قراءة راشدة لكتاب (نهج البلاغة)
قراءة راشدة لكتاب (نهج البلاغة)
عبد الرحمن الجميعان
تصدير:
إلى كل مؤمن بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
إلى كل حر تفكك من أغلال التقليد.
إلى كل من يخاف أن يلقى الله حاملاً وزر من سبقوه.
إلى كل من يحب آل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
إلى كل شيعي يؤمن بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد عبداً ورسولاً صلى الله عليه وآله وسلم.. إلى كل هؤلاء أقدم هذه القراءة المتواضعة والمختلفة لنهج البلاغة.
المقدمة:
عشت مع نهج البلاغة أزماناً طويلة، أقرؤه وأسمر معه، وأقف مع صاحبه حيث وقف، وأسير معه حيث سار، أغضب لغضبه، وأثور لثورته، وأحزن لحزنه، وأفرح لفرحه.
ورأيت علياً خطيباً يقذف حمماً بركانية على لسانه كأنه ينذر جيشاً، لا. بل كأنه ينذر العالم أجمع، ورأيت علماً مستفيضاً، وسيفاً مسنوناً، وفقهاً مبثوثاً، ولا غرو فهو ربيب بيت النبوة، وواضع لبان الرسالة، عاش حياة كلها صخب وضوضاء وحروب وجروح.. حياة مليئة بالجد والاجتهاد والعمل المتواصل الذي لا يهدأ ولا يكلّ ولا يملّ، لم يفلّ له سنان، ولم تكسر لعنفوانه قناة، عاش أجيالاً عدة في حياة واحدة، حياة طوت تجارب دهور متوارثة من الشرك والكفر والإيمان، ورأى النفاق وشاهد تقاعس الأصدقاء، وتقلبت به الحياة حتى قيل له: علي لا خبرة له بالحرب، وحارب مرغماً إخوانه في العقيدة والدين، ورأى تقلب الحياة بأهلها، وفعل الأهواء بأصحابها.. إنها حياة صاخبة لاتهدأ!
وبدأت أقلب صفحات هذا السفر الضخم، وأحس أنني أقلب حياة رجل عظيم لا صفحات كتاب كبير!
ولكنني رأيت عجباً!
فالرجل يقول كلاماً، ثم أرى ضده ومناقضاً له في بعض كتبالقوم، فوقفت أتأمل هذه الحياة طويلاً، وطفقت أَعبّ من كتبهم عبّاً، وأقرأ ما بين السطور وأتوغل في القراءة فازداد عجبي ولم يزل!
وأدركت أن الأمر بحاجة إلى قراءة متأنية لأقوال وأفعال هذا الرجل.
فقمت أقرأ هذا السفر بهذه الحياة، واضطربت مراراً، ثم أعدت القراءة بنفس لا تهدأ ولا تقنع، حتى أيقنت أننا بحاجة إلى قراءة راشدة تغوص في أعماق النهج، ولا تخرج عن إطار التفكير عند الإمام! ثم قرأت تارة أخرى وأدون ما أقرأه حتى كتبت بعض مقالات في النهج، وناقشت بعض الأشخاص في كثير من المسائل ولم تهدأ نفسي إلى شيء، حتى كانت القراءة التي استبان لي وجه صحتها، وهي هذه التي أنقلها اليوم -أو بعضها- فهذا الكتيب الصغير الذي لم يحو كل مشاهداتي وقرآتي ولكنني أدفعه للمطبعة كي يتسنى للقارئ العادي الاطلاع عليه وقراءته قراءة سريعة، ويكون سهلاً عليه دون تكلف ولا تعال، وابتعدت قدر الإمكان عن القضايا التي قد تكون محل جدال عقيم، وولجت إلى لب الموضوع، وهو: كيف يجب أن نفهم النهج؟! وأيقنت أن الذي يقرأ بعقل منفتح لا بد أن يقترب كثيراً من تفكير ومعتقد أهل السنة، أو تكون المسافة قريبة جداً بيننا وبينه.
إنني على يقين بأن هذا هو الطريق الصائب والسليم الذي ينبغي الالتفات إليه، ولا طريق دونه للوصول إلى فهم سليم لأقوال هذا الإمام العظيم الذي خذل من أصحابه قبل أعدائه!
أقول: هذا جهدي وهذا فهمي؛ لم أدّع فيه الكمال، وإن كنت أصبو إليه، وإنني على أتم استعداد لتصويب خطأ بدر مني، أو سوء فهم لم أدركه، غير محتقب لإثم، ولا متعمد لسهو ولا خطأ.
وفقنا الله تعالى لإصابة الحق، وألهمنا الصواب في القول، والصدق في العمل.
ملاحظة: النسخة التي اعتمدتها هي مطبوعة محمد أبو الفضل إبراهيم وشرح ابن أبي الحديد.
وكتبه
عبد الرحمن عبد الله الجميعان
المبحث الأول: الإمامة:
هناك من يعتقد بأن الإمامة من أصول الدين، والبعض يرى أنها من ضروريات المذهب، والجميع يعتقد بالنصية والتسلسل من علي إلى المهدي رضي الله عنهما بنص الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ونص كل إمام بالذي بعده! فكل عمل عند الأئمة إنما مبعثه الوحي لا اجتهاد فيه، ولهذا نفوا الخطأ والاجتهاد عن الأئمة.
هذا ما قالته كتبهم في مصادرها المختلفة الجديدة والقديمة على حد سواء، ولكننا سنقابل نصوصاً لـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه حول الإمامة والخلافة، قد تعارض أو تنسف كلامهم، منها مثلاً قوله: (أول الدين معرفته)([1])، فهذا الكلام الصادر عنه يؤكد حقيقة أن أهم مبدأ في الدين، وأعظم شيء فيه، والواجب على المكلف معرفته والعلم به هو معرفة الله تعالى وتوحيده، ولا شك أن الكتاب والسنة يؤكدان هذا الأمر كل التأكيد، فليست معرفة الإمام أو الإمامة أهم شيء في الدين، وحتى تتكامل الصورة علينا المضي في هذا الأمر مع كتاب النهج:
1- ففي كلام لـعلي رضي الله عنه لـكميل بن زياد النخعي، يؤكد أنه: (لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة، إما ظاهراً مشهوراً، وإما خائفاً مغموراً، لئلا تبطل حجج الله وبيناته)([2])، ثم يقول: (أولئك الأقلون عدداً، والأعظمون عند الله قدراً، يحفظ الله بهم حججه وبيناته حتى يودعها نظراءهم ويزرعها في قلوب أشباههم...)، أفتدري من هؤلاء؟ إنهم العلماء لا كما يقولون: إن الأئمة هم حجج الله في أرضه!
ثم يكمل علي كلامه قائلاً: (أولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إِلى دينه.. آهٍ آهٍ شوقاً إِلى رؤيتهم..)، فالعلماء هم الذين يثني عليهم هذا الصحابي الجليل ويرفع من مكانتهم في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد!
فأين ذكر الأئمة في هذا الكلام المهم؟!
ثم نقول: إذا كان الإمام يأتي من النص ومن قبل الله تعالى فهو لا حاجة به إلى التعلم؛ لأنه متعلم من لدن الحكيم الخبير، وهو ممّن يكلّم أو يوحى إليه، غير أنه لا يرى الملك كما تقول كتبهم، فـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: (من نصب نفسه إِماماً فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلّم نفسه ومؤدبها أحقّ بالإجلال من معلّم الناس ومؤدبهم)([3]).
ماذا يعني بقوله: (من نصب نفسه إماماً)؟ وهل يسمى مغتصب الخلافة إماماً؟ ثم هذا القول الصادر من علي رضي الله عنه يؤكد عكس ما تقوله كتبهم من لدنّيّة العلم عند الإمام، فالإمام يجب أن يتعلم العلم ويهذب نفسه ويربيها!
2- وفي كتاب من كتبه المهمة جاء فيه: (أما بعد: فإن الله سبحانه بعث محمداً صلى الله عليه وآله وسلم نذيراً للعالمين، ومهيمناً على المرسلين، فلما مضى صلى الله عليه وآله تنازع المسلمون الأمر من بعده، فوالله ما كان يلقى في روعي، ولا يخطر ببالي أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده صلى الله عليه وآله وسلم عن أهل بيته، ولا أنهم منحّوه عني من بعده، فما راعني إِلا انثيال الناس على فلان يبايعونه، فأمسكت بيدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ فخشيت إن لم أنصر الإِسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم التي إِنما هي متاع أيام قلائل، يزول منها ما كان كما يزول السراب وكما يتقشّع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق، واطمأن الدين وتنهنه)([4]).
هذا كتاب الخليفة علي رضي الله عنه إلى أهل مصر، أرسله مع صاحبه مالك الأشتر لما ولاه إمرة مصر، والكتاب يحفظ وتتناقله الرواة أكثر من الخطب، والكلمات التي قد ينقلها البعض بالمعنى دون اللفظ، أما الكتاب فالخطأ فيه أقل من الخطبة بكثير، وبطريق الكتابة والتدوين حوفظ على الكتاب والسنة، المهم في الأمر ما في هذا الكتاب من معان:
أنظر إلى كلماته:
أ- تنازع المسلمون الأمر من بعده...، ولم يقل: الكفار أو الذين ارتدوا بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم أو الفساق، وإنما سماهم المسلمون.
ثم انظر إلى قوله: ولا يخطر ببالي... من بعده...، فماذا تلاحظ أيها القارئ الكريم؟
ب- أنه أولاً: ليس هناك نص يستند عليه في قضيته الخلافة والإمامة؛ لأن الإمام علياً رضي الله عنه لم يذكر هذا النص، وكيف تناساه الناس، وهو أحوج ما يكون إليه اليوم، حيث يوضح قضية من أخطر القضايا التي مرت على الأمة وسببت لها فرقتها، وكادت تصدع حتى بالصدر الأول من الصحابة، فلما لم يذكر هذا النص علم أنه لا نص يخدم هذه القضية الخطيرة.
جـ - ثم انظر إلى كلامه: فما راعني إلا انثيال الناس على فلان يبايعونه..، و(انثيالهم) تصوير بليغ وكلام عال، فمعناه إسراعهم وانصبابهم إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه، وهذا مما يدل على أن الناس اختاروا أبا بكر وهم أفضل الناس بعد الأنبياء، فلم تكن البيعة رغماً عنهم، ولم يكن السيف فوق رؤوسهم، وإنما هو الاختيار الحر، والرؤية الصائبة من جماعة المسلمين.
د- ثم في (فأمسكت.... هدما) ويعني المرتدين ومانعي الزكاة الذين حاربهم الصديق بسيوف الصحابة، فليس هؤلاء كما يقال: إنهم الذين رفضوا بيعة أبي بكر رضي الله عنه، وإنما هم كما قال الإمام علي: فرق رجعت عن الإسلام، لأنه لا يمكن أن يعني الصديق والصحابة؛ لأنه كان معهم، وكان وزيراً للخلفاء.
3- وفي وصية من وصاياه يقول: (هذا ما أمر به عبد الله علي بن أبي طالب أمير المؤمنين في ماله. وإن لابني فاطمة من صدقة عليّ مثل الذي لبني عليّ، وإني إنما جعلت القيام بذلك إلى ابني فاطمة ابتغاء وجه الله، وقربة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتكريماً لحرمته، وتشريفاً لوصلته، ويشترط على الذي..)([5]).
نلاحظ ما يلي:
أ- لم يفرق في قضية الصدقة بين بنيه كلهم لا الحسنين ولا غيرهم! هذا أولا.
ب- أما الأمر الآخر المهم فهو: قوله: إنه جعل القيام لابني فاطمة لا لنص في الولاية والإمامة، كلا بل ابتغاء وجه الله.
أليس من الأولى أن يعتمد علي بن أبي طالب على النص في الولاية، وينشر هذا الأمر في هذه الوصية، ويعلم أصحابه أنه قرب ابني فاطمة لأجل نصوص الولاية والإمامة؟
وهذه وصية والوصية تكون آخر ما ينطق به الرجل لأهل بيته، ويوضح فيها الأمور، ولا يجوز تأخير البيان عند كثير من الفقهاء خاصة في أمثال هذه القضايا، لأن علياً لم يدر متى يأتيه الموت! حتى وإن علم بموته فلم يكن ليؤخر البيان في قضية خطيرة مثل هذه.
4- قال الإمام علي رضي الله عنه:
(ثم جعل سبحانه من حقوقه حقوقاً افترضها لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكافأ في وجوهها، ويوجب بعضها بعضاً، ولا يستوجب بعضها إِلا ببعض، وأعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق: حق الوالي على الرعية، وحق الرعية على الوالي، فريضة فرضها الله سبحانه وتعالى لكل على كل، فجعلها نظاماً لألفتهم، وعزاً لدينهم، فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إِلا باستقامة الرعية، فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه وأدى الوالي إليها حقها، عزّ الحق بينهم، وقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل، وجرت على أذلالها السنن، فصلح بذلك الزمان، وطمع في بقاء الدولة، ويئست مطامع الأعداء)([6])
أ- تأمل هذه الكلمات جيداً، فليست هي من قبيل الكلام المغسول عن المعاني، بل إن هذه الكلمات فيها الدواء الشافي لمن سأل عن مفهوم الخلافة والولاية في تفكير علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي لم ينطلق من النص، لأنه قال: (فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية) إن لهذا معنى واحداً محدداً: أن الوالي أو الخليفة أو المنّصب لحكم الناس إنما هو إنسان ليس معصوماً، لأن علي بن أبي طالب ربط صلاح الوالي بصلاح رعيته، فلو كان النص كانت العصمة، فلا يكون للكلام معنى حينئذ، لأنه كان يجب أن يقول: إن من ولاهم الله تعالى من آل محمد لا يمكن أن يزيغوا مهما زاغت الرعية.
ب- ثم إنه بهذا النص يحدد أنه لا بد للناس من أمير([7]) ولا يهم من يكون هذا الأمير ما دام صالحاً قائماً بالعدل، يقيم حكم الله تعالى ويؤدي حقوق الناس.
5- وفي كلام له وجهه إلى طلحة والزبير بعد بيعته بالخلافة:
(القد نقمتما يسيراً، وأرجأتما كثيراً، ألا تخبراني أي شيء كان لكما فيه حق دفعتكما عنه! أم أي قسم استأثرت عليكما به! أو أي حق رفعه إلي أحد من المسلمين ضعفت عنه، أم جهلته، أم أخطأت بابه؟!
والله ما كانت لي في الخلافة رغبة ولا في الولاية إربة، ولكنكم دعوتموني إليها، وحملتموني عليها، فلما أفضت إلي نظرت إِلى كتاب الله وما وضح لنا، وأمرنا بالحكم به فاتبعته، وما استنّ النبي صلى الله عليه وسلم فاقتديته، فلم أحتج إِلى رأيكما، ولا رأي غيركما، ولا وقع حكم جهلته فأستشيركما وإخواني من المسلمين، ولو كان ذلك لم أرغب عنكما ولا عن غيركما.
وأما ما ذكرتما من أمر الأسوة، فإِن ذلك أمر لم أحكم أنا فيه برأيي، ولا وليته هوى مني، بل وجدت أنا وأنتما ما جاء به رسوله الله صلى الله عليه وسلم قد فرغ منه، فلم أحتج إِليكما فيما فرغ الله من قسمه، وأمضى فيه حكمه، فليس لكما والله عندي ولا لغيركما في هذا عتبى أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم إِلى الحق، وألهـمنا وإِياكم الصبر)([8]).
ولنا بعض الوقفات التي لا بد منها:
أ- هنا يقول الإمام لـطلحة والزبير: (ألا تخبراني...) ولم يقل لهما: إنكما تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بتوليتي، ولم يورد أي أثر حول الإمامة واستحقاقه لها نصاً، وهو هنا يريد أن يحاججهما في هذا الأمر، فكان الأولى أن يخرج لهما النص حتى يقيم عليهما الحجة، فإذ لم يكن شيء من ذلك، علم أنه لا نص في المسألة.
ب- ثم إذا كان هناك نص فكيف يتخلف عنه الإمام، كان يجب أن يسارع في التصدي لأمر الخلافة، لا أن يقول: (والله ما كانت لي في الخلافة... غيركما)، فلم يكن منه قبول الخلافة إلا بعد دعوة الناس له وحمله عليها.
جـ - ثم هنا يضع لنا حقيقة ناصعة وهي: أن المسلم والحاكم على وجه خاص عليه النظر في الكتاب والسنة، ولم يقل رأي الأئمة وتشريعهم!
د- ثم هو يقول: (فلم أحتج... عن غيركما) لم يحتج إلى آراء الصحابة لأن عنده من نصوص الكتاب والسنة ما أغناه عن آراء الرجال، ولو وقع حكم لم يعلمه لاستشار المسلمين، مما يدل على نفي العصمة والإمامة عنه، ألا تراه قال: (ولو كان ذلك لم أرغب عنكما ولا عن غيركما) أي: لو وقع شيء لا أعرفه فسأستشير الناس وأستشيركما أيضاً، ولن أرغب عنكما!
هـ- ثم انظر إلى دعائه في ختام الكلمة، تدرك أن الرجل غير معصوم!
6- (أيها الناس؛ إن أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه، وأعلمهم بأمر الله فيه، فإن شغب شاغب استعتب، فإن أبى قوتل.
ولعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتى تحضرها عامة الناس؛ ما إلى ذلك من سبيل، ولكن أهلها يحكمون على من غاب عنها؛ ثم ليس للشاهد أن يرجع، ولا للغائب أن يختار.
ألا وإني أقاتل رجلين، رجل ادعى ما ليس به، وآخر منع الذي عليه)([9]).
أريد من القارئ أن يمض النظر في هذا الكلام، ما معنى (أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه)؟ ويجب أن نعلم بأن الخطبة أمام حشود من الناس، (هذا الأمر) يعني أمر الخلافة والإمامة والحكم، لم يقل: من نصّ عليه وهم الأئمة الأطهار آل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ثم قال: (ولعمري... يختار) ماذا تجد؟ إنه يضع معالم الهدى للخلافة والشورى وانتخاب الأمير، فيحدد أنه ليس المفروض أن يبايع جميع الناس، لأن ذلك متعذر، ولكن أهل الحل والعقد يحكمون على من غاب عنها، ثم يحدد أنه ليس لمن شهد البيعة النكوص على عقبيه واستقالة بيعته، وليس لمن غاب أن يختار.
هل هناك نص أقوى وأكثر جلاء، في نفي الإمامة والنص كمفهوم من هذا النص؟
نخلص من ذلك كله إلى أن الإمام لم يستخدم النص في الإمامة عند كلامه مع حاجته إليه؛ لأنه توكيد لأفعاله وأقواله وسلوكه، وإثبات حججه على الآخرين مما يدل على نفي هذا النص لديه!
المبحث الثاني: العصمة:
والعصمة من العقائد التي اعتنقها القوم، وآمنوا بأن جميع الأئمة يتصفون بالعصمة منذ قلامة أظافرهم بل منذ ولادتهم، وأنهم يعلمون الغيب، ولا يخطئون في صغيرة ولا كبيرة، هذا ما تنطق به كتبهم وما يعتقده السابقون واللاحقون، ولا ينكره أحد منهم اليوم.
ولكن وردت بعض كلمات علي رضي الله عنه، فيما نعتقد أنها منافية للعصمة.
1- يقول في دعاء له كان يردده كثيراً([10]):
(الحمد لله الذي لم يصبح بي ميتاً ولا سقيماً،...، ولا مأخوذاً بأسوأ عملي... ولا مرتداً عن ديني، ولا منكراً لربي...، ولا ملتبساً عقلي، أصبحت عبداً مملوكاً ظالماً لنفسي... اللهم إِني أعوذ بك أن أفتقر في غناك، أو أضل في هداك،... اللهم إِنّا نعوذ بك أن نذهب من قولك، أو أن نفتن عن دينك، أو تتابع بنا أهواؤنا دون الهدى الذي جاء من عندك).
انظر إلى هذه الألفاظ: (أسوأ عملي)، (ظالماً لنفسي)، (أضل في هداك)، (نذهب عن قولك)، (نفتن عن دينك)، (تتابع بنا أهواؤنا..) هل هذا دعاء رجل معصوم لا يخطئ ولا يظلم نفسه، ولا يخشى أن تزل به قدم، أو ينحرف بعض الشيء عن المنهج؟
فإن كان الجواب نعم، فالإمام يدعو لغواً، وحاشاه رضي الله عنه، وإن كان الجواب لا، فالعصمة منتفية ومرتفعة عنه! ثم هل المعصوم يخشى الضلال والهوى؟ وهناك من يقول: إن الله طهرهم وأعطاهم الولاية التكوينية! ولا يستقيم هذا مع كلام الإمام رضي الله عنه.
2- ثم المعصوم لا يحتاج إلى رأي الناس ما دام مسدداً من الله تعالى، بل إن هناك من ينفي مسألة الشورى، فهذا علي رضي اللهم عنه يقول: (أعينوني بمناصحة خليّة من الغش، سليمة من الريب، فوالله إِني لأولى الناس بالناس)([11])وهل يطلب المعصوم النصيحة؟ وفوق ذلك يطلب منهم أن لا يغشوه في مناصحة، لأنه بشر قد يخدع بمناصحة الآخرين والمتظاهرين بالخير كما سترى لاحقاً.
3- ثم انظر إلى دعائه الفذّ رضي الله عنه، وهو يسأل الله بقوله: (احشرنا في زمرته، غير خزايا ولا نادمين، ولا ناكبين ولا ناكثين، ولا ضالين ولا مضلين ولا مفتونين)([12]).
مع أنه من العشرة المبشرين بالجنة، إلا أنه لم يتكل على هذا بل كان دائم الخوف من الله تعالى، فهو لا يأمن على نفسه الفتنة، لهذا يسأل الله تعالى الثبات في الأمر في هذا الدعاء.
4- ثم هو يقول لأصحابه: (فلا تكفوا عن مقالة بحق، أو مشورة بعدل، فإِني لست في نفسي بفوق أن أخطئ، ولا آمن ذلك من فعلي، إِلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني، فإِنما أنا وأنتم عبيد مملوكون لرب لا رب غيره، يملك منا ما لا نملك من أنفسنا، وأخرجنا مما كنا فيه إلى ما صلحنا عليه، فأبدلنا بعد الضلالة بالهدى، وأعطانا البصيرة بعد العمى)([13]).
أ- يطلب الإمام من أصحابه أن يناصحوه وينصحوه ولا يبخلوا عليه بالمشورة، لأنه إنسان يخطئ ويصيب.
ب- انظر إلى قوله: (إني لست في نفسي بفوق أن أخطئ ولا آمن ذلك من فعلي...) فهل أدلّ من هذا النصّ على عدم عصمته رضي الله عنه بأنه فوق أن يخطئ إذ لا يأمن ذلك من نفسه، مما يدل على أنه ليس فوق البشر لا خلقة طبيعية ولا عصمة إلهية.
جـ- ثم تأمل قوله: (أبدلنا بعد الضلالة بالهدى، وأعطانا البصيرة بعد العمى).
5- وكتب عهداً إلى بعض أصحابه جاء في آخره:
(وأنا أسأل الله بسعة رحمته، وعظيم قدرته على إِعطاء كل رغبة، أن يوفقني وإِياك لما فيه رضاه، من الإِقامة على العذر الواضح إِليه وإِلى خلقه، ومن حسن الثناء في العباد، وجميل الأثر في البلاد، وتمام النعمة، وتضعيف الكرامة، وأن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة، إِنا إِلى الله راغبون، والسلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الطيبين الطاهرين)([14]).
وتأمل أخي القارئ (وأن يختم لي ولك...)، فهو يدعو الله دعوة راغب راهب، لا معصوم لا يخطئ، ولا إمام من الأئمة الذين جاء وصفهم في كثير من الكتب.
6- وفي كتاب أرسله إلى المنذر بن الجارود يقول فيه:([15])
(أما بعد: فإِن صلاح أبيك غرّني منك، وظننت أنك تتبع هديه، وتسلك سبيله، فإِذا أنت فيما رقّي إلي عنك لا تدع لهواك انقياداً... ومن كان بصفتك فليس بأهل أن يسدّ به ثغر...).
يدل هذا الكتاب دلالة لا وجه معها إلى أن علياً أخطأت فراسته في هذا الرجل، وخدع لما رأى من هيئة الصلاح والوقار، وما ظن أنه لأبيه مشابه، ولاجتهاده تابع، فتخلفت فراسته، وخدعه عقله، وخدع كما يخدع أي إنسان مخلوق في هذه الحياة، لا إلهام ولا وحي ولا عصمة!([16]).
وقد كان يقول في دعائه إذا مدحه قوم في وجهه: (اللهم إِنك أعلم بي من نفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهم اجعلني خيراً مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون)([17]).
ولنسأل: ما معنى (خيراً مما يظنون)؟ وما هو الذي يطلب الإمام من ربه أن يغفره له؟!
ومثله هذا الدعاء العظيم:
(اللهم إِني أعوذ بك من أن تحسن في لامعة العيون علانيتي، وتقبح فيما أبطن لك سريرتي، محافظاً على رياء الناس من نفسي بجميع ما أنت مطلع عليه مني، فأبدي للناس حسن ظاهري، وأفضي إِليك بسوء عملي، تقرباً إِلى عبادك وتباعداً من مرضاتك)([18]).
أرجو من القارئ أن يتأمل!
ومثله:
(ما أهمني أمر أمهلت بعده، حتى أصلي ركعتين وأسأل الله العافية)([19]).
أرجوك أخي القارئ! أن تتأمل هذا الكلام وتنـزله منزلته من فعل الإمام، فالإمام بشر كسائر البشر، يهتم ويغتم ولا يدري ما يدار في هذا الكون؛ لأنه لا يعلم الغيب، وقد تتخبطه الأكدار؛ لأنه ليس معصوماً، ثم استمع إليه قائلا لأصحابه: (وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب..)([20])فهل أدل من هذه النصوص على نفي العصمة عن هذا الصحابي الجليل؟! نعم هناك أقوى وأدلّ من كل هذه الكلمات، وسنحاول بحثه بعد قليل.
7- الوصية
وهذه وصية مهمة يوصي بها عليّ ابنه الحسن، ولأهميتها أرجأتها إلى آخر كلامي حول العصمة، لأنها وصية إمام لإمام، ووالد لابنه، ومعصوم لمعصوم حسب المفهوم الإمامي لمعنى الإمامة، ومن مستلزماتها العصمة!
جاء في الوصية:
1- (من الوالد الفان، المقر للزمان، المستدبر العمر، المستسلم للدهر، الذامّ للدنيا، الساكن مساكن الموتى، الظاعن عنها غداً.
إِلى المولود المؤمّل ما لا يدرك، السالك سبيل من قد هلك، غرض الأسقام، ورهينة الأيام، ورميّة المصائب، وعبد الدنيا، وتاجر الغرور، وغريم المنايا، وأسير الموت، وحليف الهموم، وقرين الأحزان ونصب الآفات، وصريع الشهوات، وخليفة الأموات).([21])
هذه هي مقدمة الوصية، وهي من أب إلى ابنه، فهي تحمل من الأهمية ما تحمله.
أ- انظر أيها القارئ الكريم! وتمعن في هذه الكلمات (إلى المولود المؤمل... وخليفة الأموات) وهل يكون معصوماً من يسميه عليّ (عبد الدنيا)، و(تاجر الغرور).
ب- بل انظر إلى عباراته التي تنبئ عن رفض العصمة رفضاً قاطعاً، فهو يسميه (صريع الشهوات) كيف؟ أم أن الإمام يتكلم بما لا يدرك ولا يعي، ويلقي الكلام على عواهنه؟!
جـ- وإما أن يكونا معصومين فأخطأ العبارة علي رضي الله عنه وقال: (صريع الشهوات)، أي تصرعه الشهوات فلا يكون معصوماً، أو أن يكون يدلس على سامعيه ومنهم الحسن، ويستخدم التقيّة ليخبرهم بأن إمامكم صريع الشهوات ولكن في حقيقة الأمر أنه معصوم!
إذن لا بد من التفكر والتدبر في هذا الكلام ولماذا قاله.
2- ثم يسترسل الإمام في وصية ابنه:
(أما بعد: فإِن فيما تبينت من إِدبار الدنيا عني، وجموح الدهر عليّ، وإقبال الآخرة إِليّ، ما يزعني عن ذكر من سواي، والاهتمام بما ورائي، غير أني حيث تفرّد بي دون هموم الناس همّ نفسي، فصدّقني رأيي وصرفني عن هواي، وصرّح لي محض أمري، فأفضى بي إِلى جدّ لا يكون فيه لعب، وصدق لا يشوبه كذب، وجدتك بعضي، بل وجدتك كلّي، حتى كأن شيئاً لو أصابك أصابني، وكأن الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي، فكتبت إِليك كتابي هذا مستظهراً به إِن أنا بقيت لك أو فنيت)([22]).
تأمل جيداً قوله: (غير أني حيث... فصدقني رأيي، وصرفني عن هواي، وصرّح لي محض أمري،...) انظر إلى الكلمات: همّ نفسي، رأيي، هواي، محض أمري....
وهل للمعصوم هوى حتى يمضي به في كل الاتجاهات؟
3- (فإِني أوصيك بتقوى الله- أي بنيّ- ولزوم أمره، وعمارة قلبك بذكره، والاعتصام بحبله، وأي سبب أوثق من سبب بينك وبين الله، إِن أنت أخذت به.
أحي قلبك بالموعظة، وأمته بالزهادة، وقوّه باليقين، ونوّره بالحكمة، وذلّله بذكر الموت، وقرّره بالفناء، وبّره بفجائع الدنيا، وحذّره صولة الدهر، وفحش تقلب الليالي والأيام، واعرض عليه أخبار الماضين، وذكّره بما أصاب من كان قبلك من الأولين.
وسر في ديارهم وآثارهم، فانظر فيما فعلوا؟ وعمّا انتقلوا؟ وأين حلّوا ونزلوا؟ فإِنك تجدهم انتقلوا عن الأحبة، وحلّوا دار الغربة، وكأنك عن قليل قد صرت كأحدهم.
فأصلح مثواك، ولا تَبِع آخرتك بدنياك، ودع القول فيما لا تعرف، والخطاب فيما لم تكلّف، وأمسك عن طريق إذا خفت ضلالته، فإِن الكفّ عند حيرة الضلال خير من ركوب الأهوال)([23]).
ولنا أن نقف هنا بعض الوقت نتريث:
أ- لماذا يوصي المعصوم معصوماً آخر بما هو متأكد من عمله؟ وأعني لماذا يوصي عليّ الحسن بتقوى الله، ولزوم أوامره، ثم يأمره بإحياء قلبه بالموعظة؟
أو ليس المعصوم على وتيرة واحدة في سلوكه لا يزيغ ولا يضل ولا تتجارى به الأهواء؟...
ب- ثم انظر وتدبر الفقرة الأخيرة، بقوله: (فأصلح مثواك... الأهوال)، النهي عن بيع الآخرة بالدنيا، وأن يدع القول بما لا يعرف، وكيف يكون إماماً لا يعرف؟
أدع القارئ المنصف يتأمل هذه الوصية ويتدبرها!
4- (وأمر بالمعروف تكن من أهله، وأنكر المنكر بيدك ولسانك، وباين من فعله بجهدك، وجاهد في الله حق جهاده، ولا تأخذك في الله لومة لائم.
وخض الغمرات إِلى الحق حيث كان، وتفقه في الدين، وعوّد نفسك الصبر على المكروه، ونعم الخلق التصبّر في الحق!
وألجئ نفسك في الأمور كلها إِلى إِلهك، فإِنك تلجئها إلى كهف حريز، ومانع عزيز.
وأخلص في المسألة لربك، فإن بيده العطاء والحرمان، وأكثر الاستخارة، وتفهّم وصيتي، ولا تذهبنّ عنك صفحاً، فإِن خير القول ما نفع، واعلم أنه لا خير في علم لا ينفع، ولا ينتفع بعلم لا يحقّ تعلّمه)([24]).
ما أصفى وأنقى وأرفع هذا الكلام!
إنها ليست وصية؛ إنها منهاج يكتب بماء الذهب لمسلمة اليوم كافة، ولمن تدبره وفقهه حق الفقه، ثم انظر إلى ألفاظه: (تفقّه في الدين) وهذا ينفي العلم اللدنّي الذي عند الأئمة: (عود نفسك الصبر على المكروه) أي: درّبها على هذا الخلق الجميل، وهل معصوم يدرّب نفسه على ذلك، أم أنها الفطرة التي فطر عليها، ثم: (أكثر الاستخارة) إذا كان معصوماً لا يخطئ في طريقه فما حاجته إلى الاستخارة وهو المسدد المؤيد؟
ثم قال:
5- (ورأيت حيث عناني من أمرك ما يعني الوالد الشفيق، وأجمعت عليه من أدبك أن يكون ذلك وأنت مقبل العمر ومقتبل الدهر، ذو نية سليمة، ونفس صافية، وأن أبتدءك بتعليم كتاب الله عزّ وجلّ وتأويله وشرائع الإِسلام وأحكامه، وحلاله وحرامه لا أجاوز ذلك بك إِلى غيره، ثم أشفقت أن يلتبس عليك ما اختلف الناس فيه من أهوائهم وآرائهم مثل الذي التبس عليهم، فكان إحكام ذلك على ما كرهت من تنبيهك له أحبّ إلي من إِسلامك إِلى أمر لا آمن عليك فيه الهلكة، ورجوت أن يوفقك الله فيه لرشدك، وأن يهديك لقصدك، فعهدت إِليك وصيتي هذه)([25]).
أ- ماذا يعني (ذو نية سليمة)؟ وهل تتغير نيات المعصوم حتى ينعته بأنه (كان ذا نية سليمة ونفس صافية)؟
ب- ثم لماذا يعلمه أبوه ويبتدؤه بكتاب الله عز وجل، ما دام الإمام لا يعلّم الكتاب ويكون حافظاً مستوعباً للعلوم كلها، هل المعصوم بحاجة إلى معلم؟!
جـ- ثم تأمل (أشفقت أن...)كيف يلتبس هذا الأمر الذي يختلف فيه الناس، على إمام منصوب بالنص معصوم عن الأهواء والأخطاء؟ ثم انظر إلى قوله: (ورجوت أن يوفقك الله...)تجدها ملأى بالمعاني الإنسانية البشرية لأب يعتصر قلبه ألماً وحزناً وخوفاً على ابنه!
6- (واعلم يا بُنيّ! أن أحبّ ما أنت آخذ به من وصيتي تقوى الله والاقتصار على ما فرضه الله عليك، والأخذ بما مضى عليه الأولون من آبائك، والصالحون من أهل بيتك، فإِنهم لم يدعوا أن نظروا لأنفسهم كما أنت ناظر، وفكروا كما أنت مفكّر، ثمّ ردّهم آخر ذلك إِلى الأخذ بما عرفوا، والإِمساك عما لم يكلّفوا، فإِن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا، فليكن طلبك ذلك بتفهّم وتعلّم، لا بتورّط الشبهات وعلق الخصومات.
وابدأ قبل نظرك في ذلك بالاستعانة بإِلهك، والرغبة إِليه في توفيقك، وترك كل شائبة أولجتك في شبهة، أو أسلمتك إِلى ضلالة، فإِن أيقنت أن قد صفا قلبك فخشع، وتمّ رأيك فاجتمع، وكان همّك في ذلك همّاً واحداً، فانظر فيما فسّرت لك، وإِن أنت لم يجتمع لك ما تحب من نفسك، وفراغ نظرك وفكرك، فاعلم أنك إِنما تخبط خبط العشواء، وتتورط الظلماء، وليس طالب الدين من خبط أو خلط، والإمساك عن ذلك أمثل)([26]).
أ- تأمل أخي المنصف والقارئ الناقد.. ذا القلب الحصيف، في هذه الكلمات: أن الإمام يأمر ابنه بالاقتصار على الفرائض، والاقتداء بالسابقين الصالحين، ثم يخبره أن الأمر نظر وتفكر وتدبر، لا إلهام أو وحي أو عصمة أو تسديد دائم، ثم ينهاه أن يكون طريقه بتورط الشبهات، ولكن بتفهم وتدبر.
ب- ثم انظر الفقرة الثانية: (أولجتك في شبهة) أي أدخلتك في شبهة، والشبهة هي التي لا يتبين صوابها من خطئها، وحلالها من حرامها، وهل المعصوم يقع في الشبهات؟ وتتخبطه الأهواء والأمور كغيره من الناس؟ وإلا ما معنى كلام الأب هذا لابنه؟!
جـ- ثم تدبر آخر فقرة (فاعلم أنك إنما...) وزنها بعقلك، وتبصّر بها، واعقل هذا الكلام الرفيع عن هذا الرجل العظيم.
ثم قال:
7- (فتفهّم يا بُنيّ! وصيّتي، واعلم أن مالك الموت هو مالك الحياة، وأن الخالق هو المميت، وأن المفني هو المعيد، وأن المبتلي هو المعافي، وأن الدنيا لم تكن لتستقرّ إِلا على ما جعلها الله عليه من النعماء والابتلاء والجزاء في المعاد، أو ما شاء مما لا تعلم، فإِن أشكل عليك شيء من ذلك فاحمله على جهالتك، فإِنك أول ما خلقت به جاهلاً ثم علّمت، وما أكثر ما تجهل من الأمر، ويتحيّر فيه رأيك، ويضل فيه بصرك، ثم تبصره بعد ذلك!)([27]).
في هذا النص الجلي والواضح عدة مسائل:
أ- طلب الإمام ابنه ليتفهم الوصية، وفي هذا معنى طلب التركيز والوعي والاستماع والتنبه إلى القائل وإلى المقيل.
ب- تأمل هذه الألفاظ واقرأ معانيها بعقل وذهن، وعينين منفتحين ولا تغمض عينك طلباً للتقليد، فـالحسن لا يعلم كل شيء وإنما هناك أمور لم يعرفها فيتعلمها من غيره (فإن أشكل عليك شيء) معناه ماذا؟ معناه أن هناك أموراً ستشكل عليه ولا يعرفها.
جـ- يعلمنا الإمام بأن الحسن ولد جاهلاً كخلق الله أجمعين ثم علم، وتدرج بالتعلم.
د- نفي العصمة نفياً قاطعاً لا لبس فيه بهذه الكلمات (وما أكثر ما تجهل).
هـ- أدع القارئ يتأمل هذا القول السديد من هذا الرجل المشفق على ولده، انظر إلى كلامه: (مما لا تعلم...)، (فإن أشكل عليك...)، (فإنك أول ما خلقت به جاهلاً ثم علّمت...)، (وما أكثر ما تجهل من الأمر، ويتحير فيه رأيك، ويضلّ فيه بصرك...).
كن منصفاً أيها القارئ! ثم كن ذا عقل لمّاح، وتفكير ناقد، وإنما يؤتى المرء من شبهاته وشهواته، ولا يكن التقليد لك طريقاً.. بل انبذه وانطلق؛ لأن الله وهب لنا العقول لنتفكر ونتدبر، لا لنقلد وننكفئ على من سبقنا!
8- وقال أيضاً:
(فاعتصم بالذي خلقك ورزقك وسوّاك، فليكن له تعبّدك، وإليه رغبتك، ومنه شفقتك.
واعلم يا بنيّ! أن أحداً لم ينبئ عن الله سبحانه وتعالى كما أنبأ عليه نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، فارض به رائداً، وإِلى النجاة قائداً، فإِني لم آلك نصيحة، وإِنك لن تبلغ في النظر لنفسك وإِن اجتهدت مبلغ نظري لك)([28]).
انظر إلى قوله (فارض به رائداً) وكفى!
9- (واعلم يا بنيّ! أنه لو كان لربك شريك لأتتك رسله، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه، ولعرفت أفعاله وصفاته، ولكنه إله واحد كما وصف نفسه، لا يضادّه في ملكه أحد، ولا يزول أبداً ولم يزل، أول قبل الأشياء بلا أولية، وآخر بعد الأشياء بلا نهاية، عظم أن تثبت ربوبيته بإحاطة قلب أو بصر.
فإِذا عرفت ذلك فافعل كما ينبغي لمثلك أن يفعله في صغر خطره، وقلّة مقدرته، وكثرة عجزه، وعظيم حاجته إِلى ربه في طلب طاعته، والرهبة من عقوبته، والخشية من عقوبته، والشفقة من سخطه، فإِنه لم يأمرك إِلا بحسن، ولم ينهك إِلا عن قبيح)([29]).
إن خوف علي بن أبي طالب رضي الله عنه على ابنه ذهب به بعيداً، فقام يذكره بالأوليات والمبادئ التي أول ما يتعلمها المسلم من وحدانية الله تعالى، ثم قال له: (فإذا عرفت ذلك) وهل المعصوم تعزب عنه أمثال هذه القضايا، إما أن يكون الحسن رضي الله عنه بحاجة إلى هذا التذكير كإنسان مثل كل الأناسيّ، وإما أنّ كلام الإمام لغو لا فائدة فيه، وحاشاه رضي الله عنه.
10- (يا بنيّ! اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها، ولا تظِلم كما لا تحب أن تُظلم، وأحسن كما تحبّ أن يحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك، وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك، ولا تقل ما لا تعلم وِإن قلّ ما تعلم، ولا تقل ما لا تحبّ أن يقال لك.
واعلم أن الإعجاب ضدّ الصواب، وآفة الألباب، فاسع في كدحك، ولا تكن خازناً لغيرك، وإذا أنت هديت لقصدك، فكن أخشع ما تكون لربك)([30]).
أريد منك أن تقرأ: (ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم... ولا تقل ما لا تعلم) هل نحن بحاجة أي مزيد بيان؟
11- (واعلم أن أمامك طريقاً ذا مسافة بعيدة، ومشقّة شديدة، وأنه لا غنى لك فيه عن حسن الارتياد، وقدر بلاغك من الزاد، مع خفة الظهر، فلا تحملن على ظهرك فوق طاقتك، فيكون ثقل ذلك وبالاً عليك، وإذا وجدت من أهل الفاقة من يحمل لك زادك إلى يوم القيامة، فيوافيك به غداً حيث تحتاج إليه فاغتنمه وحمّله إِياه، وأكثر من تزويده وأنت قادر عليه، فلعلك تطلبه فلا تجده.
واغتنم من استقرضك في حال غناك، ليجعل قضاءه لك في يوم عسرتك.
واعلم أن أمامك عقبة كؤوداً، المخفّ فيها أحسن حالاً من المثقل، والمبطئ عليها أقبح أمراً من المسرع، وأن مهبطها بك لا محالة، إِما على جنة أو على نار، فارتد لنفسك قبل نزولك، ووطئ المنزل قبل حلولك، فليس بعد الموت مستعتب، ولا إلى الدنيا منصرف)([31]).
أرجو أن تتدبر الفقرة الأخيرة (واعلم أن أمامك...) ماذا تجد؟ يقول الإمام لابنه الحسن: (اعمل ليكون مصيرك الجنة!) وهل المعصوم بحاجة إلى هذا؟
قال: (فلرب أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته...)([32])كيف يسأل المعصوم ربه شيئاً فيه هلاك دينه؟ هل يمكن ذلك أن يكون؟
12- (واعلم يا بني! أنك خلقت للآخرة لا للدنيا، فكن منه –الموت- على حذر أن يدركك وأنت على حال سيئة، قد كنت تحدّث نفسك منها بالتوبة، فيحول بينك وبين ذلك، فإِذا أنت قد أهلكت نفسك...)([33]).
هل يكون المؤمن المسلم على حال سيئة عند الموت فضلاُ عن المعصوم؟! وإلا لماذا يحذره الإمام هذا التحذير، أتراه لا معنى له ولا فائدة تنطوي تحته؟!
13- وكان مما قال في الوصية:
(من أكثر أهجر، ومن تفكر أبصر.
قارن أهل الخير تكن منهم، وباين أهل الشر تبن عنهم.
بئس الطعام الحرام، وظلم الضعيف أفحش الظلم!
إِذا كان الرفق خرقاً، كان الخرق رفقاً.
ربما كان الدواء داء، والداء دواء، وربما نصح غير الناصح، وغش المستنصح.
وإِياك والاتكال على المنى فإِنها بضائع النوكى، والعقل حفظ التجارب، وخير ما جرّبت ما وعظك، بادر الفرصة، قبل أن تكون غصّة، ليس كل طالب يصيب، ولا كل غائب يثوب، ومن الفساد إِضاعة الزاد، ومفسدة المعاد، ولكل أمر عاقبة، سوف يأتيك ما قدر لك.
التاجر مخاطر، ورب يسير أنمى من كثير!)([34]).
انظر إلى كلامه: (قارن أهل الخير...) كن من أقرانهم وصاحبهم، ثم انظر: (وإياك والاتكال على المنى...) يحذره أن يكون من أصحاب الأماني الذين يتمنون على الله الأماني، ويتكلون عليها دون عمل، ثم انظر قوله: (خير ما جربت ما وعظك...) و(بادر الفرصة قبل أن تكون غصّة...)
لا يمكن أن يصدر هذا الكلام إلى معصوم يعرف تكليفه الشرعي، ولا ينسى وعلمه رباني!
14- (لا تتخذن عدو صديقك صديقاً فتعادي صديقك، وامحض أخاك النصيحة، حسنة كانت أو قبيحة، وتجرع الغيظ فإني لم أر جرعة أحلى منها عاقبة، ولا ألذ مغبة، ولِن لمن غالظك فإنه يوشك أن يلين لك، وخذ على عدوّك بالفضل فإِنه أحد الظفرين، وِإن أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقية يرجع إِليها إِن بدا ذلك له يوماً ما، ومن ظنّ بك خيراً فصدّق ظنه، ولا تضيعنَ حق أخيك اتكالاً على ما بينك وبينه، فإِنه ليس لك بأخ من أضعت حقه، ولا يكن أهلك أشقى الخلق بك، ولا ترغبنّ فيمن زهد عنك، ولا يكوننّ أخوك أقوى على قطيعتك منك على صلته، ولا تكوننّ على الإساءة أقوى منك على الإحسان، ولا يكبرنّ عليك ظلم من ظلمك، فإنه يسعى في مضرّته ونفعك، وليس جزاء من سرّك أن تسوءه)([35]).
ثم استمر في النصيح قائلاً:
(استدلّ على ما لم يكن بما قد كان، فإِن الأمور أشباه، ولا تكوننّ ممن لا تنفعه العظة إِذا بالغت في إِيلامه، فإِن العاقل يتّعظ بالآداب، والبهائم لا تتّعظ إلا بالضرب.
اطرح عنك واردات الهموم بعزائم الصبر وحسن اليقين.
من ترك القصد جار، والصاحب مناسب، والصديق من صدق غيبه، والهوى شريك العمى، وربّ بعيد أقرب من قريب، وقريب أبعد من بعيد، والغريب من لم يكن له حبيب.
من تعدى الحق ضاق مذهبه، ومن اقتصر على قدره كان أبقى له، وأوثق سبب أخذت به سبب بينك وبين الله سبحانه، ومن لم يبالك فهو عدوّك.
قد يكون اليأس إدراكاً إذا كان الطمع هلاكاً.
ليس كل عورة تظهر، ولا كل فرصة تصاب، وربما أخطأ البصير قصده، وأصاب الأعمى رشده.
أخّر الشرّ فإِنك إذا شئت تعجلته، وقطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل.
من أمن الزمان خانه، ومن أعظمه أهانه.
ليس كلّ من رمى أصاب.
إذا تغير السلطان، تغيّر الزمان.
سل عن الرفيق قبل الطريق، وعن الجار قبل الدار)([36]).
تؤكد لنا هذه النصيحة العظيمة بما لا يدع مجالاً للشك والطعن برفع العصمة والعلم اللدنّي عن الأئمة، وأنهم لا يحملون نصاً يفردهم عن بقية العباد، وأنهم بشر كسائر البشر ينسون ويخطئون ويجهلون ويشكون، وقد يخدعون عن عقولهم.
المبحث الثالث: الصحابة:
الصحابة عندهم إما كفار خارجون عن الإسلام، وإما فساق خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عمداً على عين! ولهذا فالكثيرون منهم يلعنونهم ويسبونهم، ويخصّون بالسبّ واللعن أو التبري الخلفاء الثلاثة، وعائشة ومعاوية رضي الله عنهم أجمعين، وينسبون إلى الأئمة أحاديث وأقوالاً تطعن بالصحابة وتنقص من مكانتهم ويتهمونهم أشنع التهم.
وبالنظر إلى كلام الإمام في نهج البلاغة نرى منطقاً آخر، وتوجهاً مخالفاً كل المخالفة لما يدور على ألسنتهم.
وسنتكلم في هذا المبحث عن الصحابة، ونرجئ الكلام عن معاوية وأهل الشام إلى مبحث آخر.
1- قال الإمام علي واصفاً الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع أصحابه في القتال:
(وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إِذا احمرّ الباس، وأحجم الناس، قدّم أهل بيته فوقى بهم أصحابه حرّ السيوف والأسنّة)([37]).
فهل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقي أناساً فسّاقاً أو كفاراً، بأعزّ ما لديه وهم أهل بيته؟
ثم أحبّ أن تتدبر هذه الكلمات القليلة التي قالها الإمام، وتتفكر فيها، وتنظر لماذا قال الإمام هذا الكلام؟ أهي التقيّة كما يدّعي البعض أم أن هناك أمرا آخر؟
2- قال مرة كلاماً حول البيعة هذا نصه:
(إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يردّ، وإِنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فاٍن اجتمعوا على رجل وسمّوه إِماماً كان ذلك لله رضاً، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردّوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى)([38]).
إنه نص ثمين ذو قيمة عالية في فهم الأمور في قضية الشورى والبيعة، وإليك بعض الملاحظات المهمة في هذا الأمر:
أ- أريد منك أن تقف طويلاً أمام (بايعني القوم...) وتتساءل لماذا قال الإمام: إنّ هؤلاء القوم الذين بايعوا الخلفاء السابقين هم من بايعني؟ ولماذا يحدد هؤلاء الناس في البيعتين؟ أوليس هناك أمر مهم جداً يريد الإمام توضيحه؟ فأولئك المبايعون لم يخرج أحد منهم على الخلفاء بطعن أو بدعة ولا شيء آخر فهكذا أنا بويعت!
ب- ثم لو افترضنا أن علياً رضي الله عنه إنما يريد أن يلزم خصمه بالحجة، فيقول: إن هؤلاء بايعوني كما بايعوا السابقين فتلزمك الحجة بالمبايعة، لو سلمنا جدلاً بصحة هذا الادعاء فأين نذهب بكلمة: (إنما الشورى للمهاجرين والأنصار)؟
والإمام يتكلم بلغة العرب، ونحن نعرف ماذا تؤدي (إنما) التي تفيد القصر والحصر، كما قال تعالى: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ..)) [الحجرات:10] وما عداهم لا يدخل في زمرتهم، فهو ليس أخاً لهم..! وكذلك هذه: (أي لا تكون الشورى في البيعة والاختيار إلا للمهاجرين والأنصار) فهذا مدح لهم أولاً، لأنهم أهل لهذه الشورى عن أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ب- ثم انظر إلى قوله: (فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضاً..)، فهؤلاء إذا اجتمعوا على رجل خليفة لهم سيكون ذلك رضاً لله تعالى، أي مدح أكبر من ذلك لهم؟! فما اتفقوا عليه رضي الله تعالى عنه!
د- ثم انظر إلى (فإن خرج...) وتأمل كلماته جيداً، ثم لاحظ كلمة الإمام (... فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين...) وما هو سبيل المؤمنين غير سبيل ومنهج المهاجرين والأنصار، أي أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟
3- وفي كتاب له لـمعاوية يقول فيه:
(ألا ترى غير مخبر لك، ولكن بنعمة الله أحدث أن قوماً استشهدوا في سبيل الله تعالى من المهاجرين والأنصار، ولكلّ فضل، حتى إذا استشهد شهيدنا قيل: سيد الشهداء، وخصّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه!)([39]).
ماذا تجد في هذا الكتاب، إنه مدح وتعظيم لهؤلاء النفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ولكلّ فضل).
رحمك الله أبا الحسن، كنت تنزل الناس منازلها. وفي كتاب آخر يقول فيه: (وذهب المهاجرون الأولون بفضلهم...)([40]).
4- وقال مرة في وصف شدة قتال أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
(لقد كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نقتل آباءنا وأبناءنا وإِخواننا وأعمامنا، ما يزيدنا ذلك إلا إيماناً وتسليماً، ومضيّا على اللقم، وصبرا على مضض الألم، وجدّاً في جهاد العدو، ولقد كان الرجل منا والآخر من عدونا يتصاولان تصاول الفحلين، يتخالسان أنفسهما، أيهما يسقي صاحبه كأس المنون، فمرة لنا من عدونا ومرة لعدونا منا، فلما رأى الله صدقنا أنزل بعدونا الكبت، وأنزل علينا النصر، حتى استقرّ الإِسلام ملقياً جرانه، ومتبوئاً أوطانه.
ولعمري لو كنا نأتي ما أتيتم ما قام للدين عمود، وما اخضرّ للإيمان عود، وايم الله لتحتلبنّها دماً، ولتتبعنّها ندماً!)([41]).
مَنْ هؤلاء الذين كانوا يقاتلون مع النبي صلى الله عليم وآله وسلم ولم يسمهم عليّ؟ أوليسوا هم معظم الصحابة الذين نصروا الإسلام وعززوا مكانته، ونصروا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم؟ أين هذا من كلام الذين يتهمون الصحابة بعدم نصرة الدين والنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وادعائهم بأن الإمام فقط هو من نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟
5- وفي كلام له يخاطب أصحابه الذين معه يقاتلون، قال موبخاً لهم ومتذكراً ما كان من السابقين من الصحابة:
(أين القوم الذين دعوا إِلى الإِسلام فقبلوه، وقرءوا القرآن فأحكموه، وهيجوا إِلى الجهاد فولهوا له وَلَه اللقاح إِلى أولادها، وسلبوا السيوف أغمادها، وأخذوا بأطراف الأرض زحفاً زحفاً، وصفاً صفاً، بعض هلك، وبعض نجا، لا يبشّرون بالأحياء ولا يعزّون على الموتى، مُره العيون من البكاء، خمص البطون من الصيام، ذبل الشفاه من الدعاء، صفر الألوان من السهر، على وجوههم غبرة الخاشعين؟! أولئك إِخواني الذاهبون، فحقّ لنا أن نظمأ إِليهم، ونعضّ الأيدي على فراقهم!)([42]).
من هؤلاء القوم الذين عناهم عليّ رضي الله عنه؟ وهم جمع وكثرة لا تحصى، ومنهم أموات ومنهم أحياء، هل هم من قال إن الصحابة جميعهم ارتدوا إلاّ أربعة، فهل هم هؤلاء الأربعة، أم أنهم جميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ إن المنصف المحبّ للإمام عليّ لا يمكن إلا أن يقرّ بأن هؤلاء هم أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
6- ومن كلام له رضي الله عنه قاله للخوارج، سأذكره دون تعليق:
(فإِن أبيتم إِلا أن تزعموا أني أخطأت وضللت، فَلِمَ تضللون عامة أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بضلالي، وتأخذونهم بخطئي، وتكفّرونهم بذنوبي! سيوفكم على عواتقكم، تضعونها مواضع البرء والسقم، وتخلطون من أذنب بمن لم يذنب، وقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجم الزاني المحصن، ثم صلى عليه، ثم ورثه أهله، وقتل القاتل وورث ميراثه أهله، وقطع يد السارق وجلد الزاني غير المحصن، ثم قسم عليهما من الفيء ونكحا المسلمات، فأخذهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذنوبهم، وأقام حق الله فيهم، ولم يمنعهم سهمهم من الإِسلام، ولم يخرج أسماءَهم من بين أهله، ثمّ أنتم شرار الناس، ومن رمى به الشيطان مراميه وضرب به تيهه، وسيهلك فيّ صنفان: محبّ مفرط يذهب به الحب إِلى غير الحقّ، ومبغض مفرط يذهب به البغض إِلى غير الحقّ، وخير الناس فيّ حالاً النمط الأوسط فالزموه، والزموا السواد الأعظم فإِن يد الله على الجماعة، وإِياكم والفرقة)([43]).
7- وجاء في الكتاب من خطبة له عليه السلام في شأن الحكمين وذمّ أهل الشام:
(جفاة طغام، عبيد أقزام، جمعوا من كل أرب، وتلقطوا من كل شوب، ممن ينبغي أن يفقه ويؤدّب، ويعلّم ويدرب، ويولّى عليه ويؤخذ على يديه، ليسوا من المهاجرين والأنصار، ولا من الذين تبوءوا الدار والإيمان)([44]).
ينفي أن يكون هؤلاء من المهاجرين والأنصار الذين تبوءا الدار والإيمان، أوليس هذا مدحاً للمهاجرين والأنصار الذين نفى أن يكون هؤلاء الجفاة الطغام منهم؟
ثم يقول عن الأنصار: (هم والله ربّوا الإِسلام كما يربى الفلوّ مع غنائهم بأيديهم السياط، وألسنتهم السلاط)([45]).
أيّ مدح أكبر من هذا للأنصار رضي الله تعالى عنهم، فالإمام يخبر بأنهم هم الذين رعوا الإسلام وحافظوا عليه حتى انتشر وقام للدين عموده!
8- وقال مرة: (وذهب المهاجرون الأولون بفضلهم)([46])قال هذا في كتاب له إلى معاوية بن أبي سفيان.
9- وقال مرة عن الصحابة: (إِنما اختلفنا عنه لا فيه)([47])إن هذا معناه تسويغ الخلاف بينه وبين إخوانه من الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فالاختلاف لم يكن في الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وحول أصول الإسلام، وإنما كان الاختلاف في أمور في فهمهم لبعض النصوص، وهذا مما يدلّ على أن الرجل لا يكفر إخوانه ولا يفسقهم.
10- والآن سأورد خطبة أوردها شارح النهج:
(فتولى أبو بكر تلك الأمور، فيسّر وسدّد، وقارب واقتصد، وصحبته مناصحاً، وأطعته فيما أطاع الله فيه جاهداً، وما طمعت أن لو حدث له حادث وأنا حيّ أن يردّ إليّ الأمر الذي نازعته فيه طمع مستيقن، ولا يئست منه يأس من لا يرجوه، ولولا خاصة ما كان بينه وبين عمر، لظننت أنه لا يدفعها عنّي، فلما احتضر بعث إلى عمر فولاه، فسمعنا وأطعنا وناصحنا)([48]).
ثم قال: (وتولى عمر الأمر، فكان مرضي السيرة، ميمون النقيبة...).
أي عاقل منصف أو قارئ محايد لا يمكن إلا أن يقر بأن علي بن أبي طالب إنما يمدح هذين الخليفتين بهذا الكلام، حتى ولو كان هناك خلاف بينهم إن كان ثمة خلاف، فهذا الخلاف لم يؤثر على خلق عليّ ويجعله ينطق بالحق لـأبي بكر وعمر رضي الله عن الجميع.
هذا من حيث العموم أما على وجه الخصوص في المدح فنقول:
1- مدح عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
جاءت خطب كثيرة فيها مدح عمر تلميحاً، وسأذكر ما جاء فيه تصريح لهذا الخليفة الراشد رضي الله عنه.
أ- قال: (لله بلاد فلان، فلقد قوّم الأود، وداوى العمد، وأقام السنة وخلّف الفتنة، ذهب نقيّ الثوب قليل العيب، أصاب خيرها وسبق شرها.
أدّى إلى الله طاعته واتقاه بحقه، رحل وتركهم في طرق متشعبة، لا يهتدي بها الضال، ولا يستيقن المهتدي)([49]).
تأمل هذه الكلمات في حق هذا الخليفة الراشد الثاني: (أقام السنة)، (ذهب نقي الثوب قليل العيب)، (أدى إلى الله طاعته)، هل يتناسب هذا الكلام مع ما يذكر حول هذا الخليفة من سبّ وشتم ولعن، وأنه غصب لخلافة علياً؟
من نصدّق؟ الذي عاصر وعاشر وأدرك زمانهم، أم ذاك الذي تأخر عنهم فقام يفتري عليهم؟
ب- ومن كلام له رضي الله عنه وقد شاوره عمر بن الخطاب في الخروج إلى غزو الروم:
(وقد توكل الله لأهل هذا الدين بإِعزاز الحوزة، وستر العورة، والذي نصرهم وهم قليل لا ينتصرون، ومنعهم وهم قليل لا يمتنعون، حيّ لا يموت.
إِنك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك، فتلقهم فتنكب، لا يكن للمسلمين كهف دون أقصى بلادهم، ليس بعدك مرجع يرجعون إِليه، فابعث إِليهم رجلاً مجرباً، واحفز معه أهل البلاء والنصيحة، فإِن أظهر الله فذاك ما تحب، وإن تكن الأخرى كنت ردءاً للناس ومثابة للمسلمين)([50]).
هذا كلام عليّ لـابن الخطاب، وأريدك أن تتأمل: (لا يكن للمسلمين كهف...)، (ليس بعدك مرجع...) (فإن أظهر الله... ومثابة للمسلمين....).
أرأيت كيف يكون الإنصاف وتمحيص النصح؟ وكيف أن الرجل قد قال كلمة حق في الخليفة الراشد الثاني رضي الله عنه؟ ولا أظن أن علي بن أبي طالب يداهن أو ينافق أو يتخذ من التقيّة سبيلاً.
جـ- ومن كلام له رضي الله عنه وقد استشاره عمر في الشخوص لقتال الفرس بنفسه:
(إِن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا بقلة، وهو دين الله الذي أظهره، وجنده الذي أعدّه وأمدّه، حتى بلغ ما بلغ وطلع حيثما طلع، ونحن على موعود من الله، والله منجز وعده، وناصر جنده، ومكان القيّم بالأمر مكان النظام من الخرز، يجمعه ويضمه، فإِن انقطع النظام تفرق وذهب، ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً.
والعرب اليوم وإن كانوا قليلاً فهم كثيرون بالإِسلام، عزيزون بالاجتماع، فكن قطباً واستدر الرحى بالعرب، وأصلهم دونك نار الحرب، فإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها، حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهمّ إِليك مما بين يديك.
إِن الأعاجم إن ينظروا إِليك غداً يقولوا: هذا أصل العرب، فإِذا اقتطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشدّ لكلبهم عليك وطمعهم فيك)([51]).
تأمل أن هذا كلام لـعمر بن الخطاب الخليفة آنذاك، وهي كلمات تدلّ على ثقة الخليفة، وعلى حب الإمام له، وعلى أهمية هذا الخليفة في هذه الحرب!
د- وقال مرة أخرى: (ووليهم وال فأقام واستقام حتى ضرب الدين بجرانه)([52]).
وهذا الوالي هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
2- مع عثمان رضي الله عنه:
أ- قال في كتاب أرسله إلى معاوية:
(ثم ذكرت ما كان من أمري وأمر عثمان، فلك أن تجاب عن هذه لرحمك منه، فأينا كان أعدى له، وأهدى إلى مقاتله! أمن بذل له نصرته فاستقعده واستكفّه، أمّن استنصره فتراخى عنه وبث المنون إليه، حتى أتى قدره عليه!
كلا والله لقد ((يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً)) [الأحزاب:18)]([53])فإذا كان عثمان رضي الله عنه فاسقاً أو مغتصباً للخلافة فكيف جاز للإمام أن يذود عن فاسق أو مغتصب للخلافة؟ وهل يجوز أن ينصر الإمام عليّ أهل الزيغ والضلال والباطل؟
حاشاه رضي الله عنه، وإنما ينصر الحق وأهله، وقد نسب قول للنبي صلى الله عليهم وآله وسلم بأن «عليّ مع الحق والحق مع عليّ»، فهل نصرة هذا الإمام حق أم باطل؟
فإذا كان عليّ مع الحق ولا يفارقه، فهذه نصرة للخليفة، فهو حق، فلماذا لا تنصر الشيعة بألسنتها من نصره الإمام عليّ بسيفه؟ أما أن يكون الإمام فعل فعلاً باطلاً فلا يجوز الاقتداء به، وهل يجوز على المعصوم فعل الباطل؟ وإما أن الإمام فعل ما كان حقاً عليه وواجباً ولم يخالف الشرع!
ب- وقال مرة لـعثمان رضي الله عنه عندما ثار الناس عليه:
«إِن الناس ورائي وقد استسفروني بينك وبينهم، ووالله ما أدري ما أقول لك! ما أعرف شيئاً تجهله، ولا أدلك على أمر لا تعرفه!
إنك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه، ولا خلونا بشيء فنبلّغكه، وقد رأيت كما رأينا، وسمعت كما سمعنا، وصحبت رسول الله صلى الله عليه وآله سلم كما صحبنا، وما ابن أبي قحافة ولا ابن الخطاب بأولى بعمل الخير منك، وأنت أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشيجة رحم منهما، وقد نلت من صهره ما لم ينالا، فالله الله في نفسك، فإنك والله ما تبصّر من عمى، ولا تعلّم من جهل، وإن الطرق لواضحة وإن أعلام الدين لقائمة.
فاعلم أن أفضل عباد الله عند الله إمام عادل، هُدي وهَدى، فأقام سنّة معلومة، وأمات بدعة مجهولة، وإن السنن لنيرة لها أعلام، وإن البدع لظاهرة لها أعلام، وإن شر الناس عند الله إمام جائر ضَلّ وضُلّ به، فأمات سنة مأخوذة، وأحيا بدعة متروكة! وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر، فيلقى في نار جهنم، فيدور فيها كما تدور الرحى، ثم يرتبط في قعرها. وإني أنشدك الله أن تكون إمام هذه الأمة المقتول! فإنّه كان يقال: يقتل في هذه الأمة إمام يفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة، ويلبس أمورها عليها، ويبثّ الفتن فيها، فلا يبصرون الحق من الباطل، يموجون فيها موجاً، ويمرجون فيها مرجاً، فلا تكونن لـمروان سيقة يسوقك حيث شاء بعد جلال السنّ، وتقضّي العمر)([54]).
ولنا أن نقف مع هذا الخطاب السياسي العظيم للإمام الذي يخاطب به عثمان أمير المؤمنين:
انظر إلى هذه الكلمات الصادقة وتدبرها، يقول: (ما أعرف شيئاً تجهله، ولا أدلك على أمر لا تعرفه...) أي أن عثمان وعلياً يشتركان في العلم والمعرفة، وليس أحدهما بأعلم من الآخر، فـعليّ يخبر أنه لا يعرف ويعلم شيئاً من أمور الدين لم يعرفها عثمان.
ثم استمر في القراءة: (إنك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك...) تدبر هذه الكلمة، فـعليّ ينفي أن يكون قد استأثر بعلم من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يعرفه عثمان، بل إن عثمان صاحب ورأى وسمع وعلم، وليس كما يقال: إن علياً استؤثر بعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ثم تأمل قوله: (وما ابن أبي قحافة ولا ابن الخطاب بأولى بعمل الخير منك...) فهذا يعني أن الخلفاء قبله قد عملوا الخير في هذه الأمة، ولم يجاوزوه، وهما ليسا بأولى من الثالث رضي الله عنهم بعمل الخير؛ لأن الخير ميسر ومتوافر في الزمن الأول.
(وأنت أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشيجة رحم منهما، وقد نلت...) وهناك من يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يزوج بناته عثمان وإنما هاتان من بنات خديجة من رجل آخر، وها هو الإمام يردّ على هذه الفرية بكل وضوح وصراحة، تصريحاً لا تلميحاً، فالرحم موصولة بينه وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ثم انظر إلى الفقرة الأخيرة: (وإني أنشدك الله أن تكون إمام هذه الأمة المقتول...) فسمّاه علي إماماً، ثم جعله باباً من الأبواب إذا كسر تسارعت الفتن وانثالت على هذه الأمة، وقد كان ما قال!
فأقول لإخواننا: إن عليهم التريث والتفكير قبل السب والطعن، فهاهو الإمام يوضح منهاجه من هؤلاء الصحابة ومن قيل إنهم اغتصبوا منه الخلافة، فالمتبع الصادق الذي يتبع إمامه في جميع أفعاله.
3- عائشة رضي الله عنها:
عائشة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، برأها الله تعالى، وسمّاها أُماً للمؤمنين، وكانت في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أحب أزواجه إليه، ولكن البعض هداهم الله يطعنون عليها والبعض يسبها ويلعنها، ولو لم يكن لها إلا فضيلة أنها زوجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكفتها، وكفى برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صهراً وزوجاً، ومع علو كعبها في هذا الفضل المبين إلا أننا نرى من يسبها أو يلعنها دون أن يراعي حرمة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا لعرضه صلى الله عليه وآله وسلم، مع العلم بأن أفعاله صلى الله عليه وآله وسلم ليست كأفعال البشر؛ فهو مأمور من السماء بهذا الزواج وغيره، فكيف يجوز الطعن بهذا الزواج وتزويجه قد تم من قبل ربه تعالى؟!
ثم قبل أن تذهب بك المذاهب، وتروح بك الأهواء كل مذهب، التفت إلى كلام الإمام في شأنها:
أ- قال علي رضي الله عنه عن السيدة عائشة، في أصحاب الجمل:
(خرجوا يجرون حرمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما تجرّ الأمة عند شرائها متوجّهين بها إِلى البصرة، فحبسا نساءهما في بيوتهما، وأبرزا حبيس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهما ولغيرهما)([55]).
فسماها عليّ حرمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والحرمة المكان الذي يحرم الدنو والاقتراب منه، وهذا من فضائلها أنها ظلت حرماً للرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتى بعد وفاته، والإمام يتعامل وفق نصوص الكتاب والسنة، ونقول: إذا سمّاها الإمام حرمة فهل يجوز استطالة اللسان فيها والتعرّض لها، ونبزها والتشفي منها!
ب- وذكرها مرة فقال:
(فمن استطاع عند ذلك أن يعتقل نفسه على الله فليفعل، وإن أطعتموني فإني حاملكم إن شاء الله على سبيل الجنة، وإن كان ذا مشقّة شديدة ومذاقة مريرة، وأما فلانة فأدركها رأي النساء، وضغن غلا في صدرها كمرجل القين، ولو دعيت لتنال من غيري ما أتت إلي لم تفعل ولها بعد حرمتها الأولى، والحساب على الله)([56])
ما معنى حرمتها الأولى؟ تدبر هذه الكلمة، لا أظن الإمام عنى إلا أنها زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنها أم للمؤمنين.
هل نحن بحاجة إلى مزيد بيان أو شرح أو تفصيل حول هذه القضية الخطيرة التي ولغت فيها ألسن الكثيرين وقامت تخبط خبط عشواء، وتنال من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن عرضه وأهله دون وجه حق؟!
إن الحجة قائمة بكلام الإمام رضي الله عنه، فمن أراد أن ينال حبّ آل البيت، وحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فليستمع إلى كلام الإمام المعصوم والذي مدح فيه الصحابة، ولم يطعن على أحد، ولم تسمع منه كلمة سبّ أو شتم أو تفسيق لأي واحد منهم مع قدرته على ذلك لو أراد.
المبحث الرابع: أهل الشام:
انتهينا في الفصول السابقة إلى تبيان بعض الأمور المهمة التي أخذناها من في عليّ غضة طرية، وخلصنا إلى أن هذا الرجل كان يعلم من نفسه أنه ليس معصوماً، وأنه ليس هناك نص جلي في استخلافه، ولم يلعن أو يسبّ أحداً من الصحابة بعامة، والخلفاء بخاصة، بل على العكس جاءت النصوص تزكية لهم ومدحاً لأفعالهم.
وسنعرض في هذا الفصل إلى كلامه حول أهل الشام.
يستند البعض في تكفير أهل الشام ومن قاتله بحديث «يا علي! سلمك سلمي وحربك حربي» فلننظر إلى كلام هذا الرجل فيمن قاتله بالسيف!
1- قال الإمام عليّ يصف ما جرى:
(وكان بدء أمرنا أنا التقينا بالقوم من أهل الشام، والظاهر أن ربنا واحد، ونبينا واحد، ودعوتنا في الإسلام واحدة، ولا نستزيدهم في الإِيمان بالله والتصديق برسوله ولا يستزيدوننا، والأمر واحد إلا ما اختلفنا فيه من دم عثمان، ونحن منه براء، فقلنا: تعالوا نداوي ما لا يدرك اليوم بإطفاء النائرة وتسكين العامة، حتى يشتد الأمر ويستجمع، فنقوى على وضع الحق في مواضعه، فقالوا: بل نداويه بالمكابرة، فأبوا حتى جنحت الحرب وركدت، ووقدت نيرانها وحمشت.
فلما ضرستنا وإياهم، ووضعت مخالبها فينا وفيهم، أجابوا عند ذلك إلى الذي دعوناهم إِليه، فأجبناهم إلى ما دعوا، وسارعناهم إلى ما طلبوا، حتى استبانت عليهم الحجة، وانقطعت منهم المعذرة، فمن تم على ذلك منهم فهو الذي أنقذه الله من الهلكة، ومن لجّ وتمادى فهو الراكس الذي ران الله على قلبه، وصارت دائرة السوء على رأسه)([57]).
أ- انظر إلى كلماته (ربنا واحد) (نبينا واحد) (ودعوتنا في الإسلام واحدة)، بل انظر إلى (لا نستزيدهم في الإيمان بالله والتصديق برسوله ولا يستزيدوننا) هل تشتم فيه رائحة تفسيق أو تضليل أو تكفير لأهل الشام؟
ب- ثم انظر إلى (ما اختلفنا فيه من دم عثمان) فالخلاف ليس في أصول الدين، وإنما كان في قضية اجتهادية أو سياسية كان كلّ ينظر فيها برأي، حتى في الفقرة الأخيرة لا يدلّ على أنه كفّرهم، بل إنهم لم يذعنوا إلى الحق الذي معه، فصاروا في المهلكة.
2- وهناك نص آخر في عدم تكفيرهم: (لا تقاتلوهم حتى يبدءوكم، فإنكم بحمد الله على حجة، وترككم إياهم حتى يبدءوكم حجة أخرى لكم عليهم، فإذا كانت الهزيمة بإذن الله فلا تقتلوا مدبراً، ولا تصيبوا معوراً، ولا تجهزوا على جريح، ولا تهيجوا النساء بأذى وإن شتمن أعراضكم، وسببن أمراءكم، فإنهن ضعيفات القوى والأنفس والعقول، إن كنّا لنؤمر بالكفّ عنهنّ وإنهنّ لمشركات، وِإن كان الرجل ليتناول المرأة في الجاهلية بالفهر أو الهراوة، فيعيّر بها وعقبه من بعده)([58]).
لم يأمرهم إلا بالحق، بحيث لا يجهزوا على جريح، وانظر إلى قوله: (إن كنّا لنؤمر بالكفّ عنهنّ وإنّهنّ لمشركات...) مما يدل على أنه يميز بين أهل الشام وأهل الشرك.
3- ثم انظر إلى أشدّ من ذلك، جاء في شرح النهج:
(ومن كلام له عليه السلام وقد سمع قوما من أصحابه يسبّون أهل الشام أيام حربهم بـصفين: (إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبّكم إِياهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا، واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به))([59]).
هل يطبق هؤلاء ما قاله عليّ في أهل الشام، فلا يكونون سبّابين ولا لعّانين، ويحفظوا ألسنتهم عن الولوغ بأعراض الصحابة رضي الله عنهم.
4- وقال مرة أخرى:
(أوصيكم عباد الله بتقوى الله فإنها خير ما تواصى به العباد، وخير عواقب الأمور عند الله، وقد فتح باب الحرب بينكم وبين أهل القبلة، ولا يحمل هذا العلم إلا أهل البصر والصبر والعلم بمواقع الحق، فامضوا لما تؤمرون به، وقفوا عند ما تنهون عنه، ولا تعجلوا في أمر حتى تتبينوا، فإن لنا مع كل أمر تنكرونه غيراً)([60]).
أ- ما معنى (فتح باب الحرب بينكم وبين أهل القبلة)؟ أو ليس معناه أننا مسلمون نتقاتل؟
ب- ثم تأمل (ولا يحمل...) فهل تحب أن تكون ممن عناهم الإمام فتكف لسانك وتعف فيك عن ذكر السوء؟
5- وقال مرة أخرى:
(ولكنّا إنما أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج، والشبهة والتأويل، فإذا طمعنا في خصلة يلمّ الله بها شعثنا، ونتدانى بها إلى البقية فيما بيننا، رغبنا فيها، وأمسكنا عمّا سواها)([61]).
وهذا تأكيد لما سبق من أنه قاتل إخوانه في الإسلام، ثم تأمل كيف حرص هذا الرجل على الوحدة والتآلف والجماعة (فإذا طمعنا...) فهل هناك مطعن أو مغمز لرجل بعد كلام هذا الرجل العظيم!
المبحث الخامس: أصحاب عليّ رضي الله عنه:
بعد أن استعرضنا مواقف علي رضي الله عنه من الصحابة وأهل الشام، ورأينا كيف مدح الخلفاء قبله، سنتعرض إلى كلامه حول أصحابه، وكيف كان يذمهم هو بنفسه، وكثيرون لا يرضون بذمّ أصحاب علي بل يمدحونهم ويرفعونهم، ولكنهم في المقابل يرمون أصحاب خير الخلق محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتلك هي قسمة ضيزى!
1- خطب مرة فيهم قائلا:ً
(منيت بمن لا يطيع إذا أمرت، ولا يجيب إذا دعوت، لا أبا لكم! ما تنتظرون بنصركم ربّكم، أما دين يجمعكم ولا حميّة تحمشكم؟! أقوم فيكم مستصرخاً وأناديكم متغوّثاً فلا تسمعون لي قولاً، ولا تطيعون لي أمراً، حتى تكشف الأمور عن عواقب المساءة، فما يدرك بكم ثأر، ولا يبلغ بكم مرام، دعوتكم إلى نصر إخوانكم فجرجرتم جرجرة الجمل الأسرّ، وتثاقلتم تثاقل النضو الأدبر، ثم خرج إليّ منكم جنيد متذائب ضعيف، كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون)([62]).
هؤلاء هم أصحاب هذا الرجل العظيم.. عصيان وصم عن الأمر، لا الدين يجمعهم، ولا يدرك بهم أحد ثأره، ويتثاقلون عن نصرة الحق، قارن بين هؤلاء وبين كلام الإمام عن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في القتال والمنشط والمكره!
2- ثم انظر كيف وصل بهم الأمر إلى ادعاء الكذب على عليّ: (أما بعد يا أهل العراق، فإنما أنتم كالمرأة الحامل، حملت فلمّا أتمت أملطت ومات قيّمها، وطال تأيّمها، وورثها أبعدها، أما والله ما أتيتكم اختياراً، ولكن جئت إليكم سوقاً، ولقد بلغني أنّكم تقولون: عليّ يكذب! قاتلكم الله تعالى! فعلى من أكذب؟ أعلى الله، فأنا أول من آمن به؟ أم على نبيه فأنا أول من صدق به؟)([63]).
ونقول: أيرضى القوم بهؤلاء بديلاً عن صحابة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذين زكاهم الكتاب وطهرتهم السنة؟
ثم ماذا تقولون إذا جاء مدعّ يدّعي بأن علياً كان مثل أصحابه، لأن الصاحب لا يكون إلا مثل صاحبه، فهل نرضى بهذا القول الفاسد؟
3- واشتدّ غضبه على أصحابه مرة فقال:
(ألا وإني قد دعوتكم إِلى قتال هؤلاء القوم ليلاً ونهاراً، وسراً وإعلاناً، وقلت لكم: اغزوهم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غزي قوم قط في عقر دارهم إِلا ذلوا، فتواكلتم وتخاذلتم، حتى شنّت عليكم الغارات وملكت عليكم الأوطان)([64]).
أي قوم كان هؤلاء القوم، وقائدهم هذا البطل الباسل، هل يعني هذا أن الإمام أساء في اختيار أصحابه؟ أم أنه أخطأ في الخروج من المدينة والتوجه إلى الكوفة واتخاذها عاصمة له؟ أم أن هؤلاء نتاج تربية طويلة لم يستطع أن يتغلب على مفرداتها؟
4- ثم يواصل توبيخه لهم:
(فهذا أخو غامد، قد وردت خيله الأنبار، وقد قتل حسان بن حسان البكري، وأزال خيلكم عن مسالحها، ولقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة، فينتزع حجلها وقُلُبها، وقلائدها ورعثها، ما تمتنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام، ثم انصرفوا وافرين، ما نال رجلاً منهم كُلم، ولا أريق لهم دم، فلو أن امرأ مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً، بل كان به عندي جديراً!)([65]).
أي ذلّ وهوان مُني به هؤلاء القوم؟ أهؤلاء ينصرون الدين ويعتز بهم جند أو سلطان؟ وفي المقابل انظر إلى أصحاب معاوية كيف كانت الفتوحات والانتصارات على أيديهم، وكيف عمّ الإسلام المعمورة، وأين عليّ من معاوية؟
5- ويستمر في حزنه وكمده وتوبيخه لهم:
(فيا عجباً! عجباً والله يميت القلب ويجلب الهمّ، من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم، وتفرقكم عن حقّكم، فقبحا لكم وترحاً، حين صرتم غرضاً يرمى، يغار عليكم ولا تغيرون، وتُغزون ولا تَغزون، ويعصى الله وترضون!
فإِذا أمرتكم بالسير إِليهم في أيام الحرّ قلتم: هذه حمارّة القيظ، أمهلنا يسبّخ عنا الحر، وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم: هذه صبارّة القرّ، أمهلنا ينسلخ عنا البرد، كلّ هذا فرار من الحرّ والقرّ، فإذا كنتم من الحرّ والقرّ تفرون فأنتم والله من السيف أفرّ!)([66]).
أرأيت كيف كان هؤلاء القوم؟ أين هم من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين نصروه صيفاً وشتاءً، سراً وعلانية، حرّاً وبرداً، وفي جميع أحايينه صلى الله عليه وآله وسلم، فها هو علي يذمّ هؤلاء ويمدح أولئك، فمن للحق أقرب، من يذم أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويمدح هؤلاء، أم من يذمّ هؤلاء ويمدح أولئك؟
6- ثم يبلغ الرجل قمة الغضب والسخط على أصحابه، فيقوم يعيّرهم ويسبهم ويشتمهم، انظر إلى كلامه:
(يا أشباه الرجال ولا رجال، حلوم الأطفال وعقول ربات الحجال، لوددت أني لم أركم ولم أعرفكم.. معرفة والله جرت ندماً، وأعقبت سدماً، قاتلكم الله! لقد ملأتم قلبي قيحاً، وشحنتم صدري غيظاً، وجرعتموني نغب التهمام أنفاساً، وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان، حتى لقد قالت قريش: إن ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب، لله أبوهم! وهل أحد منهم أشد لها مراساً، وأقدم فيها مقاماً مني! لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، وهأنذا قد ذرّفت على الستين! ولكن لا رأي لمن لا يطاع!)([67])
لنكاد نبكي مع الرجل هذه الحرقة الدامية، وهو ينشد هؤلاء نصرته ونصرة الحق والدين، ولكن هيهات.. ذهب أهل السبق بفضلهم، وأنى لهؤلاء هذا الفضل؟
7- وجاء في النهج بهذا العنوان (ومن كلام له عليه السلام في ذم أصحابه):
(كم أداريكم كما تدارى البكار العمدة، والثياب المتداعية، كلما حيصت من جانب تهتكت من آخر، كلما أطلّ عليكم منسر من مناسر أهل الشام أغلق كل رجل منكم بابه، وانجحر انجحار الضبّة في جحرها، والضبع في وجارها.
الذليل والله من نصرتموه، ومن رمي بكم فقد رمي بأفوق ناصل.
إنكم والله لكثير في الباحات، قليل تحت الرايات، وإني لعالم بما يصلحكم، ويقيم أودكم، ولكني والله لا أرى إصلاحكم بإِفساد نفسي.
أضرع الله خدودكم، وأتعس جدودكم! لا تعرفون الحق كمعرفتكم الباطل، ولا تبطلون الباطل كإِبطالكم الحق)([68]).
هل رأيت ذمّا كهذا الذمّ؟! ثم هل سمعت برجل خذله أصحابه كما خذلوا هذا الرجل؟ فإذا كان هؤلاء هم الذين كانوا مع عليّ وعاصروه وعاشروه فكيف نأمن منهم حقاً أو علماً أو...!
ثم إذا كان هؤلاء الأوائل فما بالك بمن أتى بعدهم، فهل هم أحسن حالاً منهم؟
تأمل أيها الأخ! وتدبر هذا الكلام، فإنه كلام إمام منصف متّق لله تعالى.
8- وجاء أيضا في النهج:
(وقال عليه السلام لما بلغه إغارة أصحاب معاوية على الأنبار، فخرج بنفسه ماشياً حتى أتى النخيلة، وأدركه الناس وقالوا: يا أمير المؤمنين! نحن نكفيكهم، فقال عليه السلام: والله ما تكفونني أنفسكم، فكيف تكفونني غيركم! إِن كانت الرعايا قبلي لتشكو حيف رعاتها، فإني اليوم أشكو حيف رعيتي، كأنّني المقود وهم القادة، أو الموزوع وهم الوزعة)([69]).
9- ثم يقول عن تقاعسهم عن القتال والجهاد:
(أيها الناس! إِنه لم يزل أمري معكم على ما أحبّ، حتى نهكتكم الحرب، وقد والله أخذت منكم وتركت وهي لعدوكم أنهك.
لقد كنت أمس أميراً فأصبحت اليوم مأموراً، وكنت أمس ناهياً فأصبحت اليوم منهياً، وقد أحببتم البقاء وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون!)([70]).
انظر إلى كلامه وكيف أصبح ينصاع لأمرهم من كثرة ضجره وغضبه على تقاعسهم!
10- ثم قام الإمام يقارن بين الماضين وبين هؤلاء، ويتحسر على فراق من سبقوه:
(ولوددت أن الله فرق بيني وبينكم، وألحقني بمن هو أحق بي منكم، قوم والله ميامين الرأي، مراجيح الحلم، مقاويل بالحق، متاريك للبغي، مضوا قدماً على الطريقة، وأوجفوا على المحجة، فظفروا بالعقبى الدائمة، والكرامة الباردة)([71])من هؤلاء الذين عناهم (قوم ميامين)؟
وتأمل معي هذه المقارنة والمفارقات في الحكم عندما قال:
(لقد رأيت أصحاب محمد فما أرى أحداً يشبههم منكم، كانوا يصبحون شعثا غبراً، وقد باتوا سجّدا وقياماً، يراوحون بين جباههم وخدودهم، ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم، كأن بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم، إذا ذكر الله هملت أعينهم حتى تبلّ جيوبهم، ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف، خوفا من العقاب ورجاء للثواب)([72]).
هؤلاء هم أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قام يتذكرهم عليّ عندما رأى هذا التقاعس غير المبرر عن الحق!
11- وخاطبهم مرة وقلبه يحترق أسفاً وغمّاً:
(ولئن أمهل الله الظالم فلن يفوت أخذه، وهو له بالمرصاد على مجاز طريقه، وبموضع الشجا من مساغ ريقه.
أما والذي نفسي بيده ليظهرن هؤلاء القوم عليكم، ليس لأنهم أولى بالحق منكم، ولكن لإسراعهم إِلى باطلهم، وإبطائكم عن حقي، ولقد أصبحت الأمم تخاف ظلم رعاتها، وأصبحت أخاف ظلم رعيتي.
استنفرتكم للجهاد فلم تنفروا، وأسمعتكم فلم تسمعوا، ودعوتكم سراً وجهراً فلم تستجيبوا، ونصحت لكم فلم تقبلوا.
شهود كغياب، وعبيد كأرباب، أتلو عليكم الحِكم فتنفرون منها، وأعظكم بالموعظة البالغة فتتفرقون عنها، وأحثّكم على جهاد أهل البغي فما آتي على آخر قولي حتى أراكم متفرّقين أيادي سبأ، ترجعون إِلى مجالسكم، وتتخادعون عن مواعظكم، أقوّمكم غدوة وترجعون إلي عشية، كظهر الحنيّة عجز المقوُّم وأعضل المقوَّم.
أيها القوم الشاهدة أبدانهم الغائبة عنهم عقولهم، المختلفة أهواؤهم، المبتلى بهم أمراؤهم، صاحبكم يطيع الله وأنتم تعصونه، وصاحب أهل الشام يعصي الله وهم يطيعونه، لوددت والله أن معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم، فأخذ مني عشرة منكم وأعطاني رجلاً منهم!
يا أهل الكوفة! منيت منكم بثلاث واثنتين، صمّ ذوو أسماع، وبكم ذوو كلام، وعمي ذوو أبصار، لا أحرار صدق عند اللقاء، ولا إخوان ثقة عند البلاء.
تربت أيديكم، يا أشباه الأبل غاب عنها رعاتها! كلما جمعت من جانب تفرقت من آخر.
والله لكأني بكم فيما إخالكم أن لو حمس الوغى، وحمي الضراب، قد انفرجتم عن ابن أبي طالب انفراج المرأة عن قُبُلها، وإني لعلى بينة من ربي، ومنهاج من نبيي، وإني لعلى الطريق الواضح ألقطه لقطاً)([73]).
هل هذا كلام يحتاج إلى تعليق وشرح، أم أنه يشرح ما كان عليه الإمام وصحبه؟! أين هؤلاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟
12- ومن كلام له رضي الله عنه في ذمّ أصحابه:
(أحمد الله على ما قضى من أمر وقدّر من فعل، وعلى ابتلائي بكم أيتها الفرقة التي إذا أمرتُ لم تطع وإذا دعوتُ لم تجب.
إن أهملتم خضتم، وإن حوربتم خرتم، وإن اجتمع الناس على إمام طعنتم، وإن أجئتم إلى مشافة نكصتم.
لا أبا لغيركم! ما تنتظرون بنصركم، والجهاد على حقكم!
الموت أو الذل لكم، فوالله لئن جاء يومي وليأتينّي ليفرقن بيني وبينكم، وأنا بصحبتكم، قالٍ وبكم غير كثير.
لله أنتم، أما دين يجمعكم، ولا حمية تشحذكم، أوليس عجباً أن معاوية يدعو الجفاة الطغام فيتبعونه على غير معونة ولا عطاء، وأنا أدعوكم وأنتم تريكة الإسلام وبقيّة الناس إلى المعونة أو طائفة من العطاء، فتتفرّقون عني وتختلفون عليَّ.
إنه لا يخرج إليكم من أمري رضاً ترضونه، ولا سخط فتجتمعون عليه، وإن أحب ما أنا لاقٍ إلي الموت.
قد درّستكم الكتاب، وفاتحتكم الحجاج، وعرّفتكم ما أنكرتم وسوغتم ما مججتم لو كان الأعمى ينحط أو النائم يستيقظ!)([74]).
13- وقال لهم مرة:
(أيها الناس المجتمعة أبدانهم، المختلفة أهواؤهم، كلامكم يوهي الصمّ الصلاب، وفعلكم يطمع فيكم الأعداء.
تقولون في المجالس كيت وكيت، فإذا جاء القتال قلتم: حيدي حياد!
ما عزّت دعوة من دعاكم، ولا استراح قلب من قاساكم، أعاليل بأضاليل، دفاع ذي الدَّين المطول.
لا يمنع الضيم الذليل، ولا يدرك الحق إلا بالجد.
أي دار بعد داركم تمنعون، ومع أيّ إمام بعدي تقاتلون، المغرور والله من غررتموه، ومن فاز بكم فقد فاز والله بالسهم الأخيب، ومن رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل.
أصبحت والله لا أصدّق قولكم، ولا أطمع في نصركم، ولا أوعد العدو بكم.
ما بالكم؟ ما دواؤكم؟ ما طبّكم؟ القوم رجال أمثالكم.
أقوالاً بغير علم، وغفلة من غير ورع، وطمعاً في غير حق!)([75]).
أأمثال هؤلاء يعتمد عليهم عليّ في حمل علم أو حديث أي شيء؟ ثم هل هؤلاء يعتز المرء بالانتماء إليهم؟ ويترك الذين زكاهم الله والرسول ثم عليّ؟
14- وقام مرة يستنفر أصحابه لقتال أهل الشام:
(أفّ لكم، لقد سئمت عتابكم، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضاً، وبالذلّ من العز خلفاً، إذا دعوتكم إلى جهاد عدوكم دارت أعينكم، كأنكم من الموت في غمرة، ومن الذهول في سكرة.
يرتج عليكم حواري فتعمهون، فكأن قلوبكم مألوسة، فأنتم لا تعقلون، ما أنتم لي بثقة سجيس الليالي، وما أنتم بركن يمال بكم، ولا زوافر عزّ يفتقر إليكم، ما أنتم إلا كإبل ضلّ رعاتها، فكلما جمعت من جانب انتشرت من آخر.
لبئس لعمر الله سعر نار الحرب أنتم! تُكادون ولا تكيدون، وتُنتقص أطرافكم فلا تمتعضون، لا ينام عنكم وأنتم في غفلة ساهون، غلب والله المتخاذلون!
وايم الله! إِني لأظن بكم أن لو حمس الوغى، واستحرَ الموت، قد انفرجتم عن ابن أبي طالب انفراج الرأس.
والله إن امرأ يمكّن عدوه من نفسه، يعرق لحمه وينهش عظمه، ويفري جلده، لعظيم عجزه، ضعيف ما ضمّت عليه جوانح صدره.
أنت فكن ذاك إن شئت، فأما أنا فوالله دون أن أعطي ذلك ضرب بالمشرفية تطير منه فراش الهام، وتطيح السواعد والأقدام، ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء.
أيها الناس! إن لي عليكم حقاً، ولكم علي حق، فأما حقكم علي فالنصيحة لكم، وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتأديبكم كيما تعلموا، وأما حقي عليكم، فالوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب، والإجابة حين أدعوكم، والطاعة حين آمركم)([76]).
هذه الخطب وغيرها كلها في ذمّ أصحابه رضي الله عنه، فهل يؤتمن هؤلاء الذين ذمّهم هذا القائد في إيصال علم وفي حمل قرآن أو سنة، أم أولئك الذين مدحهم وتمنّى أن يكون معهم، فمن أين يجب أن يؤخذ علم الدين من الذين مُدحوا أم من ذُمّوا، قليلاً من الإنصاف أيها القوم، وقليلاً من التفكر والتدبر، وما أريد إلا الإصلاح ما استطعت.
المبحث السادس: الكتاب والسنة:
لهم مفهوم مخالف كل المخالفة للمفهوم الذي يحمله أهل السنة، فكتبهم القديمة تقر بتحريف الكتاب- القرآن- ونقصانه منذ علي القمي والكليني، وكتبهم تفسير القمي والكافي وبحار الأنوار وغيرها تنطق بهذا الكلام إلى يومنا الحالي.
ولهم أيضاً مفهوم يختصون به للسنة الشريفة، وينفون أن يكون حديث «تركت فيكم..» مقصوداً به السنة، وإنما هم العترة آل البيت.
ولنا أن نعرض كلام الإمام ونتفحصه حول الكتاب والسنة، لنرى كيف كان الإمام يتعامل مع هذين المصدرين.
* الكتاب العزيز
1- قال في إحدى خطبه:
(وإن القرآن ظاهره أنيق، وباطنه عميق، لا تفنى عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، ولا تكشف الظلمات إلا به)([77]).
وصف يدلّ على إيمانه التام به، وأنه لا قرآن غيره، وأنه هو الدائم الذي لا يبدل ولا يحول.
2- وجاء في النهج:
ومن كلام له عليه السلام قاله قبل موته على سبيل الوصية لما ضربه ابن ملجم لعنه الله:
(وصيتي لكم ألا تشركوا بالله شيئاً، ومحمّد صلى الله عليه وآله وسلم، فلا تضيّعوا سنّته، أقيموا هذين العمودين، وأوقدوا هذين المصباحين، وخلاكم ذمّ!)([78]).
هذا آخر كلامه رضي الله عنه، يوصي أصحابه والمؤمنين بثلاثة أشياء:
عدم الإشراك بالله تعالى، وعدم تضييع سنّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويسمي الكتاب والسنة العمودين والمصباحين، فلم يدعّ أن هناك قرآنا آخر، ولم يطلب من الحضور الاقتداء بالأئمة الإثني عشر وإنما حصر الهدي بهذين المصباحين، وهو في مرض موته يجب أن يوصي بأهم الأشياء فلم يوص إلا بهذين.
3- وقال ذات مرة:
(فالقرآن آمر زاجر، وصامت ناطق، حجة الله على خلقه، أخذ عليه ميثاقهم، وارتهن عليهم أنفسهم، أتمّ نوره، وأكرم به دينه، وقبض نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وقد فرغ إِلى الخلق من أحكام الهدى به)([79]).
تأمل هذا الكلام العظيم، مات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد فراغ القرآن من جميع أحكام الإسلام، فانقطع التشريع به وتمّ، فليس أحد بعده مشرعاً وإنما مجتهداً.
4- ووصف مرة القرآن بقوله:
(فإن الله سبحانه لم يعظ أحداً بمثل هذا القرآن، فإنه حبل الله المتين، وسببه الأمين، وفيه ربيع القلب، وينابيع العلم، وما للقلب جلاء غيره، مع أنه قد ذهب المتذكرون، وبقي الناسون أو المتناسون، فإذا رأيتم خيراً فأعينوا عليه، وإذا رأيتم شراً فاذهبوا عنه، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: يا ابن آدم! اعمل الخير ودع الشر، فإذا أنت جواد قاصد)([80]).
وتأمل كلامه الآتي:
(واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش، والهادي الذي لا يضل، والمحدّث الذي لا يكذب، وما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان، زيادة في هدى، أو نقصان من عمى.
واعلموا أنه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة، ولا لأحد قبل القرآن من غنى، فاستشفوه من أدوائكم، واستعينوا به على لأوائكم، فإن فيه شفاء من أكبر الداء، وهو الكفر والنفاق، والغي والضلال، فاسألوا الله به، وتوجهوا إليه بحبّه، ولا تسألوا به خلقه، إنه ما توجه العباد إلى الله تعالى بمثله.
واعلموا أنة شافع مشفّع، وقائل مصدّق، وأنه من شفع له القرآن يوم القيامة شفّع فيه، ومن محل به القرآن يوم القيامة صدّق عليه، فإنه ينادي مناد يوم القيامة: ألا إن كل حارث مبتلى في حرثه وعاقبة عمله، غير حرثة القرآن.
فكونوا من حرثته وأتباعه، واستدلوه على ربكم، واستنصحوه على أنفسكم، واتهموا عليه آرائكم، واستغشوا فيه أهواءكم)([81]).
هل يمكن أن يصدر مثقال ذرة من قول لهذا الإمام أو أحد أبنائه حول تحريف القرآن ونقصانه أو زيادته؟ أيعقل هذا؟ أما آن لنا أن ننظر إلى تلك الروايات فنتبرأ منها ومن أهلها، ونعود إلى المنهل الصافي الذي كان يستقي منه عليّ وبنوه؟
5- وقال مرة: (ولكم علينا بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم والقيام بحقه، والنعش لسنته)([82]).
وأوصى أصحابه ذات مرة بقوله:
(وعليكم بكتاب الله، فإنه الحبل المتين، والنور المبين، والشفاء النافع، والري الناقع، والعصمة للمتمسّك، والنجاة للمتعلّق، لا يعوجّ فيقام، ولا يزيغ فيستعتب، ولا يخلقه كثرة الرد، وولوج السمع، من قال به صدق، ومن عمل به سبق)([83]).
عليكم: الزموه وداوموا عليه.
إنها وصية ثمينة جداً، فهل يعي المعارضون ذلك؟
6- ومن كلام له عليه السلام في الخوارج لما أنكروا تحكيم الرجال، ويذم فيه أصحابه في التحكيم:
(إنّا لم نحكم الرجال، وإنما حكمنا القرآن، هذا القرآن إنما هو خط مسطور بين الدفتين، لا ينطق بلسان، ولا بدّ له من ترجمان، وإنما ينطق عنه الرجال، ولما دعانا القوم إلى أن نحكم بيننا القرآن، لم نكن الفريق المتولّي عن كتاب الله سبحانه وتعالى، وقد قال الله تعالى عزّ من قائل: ((فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)) [النساء:59] فردّه إلى الله أن نحكم بكتابه، وردّه إلى الرسول أن نأخذ بسنته، فإذا حكم بالصدق في كتاب الله فنحن أحق الناس به، وإن حكم بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنحن أحق الناس وأولاهم بها)([84]).
فهذا أمر بردّ الأمور كلها إلى الكتاب والسنة فقط، إذن لا تحكيم للرجال أي رجال، لا يكون التحكيم ولا التحاكم إلا إلى القرآن والسنة، لأنهما مصدرا التشريع فقط، فلم يقل: إنني مشرع أو يحق لي التشريع، وأن ما فعلته حجة لا يجوز الخروج عليه، وإنما كان يستند إلى نصوص الكتاب والسنة المطهرة، ثم انظر إلى قوله رضي الله عنه: (فنحن أحقّ..) فهو رضي الله عنه الرجل لا يرى نفسه في نفس مكانة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما هو مسلم يتحرى الاقتداء به صلى الله عليه وآله وسلم.
7- وقال: (في القرآن نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم)([85]).
* السنّة النبوية:
هذا كان عن الكتاب، أما عن السنة فإليك بعض أقواله رضي الله عنه:
1- من وصية له عليه السلام لـعبد الله بن عباس أيضاً لما بعثه للاحتجاج على الخوارج:
(لا تخاصمهم بالقرآن فإن القرآن حمّال ذو وجوه، تقول ويقولون... ولكن حاججهم بالسنة، فإنهم لن يجدوا عنها محيصاً)([86]).
لماذا يحاججهم بالسنة؟ وما معنى السنة هنا في مقابل القرآن؟ أوليس معنى هذا أن الرجل يعدّ سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حداً فاصلاً في الاحتكام؟ وأنها هي التي تزيل الإيهام عمن يتشكك في القرآن.
2- وكتب مرة ناصحاً وموجهاً:
(فتأسّ بنبيك الأطيب الأطهر، صلى الله عليه وآله وسلم، فإن فيه أسوة لمن تأسى، وعزاء لمن تعزّى، وأحب العباد إلى الله المتأسي بنبيه، والمقتصّ لأثره، قضم الدنيا قضماً، ولم يعرها طرفاً، أهضم أهل الدنيا كشحاً، وأخمصهم من الدنيا بطناً، عرضت عليه الدنيا فأبى أن يقبلها، وعلم أن الله تعالى أبغض شيئاً فأبغضه، وحقر شيئاً فحقره، وصغّر شيئا فصغّره.
ولو لم يكن فينا إلا حبّنا ما أبغض الله ورسوله، وتعظيمنا ما صغّر الله ورسوله، لكفى به شقاقاً لله تعالى ومحادّة عن أمر الله تعالى! ولقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يأكل على الأرض، ويجلس جلسة العبد، ويخصف بيده نعله، ويرقع بيده ثوبه، ويركب الحمار العاري، ويردف خلفه، ويكون الستر على باب بيته فتكون فيه التصاوير فيقول: يا فلانة -إِحدى أزواجه- غيّبيه عنّي، فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها، فأعرض عن الدنيا بقلبه، وأمات ذكرها من نفسه، وأحب أن تغيب زينتها عن عينيه، لكيلا يتخذ منها رياشاً، ولا يعتقدها قراراً، ولا يرجو فيها مقاماً، فأخرجها من النفس، وأشخصها عن القلب، وغيّبها عن البصر)([87]).
إنها وصية للحفاظ على السنة والمحافظة عليها، والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقط لا ينازعه أحد قي هذا الاقتداء!
3- وسأورد لك كتابه رضي الله عنه للـأشتر النخعي، وأرجو منك أن تتدبر كلماته، وتتنزلها منازلها، وتضعها في حق موضعها؛ فإنه كان هو الحاكم آنذاك، وكان الأمير على جميع الأمصار.
(ولا تنقض سنّة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة، واجتمعت بها الألفة، وصلحت عليها الرعية.
ولا تحدثن سنّه تضر بشيء من ماضي تلك السنن، فيكون الأجر لمن سنّها، والوزر عليك مما نقضت منها، وأكثر مدارسة العلماء، ومناقشة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، وإقامة ما استقام به الناس قبلك..
ثم اعرف لكل امرئ منهم ما أبلى، ولا تضمّن بلاء امرئ إِلى غيره، ولا تقصّرن به دون غاية بلائه. ولا يدعونك شرف امرئ إلى أن تعظم من بلائه ما كان صغيراً، ولا ضعة امرئ إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيماً، واردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب، ويشتبه عليك من الأمور، فقد قال الله سبحانه لقوم أحبّ إرشادهم: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ..)) [النساء:59] فالردّ إلى الله الأخذ بمحكم كتابه، والرد إلى الرسول الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة.
والواجب عليك أن تتذكر ما مضى لمن تقدّمك، من حكومة عادلة، أو سنّة فاضلة، أو أثر عن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، أو فريضة في كتاب الله، فتقتدي بما شاهدت مّما عملنا به فيها، وتجتهد لنفسك في اتباع ما عهدت إليك في عهدي هذا، واستوثقت به من الحجة لنفسي عليك، لكيلا تكون لك علّة عند تسرّع نفسك إلى هواها)([88]).
ما يؤخذ من الكتاب:
أ- لا تنقضن... السنة معناها الطريقة فهو يوصي عامله أن لا ينقض سنة صالحة عمل بها من الخلفاء قبله، فلا يجوز الخروج على هذه السنن التي عملها الخلفاء آنذاك.
ب- لم يقل الإمام: إن أولي الأمر هم العترة مع استدلاله بالآية وحاجته إليها.
جـ- رد الأمر إلى مصدرين اثنين فقط الكتاب والسنة.
د- في الفقرة الأخيرة ربط بين أفعال الخلفاء السابقين وتواصل بينه وبينهم (مما عملنا به فيها..).
المبحث السابع: الدعاء:
الدعاء عبادة لا يجوز صرفها لغير الله تعالى، ولا يجوز التوسل في الدعاء بغير المشروع ولا الذهاب إلى القبور للدعاء عندها والتبرك بها، ومن المعلوم أن هناك من يقصدون قبور الأئمة للدعاء عندها، ودعاء هؤلاء الأئمة لكشف الضر وإغاثة الملهوف، وتحقيق الحاجات وغيرها، وهذه من الأمور التي خالف فيها الشيعة أئمة أهل البيت عليهم السلام، وإليك البيان:
1- قال الإمام:
(إذا كانت لك إلى الله سبحانه حاجة فابدأ بمسألة الصلاة على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم سل حاجتك، فإن الله أكرم من أن يسأل حاجتين، فيقضي إحداهما ويمنع الأخرى)([89]).
يشير الإمام علي لمن كانت له حاجة أن يبدأ بالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يأمر هذا بالذهاب إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو قبور الأنبياء والأولياء.
2- وقال مرة للإمام الحسن في وصيته:
(واعلم أن الذي بيده خزائن السموات والأرض قد أذن لك في الدعاء، وتكفّل لك بالإجابة، وأمرك أن تسأله ليعطيك، وتسترحمه ليرحمك، ولم يجعل بينه وبينك من يحجبك عنه، ولم يلجئك إلى من يشفع لك إليه.
ولم يمنعك إن أسأت من التوبة، ولم يعاجلك بالنقمة، ولم يفضحك إن تعرّضت للفضيحة، ولم يشدد عليك في قبول الإنابة، ولم يناقشك بالجريرة، ولم يؤيسك من الرحمة، بل جعل نزوعك عن الذنب حسنة، وحسب سيئتك واحدة، وحسب حسنتك عشراً، وفتح لك باب المتاب، وباب الاستعتاب، فإذا ناديته سمع نداك، وإذا ناجيته علم نجواك، فأفضيت إليه بحاجتك، وأبثثته ذات نفسك، وشكوت إليه همومك، واستكشفته كروبك، وسألته من خزائن رحمته ما لا يقدر على إعطائه غيرُه من طول الأعمار، وصحة الأبدان، وسعة الأرزاق)([90]).
انظر كلامه: (ولم يجعل بينك وبينه من يحجبك عنه، ولم يلجئك إلى من يشفع إليك فيه..) ما معنى هذا الكلام؟ أليس معناه طرح الواسطة بينك وبين الله في المسألة؟ ثم انظر إلى (أذن ذلك...) فالله أمر الناس بسؤاله ولم يجعل بينه وبين السائل أية واسطة.
3- ودعا مرة في الاستسقاء فقال: (اللهم قد انصاحت جبالنا، واغبرّت أرضنا، وهامت دوابّنا، وتحيرت في مرابضها، وعجّت عجيج الثكالى على أولادها، وملّت التردد في مراتعها، والحنين إلى مواردها!
اللهم فارحم أنين الآنة وحنين الحانة.
اللهم فارحم حيرتها في مذاهبها، وأنينها في موالجها.
اللهم خرجنا إليك حين اعتكرت علينا حدابير السنين، واختلفتنا مخايل الجود، فكنت الرجاء للمبتئس والبلاغ للملتمس.
ندعوك حين قنط الأنام ومنع الغمام، وهلك السّوام، ألا تؤاخذنا بأعمالنا، ولا تؤاخذنا بذنوبنا، وانشر علينا رحمتك بالسحاب المنبعق، والربيع المغدق، والنّبات المونق، سحّاً وابلاً، تحيي به ما قد مات، وترد به ما قد فات.
اللهم سقيا منك محيية مروية، تامّة عامّة، طيبة مباركة، هنيئة مريئة مريعة، زاكياً نبتها، ثامراً فرعها، ناضراً ورقها، تنعش بها الضعيف من عبادك، وتحيي بها الميت من بلادك.
اللهم سقيا منك تعشب بها بجادنا، وتجري بها وهادنا، ويخصب بها جنابنا، وتقبل بها ثمارنا، وتعيش بها مواشينا، وتندى بها أقاصينا، وتستعين بها ضواحينا، من بركاتك الواسعة، وعطاياك الجزيلة، على بريّتك المرملة، ووحشك المهملة، وأنزل علينا سماء مخضلة، مدراراً هاطلة، يدافع الودق منها الودق، ويحفز القطر منها القطر، غير خلّب برقها، ولا جهام عارضها، ولا قزع ربابها، وشفّان ذهابها، حتى يخصب لإمراعها المجدبون، ويحيا ببركتها المسنتون، فإنّك تنزل الغيث من بعد ما قنطوا، وتنشر رحمتك، وأنت الولي الحميد)([91]).
هذه خطبة في الاستسقاء، وليس فيها ذكر للتوسل والاستشفاع وسؤال المخلوقين!
4- وفي خطبة له قال:
(إِن أفضل ما توسّل به المتوسّلون إلى الله سبحانه وتعالى الإيمان به وبرسوله، والجهاد في سبيله، فإنه ذروة الإسلام، وكلمة الإخلاص، فإنها الفطرة، وإقام الصلاة فإنها الملة، وإيتاء الزكاة فإنها فريضة واجبة، وصوم شهر رمضان فإنه جنّة من العقاب، وحج البيت واعتماره فإنهما ينفيان الفقر ويرحضان الذنب، وصلة الرحم فإنها مثراة في المال ومنسأة في الأجل، وصدقة السر فإنها تكفّر الخطيئة، وصدقة العلانية فإنها تدفع ميتة السوء، وصنائع المعروف فإنها تقي مصارع الهوان.
أفيضوا في ذكر الله فإنه أحسن الذكر، وارغبوا فيما وعد المتقين فإن وعده أصدق الوعد، واقتدوا بهدي نبيكم فإنه أفضل الهدي، واستنّوا بسنّته فإنها أهدى السنن، وتعلموا القرآن فإنه أحسن الحديث، وتفقهوا فيه فإنه ربيع القلوب، واستشفوا بنوره فإنه شفاء الصدور، وأحسنوا تلاوته فإنه أنفع القصص، وإن العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله، بل الحجة عليه أعظم والحسرة له ألزم، وهو عند الله ألوم)([92]).
انظر إلى ما يقوله الإمام: (أفضل ما توسل به المتوسلون...) ونقول: حتى على فرض جواز التوسل بالأشخاص، أفلا يحرص المؤمن على الكمال، فيطبق في دعائه الأصوب والأفضل والأكمل؟ وهذه من الخطب الشاملة التي أمر فيها رضي الله عنه بالإيمان والجهاد والصلاة والزكاة، ولم يذكر الخمس!
وذكر سنّة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم فقط لا يشاركه فيها أحد!
5- وفي كلام له يقول عن ربنا سبحانه:
(فاستفتحوه واستنجدوه، واطلبوا إليه واستمنحوه، فما قطعكم عنه حجاب، ولا أغلق عنكم دونه باب)([93])هل نحتاج إلى تعليق؟!
المبحث الثامن: العبادات:
خالف القوم في بعض قضايا العبادات، مثل الأضحية في العيد، والصلاة وميقاتها، والزكاة، ونحن نعرض أقوال الإمام في شأن هذه الأمور:
1- فمن خطبه في ذكر يوم النحر وصفة الأضحية:
(ومن تمام الأضحية استشراف أذنها، وسلامة عينها، فإذا سلمت الأذن والعين سلمت الأضحية وتمّت، ولو كانت عضباء القرن تجرّ رجلها إلى المنسك)([94]).
فالكلام عن أضحية يوم النحر، والتي في الحج لا تسمّى أضحية، وإنما تسمّى هدياً.
2- الصلاة:
للصلاة عندهم ثلاثة أوقات، يجمعون في وقتين صلاتين، ولكن لننظر إلى كلام الإمام في هذا الشأن: فمن كتاب له رضي الله عنه إلى أمراء البلاد في معنى الصلاة:
(أما بعد فصلوا بالناس الظهر حتى تفيء الشمس مثل مربض العنز، وصلوا بهم العصر والشمس بيضاء حية في عضو من النهار حين يسار فيها فرسخان، وصلوا بهم المغرب حين يفطر الصائم، ويدفع الحاج إلى منى، وصلوا بهم العشاء حين يتوارى الشفق إلى ثلث الليل، وصلوا بهم الغداة والرجل يعرف وجه صاحبه، وصلوا بهم صلاة أضعفهم ولا تكونوا فتّانين)([95]).
هذا كتاب مهم جداً، لأنه بعثه إلى جميع الأمصار التي تحت يده، ومن هنا نتبين أهميته، وتكمن أهميته الأخرى في أنه أوضح قضية من أهم العبادات في الإسلام: الصلاة.
فيقول:
أ- صلاة الظهر بعد الزوال، ثم أخبر أن صلاة العصر والشمس بيضاء قبل أن تزول إلى الشفق، ولو كانت الصلاة جمعاً لما أوضح الوقتين، ولكن لاختلاف في الوقتين أوضح كل وقت لكل صلاة.
ب- ثم صلاة المغرب (حين يفطر الصائم ويدفع الحاج إلى منى) وهذان الأمران يكونان عند غروب الشمس، ثم حدد وقتاً لصلاة العشاء بعد صلاة المغرب، فكان وقت صلاة المغرب من الغروب إلى ما قبل زوال الشفق الأحمر، ثم يدخل وقت العشاء إلى ثلث الليل، وهذه كانت السنة في عهد الصحابة رضوان الله عليهم، ثم هنا يحرص على صلاة الجماعة، بوجود إمام وجماعة مأمومين.
جـ- هذا كتاب أمير المؤمنين وحاكم الدولة الإسلامية يرسله إلى جميع الأمصار التي كانت تحت يده، فلا يجوز أن يتعبد الناس بغير الحق، وبما فيه ما يخالف الكتاب والسنة.
ولا نريد الاستفاضة في القضايا الفقهية واختلاف الفقهاء حول هذه الأمور، ولكن ما يهمنا أن علياً حدد خمسة أوقات للصلاة.
وفي كتاب له للحارث المداني يذكر فيه يوم الجمعة:
(ولا تسافر في يوم جمعة حتى تشهد الصلاة إلا فاصلاً في سبيل الله، أو في أمر تعذر به، وأطع الله في جمل أمورك، فإن طاعة الله فاضلة على ما سواها، وخادع نفسك في العبادة وارفق بها ولا تقهرها، وخذ عفوها ونشاطها، إلا ما كان مكتوباً عليك من الفريضة، فإِنه لا بد من قضائها، وتعاهدها عند محلّها)([96]).
هذا بعض ما جاء في قضية الصلاة وأوقاتها وأهمية يوم الجمعة.
3- الزكاة:
يؤخذُ لآل البيت الخمس، وتهمل عندهم الزكاة على أموالهم، مع أن الأمر جاء بالزكاة مرات عديدة، ولنره ماذا يقول صاحب النهج:
أ- من وصية له رضي الله عنه كان يكتبها لمن يستعمله على الصدقات:
(انطلق على تقوى الله وحده لا شريك له، ولا تروّعنّ مسلماً، ولا تجتازنّ عليه كارهاً، ولا تأخذنّ منه أكثر من حق الله في ماله، فإذا قدمت على الحي فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم، ثم امض إليهم بالسكينة والوقار، حتى تقوم بينهم فتسلّم عليهم.
ولا تخدج بالتحية لهم، ثم تقول: عباد الله! أرسلني لكم وليّ الله وخليفته، لآخذ منكم حق الله في أموالكم، فهل لله في أموالكم من حق فتؤدوه إلى وليه!
فإن قال قائل: لا، فلا تراجعه، وإن أنعم لك منعم فانطلق معه من غير أن تخيفه أو توعده، أو تعسفه أو ترهقه، فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضة، فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلا بإذنه، فإن أكثرها له، فإِذا أتيتها فلا تدخل عليها دخول متسلط عليه، ولا عنيف به.
ولا تنفّرن بهيمة ولا تفزعنّها، ولا تسوئن صاحبها فيها.
واصدع المال صدعين ثم خيّره، فإذا اختار فلا تعرضنّ لما اختاره، فلا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحقّ الله في ماله، فاقبض حقّ الله منه)([97]).
وهذا الكتاب كله في الزكاة التي تسمّى الصدقات، وليس هناك أي ذكر للخمس!
ب- وقال ذات مرة في زكاة الدّيْن:
(إن الرجل إذا كان الدين الظنون هل يقضى أم لا؟ يجب عليه أن يزكّيه لما مضى إِذا قبضه)([98]).
لم يقل الإمام (ليخمّسه) أو ليخرج (خمسه) وإنما قال: ليزكيه، وهي اللفظة التي كانت معروفة لديه، وهي لفظة قرآنية نبوية شرعية، تنصرف إلى الزكاة فقط.
جـ- وقال مرة:
(سوسوا إيمانكم بالصدقة، وحصّنوا أموالكم بالزكاة، وادفعوا أمواج البلاء بالدعاء)([99]).
وحتى لا أطيل عليك في هذه القضية، ارجع أيضاً إلى كلامه في النهج 10 / 302 (192)، ففيها تعاهد بالصلاة والمحافظة عليها والأمر بإتيان الزكاة.
متفرقات وشوارد:
هذا الفصل الأخير من هذا المؤلف، وسيكون شوارد ومتفرقات، لأنها ليس فيها ناظم ينظمها:
1- انقطاع خبر السماء بموت النبي صلى الله عليه وآله وسلم: نعتقد أن رسل الله المبلغة للرسالة والنبوة انقطع نزولها إلى الأرض للتبليغ بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن القوم أو كثير منهم يعتقدون بنزول جبريل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مواساة للزهراء أو لـعليّ، ولكن هذا عليّ صاحب الشأن يخبر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
(بأبي أنت وأمي يا رسول الله! لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة والإنباء وأخبار السماء، خصّصت حتى صرت مسلّياً عمن سواك، وعممت حتى صار الناس فيك سواء، ولولا أنك أمرت بالصبر، ونهيت عن الجزع، لأنفدنا عليك ماء الشؤون، ولكان الداء مماطلاً، والكمد محالفاً، وقلاّ لك! ولكنه ما لا يملك ردّه، ولا يستطاع دفعه! بأبي أنت وأمي، اذكرنا عند ربك، واجعلنا من بالك!)([100]).
في هذه الخطبة أو الكلمات أمور عظيمة جداً، منها:
أ- إخبار عليّ بأن أخبار السماء والملائكة المرسلة انقطعت فلا تنزل أبداً.
ب- والأمر الثاني هو الجزع على المصيبة، ولهذا مبحث قادم سنذكره لاحقاً.
2- الجزع: يظن هؤلاء أنهم يحسنون إلى الأئمة وهم يلطمون ويشقّون الجيوب ويضربون بالسلاسل وغيرها، مشاركة في مصاب الحسين رضي الله عنه، وهاهو علي يخبرنا بعدم جواز هذا كله، حتى على أفضل الخلق محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
أ- ويقول مرة: (ينزل الصبر على قدر المصيبة، ومن ضرب يده على فخذه عند مصيبته حبط أجره)([101])من يضرب على فخذه يحبط أجره فقط، فكيف نصرف هذا الكلام على الذين يفعلون ما يغضب الله ورسوله في محرّم من ضرب القامات، وشق الجيوب، والضرب بالسيوف... وغيرها من المنكرات؟
ب- وقاله مرة:
(من أصبح على الدنيا حزيناً، فقد أصبح لقضاء الله ساخطاً.
ومن أصبح يشكو مصيبة نزلت به، فإنما يشكو ربه.
ومن أتى غنياً فتواضع له لغناه ذهب ثلثا دينه.
ومن قرأ القرآن فمات فدخل النار، فهو كان ممّن يتخذ آيات الله هزوا.
ومن لهج قلبه بحبّ الدنيا التاط منها بثلاث: همّ لا يغبّه، وحرص لا يتركه، وأمل لا يدركه)([102]).
ماذا يفعلون في عاشوراء، أوليسوا يشاركون مصيبة نزلت قبل أكثر من 1300 سنة؟
فهل معنى هذا أنهم يشكون ربهم حزنهم على مصاب الحسين؟!
جـ- ثم اقرأ ما جاء في النهج: (وروي أنه عليه السلام لما ورد الكوفة قادماً من صفين مرّ بالشباميّين، فسمع بكاء النساء على قتلى صفين، وخرج إليه حرب بن شرحبيل الشبامي، وكان من وجوه قومه، فقال له: (أيغلبكم نساؤكم على ما أسمع، ألا تنهوهنّ عن هذا الرنين!)
وأقبل حرب يمشي معه وهو عليه السلام راكب، فقال له: (ارجع فإن مشي مثلك مع مثلي فتنة للوالي ومذلة للمؤمن)([103]).
وكان هذا بكاء طبيعياً، ويعبر عن حرارة الموقف وجدّته، ونهى عنه الإمام فماذا عن الآخرين؟
3- نور الأنبياء: هم يعتقدون بأن الأنبياء والأولياء والأوصياء مخلوقون من نور وليسوا بشراً كسائر البشر، ولكن علياً يقول: (ولو أراد الله أن يخلق آدم من نور يخطف الأبصار ضياؤه، ويبهر العقول رواؤه، وطيب يأخذ الأنفاس عرفه، لفعل، ولو فعل لظلّت له الأعناق خاضعة، ولخفّت البلوى فيه على الملائكة، ولكن الله سبحانه يبتلي خلقه ببعض ما يجهلون أصله تمييزاً بالاختبار لهم، ونفياً للاستكبار عنهم، وإبعاداً للخيلاء منهم، فاعتبروا بما كان عن فعل الله بـإبليس إذ أحبط عمله الطويل، وجهده الجهيد، وكان قد عبد الله ستة آلاف سنة، لا يُدرى أمن سنيّ الدنيا أم من سنيّ الآخرة، عن كبر ساعة واحدة، فمن ذا بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته؟!
كلا. ما كان الله سبحانه ليدخل الجنة بشراً بأمر أخرج به منها ملكاً، إن حكمه في أهل السماء والأرض لواحد، وما بين الله وبين أحد من خلقه هوادة في إباحة حمى حرّمه على العالمين)([104]).
4- أمان أهل الأرض:
جاء في النهج:
(وحكى عنه أبو جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السلام أنه كان عليه السلام قال:
(كان في الأرض أمانان من عذاب الله، وقد رفع أحدهما، فدونكم الآخر فتمسّكوا به، أما الأمان الذي رفع فهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأما الأمان الباقي فالاستغفار، قال الله تعالى: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)) [الأنفال:33)]([105]).
5- أولى الناس بالأنبياء:
(إن أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاءوا به، ثم تلا عليه السلام: ((إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا..)) [آل عمران:68] الآية.)
ثم قال عليه السلام: (إن ولي محمد من أطاع الله وإن بعدت لحمته، وإن عدو محمد من عصى الله وإن قربت قرابته)([106]).
6- المداهنة:
هناك من يظن بأن الإمام كان يداهن، ويستخدم التقيّة، ولكن علياً نفى هذا نفياً قاطعاً، فيقول لأصحابه: (فاستدركوا بقية أيامكم، واصبروا لها أنفسكم، فإنها قليل في كثير الأيام التي تكون منكم فيها الغفلة، والتشاغل عن الموعظة، ولا ترخصوا لأنفسكم، فتذهب بكم الرخص مذاهب الظلمة، ولا تداهنوا فيهجم بكم الإدهان على المعصية.
عباد الله: إنّ أنصح الناس لنفسه أطوعهم لربه، وإن أغشّهم لنفسه أعصاهم لربه، والمغبون من غبن نفسه، والمغبوط من سلم له دينه، والسعيد من وعظ بغيره، والشقي من انخدع لهواه وغروره)([107]).
أوتراه يقول شيئاً ويخالفه؟ حاشاه رضي الله عنه.
7- عمال علي:
يتهم البعض الخلفاء الثلاثة نتيجة لاتهام ولاتهم وعمّالهم على المناطق، وعند قراءتي للنهج رأيت علياً يطعن في كثير من عمّاله، وسنورد بعضاً من هذه الطعون هنا:
أ- فمثلا جاء في نهج البلاغة ما نصّه:
(ومن كتاب له عليه السلام إلى كميل بن زياد النخعي وهو عامله على هيت، ينكر عليه تركه دفع من يجتاز به من جيش العدوّ طالباً للغارة: (أما بعد: فإن تضييع المرء ما ولّي، وتكلّفه ما كُفي، لعجز حاضر ورأي متبر، وإن تعاطيك الغارة على أهل قرقيسيا، وتعطيلك مصالحك التي ولّيناك ليس لها ما يمنعها، ولا يردّ الجيش عنه الرأي شعاع، فقد صرت جسراً لمن أراد الغارة من أعدائك على أوليائك، غير شديد المنكب، ولا مهيب الجانب، ولا سادّ ثغرة، ولا كاسر لعدو شوكة، ولا مغن عن أهل مِصرِه، ولا مجز عن أميرِهِ))([108]).
فهذا طعن لوال من ولاته بلسانه هو!
ب- وقال ذات مرة: (بنى رجل من عماله بناء فخماً فقال عليه السلام: (أطلعت الورق رؤوسها، إن البناء يصف لك الغنى))([109])(روي أن شريح بن الحارث قاضي أمير المؤمنين عليه السلام اشترى على عهده داراً بثمانين ديناراً، فبلغه ذلك فاستدعى شريحاً، وقال له: (بلغني أنّك ابتعت داراً بثمانين ديناراً وكتبت لها كتاباً، وأشهدت فيه شهوداً، فقال له شريح: قد كان ذلك يا أمير المؤمنين، قال: فنظر إِليه نظر المغضب، ثم قال له:
يا شريح! أما إِنه سيأتيك من لا ينظر في كتابك، ولا يسألك عن بيّنتك، حتى يخرجك منها شاخصاً، ويسلمك إلى قبرك خالصاً، فانظر يا شريح! لا تكون ابتعت هذه الدار من غير مالك، أو نقدت الثمن من غير حلالك، فإذا أنت قد خسرت دار الدنيا ودار الآخرة.
أما إنك لو كنت أتيتني عند شرائك ما اشتريت، لكتبت لك كتاباً على هذه النسخة، فلم ترغب في ثراء هذه الدار بالدرهم فما فوق، والنسخة هذه.
هذا ما اشترى عبد ذليل، من ميت قد أزعج للرحيل، اشترى منه داراً من دار الغرور، من جانب الفانين، وخطّة الهالكين، وتجمع هذه الدار حدود أربعة: الحد الأول ينتهي إلى دواعي الآفات، والحد الثاني ينتهي إلى دواعي المصيبات، والحد الثالث ينتهي إلى الهوى المردي، والحد الرابع ينتهي إلى الشيطان المغوي، وفيه يشرع باب هذه الدار، اشترى هذا المغترّ بالأمل، من هذا))([110]).
إن عماله رضي الله عنه كعمّال غيره، فيهم الأعلى والأوسط والأدنى، وهكذا البشر يتفاوتون، فقوي في العبادة ضعيف في الإدارة، ضعيف في الإدارة قوي في الحرب، ضعيف في العبادة قوي في القتال... وهكذا، فلا عيب على عليّ ولا غير عليّ إن كان هناك ضعف أو خور، ولكن نقول: إن ما يوجه إلى الخلفاء من طعن في هذا الجانب، فإن لـعليّ منه نصيباً مفروضاً.
الخاتمة:
وبعد، فقد صدق الإمام عندما قال:
(هلك فيّ رجلان: محبّ غال، ومبغض قال)([111]).
فالمحب الغالي لن يرى كل شيء إلا حسناً، والمبغض القالي لن يرى الشيء إلا سيئاً، والوسطية مطلوبة، فـ «حبّ عليّ من الإيمان، وبغضه من النفاق» كما صحّ في حديث مسلم، فلا نرفعه إلى درجة الأنبياء، ولا ننزله إلى درجة الفسّاق وغيرهم، بل هو صحابي جليل، وإمام من أئمة المسلمين، وهو رابع أفضل الصحابة، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وحاز فضلاً لم يحزه سواه، تزويجه فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكفى به فضلا، وكفى به صحبة وصهراً، فهي سيدة نساء العالمين، وابنة خير خلق الله أجمعين.
نحبه ونترضّى عليه وعلى أصحابه وأبنائه، ونحارب ونبغض من يغلو فيه أو يقلوه.
وفقنا الله لكلّ خير، هذا جهدي وقد اجتهدت، فإن وجدت خيراً أيها القارئ فلا تنسنا بدعاء ليل، وإن كان خطأ فأستغفر الله، وأرجو منك أن تسأل الله لي المغفرة، لأنني ما تعمّدت الخطأ، وكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون.
قراءة راشدة لكتاب (نهج البلاغة) 1
بقلم: عبد الرحمن عبد الله الجميعان. 1
تصدير: 2
المقدمة: 3
المبحث الأول: الإمامة: 5
المبحث الثاني: العصمة: 11
المبحث الثالث: الصحابة: 23
المبحث الرابع: أهل الشام: 33
المبحث الخامس: أصحاب عليّ رضي الله عنه: 36
المبحث السادس: الكتاب والسنة: 43
المبحث السابع: الدعاء: 48
المبحث الثامن: العبادات: 48
متفرقات وشوارد: 48
الخاتمة: 48
([1]) شرح النهج 1/ 72.
([2]) 18/ 347 (143).
([3]) 18/ 22 (71).
([4]) 17/ 151 (62).
([5]) 15/ 146 (34).
([6]) 11/ 91.
([7]) 2 / 307(40).
([8]) 11/ 7 (198).
([9]) 9/ 328 (74 1).
([10]) 11/ 84 (208).
([11]) 7/ 284 (117).
([12]) 7/ 173.
([13]) 11/ 102 (210).
([14]) 17/ 117.
([15]) 18/ 54 (71).
([16]) انظر 18/ 62 (73).
([17]) 18/ 256 (196).
([18]) 19/ 167.
([19]) 19/ 205.
([20]) 2/ 190.
([21]) 16/ 31.
([22]) 57.
([23]) 62-63.
([24]) 64.
([25]) 68.
([26]) 70-71.
([27]) 74.
([28]) 76.
([29]) 77.
([30]) 84.
([31]) 85.
([32]) 87.
([33]) 89.
([34]) 97.
([35]) 105.
([36]) 113.
([37]) 14/ 47 (9).
([38]) 14/ 35 (6).
([39]) 15/ 181(28).
([40]) 15/ 117 (17).
([41]) 4/ 33 (55).
([42]) 7/ 291 (120).
([43]) 8/ 112 (127).
([44]) 13/ 309 (242).
([45]) 20/ 184 (474).
([46]) 15/ 117 (17).
([47]) 20/ 225 (323).
([48]) 6/ 94 وما بعدها.
([49]) 12/ 3 (223).
([50]) 8/ 296 (134).
([51]) 9/ 95 (146).
([52]) 20/ 218 (476).
([53]) 15/ 183.
([54]) 90/ 261 (165).
([55]) 9/ 308، 309.
([56]) 9/ 189 (156).
([57]) 17/ 41 (58).
([58]) 15/ 104(14).
([59]) 11/ 21 (199).
([60]) 9/ 330 (174).
([61]) 7/ 298(121).
([62]) 2/ 300 (39).
([63]) 6 / 127(70).
([64]) 2/ 74 وما بعدها.
([65]) 2/ 74 وما بعدها.
([66]) 2/ 74 وما بعدها.
([67]) 2/ 74 وما بعدها.
([68]) 6/ 102 (68).
([69]) 19/ 145(267).
([70]) 11/ 29 (201).
([71]) 7/ (115) 276.
([72]) 7/ 77 (96).
([73]) 7/ 70 (96).
([74]) 7/ 77 (96).
([75]) 2/ 111 (29).
([76]) 2/ 189 (34).
([77]) 1/ 288 (18).
([78]) 15/ 143 (23).
([79]) 10/ 115.
([80]) 10/ 31.
([81]) 10/ 18 (177).
([82]) 9/ 295 (170).
([83]) 9/ 203 (156).
([84]) 8/ 103 (125).
([85]) 19/ 220 (319).
([86]) 18/ 71 (77).
([87]) 9/ 232.
([88]) 17/ 47 وما بعدها.
([89]) 19/ 279 (367).
([90]) 16/ 86.
([91]) 7/ 262 (114).
([92]) 7/ 221 (109).
([93]) 10/ 170 (188).
([94]) 4/ 3.
([95]) 17/ 22 (52).
([96]) 18/ 42 (96).
([97]) 15/ 151 (25).
([98]) 19/ 112 (263).
([99]) 18/ 345 (142).
([100]) 13/ 24 (230).
([101]) 18/ 342 (140).
([102]) 19/ 52 (24).
([103]) 19/ 234 (328).
([104]) 13/ (238) 131.
([105]) 18/ 240 (85).
([106]) 18/ 252 (92).
([107]) 6/ 353 (85).
([108]) 17/ 149 (61).
([109]) 19/ 271 (361).
([110]) 1/ 404 (3).
([111]) 18/ 282 (113).