة أخرى بيدها تدبير بعض الأمور قول غير صحيح، فهم حينما ينحرفون عن الفطرة السليمة ويجحدون الحق يقولون: نعم الله الخالق والله هو المدبر، ولكن معه آلهة أخرى صغيرة تدبر بعض شئون الكون وتشارك الرب الأعلى في ذلك ولها استقلاليتها، بل هذا هو معنى الشرك، أي آلهة تشارك الإله الأكبر في تدبير أمور الكون)([77]).
بعد هذا البيان وتحرير نقاط الخلاف، سنبدأ بمناقشة هذه النقاط بصورة مستفيضة، على أن يكون المرجع بين الطرفين كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وسنة نبينا الأكرم المتفق عليها بين الطرفين، وذلك تطبيقاً لقول الله تعالى : ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾[النساء/59]. فسنتحاكم إلى كتاب الله تعالى أولاً، ثم إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المتفق عليه بين الطرفين, ومن ثم نسترشد بأقوال أئمة وعلماء الدين من السلف والخلف الذين لهم لسان صدق عند الناس.
وقبل أن نبدأ بالبحث والإستقصاء نود أن ننبه القارئ الكريم إلى أمرين:
الأمر الأول: التداخل الموجود بين هذه الخلافات، بحيث أن البحث في واحد منه يقتضي التطرق إلى الخلافات الأخرى، ذلك لأن هذه المواضيع متداخلة مع بعضها البعض، بحيث يصعب على الباحث إفراد كل منه على حده.
الأمر الثاني: أن بعض هذه الخلافات غير مقبولة عند كل ذي عقل ومنطق، ولا يحتاج إلى نقاش وجدال.
فقول الشيعة أن إعتراف المشركين بأن خالق هذا الكون ومدبر شؤونه هو الله، ولكنهم كانوا يعتقدون بأن إدارة بعض شئون الكون أوكلت للآلهة الصغيرة التي تمتلك القدرة الذاتية على النفع والضر، وإن بقيت أمور أساسية ليست إلا في مقدور الإله الأكبر وطريق تحصيلها شفاعة الآلهة الصغيرة؛ هو أمر مرفوض. إذ كيف يصح مع إعتقاد خالقية الله للكون ومدبريته له وجود آلهة أخرى معه تشاركه في تدبير هذا الكون؟
من الذي أوكل الآلهة الصغيرة تلك القدرة الذاتية على النفع والضر؟ وعلى أي أساس أوكل الله تعالى للألهة الصغيرة التي هي عبارة عن تماثيل للصالحين القدرة الذاتية على النفع والضر؟ أعلى عجز من الله الأكبر ـ حاشاه ـ على إدارة شؤون الكون؟ أم على أساس فرض الآلهة الصغيرة إرادتها على إرادة الإله الأكبر؟ تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
فوجود الله تعالى وخالقيته للكون ومدبريته لشؤون الخلائق أمر مركوز في العقول والفطر، ولهذا فالأنبياء لم يأتوا ليقولوا للناس أن خالق هذا الكون والمدبر له هو الله. وإنما أُرسلوا ليكون الدين كله لله: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ }[النحل/36].
وبهذا تعلم أن شرك المشركين لم يكن بإعتقادهم بوجود آلهة متعددة كلها تخلق وترزق وتدير شؤون الكون؛ إنما كان إعتقادهم بأن دور الآلهة كانت في الشفاعة والتقريب إلى الله تعالى ، بما هم عباد صالحون مقربون مقبولون عند الله تعالى ولهم منزلة وجاهاً عنده([78]).
وإذا كان ثمة وجود لإعتقاد أن الآلهة الأخرى تضر وتنفع، فأيضاً لمنزلتهم عند الله تعالى، بحيث أن جاههم عند الله يكون سبباً في نفع من يقدسهم، ومضرة من يكفر بهم.
وهذا الإعتقاد بعينه موجود لدى القبوريين الذين يعتقدون أن أولياء الله تعالى لهم القدرة على النفع والضر، ولهذا تراهم يعكفون على قبورهم ويتضرعون عند أضرحتهم ويخشعون بقربهم ما لا يخشعونه في بيوت الله تعالى.
فالإمام عندهم يشوِّر:
لقد بات من الأمور العقيدية المسلم بها لدى الشيعة أن الإمام يشفي المرضى وأنه يهب للنساء العقيمات الأولاد، ويرزق الفقراء المال ويقضي لهم الحوائج. وأنه يضر مَنْ يحلف في حضرته كاذباً وينفع من يؤمن به وبقدرته على النفع والضر؛ ولهذا ترى أحدهم لا يخاف أن يحلف بالله كاذباً، ولكنه لا يجرؤ أن يحلف بالإمام كاذباً لأن الله تعالى ممكن أن يعفو من يعصيه، أو يؤخر عقابه إلى حين؛ في حين الإمام لا يقبل ولا يؤخر عقاب من يحلف به كاذباً، وأنه يشوِّر على الفورـ أي يعاقب ولا يمهل.
ثم يأتي من يصحح لهم مثل هذا الإعتقاد بحجة أن ذلك لا يكون إلاّ بإقدار منه سبحانه وتعالى.
ومتى كان المشركون الذين كانوا يعبدون ما ينحتون بأيديهم من الحجر والصخر كانوا يعتقدون أن لآلهتهم هذه قدرة ذاتية على النفع والضر، إذا لم تستمد قوتها وقدرتها من الله الخالق!
ولنبدأ الآن بأهم الخلاف بين الطرفين وهو الدعاء، ومنه الإستعانة والإستغاثة والنداء.
الباب الرابع
الخلاف في الدعاء والإستعانة
الفصل الأول: الدعاء والإستعانة والإستغاثة والإستعاذة والنداء
الفصل الثاني: الدعاء في القرآن الكريم
المحور الأول: دعاء الأنبياء والصالحين في القرآن
المحور الثانيً: أمر الله تعالى بدعائه بأسمائه الحسنى ولم يأمر بالتوجه إلاّ إليه
المحور الثالث: لا واسطة بين الله تعالى وبين عباده
المحور الرابع: المنع من دعاء غير الله تعالى
الفصل الثالث: الدعاء في السنة النبوية الشريفة
الفصل الرابع: أدعية السلف الصالح من الصحابة والقرابة
الفصل الخامس: أدلة الفكر الشيعي في جواز دعاء الولي أو جواز الإستعانة به
الفصل السادس: الرد على أدلة الشيعة في جواز دعاء الأنبياء والأولياء
المحور الأول: قدرة الله تعالى وإذنه
المحور الثاني: توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية
المحور الثالث: سؤال الولي بعد الموت
المحور الرابع: دعاء الإمام أو الإستعانة به بعد وفاته ليس من الأسباب الطبيعية
المحور الخامس: الخروج من مقتضى الأسباب والعلل في الدعاء والطلب يوجب الخلل في العقيدة
المحور السادس: الفرق بين دعاء العبادة ودعاء المسألة
الباب الرابع
الخلاف في الدعاء والإستعانة
الفكر السني ( الوهابي ) يتقيد بالكتاب والسنة ويرى أن الدعاء والإستعانة عبادة، لاسيما في الأمور التي هي من إختصاص الله تعالى ، بمقتضى قوله تعالى: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾[الفاتحة/5] وبمقتضى قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( الدعاء هو العبادة ) أو( أفضل العبادة الدعاء).
وبذلك يرى أن صرف هذه العبادة إلى غير الله تعالى يعتبر من الشرك الذي لا يغفره الله، بعد أن يفرق بين ما يجوز وما لا يجوز من الدعاء والإستعانة والإستغاثة التي تجوز بين الأحياء.
وكذلك يرى أن دعاء الميت والطلب منه، وترك الحي الذي لا يموت، إنما هو ناشيء عن إعتقاد السائل بأن للميت قدرة على الإجابة، إما بإذن الله، أو أن الله تعالى قد فوض إليه تدبير شؤون بعض ما في الكون.
هذا الإعتقاد يوجب الخلل إما في توحيد الألوهية، أو في توحيد الربوبية.
في حين أن الفكر الشيعي يجيز سؤال الولي الميت وطلب الحاجات منه، ويعلل ذلك بأن الله يأذن للأولياء الموتى ليستجيبوا لمن يسألونهم لأنهم عباد مكرمون.
الفصل الأول
الدعاء والإستعانة والإستغاثة والإستعاذة والنداء
تعريف الدعاء:
قال ابن منظور في لسان العرب: مادة ( دعا ) قال الله تعالى: ﴿ وادْعوا شُهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ﴾ قال أَبو إسحق: يقول ادْعوا من اسْتَدعَيتُم طاعتَه ورجَوْتم مَعونتَه في الإتيان بسورة مثله وقال الفراء: وادعوا شهداءكم من دون الله يقول آلِهَتَكم يقول اسْتَغِيثوا بهم وهو كقولك للرجل إذا لَقِيتَ العدوّ خالياً فادْعُ المسلمين ومعناه استغث بالمسلمين فالدعاء ههنا بمعنى الاستغاثة وقد يكون الدُّعاءُ عِبادةً : ﴿ إنّ الذين تَدْعون من دون الله عِبادٌ أَمثالُكم ﴾ وقوله بعد ذلك : ﴿ فادْعُوهم فلْيَسْتجيبوا لكم ﴾ يقول ادعوهم في النوازل التي تنزل بكم إن كانوا آلهة كما تقولون يُجيبوا دعاءكم فإن دَعَوْتُموهم فلم يُجيبوكم فأَنتم كاذبون أَنهم آلهةٌ وقال أَبو إسحق في قوله{ أُجِيبُ دعوة الدَّاعِ إذا دَعانِ } معنى الدعاء لله على ثلاثة أَوجه : فضربٌ منها توحيدهُ والثناءُ عليه كقولك يا اللهُ لا إله إلا أَنت وكقولك ربَّنا لكَ الحمدُ إذا قُلْتَه فقدَ دعَوْته بقولك ربَّنا ثم أَتيتَ بالثناء والتوحيد ومثله قوله: ﴿ وقال ربُّكم ادعوني أَسْتَجِبْ لكم إنَّ الذين يَسْتَكبرون عن عِبادتي﴾ فهذا ضَرْبٌ من الدعاء.
والضرب الثاني: مسأَلة الله العفوَ والرحمة وما يُقَرِّب منه كقولك اللهم اغفر لنا.
والضرب الثالث: مسأَلة الحَظِّ من الدنيا كقولك اللهم ارزقني مالاً وولداً وإنما سمي هذا جميعه دعاء لأَن الإنسان يُصَدّر في هذه الأَشياء بقوله يا الله يا ربّ يا رحمنُ فلذلك سُمِّي دعاءً وفي حديث عرَفة أَكثر دُعائي ودعاء الأَنبياء قَبْلي بعَرفات لا إله إلا اللهُ وحدهَ لا شريك لَه لهُ المُلكُ وله الحمدُ وهو على كل شيء قدير وإنما سمي التهليلُ والتحميدُ والتمجيدُ دعاءً لأَنه بمنزلته في استِيجاب ثوابِ الله وجزائه كالحديث الآخر: ( إذا شَغَلَ عَبْدي ثناؤه عليَّ عن مسأَلتي أَعْطَيْتُه أَفْضَلَ ما أُعْطِي السائِلين) وأَما قوله عز وجل: ﴿ فما كان دَعْواهُمْ إذ جاءَهم بأْسُنا إلا أَن قالوا إنا كنا ظالمين ﴾ المعنى أَنهم لم يَحْصُلوا مما كانوا ينْتَحِلونه من المذْهب والدِّينِ وما يَدَّعونه إلا على الاعْتِرافِ بأَنهم كانوا ظالمين هذا قول أَبي إسحق قال: والدَّعْوَى اسمٌ لما يَدَّعيه والدَّعْوى تَصْلُح أَن تكون في معنى الدُّعاء لو قلت اللهم أَشْرِكْنا في صالحِ دُعاءِ المُسْلمين أَو دَعْوَى المسلمين جاز حكى ذلك سيبويه وأَنشد قالت ودَعْواها كثِيرٌ صَخَبُهْ وأَما قوله تعالى: ﴿ وآخِرُ دَعْواهم أَنِ الحمدُ لله ربّ العالمين ﴾ يعني أَنَّ دُعاءَ أَهلِ الجَنَّة تَنْزيهُ اللهِ وتَعْظِيمُه وهو قوله دَعْواهم فيها سُبْحانكَ اللهمَّ ثم قال: ﴿ وآخرُ دَعْواهم أَن الحمدُ لله ربّ العالمين ﴾ أَخبرَ أَنهم يبْتَدِئُون دُعاءَهم بتَعْظيم الله وتَنزيهه ويَخْتِمُونه بشُكْره والثناء عليه فجَعل تنزيهه دعاءً وتحميدَهُ دعاءً والدَّعوى هنا معناها الدُّعاء وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنه قال: ( الدُّعاءُ هو العِبادَة ) ثم قرأَ : ﴿ وقال ربُّكم ادْعوني أَسْتَجِبْ لكم إنَّ الذين يسْتَكْبرون عن عِبادتي ﴾ وقال مجاهد في قوله: ﴿ واصْبِرْ نفْسَكَ مع الذين يَدْعُون رَبَّهم بالغَداةِ والعَشِيّ ﴾ قال يُصَلُّونَ الصَّلَواتِ الخمسَ ورُوِي مثل ذلك عن سعيد بن المسيب في قوله: ﴿ لن نَدْعُوَ من دونه إلهاً ﴾ أَي لن نَعْبُد إلهاً دُونَه وقال الله عز وجل: ﴿ أَتَدْعُون بَعْلاً ﴾ أَي أَتَعْبُدون رَبّاً سِوَى الله وقال:﴿ ولا تَدْعُ معَ اللهِ إلهاً آخرَ﴾ أَي لا تَعْبُدْ والدُّعاءُ: الرَّغْبَةُ إلى الله عز وجل دَعاهُ دُعاءً ودَعْوَى حكاه سيبويه في المصادر التي آخرها أَلف التأْنيث).
النداء: أما النداء فقد قال صاحب الفروق اللغوية: الفرق بين النداء والدعاء: أن النداء هو رفع الصوت بماله معنى والعربي يقول لصاحبه ناد معي ليكون ذلك أندى لصوتنا أي أبعد له، والدعاء يكون برفع الصوت وخفضه يقال دعوته من بعيد ودعوت الله في نفسي ولا يقال ناديته في نفسي، وأصل الدعاء طلب الفعل.
الاستعانة : طلب العون والمؤازرة في تحقيق أمور الدين والدنيا.
والاستغاثة : طلب الغوث وهو الإنقاذ من الشدة والهلاك ، قال الله تعالى : ﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ ﴾ (الأنفال : 9) .
الاستعاذة : وهي طلب الإعاذة والحماية من المكروه ، قال الله تعالى : ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴾﴿ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ ﴾ وقال تعالى ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴾﴿ مَلِكِ النَّاسِ ﴾﴿ إِلَهِ النَّاسِ ﴾﴿ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ﴾.
أما الإستعاذة فلا أعلم أحداً إستجاز أن يستعيذ بغير الله تعالى، ولم تأت هذه الكلمة في القرآن الكريم إلاّ مقروناً بالله تعالى: منها:
قوله تعالى: ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [النحل/98]. و[فصلت/36].
وقوله: ﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾[الأعراف/200].
وقوله أيضاً: ﴿ إنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾[غافر/56].
وقوله تعالى: ﴿ قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾[البقرة/67].
وقوله: ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾[هود/47].﴿ قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ﴾[مريم/18].﴿ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ﴾ [المؤمنون/97].﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴾[الفلق/1].﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴾[الناس/1].
أما الدعاء والنداء والإستعانة والإستغاثة ففيها تفصيل:
فهذه الأمور يمكن أن تقع من الخلق تجاه الخالق على سبيل العبادة، وكذلك يمكن أن تقع بين الخلق أنفسهم، فلا تحسب من العبادة.
فمثلاً قوله تعالى:﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾[السجدة/16]. فكلمة{ يدعون } تدل على العبادة.
أما قوله: ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا ﴾[نوح/5]وقوله:﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾[آل عمران/104] فليس من باب العبادة.
وهكذا الحال في الإستعانة والإستغاثة:
فقوله تعالى: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾[الفاتحة/5]. فالإستعانة هنا تأتي على سبيل العبادة، وحصر الإستعانة به تعالى يدل على أن هذه الإستعانة لا يجوز صرفها إلى غير الله تعالى.
أما قوله: ﴿ قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ﴾[الكهف/95]. فليس من باب العبادة.
وفي الإستغاثة: ﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ ﴾[الأنفال/9]. فهذه الإستغاثة عبادة.
أما قوله: ﴿ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ ﴾[القصص/15]. فهذه الإستغاثة ليست عبادة.
ولربما يتبادر إلى الذهن السؤال التالي:
ما هو الفيصل إذن في هذه الأمور بين العبادة، وبين كونها ليست عبادة؟
نقول: إن هذه الأمور إذا طلبت من الله تعالى فهي عبادة؛ ذلك لأن دعاء العبادة ودعاء المسألة إذا توجه به الإنسان إلى الله تعالى، فهو عبادة.
أما طلبها من المخلوق ففيها تفصيل، فإن طلب شيئاً من المخلوق الحي، وذلك الطلب ليس من خصائص الله تعالى، فإنه أمر لا غبار عليه، ولا يدخل في باب العبادات. أما إذا كان موضوع الطلب من خصائص الله تعالى وقدرته فطلبها من المخلوق الحي، يعتبر من الشرك؛ لأنها مسألة مرتبطة بالعقيدة.
أما الطلب من الأموات فهذا لا خلاف فيه أنه لا يجوز لا شرعاً ولا عقلاً, أما شرعاً، فلأن الله تعالى أمر المسلمين بدعائه مباشرة بأسمائه الحسنى، فقال:﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾[الأعراف/180]﴿ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًاْ﴾ [الإسراء/110] وأما عقلاً فلإن الإنسان لا يترك الحي الذي لا يموت ويتوجه إلى غير الله تعالى إلاّ لشيء في نفسه، هذا الشيء إما أن يكون لأجل ظنه السوء بالله تعالى، وعدم معرفة ما له من صفات الكمال والجمال. أو لإعتقاده أن الله تعالى يحتاج إلى من يعرفه حاله ويستعطفه ليرحمه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا. ولكن الموضوع يحتاج إلى تفصيل دقيق لأنه محور الخلاف بين الطرفين.
وبما أن الدعاء من أهم مسائل الخلاف بين السنة والشيعة، فلنبحثه في القرآن والسنة وكلمات الأئمة والعلماء.
وقبل الدخول في صلب الموضوع، فإن للشيخ محمد حسين فضل الله كلامٌ نفيس في وجوب التوجه إلى الله تعالى في الدعاء تحت عنوان: (إيحاءات الدعاء ودوره التربوي ) أحببت إيراده بحروفه:
( للدعاء دور تربوي عميق على صعيد التطلع الروحي للإنسان وانفتاحه على اللّه سبحانه وتعالى، بحيث يعيش الإنسان، في أجواء المناجاة، سرَّ التوحيد الإلهي في حركة مشاعره الإنسانية، وفي علاقة حاجاته باللّه وانفصالها عن غيره، في عملية إيحاءٍ داخليٍّ بأنَّ التوجّه إلى غير اللّه في حاجاته، حتى في ما يشبه الخطرات الفكرية أو النزعات الغريزية، يمثّل لوناً من ألوان الإثم الشعوري الذي يسيء إلى الاستقامة الروحية. وهذا ما نتمثّله في دعاء الإمام زين العابدين (u) في طلب الحوائج إلى اللّه في «الصحيفة السجادية»، حيث يقول:
«اللّهم يا منتهى مطلب الحاجات، ويا من عنده نيل الطلبات، ويا من لا يبيع نعمه بالأثمان، ويا من لا يكدّر عطاياه بالامتنان، ويا من يستغنى به ولا يُستغنى عنه، ويا من يرغب إليه ولا يرغب عنه، ويا من لا تفني خزائنه المسائل، ويا من لا تبدل حكمته الوسائل، ويا من لا تنقطع عنه حوائج المحتاجين، ويا من لا يعنّيه دعاء الداعين.
تمدّحت بالغناء عن خلقك وأنت أهل الغنى عنهم، ونسبتهم إلى الفقر وهم أهل الفقر إليك، فمن حاول سدّ خلّته من عندك، ورام صرف الفقر عن نفسه بك، فقد طلب حاجته في مظانها، وأتى طلبته من وجهها، ومن توجّه بحاجته إلى أحدٍ من خلقك، أو جعله سبب نجحها دونك، فقد تعرض للحرمان، واستحقّ من عندك فوت الإحسان.
اللّهم، ولي إليك حاجة قد قصر عنها جهدي، وتقطعت دونها حيلي، وسوّلت لي نفسي رفعها إلى من يرفع حوائجه إليك، ولا يستغني في طلباته عنك، وهي زلّةٌ من زلل الخاطئين، وعثرةٌ من عثرات المذنبين، ثُمَّ انتبهت، بتذكيرك لي، من غفلتي، ونهضت، بتوفيقك لي، من عثرتي، وقلت: سبحان ربي، كيف يسأل محتاجٌ محتاجاً، وأنّى يرغب معدمٌ إلى معدمٍ، فقصدتك، يا إلهي، بالرغبة، وأوفدت عليك رجائي بالثقة بك، وعلمت أنّ كثير ما أسألك يسير في وُجدك، وأن خطير ما أستوهبك حقيرٌ في وسعك، وأنَّ كرمك لا يضيق عن سؤال أحد، وأنَّ يدك بالعطاء أعلى من كلّ يد».
وهكذا نرى أنَّ هذا الدعاء ينطلق ليركّز في ذهنية الإنسان الفكرة التي تنفتح على الكلّي القدرة، الكريم في العطاء، الواسع في النعماء، الذي لا يضيق كرمه عن سؤال أحد، كما أنَّ يده بالعطايا أوسع من كلّ يد، والذي يُستغنى به ولا يستغنى عنه، ويُرغب إليه ولا يُرغب عنه. كما ينفتح على الإنسان المحتاج إلى ربّه، لأنَّ ذلك ليس شيئاً ذاتياً ينطلق من سرّ الغنى في شخصه، بل هو شيءٌ طارىء، يستمده من عطاء ربّه، في ما يمنحه من قدرة، أو يعطيه من إمكانات.
وإذا كان الإنسان؛ كلّ إنسان، في موقع الحاجة إلى اللّه، فكيف يتوجّه الإنسان الواعي إلى مثله ليرفع حاجته إليه، وهل ذلك إلاَّ لونٌ من ألوان الغفلة عن حقيقة الفقر الإنساني أمام حقيقة الغنى الإلهي، بالإضافة إلى أنها زلّةٌ من زلل الخاطئين، وعثرةٌ من عثرات المذنبين، لأنها خطيئةٌ تتصل بالانحراف عن خطّ الاستقامة في التصوّر التوحيدي للإنسان، وبالخلل في الوعي الإيماني للحقيقة الإلهية في معنى وجود الإنسان وحركته، وفي سعة القدرة وشموليتها؟! وهكذا تتبلور لدى الإنسان مسألة الاستعانة باللّه وحده، بعيداً عن الاستعانة بغيره.
إنَّ هذا الدعاء يعالج المسألة في الدائرة الفكرية النظرية على أساس إثارة مسألة الحاجة الذاتية لدى الإنسان في جميع مواقعه وأشكاله، لتكون رادعاً عن توجه الإنسان إلى مثله، وغفلته عن توجّهه إلى ربّه.
وهناك دعاءٌ آخر، يعالج المسألة في الدائرة الواقعية العملية، على أساس التجربة الحسيّة في مشاهدات الإنسان المؤمن للنماذج البشرية، التي عاشت الانبهار بالقوّة الظاهرية لبعض النّاس، فاندفعت إليهم لتطلب العزة بهم، والرفعة من خلالهم، والثروة بواسطتهم، فكانت النتائج خيبات أمل كبيرة دفعت الإنسان بعيداً عن قضاياه وحاجاته، لأنَّ الذين تطلَّع إليهم، وتوجّه نحوهم، لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً إلاَّ بإذن اللّه، فكيف يملكون أن يدفعوه عن غيرهم من دون إذنه، وإذا كانت المسألة مرتبطةً باللّه بشكلٍ مباشرٍ، فلماذا يبتعدون عنه، ويقتربون من غيره، في ما لا يملكه أحدٌ إلاَّ هو؟!
وهذا هو دعاء الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (u) متفزغاً إلى اللّه، وهو من أدعية «الصحيفة السجادية»:
«اللّهم إني أخلصت بانقطاعي إليك، وأقبلت بكُلِّي عليك، وصرفت وجهي عمّن يحتاج إلى رفدك، وقلبت مسألتي عمّن لم يستغن عن فضلك... فكم قد رأيت، يا إلهي، من أناسٍ طلبوا العزَّ بغيرك فذلّوا، وراموا الثروة من سواك فافتقروا، وحاولوا الارتفاع فاتّضعوا، فصحَّ بمعاينة أمثالهم حازمٌ وفّقه اعتباره، وأرشده إلى طريق صوابه اختياره، فأنت، يا مولاي، دون كلّ مسؤولٍ موضع مسألتي، ودون كلّ مطلوبٍ إليه وليّ حاجتي، أنت المخصوص قبل كلّ مدعوٍّ بدعوتي، لا يشركك أحد في رجائي، ولا يتفق أحد معك في دعائي، ولا ينظمه وإياك ندائي. لك، يا إلهي، وحدانية العدد، وملكة القدرة الصمد، ومن سواك مرحومٌ في عمره، مغلوبٌ على أمره، مقهورٌ على شأنه، مختلف الحالات متنقّل في الصفات، فتعاليت عن الأشباه والأضداد، وتكبَّرت عن الأمثال والأنداد، فسبحانك لا إله إلاَّ أنت».
إنها النظرة إلى واقع الخاضعين للأقوياء والأغنياء والمستكبرين الذين صغرت نفوسهم أمام مظاهر القوّة والغنى والكبرياء، وانسحقت حاجاتهم أمام مفردات القدرة لدى كلّ هؤلاء، فانطلقوا نحوهم في عملية خضوع واستجداءٍ ليمنحوهم العزّة من خلال عزتهم، فازدادوا ذُلاًّ بذلك، أو ليقدِّموا لهم الثروة من مواقع غناهم، فازدادوا فقراً بذلك، أو ليرفعوهم إلى مواقع السموّ والعلو، من خلال علوّهم، فازدادوا سقوطاً وانحطاطاً.
وهكذا كان هذا الواقع مصدر فكرٍ للإنسان المؤمن الواعي، الذي استطاع أن يعرف طريق الرشد والصواب، ليختار السير فيه، وليصل إلى النتيجة الحاسمة في توحيد اللّه على مستوى الألوهية والعبادة والمعونة. ومن خلال هذه التجربة الحيّة، تنفتح للإنسان الواعي الباحث عن الحقيقة آفاقٌ جديدةٌ، فيحرِّكه الواقع من حوله، ليكتشف فيها الكثير الكثير من صدق العناوين الروحية في العقيدة التي تطل على الحياة، لتشير إلى الكثير من مفرداتها التي يتحرّك فيها صدق العنوان في وجود المعنون، وحقيقة المفهوم في واقع المصداق، فلا يتيه الإنسان في أجواء التجريد الفكري، بل يجد في كلّ موقعٍ من مواقع الحياة بعض الحركة التي تتفتّح فيها كلّ مواقع الإحساس لديه بالصدق في الفكر والشعور، الأمر الذي يجعلنا نشعر بأنّ الروح في معانيه العقيدية ليس غيباً من الغيب، بل هو حالةٌ في ضمير الحياة وإحساس الواقع.)([79]).
الفصل الثاني
الدعاء في القرآن الكريم
المحور الأول:
دعاء الأنبياء والصالحين في القرآن:
لو تصفحنا القرآن الكريم من أوله إلى آخره، لم نجد أن نبياًّ من الأنبياء طلب من غير الله تعالى شيئاّ، ولا دعا غير الله تعالى في الرخاء ولا في الشدائد:
ولنبدأ بأول نبي وهو آدم u ، وهو أول بشر خلقه الله تعالى، ونبحث في علاقته مع الله تعالى:
فإنه لما أكل هو وزوجته حواء من الشجرة التي نهاهما ربهما عنها: ﴿ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾[الأعراف/23]. فكان دعاؤهما ( ربنا ) فاستجاب الله تعالى لهما وتاب عليهما.
مع نبي الله نوح u:
: ﴿ وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ﴾[الصافات/75]
: ﴿ وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾[نوح/26]
: ﴿ وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾[الأنبياء/76، 77]
: ﴿ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ﴾[المؤمنون/26]
مع نبي الله إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم:
: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾[البقرة/126]
: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ﴾ [إبراهيم/35-41]
: ﴿ رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [الشعراء/83]
مع نبي الله موسى u:
: ﴿ قَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾ [يونس/88]
: ﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء/61، 62]
: ﴿ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ ﴾ [القصص/15-17]
: ﴿ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾[القصص/21]
: ﴿ وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ﴾[غافر/27]
: ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾ [المائدة/25]
: ﴿ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا ﴾ [طه/25-35]
: ﴿ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [القصص/24]
وهكذا هم جميع الأنبياء والمرسلين:
زكريا صلى الله عليه وآله وسلم:﴿ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾ [آل عمران/38]
:﴿ وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴾ [الأنبياء/89، 90]
يوسف صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [يوسف/33، 34]
لوط صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿ رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ ﴾[الشعراء/169-172]
ومن غير الأنبياء ذكر الله تعالى:
إمرأة عمران: ﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [آل عمران/35]
الملكة بلقيس: ﴿ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [النمل/44]
إمرأة فرعون: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [التحريم/11]
ودعاء عامة أهل الإيمان هو الطلب المباشر من الله تعالى:
: ﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ ﴾ [الأنفال/9]
: ﴿ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [البقرة/200، 201]
: ﴿ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾[البقرة/250].
: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾[البقرة/286]
: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ [آل عمران/8، 9]
: ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران/146-148]
: ﴿ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ﴾ [الكهف/10]
: ﴿ وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا﴾ [الكهف/14]
: ﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ﴾ [الفرقان/65]
: ﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾ [الفرقان/74]
: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر/10]
وحتى إبليس دعا الله تعالى: ﴿ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [الحجر/34-40]
بل أقسم بعزة الله تعالى: ﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾[ص/82، 83].
بل حتى دعاء الكافرين والمشركين في الآخرة، وفي نار جهنم هو ربنا، أو اللهم:
: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ﴾ [فاطر/36، 37].
المحور الثاني:
أمر الله تعالى بدعائه بأسمائه الحسنى ولم يأمر بالتوجه إلاّ إليه:
والقرآن الكريم قد صرح بصريح العبارات، أن على الداعي أن يدعو الله تعالى بأسمائه الحسنى، فقال: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف/180]. فلم يقل: ولله الأنبياء والأولياء فادعوهم.
فهو قريب من العبد : ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾ [ق/16] بحيث لا يحتاج إلى من يدخل بينهم.
: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [الأنفال/24]. فمن هو الذي يستطيع أن يدخل بين المرء وقلبه، بحيث نحتاجه لقربه منا سوى الله تعالى.([80])
وأمر عباده بأن يدعوه فقال: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾[غافر/60]، فلم يقل المولى عز وجل: ادعوا الأنبياء والأولياء أستجب لكم!
وقال أيضاً: ﴿ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء/110].
المحور الثالث:
لا واسطة بين الله تعالى وبين عباده:
بل إن الله تعالى قد علم أنه سيأتي أناس يعتدون في الدعاء، أو يدعون من دون الله، لهذا لم يُدخل كلمة( قل ) في جوابه عنه كما كان يفعل في كل سؤال لهم، فقال: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة/186]
أما في باقي أسئلتهم فكان الجواب لهم بـ ( قل ) كما في الآيات:
: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ﴾ [البقرة/189]
: ﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾[البقرة/215]
: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ [البقرة/219].
ويقول الشيخ محمد حسين فضل الله، وتحت عنوان: (لا واسطة بين العبد وربِّه )
[ وقد نلاحظ في الارتباط الإنساني بوحدانية العبادة والاستعانة في خطاب العبد لربِّه في هذه الآية الكريمة :﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ أنَّ الإنسان لا يحتاج، في حديثه مع اللّه، وفي طلبه منه، إلى أية واسطة من بشرٍ أو غيره، لأنَّ اللّه لا يبتعد عن عبده، ولا يضع أيّ فاصل بينه وبينه، إلاَّ ما يضعه العبد من فواصل تبعده عن مواقع رحمته، وتحبس دعاءه عن الصعود إلى درجات القرب من اللّه. ولذا أراد من عباده أن يدعوه بشكلٍ مباشرٍ ليستجيب لهم، وحدّثهم عن قربه منهم بحيث يسمع كلامهم وإن كان بمثل الهمس أو في مثل وسوسة الصدور، وذلك قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾( البقرة:186) وقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾(ق:16)]([81]).
المحور الرابع:
المنع من دعاء غير الله تعالى:
أما الآيات التي منعت دعاء مَنْ هو مِن دون الله تعالى([82]) فكثيرة نذكر منها:
: ﴿ وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [يونس/106]
: ﴿ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [الأنعام/56]
: ﴿ قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام/71]
: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [الأعراف/194]
: ﴿ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾ [النحل/20]
: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ﴾ [الحج/73]
: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا ﴾ [فاطر/40].
: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ﴾ [الأحقاف/4، 5]
: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ﴾ [الأنعام/40، 41]
: ﴿ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا ﴾ [الإسراء/67]
: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ [الزمر/38].
هذا كل ما يتعلق بالدعاء في القرآن الكريم، فأنت ترى فيه أن الله تعالى لم يأمر بالتوجه إلى غير الله تعالى، ولا عن طريق التوسل بعباده الصالحين من الأنبياء والأولياء. بل أمر بدعائه بأسمائه الحسنى، ونهى عن دعاء مَنْ هو من دونه كائناً من كان.
الفصل الثالث
الدعاء في السنة النبوية الشريفة
لقد ورد في السنة النبوية الشريفة أن ( الدعاء عبادة ) :
من ذلك: ما رواه الكافي عَنْ زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ u قَالَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ } قَالَ: هُوَ الدُّعَاءُ وَأَفْضَلُ الْعِبَادَةِ الدُّعَاءُ قُلْتُ:{ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } قَالَ: الْأَوَّاهُ هُوَ الدَّعَّاءُ.
: وفيه أيضاً : عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَى عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ u قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ ادْعُ وَلَا تَقُلْ قَدْ فُرِغَ مِنَ الْأَمْرِ فَإِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ } وَقَالَ: { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ }.
: وفيه : عَنْ سَيْفٍ التَّمَّارِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ u يَقُولُ عَلَيْكُمْ بِالدُّعَاءِ فَإِنَّكُمْ لَا تَقَرَّبُونَ بِمِثْلِهِ وَلَا تَتْرُكُوا صَغِيرَةً لِصِغَرِهَا أَنْ تَدْعُوا بِهَا إِنَّ صَاحِبَ الصِّغَارِ هُوَ صَاحِبُ الْكِبَارِ.
: وفيه أيضاً: عَنِ الْحَارِثِ بْنِ الْمُغِيرَةِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ u يَقُولُ إِيَّاكُمْ إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَسْأَلَ مِنْ رَبِّهِ شَيْئاً مِنْ حَوَائِجِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ حَتَّى يَبْدَأَ بِالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْمَدْحِ لَهُ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ثُمَّ يَسْأَلَ اللَّهَ حَوَائِجَهُ.
: وفيه: عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عِيسَى عَمَّنْ حَدَّثَهُ عنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ u قَالَ قُلْتُ آيَتَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَطْلُبُهُمَا فَلَا أَجِدُهُمَا قَالَ وَمَا هُمَا قُلْتُ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ : { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } فَنَدْعُوهُ وَلَا نَرَى إِجَابَةً قَالَ: أَفَتَرَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَخْلَفَ وَعْدَهُ قُلْتُ: لَا قَالَ فَمِمَّ ذَلِكَ قُلْتُ لَا أَدْرِي قَالَ: لَكِنِّي أُخْبِرُكَ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيمَا أَمَرَهُ ثُمَّ دَعَاهُ مِنْ جِهَةِ الدُّعَاءِ أَجَابَهُ قُلْتُ وَمَا جِهَةِ الدُّعَاءِ قَالَ تَبْدَأُ فَتَحْمَدُ اللَّهَ وَتَذْكُرُ نِعَمَهُ عِنْدَكَ ثُمَّ تَشْكُرُهُ ثُمَّ تُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ثُمَّ تَذْكُرُ ذُنُوبَكَ فَتُقِرُّ بِهَا ثُمَّ تَسْتَعِيذُ مِنْهَا فَهَذَا جِهَةُ الدُّعَاءِ ثُمَّ قَالَ: وَمَا الْآيَةُ الْأُخْرَى قُلْتُ: قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : { وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } وَإِنِّي أُنْفِقُ وَلَا أَرَى خَلَفاً قَالَ: أَفَتَرَى اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ أَخْلَفَ وَعْدَهُ قُلْتُ: لَا، قَالَ: فَمِمَّ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: لَا أَدْرِي؛ قَالَ: لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمُ اكْتَسَبَ الْمَالَ مِنْ حِلِّهِ وَأَنْفَقَهُ فِي حِلِّهِ لَمْ يُنْفِقْ دِرْهَماً إِلَّا أُخْلِفَ عَلَيْهِ.
فكل طلب مقدم إلى الله تعالى، وكل دعاء موجه إليه فهو من العبادة؛ لهذا ورد عن النبي صيغ كثيرة من الدعاء والمسألة، ليس فيها ما يوحي لا من قريب ولا من بعيد إستحباب دعاء غير الله تعالى، نذكر منها:
: في سنن الترمذي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ: ( يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ). قَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
: وفي وسائل الشيعة: عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم : ( تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ فَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ).
: وفي وسائل الشيعة أيضاً عن أَحْمَدُ بْنُ فَهْدٍ فِي عُدَّةِ الدَّاعِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَنَّهُ كَانَ فِي غُزَاةٍ فَأَشْرَفُوا عَلَى وَادٍ فَجَعَلَ النَّاسُ يُهَلِّلُونَ وَيُكَبِّرُونَ وَيَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَمَا إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِباً وَإِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعاً قَرِيباً مَعَكُمْ ).
:وفي صحيح البخاري - عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ أَوْ قَالَ: لَمَّا تَوَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْرَفَ النَّاسُ عَلَى وَادٍ فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا وَهُوَ مَعَكُمْ ).
: وروي عن الإمام جعفر الصادق (u) قال: ( كان في بني إسرائيل رجل، فدعا اللّه أن يرزقه غلاماً ثلاث سنين. فلمّا رأى أنَّ اللّه لا يجيبه قال: يا ربّ أبعيدٌ أنا منك فلا تسمعني، أم قريب أنت مني فلا تجيبني؟! قال: فأتاه آتٍ في منامه فقال: إنك تدعو اللّه ـ عزَّ وجلّ ـ منذ ثلاث سنين بلسانٍ بذيء، وقلب عاتٍ غير تقي، ونيةٍ غير صادقة، فأقلع عن بذائك، وليتق اللّه قلبُك، ولتحسن نيتك. فقال: ففعل الرّجل ذلك، ثُمَّ دعا اللّه فولد له غلام)([83]).
: في صحيح البخاري عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).
: في الكافي ج : 4 ص : 403: عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ u قَالَ إِذَا دَنَوْتَ مِنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَارْفَعْ يَدَيْكَ وَاحْمَدِ اللَّهَ وَأَثْنِ عَلَيْهِ وَصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وَاسْأَلِ اللَّهَ أَنْ يَتَقَبَّلَ مِنْكَ ثُمَّ اسْتَلِمِ الْحَجَرَ وَقَبِّلْهُ فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تُقَبِّلَهُ فَاسْتَلِمْهُ بِيَدِكَ فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَسْتَلِمَهُ بِيَدِكَ فَأَشِرْ إِلَيْهِ وَقُلِ اللَّهُمَّ أَمَانَتِي أَدَّيْتُهَا وَمِيثَاقِي تَعَاهَدْتُهُ لِتَشْهَدَ لِي بِالْمُوَافَاةِ اللَّهُمَّ تَصْدِيقاً بِكِتَابِكَ وَعَلَى سُنَّةِ نَبِيِّكَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ آمَنْتُ بِاللَّهِ وَكَفَرْتُ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَبِاللَّاتِ وَالْعُزَّى وَعِبَادَةِ الشَّيْطَانِ وَعِبَادَةِ كُلِّ نِدٍّ يُدْعَى مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَقُولَ هَذَا كُلَّهُ فَبَعْضَهُ وَقُلِ اللَّهُمَّ إِلَيْكَ بَسَطْتُ يَدِي وَفِيمَا عِنْدَكَ عَظُمَتْ رَغْبَتِي فَاقْبَلْ سَيْحَتِي وَاغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْفَقْرِ وَمَوَاقِفِ الْخِزْيِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
: في صحيح البخاري عنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا تَهَجَّدَ مِنْ اللَّيْلِ قَالَ : ( اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ أَنْتَ الْحَقُّ وَقَوْلُكَ الْحَقُّ وَوَعْدُكَ الْحَقُّ وَلِقَاؤُكَ الْحَقُّ وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ حَقٌّ اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْكَ خَاصَمْتُ وَبِكَ حَاكَمْتُ فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَأَسْرَرْتُ وَأَعْلَنْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ).
: في صحيح مسلم عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ: ( اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءُ السَّمَاوَاتِ وَمِلْءُ الْأَرْضِ وَمِلْءُ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ).
: في موطأ مالك عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اسْتَسْقَى قَالَ: ( اللَّهُمَّ اسْقِ عِبَادَكَ وَبَهِيمَتَكَ وَانْشُرْ رَحْمَتَكَ وَأَحْيِ بَلَدَكَ الْمَيِّتَ).
وفي وسائل الشيعة عَنْ مُرَازِمٍ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ u : ( إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ شَيْئاً فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ لْيَحْمَدِ اللَّهَ وَلْيُثْنِ عَلَيْهِ وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَيَقُولُ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا الْأَمْرُ خَيْراً لِي فِي دِينِي وَدُنْيَايَ فَيَسِّرْهُ لِي وَاقْدِرْهُ وَإِنَّ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَاصْرِفْهُ عَنِّي ).
وفيه أيضاً: عَنِ الرِّضَا عَنْ أَبِيهِ عَنْ آبَائِهِ عَنْ عَلِيٍّ u قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم : ( لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْماً مَنْ دَعَا اللَّهَ بِهَا اسْتُجِيبَ لَهُ وَمَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ) وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها}.
وفيه أيضاً: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ u : ( إِذَا طَلَبَ أَحَدُكُمُ الْحَاجَةَ فَلْيُثْنِ عَلَى رَبِّهِ وَلْيَمْدَحْهُ فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا طَلَبَ الْحَاجَةَ مِنَ السُّلْطَانِ هَيَّأَ لَهُ مِنَ الْكَلَامِ أَحْسَنَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَإِذَا طَلَبْتُمُ الْحَاجَةَ فَمَجِّدُوا اللَّهَ الْعَزِيزَ الْجَبَّارَ وَامْدَحُوهُ وَأَثْنُوا عَلَيْهِ تَقُولُ يَا أَجْوَدَ مَنْ أَعْطَى وَيَا خَيْرَ مَنْ سُئِلَ يَا أَرْحَمَ مَنِ اسْتُرْحِمَ يَا أَحَدُ يَا صَمَدُ يَا مَنْ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ يَا مَنْ لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَداً يَا مَنْ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ وَيَقْضِي مَا أَحَبَّ يَا مَنْ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ يَا مَنْ هُوَ بِالْمَنْظَرِ الْأَعْلَى يَا مَنْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ يَا سَمِيعُ يَا بَصِيرُ وَأَكْثِرْ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَثِيرَةٌ وَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ وَقُلِ اللَّهُمَّ أَوْسِعْ عَلَيَّ مِنْ رِزْقِكَ الْحَلَالِ مَا أَكُفُّ بِهِ وَجْهِي وَأُؤَدِّي بِهِ عَنِّي أَمَانَتِي وَأَصِلُ بِهِ رَحِمِي وَيَكُونُ عَوْناً لِي فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ).
وفيه أيضاً: عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ الْحَذَّاءِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ u يَقُولُ: ( إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَشَدُّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ أَضَلَّ رَاحِلَتَهُ وَزَادَهُ فِي لَيْلَةٍ ظَلْمَاءَ فَوَجَدَهَا فَاللَّهُ أَشَدُّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ بِرَاحِلَتِهِ حِينَ وَجَدَهَا).
وفيه أيضاً: عَنْ عُمَرَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ u قَالَ : شَكَوْتُ إِلَيْهِ وَجَعَ رَأْسِي وَمَا أَجِدُ مِنْهُ لَيْلًا وَنَهَاراً فَقَالَ : ( ضَعْ يَدَكَ عَلَيْهِ وَقُلْ: بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَجِيرُ بِكَ بِمَا اسْتَجَارَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وآله وسلم لِنَفْسِهِ سَبْعَ مَرَّاتٍ فَإِنَّهُ يَسْكُنُ ذَلِكَ عَنْهُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُسْنِ تَوْفِيقِهِ).
وفي الكافي عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ u قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم إِنَّ اللَّهَ أَحَبَّ شَيْئاً لِنَفْسِهِ وَأَبْغَضَهُ لِخَلْقِهِ أَبْغَضَ لِخَلْقِهِ الْمَسْأَلَةَ وَأَحَبَّ لِنَفْسِهِ أَنْ يُسْأَلَ وَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أَنْ يُسْأَلَ فَلَا يَسْتَحْيِي أَحَدُكُمْ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ وَلَوْ شِسْعَ نَعْلٍ).
وهذا باب واسع لا يمكن حصره، ليس فيه أمر ولا إستحباب بدعاء غير الله تعالى ولا الإستغاثة بغيره، ولا الإستعانة إلاّ به سبحانه وتعالى، نكتفي بهذا القدر فإن فيه كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد.
الفصل الرابع
أدعية السلف الصالح من الصحابة والقرابة
أما أدعية السلف الصالح من الصحابة والقرابة رضي الله عنهم جميعاً، فلم يُنقل عنهم ما يخالف قول الله تعالى ولا سنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في الدعاء، وإنما كان الإعتداء في الدعاء، ودعاء غير الله تعالى، حدث في القرون المتأخرة لما كثرت البدع، وقل التمسك والإسترشاد بالكتاب والسنة.
فهذا جعفر الصادق كان من دعائه كما تعترف كتب الشيعة: "اللّهم إنّي أصبحت لا أملك لنفسي ضرًّا ولا نفعًا ولا حياة ولا موتًا ولا نشورًا، قد ذلّ مصرعي، واستكان مضجعي، وظهر ضري، وانقطع عذري، وقل ناصري، وأسلمني أهلي ووالدي وولدي بعد قيام حجتك عليّ، وظهور براهينك عندي، ووضوح أدلتك لي. اللهم وقد.. أعيت الحيل، وتغلقت الطرق، وضاقت المذاهب، ودرست الآمال إلا منك، وانقطع الرّجاء إلا من جهتك.." [بحار الأنوار: 86/318، مهج الدّعوات ص216.]([84]).
وروى عن الإمام الصادق (u) أنه قال: " إعلموا أنه ليس يغني عنكم من الله أحد من خلقه شيئا ، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ، ولا من دون ذلك ، فمن سره أن تنفعه شفاعة الشافعين عند الله فليطلب إلى الله أن يرضى عنه " (بحار الأنوار / ج 8 / ص 53 .).
وفي فقيه من لا يحضره الفقيه: عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ u أَنَّهُ قَالَ: كَانَ أَبِي u يَقُولُ إِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ: ( يَا مَنْ هُوَ أَقْرَبُ إِلَيَّ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ يَا مَنْ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ يَا مَنْ هُوَ بِالْمَنْظَرِ الْأَعْلَى يَا مَنْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يَا أَجْوَدَ مَنْ سُئِلَ وَيَا أَوْسَعَ مَنْ أَعْطَى وَيَا خَيْرَ مَدْعُوٍّ وَيَا أَفْضَلَ مَرْجُوٍّ وَيَا أَسْمَعَ السَّامِعِينَ وَيَا أَبْصَرَ النَّاظِرِينَ وَيَا خَيْرَ النَّاصِرِينَ وَيَا أَسْرَعَ الْحَاسِبِينَ وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَيَا أَحْكَمَ الْحَاكِمِينَ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَأَوْسِعْ عَلَيَّ فِي رِزْقِي وَامْدُدْ لِي فِي عُمُرِي وَانْشُرْ عَلَيَّ مِنْ رَحْمَتِكَ وَاجْعَلْنِي مِمَّنْ تَنْتَصِرُ بِهِ لِدِينِكَ وَلَا تَسْتَبْدِلْ بِي غَيْرِي اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَكَفَّلْتَ بِرِزْقِي وَرِزْقِ كُلِّ دَابَّةٍ فَأَوْسِعْ عَلَيَّ وَعَلَى عِيَالِي مِنْ رِزْقِكَ الْوَاسِعِ الْحَلَالِ وَاكْفِنَا مِنَ الْفَقْرِ ثُمَّ يَقُولُ مَرْحَباً بِالْحَافِظَيْنِ وَحَيَّاكُمَا اللَّهُ مِنْ كَاتِبَيْنِ اكْتُبَا رَحِمَكُمَا اللَّهُ أَنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَشْهَدُ أَنْ الدِّينَ كَمَا شَرَعَ وَأَنَّ الْإِسْلَامَ كَمَا وَصَفَ وَأَنَّ الْكِتَابَ كَمَا أَنْزَلَ وَأَنَّ الْقَوْلَ كَمَا حَدَّثَ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ اللَّهُمَّ بَلِّغْ مُحَمَّداً وَآلَ مُحَمَّدٍ أَفْضَلَ التَّحِيَّةِ وَأَفْضَلَ السَّلَامِ أَصْبَحْتُ وَرَبِّي مَحْمُودٌ أَصْبَحْتُ لَا أُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلَا أَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً وَلَا أَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ وَلِيّاً أَصْبَحْتُ عَبْداً مَمْلُوكاً لَا أَمْلِكُ إِلَّا مَا مَلَّكَنِي رَبِّي أَصْبَحْتُ لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَسُوقَ إِلَى نَفْسِي خَيْرَ مَا أَرْجُو وَلَا أَصْرِفَ عَنْهَا شَرَّ مَا أَحْذَرُ أَصْبَحْتُ مُرْتَهَناً بِعَمَلِي وَأَصْبَحْتُ فَقِيراً لَا أَجِدُ أَفْقَرَ مِنِّي بِاللَّهِ أُصْبِحُ وَبِاللَّهِ أُمْسِي وَبِاللَّهِ أَحْيَا وَبِاللَّهِ أَمُوتُ وَإِلَى اللَّهِ النُّشُورُ).
وفي مستدركالوسائل ج : 2 ص : 86: عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ u قَالَ: ( تَضَعُ يَدَكَ عَلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ الْوَجَعُ وَتَقُولُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ اللَّهُ اللَّهُ رَبِّي حَقّاً لَا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً اللَّهُمَّ أَنْتَ لَهَا وَلِكُلِّ عَظِيمَةٍ فَفَرِّجْهَا عَنِّي).
: وفي الكافي عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَسْبَاطٍ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا u أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ صلى الله عليه وآله وسلم كَانَ يَقُولُ طُوبَى لِمَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ الْعِبَادَةَ وَالدُّعَاءَ وَلَمْ يَشْغَلْ قَلْبَهُ بِمَا تَرَى عَيْنَاهُ وَلَمْ يَنْسَ ذِكْرَ اللَّهِ بِمَا تَسْمَعُ أُذُنَاهُ وَلَمْ يَحْزُنْ صَدْرَهُ بِمَا أُعْطِيَ غَيْرُهُ.
: وفي نهج البلاغة كان أمير المؤمنين t يقول: ( إِنَّ أَفْضَلَ مَا تَوَسَّلَ بِهِ الْمُتَوَسِّلُونَ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْإِيمَانُ بِهِ وَبِرَسُولِهِ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ فَإِنَّهُ ذِرْوَةُ الْإِسْلَامِ وَكَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ فَإِنَّهَا الْفِطْرَةُ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا الْمِلَّةُ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا فَرِيضَةٌ وَاجِبَةٌ وَصَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ جُنَّةٌ مِنَ الْعِقَابِ وَحَجُّ الْبَيْتِ وَاعْتِمَارُهُ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَيَرْحَضَانِ الذَّنْبَ وَصِلَةُ الرَّحِمِ فَإِنَّهَا مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ وَمَنْسَأَةٌ فِي الْأَجَلِ . . ).
ومن أروع ما نقل من الكلام في هذا الموضوع عن سيدنا علي y ، ما جاء في نهج البلاغة من قوله: ( وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي بِيَدِهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ أَذِنَ لَكَ فِي الدُّعَاءِ وَتَكَفَّلَ لَكَ بِالْإِجَابَةِ وَأَمَرَكَ أَنْ تَسْأَلَهُ لِيُعْطِيَكَ وَتَسْتَرْحِمَهُ لِيَرْحَمَكَ وَلَمْ يَجْعَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ مَنْ يَحْجُبُكَ عَنْهُ وَلَمْ يُلْجِئْكَ إِلَى مَنْ يَشْفَعُ لَكَ إِلَيْهِ وَلَمْ يَمْنَعْكَ إِنْ أَسَأْتَ مِنَ التَّوْبَةِ وَلَمْ يُعَاجِلْكَ بِالنِّقْمَةِ. . )
فأنت تراه يقرر بأن الله تعالى لم يجعل بينه وبين عباده حجاباً ولم يلجئه إلى شفاعة أحد، ولم يقل توسلوا بجاه النبي، ولا بجاهه هو، ولا بجاه أحدٍ من الخلق، وهذا قمة الإخلاص والعبودية لله تعالى.
الفصل الخامس
أدلة الفكر الشيعي في جواز دعاء الولي أو جواز الإستعانة به
من خلال إطلاعي على ما كتبه علماء الشيعة في هذا الموضوع لم أجد من أحدهم أنه قدّم دليلاً واحداً على جواز دعاء الولي، أو الإستعانة به، سوى قولهم أن هذا من باب الأخذ بالأسباب، وأنه مجرد تعظيم وإحترام للولي، بشرط أن لا يعتقد أن المستعان إله، أو رب، أو مفوض إليه بعض مراتب التدبير والربوبية.
يقول شيخهم جعفر السبحاني: ( فلو استعان أحد بولي ـ حياً كان أو ميتاً ـ على شيء موافق لما جرت عليه العادة أو مخالف للعادة كقلب العصا ثعباناً، والميت حياً، باعتقاد أنّ المستعان إله، أو ربّ، أو مفوّض إليه بعض مراتب التدبير والربوبية فذلك شرك دون جدال.
وأمّا إذا طلب منه كلّ ذلك أو بعضه بما أنّه عبد لا يقدر على شيء إلاّ بما أقدره اللّه عليه، وأعطاه وأنّه لا يفعل ما يفعل إلاّ بإذن اللّه تعالى، وإرادته، فالاستعانة به وطلب العون منه حينئذٍ من صلب التوحيد، من غير فرق بين أن يكون الولي المستعان به حيّاً أو ميّتاً، وأن يكون العمل المطلوب منه عملاً عادياً أو خارقاً للعادة.)([85]).
ويقول أيضاً: ( إنّ التوسل بالنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإن كان استعانة به لكنّه لا ينافي حصر الاِستعانة باللّه تبارك وتعالى وذلك أنّ المسلمين في أقطار العالم يَحصرون الاستعانة في اللّه سبحانه ومع ذلك يستعينون بالاَسباب العادية، جرياً على القاعدة السائدة بين العقلاء، ولا يرونه مخالفاً للحصر، كما أنّ المتوسّلين بأرواح الاَنبياء يستعينون بهم في مشاهدهم ومزاراتهم ولا يرونه معارضاً لحصر الاستعانة باللّه سبحانه، وذلك لاَنّ الاستعانة بغير اللّه يمكن أن تتحقق بصورتين:
1ـ أن نستعين بعامل ـ سواء أكان طبيعياً أم غير طبيعي ـ مع الاعتقاد بأنّ عمله مستند إلى اللّه، بمعنى أنه قادر على أن يعين العباد ويزيل مشاكلهم بقدرته المكتسبة من اللّه وإذنه.
وهذا النوع من الاستعانة ـ في الحقيقة ـ لا ينفك في الواقع عن الاستعانة باللّه ذاته، لاَنّه ينطوي على الاعتراف بأنّه هو الذي منح تلك العوامل، ذلك الاَثر، وأذن لها، وإن شاء سلبها وجرّدها منه.
فإذا استعان الزارع بعوامل طبيعية كالشمس والماء وحرث الاَرض، فقد استعان باللّه ـ في الحقيقة ـ لاَنّه تعالى هو الّذي منح هذه العوامل: القدرة على إنماء ما أودع في بطن الاَرض من بذر ومن ثمّ إنباته والوصول به إلى حدّ الكمال.
2ـ أن يستعين بإنسان حي أو ميّت أو عامل طبيعي مع الاعتقاد بأنّه مستقلّ في وجوده، أو في فعله عن اللّه، فلا شكّ أنّ ذلك الاعتقاد شرك والاستعانة به عبادة.
فإذا استعان زارع بالعوامل المذكورة وهو يعتقد بأنّها مستقلّة في تأثيرها أو أنّها مستقلّة في وجودها ومادتها كما في فعلها وقدرتها، فالاعتقاد شرك والطلب عبادة للمستعان به.
وبذلك يظهر أنّ الاستعانة المنحصرة في اللّه المنصوص عليها في قوله تعالى:"وإيّاكَ نَسْتَعينُ" هي الاستعانة بالمعونة المستقلّة النابعة من ذات المستعان به، غير المتوقّفة على شيء، فهذا هو المنحصر في اللّه تعالى، وأمّا الاستعانة بالاِنسان الذي لا يقوم بشيء إلاّ بحول اللّه وقوّته وإذنه ومشيئته، فهي غير منحصرة باللّه سبحانه، بل إنّ الحياة قائمة على هذا الاَساس ، فإنّ الحياة البشرية مليئة بالاستعانة بالاَسباب التي توَثّر وتعمل بإذن اللّه تعالى.
وعلى ذلك لا مانع من حصر الاستعانة في اللّه سبحانه بمعنى، وتجويز الاِستعانة بغيره بمعنى آخر وكم له نظير في الكتاب العزيز)([86]).
ويقول أيضاً : (إنّ النقطة الحاسمة في الموضوع تكمن في تفسير الدعاء وهل أنّ كلّ دعاء عبادة والنسبة بينهما هي التساوي؟ حتى يصح لنا أن نقول كلّ دعاء عبادة، وكلّ عبادة دعاء، أو أنّ الدعاء أعمّ من العبادة وأنّ قسماً من الدعاء عبادة وقسماً منه ليس كذلك؟ والكتاب العزيز يوافق الثاني لا الاَوّل، وإليك التوضيح:
لقد استعمل القرآن لفظ الدعاء في مواضع عديدة ولا يصحّ وضع لفظ العبادة مكانه، يقول سبحانه حاكياً عن نوح:﴿رَبِّ إِنِّي دَعَوتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً﴾ (نوح|5) وقال سبحانه حاكياً عن لسان إبليس في خطابه للمذنبين يوم القيامة:﴿وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي﴾ (إبراهيم|22) إلى غيرهما من الآيات التي ورد فيها لفظ الدعاء، أفيصح القول بأنّ نوحاً دعا قومه أي عبدهم، أو أنّ الشيطان دعا المذنبين أي عبدهم؟ كلّ ذلك يحفزنا إلى أن نقف في تفسير الدعاء وقفة تمعّن حتى نميّز الدعاء الذي هو عبادة عمّا ليس كذلك.
والاِمعان فيما تقدّم في تفسير العبادة يميِّز بين القسمين فلو كان الداعي والمستعين بالغير معتقداً بأُلوهية المستعان ولو أُلوهية صغيرة كان دعاؤه عبادة ولأجل ذلك كان دعاء عبدة الأصنام عبادة لاعتقادهم بأُلوهيتها، قال سبحانه:﴿فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الّتي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾(هود|101).
وما ورد من الآيات في السؤال كلّها من هذا القبيل فإنها وردت في حقّ المشركين القائلين بأُلوهية أصنامهم وأوثانهم باعتقاد استقلالهم في التصرف والشفاعة وتفويض الأمور إليهم ولو في بعض الشوَون. ففي هذا المجال يعود كلّ دعاء عبادة، ويفسر الدعاء في الآيات الماضية والتالية بالعبادة، قال تعالى:
"إِنَّ الّذينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ" (الاَعراف|194). ﴿ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْويلاً * أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ﴾ (الاِسراء|56ـ 57). ﴿ وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ﴾ (يونس|106). ﴿ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ﴾ (فاطر|14). وما ورد في الأثر من أنّ الدعاء مُخّ العبادة، أُريد منه دعاء اللّه أو دعاء الآلهة لا مطلق الدعاء وإن كان المدعوّ غير إله لا حقيقة أو اعتقاداً.
وفي روايات أئمّة أهل البيت إلماع إلى ذلك، يقول الاِمام زين العابدين في ضمن دعائه: "...فسمّيت دعاءك عبادة وتركه استكباراً وتوعّدت على تركه دخول جهنّم داخرين"([87]) وهو يشير في كلامه هذا إلى قوله سبحانه:﴿وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الّذينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرينَ﴾ (غافر60)
هذا هو الدعاء المساوي للعبادة وهناك قسم آخر منه لا صلة بينه وبين العبادة وهو فيما إذا دعا شخصاً بما أنّه إنسان وعبد من عباد اللّه غير أنّه قادر على إنجاز طلبه بإقدار منه تعالى وإذن منه، فليس مثل هذه الدعوة عبادة بل سنّة من السنن الإلهية في الكون، هذا هو ذو القرنين يواجه قوماً مضطهدين يطلبون منه أن يجعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج سداً فعند ذلك يخاطبهم ذو القرنين بقوله:﴿ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعينُوني بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً﴾ (الكهف|95) وها هو الذي كان من شيعة موسى يستغيث به ، يقول سبحانه: ﴿فَاسْتَغاثَهُ الّذي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ﴾ (القصص|15) وهذا هو النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) يدعو قومه للذبّ عن الإسلام في غزوة أُحد و قد تولّوا عنه، قال سبحانه: ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخراكُمْ﴾ (آل عمران|153) فهذا النوع من الدعاء قامت عليه الحياة البشرية، فليس هو عبادة وإنّما هو توسل بالاَسباب، فإن كان السبب قادراً على إنجاز المطلوب كان الدعاء أمراً عقلائياً وإلاّ يكون لغواً وعبثاً.
ثمّ إنّ القائلين بأنّ دعاء الصالحين عبادة، عند مواجهتهم لهذا القسم من الآيات وما تقتضيه الحياة الاجتماعية، يتشبثون بكلّ طحلب حتى ينجيهم من الغرق ويقولون إنّ هذه الآيات تعود إلى الاَحياء ولا صلة لها بدعاء الاَموات، فكون القسم الاَوّل جائزاً وأنّه غير عبادة؛ لا يلازم جواز القسم الثاني وكونه غير عبادة.
ولكن عزب عن هؤلاء إنّ الحياة والموت ليسا حدين للتوحيد والشرك ولا ملاكين لهما، بل هما حدّان لكون الدعاء مفيداً أو لا، وبتعبير آخر ملاكان للجدوائية وعدمها.
فلو كان الصالح المدعو غير قادر لأجل موته مثلاً تكون الدعوة أمراً غير مفيد لا عبادة له، ومن الغريب أن يكون طلب شيء من الحيّ نفس التوحيد ومن الميت نفس الشرك.
كل ّذلك يوقفنا على أنّ القوم لم يدرسوا ملاكات التوحيد والشرك بل لم يدرسوا الآيات الواردة في النهي عن دعاء غيره، فأخذوا بحرفية الآيات من دون تدبّر مع أنّه سبحانه يقول: ﴿ كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الاَلْباب﴾ (ص: 29).
ثمّ إنّ الكلام في أنّ دعاء الصالحين بعد انتقالهم إلى رحمة اللّه مفيد أو لا، يتطلب مجالاً آخراً وسوف نستوفي الكلام عنه في رسالة خاصة حول وجود الصلة بين الحياتين : المادّية والبرزخيّة بإذن منه سبحانه)([88]).
ويقول شيخهم عبدالله دشتي: ( إن المسلم الذي يدعو صاحب القبر بمعنى يسأله ويطلب منه إما يريد شفاعة صاحب القبر عند الله أو هو يرى أن له قدرة مثل قدرة المسيح على فعل المعجز بإذن الله فيطلب منه ، وقد يكون مخطئا مبتدعا فلا نريد نفي هذا الوصف بل ما يهمنا في هذه المرحلة نفي وصف الشرك ، وأما إذا رأى أن صاحب القبر قادر من دون إذن الله فلا شك بأننا نحكم بشركه)([89]).
الفصل السادس
الرد على أدلة الشيعة في جواز دعاء الأنبياء والأولياء
يظهر بأن الفكر الشيعي لم يستدل بآية قرآنية ولا حديث نبوي شريف قطعي الورود وقطعي الدلالة على مدّعاه، سوى قولهم:
( لا يمكن لمسلم أن يدعو غير الله في أمر لا يقدر عليه إلا الله أصالة إلا بسبب اعتقاده أن الله مكّن ذلك المدعو فأصبح قادرا بإذن الله - مخطئا كان في اعتقاده أو مصيبا – وفي الحالتين الحديث عن قدرة غير اعتيادية أعطيت من قبل الله عز وجل للمدعو سواء كانت من قبيل سماع الميت وقدرته على الإجابة أو من قبيل الأمور الخارقة التي هي في الأصل ليست إلا في قدرة الله ولكن الله قدر بعض عباده عليها)([90]).
وقولهم:( إذا دعا شخصاً بما أنّه إنسان وعبد من عباد اللّه غير أنّه قادر على إنجاز طلبه بإقدار منه تعالى وإذن منه، فليس مثل هذه الدعوة عبادة بل سنّة من السنن الإلهية في الكون)([91]).
فأدلتهم إذن تدور بين ( قدرة الله تعالى ) و ( إذن الله ) للولي، وبين قولهم بأن دعاء الإمام أو الولي ليس من باب دعاء العبادة، وإنما هو من دعاء المسألة التي تجوز فيما بين الخلائق، وسنناقش هذه الأمور بشيء من التفصيل في المحاور التالية:
المحور الأول:
قدرة الله تعالى وإذنه:
فأما الكلام في قدرة الله تعالى فهو أمر أجنبي عن الموضوع؛ ذلك لأن قدرة الله تعالى لا تختص بالإمام أو الولي، بل قدرة الله تعالى قدرة مطلقة ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾[يس/82].
فالله تعالى قادر على أن يعطي للحجر قدرة، تفوق قدرة البشر.
وهو القادر على أن يجعل الحيوان بشراً ينطق ويتحرك.
وهو القادر على أن يجعل للنبات قدرة على السمع والنطق والحركة.
وهل يشك أحدٌ في قدرة الله تعالى المطلقة؟!
لكن السؤال الذي يتوجه إلى علماء الشيعة: لماذا تحصرون قدرة الله تعالى وإذنه في الإمام أو الولي؟
فلو فرضنا أن شخصاً ما جاء إلى شجرةٍ أو صخرةٍ أو حجرٍ، ثم بدأ يتضرع أمامه ويطوف حوله، ويسأله أن يرزقه ولداً، أو أن ينصره على عدوٍ له، أو أن ينقله إلى الصين، أو أن يخلصه من الظلمة . و . . و . . إلخ.
وإذا سألته ماذا تفعل؟ قال لك: أنا أعلم أن هذا الحجر لا ينفع ولا يضر؛ ولكن الله تعالى قادر على أن يعطي لهذا الحجر قوة وقدرة خارقة ، ويأذن له بتلبية طلبي منه.
فما هو الفرق بين هذا الشخص وبين من يطلب من الميت الذي فقد حراكه؟
وما الفرق بينه وبين من يقف أمام اللات أو العزى ويطلب منه مثل هذه الأمور معتقداً أن الصنم غير قادر على تلبية أو إستجابة طلبه إلا بإقدار منه تعالى وإذنه؟
إذن الله تعالى:
وأما إذن الله تعالى: فهو كما قال الشيخ محمد حسين فضل الله: ( إنّ التركيز على الإذن الإلهي في القرآن لا يختصّ بمورد الشّفاعة، بل نجدهُ في كلِّ مورد يمكن أنْ يكون مظنّةً للاستقلال في التدبير، ما يضفي على المخلوق ـ ملائكة كانَ أو نبيّاً أو وليّاً ـ سمةً من سمات الربوبيّة والاُلوهيّة، لما يشـاهدهُ النّاس من قدراته الذاتيّة.
ومن مصاديق ذلك ما جاءَ عن المسيح (عليه السلام) في خلقه للطّير وإبرائه للأكمه والأبرص وإخراجه للموتى: ﴿ وإِذْ تَخلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيها فَتَكونُ طَيراً بِإِذني وتُبْرِىء الأَكمَهَ والأَبْرَصَ بِإِذني وإِذْ تُخرِجُ المَوتى بِإِذني ﴾]المائدة/110[.
فقد جاء ذكر الإذن الإلهي أربع مرّات «صوناً لقلوب السّامعين من أنْ يخطر فيها أنّ غيره تعالى يستقلُّ دونه بإفاضة الحياة، أو تلبث فيها هذهِ الخطرة ولو لحظات)([92]).
فبالإضافة إلى إسناد إذن الله تعالى إلى نبي من أنبياء الله تعالى، على سبيل المعجزات التي هي خاصة بالأنبياء لإثبات نبوتهم ورسالتهم من الله تعالى ليكون موضع قبول الناس لما جاءوا به من عند الله تعالى؛ فإن هذا كان في حياة عيسى u ، ولولا أن الله تعالى أخبرنا بها في كتابه العزيز لم كلفنا الإيمان بها.
فأين هذا الإستدلال بإستدلال الشيعة بأن الله تعالى يأذن للإمام أن يستجيب لما يطلب منه بعد وفاته!
ولأي سبب يأذن الله تعالى للميت ما لا يأذنه للأحياء؟
إذن لا أعلم سبباً حقيقياً به يجيز الفكر الشيعي دعاء الولي الميت إلاّ أن يكون الأمر متعلقاً بأصل الربوبية.
وتوضيح ذلك في المحور الثاني:
المحور الثاني:
توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية:
الفكر الشيعي يلزم المتشيع أن يستدل على أصول الدين ( التوحيد، العدل، النبوة، المعاد، الإمامة ) بعقله ولا يجيز له التقليد فيها.
ولاشك أن التوحيد المطلوب ليس هو الإقرار بأن الله تعالى هو الخالق، الرازق، المدبر، المحيي، المميت؛ فإن المشركين كانوا مقرين بهذا الأمر:﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾ [يونس/31].
فالتوحيد المطلوب إذن هو أن يعتقد بأن الله تعالى هو المعبود الذي يستحق العبادة دون غيره كائناً من كان، ويكفر بعبادة من هو من دون الله. لأن من أقر بربوبية الله تعالى وخالقيته وتدبيره لأمر الكون وما فيه، يستلزم منه أن يذعن له ويعبده. ولهذا ما جاء نبي يدعو الناس إلى الإقرار بأن الله تعالى هو الخالق والمدبر لأمر هذا الكون وما فيه، بل من رسولٍ إلاّ دعا قومه لعبادة الله وحده، وترك عبادة من هو من دونه؛ قال الله تعالى:﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾[النحل/36].
ومن لوازم التوحيد الإعتقاد بأن الله تعالى قريب من عباده، يسمع دعاءهم وأصواتهم ويرى مكانهم وهو أقرب إليهم من حبل الوريد، وأن الله تعالى على كل شيء قدير، وهو بكل شيء عليم ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾[الحديد/4]. ﴿ أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾[هود/5].
ولما كان الله تعالى قد أمر بدعائه بأسمائه الحسنى: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾[الأعراف/180], ﴿ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ﴾[الإسراء/110].
وأخبر أنه يجيب دعوة الداعي إذا دعاه: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾[البقرة/186].
فلأي معنى ولأي سبب يتوجه الإنسان إلى غير الله تعالى؟
بما أن الفكر الشيعي لم يلتزم قواعد السلامة في الشرك، ولم يأخذ بالأحوط في مسألة التوحيد والشرك، ولم يأت بدليل من كتاب الله تعالى، ولا بسنة صحيحة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا بقول صحيح الإسناد إلى أئمة أهل البيت يجيزون دعاء الأموات؛ لذا أرى أن التوجه إلى الميت والطلب منه أمر يرتبط بعقيدة السائل أو الداعي. ذلك أن السائل إن لم يكن يعتقد في الميت أنه قادر على إجابة طلبه، فما الذي دعاه إلى ترك الحي الذي لا يموت والتوجه إلى ميت كان لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً في حياته؛ فكيف بعد مماته؟!
إذن لابد أن يعتقد في نفسه شيئاً ما، أو بنوع تأثير، قد يعبر عنه بألفاظ تختلف عن الألفاظ التي كان المشركون يعبرون عنها، ولكنها في النتيجة واحدة.
فالشيعة تدعي أن الذين يدعونهم من دون الله هم عباد مكرمون، يقضي الله بهم الحاجات، لذلك يقول الخوئي في تفسير البيان: (فمن اعتقد بالوحدانية الخالصة للّه، واعتقد أنّ الاِحياء والاِماتة والخلق والرزق والقبض والبسط والمغفرة والعقوبة كلّها بيده، ثمّ اعتقد بأن ّالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وأوصياءه الكرام عليهم السَّلام ﴿عِبادٌ مُكْرَمُونَ* لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَولِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ (الاَنبياء|26ـ27) فعظّمهم وخضع لهم، تجليلاً لشأنهم وتعظيماً لمقامهم، لم يخرج بذلك عن حدّ الاِيمان، ولم يعبد غير اللّه)([93]).
مع أن القرآن يقص علينا أن المشركين والكفار أيضاً كانوا يعتقدون بأن الله تعالى هو الخالق والرزاق والمدبر لجميع المخلوقات. ثم أن معبودات المشركين كانت تتراوح بين نبي، أو ملك، أو رجال صالحين.
قال تعالى: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ﴾ [الزخرف/9].
وقال: ﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾[يونس/31].
ولقد أمر الله تعالى صفوة خلقه محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول للناس في حياته: ﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾[الأعراف/188]. ﴿ قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ﴾[الأحقاف/9]. ﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [يونس/49]. ﴿ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ﴾[الجن/21-23].
فإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته لا يملك لنفسه نفعاً، ولا لغيره بدليل أنه أصابه الكثير من الأذى في نفسه وجسده؛ وقد آذاه المشركون، وآذوا ضعفاء المسلمين في مكة وساموهم سوء العذاب، وهو يرى ويسمع؛ فما كان منه إلاّ أن أمرهم أن يهاجروا إلى الحبشة لأن فيها ملكاً لا يظلم عنده أحد؛ ثم بعد ذلك أمر البقية من المسلمين بالهجرة إلى المدينة المنورة.
وفي معركة أحد كسرت رباعيته، وشج وجهه، وإستشهد عمه حمزة t وعددٌ من صناديد المسلمين.
فلماذا بعد ما يموت يتحول إلى قوة خارقة يستطيع أن ينفع آلاف الناس الذين يدعونه ويستغيثون به في كل آنٍ وحين؟
لقد قتل سيدنا الحسين قتلة قل نظيرها في التاريخ، فهل إستطاع أن يدفع عن نفسه أو عياله القتل!
بل إن سفيره وإبن عمه مسلم بن عقيل إلى أهل الكوفة قتل في الكوفة وهو في مدينة الرسول لا يدري، ولما إلتقى بفرزدق الشاعر قال له:( أخبرني عن الناس خلفك؟ فقلت( الفرزدق): الخبير سألت: قلوب الناس معك وأسيافهم عليك والقضاء ينزل من السماء واللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ .
قال : صدقت لله الأمر من قبل ومن بعد وكل يوم ربنا هُوَ فِي شَأْنٍ إن نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يبعد من كان الحق نيته والتقوى سيرته)([94]).
إن الحسين t كان عزيزاً على نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، فهل أن النبي كان يرى ويسمع ما أصاب الحسين وذريته من الأذى ثم لم يفعل شيئاً لنصرته، ولم يدع الله تعالى أن ينصره، وهو قادر على أن يفعل كما هي عقيدة الشيعة في الأموات؟
أم أن الحسين t لم يطلب منه النصرة؟
فإن كان لم يطلب، فهذا هو المطلوب، أي أن هذا الطلب إما غير جائز، أو غير مجدي.
وإن كان طلب منه النصرة، فإما جاء لنصرته، أو لم يأتِ؟
فإذا جاء ولم يستطع أن ينصره، فهذا يعني أنه إستعان بمن لا يستطيع نصره.
وإن لم يستجب لطلبه، فلا داعي أن يطلب ممن لا يستجيب.
وكذلك فإن الشيعة تدعي أن الحسن t مات مسموماً، فهذا يعني أنه أكل الطعام الذي فيه السم وهو لا يعلم أن هذا الطعام فيه هلاكه.
وإذا وفقك الله لزيارة النجف أو كربلاء لتطلع على عقيدة القوم عن كثب لرأيت مئات الناس يطلبون من الإمام الميت أشكالاً وألواناً من الدعاء والطلبات:
فهذا الذي يطلب منه أن ينجحه في الإمتحان.
وهذا الذي يطلب منه الولد.
وهذا الذي يطلب منه المال.
وهذا الذي يطلب منه النصرة. . و . . و . . إلخ.
إذا تبين لك هذا علمت أن شرك هؤلاء وإن كان في مظهره شرك في الألوهية، كدعاء الميت، أو الإستغاثة به أو النحر له ؛ إلاّ أن وراءه شرك في الربوبية، أي هناك نوع إعتقاد بأن للميت نوعاً من التصرف في الكون، بإعتباره عبداً صالحاً، وأن الله يقدره على الخوارق؛ وهاأنا أنقل لك أقوال بعض أهل العلم يؤيد ما ذهبت إليه:
قال الإمام الشوكاني رحمه الله: ( فإن دعاءك للميت عند نزول أمرٍ بك لا يكون إلاّ لشيءٍ في قلبك عبّر عنه لسانك. فإن كنت تهذي بذكر الأموات عند عرض الحاجات من دون إعتقاد منك فأنت مصاب بعقلك، وهكذا إن كنت تنحر لله، وتنذر لله، فلأي معنى جعلت ذلك للميت، وحملته إلى قبره، فإن الفقراء على ظهر البسيطة في كل بقعة من بقاع الأرض ، وفعلك وأنت عاقل لا يكون إلاّ لمقصد قصدته، أو أمرٍ قد أردته ، وإلاّ فأنت مجنون قد رفع عنك القلم.)([95]).
ويقول العلامة إبن القيم:( فأساس الشرك وقاعدته التي بُني عليها: التعلق بغير الله )([96]). ولا يتعلق القلب بأحد أو بشيء من دون الله إلاّ لإعتقاده أنه يجلب له النفع أو يدفع عنه الضر.
وقال الشوكاني أيضاً في رده على العلامة الصنعاني في إعتبار أن ما يفعله البعض عند قبور الأئمة من الكفر العملي لا الإعتقادي: ( فليت شعري ما الحامل له على الدعاء والإستغاثة وتقبيل الجدران، ونذر النذورات, هل مجرد اللعب والعبث دون إعتقاد؟! فهذا لا يفعله إلاّ مجنون! أم الباعث عليه الإعتقاد في الميت. فكيف لا يكون هذا من كفر الإعتقاد الذي لولاه لم يصدر فعل من تلك الأفعال؟
ثم أنظر كيف إعترف بعد أن حكم على هذا الكفر بأنه كفر عمل لا كفر إعتقاد بقوله: ( لكن زين الشيطان أن هؤلاء عباد الله الصالحين ينفعون ويشفعون فاعتقد ذلك جهلاً كما إعتقده أهل الجاهلية في الأصنام).
فتأمل كيف حكم بأن هذا كفر إعتقاد ككفر أهل الجاهلية وأثبت الإعتقاد واعتذر عنهم بأنه إعتقاد جهل)([97]).
ويقول الأستاذ أبو الأعلى المودودي: ( فالذي يتخذ كائناً ما ولياً له ونصيراً وكاشفاً عنه السوء، وقاضياً لحاجته ومستجيباً لدعائه وقادراً على أن ينفعه ويضره، كل ذلك بالمعاني الخارجة عن نطاق السنن الطبيعية، يكون السبب لاعتقاده ذلك ظنه فيه أن له نوعاً من أنواع السلطة على نظام هذا العالم. وكذلك من يخاف أحداً ويتقيه ويرى أن سخطه يجر عليه الضرر ومرضاته تجلب له المنفعة، لا يكون مصدر اعتقاده ذلك وعمله إلا ما يكون في ذهنه من تصور أن له نوعاً من السلطة على هذا الكون. ثم أن الذي يدعو غير الله ويفزع إليه في حاجاته بعد إيمانه بالله العلي الأعلى، فلا يبعثه على ذلك إلا اعتقاده فيه أن له شركاً في ناحية من نواحي السلطة الألوهية)([98]).
المحور الثالث:
سؤال الولي بعد الموت أمر أجنبي:
ما علاقة كون الأئمة عباد صالحين في حياتهم، بدعائهم والطلب منهم بعد وفاتهم؟ هل أن الله أمر بذلك أمر إلزام ؟ أم أن الطلب من الله مباشرة فيه تنقيص لقدر الولي الميت، أو فيه قلة إحترام له؟
إن القول بأن الطلب من الميت لا يمس العقيدة لأن السائل لا يعتقد بألوهية الميت أو ربوبيته، وإنما يعتقد أنه عبد صالح يقدره الله تعالى على ذلك، قول باطل.
لأن الميت في حياته كان لا يملك تلك القدرة التي تؤهله على إستجابة كل ما يطلب منه؛ فلماذا يكون بعد الموت أقدر؟
ثم هل أن المشرك الذي كان يطلب من الأصنام كان يرى أنها تملك حياة أو نشوراً، أو تدبيراً من دون الله؟
إستمع إلى المحاججة التي دارت بين نبي الله إبراهيم u وبين قومه المشركين:
﴿ وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ﴾[الأنبياء/51-68].
فلو كانوا يعتقدون أن أصنامهم تسمع أو تنفع أو تضر، لقالوا: نعم؛ ولكنهم لما علموا بأنها لا تملك شيئاً مما قاله إبراهيم عليه السلام، عدلوا إلى قولهم: ﴿ بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ﴾.
وهكذا حاجهم لما كسر أصنامهم، فقال لهم : ﴿ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الأنبياء/63، 64] فلما علموا حقيقة معبوداتهم، وأنها لا تنفع ولا تضر؛ لم ينتهوا عن عبادتهم لها، بل قالوا: ﴿ حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ﴾، فهم الذين نصروا آلهتهم؛ فكيف يقال بعد ذلك أنهم كانوا يعتقدون أن لألهتم تصرفاً في الكون وتدبيرا من دون الله.
ولو ثبت أنهم كانوا يعتقدون أن لآلهتهم نفعاً أو ضراً، لكان ذلك محمولاً على إعتقادهم بأن ذلك لا يكون إلاّ بإقدار منه تعالى ؛ إذ لا أحد من المشركين كان يعتقد أن آلهتهم التي يدعونها من دون الله تخلق وترزق وتدبر أمر الكون منفرداً من دون الإله الأعظم، بدليل قوله تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾[يونس/31].
المحور الرابع:
دعاء الإمام أو الإستعانة به بعد وفاته ليس من الأسباب الطبيعية:
أما قولهم: أن دعاء الولي سنة من السنن الكونية، أو إتخاذ للأسباب المقترنة بالتوكل، فهذا غير صحيح، بل هو كذب وإدعاء محض؛ فإن الله تعالى لم يجعل دعاء الميت سبباً من الأسباب، أو سنة من السنن الكونية.
إن العلل والأسباب تجري في الحياة الدنيا على مقتضى العقل والسنن الكونية التي تربط الأسباب بمسبباتها، فالجوع يدفعه الأكل، والعطش يدفعه الماء، ومن أراد الولد فالزواج من أسبابه، ومن كان به مرض فالدواء من أسباب دفعه, وهكذا هي سنة الحياة.
إن المسلم يعتقد أن الذي يملك الضر والنفع هو الله وحده ، ولكنه يؤمن أن الله تعالى ربط الحياة الإنسانية بالأسباب والعلل على قاعدة " إعقلها وتوكّل " ..حتى إذا عجزت أسبابنا توجهنا إلى خالق الأسباب ومسببّها. لقد أمر اللهُ تعالى مريمَ البتول عليها السلام حينما أجاءها المخاض إلى جذع النخلة أن تهز بجذعها لتسقط عليها رطباً ! فهل رأيت إنساناً هز نخلة من قبل لتسقط عليه رطباً ؟! ناهيك عن هذه المرأة الضعيفة وهي بعدُ في أضعف حالاتها بين آلام الوضع ! إنه الأخذ بالأسباب.
المحور الخامس:
الخروج من مقتضى الأسباب والعلل في الدعاء والطلب يوجب الخلل في العقيدة:
إن ما يفرق بين دعاء العبادة ودعاء ما ليس بعبادة، هو خروجه من الأسباب والعلل الطبيعية، ولتوضيح ذلك نقول: إن من أجهده العطش مثلاً فدعا خادمه ليحضر له الماء, فعمله ليس بدعاء, لأنه جارٍ على قانون العلل والأسباب. وهكذا من إستنصر بالحي القريب، أو طلب الإعانة من صديقه مثلاً، أو إستغاث بأحد القريبين منه ليغيثه, أو يعينه في أمر ليس من خصائص الرب عز وجل.
ولكنه إذا إستغاث بولي ميت، أو إستغاث بغائب في مكان آخر, أو إستعان بالحي الحاضر ما هو من خصائص الرب تعالى كأن يطلب منه أن يرزقه ولداً، أو أن يغفر له ذنوبه، فلا شك أن عمله هذا إمّا هو من عمل المجانين، أو أنه أمر يتعلق بعقيدته؛ ذلك لأنه ما لم يعتقد أن المدعو الميت أو الغائب عنه بمئات الأميال، قادر على إيصال الماء إليه، لما دعاه، وترك طلب الماء من خادمه الذي بين يديه.
أقول: ولا يُلتفت إلى ما يزعمه شيوخ الشيعة، بأن هؤلاء عباد مكرمون، وأن السائل لا يعتقد قدرتهم إلاّ بإقدارٍ من الله؛ فهذا تلاعب بالألفاظ, وتحريف للكلم؛ فإن المشركين وأهل الكتاب أيضاً كانوا يعتقدون أن آلهتهم التي يدعونها تستمد قوته وقدرته من الله.
وهكذا في الأمور الأخرى، فإعطاء الولد، أو مغفرة الذنوب من خصائص الله تعالى، وطلب مثل هذه الأمور من غير الله سببه يرجع إلى إعتقاد الطالب بقدرة المطلوب منه على إتيان هذه الأمور التي لا يجوز طلبها إلاّ من الله تعالى. أما إن طلب من الحي الحاضر أن يدعو له بأن يهبه الله تعالى الولد، أو أن يغفر له ذنوبه، فهذا شافع له وطالب من الله تعالى.
يقول شيخ الإسلام إبن تيمية:( وَالْعَجَبُ مِنْ ذِي عَقْلٍ سَلِيمٍ يَسْتَوْحِي مَنْ هُوَ مَيِّتٌ وَيَسْتَغِيثُ بِهِ - وَلَا يَسْتَغِيثُ بِالْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ - فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ : إذَا كَانَتْ لَك حَاجَةٌ إلَى مَلِكٍ تَوَسَّلْت إلَيْهِ بِأَعْوَانِهِ فَهَكَذَا يَتَوَسَّلُ إلَيْهِ بِالشُّيُوخِ وَهَذَا كَلَامُ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالضَّلَالِ فَإِنَّ الْمَلِكَ لَا يَعْلَمُ حَوَائِجَ رَعِيَّتِهِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى قَضَائِهَا وَحْدَهُ وَلَا يُرِيدُ ذَلِكَ إلَّا لِغَرَضِ يَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِكُلِّ شَيْءٍ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَالْأَسْبَابُ مِنْهُ وَإِلَيْهِ . وَمَا مِنْ سَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ إلَّا دَائِرٌ مَوْقُوفٌ عَلَى أَسْبَابٍ أُخْرَى وَلَهُ مُعَارَضَاتٌ فَالنَّارُ لَا تُحْرِقُ إلَّا إذَا كَانَ الْمَحَلُّ قَابِلًا فَلَا تُحْرِقُ السمندل وَإِذَا شَاءَ اللَّهُ مَنَعَ أَثَرَهَا كَمَا فَعَلَ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَمَّا مَشِيئَةُ الرَّبِّ فَلَا تَحْتَاجُ إلَى غَيْرِهِ وَلَا مَانِعَ لَهَا بَلْ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَهُوَ سُبْحَانَهُ أَرْحَمُ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا يُحْسِنُ إلَيْهِمْ وَيَرْحَمُهُمْ وَيَكْشِفُ ضُرَّهُمْ مَعَ غِنَاهُ عَنْهُمْ وَافْتِقَارِهِمْ إلَيْهِ )([99]).
سئل الشيخ إبن عثيمين : ما حكم التعلق بالأسباب ؟
فأجاب : التعلق بالأسباب أقسام :
القسم الأول : ما ينافي التوحيد في أصله, وهو أن يتعلق الإنسان بشيء لا يمكن أن يكون له تأثير ويعتمد عليه إعتماداً كاملاً معرضاً عن الله مثل تعلق عباد القبور بمن فيها عند حلول المصائب. وهذا شرك أكبر مخرج عن الملة. وحكم الفاعل ما ذكره الله تعالى في قوله } : إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ{ (المائده: 72).
القسم الثاني : أن يعتمد على سبب شرعي صحيح مع غفلته عن المسبب وهو الله تعالى, فهذا نوع من الشرك, ولكن لا يخرج من الملة, لأنه اعتمد على السبب ونسي المسبب وهو الله تعالى .
القسم الثالث : أن يتعلق بالسبب تعلقا مجرداً لكونه سببا فقط مع إعتماده الأصلي على الله, فيعتقد أن هذا السبب من الله, وأن الله لو شاء قطعه ولو شاء لأبقاه وأنه لا أثر للسبب في مشيئة الله عز وجل, فهذا لا ينافي التوحيد لا أصلاً ولا كمالاً .
ومع وجود الأسباب الشرعية الصحيحة, ينبغي للإنسان ألاّ يعلق نفسه بالسبب بل يعلقها بالله, فالموظف الذي يتعلق قلبه في مرتبه تعلقاً كاملاً مع الغفلة عن المسبب وهو الله فهذا نوع من الشرك, أما إذا اعتقد أن المرتب سبب والمسبب هو الله سبحانه وتعالى فهذا لا ينافي التوكل, والرسول صلى الله عليه وسلم كان يأخذ بالأسباب مع اعتماده على المسبب وهو الله عز وجل)([100]).
المحور السادس:
الفرق بين دعاء العبادة ودعاء المسألة:
قلنا أن كل دعاء موجه إلى الله تعالى فهو عبادة. سواء أكان الدعاء دعاء عبادة كقول نبي الله يونس u : ﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾[الأنبياء/87]. أو كان دعاء مسألة, كقول النبي موسى u : ﴿ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾[الأعراف/151].
تأمّل معي هذه الآيات التي سأوردها لك ليتوضح لديك أن دعاء المسألة عبادة لا تختلف عن العبادات المتعارف عليها من صلاة وصيام:
قال الله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾[يونس/22].
فقوله تعالى: ﴿ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ هل يمكن حملها على غير النداء والتضرع إلى الله والطلب منه النجاة؟!
وقال أيضاً: ﴿ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ﴾[العنكبوت/65].
وقال أيضاً: ﴿ وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ ﴾[لقمان/32].
فهل لعاقل بعد صريح معنى دعاء الله في هذه الآيات أن يقول: نداء الله والإستغاثة به، وطلب المعونة منه ليس عبادة؟
وإذا أقر المرء بأن هذا النوع من الدعاء عبادة، فمن الطبيعي أن يكون قصد التوجه إلى غير الله تعالى في مثل تلك الأحوال هو صرف للعبادة لغير الله تعالى.
ولا يخفى أن صرف أي جزء من العبادة لغير الله تعالى هو من الشرك الذي لا يغفره الله تعالى، ويحبط عمل الإنسان مهما كان.
يقول الشيخ عبدالله دشتي: ( والقول بأن دعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة كلام معقول إن قصد به أن من يعبد الله لا بد أن يسأله ويطلب منه )([101]). وهذا كلام لطيف منه، وإقرار بأن عبادة الله تعالى مستلزمة لسؤاله والطلب منه.
ثم يضيف قائلاً : ( وأما القول الآخر أي أن دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة فلم أعرف له معنى محصلا ! فهل يقصد به أن كل من يدعو دعاء مسألة يعني أن فعله يتبطن دعاء عبادة للمدعو أو المسئول ؟! بمعنى إذا سألت حاجة من أخيك فدعاء المسألة يتضمن دعاء عبادة له ، أو أن ما ذكره عز وجل ﴿ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ ﴾ (القصص / 15 ) وهو دعاء مسألة يعنى أن استغاثة الذي من شيعته تضمنت دعاء عبادة لموسى u؟! هل لهذا الكلام معنى معقول ؟! لا أعرف ، على أصحاب هذه الرؤية توضيح الأمر!!)([102]).
ولتوضيح هذا الكلام نقول:
إن دعاء الله تعالى دعاء مسألة أو دعاء عبادة هو من العبادة, يقول شيخ الإسلام إبن تيمية:( فَإِنَّ الدُّعَاءَ فِي الْقُرْآنِ يُرَادُ بِهِ هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً وَيُرَادُ بِهِ مَجْمُوعُهُمَا؛ وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ. فَإِنَّ دُعَاءَ الْمَسْأَلَةِ هُوَ طَلَبُ مَا يَنْفَعُ الدَّاعِيَ وَطَلَبُ كَشْفِ مَا يَضُرُّهُ وَدَفْعِهِ. وَكُلُّ مَنْ يَمْلِكُ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ فَإِنَّهُ هُوَ الْمَعْبُودُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِلنَّفْعِ وَالضُّرّ. وَلِهَذَا أَنْكَرَ تَعَالَى عَلَى مَنْ عَبَدَ مَنْ دُونِهِ مَا لَا يَمْلِكُ ضُرًّا وَلَا نَفْعًا. وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿ وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ ﴾ وَقَالَ:﴿ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ ﴾ فَنَفَى سُبْحَانَهُ عَنْ هَؤُلَاءِ الْمَعْبُودِينَ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ الْقَاصِرَ وَالْمُتَعَدِّيَ فَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلَا لِعَابِدِيهِمْ. وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ يُبَيِّنُ تَعَالَى أَنَّ الْمَعْبُودَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِلنَّفْعِ. وَالضُّرِّ فَهُوَ يَدْعُو لِلنَّفْعِ وَالضُّرِّ دُعَاءَ الْمَسْأَلَةِ وَيَدْعُو خَوْفًا وَرَجَاءً دُعَاءَ الْعِبَادَةِ فَعُلِمَ أَنَّ النَّوْعَيْنِ مُتَلَازِمَانِ فَكُلُّ دُعَاءِ عِبَادَةٍ مُسْتَلْزِمٌ لِدُعَاءِ الْمَسْأَلَةِ. وَكُلُّ دُعَاءِ مَسْأَلَةٍ مُتَضَمِّنٌ لِدُعَاءِ الْعِبَادَةِ. وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ:﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ ﴾ يَتَنَاوَلُ نَوْعَيْ الدُّعَاءِ. وَبِكُلِّ مِنْهُمَا فُسِّرَتْ الْآيَةُ. قِيلَ: أُعْطِيهِ إذَا سَأَلَنِي. وَقِيلَ: أُثِيبُهُ إذَا عَبَدَنِي. وَالْقَوْلَانِ مُتَلَازِمَانِ. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ كِلَيْهِمَا أَوْ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ ؛ بَلْ هَذَا اسْتِعْمَالُهُ فِي حَقِيقَتِهِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا فَتَأَمَّلْهُ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ عَظِيمُ النَّفْعِ وَقُلْ مَا يُفْطَنُ لَهُ.)([103]).
أما دعاء المخلوق للمخلوق في أمر من أمور الدنيا, أو الإستعانة به في قضاء حاجة معينة, ليس من خصائص الله تعالى فهذا ليس من العبادة في شيء. والفارق بين الأمرين هو أن سؤال المخلوق الحي أو الميت أمراً هو من خصائص الله تعالى؛ لابد أن يصحبه إعتقادٌ ما في قدرة المخلوق الميت أو الحي الغائب جعل صاحب السؤال أو الطلب يحيد عن سؤال الحي الذي لا يموت الذي ليس لقدرته حدود إلى سؤال الميت أو الحي الغائب الذي لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً إلاّ ما شاء الله.
يقول شيخهم عبدالله دشتي: ( الأمر الآخر الذي يتفق عليه الجميع هو اعتقاد المشركين بقدرة الآلهة الذاتية على الضر والنفع لوضوحه في مثل قوله تعالى ﴿ وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ﴾ (مريم / 81)، وقوله عز وجل ﴿ وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ ﴾ (يس / 74 )، وهو صريح قوله تعالى ﴿ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ ﴾ (هود / 101 )، وقال تعالى ﴿ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلَا هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَ ﴾ (الأنبياء / 43).
لكننا نختلف في شيء آخر، فالوهابية تقول إن المشركين يعتقدون أن ضرها ونفعها يقتصر على الشفاعة عند الإله الأكبر فقط دون الاستقلال في ذلك لأنهم موحدون لله في الربوبية، فلا تقدر الآلهة على النفع أو الضر إلا بالاستشفاع إلى الله وذلك في مقابل الرأي الآخر الذي يرى أنهم اعتقدوا بقدرتها الذاتية على النفع والضر في بعض الأمور وفي بعضها الآخر يكون على نحو الشفاعة عند الله الإله الأكبر، بل هي لم تعد آلهة إلا لأنها تقدر بنفسها ولو في بعض شئون الكون.
والخلاصة أن المشركين كانوا يعتقدون بأن الآلهة التي عبدوها وآمنوا بها تضر وتنفع، ولا شك بأن أصحاب الرؤية الوهابية يؤمنون بأنهم كانوا يرونها تنفع وتضر، وقد صرح القرآن بأن النصرة هي الغاية التي من أجلها اتخذوا آلهة من دون الله كما هو صريح آية سورة يس الآنفة.
ولكن ما تريد الوهابية التأكيد عليه أن المشركين اعتقدوا بأن ضرها ونفعها يقتصر على التشفع بها إلى الإله الأكبر فقط وقبول الإله الأكبر لشفاعتها، ولم يعتقدوا بأن لها القدرة الذاتية على الضر والنفع وبنحو مستقل عن الله، وهذا معنى أنهم موحدون في الربوبية)([104]).
يقال للشيخ عبدالله الدشتي:
1. إن إعتقاد المشركين بأن آلهتهم التي يدعونها من دون الله هي مربوبة ومقهورة تحت قدرة الإله الأكبر الذي له الخلق والأمر مانع من إعتقادهم بأن لآلهتهم القدرة الذاتية على النفع والضر. قال تعالى: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾[الزمر/38].
فإقرارهم هذا يوحي بإن آلهتهم التي يدعونها من دون الله ليس لها من الأمر شيء، فهي مقهورة تحت مشيئة الإله الخالق.
ولهذا كانت من حجة الله عليهم أن قال لهم: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾[الأحقاف/4].
﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾[القصص/71، 72].
فلو كانوا يعتقدون أن لآلهتهم قدرة ذاتية على النفع والضر لكانت لها أيضاً قدرة على الخلق والشرك في السموات؛ ولما صح توجه خطاب الله تعالى لهم، ولأنه يمكنهم القول أن لآلهتهم شرك في السموات بما ملكهم الله تعالى.
2. كان على الشيخ الدشتي أن لا يغيب عن باله أن آلهة المشركين المنحوتة على شكل أوثان من الحجر أو الشجر إنما هي أصنام لعباد الله الصالحين. ومتى كان المشركون يعتقدون أن لهؤلاء الصالحين في حياتهم قدرة ذاتية على النفع والضر من دون الله تعالى حتى تكون لهم تلك القدرة بعد وفاتهم؟!
3. إن مما ينفي القدرة الذاتية لآلهة المشركين على النفع والضر الذاتيين هو قوله تعالى في قصة محاججة إبراهيم u لقومه: ﴿ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء/66-68]. فكيف يقول لهم إبراهيم u :﴿ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ﴾ وهم يعتقدون أن لآلهتهم القدرة الذاتية على النفع والضر؟
ثم من الذي نصر الآخر؟ الآلهة نصرتهم أم هم نصروا آلهتهم بقولهم: ﴿ حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ﴾.
4. إن القول بأن المشركين كانوا يعتقدون بأن لآلهتهم القدرة الذاتية على النفع والضر هو من إختراع الشيعة.
فإن كان دليلهم قوله تعالى: ﴿ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ﴾[مريم/81]. فليس فيها دليل على إعتقادهم بالقدرة الذاتية على النفع والضر، وغاية ما فيها أنهم إتخذوا هذه الآلهة لأنهم الأقرب إلى الله، وهكذا هم يستطيعون التوسط إلى الله، ليقرِّبوهم إليه.
يقول شيخهم الطباطبائي في تفسير الميزان: (هؤلاء الآلهة هم الملائكة والجنّ والقديسون من الإنس وجبابرة الملوك. ومعنى كونهم له عزاً: كونهم شفعاء لهم يقرّبونهم إلى الله بالشفاعة)([105]).
وقال شيخهم عبدالله شبر في تفسيره: ( شفعاء يعتزون بهم ).
وهذا كله يؤكد أن تفسير أهل السنة ( الوهابية ) بأن شفاعة الآلهة في إعتقاد المشركين تقتصر في الشفاعة هو الصحيح.
وسواء إتفق الوهابية مع الشيعة في أن المشركين كانوا يعتقدون أن لآلهتهم قدرة مستقلة على النفع والضر، أو أن قدرتها تنحصر في الشفاعة فقط، فإن هذا الأمر يتعلق بإعتقاد الشيعة أن لأئمتهم نوعا من التصرف في الكون وتدبير العالم، سواء أقالوا بقدرتهم الذاتية، أو أن الله أقدرهم بقدرته، فلو أن الشيعة لم يعتقدوا أن لأئمتهم قدرة على النفع والضر بما لهم مكانة عند الله بحيث أنهم يشفعون لكل من يطلب منهم الشفاعة عند الله؛ لما عدلوا عن طلبها من الله تعالى الذي هو معهم أينما كانوا، وهو يسمعهم ويراهم ويعلم ما تكنه صدورهم قبل أن يتكلم به اللسان، أو يتحرك به الشفاه، إلى طلبها من الإمام الميت.
فالفعل متحد بين الشيعة والمشركين، فالمشركون كانوا يطلبون من الأصنام التي هي في حقيقتها صور وتماثيل لأناس صالحين، والشيعة يطلبون من القبور والأضرحة.
والفرق بينهم ينحصر في أن المشركين كانوا يقصرون دور الآلهة في الشفاعة عند الله تعالى، لأن المشركين كانوا يتضرعون عند أصنامهم التي هي بالأصل عباد صالحون ويقربون القرابين لهم لتقوم تلك الأصنام بتقريبهم من الله تعالى.
أما الشيعة فعمموا دور الأئمة في كل شيء، فجميع إختصاصات الله تعالى وضعت تحت تصرف الأئمة، بدعوى إقدار الله تعالى لهم ـ كما يقولون.
وسنفصل القول أكثر عندما نتكلم في موضوع الشفاعة.
خلاصة التحقيق في الخلاف الأول:
بعد أن بيّنا صيغة دعاء الأنبياء والأولياء في القرآن والسنة، وما ورد عن أئمة أهل البيت y تبين لنا ما يلي:
· لم نجد في دعاء الأنبياء التي وردت في القرآن والسنة، أنهم توجهوا إلى غير الله تعالى في الدعاء.
· لم نجد في القرآن الكريم آية واحدة صريحة تدل أو تجيز دعاء من هو من دون الله.
· ورد في كثير من الآيات الأمر بدعاء الله تعالى بأسمائه الحسنى والتوجه إليه والطلب المباشر منه والنهي عن دعاء من هو من دون الله، سواء أكان الدعاء دعاء عبادة أو دعاء مسألة.
· ورد عن أئمة أهل البيت أن الله تعالى قريب من عباده وأنه لا يوجد من يحجبه عن عباده، ولم يلجئه إلى من يشفع له عنده. بل ورد عن أبي الحسن الرضا أنه قال: (دعْوَةٌ تُخْفِيهَا أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ سَبْعِينَ دَعْوَةً تُظْهِرُهَا)([106]). وخفاء الدعاء يوجب أن يكون بين الله تعالى وبين عبده دون التوسل بأحد من خلقه حتى لا يطّلع عليه.
· لم يُنقل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا عن أهل بيته، نقلاً صحيحاً أنهم أمروا الناس أن يجعلوهم وسائط بينهم وبين الله تعالى، ولا أمروهم بالتوسل إلى الله بهم، أو طلب الشفاعة منهم. وغاية ما نُقل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه أمر بالصلاة عليه في الدعاء، وأن ( كل دعاء محجوب حتى يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم)([107]). وأين الصلاة على النبي التي هي دعاء من التوسل أو طلب الدعاء.
· النقل الصحيح والعقل الصريح يدلان على عدم جواز التوجه بالسؤال إلى المخلوق الضعيف الغائب ( بعيداً كان أم ميتاً ) وترك الحي الذي لا يغيب ولا ينام ولا يغفل: ﴿ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [الأنعام/59]، ﴿ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾[يونس/61].
· إن إستدلال الشيعة بأن دعاء الميت والقصد إليه بالسؤال والطلب منه جائز ولا يدخل صاحبه في عداد المشركين؛ ما لم يعتقد النفع والضر الذاتي في الميت. أي لا بأس بالطلب من الميت إذا إعتقد أن إستجابة الولي الميت لدعائه يكون بإقدار من الله تعالى.
فالفعل متحد مع أفعال المشركين، والفارق بينهما في الإعتقاد الذي لا يظهر لأنه من أعمال القلوب.
لقد تمعنت في هذا القول كثيراً فما وجدت له دليلاً لا في الكتاب ولا في السنة ولا في روايات أهل البيت.
يقول الله تعالى في المحاججة التي وقعت بين إبراهيم u وبين قومه: ﴿ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ﴾[الأنبياء/68]. فإن كانوا هم الذين ينصرون آلهتهم لأنها عاجزة عن حماية نفسها؛ فكيف يُقال بعد ذلك أن المشركين كانوا يعتقدون أن لآلهتهم نفعاً وضراً ذاتيين؟!
لقد نهى الله تعالى المسلمين عن قول﴿ راعنا ﴾ لأن هذه الكلمة مسبة على لسان اليهود، فكيف يُقال بعد ذلك بجواز تشابه أفعال المسلمين بأفعال المشركين في دعاء من هو من دون الله؟!
إلى هنا فالحجة والدليل والبرهان مع أهل السنة ( الوهابية )، وليس مع الشيعة إلاّ إدّعاءات الغرض منها تجويز ما يفعلونه من تصرفات خاطئة عند قبور أئمتهم التي توارثوها عن أسلافهم، والتي بها يستديم دين الشيعة ويبقى ويستمر، لتستمر معه المشيخات، ويستمر معها تدفق الأموال إليهم.
الباب الخامس
الخلاف في اثر الحياة والموت في الدعاء
الفصل الأول: حقيقة الموت وعلاقة الأحياء بالأموات.
المحور الأول: الموت حقيقة، أم وهم:
المحور الثاني: علاقة الأحياء بالأموات:
أولاً : سماع الميت:
ثانياً: إنتفاع الميت بالحي:
ثالثاً: إنتفاع الحي بالميت:
رابعاً: الصلاة على النبي دعاء:
الفصل الثاني: ماهية الشفاعة التي يملكها الميت:
المحور الأول : معنى الشفاعة:
أولاً: الشفاعة حقيقة قرآنية:
ثانياً: الشفاعة التي أكدها القرآن الكريم هي خاصة بيوم القيامة بعد الحشر:
ثالثا: الشفاعة تكون بين الأحياء فقط:
المحور الثاني: طلب الشفاعة من الأموات
الشفاعة في حياة الأنبياء
المحور الثالث: أسباب التوجه إلى غير الله تعالى في الدعاء أو الشفاعة
المحور الرابع: العلاقة السببية في التوسل بين السائل والمتوسل به
الفصل الثالث: الفرق بين الدعاء والتوسل والشفاعة
الطرق الشرعية لنيل الشفاعة
الباب الخامس
الخلاف في أثر الحياة والموت في الدعاء
الفكر الشيعي يزعم أنه ( لو استعان أحد بولي ـ حياً كان أو ميتاً ـ على شيء موافق لما جرت عليه العادة أو مخالف للعادة كقلب العصا ثعباناً، والميت حياً، باعتقاد أنّ المستعان إله، أو ربّ، أو مفوّض إليه بعض مراتب التدبير والربوبية فذلك شرك دون جدال.
وأمّا إذا طلب منه كلّ ذلك أو بعضه بما أنّه عبد لا يقدر على شيء إلاّ بما أقدره اللّه عليه، وأعطاه وأنّه لا يفعل ما يفعل إلاّ بإذن اللّه تعالى، وإرادته، فالاستعانة به وطلب العون منه حينئذٍ من صلب التوحيد، من غير فرق بين أن يكون الولي المستعان به حيّاً أو ميّتاً، وأن يكون العمل المطلوب منه عملاً عادياً أو خارقاً للعادة.)([108]).
ويضيف شيخهم جعفر السبحاني قائلاً: ( ثمّ إنّ القائلين بأنّ دعاء الصالحين عبادة، عند مواجهتهم لهذا القسم من الآيات وما تقتضيه الحياة الاجتماعية، يتشبثون بكلّ طحلب حتى ينجيهم من الغرق ويقولون إنّ هذه الآيات تعود إلى الأحياء ولا صلة لها بدعاء الأموات، فكون القسم الاَوّل جائزاً وأنّه غير عبادة؛ لا يلازم جواز القسم الثاني وكونه غير عبادة.
ولكن عزب عن هؤلاء إنّ الحياة والموت ليسا حدين للتوحيد والشرك ولا ملاكين لهما، بل هما حدّان لكون الدعاء مفيداً أو لا، وبتعبير آخر ملاكان للجدوائية وعدمها.
فلو كان الصالح المدعو غير قادر لأجل موته مثلاً تكون الدعوة أمراً غير مفيد لا عبادة له، ومن الغريب أن يكون طلب شيء من الحيّ نفس التوحيد ومن الميت نفس الشرك)([109]).
ويقول أيضاً وتحت عنوان: التوسل بدعاء النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والصالحين بعد رحيلهم: ( من أقسام التوسل الرائجة بين المسلمين هو التوسل بدعاء النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أو الصالحين بعد رحيلهم.
ولكن ثمة سؤَالاً يطرح نفسه وهو:
إنّ التوسل بدعاء الغير إنّما يصحّ إذا كان الغير حياً يسمع دعاءك ويستجيب لك ويدعو اللّه سبحانه لقضاء وطرك ونجاح سوَالك، أمّا إذا كان المستغاث ميتاً انتقل من هذه الدنيا فكيف يصحّ التوسل بمن انتقل إلى رحمة اللّه وهو لا يسمع؟
والجواب: إن الموت ـ حسب ما يوحي إليه القرآن والسنّة النبوية ـ ليس بمعنى فناء الاِنسان وانعدامه، بل معناه الانتقال من دار إلى دار وبقاء الحياة بنحو آخر والذي يعبر عنه بالحياة البرزخية).
ويضيف قائلاً وتحت عنوان ( الصلة بين الحياتين: الدنيوية والبرزخية ) : ( ربما يمكن أن يقال: انّ الآيات دلت على كون الشهداء والاَولياء بل الكفار أحياء، ولكن لا دليل على وجود الصلة بين الحياتين وانّهم يسمعون كلامنا، وهذا هو الذي نطرحه في المقام ونقول:
دلّ الذكر الحكيم على وجود الصلة بين الحياة الدنيوية والبرزخية بمعنى انّ الأحياء بالحياة البرزخية يسمعون كلامنا ويشاهدون أفعالنا، وليسوا بمنقطعين تمام الانقطاع عن الحياة الدنيوية وإليك شواهد من الآيات.
1. قال سبحانه: ﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمينَ* فَتَولّى عَنْهُمْ وَقال َيا قَومِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النّاصحينَ﴾ ( الاَعراف/78ـ 79..)
نزلت الآيات في قصة النبي صالح حيث دعا قومه إلى عبادة اللّه وترك التعرض لمعجزته (الناقة) وعدم مسِّها بسوء، ولكنّهم بدل ذلك فقد عقروا الناقة وعتوا عن أمر ربّهم فعمَّهم العذاب فأصبحوا في دارهم جاثمين، فعند ذلك عاد النبي صالح يخاطبهم وهم هلكى، بقوله: ﴿فَتَولى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَومِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النّاصِحينَ﴾ .
وقد صدر الخطاب من النبي صالح (عليه السلام) بعد هلاكهم وموتهم، بشهادة قوله: (فتَولّى عَنْهُم) في صدر الخطاب المصدرة بالفاء المشعرة بصدور الخطاب عقيب هلاك القوم.
فلو لم تكن هناك صلة بين الحياتين لما خاطبهم النبي صالح بهذا الخطاب.
2. قال سبحانه: ﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمينَ* الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوا فِيها الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرينَ* فَتَوَلّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَومٍ كافِرينَ﴾(الاَعراف/91ـ 93. )
وقد وردت هذه الآية في حقّ النبي شعيب (عليه السلام) ودلالة الآية كدلالة سابقتها، حيث يخاطب شعيبُ قومَه بعد هلاكهم، فلو كانت الصلة مفقودة ولم يكن الهالكون بسبب الرجفة سامعين لخطاب نبيهم، فما معنى خطابه لهم؟
3. قال سبحانه: ﴿ وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ الِهَةً يُعْبَدُونَ﴾ (الزخرف/45 ) ترى انّه سبحانه يأمر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بسؤَال الأنبياء الذين بعثوا قبله وأمّا مكان السؤَال فلعلّه كان في ليلة الإسراء.
السنة الشريفة والصلة بين الحياتين
ثمة روايات متضافرة بل متواترة تدل على وجود الصلة بين الحياتين، وجمع هذه الروايات بحاجة إلى تأليف كتاب مفرد. ونكتفي هنا بالحديث المتفق عليه بين المسلمين وهو تكليم النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أهل القليب)([110]).
أما الفكر السني ( الوهابي ) فإنه وإن سلم بأن الميت يسمع بعد الموت، إلاّ أن للإنسان بعد الموت حياةً تختلف عن الحياة الدنيا، وما أوردته الشيعة من أدلة على وجود صلة بين الحياتين ليست كافية في جواز دعاء الميت والطلب منه, أو الإستغاثة به.
الفصل الأول
حقيقة الموت وعلاقة الأحياء بالأموات
المحور الأول:
الموت حقيقة، أم وهم:
للوقوف على حقيقة الموت لا بد لنا أن نرجع إلى القرآن الكريم الذي قال الله تعالى فيه: ﴿ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ﴾ [الشورى/10].
لقد وردت كلمة الموت ومشتقاتها في القرآن الكريم في أكثر من( 50 ) خمسين موضعاً، نذكر منها:
قوله تعالى: ﴿ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المنافقون/10، 11].
وقوله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون/99، 100].
وقوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الجمعة/8].
وقوله: ﴿ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ﴾[الدخان/56].
وقوله: ﴿ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾[سبأ/14].
وقوله: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران/185].
وقوله: ﴿ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾[النساء/18].
وقوله: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ [آل عمران/144].
وقوله: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ﴾[الفرقان/58].
وقوله تعالى: ﴿ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾[البقرة/258].
وقوله: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ﴾ [الحج/6، 7].
وقوله: ﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ ﴾[فاطر/22، 23].
ونقرأ أيضاً في معنى الموت ـ القتل:
قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾[النساء/93].
وقوله تعالى: ﴿ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ﴾[المائدة/32].
وقوله: ﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾[البقرة/154].
وقوله: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [آل عمران/169، 170].
والذي يستوقفنا في هذه الآيات جملة أمور نذكر منها:
· إن من أكبر الفرق بين الخالق وبين المخلوق، أن الخلائق كلها تموت، وأن الله تعالى هو الحي الذي لا يموت. إستناداً إلى قوله تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾, وقوله: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ ﴾. فالموت هنا تعبير عن إنتهاء الحياة الدنيا والإنتقال إلى حياة غيرها، وهي الحياة الآخرة، والقبر أول منازلها.
· إن من مات لا يرجع إلى الحياة الدنيا، إستناداً إلى قوله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾[المؤمنون/99، 100]
· هناك فرق وعدم تساوي بين الميت والحي، لقوله تعالى: ﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ ﴾. فما هو هذا الفرق؟ أول هذا الفرق هو إنقطاع عمله وأجره إلاّ ما كان هو سبباً فيه، ويشهد لهذا ما رواه الكافي في بَابُ مَا يَلْحَقُ الْمَيِّتَ بَعْدَ مَوْتِهِ: عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ u قَالَ: ( لَيْسَ يَتْبَعُ الرَّجُلَ بَعْدَ مَوْتِهِ مِنَ الْأَجْرِ إِلَّا ثَلَاثُ خِصَالٍ صَدَقَةٌ أَجْرَاهَا فِي حَيَاتِهِ فَهِيَ تَجْرِي بَعْدَ مَوْتِهِ وَسُنَّةُ هُدًى سَنَّهَا فَهِيَ يُعْمَلُ بِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ ).وعَنْ أَبِي كَهْمَسٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ u قَالَ سِتَّةٌ تَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَلَدٌ يَسْتَغْفِرُ لَهُ وَمُصْحَفٌ يُخَلِّفُهُ وَغَرْسٌ يَغْرِسُهُ وَقَلِيبٌ يَحْفِرُهُ وَصَدَقَةٌ يُجْرِيهَا وَسُنَّةٌ يُؤْخَذُ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ. كما أن الميت ينقطع إتصاله بالحياة الدنيا، وإلاّ لما سأل الله تعالى الرجعة. حتى الشهداء فإنهم يسألون الرجعة, ليُقتلوا في سبيل الله مرة أخرى لما يرون من تكريم الله تعالى لهم. فقد جاء في صحيح البخاري - (ج 9 / ص 361) عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( مَا مِنْ عَبْدٍ يَمُوتُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَأَنَّ لَهُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا إِلَّا الشَّهِيدَ لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى). لذا فإن حياة الشهداء هي حياة خاصة بهم، وهي حياة عند الله تعالى، ونحن لا نعلم كنهها، ولا يشعر الأحياء بها؛ بدليل قوله تعالى: ﴿ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ وقوله:﴿ بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾, كقوله تعالى: ﴿ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ﴾ [فصلت/38]. وهذه الحياة هي حياة أشبه بالحياة التي يمر بها البشر من الجنين والولادة، فالحياة الدنيا، ثم حياة البرزخ، ثم الحياة الآخرة، ولكل من هذه الأطوار التي يمر بها الإنسان قوانين وأحكام خاصة بها، تختلف عن غيرها. فمثلاً الجنين يبقى في بطن أمه تسعة أشهر، ثم يلد. وبعد الولادة لو أدخل في بطن أمه مرة ثانية، لمات بعد برهة وجيزة من الزمن؛ مع أنه عاش في ذلك المكان تسعة أشهر. فإثبات حياة للشهداء عند الله تعالى لا يعني ضرورة وجود إتصال بينهم وبين الأحياء في الحياة الدنيا.
· إن الميت لا يدري ما يجري حوله في الدنيا، وذلك إستناداً إلى قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾. إذ لو إنعدم الفرق بين الحياة والموت، لما سمح سليمان u للجن أن يتحللوا من أمره. وكذلك الجن لم يكونوا يعلمون بموت سليمان u إلاّ بعد أن وقع من الكرسي. وكذلك قوله تعالى حكاية عن نبي الله عيسى u : ﴿ وكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾( المائدة 117). فهذان نبيان أحدهما من أولي العزم من الرسل، لا يعرفان ما يحدث بعد وفاتهما؛ فكيف بغير الأنبياء؟ ونبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً لا يدري ما يحدث في أمته بعد وفاته بدليل الحديث الذي يرويه البخاري في صحيحه عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ( إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا ﴿ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾. ثُمَّ إِنَّ أَوَّلَ مَنْ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ أَلَا إِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أَصْحَابِي فَيُقَالُ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ : ﴿ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ إِلَى قَوْلِهِ شَهِيدٌ ﴾، فَيُقَالُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ).
فلو كان نبينا صلى الله عليه وآله وسلم يدري ما يحدث حوله في الجزيرة العربية، كيف يُقال له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك! وكيف يعلم ما يجري في بلدان العالم؟
· إن القول بعدم الموت، يترتب عليه: أن الميت يُدفن وهو حي! وأن الميت لا ينقطع عنه التكليف! وأن على الميت أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأن عليه أن ينصر المظلوم على الظالم.
· من أسماء الله تعالى ( المحيي والمميت)، ومن صفاته وخصائصه التي تميزه عن مخلوقاته، أنه { يحيي الموتى} وأنه { يبعث من في القبور} وأنه ﴿ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ , والقول بعدم الموت يعني نفي هذه الأسماء والخصائص عن الله تعالى، ومن نفى عن الله تعالى إسماً من أسمائه المثبتة في القرآن، أو نفى عنه صفةً من صفات الجمال والكمال فقد كفر.
المحور الثاني:
علاقة الأحياء بالأموات:
موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها، وخروجها منها، فإن أريد بموتها هذا القدر، فهي ذائقة الموت، وإن أريد أنها تعدم وتفنى بالكلية، فهي لا تموت بهذا الاعتبار، بل هي باقية بعد خلقها في نعيم أو في عذاب.
لذا فإن حياة الروح تمر بمراحل ثلاثة:
دار الدنيا: هي الدار التي نشأت النفس فيها وألفتها واكتسبت فيها الخير والشر، وأسباب السعادة والشقاوة، وأحكام دار الحياة الدنيا متوجهة إلى الأبدان، والأرواح تبع لها، ولأجل ذلك جعل الله سبحانه الأحكام الشرعية مرتبه على ما يظهر من حركات اللسان والجوارح، وإن أضمرت النفوس خلافه.
ويتخلل تعلق الروح بالجسد في دار الدنيا تعلق أخص، وهو تعلقها به عندما يكون الإنسان جنيناً في بطن أمه، وآخر وهو تعلقها به في حال النوم، فإن للروح بالجسد تعلقا من جهة، ومفارقة من جهة أخرى.
وأما الدار الثانية: وهي دار البرزخ فإنها أوسع من دار الحياة الدنيا وأعظم، بل نسبتها إلى الدنيا، كنسبة الدنيا إلى رحم الأم، وأحكام الحياة البرزخية على الأرواح والأبدان تبع لها.
وأما الدار الثالثة: وهي دار القرار وهي الجنة أو النار، فلا دار بعدها، وفي هذه الدار يكون تعلق الروح بالجسد أكمل أنواع تعلقاتها بالبدن، إذ هو تعلق لا يقبل البدن معه موتا ولا نوما ولا فسادا.
والذي يهمنا في هذا الموضوع هو الحياة البرزخية التي يعيشها الميت في القبر الذي هو أول منزل من منازل الآخرة.
القبر أول منازل الآخرة:
إذا فارقت الروح البدن في الحياة الدنيا، فإن الروح تنتقل إلى حالة أخرى لها أحكام خاصة تختلف عن أحكامها عندما كانت متلبسة بالبدن.
ونحن وإن كنّا لا نعلم حقيقة هذه الحياة وكنهها، إلاّ أننا نؤمن بها لورود الأدلة الصحيحة من الكتاب والسنة بها. والذي يعنينا من هذا الموضوع هو العلاقة بين هذه الحياة التي يعيشها الروح في هذه المرحلة، وبين الأحياء الذين يعيشون الحياة الدنيا.
أما عن ماهية إتصال الروح بالبدن بعد مفارقتها للبدن عند الموت فهذا في علم الله تعالى لأنه غيب عنّا.
ولنا أن نستدل بالقرآن الكريم والسنة الصحيحة ونسترشد بأقوال العلماء الثقاة في هذا الموضوع ليتسنى لنا معرفة سماع الميت من عدمه، ومعرفة إنتفاع الميت بالحي، وإنتفاع الحي بالميت، ومن ثم معرفة حقيقة الخلاف في هذه العناوين.
أولاً : سماع الميت:
لقد وردت في القرآن الكريم آيتين في هذا الموضوع، آية واحدة في موضعين، وهي: قوله تعالى: ﴿ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ﴾[النمل/80][ الروم:52].
وآية أخرى: ﴿ إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي القُبُور ﴾ [ فاطر : 22 ]
قال الشنقيطي في أضواء البيان:
( إعلم أن التحقيق الذي دلت عليه القرائن القرآنية واستقراء القرآن، أن معنى قوله هنا: إنك لا تسمع الموتى لا يصح فيه من أقوال العلماء، إلا تفسيران:
الأول: أن المعنى: إنك لا تسمع الموتى: أي لا تسمع الكفار، الذين أمات الله قلوبهم ، وكتب عليهم الشقاء في سابق علمه إسماع هدى وانتفاع، لأن الله كتب عليهم الشقاء، فختم على قلوبهم، وعلى سمعهم، وجعل على قلوبهم الأكنة، وفي آذانهم الوقر، وعلى أبصارهم الغشاوة، فلا يسمعون الحق سماع اهتداء وانتفاع . .
التفسير الثاني: هو أن المراد بالموتى الذين ماتوا بالفعل، ولكن المراد بالسماع المنفي في قوله: ﴿ إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى ﴾ خصوص السماع المعتاد الذي ينتفع صاحبه به، وأن هذا مثل ضرب للكفار، والكفار يسمعون الصوت، لكن لا يسمعون سماع قبول بفقه وإتباع كما قال تعالى: ﴿ وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً ﴾ [ البقرة : 171 ] ، فهكذا الموتى الذين ضرب بهم المثل لا يجب أن ينفى عنهم جميع أنواع السماع كما لم ينف ذلك عن الكفار، بل قد انتفى عنهم السماع المعتاد الذي ينتفعون به، وأما سماع آخر فلا، وهذا التفسير الثاني جزم به واقتصر عليه العلامة أبو العباس ابن تيمية رحمه الله، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله في هذا المبحث . .
ثم ذكر الأحاديث النبوية الشريفة التي تثبت سماع الميت للأحياء.)([111]).
ويضيف قائلاً: في ( قوله تعالى: ﴿ وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ﴾ الآية هذه الآية تدل بظاهرها على أن الشهداء أحياء غير أموات, وقد قال في آية أخرى لمن هو أفضل من كل الشهداء صلى الله عليه وسلم: ﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ﴾:
(والجواب عن هذا أن الشهداء يموتون الموتة الدنيوية فتورث أموالهم وتنكح نساءهم بإجماع المسلمين, وهذه الموتة التي أخبر الله نبيه أنه يموتها صلى الله عليه وسلم وقد ثبت في الصحيح عن صاحبه الصديق رضي الله عنه أنه قال لما توفي صلى الله عليه وسلم: "بأبي أنت وأمي والله لا يجمع الله عليك موتتين, أما الموتة التي كتب الله عليك فقد متها" وقال: "من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات". واستدل على ذلك بالقرآن ورجع إليه جميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم التي ثبت في الحديث أنه يرد بها السلام على من سلم عليه فكلتاهما حياة برزخية ليست معقولة لأهل الدنيا, أما في الشهداء فقد نص تعالى على ذلك بقوله: ﴿ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ ﴾, وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم: "تجعل أرواحهم في حواصل طيور خضر ترتع في الجنة وتأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش فهم يتنعمون بذلك", وأما ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من أنه لا يسلم عليه أحد إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام وأن الله وَكَّل ملائكته يبلغونه سلام أمته فإن تلك الحياة أيضا لا يعقل حقيقتها أهل الدنيا لأنها ثابتة له صلى الله عليه وسلم مع أن روحه الكريمة في أعلى عليين مع الرفيق الأعلى فوق أرواح الشهداء فتعلق هذه الروح الطاهرة التي هي في أعلى عليين بهذا البدن الشريف الذي لا تأكله الأرض يعلم الله حقيقته ولا يعلمها الخلق كما قال في جنس ذلك ﴿ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ﴾ ولو كانت كالحياة التي يعرفها آهل الدنيا لما قال الصديق رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم مات ولما جاز دفنه ولا نصب خليفة غيره ولا قتل عثمان ولا اختلف أصحابه ولا جرى على عائشة ما جرى ولسألوه عن الأحكام التي اختلفوا فيها بعده كالعول وميراث الجد والاخوة ونحو ذلك.
وإذا صرح القرآن بأن الشهداء أحياء في قوله تعالى بل أحياء, وصرح بأن هذه الحياة لا يعرف حقيقتها أهل الدنيا بقوله: ﴿وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ﴾, وكان النبي صلى الله عليه وسلم أثبت حياته في القبر بحيث يسمع السلام ويرده وأصحابه الذين دفنوه صلى الله عليه وسلم لا تشعر حواسهم بتلك الحياة عرفنا أنها حياة لا يعقلها أهل الدنيا أيضا, ومما يقرب هذا للذهن حياة النائم فإنه يخالف الحي في جميع التصرفات مع أنه يدرك الرؤيا ويعقل المعاني والله تعالى أعلم.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب الروح ما نصه: "ومعلوم بالضرورة أن جسده صلى الله عليه وسلم في الأرض طرى مطرا وقد سأله الصحابة: كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ فقال: "إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء" ولو لم يكن جسده في ضريحه لما أجاب بهذا الجواب, وقد صح عنه "إن الله وكل بقبره ملائكة يبلغونه عن أمته السلام", وصح عنه أنه خرج بين أبي بكر وعمر وقال: "هكذا نبعث" هذا مع القطع بأن روحه الكريمة في الرفيق الأعلى في أعلى عليين مع أرواح الأنبياء, وقد صح عنه أنه رأى موسى يصلي في قبره ليلة الإسراء ورآه في السماء السادسة أو السابعة, فالروح كانت هناك ولها اتصال بالبدن في القبر وإشراف عليه وتعلق به بحيث يصلي في قبره ويرد سلام من يسلم عليه وهي في الرفيق الأعلى ولا تنافي بين الأمرين, فإن شأن الأرواح غير شأن الأبدان". انتهى محل الغرض من كلام ابن القيم بلفظه, وهو يدل على أن الحياة المذكورة غير معلومة الحقيقة لأهل الدنيا. قال تعالى: ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ﴾ والعلم عند الله)([112]).
أما السنة النبوية الشريفة فقد جاء فيها:
عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِيهِ خُلِقَ آدَمُ وَفِيهِ النَّفْخَةُ وَفِيهِ الصَّعْقَةُ فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهِ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيْكَ وَقَدْ أَرَمْتَ يَعْنِي بَلِيتَ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ) (سنن ابن ماجه - (ج 3 / ص 386).
وفي الصحيحين عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثَلَاثًا ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَامَ عَلَيْهِمْ فَنَادَاهُمْ فَقَالَ: ( يا أبا جهْلِ بْنَ هِشَامٍ يَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ يَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ أَلَيْسَ قَدْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا فَسَمِعَ عُمَرُ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَسْمَعُوا وَأَنَّى يُجِيبُوا وَقَدْ جَيَّفُوا قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ فَسُحِبُوا فَأُلْقُوا فِي قَلِيبِ بَدْرٍ ) ( صحيح مسلم - (ج 14 / ص 37).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ )( سنن أبي داود - (ج 5 / ص 417). وحسنه الألباني.
وعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: ( اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ وَسَلُوا لَهُ بِالتَّثْبِيتِ فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ )( سنن أبي داود - (ج 9 / ص 24). وصححه الألباني.
وفي الصحيحين عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( الْعَبْدُ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتُوُلِّيَ وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ أَتَاهُ مَلَكَانِ فَأَقْعَدَاهُ فَيَقُولَانِ لَهُ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ فَيُقَالُ انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنْ النَّارِ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنْ الْجَنَّةِ ) قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا وَأَمَّا الْكَافِرُ أَوْ الْمُنَافِقُ فَيَقُولُ لَا أَدْرِي كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فَيُقَالُ لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ). ( صحيح البخاري - (ج 5 / ص 113).
فإذا ثبت أن الميت يسمع الحي، فهل يعني أنه بإستطاعته أن ينفعه؟ وهل هو قادر على أن ينفع نفسه، فيزيد من حسناته؟ حتى يكون قادراً على منفعة غيره؟ ولماذا جعل الله لهذا الحي أجلاً حتى إذا جاءته المنية، سأل الله تعالى أن يؤخره ليستدرك ما فاته؟
ثانياً: إنتفاع الميت بالحي:
لقد دلت الأدلة من الطرفين أن الميت ينتفع بدعاء الحي له، وبالإستغفار الذي هو من الدعاء، وإستبراء ذمته من بعض العبادات المالية كالحج والصدقة. ومن الأدلة على هذا:
ما جاء في صحيح البخاري: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا قَالَ: ( نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَةً اقْضُوا اللَّهَ فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ).
وفي الكافي عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ u قَالَ: ( يَنْبَغِي لِأَوْلِيَاءِ الْمَيِّتِ مِنْكُمْ أَنْ يُؤْذِنُوا إِخْوَانَ الْمَيِّتِ بِمَوْتِهِ فَيَشْهَدُونَ جَنَازَتَهُ وَيُصَلُّونَ عَلَيْهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ فَيُكْتَبُ لَهُمُ الْأَجْرُ وَيُكْتَبُ لِلْمَيِّتِ الِاسْتِغْفَارُ وَيَكْتَسِبُ هُوَ الْأَجْرَ فِيهِمْ وَفِيمَا اكْتَسَبَ لِمَيِّتِهِمْ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ).
وفيه أيضاً عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ u قَالَ: ( إِذَا حَضَرَ الْمَيِّتَ أَرْبَعُونَ رَجُلًا فَقَالُوا اللَّهُمَّ إِنَّا لَا نَعْلَمُ مِنْهُ إِلَّا خَيْراً قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ قَبِلْتُ شَهَادَتَكُمْ وَغَفَرْتُ لَهُ مَا عَلِمْتُ مِمَّا لَا تَعْلَمُونَ).
وفيه أيضاً عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ u قَالَ: ( لَيْسَ يَتْبَعُ الرَّجُلَ بَعْدَ مَوْتِهِ مِنَ الْأَجْرِ إِلَّا ثَلَاثُ خِصَالٍ صَدَقَةٌ أَجْرَاهَا فِي حَيَاتِهِ فَهِيَ تَجْرِي بَعْدَ مَوْتِهِ وَسُنَّةُ هُدًى سَنَّهَا فَهِيَ يُعْمَلُ بِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ).
وقال الشيخ الألباني: ( وينتفع الميت من عمل غيره بأمور:
أولا: دعاء المسلم له إذا توفرت فيه شروط القبول لقول الله تبارك وتعالى:
﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر/10]
وأما الأحاديث فهي كثيرة جدا منها قوله صلى الله عليه وسلم:
( صحيح ) ( دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل ).
بل إن صلاة الجنازة جلها شاهد لذلك لأن غالبها دعاء للميت واستغفار له كما تقدم بيانه.
ثانيا: قضاء ولي الميت صوم النذر عنه وفيه أحاديث:
الأول: ( صحيح ) عن عائشة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من مات وعليه صيام صام عنه وليه ). وهو محمول على صيام النذر دون صيام رمضان وبيانه في الأصل
الثاني: عن ابن عباس رضي الله عنه: ( صحيح ) ( أن امرأة ركبت البحر فنذرت إن الله تبارك وتعالى أنجاها أن تصوم شهرا فأنجاها الله عز وجل فلم تصم حتى ماتت فجاءت قرابة لها [ إما أختها أو ابنتها ] إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال:
[ أرأيتك لو كان عليها دين كنت تقضيه؟ قالت: نعم. قال: فدين الله أحق أن يقضى ] . [ ف ] اقضي [ عن أمك ] ).
ثالثا: قضاء الدين عنه من أي شخص وليا كان أو غيره كما تقدم
رابعا: ما يفعله الولد الصالح من الأعمال الصالحة فإن لوالديه مثل أجره دون أن ينقص من أجره شيء لأن الولد من سعيهما وكسبهما والله عز وجل يقول: ؟ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ؟ وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( صحيح ) ( إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه ).
ويؤيد ما دلت عليه الآية والحديث أحاديث خاصة وردت في انتفاع الوالد بعمل ولده الصالح كالصدقة والصيام والعتق ونحوه وهذه بعضها:
خامسا: ما خلفه من بعده من آثار صالحة وصدقات جارية لقوله تبارك وتعالى : ﴿ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ ﴾ ( يس:12)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( صحيح ) ( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة [ أشياء ] إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له ).
الأول: ( صحيح ) عن عائشة رضي الله عنها: ( أن رجلا قال: إن أمي افتلتت نفسها [ ولم توص ] وأظنها لو تكلمت تصدقت فهل لها أجر إن تصدقت عنها [ ولي أجر ] ؟ قال: نعم [ فتصدق عنها ]).
الثاني: ( حسن ) عن عبد الله بن عمر: ( أن العاص بن وائل السهمي أوصى أن يعتق عنه مائة رقبة فأعتق ابنه هشام خمسين رقبة وأراد ابنه عمرو أن يعتق عنه الخمسين الباقية قال: حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أبي أوصى أن يعتق عنه مائة رقبة وإن هشاما أعتق عنه خمسين وبقيت عليه خمسون أفأعتق عنه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنه لو كان مسلما فأعتقتم أو تصدقتم عنه أو حججتم عنه بلغه ذلك ( وفي رواية ): فلو كان أقر بالتوحيد فصمت وتصدقت عنه نفعه ذلك ).
ثم قال: ( وتشرع زيارة القبور للاتعاظ بها وتذكرة الآخرة شريطة أن لا يقول عندها ما يغضب الرب سبحانه وتعالى كدعاء المقبور والاستغاثة به من دون الله تعالى أو تزكيته والقطع له بالجنة ونحو ذلك وفيه أحاديث معروفة . . والنساء كالرجال في استحباب زيارة القبور.([113]))أهـ.
وفي الكافي: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِنَانٍ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ u كَيْفَ التَّسْلِيمُ عَلَى أَهْلِ الْقُبُورِ فَقَالَ: ( نَعَمْ تَقُولُ : السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ أَنْتُمْ لَنَا فَرَطٌ وَنَحْنُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ).
وفيه: عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي الْمِقْدَامِ قَالَ مَرَرْتُ مَعَ أَبِي جَعْفَرٍ u بِالْبَقِيعِ فَمَرَرْنَا بِقَبْرِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِنَ الشِّيعَةِ قَالَ: فَوَقَفَ عَلَيْهِ u فَقَالَ: ( اللَّهُمَّ ارْحَمْ غُرْبَتَهُ وَصِلْ وَحْدَتَهُ وَآنِسْ وَحْشَتَهُ وَأَسْكِنْ إِلَيْهِ مِنْ رَحْمَتِكَ مَا يَسْتَغْنِي بِهَا عَنْ رَحْمَةِ مَنْ سِوَاكَ وَأَلْحِقْهُ بِمَنْ كَانَ يَتَوَلَّاهُ).
وفي نهج البلاغة عن علي u وَقَدْ رَجَعَ مِنْ صِفِّينَ فَأَشْرَفَ عَلَى الْقُبُورِ بِظَاهِرِ الْكُوفَةِ: يَا أَهْلَ الدِّيَارِ الْمُوحِشَةِ وَالْمَحَالِّ الْمُقْفِرَةِ وَالْقُبُورِ الْمُظْلِمَةِ يَا أَهْلَ التُّرْبَةِ يَا أَهْلَ الْغُرْبَةِ يَا أَهْلَ الْوَحْدَةِ يَا أَهْلَ الْوَحْشَةِ أَنْتُمْ لَنَا فَرَطٌ سَابِقٌ وَنَحْنُ لَكُمْ تَبَعٌ لَاحِقٌ أَمَّا الدُّورُ فَقَدْ سُكِنَتْ وَأَمَّا الْأَزْوَاجُ فَقَدْ نُكِحَتْ وَأَمَّا الْأَمْوَالُ فَقَدْ قُسِمَتْ هَذَا خَبَرُ مَا عِنْدَنَا فَمَا خَبَرُ مَا عِنْدَكُمْ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَمَا لَوْ أُذِنَ لَهُمْ فِي الْكَلَامِ لَأَخْبَرُوكُمْ أَنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى).
وقال شيخ الإسلام إبن تيمية:
( فَالزِّيَارَةُ الشَّرْعِيَّةُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُ الزَّائِرِ الدُّعَاءَ لِلْمَيِّتِ ؛ كَمَا يُقْصَدُ بِالصَّلَاةِ عَلَى جِنَازَتِهِ الدُّعَاءُ لَهُ . فَالْقِيَامُ عَلَى قَبْرِهِ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ : ﴿ وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ ﴾ فَنَهَى نَبِيَّهُ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ وَالْقِيَامِ عَلَى قُبُورِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ. فَلَمَّا نَهَى عَنْ هَذَا وَهَذَا لِأَجْلِ هَذِهِ الْعِلَّةِ وَهِيَ الْكُفْرُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى انْتِفَاءِ هَذَا النَّهْيِ عِنْدَ انْتِفَاءِ هَذِهِ الْعِلَّةِ. وَدَلَّ تَخْصِيصُهُمْ بِالنَّهْيِ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُمْ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُقَامُ عَلَى قَبْرِهِ إذْ لَوْ كَانَ هَذَا غَيْرَ مَشْرُوعٍ فِي حَقِّ أَحَدٍ لَمْ يُخَصُّوا بِالنَّهْيِ وَلَمْ يُعَلَّلْ ذَلِكَ بِكُفْرِهِمْ. وَلِهَذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ عَلَى الْمَوْتَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْقِيَامُ عَلَى قُبُورِهِمْ مِنْ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ وَشَرَعَ ذَلِكَ لِأُمَّتِهِ وَكَانَ إذَا دُفِنَ الرَّجُلُ مَنْ أُمَّتِهِ يَقُومُ عَلَى قَبْرِهِ وَيَقُولُ { سَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ } رَوَاهُ أَبُو داود وَغَيْرُهُ . وَكَانَ يَزُورُ قُبُورَ أَهْلِ الْبَقِيعِ وَالشُّهَدَاءِ بِأُحُدٍ وَيُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ إذَا زَارُوا الْقُبُورَ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ { السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بِكُمْ لَاحِقُونَ وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَمِنْكُمْ وَالْمُسْتَأْخِرِين نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ . اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إلَى الْمَقْبَرَةِ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ } وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ صَحِيحَةٌ مَعْرُوفَةٌ. فَهَذِهِ الزِّيَارَةُ لِقُبُورِ الْمُؤْمِنِينَ مَقْصُودُهَا الدُّعَاءُ لَهُمْ)([114]).
ثالثاً: إنتفاع الحي بالميت:
مما لاشك فيه وكما أن الميت ينتفع بدعاء الحي، فنفس الدعاء ينتفع به الحي أيضاً، إذ ما من مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب، إلاّ وكّل الله ملكاً ليقول له ولك مثل ذلك؛ ففي الكافي عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ صلى الله عليه وآله وسلم فِي قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ قَالَ: ( هُوَ الْمُؤْمِنُ يَدْعُو لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ فَيَقُولُ لَهُ الْمَلَكُ آمِينَ وَيَقُولُ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ وَلَكَ مِثْلَا مَا سَأَلْتَ وَقَدْ أُعْطِيتَ مَا سَأَلْتَ بِحُبِّكَ إِيَّاهُ).
وفيه أيضاً عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ u قَالَ كَانَ أَبِي u يَقُولُ: ( خَمْسُ دَعَوَاتٍ لَا يُحْجَبْنَ عَنِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى دَعْوَةُ الْإِمَامِ الْمُقْسِطِ وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَأَنْتَقِمَنَّ لَكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ وَدَعْوَةُ الْوَلَدِ الصَّالِحِ لِوَالِدَيْهِ وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ الصَّالِحِ لِوَلَدِهِ وَدَعْوَةُ الْمُؤْمِنِ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ فَيَقُولُ وَلَكَ مِثْلُهُ).
وفيه أيضاً: عن علِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُنْدَبٍ بِالْمَوْقِفِ فَلَمْ أَرَ مَوْقِفاً كَانَ أَحْسَنَ مِنْ مَوْقِفِهِ مَا زَالَ مَادّاً يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى خَدَّيْهِ حَتَّى تَبْلُغَ الْأَرْضَ فَلَمَّا انْصَرَفَ النَّاسُ قُلْتُ لَهُ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ مَا رَأَيْتُ مَوْقِفاً قَطُّ أَحْسَنَ مِنْ مَوْقِفِكَ قَالَ وَاللَّهِ مَا دَعَوْتُ إِلَّا لِإِخْوَانِي وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا الْحَسَنِ مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ u أَخْبَرَنِي أَنَّهُ مَنْ دَعَا لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ نُودِيَ مِنَ الْعَرْشِ وَلَكَ مِائَةُ أَلْفِ ضِعْفِ مِثْلِهِ فَكَرِهْتُ أَنْ أَدَعَ مِائَةَ أَلْفِ ضِعْفٍ مَضْمُونَةً لِوَاحِدٍ لَا أَدْرِي يُسْتَجَابُ أَمْ لَا.
وفي صحيح مسلم عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( مَا مِنْ مَيِّتٍ تُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَبْلُغُونَ مِائَةً كُلُّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُ إِلَّا شُفِّعُوا فِيهِ ) وفي رواية أخرى: ( مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ عَلَى جَنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا لَا يُشْرِكُونَ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلَّا شُفِّعُوا فِيهِ).
وفي الكافي عَنْ عَمْرِو بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ u قَالَ: ( إِذَا حَضَرَ الْمَيِّتَ أَرْبَعُونَ رَجُلًا فَقَالُوا: اللَّهُمَّ إِنَّا لَا نَعْلَمُ مِنْهُ إِلَّا خَيْراً قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ قَبِلْتُ شَهَادَتَكُمْ وَغَفَرْتُ لَهُ مَا عَلِمْتُ مِمَّا لَا تَعْلَمُونَ ).
وفي مسند الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول في صلاته على الجنازة: (الّلهُمَّ أَنْتَ رَبُّهَا، وَأَنْتَ خَلَقْتَهَا وَأنْتَ هَدَيْتَهَا لِلإِسْلاَمِ، وَأنْتَ قَبَضْتَ روُحَهَا وَأنْتَ أعْلَمُ بِسِرهَا وَعَلانِيَتِهَا جِئْنَا شُفَعَاءَ فَاغْفِرْ لَهُ).
رابعاً: الصلاة على النبي دعاء:
وحتى الصلاة والسلام على النبي عليه الصلاة والسلام فإنها دعاء، لأن المصلي يطلب من الله تعالى أن يثني على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: ( اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد )، ولكن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ليس بحاجة إلى هذا الدعاء؛ وإنما منفعته ترجع إلى المصلي نفسه، وذلك لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَمَلَائِكَتُهُ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُقِلَّ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُكْثِرْ)([115]).
وهكذا الحال في عباد الله الصالحين من الأموات، فهم وإن كانت أرواحهم في الجنة تتنعم، إلاّ أن فائدة الدعاء لهم مردودة علينا بتأمين الملائكة على دعائنا لهم.
هذه هي الفائدة المرجوة من الأموات للأحياء, ومن قال بغير هذا فعليه بالدليل.
ومن قال أن الميت يملك أن ينفع الحي مستقلاً أو بإذن الله أو عن طريق الشفاعة عند الله في الحياة الدنيا فعليه بالدليل.
الفصل الثاني
ماهية الشفاعة التي يملكها الميت
قبل الكلام في الشفاعة التي يملكها الميت من عدمها، ينبغي التعرف على معنى الشفاعة وشروطها وأركانها؛ ثم ننتقل بعدها للكلام في مدى تحقق هذه الشروط والأركان في الميت ليكون قادراً على شفاعة الحي من عدمها.
المحور الأول: الشفاعة:
معنى الشفاعة:
قال أبو جعفر الطبري: ( والشفاعة مصدر من قول الرجل: شفع لي فلان إلى فلان شفاعة وهو طلبه إليه في قضاء حاجته. وإنما قيل للشفيع شفيع وشافع لأنه ثنى المستشفع به، فصار به شفعا فكان ذو الحاجة - قبل استشفاعه به في حاجته- فردا، فصار صاحبه له فيها شافعا، وطلبه فيه وفي حاجته شفاعة. ولذلك سمي الشفيع في الدار وفي الأرض شفيعا لمصير البائع به شفعا.) ( تفسير الطبري - (ج 1 / ص 31)
وقال إبن منظور في لسان العرب - (ج 8 / ص 183): ( والشَّافِعُ الطالب لغيره يَتَشَفَّعُ به إِلى المطلوب يقال تَشَفَّعْتُ بفلان إِلى فلان فَشَفّعَني فيه واسم الطالب شَفِيعٌ ).
وقال الخليل بن أحمد في العين - (ج 1 / ص 60): ( والشَّافعُ: الطالب لغيره: وتقول: استشفعت بفلان فتشفع لي إليه فشَفَّعَهُ فيّ. والاسم: الشفاعة. واسم الطالب: الشَّفيع.).
إذن فالشفاعة: هي الطلب من الشخص أن يساعدك في أمر أنت طالبه، كأن يتوسط لك ، أو يأتي معك إلى الذي عنده حاجتك، أو يتصل بالشخص فيطلب منه قضاء حاجتك. وهي تنقسم إلى قسمين : شفاعة حسنة ، وشفاعة سيئة، قال تعالى: ﴿ مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا﴾ (سورة النساء 85).
فَالشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ إعَانَةٌ عَلَى خَيْرٍ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؛ مِنْ نَفْعِ مَنْ يَسْتَحِقُّ النَّفْعَ وَدَفْعِ الضُّرِّ عَمَّنْ يَسْتَحِقُّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْهُ . والشَّفَاعَةُ السَّيِّئَةُ إعَانَتُهُ عَلَى مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَالشَّفَاعَةِ الَّتِي فِيهَا ظُلْمُ الْإِنْسَانِ أَوْ مَنْعُ الْإِحْسَانِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ. وَفُسِّرَتْ الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ بِالدُّعَاءِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالسَّيِّئَةُ بِالدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ، وَفُسِّرَتْ الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَكُلُّ هَذَا صَحِيحٌ. فَالشَّافِعُ زَوْجُ الْمَشْفُوعِ لَهُ إذْ الْمَشْفُوعُ عِنْدَهُ مِنْ الْخُلُقِ إمَّا أَنْ يُعِينَهُ عَلَى بِرٍّ وَتَقْوَى وَإِمَّا أَنْ يُعِينَهُ عَلَى إثْمٍ وَعُدْوَانٍ.
في دَعَائِمُ الْإِسْلَامِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ آبَائِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَنَّهُ نَهَى عَنِ الشَّفَاعَةِ فِي الْحُدُودِ وَقَالَ: ( مَنْ شَفَعَ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ لِيُبْطِلَهُ وَسَعَى فِي إِبْطَالِ حُدُودِهِ عَذَّبَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ )([116]).
وعلى هذا الأساس فإن الشفاعة أمر متعارف عليها في الدنيا، كما هي حقيقة قرآنية موجودة في الحياة الآخرة، كما سنتبين ذلك.
إذن فللشفاعة أركان منها:
الطالب للشفاعة، والمطلوب منه الشفاعة، وموضوع الشفاعة، أي الأمر المطلوب فيه الشفاعة.
فإذا تخلف أحد أركان الشفاعة، لم ينتج أثرها. فمثلاً لو أردت من شخصٍ ما أن يشفع لك في أمرٍ ما عند شخصٍ ما، فرد طلبك، ولم يقبل أن يشفع لك، فقد بطلت هذه الشفاعة.
ونفس الشخص إذا قبل أن يشفع لك، ولكن الطرف الآخر الذي عنده حاجتك رفض قبول طلب الشفيع، فأيضاً بطلت الشفاعة.
وكذلك الحال إذا كان محل الطلب لا يقبل الشفاعة، أيضاً لم تنتج الشفاعة أثرها.
هذا فيما يخص الشفاعة في أمر من أمور الدنيا. أما الشفاعة في الآخرة، فتحتاج إلى بحث وتفصيل، فنقول:
أولاً: الشفاعة حقيقة قرآنية:
من المسلمات بين الشيعة وأهل السنة، أن الشفاعة حقيقة أكدها القرآن الكريم:
كقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [البقرة/254]
وقوله تعالى: ﴿ يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا ﴾ [طه/109]
وقوله تعالى: ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ [الأعراف/53].
ثانياً: الشفاعة التي أكدها القرآن الكريم هي خاصة بيوم القيامة بعد الحشر:
كقوله تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ [البقرة/48].
وقد أكد هذه الحقيقة شيخ الشيعة المفيد بقوله: ( إتفقت الاِمامية على أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشفع يوم القيامة لجماعة من مرتكبي الكبائر من أُمته، وأنّ أمير المؤمنين عليه السلام يشفع في أصحاب الذنوب من شيعته، وأنّ أئمة آل محمد عليهم السلام كذلك، وينجي الله بشفاعتهم كثيراً من الخاطئين).( أوائل المقالات ).
ولكن الشفاعة في الآخرة ليست ملك الشفيع، يتصرف فيها حسبما يراها، بل هي ملك لله تعالى كما قال: ﴿ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [الزمر/44].
وعلى هذا فالشفاعة في يوم القيامة لها شروط:
1- إذن الله للشافع أن يشفع، كما قال تعالى: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة: 255].
2 - رضى الله عن المشفوع له، كما قال تعالى: ﴿ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى ﴾ [الأنبياء: 28] ، وقد جمع الله هذين الشرطين في قوله - تعالى -: ﴿ وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ﴾ [النجم: 26] .
3 - إسلام المشفوع له، كما قال تعالى: ﴿ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ ﴾ [غافر: 18] (234).
4 - قدرة الشافع على الشفاعة، كما قال تعالى: ﴿ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [يونس: 18] ، وقال: ﴿ وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [الزخرف: 86] .
ثالثا: الشفاعة تكون بين الأحياء فقط:
لو أمعنّا النظر في الشفاعة في الدنيا، والشفاعة في الآخرة، لوجدناها بين الأحياء فقط.
أما الشفاعة في الدنيا، فلا يحتاج إلى ما يثبت أنها بين الأحياء، إذ لا معنى لأن يذهب الشخص إلى ميت ويقول له: إشفع لي عند الوزير الفلاني، أو المدير الفلاني أن يعينني على قضاء حاجتي. فهذا أمر يرفضه العقل والمنطق.
أما الشفاعة في الآخرة: فهي أيضاً بين الأحياء، لأنها ستقع بعد أن يحشر الله تعالى الخلائق ليوم الحساب، حيث الكل أحياء محشورون ليوم الفصل.
والقرآن الكريم أكد هذه الحقيقة في جميع المواضع التي ذكر فيها الشفاعة, كقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [البقرة/254].
وكذلك فإن السنة النبوية الشريفة، وروايات أئمة أهل البيت أكدت أن شفاعة الأنبياء والأولياء، هي مختصة بيوم القيامة.
"فعن زرعة عن سماعة عن أبي عبد الله u قال: سألته عن شفاعة النبي يوم القيامة قال: يلجم الناس يوم القيامة العرق فيقولون انطلقوا بنا إلى آدم يشفع لنا عند ربه فيأتون آدم فيقولون اشفع لنا عند ربك فيقول إن لي ذنبا وخطيئة فعليكم بنوح فيأتون نوحا فيردهم إلى من يليه ويردهم كل نبي إلى من يليه حتى ينتهون إلى عيسى فيقول عليكم بمحمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى جميع الأنبياء فيعرضون أنفسهم عليه ويسألونه فيقول انطلقوا فينطلق بهم إلى باب الجنة ويستقبل باب الرحمن ويخر ساجدا فيمكث ما شاء الله فيقول الله عز وجل ارفع رأسك واشفع تشفع وسل تعط وذلك قوله: ﴿ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً ﴾([117]).
"وعن سماعة بن مهران عن أبي إبراهيم u في قول الله : ﴿ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً ﴾ قال: يقوم الناس يوم القيامة مقدار أربعين عاما ويؤمر الشمس فيركب على رءوس العباد ويلجمهم العرق ويؤمر الأرض لا تقبل من عرقهم شيئا فيأتون آدم فيتشفعون منه فيدلهم على نوح ويدلهم نوح على إبراهيم ويدلهم إبراهيم على موسى ويدلهم موسى على عيسى ويدلهم عيسى فيقول عليكم بمحمد خاتم البشر فيقول محمد أنا لها فينطلق حتى يأتي باب الجنة فيدق فيقال له: من هذا والله أعلم فيقول: محمد فيقال: افتحوا له فإذا فتح الباب استقبل ربه فيخر ساجدا فلا يرفع رأسه حتى يقال له: تكلم وسل تعط واشفع تشفع فيرفع رأسه فيستقبل ربه فيخر ساجدا فيقال له مثلها فيرفع رأسه حتى أنه ليشفع من قد أحرق بالنار فما أحد من الناس يوم القيامة في جميع الأمم أوجه من محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو قول الله تعالى: ﴿ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً﴾"([118]).
إلى هنا لا يوجد خلاف بين المسلمين على هذه الشفاعة في الدنيا والآخرة.
بقي أن نعلم مدى جواز وأثر طلب الشفاعة من قبل المسلمين الأحياء في الحياة الدنيا من الأنبياء والأولياء بعد موتهم.
المحور الثاني:
طلب الشفاعة من الأموات:
طلب الدعاء من الحي ـ وهو أن يدعو الله لك ليقضي حاجتك ـ والتوسل بدعاء الغير، وطلب الشفاعة من الحي كلها بمعنى واحد. وهو أن يكون المسؤول قد شفع دعاءك بعد أن كنت وتراً، أي سأل الله تعالى لك ما كنت ترجوه.
وهناك فرق كبير بين أن تطلب من شخص حي أن يكون لك شفيعاً إلى الله في قضاء حاجتك، وبين أن تدعو الشخص الميت أن يكون شفيعاً لك إلى الله.
لأنك لا تعلم هل أن الميت إستجاب لك وقَبِلَ أن يكون فيك شفيعاً إلى الله ـ على فرض حياته في البرزخ كحياته في الدنيا ـ أم أنه ردّ طلبك لكونك لست أهلاً للشفاعة؟ أم أنه إستجاب لك ولكن الله تعالى رد شفاعته فيك؟
وقد سبق أن بيّنّا أن الطلب من الميت ليس بسنة من السنن الطبيعية، وليس من إتخاذ الأسباب الشرعية.
وموضوع دعاء الميت أو طلب الشفاعة منه سيجرنا إلى موضوع آخر، وهو هل أن الأنبياء والأولياء في حياتهم كانوا يقبلون أن يشفعوا لكل مَنْ طلب منهم الشفاعة؟ وهل أن شفاعتهم مقبولة في كل شيء، حتى نتوجه إليهم بالدعاء وطلب الشفاعة منهم بعد الموت؟
الشفاعة في حياة الأنبياء:
لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته يقبل أن يشفع لكل أحد، ولا أن كل من سأله الشفاعة كان محموداً في سؤاله، بيانها في ما يلي:
الأول: ليس كل من طلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان محموداً، ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعطي مَنْ سأله، وإن كان السائل آثماً قال صلى الله عليه وآله وسلم :( إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَسْأَلُنِي الْمَسْأَلَةَ فَأُعْطِيهَا إِيَّاهُ فَيَخْرُجُ بِهَا مُتَأَبِّطُهَا وَمَا هِيَ لَهُمْ إِلَّا نَارٌ قَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلِمَ تُعْطِيهِمْ قَالَ إِنَّهُمْ يَأْبَوْنَ إِلَّا أَنْ يَسْأَلُونِي وَيَأْبَى اللَّهُ لِي الْبُخْلَ)([119]). وَلَمَّا كَانَ عَامَ حنين قَسَمَ غَنَائِمَ حنين بَيْنَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ وَالطُّلَقَاءِ مِنْ قُرَيْشٍ كعيينة بْنِ حِصْنٍ وَالْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ وَأَمْثَالِهِمْ . وَبَيْنَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَصَفْوَانِ بْنِ أُمَيَّةَ وَعِكْرِمَةَ بْن أَبِي جَهْلٍ وَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَابْنِهِ مُعَاوِيَةَ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ الطُّلَقَاءِ الَّذِينَ أَطْلَقَهُمْ عَامَ الْفَتْحِ وَلَمْ يُعْطِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ شَيْئًا . أَعْطَاهُمْ لِيَتَأَلَّفَ بِذَلِكَ قُلُوبُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَتَأْلِيفُهُمْ عَلَيْهِ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ . وَاَلَّذِينَ لَمْ يُعْطِهِمْ هُمْ أَفْضَلُ عِنْدِهِ وَهُمْ سَادَاتٌ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ وَأَفْضَلُ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ بَعْد النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ وَاَلَّذِينَ أَعْطَاهُمْ مِنْهُمْ مَنْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَعَامَّتُهُمْ أَغْنِيَاءُ لَا فُقَرَاءُ)([120]).
الثاني: ليس كل من طلب من النبي الشفاعة أجابه إلى ما يريده، لأن الإنسان ربما لا يعلم مصلحته أكثر من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم . فقد ورد عن (عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلَا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ قُلْتُ بَلَى قَالَ هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ إِنِّي أُصْرَعُ وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ لِي قَالَ إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ فَقَالَتْ أَصْبِرُ فَقَالَتْ إِنِّي أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ لِي أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ فَدَعَا لَهَا)([121]).
الثالث: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يدعُ في حياته لمن علم أنه لا يستحق لطلبه. ففي حديث عكاشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ قَالُوا وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ هُمْ الَّذِينَ لَا يَكْتَوُونَ وَلَا يَسْتَرْقُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فَقَامَ عُكَّاشَةُ فَقَالَ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ قَالَ أَنْتَ مِنْهُمْ قَالَ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ قَالَ سَبَقَكَ بِهَا عُكَّاشَةُ)([122]).
فلما كان عكاشة t من هؤلاء دعا له، أو أنه بدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم صار منهم. أما الرجل الآخر فلم يدعُ له، ربما لأنه لا يستحق أن يكون منهم، أو لأنه صلى الله عليه وآله وسلم علم أن الله تعالى لا يستجيب دعاءه فيه.
الرابع: ما كل دعاء الأنبياء مستجاب: وهذا في حق الكافرين والمشركين واضح؛ فقد دعا نوح u أن يكون إبنه من المسلمين، فلم يُقبل منه. وإستغفر إبراهيم u لأبيه فلم يُقبل منه. واستغفر نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمنافقين فلم يقبل منه. أما في غير ذلك فق ورد أيضاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه دعا لأمته فلم يُقبل منه، فقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ( سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثًا فَأَعْطَانِي ثِنْتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالْغَرَقِ فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا)([123]).
فالرسول عليه الصلاة والسلام كان في حياته يخيّر بعض من يسأله الدعاء بين إجابة دعائه أو الصبر على البلاء، وفي آخرين كان يتصرف حسب ما تقتضيها الحكمة الإلهية.
أما بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم فتعترينا في الشفاعة عقبات:
الأولى: إنّ آيات الشفاعة لم تُعيّن على سبيل التحديد أفراد النّاس ومجاميعهم ممن تنالهم الشفاعة، كما أنّها لم تُعيّن الذنوب التي تُقبل الشفاعة فيها.
فمثلاً من أين يعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الذي طلب منه الشفاعة ليس بمنافق؟ لأنه منهي أن يشفع فيه أو أن يشفع له.
ومن أين يعلم أن طالب الشفاعة أهلاً ومحلاً قابلاً لشفاعته صلى الله عليه وآله وسلم ؟
الثانية: النبي أو الولي لا يشفع لأحد إلاّ بإذن الله تعالى ورضاه، فمن أين يعلم الولي أن الله تعالى رضي له أن يشفع، ورضي عن المشفوع له عمله؟
يقول الشيخ محمد حسين فضل الله: (وليس معنى «إذْن اللّه» للشفعاء أنه أعطاهم الحرية في ذلك، أو أنه يتقبل منهم ذلك على أساس خصوصيات علاقاتهم، ليتقرّب النّاس منهم بالوسائل الخاصة التي تثير مشاعرهم، وتؤكد علاقتهم بهم بشكل شخصي، كما هي الأشياء الشخصية، بل إنَّ معنى ذلك أنَّ اللّه جعل لهم هذه الكرامة ليستعملوها في ما يوافق رضاه، لأنَّ المفروض أنَّ رضاهم لا ينفصل عن خطّ رضاه، كما أنّ رضاه يتحرّك في آفاق حكمته، لا في آفاق رغبات القريبين إليه بالمعنى الذاتي للمسألة)([124]).
الثالثة: إن الذي نقل إلينا من طلب الشفاعة في حياة النبيصلى الله عليه وآله وسلم لا يزيد على حالتين أو ثلاث، في حين أن الذين يطلبون الشفاعة من النبي أو الولي بعد وفاته يبلغون باليوم الواحد المئات، بل الآلاف، فهل سيستجيب لكل هؤلاء ويتوسل إلى الله لكل واحد منهم؟ ومن أين يعلم الطالب للشفاعة أن النبي أو الولي قد قَبِل أن يشفع له؟
قال شيخ الإسلام إبن تيمية:( وَذَلِكَ لِأَنَّهُ فِي حَيَاتِهِ يَدْعُو هُوَ لِمَنْ تَوَسَّلَ بِهِ وَدُعَاؤُهُ هُوَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ أَفْضَلُ دُعَاءِ الْخَلْقِ فَهُوَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ فَدُعَاؤُهُ لِمَنْ دَعَا لَهُ وَشَفَاعَتُهُ لَهُ أَفْضَلُ دُعَاءِ مَخْلُوقٍ لِمَخْلُوقِ فَكَيْفَ يُقَاسُ هَذَا بِمَنْ لَمْ يَدْعُ لَهُ الرَّسُولُ وَلَمْ يَشْفَعْ لَهُ ؟ وَمَنْ سَوَّى بَيْنَ مَنْ دَعَا لَهُ الرَّسُولُ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يَدْعُ لَهُ الرَّسُولُ وَجَعَلَ هَذَا التَّوَسُّلَ كَهَذَا التَّوَسُّلِ فَهُوَ مِنْ أَضَلِّ النَّاسِ)([125]).
ولو تمعن المرء في هذا الأمر لظهرت له أسئلة كثيرة وكثيرة وهو في غنىً عنها لو توجه بدعائه إلى الله تعالى مباشرة.
بالإضافة إلى كل ما سبق قوله، فإن الإنسان إذا دعا الله تعالى سواء أكانت المسألة دعاء عبادة أو دعاء مسألة؛ فإنه مأجور لأن عمله هذا عبادة، فإن إستجاب الله لدعائه فقد حصل المطلوب. وإن لم يستجب له إدّخر له من الأجر بقدر ذلك في الآخرة، أو صرف عنه من السوء بقدر ذلك.
ففي الكافي عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ u قَالَ: ( إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا أَحَبَّ عَبْداً غَتَّهُ بِالْبَلَاءِ غَتّاً وَثَجَّهُ بِالْبَلَاءِ ثَجّاً فَإِذَا دَعَاهُ قَالَ لَبَّيْكَ عَبْدِي لَئِنْ عَجَّلْتُ لَكَ مَا سَأَلْتَ إِنِّي عَلَى ذَلِكَ لَقَادِرٌ وَلَئِنِ ادَّخَرْتُ لَكَ فَمَا ادَّخَرْتُ لَكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ).
فسؤال المخلوق للمخلوق يحرمه من هذا الأجر.
هذا وقد شبه بعض الصالحين دعاء المخلوق للمخلوق:( كإستغاثة الغريق بالغريق)([126]).أو ( كإستغاثة المسجون بالمسجون)([127]).
ويقول شيخ الإسلام إبن تيمية: ( فَإنّ سُؤَالَ الْمَخْلُوقِينَ فِيهِ ثَلَاثُ مَفَاسِدَ : مَفْسَدَةُ الِافْتِقَارِ إلَى غَيْرِ اللَّهِ وَهِيَ مِنْ نَوْعِ الشِّرْكِ . وَمَفْسَدَةُ إيذَاءِ الْمَسْئُولِ وَهِيَ مِنْ نَوْعِ ظُلْمِ الْخَلْقِ . وَفِيهِ ذُلٌّ لِغَيْرِ اللَّهِ وَهُوَ ظُلْمٌ لِلنَّفْسِ)([128]).
ومع هذا فلو عقدنا مقارنة بين ثلاثة أشخاص:
الأول: دعا لله تعالى مباشرة بأسمائه الحسنى، فقال: ( يَا أَجْوَدَ مَنْ أَعْطَى وَيَا خَيْرَ مَنْ سُئِلَ يَا أَرْحَمَ مَنِ اسْتُرْحِمَ يَا أَحَدُ يَا صَمَدُ يَا مَنْ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ يَا مَنْ لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَداً يَا مَنْ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ وَيَقْضِي مَا أَحَبَّ يَا مَنْ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ يَا مَنْ هُوَ بِالْمَنْظَرِ الْأَعْلَى يَا مَنْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ يَا سَمِيعُ يَا بَصِيرُ، أسألك أن تصلي على نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن تقضي لي حاجتي).
الثاني: دعا الله تعالى وتوسل إليه بنبيه صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ( اللهم إني أتوسل إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن تقضي حاجتي).
الثالث: توجه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو إلى علي t فقال: ( يا أمير المؤمنين u أسألك بمكانك عند الله أن تقضي لي حاجتي).
فأي الدعاء أحق بالإجابة؟ وأي حال الأشخاص الثلاثة موافق في دعائه للكتاب والسنة وسيرة الأئمة؟ وأي الدعاء أقصر طريقاً إلى الله تعالى.
والجواب الطبيعي لاشك يعلمه كل عاقل ترك التعصب الأعمى وإتباع الهوى، وتقليد الآباء والأسلاف؛ ورجع إلى الكتاب والسنة.
فطلب الشفاعة من الميت بالإضافة إلى أنه لم يرد به دليل صحيح فإنه مبني على مقدمات:
منها: أن الميت حيُّ في قبره، وأنه يعيش حياةً كحياته في الدنيا.
ومنها: أنه يسمع كل مَنْ يطلب منه الشفاعة ولو كثروا في آنٍ واحد، من بعيد أو قريب.
ومنها: أنه يعلم جميع اللغات التي بها يُطلب منه الشفاعة.
ومنها: أن الله تعالى قد أذن له بالشفاعة في السائل الطالب للشفاعة.
ومنها: أنه قادر على أن يجيبهم كلهم.
ومنها: أنه يستطيع تمييز مَنْ يستحق الشفاعة ومَنْ لا يستحق. أي يستطيع التعرف على المنافق ويميزه عن المؤمن.
ومنها: أنه يقبل أن يشفع للسائل.
ومنها: أن الله تعالى لا يرد له طلبه.
ومنها: أن السائل يعلم أن الميت سيستجيب له، ويدعو له.
كل هذه الأمور مبنية على طلب الشفاعة من الميت.
أما طلب الشفاعة من الحي، فإما يقبله، أو يرده بعلم الطالب. فإذا قبلها فبها ونعمت، وإن ردها فسيتجه الإنسان إلى غير ذلك من الأسباب.
المحور الثالث:
أسباب التوجه إلى غير الله تعالى في الدعاء أو الشفاعة:
لا يحيد الإنسان عن سؤال الله تعالى إلى سؤال غيره، إلاّ لأسباب:
· منها: أن يظن بأنه لا يعلم حتى يعلمه الواسطة. والله تعالى لا يغيب عنه شيء لا في الأرض ولا في السماء، ويعلم ما تخفي الصدور. وهو أقرب إلى العبد من نفسه الذي بين جنبيه.
· أو لا يرحم حتى يجعله الواسطة يرحم. والله تعالى أرحم بعباده من جميع خلقه، وهو القائل: ﴿ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ﴾[غافر/7].
· أو لا يجيب دعاء عباده حتى يسألوا الواسطة أن ترفع تلك الحاجات إليه، كما هو حال ملوك الدنيا. وهذا إضافة إلى أنه تشبيه للخالق بالمخلوق، فإن فيه إتهام لله تعالى بأنه ظالم لعباده، لا يستجيب لهم حتى يتوسطوا عنده بأحد المخلوقين.
يقول الشيخ فضل الله: تحت عنوان:( الشفاعة لا الوساطة ):
( أمّا الشفاعة التي جاء الحديث عنها في الآيات القرآنية، وفي الرِّوايات المتعدّدة عن السنة والشيعة، فإنها ليست حالة وساطةٍ بالمعنى الذي يفهمه النّاس في علاقاتهم بالعظماء لديهم، الذين قد لا يستطيع النّاس مخاطبتهم بشكل مباشرٍ، بسبب الحواجز المادية الفاصلة بينهم وبين النّاس، ولذلك يلجأ النّاس إلى الأشخاص الذين تربطهم بهم علاقة مودّةٍ أو مصلحةٍ أو موقع معيّنٍ ليكونوا الواسطة في إيصال مطالبهم إليهم، وقضاء حوائجهم عندهم.
إنَّ الشفاعة هي كرامةٌ من اللّه لبعض عباده، في ما يريد أن يُظهره من فضلهم في الآخرة، فيُشفِّعهم في من يريد المغفرة له ورفع درجته عنده، لتكون المسألة ـ في الشكل ـ واسطةً في النتائج التي يتمثّل فيها العفو الإلهي والنعيم الربّاني، تماماً كما لو كان النبيّ هو السبب، أو كان الوليّ هو الواسطة. ولكنَّها ـ في العمق ـ إرادة اللّه لذلك، مما لا يملك نبيٌّ مرسلٌ، أو ملك مقرّبٌ، أو وليٌّ امتحن اللّه قلبه بالإيمان، أمْرَ تغييرها في غير الاتجاه الذي تتحرّك فيه، وبذلك فإنهم يدرسون مواقع رضى اللّه في عباده ليقوموا بالشفاعة، أو ليأذن اللّه لهم بها.
وفي ضوء ذلك، لا معنى للتقرّب للأنبياء والأولياء ليحصل النّاس على شفاعتهم، لأنهم لا يملكون من أمرها شيئاً بالمعنى الذاتي المستقل، بل اللّه هو المالك لذلك كلّه على جميع المستويات، فهو الذي يأذن لهم بذلك في مواقع محدّدة ليس لهم أن يتجاوزوها، الأمر الذي يفرض التقرّب إلى اللّه في أن يجعلنا ممن يأذن لهم بالشفاعة له، أو الطلب إليهم أن يسألوا اللّه في الإذن لهم بالشفاعة لطالبها منهم. وهذا ما نفهمه من آيات الشفاعة في القرآن، التي تؤكد على أنها قضيةٌ تتصل باللّه، فليس لأحدٍ أن يمارسها إلاَّ بإذنه في من ارتضاهم لينالوا عفوه. قال تعالى: ﴿ لاَّ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَـنِ عَهْدا ﴾ ( مريم:87.) :﴿ يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـنُ وَرَضِىَ لَهُ قَوْلا ﴾ ( طه:109). ﴿ وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيّ الْكَبِيرُ ﴾ (سبأ:23). ﴿ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ﴾ (الأنبياء:28) ([129]).
· أو يظن أن للمخلوق عليه حقا، فهو يقسم عليه بحق ذلك المخلوق عليه، ويتوسل إليه بذلك المخلوق، كما يتوسل الناس إلى الأكابر والملوك بمن يعز عليهم ولا يمكنهم مخالفته. ولا حق لأحد على الله تعالى إلاّ ما أوجبه على نفسه من إثابة الموحد الذي لا يشرك بالله.
يقول الشيخ فضل الله:
( فليست هناك مراكز قوى تفرض نفسها على الله من موقع القوّة الذاتية التي تترك تأثيراتها على قراره، فيمن يعطيه أو فيمن يمنعه، لتكون هناك نقاط ضعفٍ في قدرته أو في عظمته الإلهية، ليحتاج الناس إلى التوسل إليه بالشفعاء حتى يصلوا من خلالهم إلى مواقع رحمته ورضاه، وليتعبدوا لهم للحصول على رضاهم الذي يؤدي للحصول على رضاه. فليس هناك أحدٌ أقرب إليه من أحد من حيث الذات، فهو الذي يقرّب بعض الناس إليه، ويمنحهم درجة القرب إليه من خلال أعمالهم، ويبقيهم في دائرة الخضوع له المنتظرين لإذنه في كل ما يفعلون أو يتركون، فيعرفون أنهم لا يملكون الشفاعة أمامه لأيِّ شخص لأنهم لا يملكون معه أيّ شيء، ﴿ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ﴾ في ذلك، فأراد تكريمه بالشفاعة لبعض الخاطئين الذين يريد أن يغفر لهم، بحيث تكون الشفاعة وظيفةً إلهيةً محدّدة الموقع معيَّنة الشخص والدور، من دون زيادة ولا نقصان. وفي ضوء ذلك، نفهم أن الشفاعة ليست حالةً ذاتيةً للشفعاء لدى الله، بل هي مهمّةٌ محدّدةٌ في دائرة المهمات التي قد يوكلها إلى بعض عباده لمصلحةٍ يراها، في وقتٍ محدود، ودور خاصٍ، ما يفرض على المؤمنين عدم الاستغراق في ذات النبي أو الولي طلباً للشفاعة، بل في توجيه الخطاب لله أن يمنحه الشفاعة من خلالهما)([130]).
فمادام الأمر على هذا الحال فليس من الصحيح أن يتوجه الإنسان إلى إنسان فقير مثله ليسأله حاجته، بل عليه أن يتوجه إلى خالق الإنسان ومسبب الأسباب.
يقول الشيخ فضل الله في تفسير قوله تعالى: ﴿ يَوْمَئذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـنُ وَرَضِىَ لَهُ قَوْلاً ﴾: ( لأنه المهيمن على الجميع، فلا يملك أحد منه شيئاً، فله الحكم الفصل والقضاء العدل الذي يحاصر الجميع في دائرة مسؤولياتهم، فيحيط بكل ما فعلوه، ويجازي كل واحد منهم بعمله، ولا يقبل من أحد رجاءً ولا شفاعةً في حق نفسه أو في حق غيره، لأن أيّ واحد منهم لا يملك حقاً ذاتياً في ذلك كله ﴿ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ﴾ في الشفاعة فأراد الله أن يكرمه بها ليجعل له الكرامة باستنقاذ من يريد الله أن ينقذه من النار، ويرحمه برحمته، وذلك هو الذي رضي الله قوله في ما يعبر عنه القول من العقيدة الصافية الحقة، والروح الراضية المرضية، والعمل الخالص الذي يتحرك في رضا الله من خلال وعي الإيمان، وطهر الإخلاص.
وفي ضوء هذه الآية، نستفيد تقرير مبدأ الشفاعة التي تأكَّد وجودها لدى بعض الأشخاص المقربين إلى الله، ولكن من خلال إعطاء الله له ذلك، فيكون القصد والتوجه لله في المسألة لا للشخص، لأنه لا يملك من أمر الشفاعة شيئاً في نفسه. وذلك هو الحد الفاصل بين الاستغراق في الشخص من خلال الاستغراق في ذاته، وبين الاستغراق في الله على أساس الكرامة التي يمنحها لبعض عباده في شفاعتهم للآخرين استجابة لإرادة الله له في ذلك؛ وهذا ما يعطي للعقيدة صفاءها فلا يطلب أحد من مخلوق شيئاً، بل يكون الطلب كله لله، والقصد إليه في كل شيء حتى في الشفاعة التي لا يملكها أحد إلاّ بإذنه.. )([131]).
المحور الرابع:
العلاقة السببية في التوسل بين السائل والمتوسل به:
ليس في إستحقاق العبد ـ نبياًّ كان أم ولياً ـ أن لا يعذبه الله تعالى، أو أن يكرمه ويدخله الجنة، من سبب بينه وبين شخص آخر يسأل الله تعالى بهذا الحق الذي هو في أحسن حالاته: حق شخصي لا يتعداه إلى غيره، وأنه تفضل وتكرم من الله تعالى عليه، إذ لا حق لأحد على الله تعالى البتة، إذا كانت المسألة مقايضة بينه وبين الله تعالى.
فإن الله تعالى كما قلنا لا ينتفع بشيء من عبادات الخلق، ولا تضره المعصية منهم، : ﴿ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾[الإسراء/7].
إذن علينا عن أن نبحث عن العلاقة السببية بين الشخص الذي يسأل الله تعالى، وبين الحق الذي يُسأل به المولى عز وجل، فنقول:
إما أن يكون السائل قد سأل الله تعالى بإيمانه وموالاته وحبه لنبيه أو وليه، فهذا سبب شرعي، وهو توسل إليه بالإيمان والطاعة، وهو فعل يرجع إلى نفس السائل، وهو حق شخصي له لا علاقة له بالحق الذي أوجبه الله تعالى من إكرام النبي أو الولي؛ لأنه سأل الله تعالى بأيمانه هو.
أو أن يكون السبب هو شفاعة النبي أو الولي له عند الله تعالى في إستجابة مطلوبه من السؤال.
فإن كان النبي أو الولي حيّاً وشفع له، فهذا هو المطلوب.
إما إن كان ميتاً فقد قلنا إن الشفاعة تكون بين الأحياء فقط، سواء في الدنيا أو في الآخرة؛ وأن الميت قد إنقطعت صلته بالحياة الدنيا. وأن المالك الحقيقي للشفاعة هو الله تعالى، فيكون الطلب إلى المالك، لا إلى الولي الذي وإن كان يملكها على سبيل العموم، إلاّ أنها غير مفصلة فيمن يستحق ومن لا يستحق، وهل يرضى الله لشخص بعينه أو لا . . إلخ.
الفصل الثالث
الفرق بين الدعاء والتوسل والشفاعة
الدعاء: المقصود بالدعاء هنا هو دعاء المسألة، لأنه لا خلاف بين المسلمين أن لا يجوز التوجه بدعاء العبادة إلى غير الله تعالى. فدعاء المسألة: هو الطلب المباشر من الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا: كقولك: يا ألله ، يا رب، اللهم، يا رحمن ، يا رحيم . . إلى آخره من أسماء الله الحسنى.
هذا النوع من الدعاء إذا توجهنا به إلى الله تعالى مهما كان الطلب صغيراً أو كبيراً فهو دعاء عبادة.
وجميع دعاء الأنبياء والأولياء هو من هذا النوع: ﴿ وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ﴾[نوح/26].
وفي وسائل الشيعة عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ u قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم : ( إِنَّ اللَّهَ أَحَبَّ شَيْئاً لِنَفْسِهِ وَأَبْغَضَهُ لِخَلْقِهِ أَبْغَضَ لِخَلْقِهِ الْمَسْأَلَةَ وَأَحَبَّ لِنَفْسِهِ أَنْ يُسْأَلَ وَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أَنْ يُسْأَلَ فَلَا يَسْتَحْيِي أَحَدُكُمْ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ وَلَوْ شِسْعَ نَعْلٍ ).
وفي الكافي عن أَبِي جَعْفَرٍ u قَالَ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا أَحَبَّ عَبْداً غَتَّهُ بِالْبَلَاءِ غَتّاً وَثَجَّهُ بِالْبَلَاءِ ثَجّاً فَإِذَا دَعَاهُ قَالَ لَبَّيْكَ عَبْدِي . .).
أما إن كان بين الخلائق: فإن كان من الحي للحي، فإما أن يعينه في مطلوبه، إن كان في قدرته؛ كإستغاثة القبطي بموسى u ﴿ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ ﴾[القصص/15] أو أن يعتذر له، كمن يطلب منك أن تصلح له سيارته فتقول: لست مصلّحاً للسيارات.
أما إن كان المدعو من الأموات كقول القائل: يا علي. فينظر إلى ما هو المطلوب من علي أن يفعله لهذا المنادي أو الداعي؟
فإن قال وهو في شدة : يا علي، أو إدركني يا علي، فهذا له وجهان:
الوجه الأول: أن يعتقد أن بإمكان علي أن يدركه من دون الرجوع إلى الله تعالى، أو إذنه. فهذا لا ريب في أنه من الشرك الذي لا يغفره الله تعالى.
الوجه الثاني: أن يعتقد أن عليا سيدركه بعد أن يأذن الله تعالى له.
فعلى فرض حسن النية في القائل، فإن أمره دائر بين الإحتمالات التالية:
الأول: أن يعتقد أن علياً يسمعه من غير توسط الله تعالى. فهذا يعني أن الميت يسمع جميع الأصوات من بعيد ومن قريب. فهذا أيضاً شرك لأن الذي يسمع الأصوات كلها، ويسع سمعه الأصوات من قريب ومن بعيد هو الله تعالى. ومن إعتقد في أحد مثل هذا فقد جعله لله نداً لأنه يكون قد شارك الله تعالى في خاصة من خواصه التي تميزها عن المخلوقات. وهل هذا إلاّ كمن يعتقد أن الله تعالى خلق إلهاً مثله، وهو يتصرف في هذا الكون من دون الرجوع إلى الله الأكبر. نعوذ بالله تعالى من مثل هكذا إعتقاد.
الثاني: أن يعتقد أن الله تعالى سمع صوته ووكل ملائكة يبلغون علياً ذلك الطلب، ثم إن علياً لما علم بتبليغ الله له أن هناك من يدعوه، توجّهَ إلى الله تعالى بأن يجعله قادراً على أن يدرك الشخص الذي يطلب منه العون، فيعطيه الله تعالى تلك القدرة التي بموجبها يستطيع أن يعين ذلك الإنسان الذي يستغيث به.
الثالث: ثم إن قدرة الله تعالى إما أن تتمثل في إحياء علي وجعله شخصياً يعين الشخص بنفسه، أو أن يطلب علي من الله تعالى أن يبعث ملكاً يعينه. وهنا فإن الملك هو الذي أعان السائل لا علي. وهذه سلسلة طويلة من الطلبات والإجراءات، المرء في غنىً عنها لو توجه بطلبه إلى الله تعالى الذي إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.
ولنا أن نتوجه بالسؤال التالي إلى علماء الشيعة: على فرض أن سيدنا علياً t حيٌّ الآن وهو في الكوفة وناداه شخص من البصرة، وآخر من مصر، وآخر من الشام، ورابع من إيران، وخامس من باكستان؛ فهل سيسمعهم؟
الجواب القطعي: لا، فلماذا بعد وفاته صار يسمع من يناديه من العراق، وإيران، وباكستان . . و . . و . .
فإذا علمت أن جميع هذه الإحتمالات ليست في صالح من يدعو علياً، فلماذا يجيز علماء الشيعة الإستعانة بغير الله تعالى من الأموات؟ وعلى أي وجه يجيزونه؟
والله تعالى أقرب إلى عبده من الأنبياء والأولياء، ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾[ق/16] وهو القائل: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾[الأعراف/180]. ﴿ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ﴾[فاطر/13].
التوسل:
التوسل من الوسيلة: وهي لغة: القربة، والمنزلة والدرجة، وهي فعيلة من توسلت إليه أي تقربت، كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ﴾ [المائدة: 35] وقال سبحانه: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ﴾ [الإسراء:57].
أما التوسل كإصطلاح شرعي: فهو طلب القربى إلى الله بما شرعه من الإيمان به وتوحيده وتصديق رسله، وفعل ما شرعه من الأعمال الصالحة التي يحبها الرب ويرضاها .
وأفضل من فسر الوسيلة هو سيدنا علي t إذ يقول: ( إنَّ أفضل ما توسَّل به المُتوسِّلون إلى الله سبحانه وتعالى، الإيمانُ به وبرسولِه، والجهادُ في سبيلِه، فإنَّه ذرْوةُ الإسلام، وكلمة الإخلاص فإنَّها الفطرة، وإقامُ الصَّلاة فإنَّها الملَّة، وإيتاء الزَّكاة فإنَّها فريضةٌ واجبةٌ، وصومُ شهر رمضانَ فإنَّه جُنَّةٌ من العقاب، وحجُّ البيت واعتمارُهُ فإنَّهما ينفيان الفقر ويرحضان الذَّنب، وصلةُ الرَّحم فإنَّها مثراةٌ في المال ومنسأةٌ في الأجل، وصدقةٌ السِّرِّ فإنَّها تكفِّرُ الخطيئة، وصدقة العلانية فإنَّها تدفع ميتة السُّوء، وصنائعُ المعروفِ فإنَّها تقي مصارع الهوان)([132]).
ويقول الشيخ محمد حسين فضل الله: ( والظاهر أن المراد من الوسيلة، هي العمل الصالح الذي أراده الله سبيلاً للقرب منه، لا الأشخاص الذين يتخذهم الناس وسائل للوصول إلى الله. ولعل هذا هو المراد من قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} المائدة:35، وذلك من خلال ما تعبر عنه الكلمة من الطريق أو الأداة التي يتقرب بها الناس إلى الله، ويصلون ـ من خلالها ـ إليه بشكلٍ مباشر)([133]).
وفي مستدرك الوسائل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ( نِعْمَ الْوَسِيلَةُ الِاسْتِغْفَارُ ).
أما الوسيلة في السنة: فقد ورد عن الطرفين أنها درجة في الجنة لا ينبغي إلاّ لعبد وهو نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد أوردنا الروايات فيها فلا حاجة لإعادتها.
أما التوسل إلى الله تعالى بأحد من خلقه ففيه تفصيل.
يقول شيخ الإسلام إبن تيمية:
( وَلَفْظُ ( التَّوَسُّلِ ) قَدْ يُرَادُ بِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ.
يُرَادُ بِهِ أَمْرَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ:
أَحَدُهُمَا: هُوَ أَصْلُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَهُوَ التَّوَسُّلُ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَبِطَاعَتِهِ.
وَالثَّانِي: دُعَاؤُهُ وَشَفَاعَتُهُ وَهَذَا أَيْضًا نَافِعٌ يَتَوَسَّلُ بِهِ مَنْ دَعَا لَهُ وَشُفِّعَ فِيهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَمَنْ أَنْكَرَ التَّوَسُّلَ بِهِ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ مُرْتَدًّا.
وَالثَّالِثُ التَّوَسُّلُ بِهِ بِمَعْنَى الْإِقْسَامِ عَلَى اللَّهِ بِذَاتِهِ وَالسُّؤَالِ بِذَاتِهِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي لَمْ تَكُنْ الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَهُ فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَنَحْوِهِ لَا فِي حَيَاتِهِ وَلَا بَعْدَ مَمَاتِهِ لَا عِنْدَ قَبْرِهِ وَلَا غَيْرِ قَبْرِهِ وَلَا يُعْرَفُ هَذَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَدْعِيَةِ الْمَشْهُورَةِ بَيْنَهُمْ وَإِنَّمَا يُنْقَلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي أَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ مَرْفُوعَةٍ وَمَوْقُوفَةٍ أَوْ عَمَّنْ لَيْسَ قَوْلُهُ حُجَّةً كَمَا سَنَذْكُرُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ وَنَهَوْا عَنْهُ حَيْثُ قَالُوا: لَا يُسْأَلُ بِمَخْلُوقِ وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ: أَسْأَلُك بِحَقِّ أَنْبِيَائِك. قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ القدوري فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ فِي الْفِقْهِ الْمُسَمَّى بِشَرْحِ الكرخي فِي بَابِ الْكَرَاهَةِ : وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ. قَالَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا أَبُو يُوسُفَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ إلَّا بِهِ. وَأَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ " بِمَعَاقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِك " أَوْ " بِحَقِّ خَلْقِك ". وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: بِمَعْقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِهِ هُوَ اللَّهُ فَلَا أَكْرَهُ هَذَا وَأَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ بِحَقِّ فُلَانٍ أَوْ بِحَقِّ أَنْبِيَائِك وَرُسُلِك وَبِحَقِّ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ. قَالَ القدوري : الْمَسْأَلَةُ بِخَلْقِهِ لَا تَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْخَلْقِ عَلَى الْخَالِقِ فَلَا تَجُوزُ وِفَاقًا)([134]).
ويقول أيضاً: ( وَالْمَرَاتِبُ فِي هَذَا الْبَابِ ثَلَاثٌ:
إحْدَاهَا: أَنْ يَدْعُوَ غَيْرَ اللَّهِ وَهُوَ مَيِّتٌ أَوْ غَائِبٌ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ فَيَقُولُ: يَا سَيِّدِي فُلَانٌ أَغِثْنِي أَوْ أَنَا أَسْتَجِيرُ بِك أَوْ أَسْتَغِيثُ بِك أَوْ اُنْصُرْنِي عَلَى عَدُوِّي. وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ بِاَللَّهِ.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يُقَالَ لِلْمَيِّتِ أَوْ الْغَائِبِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ: اُدْعُ اللَّهَ لِي أَوْ اُدْعُ لَنَا رَبَّك أَوْ اسْأَلْ اللَّهَ لَنَا كَمَا تَقُولُ النَّصَارَى لِمَرْيَمَ وَغَيْرِهَا - فَهَذَا أَيْضًا لَا يَسْتَرِيبُ عَالِمٌ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وَأَنَّهُ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي لَمْ يَفْعَلْهَا أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ؛ وَإِنْ كَانَ السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الْقُبُورِ جَائِزًا وَمُخَاطَبَتُهُمْ جَائِزَةً كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ إذَا زَارُوا الْقُبُورَ أَنْ يَقُولَ قَائِلُهُمْ { السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ. يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ. اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ }. وَرَوَى أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: { مَا مِنْ رَجُلٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ الرَّجُلِ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ رُوحَهُ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ }.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يَقُولُ: اللَّهُمَّ بِجَاهِ فُلَانٍ عِنْدَك أَوْ بِبَرَكَةِ فُلَانٍ أَوْ بِحُرْمَةِ فُلَانٍ عِنْدَك: افْعَلْ بِي كَذَا وَكَذَا. فَهَذَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ؛ لَكِنْ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَلَفِ الْأُمَّةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَدْعُونَ بِمِثْلِ هَذَا الدُّعَاءِ وَلَمْ يَبْلُغْنِي عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ مَا أَحْكِيهِ ؛ إلَّا مَا رَأَيْت فِي فَتَاوَى الْفَقِيهِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ. فَإِنَّهُ أَفْتَى: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ؛ إلَّا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إنْ صَحَّ الْحَدِيثُ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وَمَعْنَى الِاسْتِفْتَاءِ: قَدْ رَوَى النسائي وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ أَنْ يَدْعُوَ فَيَقُولَ:{ اللَّهُمَّ: إنِّي أَسْأَلُك وَأَتَوَسَّلُ إلَيْك بِنَبِيِّك نَبِيِّ الرَّحْمَةِ. يَا مُحَمَّدُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَتَوَسَّلُ بِك إلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي لِيَقْضِيَهَا لِي. اللَّهُمَّ: فَشَفِّعْهُ فِيَّ } فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ قَدْ اسْتَدَلَّ بِهِ طَائِفَةٌ عَلَى جَوَازِ التَّوَسُّلِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ. قَالُوا: وَلَيْسَ فِي التَّوَسُّلِ دُعَاءُ الْمَخْلُوقِينَ وَلَا اسْتِغَاثَةٌ بِالْمَخْلُوقِ وَإِنَّمَا هُوَ دُعَاءٌ وَاسْتِغَاثَةٌ بِاَللَّهِ؛ لَكِنْ فِيهِ سُؤَالٌ بِجَاهِهِ كَمَا فِي سُنَنِ ابْنِ ماجه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي دُعَاءِ الْخَارِجِ لِلصَّلَاةِ أَنْ يَقُولَ: " { اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْك وَبِحَقِّ مَمْشَايَ هَذَا فَإِنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشَرًا وَلَا بَطَرًا وَلَا رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً. خَرَجْت اتِّقَاءَ سَخَطِك وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِك أَسْأَلُك أَنْ تُنْقِذَنِي مِنْ النَّارِ وَأَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ }. قَالُوا فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ سَأَلَ بِحَقِّ السَّائِلِينَ عَلَيْهِ وَبِحَقِّ مَمْشَاهُ إلَى الصَّلَاةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ حَقًّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ وَنَحْوَ قَوْلِهِ: ﴿ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا ﴾ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: " ( يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ ؟ قَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ. حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. أَتَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ ؟ فَإِنَّ حَقَّهُمْ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ )([135]).
ثم يستدل شيخ الإسلام على منع التوسل بذات النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته قائلاً: ( وَدُعَاءُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي الِاسْتِسْقَاءِ الْمَشْهُورِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَقَوْلُهُ: " اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا إذَا أَجْدَبْنَا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّنَا " : يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّوَسُّلَ الْمَشْرُوعَ عِنْدَهُمْ هُوَ التَّوَسُّلُ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ لَا السُّؤَالُ بِذَاتِهِ؛ إذْ لَوْ كَانَ هَذَا مَشْرُوعًا لَمْ يَعْدِلْ عُمَرُ وَالْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ عَنْ السُّؤَالِ بِالرَّسُولِ إلَى السُّؤَالِ بِالْعَبَّاسِ .
فَلَوْ كَانَ تَوَسُّلُهُمْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَمَاتِهِ كَتَوَسُّلِهِمْ بِهِ فِي حَيَاتِهِ لَقَالُوا : كَيْفَ نَتَوَسَّلُ بِمِثْلِ الْعَبَّاسِ وَيَزِيدَ بْنِ الْأَسْوَدِ وَنَحْوِهِمَا؟ وَنَعْدِلُ عَنْ التَّوَسُّلِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ الْخَلَائِقِ وَهُوَ أَفْضَلُ الْوَسَائِلِ وَأَعْظَمُهَا عِنْدَ اللَّهِ؟ فَلَمَّا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُمْ فِي حَيَاتِهِ إنَّمَا تَوَسَّلُوا بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ تَوَسَّلُوا بِدُعَاءِ غَيْرِهِ وَشَفَاعَةِ غَيْرِهِ عُلِمَ أَنَّ الْمَشْرُوعَ عِنْدَهُمْ التَّوَسُّلُ بِدُعَاءِ الْمُتَوَسَّلِ بِهِ لَا بِذَاتِهِ)([136]).
وطلب الوسيلة من الشخص هو أن يدعو لك بعدما تُعلمه نوع حاجتك إلى الله، ومَنْ سَوَّى بَيْنَ مَنْ دَعَا لَهُ الرَّسُولُ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يَدْعُ لَهُ الرَّسُولُ وَجَعَلَ هَذَا التَّوَسُّلَ كَهَذَا التَّوَسُّلِ فَهُوَ مِنْ أَضَلِّ النَّاسِ.
والفرق بين دعاء الغير وبين التوسل به، هو أن الدعاء يكون بإسمه المباشر؛ كقول القائل( يا علي ).
أما التوسل فيكون التوجه إلى الله ليقبل شفاعة الغير فيه؛ كقول القائل: ( اللهم إني أتوسل إليك بنبيك) أو قوله: ( اللهم شفّع نبيك فيّ) أو ( يا رب، يا ألله، أتوسل إليك بفلان).
فدعاء الشخص الميت مباشرة شرك، لأنه مرتبط بعقيدة الداعي الذي لولا إعتقاده بقدرة الميت على إجابة دعائه ما ترك الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم وتوجه إلى الميت الذي لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرا.
أما التوسل أو طلب الشفاعة ففيه تفصيل، لأن المتوسل طالب من الله تعالى وداعٍ له، وهذا لا يصل إلى درجة الشرك، بل ربما يكون وسيلة إلى الشرك. والأخذ بالأحوط واجب لسلامة الإنسان من الشرك الذي يحبط الإيمان.
الطرق الشرعية لنيل الشفاعة:
إذا أراد المسلم أن يكون محلاً لشفاعة الشافعين، فعليه أن يسلك الطرق والسبل التي تجعله محلاً قابلاً لها، وليس من الطرق المشروعة طلبها من الميت، إذ الشفاعة ملك لله تعالى، وإن كانت الأنبياء والأولياء يشفعون يوم القيامة، فهم لا يملكونها على وجه الإستقلال، ولكن هنالك طرق قام عليها الدليل لنيل شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشفاعة الأولياء والصالحين في الآخرة, نذكر منها:
ما جاء في الكافي عن أبي عبدالله u : (اعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ يُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ شَيْئاً لَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ وَلَا مَنْ دُونَ ذَلِكَ فَمَنْ سَرَّهُ أَنْ تَنْفَعَهُ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ عِنْدَ اللَّهِ فَلْيَطْلُبْ إِلَى اللَّهِ أَنْ يَرْضَى عَنْهُ).
وفي مستدرك الوسائل عن ابْنُ أَبِي جُمْهُورٍ فِي دُرَرِ اللآَّلِي، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: ( إِذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا كَمَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَمَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْراً ثُمَّ سَلُوا لِيَ الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَنَا أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ فَمَنْ سَأَلَ لِيَ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ).
وفي صحيح البخاري عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
ومن أراد أن يكون من أهل شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعليه بالصدق والأمانة والخلُق الحسن، يروي المجلسي في بحار الأنوار عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: « إنّ أقربكم منِّي غداً وأوجبكم عليَّ شفاعةً: أصدقكم لساناً، وأدّاكم للأمانة، وأحسنكم خلقاً، وأقربكم من النّاس».
الخاتمة
هذا البحث هو جهد المقل، وكنت أفضِّل أن يقوم بهذا العمل هيئة إسلامية شرعية مكونة من علماء لهم قدم راسخ في مثل هذه المسائل المهمة التي تخدش جانب التوحيد، لأنه حق الله الخالص على عبيده الذين لم يزل الله متفضلاً عليهم بنعمه الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى، بما فيهم أنبياؤه وأولياؤه الذين غلا البعض فيهم فأخرجهم من العبودية، وراحوا يقصدونهم في كل صغيرة وكبيرة، حتى لا تكاد تسمع إسم الله تعالى في مجتمعهم لا في دعائهم ولا في حوائجهم، بل حتى في أسمائهم، فنادراً ما تسمع إسم عبدالله، أو عبدالرحمن، أو عبدالعزيز.
أما المساجد فمادام لله، فتراها معطلةً، لا تقام فيها الصلوات الخمسة ولا يذكر فيها إسم الله تعالى إلاّ ويشرك به غيره.
أما المشاهد المقامة على آثار الأولياء، فحدث عنها ولا حرج، فبالإضافة إلى كون أكثرها غير حقيقية؛ فهي تعج بعشرات أو مئات الزائرين الذين يرجون من صاحبها شفاء مرضاهم، أو قضاء حوائجهم، أو التضرع عندها والطواف فيها وحولها ما لا يفعلونها في بيوت الله تعالى الذي أذن أن ترفع ويذكر فيها اسمه.
ولو كانت هذه التصرفات تصدر من عوام مثل هذا المجتمع لكان الخطب هيناً، وكان عذرهم عند الله تعالى جهلهم ما يستحق الخالق عز وجل من صفات الكمال والجمال، والأسماء الحسنى ما لا يصح معها التعلق بغيره والتوجه إلى من هو من دونه.
ولكن ماذا تقول إذا كان علماؤهم هم المدافعون عن هذه التصرفات الخاطئة، ويقدمون لهم التبريرات السمجة والأدلة الواهية، بحجة أن ما يقومون به من تصرفات إنما هي محبة وإحترام وتقدير لعظماء الإسلام؛ وكأن محبتهم وإحترامهم لعظمائهم لا يكون إلاّ بجعل الأموات شركاء لله في الدعاء والإستعانة والإستغاثة.
لقد أجاز علماؤهم لعوامهم أن يجعلوا لله أنداداً، وقالوا أن الشرك لا يتحقق مادام الإنسان لا يعتقد بألوهية أو ربوبية غير الله تعالى.
لست أدري هل أن الذين كانوا يتضرعون أمام اللات والعزى ويقدمون لهم القرابين والنذور كانوا يعتقدون أن هذه الأصنام هي التي تخلقهم وترزقهم! ألم يسمعوا قول الله تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾[يونس/31].
إذن إذا كنتم تعترفون بكل هذا فلم توجهتم إلى هذه الأصنام تدعونهم وتطلبون منهم، قالوا: ﴿ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾[الزمر/3].﴿ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ ﴾[يونس/18].
فإعترافهم بالله تعالى قد أتى في نفس كلماتهم، ولكنهم ظنوا أن عملهم هذا ليس بشرك، ولكنهم حين يواجهون الله تعالى يوم القيامة، يقولون : ﴿ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾[الأنعام/23] لأنهم كانوا يعتقدون أنهم على الحق، ولا يرون أنهم مشركون.
الشرك والتوحيد متناقضان لا يجتمعان معاً، ولو إجتمعا فذرة من الشرك يقضي على الإيمان جملة وتفصيلاً : ﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾[الزمر/65].
فيا علماء الشيعة، إن مَنْ يقرأ الفتاوى الصادرة عنكم، يرى أن هذه الفتاوى طافحة بقولكم( الأحوط أن تفعل كذا، أو الأحوط أن لا تفعل كذا ) فلماذا عندما يتعلق الأمر بحق الله تعالى لا تفتون الشيعة ( بالأحوط ) لتجنبوهم الوقوع في الشرك؟
أم أن مثل هذه الفتاوى ستذهب بمكانتكم وجاهكم والأموال السحت التي تأكلونها بإسم الخمس؟
إنكم ستندمون يوم القيامة وستكونون من أهل هذه الآية: ﴿ لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ﴾ [النحل/25].
لقد تمعنت كل أدلة الشيعة في جواز دعاء الأنبياء والأولياء، أو الإستعانة بالأموات، أو الإستغاثة بهم، فما رأيت فيها دليلاً واحداً صحيحاً يعضده النقل الصحيح ولا العقل الصريح؛ إنما هي القيل والقال.
أما ما يسمونه بالخلل الوهابي في التوحيد والشرك، فحقيقته الأخذ بالأحوط وتجنب كل ما يخدش جناب التوحيد، وتجنب الوسائل التي قد تفضي إلى ذلك. وليس في هذا خلل، لأن حق الله تعالى في التوحيد والعبادة هي الغاية التي من أجلها خلق الخلق: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات/56].
وفي ختام هذا البحث أسأل الله تعالى أن يجعله خالصاً لوجهه تعالى، وأن يجنبنا والمسلمين الشرك الذي يحبط الإيمان، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الفهرس
ت | الموضوع | رقم الصفحة |
1 | المقدمة | 2 |
2 | خطة البحث | 2-4 |
3 | تمهيد: خطورة الشرك | 5-7 |
4 | الباب الأول: حقائق السلامة | 8 |
5 | الحقيقة الأولى: الغلو أصل كل شرك | 9-16 |
6 | الحقيقة الثانية: لا إجتهاد في الشرك | 16-17 |
7 | قبح الشرك معلوم بالعقل والفطرة | 17-18 |
8 | الحقيقة الثالثة: العمل بسد الذرائع أولى من الوقوع في الهلكة | 19-22 |
9 | الحقيقة الرابعة: العبادات مبناها على الإتباع | 23 |
10 | الحقيقة الخامسة: لا حق لأحد على الله تعالى | 24-30 |
11 | الباب الثاني: الغلو أسبابه ونتائجه | 31-34 |
12 | الفصل الأول: من أين دخل الشرك على بني آدم | 33-36 |
13 | الفصل الثاني: أسباب الغلو في الصالحين | 37-44 |
14 | الفصل الثالث: كيف نقطع أباب الشرك | 45-47 |
15 | الفصل الرابع: النتائج المترتبة على الغلو | 48-51 |
16 | الباب الثالث: تحرير نقاط الخلاف بين أهل السنة والشيعة في التوحيد | 52-53 |
17 | الفصل الأول: الخلل الشيعي في التوحيد | 54-59 |
18 | الفصل الثاني: الخلل الوهابي في التوحيد | 60 |
19 | الفصل الثالث: تحرير وتحديد نقاط الخلاف بين الطرفين | 61-65 |
20 | الباب الرابع: الخلاف في الدعاء والإستغاثة | 66-67 |
21 | الفصل الأول: الدعاء والإسعانة والإستغاثة والإستعاذة والنداء | 68-72 |
22 | الفصل الثاني: الدعاء في القرآن الكريم | 73 |
23 | المحور الأول: دعاء الأنبياء والصالحين في القرآن الكريم | 73-75 |
24 | المحور الثاني: أمر الله تعالى بدعائه بأسمائه الحسنى | 76 |
25 | المحور الثالث: لا واسطة بين الله وبين عبده | 76-77 |
26 | المحور الرابع: المنع من دعاء غير الله تعالى | 77-78 |
27 | الفصل الثالث: الدعاء في السنة النبوية الشريفة | 79-81 |
28 | الفصل الرابع: أدعية السلف الصالح من الصحابة والقرابة | 82-83 |
29 | الفصل الخامس: أدلة الفكر الشيعي في جواز دعاء الولي | 84-86 |
30 | الفصل السادس:الرد على أدلة الشعة في جواز دعاء الأنبياء والأولياء | 87 |
31 | المحور الأول: قدرة تعالى وإذنه | 87-88 |
32 | المحور الثاني: توحيد الربوبية مستلزم لتوحيد الألوهية | 88-92 |
33 | المحور الثالث: سؤال الولي بعد الموت أمر أجنبي | 92-93 |
34 | المحور الرابع: دعاء الإمام أو الإستعانة به بعد وفاته ليس من الأسباب الطبيعية | 93 |
35 | المحور الخامس: الخروج من مقتضى الأسباب والعلل يوجب الخلل في العقيدة | 93-95 |
36 | المحور السادس: الفرق بين دعاء العبادة ودعاء المسألة | 95-99 |
37 | خلاصة التحقيق في الخلاف الأول | 99-100 |
38 | الباب الخامس: الخلاف في أثر الحياة والموت في الدعاء | 101-103 |
39 | الفصل الأول: حقيقة الموت وعلاقة الأحياء بالأموات | 104 |
40 | المحور الأول: الموت حقيقة أم وهم | 104-106 |
41 | المحور الثاني: علاقة الأحياء بالأموات | 107-113 |
42 | الفصل الثاني: ماهية الشفاعة التي يملكها الميت | 114 |
43 | المحور الأول: الشفاعة | 114-117 |
44 | المحور الثاني: طلب الشفاعة من الأموات | 117-121 |
45 | المحور الثالث: أسباب التوجه إلى غير الله تعالى | 121-123 |
46 | المحور الرابع: العلاقة السببية في التوسل بين السائل والمتوسل به | 123 |
47 | الفصل الثالث: الفرق بين الدعاء والتوسل والشفاعة | 124-128 |
48 | الطرق الشرعية لنيل الشفاعة | 128 |
49 | الخاتمة | 129-130 |
50 | الفهرس | 131-132 |
[1] - تطهير الإعتقاد من أدران الإلحاد
[2] - رواه إبن ماجة والإمام أحمد في مسنده وصححه الشيخ الألباني
[3] - تثبيت دلائل النبوة للقاضي عبدالجبار المعتزلي المتوفى بالري سنة 415هـ/1025م.
[4] - أصول مذهب الشيعة
[5] - التشيع السياسي والتشيع الديني.
[6] - إنّ النّفي المطلق للسّهو والنّسيان عن الأئمّة تشبيه لهم بمن لا تأخذه سنة ولا نوم، ولهذا قيل للرّضا - وهو الإمام الثّامن الذي تدعي الشيعة عصمته -: "إنّ في الكوفة قومًا يزعمون أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقع عليه السّهو في صلاته، فقال: كذبوا - لعنهم الله - إنّ الذي لا يسهو هو الله الذي لا إله إلا هو" ( بحار الأنوار).
[7] - ومع كل هذا فلو كانت روايات الأئمة وصلت إليهم عن طريق من يعتقدون فيهم العصمة، لكان الأمر قابلاً للنقاش؛ ولكن كيف نقبل منهم وجميع رواياتهم منقولة عن أناس مطعون فيهم من قبل أئمتهم، كأمثال زرارة وهشام بن الحكم وأبي جعفر الأحول ، وغيرهم. بل أن الكليني الذي عاصر إمامهم الثاني عشر في غيبته الصغرى لم ينقل عن إمامه ولا رواية مباشرة عنه في كتابه الكافي الذي هو أقدم كتاب يتحدث عن أصول الشيعة ومذهبهم، بل ولم ينقل عن أبوابه الأربعة الذين عاصرهم ! لماذا ؟ لا أعلم.
[8] - منهاج السنة النبوية
[9] - نقلاً عن أصول مذهب الشيعة
[10] - أصول مذهب الشيعة
[11] - أصول مذهب الشيعة
[12] - قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "حدثني الثقات أن فيهم من يرى الحج إلى المشاهد أعظم من الحج إلى البيت العتيق، فيرون الإشراك بالله أعظم من عبادة الله وحده، وهذا من أعظم الإيمان بالطاغوت" [منهاج السنة: 2/124.].
قلت: فماذا كان يقول شيخ الإسلام لو إطّلع على هذه الروايات التي جاءت في الكافي: تحت عنوان: ( بَابُ فَضْلِ زِيَارَةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنِ u :
1- مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْ صَالِحِ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ بَشِيرٍ الدَّهَّانِ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ u رُبَّمَا فَاتَنِي الْحَجُّ فَأُعَرِّفُ عِنْدَ قَبْرِ الْحُسَيْنِ u فَقَالَ أَحْسَنْتَ يَا بَشِيرُ أَيُّمَا مُؤْمِنٍ أَتَى قَبْرَ الْحُسَيْنِ u عَارِفاً بِحَقِّهِ فِي غَيْرِ يَوْمِ عِيدٍ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ عِشْرِينَ حَجَّةً وَعِشْرِينَ عُمْرَةً مَبْرُورَاتٍ مقْبُولَاتٍ وَعِشْرِينَ حَجَّةً وَعُمْرَةً مَعَ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ أَوْ إِمَامٍ عَدْلٍ وَمَنْ أَتَاهُ فِي يَوْمِ عِيدٍ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مِائَةَ حَجَّةٍ وَمِائَةَ عُمْرَةٍ وَ مِائَةَ غَزْوَةٍ مَعَ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ أَوْ إِمَامٍ عَدْلٍ قَالَ قُلْتُ لَهُ كَيْفَ لِي بِمِثْلِ الْمَوْقِفِ قَالَ فَنَظَرَ إِلَيَّ شِبْهَ الْمُغْضَبِ ثُمَّ قَالَ لِي يَا بَشِيرُ إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَتَى قَبْرَ الْحُسَيْنِ u يَوْمَ عَرَفَةَ وَاغْتَسَلَ مِنَ الْفُرَاتِ ثُمَّ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ حَجَّةً بِمَنَاسِكِهَا وَلَا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ وَغَزْوَةً.
2- عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْمُخْتَارِ عَنْ زَيْدٍ الشَّحَّامِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ u قَالَ زِيَارَةُ قَبْرِ الْحُسَيْنِ u تَعْدِلُ عِشْرِينَ حَجَّةً وَأَفْضَلُ وَمِنْ عِشْرِينَ عُمْرَةً وَحَجَّةً.
3- مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ بَزِيعٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ كُنْتُ مَعَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ u فَمَرَّ قَوْمٌ عَلَى حَمِيرٍ فَقَالَ أَيْنَ يُرِيدُ هَؤُلَاءِ قُلْتُ قُبُورَ الشُّهَدَاءِ قَالَ فَمَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ زِيَارَةِ الشَّهِيدِ الْغَرِيبِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَزِيَارَتُهُ وَاجِبَةٌ قَالَ زِيَارَتُهُ خَيْرٌ مِنْ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ وَعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ حَتَّى عَدَّ عِشْرِينَ حَجَّةً وَعُمْرَةً ثُمَّ قَالَ مَقْبُولَاتٍ مَبْرُورَاتٍ قَالَ فَوَاللَّهِ مَا قُمْتُ حَتَّى أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ إِنِّي قَدْ حَجَجْتُ تِسْعَ عَشْرَةَ حَجَّةً فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنِي تَمَامَ الْعِشْرِينَ حَجَّةً قَالَ هَلْ زُرْتَ قَبْرَ الْحُسَيْنِ u قَالَ لَا قَالَ لَزِيَارَتُهُ خَيْرٌ مِنْ عِشْرِينَ حَجَّةً.
4- مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْ صَالِحِ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْمَدَائِنِيِّ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع فَقُلْتُ لَهُ جُعِلْتُ فِدَاكَ أَئْتِ ]آتِي[ قَبْرَ الْحُسَيْنِ u قَالَ نَعَمْ يَا أَبَا سَعِيدٍ فَائْتِ قَبْرَ ابْنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَطْيَبِ الطَّيِّبِينَ وَأَطْهَرِ الطَّاهِرِينَ وَأَبَرِّ الْأَبْرَارِ فَإِذَا زُرْتَهُ كَتَبَ اللَّهُ لَكَ بِهِ خَمْساً وَعِشْرِينَ حَجَّةً .
5- مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صَدَقَةَ عَنْ صَالِحٍ النِّيلِيِّ قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ u مَنْ أَتَى قَبْرَ الْحُسَيْنِ u عَارِفاً بِحَقِّهِ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَجْرَ مَنْ أَعْتَقَ أَلْفَ نَسَمَةٍ وَكَمَنْ حَمَلَ عَلَى أَلْفِ فَرَسٍ مُسْرَجَةٍ مُلْجَمَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
6- عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ هَارُونَ بْنِ خَارِجَةَ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ u يَقُولُ وَكَّلَ اللَّهُ بِقَبْرِ الْحُسَيْنِ u أَرْبَعَةَ آلَافِ مَلَكٍ شُعْثٍ غُبْرٍ يَبْكُونَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زَارَهُ عَارِفاً بِحَقِّهِ شَيَّعُوهُ حَتَّى يُبْلِغُوهُ مَأْمَنَهُ وَإِنْ مَرِضَ عَادُوهُ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً وَإِنْ مَاتَ شَهِدُوا جَنَازَتَهُ وَاسْتَغْفَرُوا لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
7- مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ مُوسَى بْنِ سَعْدَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبَانٍ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ u إِنَّ أَرْبَعَةَ آلَافِ مَلَكٍ عِنْدَ قَبْرِ الْحُسَيْنِ u شُعْثٍ غُبْرٍ يَبْكُونَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ رَئِيسُهُمْ مَلَكٌ يُقَالُ لَهُ مَنْصُورٌ فَلَا يَزُورُهُ زَائِرٌ إِلَّا اسْتَقْبَلُوهُ وَلَا يُوَدِّعُهُ مُوَدِّعٌ إِلَّا شَيَّعُوهُ وَلَا مَرِضَ إِلَّا عَادُوهُ وَلَا يَمُوتُ إِلَّا صَلَّوْا عَلَى جِنَازَتِهِ وَاسْتَغْفَرُوا لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ.
8- الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي دَاوُدَ الْمُسْتَرِقِّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا عَنْ مُثَنًّى الْحَنَّاطِ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَوَّلِ u قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ مَنْ أَتَى الْحُسَيْنَ عَارِفاً بِحَقِّهِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ.
9- مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنِ الْخَيْبَرِيِّ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: قَالَ أَبُو الْحَسَنِ مُوسَى u: أَدْنَى مَا يُثَابُ بِهِ زَائِرُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ u بِشَطِّ الْفُرَاتِ إِذَا عَرَفَ حَقَّهُ وَحُرْمَتَهُ وَوَلَايَتَهُ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ.
10- أَبُو عَلِيٍّ الْأَشْعَرِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَى عَنِ ابْنِ مُسْكَانَ عَنْ غَسَّانَ الْبَصْرِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ u قَالَ مَنْ أَتَى قَبْرَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ u عَارِفاً بِحَقِّهِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ.( الكافي ج : 4 ص : 582).
قلت: فوالله الذي لا إله إلاّ هو، ما تصح نسبة رواية واحدة من هذه الروايات إلى أئمة أهل البيت الأطهار، لأنها مخالفة لكتاب الله تعالى، ولسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيها صرف للناس من بيت الله الحرام والمساجد التي أمر الله تعالى ببنائها وعمارتها إلى الأضرحة التي ما أمر الله بتشييدها ولا بعمارتها، ولا بزيارتها.
[13] - مراجعات في عصمة الأنبياء
[14] - التعريفات للجرجاني- (ج 1 / ص 2)
[15] - رواه المجلسي في بحار الأنوار، وأحمد في مسنده، والترمذي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما.
[16] - بحار الأنوار للمجلسي.
[17] - صحيح مسلم واللفظ له. وفي بحار الأنوار: (من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه).
[18] - مدارج الساكين.
[19] - نقلاً عن تفسير الصافي
[20] - مما لاشك فيه أن مقتل الحسين وأهل بيته رضي الله عنهم من أكبر الكبائر، وأنه جريمة قلّ نظيرها في التاريخ ـ إلاّ ما كان في بني إسرائيل من قتلهم الأنبياء، كزكريا ويحيى ـ ولكن أرى أن الشيعة تعتبر قتل الحسين u أكبر من الإشراك بالله؛ فتراهم يعظمون القضية، ويذكرونها في كل مناسبة، حتى أصبحت شعاراً لهم؛ ومن الطبيعي أن تكون تضخيم هذه القضية على حساب التهاون في تعليم الناس التوحيد وحثهم على إجتناب الشرك والوسائل المؤدية إليه: } إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا { [النساء/48]. } إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ { [المائدة، آية: 72.]
[21] - في وسائل الشيعة عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ u قَالَ: (لَا تَبْنُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَوِّرُوا سُقُوفَ الْبُيُوتِ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم كَرِهَ ذَلِكَ). وسنأتي على المزيد من الروايات في هذا الموضوع في بحث مستقل.
[22] - في وسائل الشيعة ج : 4 ص : 235عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ u قَالَ:( لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص قَالَ إِنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ وَتَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ وَقَالَ لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تُصَلَّى الْمَغْرِبُ).
وفيه أيضاً: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( وَأَمَّا صَلَاةُ الْفَجْرِ فَإِنَّ الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَطْلُعُ عَلَى قَرْنِ شَيْطَانٍ فَأَمَرَنِي رَبِّي أَنْ أُصَلِّيَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ صَلَاةَ الْغَدَاةِ وَقَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ لَهَا الْكَافِرُ لِتَسْجُدَ أُمَّتِي لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَسُرْعَتُهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ).
وَفِي الْعِلَلِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ مَاجِيلَوَيْهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْعَطَّارِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَسْبَاطٍ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ جَعْفَرٍ الْجَعْفَرِيِّ قَالَ سَمِعْتُ الرِّضَا u يَقُولُ : ( لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ لِأَنَّهَا تَطْلُعُ بِقَرْنَيْ شَيْطَانٍ فَإِذَا ارْتَفَعَتْ وَصَفَتْ فَارَقَهَا فَتُسْتَحَبُّ الصَّلَاةُ ذَلِكَ الْوَقْتَ وَالْقَضَاءُ وَغَيْرُ ذَلِكَ فَإِذَا انْتَصَفَ النَّهَارُ قَارَنَهَا فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِأَنَّ أَبْوَابَ السَّمَاءِ قَدْ غُلِّقَتْ فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ وَهَبَّتِ الرِّيحُ فَارَقَهَا).
وفيه أيضاً: عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ u: ( قَالَ لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ إِنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ وَتَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ وَقَالَ لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تُصَلَّى الْمَغْرِبُ).
قال إبن القيم رحمه الله: ( إن فتنة الشرك بالصلاة في القبور ومشابهة عباد الأوثان أعظم بكثير من مفسدة الصلاة بعد العصر والفجر. فإذا نهى عن ذلك سدا لذريعة التشبه التي لا تكاد تخطر ببال المصلى، فكيف بهذه الذريعة القريبة التي كثيرا ما تدعو صاحبها إلى الشرك ودعاء الموتى، واستغاثتهم، وطلب الحوائج منهم، واعتقاد أن الصلاة عند قبورهم أفضل منها في المساجد. وغير ذلك، مما هو محادة ظاهرة لله ورسوله. مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قصد منع هذه الأمة من الفتنة بالقبور كما افتتن بها قوم نوح ومن بعدهم.) إغاثة اللهفان.
[23] - في تفسير الإمام الحسن العسكريّ (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال: كانَ رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قاعـداً ذات يوم هو وعليّ (عليه السلام) إذ سمع قائلاً يقول: «ما شاءَ الله وشاءَ محمّد»، وسمع آخر يقول: «ما شاءَ الله وشاءَ عليّ». فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا تقرنوا محمّداً ولا عليّاً بالله عزّ وجلّ، ولكن قولوا: ما شاءَ الله، ثُمّ ما شاءَ محمّد... ما شاءَ الله، ثُمّ ما شاءَ عليّ. إنّ مشيئة الله هي القاهرة التي لا تُساوى ولا تُكافأ لا تُدانى...». ]إثبات الهداة للحرّ العامليّ/3/767ـ768[( نقلاً عن مراجعات في عصمة الأنبياء).
[24] - إعلام الموقعين عن رب العالمين مختصرا.
[25] - مراجعات في عصمة الأنبياء
[26] - في وسائل الشيعة عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ u قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم: ( كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ ).
[27] - بحار الأنوار
[28] - مجموع الفتاوى
[29] - مجموع الفتاوى: ج/1 ص62-64)
[30] - إقتضاء الصراط المستقيم: ص311
[31] - من وحي القرآن/ قد يرى القارئ أني أكثر من النقل عن شيخ الشيعة محمد حسين فضل، وهذا لا يعني أنني راضٍ عن عقيدته لكن الذي أظنه أن الرجل أقلهم طائفية وغلواً، هذا وقد ذكر عنه الدكتور طه الدليمي في كتابه: ( التشيع عقدة أم عقيدة ) ما نصه: (من علماء الشيعة الذين ينظر إليهم كمصلحين داخل المذهب الشيعي، بعيداً عن التعصب والطائفية اللبناني محمد حسين فضل الله. تأمّل هذه الواقعة عن هذا الرجل الموصوف بالتسامح، وأنه يسعى في سبيل الجمع بين أهل السنة والشيعة، والذي صدّق كثير من أهل السنة مثل هذه الأساطير عن هذا الرجل وأمثاله: كتب أحد المشايخ الشيعة هو "طالب السنجري" كتاباً أسماه (التشيع كما أفهمه)، أكد فيه أن الرجوع إلى الخليفة عمر بن الخطاب كما الرجوع إلى الإمام علي بن أبى طالب رضي الله عنهما؛ لكون الاثنين يستقيان علمهما من منبع واحد، وهو القرآن والسنة. فكانت هذه الكلمة كفيلة لكي يقوم المرجع الشيعي محمد حسين فضل الله بطرده من حوزته الكائنة في منطقة السيدة زينب في سوريا، حيث كان الشيخ طالب السنجري أستاذًا للفقه فيها. وقد حورب السنجري على رأيه هذا وحوصر من جميع الجهات، الأمر الذي دفعه للقيام بفتح محل لبيع الأحذية، بعد أن أغلقت جميع الحوزات الشيعية أبوابها في وجهه، وقطعت جميع مكاتب المرجعيات الشيعية رواتبها التي كانت تقدمها لطلبة وأساتذة الحوزات عنه. وهو اليوم يعمل الآن إمامًا لأحد المراكز الإسلامية في مدينة فلوريدا بالولايات المتحدة الأمريكية).( نقل الدكتور طه هذا الكلام من موقع الرابطة العراقية، صباح الموسوي، محاولات أولية لإصلاح الشيعة، 1 محرم 1428 ، 19/1/2007) .
[32] - الإمام الطبري - تاريخ الرسل والملوك - (ج 2 / ص 268)
[33] - قال الله تعالى: ﴿ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾ [الأعراف/65]
وقال أيضا: ﴿ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [الأعراف/73]
وقال أيضاً: ﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [الأعراف/85]
وقال أيضاً : ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾[الأعراف/59]
[34] - تطهير الإعتقاد من أدران الإلحاد
[35] - من وحي القرآن
[36] - من وحي القرآن
[37] - أنظر كتاب النبوات
[38] - على أنني أستدرك وأقول كما قال شيخ الإسلام إبن تيمية: ( إن أصل الرفض إنما أحدثه زنديق غرضه إبطال دين الإسلام والقدح في رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قد ذكر ذلك العلماء وكان عبد الله بن سبأ شيخ الرافضة لما أظهر الإسلام أراد أن يفسد الإسلام بمكره وخبثه كما فعل بولص بدين النصارى)( منهاج السنة النبوية).
وكذلك قال قاضي القضاة عبدالجبار: ( قال شيخنا أبو علي رحمه الله: إن أكثر من نصر هذا المذهب ( أي التشيع ) كان قصده الطعن في الدين والإسلام، فتسلق بذلك إلى القدح فيهما؛ لأنه لو قدح فيهما بإظهار كفره، فإذن يقل القبول منه، فجعل هذه الطريقة سلماً إلى مراده، نحو هشام بن الحكم وطبقته، ونحو أبي عيسى الوراق، وأبي حفص الحداد، وإبن الراوندي وسائر من نحا هذا النحو).( المغني في أبواب العدل والتوحيد ـ الإمامة: ج/1).
وعند الدارمي في رده على الجهمية(ج 1 / ص 208) قال: ( حدثنا الزهراني أبو الربيع، قال: كان من هؤلاء الجهمية رجل، وكان الذي يظهر من رأيه الترفض وانتحال حب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال رجل ممن يخالطه ويعرف مذهبه: قد علمت أنكم لا ترجعون إلى دين الإسلام ولا تعتقدونه، فما الذي حملكم على الترفض وانتحال حب علي؟ قال: إذاً أصدقك أنا، إن أظهرنا رأينا الذي نعتقده رمينا بالكفر والزندقة، وقد وجدنا أقواما ينتحلون حب علي ويظهرونه ثم يقعون بمن شاءوا، ويعتقدون ما شاءوا، ويقولون ما شاءوا، فنسبوا إلى الترفض والتشيع، فلم نر لمذهبنا أمراً ألطف من انتحال حب هذا الرجل، ثم نقول ما شئنا، ونعتقد ما شئنا، ونقع بمن شئنا، فلأن يقال لنا: رافضة أو شيعة، أحب إلينا من أن يقال : زنادقة كفار، وما عليٌّ عندنا أحسن حالاً من غيره ممن نقع بهم).
[39] - من تفسير ( من وحي القرآن ).
[40] - في بحار الأنوار عن بصائر الدرجات عن حماد عن أبي أسامة قال كنت عند أبي عبد الله u وعنده رجل من المغيرية فسأله عن شيء من السنن فقال ما من شيء يحتاج إليه ولد آدم إلا وقد خرجت فيه السنة من الله ومن رسوله ولو لا ذلك ما احتج علينا بما احتج فقال المغيري وبما احتج فقال أبو عبد الله u قوله: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ﴾ حتى فرغ من الآية فلو لم يكمل سنته وفرائضه وما يحتاج إليه الناس ما احتج به.
[41] - في بحار الأنوار عن الأمالي للشيخ الطوسي عن أبي عبد الله عن آبائه عن أمير المؤمنين u قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ( عليكم بالسنة فعمل قليل في سنة خير من عمل كثير في بدعة ).
[42] - من وحي القرآن
[43] - كما هو الحال في صور أئمة أهل البيت عليهم السلام، فإنها صور خيالية؛ لاسيما تلك التي تصورهم مع أسد جاثم أمام علي t أو تلك الصور التي تصور إستشهاد الحسين t مع طفل رضيع فوق فرس أبيض.
[44] - الرحيق المختوم: ص40- 41
45- عقائد الشيعة للمظفر ، ص9. وعقائد الإمامية الاثني عشرية للزنجاني ، ص114.
[46] - لابد من لعن الظلام للدكتور طه الدليمي
[47] - أنظر إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان لإبن القيم
[48] - وسائل الشيعة
[49] - في بحار الأنوار عن بشير الدهان قال قلت لأبي عبد الله u ربما فاتني الحج فأعرف عند قبر الحسين u قال أحسنت يا بشير أيما مؤمن أتى قبر الحسين عارفا بحقه في غير يوم عيد كتبت له عشرون حجة وعشرون عمرة مبرورات متقبلات وعشرون غزوة مع نبي مرسل أو إمام عادل ومن أتاه في يوم عرفة عارفا بحقه كتبت له ألف حجة وألف عمرة مبرورات متقبلات وألف غزوة مع نبي مرسل أو إمام عادل قال فقلت له وكيف لي بمثل الموقف قال فنظر إلي شبه المغضب ثم قال يا بشير إن المؤمن إذا أتى قبر الحسين u يوم عرفة واغتسل بالفرات ثم توجه إليه كتب الله عز وجل له بكل خطوة حجة بمناسكها ولا أعلمه إلا قال وغزوة. وفي الكافي عَنْ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمَانَ الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ مُوسَى u قَالَ مَنْ زَارَ قَبْرَ وَلَدِي عَلِيٍّ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ كَسَبْعِينَ حَجَّةً مَبْرُورَةً قَالَ قُلْتُ سَبْعِينَ حَجَّةً قَالَ نَعَمْ وَسَبْعِينَ أَلْفَ حَجَّةٍ قَالَ قُلْتُ سَبْعِينَ أَلْفَ حَجَّةٍ قَالَ رُبَّ حَجَّةٍ لَا تُقْبَلُ مَنْ زَارَهُ وَبَاتَ عِنْدَهُ لَيْلَةً كَانَ كَمَنْ زَارَ اللَّهَ فِي عَرْشِهِ قَالَ نَعَمْ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ كَانَ عَلَى عَرْشِ الرَّحْمَنِ أَرْبَعَةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَأَرْبَعَةٌ مِنَ الْآخِرِينَ فَأَمَّا الْأَرْبَعَةُ الَّذِينَ هُمْ مِنَ الْأَوَّلِينَ فَنُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى u وَأَمَّا الْأَرْبَعَةُ مِنَ الْآخِرِينَ فَمُحَمَّدٌ وَعَلِيٌّ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ثُمَّ يُمَدُّ الْمِضْمَارُ فَيَقْعُدُ مَعَنَا مَنْ زَارَ قُبُورَ الْأَئِمَّةِ عليهم السلام إِلَّا أَنَّ أَعْلَاهُمْ دَرَجَةً وَأَقْرَبَهُمْ حَبْوَةً زُوَّارُ قَبْرِ وَلَدِي عَلِيٍّ u.
[50] - إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان
[51] - زيارة القبور والإستنجاد بالمقبور
[52] - نهج البلاغة
[53] - 1- عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّوْفَلِيِّ عَنِ السَّكُونِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ u قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم إِنَّ عَلَى كُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةً وَعَلَى كُلِّ صَوَابٍ نُوراً فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ فَخُذُوهُ وَمَا خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ فَدَعُوهُ
2- مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَعْفُورٍ قَالَ وَحَدَّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ أَبِي الْعَلَاءِ أَنَّهُ حَضَرَ ابْنَ أَبِي يَعْفُورٍ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ u عَنِ اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ يَرْوِيهِ مَنْ نَثِقُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا نَثِقُ بِهِ قَالَ إِذَا وَرَدَ عَلَيْكُمْ حَدِيثٌ فَوَجَدْتُمْ لَهُ شَاهِداً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَإِلَّا فَالَّذِي جَاءَكُمْ بِهِ أَوْلَى بِهِ
3- عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ يَحْيَى الْحَلَبِيِّ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ الْحُرِّ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ u يَقُولُ كُلُّ شَيْءٍ مَرْدُودٌ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكُلُّ حَدِيثٍ لَا يُوَافِقُ كِتَابَ اللَّهِ فَهُوَ زُخْرُفٌ
4- مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ رَاشِدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ u قَالَ مَا لَمْ يُوَافِقْ مِنَ الْحَدِيثِ الْقُرْآنَ فَهُوَ زُخْرُفٌ
5- مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ u قَالَ خَطَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم بِمِنًى فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ مَا جَاءَكُمْ عَنِّي يُوَافِقُ كِتَابَ اللَّهِ فَأَنَا قُلْتُهُ وَمَا جَاءَكُمْ يُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ فَلَمْ أَقُلْهُ
6- وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ u يَقُولُ مَنْ خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَدْ كَفَرَ ( الكافي ج : 1 ص : 69- 70 : بَابُ الْأَخْذِ بِالسُّنَّةِ وَشَوَاهِدِ الْكِتَابِ)
[54] - بحار الأنوار ج : 2 ص : 212: عن بصائر الدرجات عن حمزة بن بزيع عن علي السائي عن أبي الحسن u أنه كتب إليه في رسالة ولا تقل لما بلغك عنا أو نسب إلينا هذا باطل وإن كنت تعرف خلافه فإنك لا تدري لم قلنا وعلى أي وجه وصفة.
وفيه أيضاً عن علل الشرائع عن أبي بصير عن أحدهما u قال لا تكذبوا بحديث آتاكم مرجئي ولا قدري ولا خارجي نسبه إلينا فإنكم لا تدرون لعله شيء من الحق فتكذبوا الله عز وجل فوق عرشه.
وفيه أيضاً عن بصائر الدرجات عن جابر عن أبي جعفر u قال إن حديثنا صعب مستصعب أجرد ذكوان وعر شريف كريم فإذا سمعتم منه شيئا ولانت له قلوبكم فاحتملوه واحمدوا الله عليه وإن لم تحتملوه ولم تطيقوه فردوه إلى الإمام العالم من آل محمد u فإنما الشقي الهالك الذي يقول والله ما كان هذا ثم قال يا جابر إن الإنكار هو الكفر بالله العظيم.
وفيه أيضاً: عن بصائر الدرجات عن فرات بن أحمد قال: قال علي u : ( إن حديثنا تشمئز منه القلوب فمن عرف فزيدوهم ومن أنكر فذروهم ).
قلت: ولا يخفى على الناقد البصير أن هذه الروايات إنما هي من وضع زنديق ملحد، أراد أن يسيء إلى أهل البيت من خلال تمرير مثل هذه الأقوال التي تسيء إلى الإسلام.
[55] - الكافي ج : 1 ص : 68
[56] - رأيت أن إستخدام عبارة ( خصائص الله تعالى ) أولى من عبارة ( ما لا يقدر عليه إلاّ الله ) التي كثيراً ما ترد في أقوال علماء أهل السنة الذين يردّون على الرافضة، ذلك لأن الله تعالى قد يأذن لبعض عباده أموراً لا يقدر عليها إلا الله تعالى، على سبيل المعجزة، كما حدث في معجزة إحياء الموتى لعيسى u . كما أن قدرة الخلائق تختلف فيما بينها، فالذي أتى بعرش بلقيس قبل أن يرتد إليه طرف سليمان u ، ليس بمقدور كل أحد من الخلائق؛ وأيضاً فإنك لو طلبت من أحد الحاضرين معك أن ينصرك على عدوك فلم يقدر على نصرك فليس هذا من باب الشرك لكونه ما لا يقدر عليه. على أنني أؤكد أن معجزات الأنبياء وما ورد ذكره من الكرامات لبعض عباد الله في القرآن والسنة، لو لم يرد فيها خبر صحيح لما وجب علينا الإيمان بها، كما أنه لا يجوز أن تقاس عليها في إمكان تحقق بعضها للإئمة والأولياء. فلا يجوز أن يُقال: أن فلان أفضل من فلان الذي تحقق على يدية الكرامة الفلانية، إذن فإمكان تحققها على يدي الأفضل أولى.
[57] - الخلل الوهابي في فهم التوحيد والشرك
[58] - الخلل الوهابي في فهم التوحيد والشرك
[59] - بحوث قرآنية في التوحيد والشرك
[60] - الأسماء الثلاثة( الإله، الرب, والعبادة)
[61] - منهج الرشاد لمن أراد السداد
[62] - تفسير البيان
[63] - يقول إبن القيم: ( فالمشرك مشبه للمخلوق بالخالق في خصائص الإلهية. فإن من خصائص الإلهية التفرد بملك الضر والنفع والعطاء والمنع وذلك يوجب تعليق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل به وحده, فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق)( الجواب الكافي). قلت هذا الكلام يصح عند من يجعل توحيد الألوهية متضمنة لتوحيد الربوبية.
[64] - منهج الرشاد لمن أراد السداد
[65] - المصدر السابق
[66] - من وحي القرآن
[67] - منهج الرشاد لمن أراد السداد
[68] - الأسماء الثلاثة( الإله، الرب, والعبادة )
[69] - بحوث قرآنية في التوحيد والشرك
[70] - بحوث قرآنية في التوحيد والشرك
[71] - الأسماء الثلاثة( الإله, الرب، والعبادة )
[72] - التفسير الأمثل
[73] - عبدالله دشتي: الخلل الوهابي في التوحيد والشرك.
[74] - الخلل الوهابي في فهم التوحيد والشرك
[75] - كشف الأسرار
[76] - الخلل الوهابي في فهم التوحيد والشرك
[77] - الخلل الوهابي في فهم التوحيد والشرك
[78] - هنا أحيل القاريء الكريم إلى ما سبق بيانه من أن الأصنام التي عبدت من دون الله أو مع الله إنما هي تماثيل لأناس صالحين، ولم تكن مجرد أحجار أو صخور نحتت على شكل آلهة، فقولنا آلهة يجب أن لا يصرف إلى الأوثان التي لا روح لها ولا حراك فيها، وإنما يجب أن ينصرف إلى ذلكم العباد الصالحين الذين عبدوا الله تعالى، فلما ماتوا صور لهم الناس تلك التماثيل واتخذوها واسطة وشفعاء بينهم وبين الله تعالى.
[79] - من وحي القرآن
[80] - وقد وصل الأمر ببعض الناس أنه في بيت الله الحرام وعند الكعبة، عندما أراد أن يقوم قال: يا علي! فسمعه بعض أهل العلم فقال له: لو كنت في بيت أحد من الناس واحتجت إلى حاجة من البيت هل تذهب إلى جار صاحب البيت أو تسأل صاحب البيت نفسه، فما كان منه إلا أن قال: أسأل صاحب البيت نفسه، فانظر بارك الله فيك أنه لم يستطع دفع ذلك بل اعترف بالحق. ( البرهان في وجوب اللجوء إلى الواحد الديان ).
[81] - من وحي القرآن
[82] - كل ما في الوجود إما خالق أو مخلوق، وكل ما عدا الله فهو مخلوق، وكل مخلوق فهو من دون الله، ودعاء مَنْ هو من دون الله منهي عنه.
[83] - نقلاً عن تفسير ( من وحي القرآن)
[84] - نقلاً عن أصول مذهب الشيعة - (ج 2 / ص 10)
[85] - الأسماء الثلاثة ( الإله ، الرب، العبادة)
[86] - المصدر السابق
[87] - الصحيفة السجادية، دعاوَه برقم 45.
[88] - المصدر السابق
[89] - الخلل الوهابي في فهم التوحيد والشرك.
[90] - الخلل الوهابي في فهم التوحيد والشرك.
[91] - الأسماء الثلاثة ( الإله ، الرب، العبادة )
[92] - من وحي القرآن
[93] - ليس كل تعظيم مشروعاً في حق النبي ( فإن السجود تعظيم، ومع ذلك لا يجوز لغير الله، وكذلك كل تعظيم هو من خصائص الألوهية لا يجوز تعظيم الرسول به، وإن قصد فاعلها التعظيم، فهي غير مشروعة؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ )( صحيح البخاري عن إبن عباس ).
[94] - بحار الأنوار نقلاً عن المفيد
[95] - الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد
[96] - مدارج السالكين.
[97] - الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد
[98] - المصطلحات الأربعة في القرآن( الإله، والرب, والدين, والعبادة )
[99] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام إبن تيمية
[100] - فتاوي العقيده الشيخ ابن عثيمين ص 303 -304 .
[101] - الخلل الوهابي في فهم التوحيد والشرك
[102] - المصدر السابق
[103] - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 3 / ص 313)
[104] - الخلل الوهابي في فهم الشرك والتوحيد
[105] - مختصر تفسير الميزان
[106] - الكافي/ ووسائل الشيعة
[107] - السلسلة الصحيحة - (ج 5 / ص 34) وفي الكافي عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ u قَالَ: ( لَا يَزَالُ الدُّعَاءُ مَحْجُوباً حَتَّى يُصَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ.).
[108] - الأسماء الثلاثة ( الإله ، الرب، العبادة )
[109] - الأسماء الثلاثة ( الإله ، الرب، العبادة )
[110] - بحوث قرآنية في التوحيد والشرك
[111] - أضواء البيان - (ج 6 / ص 191/ 206)
[112] - دفع إيهام الإضطراب عِن آيات الكتاب
[113] - تلخيص أحكام الجنائز - (ج 1 / ص 75ــ 77)
[114] - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 1 / ص 41)
[115] - الكافي: ج/2 ص493 عَنِ ابْنِ الْقَدَّاحِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ u
[116] - مستدركالوسائل ج : 18 ص : 24
[117] - بحار الأنوار ج : 8 ص : 36 عن تفسير القمي
[118] - بحار الأنوار ج : 8 ص : 49 عن تفسير العياشي
[119] - مسند الإمام أحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ
[120] - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 6 / ص 431)
[121] - متفق عليه
[122] - الحديث في الصحيحين، واللفظ لمسلم.
[123] - صحيح مسلم
[124] - من وحي القرآن
[125] - مجموع فتاوى ابن تيمية - (ج 1 / ص 98)
[126] - أبو يزيد البسطامي
[127] - أبو عبدالله القرشي
[128] - مجموع الفتاوى
[129] - مراجعات في عصمة الأنبياء
[130] - من وحي القرآن
[131] - من وحي القرآن.
[132] - نهج البلاغة
[133] - من وحي القرآن
[134] - مجموع الفتاوى
[135] - مجموع الفتاوى
[136] - مجموع الفتاوى