Difa e Islam | الدفاع عن الإسلام | دفاع الإسلام |
تغيير اللغة:

سلسلة دول الشيعة - دولة الأدارسة العلوية في بلاد المغرب

سلسلة دول الشيعة - دولة الأدارسة العلوية في بلاد المغرب
172 - 375 هـ / 788 - 991 م
علي الشمري
المصدر مجلة النبأ    العدد  36     السنة الخامسة
    جمادى الاولى  1420

مرّ الشيعة خلال مسيرتهم التاريخية بمراحل صراع سياسي وجهاد عسكري متعددة ومتعاقبة، ضد مختلف أشكال أنظمة الحكم والهيمنة التي تسلطت على رقاب أمة المسلمين باسم الدين والدستور، وتعرض الشيعة خلالها لألوان الأذى والعدوان، وقد أصيبوا وأصابوا، والحرب سجال كما يقال، ولكنهم احتملوا أكثر من غيرهم.
وكان للشيعة خلال تاريخهم مواقف مشهودة، وبطولات مرصودة، تشعبت وتفرقت وانتشرت يميناً ويساراً، في مصادر التاريخ المختلفة.
إن الحديث عن تاريخ الشيعة إنما هو مسألة في غاية الأهمية، ذلك لأن التاريخ بمجمله هو حياة الشعوب والأمم، بما في ذلك أمة المسلمين، فتاريخ الشيعة جزء لا يتجزأ من مسلسل مسيرة التاريخ الإسلامي على امتداد الـ14 قرناً ونيف المنصرمة، ووقائع وأدوار التاريخ الشيعي لا زالت تشغل إلى اليوم أثراً وحيزاً هامين في المجالين الديني - العقائدي، والواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي للعالم الإسلامي على صعيديه الشعبي والرسمي.
اتخذ جهاد الشيعة أحياناً شكل الثورة من أجل وضع المبادئ والتعاليم، موضع التنفيذ العلمي الإيجابي، وقد اعتاد المسلمون أن يحيوا حياة ديمقراطية وتمسكوا أبداً بحرية الرأي والتعبير، لما كفلته تعاليم الإسلام الرشيدة. وعلى امتداد فترتي حكم الدولة الأموية (41-132هـ/661-750م)، والدولة العباسية (132-656هـ/750-1258م) شهد جهاد الشيعة قيام حركات وثورات عديدة ومتتالية، اتخذ الغالب منها طابع المقاومة المسلحة، وشاركت فيها معظم تشكيلات الجماعات الشيعية بمختلف قواها السياسية وقواعدها الجماهيرية العريضة الناقمة والغاضبة، وانعكست هذه الثورات على مجمل الأحداث السياسية في التاريخ الإسلامي، وكان لها شأنها وتأثيرها في المجالات الحضارية، وخاصة الدينية والفكرية، وكان من نتاج هذه الثورات والانعكاسات دولة إسلامية عظمى هي الدولة الفاطمية التي يفخر كل مسلم بحضارتها وبدورها العالمي، إذ لا زالت القاهرة عاصمة مصر، وجامعة الأزهر العريقة فيها، تشهدان على أمجاد الفاطميين، وكذا الحال بالنسبة لبلاد المغرب وساحة شمال أفريقيا التي شهدت قيام عدة دول شيعية – علوية كانت بمثابة خيمة ومظلة آمنة لعموم شعوب أمة المسلمين، كدولة الأدارسة ودولة الحموديون، إضافة إلى دول أخرى شهدتها ناطق وأقاليم أخرى من الخارطة الجغرافية للبلاد الإسلامية المترامية الأطراف، كالدولة البويهية في إيران والعراق والدولة الحمدانية في سوريا وشمال العراق والدولة الزيدية في اليمن.. وغيرها.
استفادة الدعوة العباسية من جهاد الشيعة في العصر الأموي استترت الدعوة العباسية وراء الدعوة للرضا من آل محمد(صلى الله عليه وآله)، بعد أن عهد أبو هاشم بن محمد بن الحنفية من أبناء الإمام علي بن أبي طالب، بوصيته وعهده إلى محمد بن علي العباسي ، وقد استفاد العباسيين من جهود الشيعة التي بذلوها طوال العصر الأموي، وقد كان كفاحهم وثوراتهم من معاول هدم الدولة الأموية وهدف الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله) والمناداة بحقهم الشرعي والتاريخي في حمل لواء الإسلام وحكم المسلمين، وهو ذات الشيء الذي استغله العباسيون لصالح مخططاتهم ومشاريعهم السياسية، وكسبوا به ولاء كثير من المسلمين الذين يريدون تحويل الخلافة إلى البيت الهاشمي، أي بيت الرسول (صلى الله عليه وآله)، وخاصة الموالي الفرس .
وخلال فترة انتشار الدعوة العباسية (100-132هـ) قامت ثورات شيعية عنيفة، شغلت لحد كبير الأمويين من التفرغ لمواجهة الدعوة العباسية الآخذة في الاتساع والانتشار، كما استنفذت هذه الثورات كثيراً من جهود الدولة الأموية، مما دعم الدعوة العباسية، وأوصل دعاتها وقادتها العباسيين إلى سدة الحكم وقيادة دولة المسلمين تحت عنوان ولافتة الرضا لآل محمد(عليهم السلام) والانتصار للشيعة والعلويون منهم على وجه التحديد، ورفع الظلم والغبن اللذان لحقا بهم.
وتطورت الأمور، وأثمر الكفاح وسقطت الدولة الأموية سنة 132هـ/750م، وقام حكم الدولة العباسية، واتضحت الحقيقة وتبلورت الأوضاع مسفرة عن تنكر زعماء بني العباس لكل الشعارات والوعود التي قطعوها على أنفسهم، فثارت أشجان العلويين، وظهر السخط لدى عموم الشيعة على العباسيين، وأدركت الشيعة أن العباسيين قد استفادوا من جهودهم، وأنهم خدعوهم باستئثارهم بالخلافة والحكم دون العلويين، مما أدى إلى قيام حركات الشيعة الثورية التي شهدها العصر العباسي، والأول منه بالذات. دول الشيعة
على مدى قرون طويلة من تسلط بني أمية وبني العباس على زمام دولة المسلمين، وكنتيجة للمعارضة السياسية المتواصلة، والمقاومة المسلحة العنيدة، من جانب الشيعة بقيادة العلويين، فقد أثمرت جهودهم عن نجاحات عدة تمثلت بإقامتهم عدة كيانات سياسية مستقلة، تطورت أشكالها واتسعت رقعتها الجغرافية تدريجياً لتصبح دولاً هامة وبارزة في الخارطة الإسلامية والعالمية وقتذاك، يحسب لها خصومها وأعداءها ألف حساب، ولم يكن من السهل اليسير احتواء هذه الدول أو القضاء عليها، إذ أن العديد منها ترسخت واستعصى أمر التغلب عليها، وكما هو الحال بالنسبة للدولة الفاطمية والدولة الإدريسية والدولة البويهية. دولة الأدارسة في بلاد المغرب:
·                       حركتا إدريس ويحيى ابني عبد الله في عهد الخليفة العباسي هارون:
شهد عهد الخليفة هارون العباسي حركتين شيعيتين قام بهما أخوان هما إدريس ويحيى ابنا عبد الله بن الحسن بن الحسن بن الإمام علي بن أبي طالب(عليهم السلام). فقد قام يحيى بحركته في المشرق الإسلامي (بلاد الديلم - إيران) بينما ثارت حركة أخوه إدريس في بلاد المغرب الإسلامي. والأخوان هما شقيقا محمد النفس الزكية وإبراهيم اللذان أعلنا ثورتهما على عهد الخليفة المنصور، وسالت دماؤهما في المدينة المنورة ببلاد الحجاز والبصرة جنوب العراق.
·                       حركة إدريس بن عبد الله:
نجا إدريس بن عبد الله (كما أخوه يحيى)، في موقعة فخ الدامية، التي ترتبت على الانتفاضة الشيعية ضد حكم الخليفة العباسي موسى الهادي والتي شهدتها مكة بقيادة العلوي الثائر الحسين بن علي ابن الحسن المثلث ابن الحسن المثنى ابن الحسن بن علي بن أبي طالب(عليهم السلام)، سنة 169هـ والتي استشهد فيها ما يقارب من مائة شهيد من أهل بيته.
وفي الوقت الذي لجأ فيه يحيى إلى بلاد الديلم في إيران، لجأ أخوه إدريس باتجاه الغرب، فخرج مع مولى له يدعى راشد وانضما إلى قافلة حجاج مصر ومنها توجه إلى المغرب التي استقرّ فيها.
·                       بدايات تأسيس الكيان السياسي للدولة الإدريسية:
حين وصل إدريس بن عبد الله المغرب، استقر في مدينة (وليلى) عند كبيرها عبد الحميد بن إسحاق الأوربي في غرة ربيع الأول سنة 172هـ (788م)، فدعا عبد الحميد عشيرته أوربه – وهي أكبر عشائر البربر – لبيعته، فكانوا أول من بايعه يوم الجمعة 4 رمضان 172هـ، وتلقب بـ«أمير المؤمنين» .
·                       بيان إدريس الأول:
أعلن إدريس دعوته إلى المغاربة، وأغلبهم قبائل بربرية شديدة البأس تتقدمها قبيلة أوربه بزعامة عبد الحميد إسحاق، ونشر إدريس بيانه الأول ومما جاء فيه:
«بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله رب العالمين الذي جعل النصر لمن أطاعه، وعاقبة السوء لمن عانده، ولا إله إلا الله المتفرد بالوحدانية.. وصلى الله على محمد عبده ورسوله وخيرته من خلقه وآله الطيبين، أما بعد:
فإني أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله، والى العدل في الرعية والقسم بالسوية ورفع المظالم والأخذ بيد المظلوم وإحياء السنة وإماتة البدع وإنفاذ حكم الكتاب على القريب والبعيد.. اعلموا يا معاشر البربر إني أتيتكم وأنا المظلوم الملهوف الطريد الشريد الخائف الموتور الذي كثر واطره وقل ناصره وقتل أخوته وأبوه وجده وأهلوه، فأجيبوا داعي الله عز وجل إذا يقول: ( ومن لا يجيب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه من أولياء أولئك في ضلال مبين) .
أعاذنا الله وإياكم من الضلال وهدانا إلى سبيل الرشاد، وأنا إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عمّ رسول الله(صلى الله عليه وآله)..، هذه دعوتي العادلة غير الجائرة فمن أجابني فله مالي وعليه ما عليَّ، ومن أبى فحظه أخطأ وسيرى ذلك عالم الغيب والشهادة، إني لم أسفك دماً ولا استحللت محرماً ولا مالاً واستشهدك يا أكبر الشاهدين واستشهد جبريل وميكائيل إني أول من أجاب وأناب، فلبيك اللهم لبيك مزجى الجبال سرابا بعد أن كانت صماً صلاباً، وأسألك النصر لولد نبيك إنك عل كل شيء قادر وصلى الله على محمد وآله وسلم..» انتهى.
ولقد لاقت دعوة إدريس العلوي هذه تجاوباً سريعاً وواسع النطاق في صفوف قبائل البربر، وبانت مؤشرات نجاح مشروعه السياسي، وهو بدوره راح يضع اللبنات الأولى لكيان دولته الشيعية – العلوية الجديدة والأولى من نوعها بعد حكومة جده أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب.
وفي عهد إدريس الأول هذا انتظم للدولة جيش كثيف وقوي أخضع من حوله من بلاد المغرب الأقصى الكثير من الأقاليم والمدن لاسيما البلاد التي لم تكن دخلت في الإسلام بعد، كبلاد (تارلا) وحصون (فنلنده) و(مديوقة) و(بهلوله) وقلاع (غياثة) وبلاد (فازار)، ثم تقدم فأخضع تلمسان في المغرب الأوسط، وبهذا تمكن أمره واستقر حكمه وأرسى قواعد الدولة العلوية الفتية، ونجح في أن يقيم ملكاً وطيداً دعامته العدل وإنصاف الناس.
·                       المواجهة العباسية المضادة ومؤامرة الخليفة هارون:
مع تعاظم قوة الدولة الإدريسية، أدرك هارون بأن العمل الحربي لا يجدي نفعاً، وقد كان عليه من العسير إنفاذ جيوش عباسية للقضاء على حركة إدريس التي راحت تزداد قوة يوما بعد يوم، لبعد المسافة ووعورة الطرق، كما إن هارون تردد كثيراً بشأن مقاتلة إدريس وأتباعه إيقاناً منه لصعوبة الاشتباك مع قبائل البربر الشديدة البأس والمتمرسة بالحرب، لذا فإنه سلك طريقاً آخر ولجأ إلى المكيدة والغدر، حين قرر وصمم على اغتيال زعيم هذه الحركة والدولة الشيعية الفتية.
ويروي أبو الفرج الأصفهاني روايتين حول إغتيال إدريس، الرواية الأولى تذهب إلى أن الخليفة العباسي هارون استشار وزيره يحيى بن خالد البرمكي في أمر إدريس، فتعهد هذا بأن يكفيه الأمر، ونجح يحيى البرمكي في إغراء أحد زعماء الفرق الشيعية (الزيدية البترية)، وهو سليمان بن جرير الجزري بأن يغتال إدريس بن عبد الله بالسم، فخرج سليمان إلى بلاد المغرب ونجح في التظاهر بأنه خارج على العباسيين، وكسب ثقة إدريس حتى اطمئن الأخير إليه، ولما حانت الفرصة لسليمان في تنفيذ جريمته، أعطا لإدريس قارورة زعم أن بها عطراً من العراق، فشم إدريس القارورة، وكان بها سمٌ شديد فمات، وفطن أنصاره إلى المؤامرة فقتلوا سليمان، بعدما أمسكوا به حين هروبه.
أما الرواية الثانية للأصفهاني، فتذهب إلى أن الرشيد وجه إليه الشماخ مولى المهدي وكان طبيباً فتظاهر لإدريس بأنه من الشيعة، ثم نجح في قتله بالسم، فمات في سنة 177هـ/793م، ولكن موته لم يقض على مشروع الدولة الإدريسية الذي عمل وبذل جهده له، إذ أن أتباعه صمموا على الاحتفاظ باستقلالهم، وتولـــى راشد مولى إدريس الذي رافقه في رحلته منذ بادئ الأمر أمر القوم والدولة –مؤقتاً-، وكان إدريس قد خلف امرأةً له حاملاً، وما لبثت أن وضعت غلاماً سموه إدريس أيضاً، وبايعه البربر بالإمامة حين نشأ وكبر، فولي أمرهم أحسن ولاية، وبذلك استمرت أول تجربة علوية ناجحة في الوصول إلى الحكم دون أن يتمكن خلفاء هذا العصر من القضاء عليها، إذ بلغ عمرها 203 سنوات.
الأهداف التي قصدتها دولة الأدارسة
1) مناهضة الحكم الأموي في الأندلس، وهو ما تحقق بالفعل.
2) الدعوة للدولة العلوية وللمذهب الشيعي، وتأكيداً لحق آل البيت الهاشمي المحمدي في حكم المسلمين، وهنا نجحوا في القيام بها إلى حد بعيد فكوّنوا دولة بجميع مظاهرها وتلقبوا بألقاب الخلافة والإمامة مثل (الناصر لدين الله) و(المأمون) و(المستنصر) و(المتأيد)، وبسطوا نفوذهم على كثير من بلاد الأندلس، فكانت عاصمتهم مالقة، وملكوا الجزيرة الخضراء وقرطبة واشبيلية وغرناطة والمرية وقرمونة ورندة وأعمالها، ومن مدن المغرب الأخرى.
3) إحياء الذكرى واقعة طف كربلاء الدامية وقضية استشهاد الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب(عليهما السلام)، فكما يروي المؤرخون والمؤلفون، فإن شرق الأندلس، بلنسية وما جاورها كانت تقيم المآتم الحسينية في محافل مهيبة بمناسبة ليالي عاشوراء من كل سنة، عبر صور ومراسيم متنوعة ذات تأثير عاطفي وحماس مثير في وقع النفوس.
4) كما هو الهدف في نصرة الشيعة والعلويين وتخليصهم من مسلسل الاضطهاد والقمع والقتل، فإن إدريس بن عبد الله والأدارسة قصدوا من حركتهم ودولتهم هذه، تحرير قبائل البربر أيضاً مما تعانيه من سوء معاملة واضطهاد من الحكام الفاتحين، وبالذات من عمال الأمويين والعباسيين.
نتائج قيام الدولة الأدريسية
1- بفضل الأدارسة انتشر الإسلام في هذه المنطقة، التي لم يكن يستقر قدم الدين فيها، وقد بلغ كل مكان.
2- قيام الحركة العلمية، حيث أنشأت المدارس والمكتبات.
3- توسيع حركة العمران وتأسيس المدن، مما أدى إلى التوسع في تحضير البلاد وازدهار المدينة.
4- تعميمهم الإسلام بين القبائل البربرية وترسيخ أواصره فيها، حتى أصبحت من أشد قبائل المغرب الأقصى شكيمة وأحسنها بلاءً في الدفاع عن بيضة الإسلام، في حين كان الحكام الفاتحين قبل ذلك يعاملون البربر أسوأ معاملة، كما إن الأدارسة تزوجوا من نساء البربر بما فيهم زعيمهم إدريس، حيث أنجبت له ولداً، كما صار لهؤلاء أولاد ومن هؤلاء أحفاد من أمهات بربريات اندمجوا هم وأحفادهم من بعدهم في القبائل البربرية، ويقول غير واحد من المؤرخين والمؤلفين في صدد اندماج أعقاب إدريس الأول في قبائل البربر (تبربر ولده)، وهؤلاء هم الذين قاموا بنشر الدعوة إلى الدين الحنيف في تلك الأقطار الشاسعة، فانشأ دولتين من أشهر الدول الإسلامية في تلك البلاد.
5- توارث هذه القبائل والدول التي أقامتها فيما بعد كـ(دولة الموحدين وبني مرين والمرابطين) والى اليوم ولاء أئمة أهل بيت محمد(عليهم السلام) والإخلاص لهم، وما أكثر بيوت العلويين على اختلاف بطونهم في المغرب، وما زالوا يتمتعون بحرمة وافرة.
6- إن تجربة قيام الدولة الأدريسية، نمت في نفوس عموم الشيعة والعلويين خاصة بواعث الشعور بالفخر والنصر، والإقدام نحو تحرّك مماثل لتحقيق نموذج آخر لهذه التجربة في مواطن عدة من الوطن الإسلامي الكبير، ولا سيما التي يواجهون فيها القمع والظلم، وانتصاراً لمبدأ الحق والحرية.
______________________________
 
 الأخبار الطوال: الدينوري ص334.
 الفخري: ص115 وما بعدها.
 مقاتل الطالبيين: الأصفهاني ص487-488.
 موسوعة المعارف الإسلامية: العلامة حسن الأمين ج1.
 مقاتل الطالبيين: أبو الفرج الأصفهاني ص489-490.

الدولة الحمدانية في الموصل وحلب
المصدر: جريدة النبأ العدد 39-40 شعبان رمضان 1420
الكاتب: علي الشمري.
ينتسب الحمدانيون إلى جدهم حمدان بن حمدون التغلبي، حيث له ثمانية أبناء، هم: أبو الهيجاء عبد الله والد سيف الدولة، و أبو إسحاق إبراهيم، و أبو العلاء سعيد والد أبي فراس، و أبو الوليد سليمان، و أبو السرايا نصر، و علي، و أبو علي الحسن، و أبو سليمان المزرفن.
و في قلعة منيعة ببلدة ماردين من أعمال الموصل، و في باكورة النصف الثاني من القرن، الثالث الهجري كانت السيادة لحمدان بن حمدون، فبعد أن خاض دوراً فاعلاً في ساحات الجهاد ضد الروم البيزنطيين و إحرازه انتصارات باهرة، بدأ شخصه يظهر على مسرح الحياة السياسية للدولة العباسية، و كان ذلك في حدود سنة 354هـ. و مما عزز موقعه وتأثيره في مجريات الأحداث و التطورات الدور الذي لعبه في مقاتلة الخوارج و التصدي الباهر للكثير من الغارات العسكرية التي كانوا يشنونها ضد الثغور العباسية، فلا تكاد معركة حربية تجري في منطقة الموصل، الا و يكون حمدان التغلبي شريكا فيها، منتصراً تارة و منهزماً تارة أخرى.
و ظل حمدان يتحين الفرصة للزعامة، و لا يكاد يتركها تفلت منه، فيتحالف مع أعداء الأمس من الخوارج، و يدخل مدينة الموصل فاتحاً، معه حليفه الجديد هارون الشاري الخارجي و تطول فترة التحالف مع الخارجي فيخوض في صفه أكثر من معركة، و يربح له أكثر من نصر، كان أهمها جميعاً هزيمة بني شيبان حينما حالوا دون دخول الموصل، و مطاردتهم و تملك ديارهم.
غير أن حالة الموصل ظلت تقض مضجع الخليفة العباسي في بغداد، و خروج حمدان على حظيرة الخلافة تزيد الأمور خطراً، فيخرج الخليفة المعتضد بنفسه عامداً لحمدان بن حمدون في الموصل سنة 281 هـ فيستردها و يحتل قلعة ماردين مقر ابن حمدون، و ينقل ما بها من خيرات و يهدمها، و لا يزال حمدان يفر من بلد إلى بلد حتى تضيق به السبل بعد أن عجزت قلاعه عن حمايته، فلا يجد بداً من أن يذهب إلى خيام المعتضد مسلماً نفسه، فيوضع في السجن حتى ينتصر ولده الحسين على هارون الشاري فيطلق الخليفة سراح أبيه مكافأة له.
و بدأ نجم ولده الحسين يلمع كسيف من سيوف الخلافة، يخوض المعارك فلا يكاد ينهزم في واحدة إلا لينتصر في عشر بعدها. و لعل في نجاح الحسين إلحاق الهزيمة بالقرامطة و هم ألد أعداء حكم الخلافة العباسية، و كذلك محاصرته لعسكر بني تميم و ردهم عن حلب، و دحره للطولونيين، كان من أبرز إنجازاته و انتصاراته التي جعلته يحظى باعتماد الخليفة العباسي و اهتمامه الخاص به، و بالتالي تبوءه تلك المواقع القيادية الحساسة المتقدمة في سلم المسؤوليات و الصلاحيات، و كذا نيله تأييد و تعاطف طبقات واسعة من الأمة، لا سيما في البلدان و الأقاليم التي فتحها و حررها على يديه، كبلاد فارس و مصر.
لماذا ركز الأمراء الحمدانيون على الموصل
لم يكن أمراً غريباً أن يركز كل أمير حمداني أفكاره و اهتماماته في الموصل وإحكام قبضته عليها دون غيرها من الأقاليم. فلقد عرضت عليهم ولايات كثيرة ذات خصوصيات و امتيازات معينة، مثل نهاوند و قم و كاشان و أرمينية و أذربيجان و خراسان و مصر، فلم يرضوا بديار ربيعة و الموصل بديلاً. و الواقع إنهم اختاروا الموصل لأكثر من سبب، فهي جماع عصبتهم و هي غنية بخيراتها حتى أن ميرة بغداد كانت منها. هذا فضلاً عن أن المنطقة كلها من العرب المتعصبين للحمدانيين من أمثال ديار ربيعة و ديار بكر و ديار مضر.
على أن أبى الهيجاء عبد الله بن حمدان هو الأمير الوحيد من بين أخوته الذي استقامت له ولاية الموصل أطول مدة من الزمن، و رغم أنه عزل عنها ثلاث مرات، و لكنه عاد إلى إمرتها من جديد و قتل فيها سنة 317هـ لكي يكمل بناء الملك فيها من بعد ابنه الآخر علي الذي لقب بـ(سيف الدولة)(1) ملكاً مجاوراً في حلب.
و كان قد تمكن أن يقنع الخليفة المكتفي بأن يوليه إمرة الموصل و أعمالها لأول مرة سنة 293 هـ، و هو التاريخ الذي يذهب كثير من المؤرخين إلى أنه البداية الحقيقية لدولة بني حمدان.
بداية الوصول للسلطة السياسية
كان سلطان الخليفة العباسي معطلاً أو شبه معطل منذ أن قوي النفوذ التركي في دار الخلافة، و نتيجة لذلك نشأت وظيفة جديدة لم يعرفها الخلفاء العباسيون قبل أوائل القرن الرابع، هي وظيفة ((أمير الأمراء)) الذي كان يجمع في يديه كل أنواع السلطات من سياسية و عسكرية و أحيانا يتمادى في الأمر فيصدر سكة النقد باسمه و يخطب له على المنابر في أيام الجمعة عند الصلاة.
و حين دخل البريديون بغداد سنة 330هـ، اضطر الخليفة العباسي المتقي أن يلتمس لنفسه مكاناً للنجاة، فلم يجد خيراً من الموصل حيث الأمير الحمداني القوي القادر على حمايته و إعادة عرشه إليه، فيمم وجهه شطرها و برفقته أمير الأمراء أبو بكر محمد بن رائق، و لما كان الأمير الحمداني طموحاً، نزاعاً إلى توطيد ملكه، نهازاً للفرص، فقد أرسل إلى ابن رائق من قتله. و لم يشأ الأمير الحمداني أن يضيع وقتاً فاصطحب الخليفة و سار على رأس جيش كبير معقوداً لواءه على أخيه الأصغر علي، و ما كاد الركب يصل بغداد حتى نجا البريديون بأنفسهم، و فروا أمام الجيش الحمداني، و عاد الخليفة إلى قصره آمنا مطمئناً، فأنعم على الحسين بن حمدان بلقب (ناصر الدولة)، و على أخيه علي بلقب (سيف الدولة).
و في بغداد تولى ناصر الدولة إمرة الأمراء، و سكن القصور و ضرب دنانير جديدة، و بدأ نجمه يصعد نتيجة لانتصاره مع أخيه سيف الدولة على البريديين في عدة مواقع، و لعل من نتيجة ذلك أن زوج الخليفة المتقي ابنه (أبا منصور) من ابنة ناصر الدولة، و بذلك ارتفع مقام الأسرة الحمدانية إلى مقام سام سمح لهم بمصاهرة الخلفاء.
على أن أمرة الأمراء لم تطل مع ناصر الدولة الذي اضطر بعد ثلاثة عشر شهراً، و نتيجة لشغب الجنود عليه و حنينه إلى الموصل، أن يترك بغداد، و أن يعتزل وظيفة إمرة الأمراء متجهاً إلى مقر ولايته العتيدة.
و لكن لا يكاد ناصر الدولة و أخوه سيف الدولة يغادران بغداد حتى تسوء الحال من جديد و يشغب الأتراك على الخليفة و يمتهنون مكانته، فيسارع الخليفة إلى الاستنجاد بالأميرين الحمدانيين، و لكن أمر المملكة الناشئة (المملكة الحمدانية) يشغلها عن الخليفة و عن إجابته إلى ما أراد، و يظل الأمر شبه مستتب لناصر الدولة، و تعقد بينه و بين توزون التركي معاهدة يقتسمان بمقتضاها أرض الخلافة، على أن تكون الأعمال من مدينة الموصل إلى أعالي الشام لناصر الدولة، و أعمال السن إلى البصرة لتوزون، و ما يفتحه من وراء ذلك، و يظن كل من ناصر الدولة و توزون أن حالة الاستقرار هذه ستستمر طويلاً، إلا أنهما يفاجئان بأحداث تعكر هذا الصفو حينما تتقدم جيوش الديلم الزاحفة من الشرق بقيادة معز الدولة بن بويه فتسقط بغداد في يديه سنة 334هـ، و يقع الخليفة فريسة للغازي الجديد.
إمارة الموصل
تمكن أبو الهيجاء أن يقنع الخليفة العباسي المكتفي بأن يوليه أمرة الموصل و أعمالها لأول مرة سنة 293هـ، و خلال فترة ولايته 293 – 37، فانه عزل خلالها مرتين إحداهما سنة 301، و الأخرى حينما قبض عليه مع إخوته في بغداد سنة 303، و يلاحظ أن فترة بعده عن الموصل بعد عزله في المرة الثالثة قد طالت بعض الوقت، على أنه اضطر في آخر أيامه إلى أن ينيب عنه ولده الحسن (ناصر الدولة) على الموصل، و أن يظل هو ماثلاً في بغداد.
و بالرغم أن الحسن قد ولي أمر الموصل بعد أبيه، إلا أنه لم يعش يوماً واحداً مستقراً على كرسي الأمارة إلا بعد ذلك بسنوات عديدة، ذلك أن الخارجين في منطقته قد كثروا بعد موت أبيه، فاضطر إلى قتالهم و ملاحقتهم، و كان هؤلاء الخارجون على جانب من القوة و البطش، الأمر الذي كلف الحسن الكثير من الوقت و الجهد، و لا يكاد الحسن ينتهي من القضاء على الخارجين حتى يظهر له منافس من أهله يريد إزاحته عن مكانه ليستأثر به، و بالفعل سعى عمه سعيد بن حمدان للاستيلاء على الموصل، فاستعمل الحسن معه الحيلة حتى قتله سنة 323هـ، و بذلك خلا الجو للحسن الذي عرف بعد ذلك بسنين باسم (ناصر الدولة)، و هذا ما اعتبره البعض انه البداية الفعلية لقيام الدولة الحمدانية في الموصل.
اشتد ساعد سيف الدولة في وقت تكون فيه الخلافة العباسية مهددة ببعض الخارجين عليها من ذوي الجرأة و الشكيمة حينها ينطلق البريديون من البصرة متجهين إلى بغداد سنة 330هـ فيستولون عليها و يخربون عمائرها، و يسلبون قصر الخليفة الذي يرسل إلى الحسن بن حمدان مستنجداً به، و يعز الأمر على الحسن فيكتب إلى أخيه القائد الشاب علي (سيف الدولة) المقيم في نصيبين أن يهب لإنقاذ الخليفة المتقي، فينطلق الأمير إلى بغداد، و لكن البريدي يكون قد تم له الظفر على الخليفة الذي هرب في طريقه إلى الموصل، و يلتقي بسيف الدولة في الطريق، فيمهد وسائل الراحة له و لحاشيته وأتباعه.
و يصطحب الأمير الحمداني الخليفة على رأس جيش متجهين إلى بغداد لاستردادها من البريديين، و يلحق بهم الحسن بن حمدان، و لا يكاد البريديون يحسون بمقدم الأمير الشاب حتى يتركوا بغداد و يولوا الأدبار نحو الجنوب، فيدخل الخليفة إلى عاصمته و قصوره، و يخلع على الحسن بن حمدان لقب (ناصر الدولة) و يخلع على الشاب علي بن حمدان لقب (سيف الدولة)، و يأمر أن، تكتب أسماؤهم على الدنانير و الدراهم.
و تدفع نشوة النصر سيف الدولة إلى متابعة و مطاردة البريديين، فيزيحهم عن واسط التي كانوا قد عسكروا بها، و يعد العدة للزحف إلى عاصمتهم (البصرة) للقضاء عليهم نهائياً، و هنا يتنبه حساده من القواد الأتراك، إلى خطر هذا القائد العربي الحمداني و يختلفون معه و هو في واسط متأهباً للمعركة الكبرى، و يحاول القائد الحمداني ملاينتهم و استصلاح أمرهم، و لكنهم يحاولون أن يوقعوا بالأمير الشاب فيستعمل الحيلة حتى يستتر بجنح الليل و يعود إلى بغداد، و تشتد شوكة الجنود و القواد الأتراك و على رأسهم توزون، فيضطر الأميران الحمدانيان إلى مغادرة بغداد نهائياً و العودة إلى الموصل.
إمارة حلب
في سنة 332 قلد ناصر الدولة ابن أخيه الحسين بن سعيد بن حمدان، حلب و أعمالها و ديار بكر والعواصم، وكل ما يفتحه من الشام، و يمد ناصر الدولة يد المساعدة والعون للحسين الــــذي يحرز بعض الانتصارات أول الأمر ثم لا يلبث أن يفر أمام جيش الإخشيد الذي كانت له الولاية على تلك البلاد.
وفي سنة 332 تقرر بين توزون أحد قواد الخليفة العباسي، و بين ناصر الدولة الحمداني أن يكون للأول أعمال البصرة و ما إليها، و للثاني الموصل و أعمال الشام.
و في سنة 333 سار الإخشيد إلى مصر و ولى حلب أبا الفتح عثمان بن سعيد الكلالي فحسده إخوته الكلاليون، و استدعوا سيف الدولة علياً بن حمدان ليولوه على حلب، فقدم إليها سيف الدولة بالاتفاق مع أخيه ناصر الدولة، ثم سار منها إلى حمص، فلقيه بها عسكر الإخشيد محمد بن طغج صاحب الشام و مصر مع مولاه كافور، و اقتتلوا فانهزم عسكر الإخشيد و كافور و ملك سيف الدولة مدينة حمص و سار إلى دمشق، فحاصرها فلم يفتحها أهلها له فرجع، و كان الإخشيد قد خرج من مصر إلى الشام، و سار خلف سيف الدولة فالتقيا في قنسرين، فلم يظفر أحد العسكرين بالآخر، و رجع سيف الدولة إلى الجزيرة، فلما عاد الإخشيد إلى دمشق رجع سيف الدولة إلى حلب.
و لما ملك سيف الدولة حلب، سارت الروم إليها، فخرج إليهم فقاتلهم بالقرب منها فظفر بهم و قتل منهم. و لم يكد سيف الدولة يستقر في حلب، حتى بلغه عزم الإخشيد على السير إلى حلب، فالتقيا في قنسرين فانهزم سيف الدولة، و استولى الإخشيد على حلب، فبالغ في إيذاء الحلبيين لميلهم إلى سيف الدولة. و في ربيع الأول من سنة 334 تقرر الصلح بين الأميرين، على أن تكون حلب و حمص و إنطاكية لسيف الدولة، و دمشق للإخشيد، على أن يدفع عنها إلى سيف الدولة إتاوة سنوية. و في هذه السنة مات الأخشيد في دمشق، و ولي بعده ابنه أبو القاسم أنوجور، فاستولى على الأمر كافور و غلب أبا القاسم و استضعفه و تفرد بالولاية، فسار كافور إلى مصر، فقصد سيف الدولة دمشق فملكها و أقام فيها، فأستدعى الدمشقيون كافورا فجاءهم، فأخرجوا سيف الدولة عنهم سنة 336 و استطاع كافور هزيمة سيف الدولة و دخول حلب.
ولكن سيف الدولة عاد في السنة نفسها فاستولى على حلب، و كان ذلك دخوله الثالث إليها، ثم تجدد الصلح بين سيف الدولة و ابن الإخشيد على الصفة التي كانت بينه و بين الإخشيد دون الإتاوة السنوية و استقر سيف الدولة في حلب.
وقد قال أحد المؤرخين عن دولة الحمدانيين في حلب إنها:(كانت عزيزة مستقلة في أولها، ذليلة خاضعة في آخرها).
تشيع الحمدانيين
كان مجتمع حلب أكثره على مذهب أبي حنيفة النعمان، و بعضه الآخر كان شافعي المذهب، و لكن ما يلبث الحمدانيون أن يمتلكوا حلب و كانوا شيعة، فحافظ المجتمع في أول الأمر على عقيدته السنية ثم غلب التشيع على حلب و غيرها، مع بقاء الكثير من السنيين.
ولعل من الخير و المفيد هنا الإشارة إلى وضع غير المسلمين من النصارى و اليهود، فلقد عاشوا حياة آمنة مطمئنة في ظل دولة سيف الدولة، و بالرغم من الاتجاه العدواني الصليبي الذي تمثل في هجمات البيزنطيين على الإمارة العربية، و ما كان يحمل في ثناياه من روح التعصب الشديد، على كل غير مسلم فقد شملت سماحة الحمدانيين كل غير مسلم أقام بين ظهرانيهم فعاشوا في مزارعهم و منازلهم الريفية، و تمسكوا بتقاليدهم الثقافية و حافظوا على لغاتهم الأصلية و هي الآرامية و السريانية.
و لم يكن نشاط غير المسلمين محصورا في المجتمع الشعبي وحده، بل كانوا يلقون التسامح في قصر الأمير الذي لم يتردد في تقريب كثير منهم إليه، حتى أن ابن دنحا أكثر خدامه صلة به و إخلاصا إليه كان نصرانياً، و كان كبير أطبائه عيسى الرقي نصرانياً، وكان الأمير يجزل له العطاء و يعطيه أربعة أرزاق أو أربعة مرتبات، كما لمع منهم تحت رعاية سيف الدولة مهندسون و رياضيون فلكيون و أشهرهم ديونسيوس بطريرك اليعاقبة و المجتبي الأنطاكي و قيس الماروني.
مزايا الحكم الحمداني
·                       1 – التسامح المذهبي من جانب أمراء الدولة الحمدانية (الشيعية) إزاء أتباع المذاهب الإسلامية الأخرى من أبناء الأمة المسلمة، فلم ترد أية أخبار عن مشاحنات أو نزاعات جرت بين السنة و الشيعة، لا سيما في إمارة حلب، كالتي جرت في البلدان الأخرى، مما يدل على أن هذا المجتمع (في ظل الحمدانيين) من الناحية العقيدية كان مجتمعاً خالياً من التعصب المذهبي، حتى أن احمد بن اسحق الملقب بـ(أبي الجود) الذي وليّ قضاء حلب بعد أبي الحصين كن حنفي المذهب. كما أن الكثير من أتباع المذهب السني تحولوا طواعية و عن قناعة تامة إلى المذهب الشيعي، و لدرجة أن الغالبية من أهل حلب و الذين كانوا على مذهب أبي حنيفة النعمان بن ثابت، و كذلك مذهب الشافعي، تحولوا إلى شيعة.
ولم يتحدد التسامح الديني عند حدود المسلمين، بل شملت ساحته أتباع الديانات الأخرى كالمسيحية و اليهودية، إذ عاش أولئك بكل أمان و طمأنينة، و تمتعوا بكل حقوقهم و لغتهم و تقاليدهم و ثقافتهم.
·                       2 – ساهم قيام الدولة الحمدانية في صيانة الشرق الإسلامي من مخططات ومكائد عداء الإسلام الغزاة، إذ استطاع سيف الدولة علي بن حمدان أن يرد الروم البيزنطيين على أعقابهم، و أن يصون سوريا، من غزوهم، و قد كان في صيانة سوريا صيانة بلاد الإسلام كلها، لا سيما مصر و العراق، فلو استطاع البيزنطيون احتلال سوريا، لنفذوا منها إلى أعماق مناطق الشرق الإسلامي، بل و حتى غربه.
·                       3 – تحول بيئة حلب و الموصل إلى بيئة خصبة للآداب و الفنون و العلوم المختلفة، فقد اهتم الأمراء الحمدانيون و منهم سيف الدولة بالذات بالشعراء و الكتاب و العلماء أشد اهتمام، و كان تكريمه لهم تكريماً مميزاً، و كانت مجالس الأمراء تعج على الدوام بمجاميعهم، حيث مجالس الأدب و الحديث و مباريات الشعر و يذكر الثعالبي انه لم يجتمع بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء ما اجتمع بباب سيف الدولة من شيوخ الشعر و نجوم الدهر، و منهم خطيبه ابن نباتة الفارقي، و معلمه ابن خالويه، و طباخه كشاجم، و خزّان كتبه الخالدي و الصنوبري، و مداحه المتنبي و السلامي والواءواء الدمشقي و الببغاء و النامي و ابن نباتة السعدي و غيرهم.
و يذكر الغزالي أن الكثير من علماء العصر قد تخرجوا من ندوة دار سيف الدولة و كذا بالنسبة للشعراء و الأدباء و تلك الندوة كانت بحق مدرسة العلم و الأدب.
·                       4 – ترسيخ مفاهيم الصمود و المقاومة و الجهاد و التضحية في سبيل العقيدة و المبدأ، في أوساط المجتمع الإسلامي، و هذا ما تجسد عبر الدفاع المستميت الذي جسده الشيعة الحمدانيون و أمراؤهم دفاعاً عن حياض الإسلام و البلاد الإسلامية ضد أطماع قوى الكفر و العدوان، التي كانت تبغي الهيمنة و استعباد المسلمين، أمثال الغزاة البيزنطيين و سائر قوى الغزو الصليبي الأوربي.
يقول الدكتور فيصل السامر: لعل أهمية الدولة الحمدانية في (حلب)، لا تكمن في كونها مجرد دولة مستقلة من تلك الدويلات الكثيرة، التي ظهرت أبان ضعف السلطة المركزية و ضياع هيبة الخلفاء العباسيين فحسب، و لا مجرد كونها مركزاً هاماً من مراكز الإشعاع الثقافي و الجذب الفكري في تلك الحقبة الزاهرة حضارياً من تاريخ الدولة العربية الإسلامية، بل لكونها إحدى الدويلات العربية القلائل التي قامت على حساب الخلافة العباسية، و لأنها وقفت سداً منيعا في وجه الغزو البيزنطي الذي كان يستهدف بيت المقدس.
و يقول الدكتور فاروق عمر في الجزيرة الفراتية ظهر الحمدانيون و يمثل ظهورهم قوة نفوذ القبائل العربية في هذه المنطقة بحيث استطاعت أن تكون كيانات سياسية واضحة، حيث استطاعت قبيلة تغلب أن تكون الدولة الحمدانية في الموصل و حلب.
أمراء الدولة الحمدانية

إمارة الموصل

 

 

إمارة حلب

الأمير

فترة حكمه

الأمير

فترة حكمه

الحسن بن حمدان

281 ــ

علي بن حمدان

332 ـ

الملقب بـ(ناصر الدولة)

293هـ

الملقب بـ(سيف الدولة)

356 هـ

عبد الله بن حمدان

293 ــ

إبنه (أبو

358 ـ

(الملقب أبا الهيجاء)

317هـ

المعالي)

381هـ

ابن ناصر الدولة

317ــ 356 هـ

ابنه (أبوالفضائل) سعيد الدولة

381 ـ 392هـ

أبو تغلب

356 ــ 367 هـ

 

 

ملاحظة:
بالنسبة لـ عبد الله بن حمدان (أبو الهيجاء) تولى لفترة كذلك إمارة حلب و ديار ربيعة و خراسان و الدينور.
نهايات الدولة الحمدانية
كان لناصر الدولة أكثر من ولد، اشتهروا بما اشتهر به ذووهم من جرأة و مغامرة، و كان واحد من هؤلاء و يدعى (أبا تغب) قد عرض على أبيه، أن ينتهز فرصة موت معز الدولة البويهي، فينطلق إلى بغداد للثأر من ابنه عز الدولة، الذي كثيراً ما قام أبوه بشن الحرب على ناصر الدولة، و لكن ناصر الدولة صاحب التجربة و منشئ المملكة، لا يقر ابنه على هذا الرأي، فيقبض الولد على أبيه و يودعه السجن، و يبدأ هو بنفسه مزاولة الحكم، وفي تلك الأثناء يطير الخبر إلى حمدان بن ناصر الدولة، و أخي أبي تغلب، حيث كانت ولايته في الرحبة، فيهب لإنقاذ أبيه من أخيه العاق، و تجري بين الأخوين معارك شديدة تضعف بسببها منعة الدولة الحمدانية التي دعمها الشيخ السجين.
يموت الأمير الشيخ السجين في تلك الأثناء في سنة 358 هـ، و يظل الخلاف على أشده بين الأخوين.
ثم لا يلبث أن تمتد آثاره لتشمل بقية الأخوة من أبناء (ناصر الدولة)، مما يشجع الروم البيزنطيين على الاعتداء على أعمال الموصل أكثر من مرة فينتصرون مرة و ينهزمون أخرى.
و يعيد التاريخ نفسه مرة أخرى فيزحف عز الدولة بختيار إلى الموصل و معه حمدان و إبراهيم أخوا أبي تغلب إلى بغداد و يدخل كل منهما بلد الآخر تماما كما حدث بين أبويهما قبل ذلك بتسع و عشرين سنة.
و يدوم الخلاف بينهما مدة لا يلبثان بعدها أن يتصالحا لما بينهما من علاقة النسب فلقد كان أبو تغلب متزوجاً من ابنة بختيار.
و تلعب يد الأقدار دورها فيغير عضد الدولة البويهي على بغداد و يقتل بختيار ويواصل زحفه إلى الموصل، فيهرب منها أبو تغلب، و لا يزال عضد الدولة يطارده من بلد إلى بلد، و يظل شريداً يضرب في آفاق الأرض حتى يأسره بعض رجال الفاطميين في الرملة بفلسطين.
و ضربت رأسه و أرسلت إلى مصر، و بذلك انتهت دولة الحمدانيين في الموصل مبكرة على غير توقع و كان ذلك سنة 367هـ.

الدولة الزيدية في اليمن
ذو القعدة 1420 مجلة النبأ ـ العـد د  - 42
284هـ / 897م
علي الشمري
من هم الزيديون..؟
الزيديون هم العلويون من أبناء زيد بن الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب(عليهم السلام) ، أحد أبطال الحرية وشهداءها في الإسلام، وأحد الذين لم يصبروا على ظلم وجور الحاكمين المتسلطين على الأمة ومن سياساتهم المنحرفة واستبدادهم، لذلك عمد إلى الثورة المسلحة إيقاظًا للأحرار وإنذارًا للظالمين وإلى جانب أبناءه من ذريته، كذلك له أتباعه ومريديه من شيعته وممن ناصروه وناصروا أبناءه من بعده، وكانوا دعامة قوية لحماية الدولة الزيدية التي قامت في فترة من فترات التاريخ الإسلامي.
الإمام يحيى بن الحسين الحسيني الملقب بـ (الهادي إلى الحق) مؤسس الدولة.
الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن القاسم الرسي بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن علي بن أبي طالب… وهو الإمام الأول في اليمن ومؤسس الإمامة وناشر المذهب الزيدي فيه، الذي بلغ عدد أئمته في اليمن منذ الهادي حتى محمد البدر ستة وستين (66) إماماً، بدأ حكمهم من سنة 284هـ كان الهادي يسكن المدينة في الحجاز عـــلى قول أو الرس، بين الحجاز ونجد، وفي سنة 280هـ قدم إليه وفد من أهالي اليمن، يطالبه بالقدوم إلى اليمن لمبايعته إماماً كونه من آل بيت الرسول محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولتخليصهم من ظلم الحكام والولاة الظالمين.
شروط الإمامة في العقيدة الزيدية
إن المشهور في صفات الصالحين من (أئمة الزيدية) على العموم لا تباين صفات (الخلفاء الصالحين) وهي تمثل تواضعهم واهتمامهم بأمور الرعية وتمسكهم بالشورى، أو ترفعهم عن سيئات الترف وموبقات الفساد، ليسوا بالملوك المتغلبين، ولا بالسلاطين الجائرين، دستورهم القرآن، وشرعتهم الأنصاف.
وشروط الإمامة بضعة عشر شرطاً وهي كما في كتب الأصول أن يكون:
(مكلفاً ـ ذكراً ـ حراً ـ علوياً ـ فاطمياً ـ سليم الحواس والأطراف ـ مجتهداً ـ عادلاً ـ سخياً بوضع الحقوق في مواضعها ـ أكثر رأيه الإصابة ـ مقداماً ـ لم يتقدمه مجاب ـ يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر ـ ويستشير أولي الخبرة من المواطنين).
هذا في الحالات التي تسير فيها أمور المسلمين دون تسلط ظالم، أما في حالة وجود مغتصبين للسلطة ظالمين، فإن طريقها هو الخروج (الثورة).
فالخارج على الظلمة المستوفي لشروط الإمامة تجب نصرته ويكون هو الإمام ومما يذكر للأئمة الزيديين (زيود اليمن) كانوا على جانب كبير من احترام الرأي وتقدير العلم، مما لا يشبههم أحد من الحكام، وبالنسبة لأئمة طبرستان فإنهم هم الذين نشروا الإسلام في الديلم بعدلهم وعلمهم وحسن دعوتهم بعد أن كان ظلم الحكام قبلهم، يحول دون انتشار الإسلام.
الزيدية في طبرستان والجبل والديلم
في نفس الوقت الذي كانت تقوم فيه الإمامة الزيدية في اليمن، كان هناك دعوات زيدية في طبرستان والجبل والديلم، ويبدو مما قاله صاحب (غاية الأماني)، أنه كان هناك نوع من التواصل بين زيود هذه الجهات وبين زيود اليمن، فهناك مثلاً حركة الحسن بن زيد بن محمد الملقب بـ الداعي إلى الحق، الذي ظهر سنة 250 في طبرستان، ثم فتح آمل وساري والري وجرجان وقومس هازماً بني طاهر، ثم توفي سنة 270 واستمرت تلك الدولة 95 عاماً (250 ـ 345).
وهناك أيضاً دعوة الحسن بن القاسم بن الحسن بن القاسم بن الحسن بن علي بن عبد الرحمن من ذرية زيد بن الحسن بن علي الذي ظهر في إقليم الديلم. وكان قبل ذلك نقيب العلويين في بغداد ولاه إياها معز الدولة البويهي، حيث كاتبه زيدية الديلم يبايعونه، ووصل إليه وفد منهم، فخرج من بغداد سراً، ووصل الديلم سنة 353، فبويع في سهل الديلم وجبلها وطبرستان. توفي سنة 360 ودفن هناك.
وهناك أيضاً دعوة أحمد بن الحسين بن هارون من ذرية زيد بن الحسن بن علي المولود في طبرستان سنة 333 والمتوفى يوم عرفة سنة 411.
وهناك دعوة أخيه الذي كان يتنقل بين جرجان واسترآباد والديلم ثم توفى بالديلم سنة 424 عن نيف وثمانين سنة.
وغير هؤلاء قام دعاة زيديون في تلك البلاد جهروا بإمامتهم ودعوا الناس إلى بيعتهم، وكانت سلطتهم تنقبض حيناً وتنبسط حيناً وكثيراً ما اصطدموا بدعاة الباطنية واشتبكوا معهم في حروب. كما كانت لهم صلات خارج مناطقهم كهذا الذي بين صاحب عمان الزيدي، وبين يحيى بن أحمد بن الحسين الذي خرج بجبلان سنة 502 ودانت له أكثر بلاد الجبل واتصل أمره إلى هوسم وسرى إلى جبال ديلمان، ولم تقتصر صلاته على صاحب عمان بل أرسل من قبله وفداً إلى اليمين إلى صعدة، وكان رسوله إليها أبو طالب بن أبي جعفر فقيه الزيدية في عصره وعالمهم وبعد وفاة يحيى سنة 516 اكتنف الغموض الحركة الزيدية في طبرستان وجيلان، ولم تورد المصادر التاريخية إلا الأخبار القليلة والمحدودة عنها.
بدايات الحركة الشيعية العلوية في اليمن
دخلت بلاد اليمن في حوزة العباسيين بعد انتقال الخلافة إليهم، وصار الولاة يتعاقبون عليها من قبلهم، واتخذوا صنعاء حاضرة لهم، غير أن الأمور في هذه البلاد كان يسودها، الاضطراب، بسبب الحركات التي أثارها العلويون، فقد ظهرت دعوة محمد بن إبراهيم المعروف بـ(ابن طباطبا)، الذي خرج على المأمون في جمادي الآخرة سنة 199هـ/815م، وصار يدعو إلى الرضا من آل محمد، وبالعمل بالكتاب والسنة. وعاونه في نشر دعوته قائد جنده ابو السرايا السري بن منصور الشيباني، الذي استولى على الكوفة من يد واليه العباسي واستجاب لدعوته شيعة الكوفة وبايعه الناس، ولقب بـ(أمير المؤمنين)، ومن ثم بعث أخاه القاسم بن إبراهيم إلى مصر يدعو له، ويأخذ له البيعة، كما بعث إبراهيم بن موسى داعية له في اليمن.
ولما أيقنت الخلافة العباسية من خطورة الأوضاع في اليمن، جهزت جيشاً إلى تلك البلاد بقيادة محمد بن علي بن عيسى بن ماهان، فدارت بينه وبين إبراهيم بن موسى عدة معارك، ولم يزل إبراهيم بن موسى يتردد على القرى التي حول صنعاء، حتى وصل إليه عهد المأمون بولاية اليمن، فأبى ابن ماهان أن يسلمه اليه، ودخل معه في عدة معارك، وانضم إلى ابن ماهان الكثير من اليمانية، ودارت بين الفريقين موقعة (جدر) سنة (201هـ/816م)، أسفرت عن هزيمة إبراهيم بن موسى وخروجه من اليمن.
على أن إبراهيم بن موسى، وإن كان قد ترك اليمن، ورحل إلى بغداد، فإنه أبقى علاقاته مع قبيلة بني فطيمة التي ناصرته وآزرته، وظلت هذه العلاقات باقية حتى قدم الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين إلى اليمن ليؤسس الدولة الزيدية، ويتخذ من مدينة صعدة عاصمة لها.
أنتهز يحيى بن الحسين فرصة ضعف الدولة العباسية، وعدم استقرار الأمور بها، وعول على الدعوة لنفسه بالإمامة، وهو الأمر الذي لم يتيسر تحقيقه لجده القاسم، فعمد إلى إعلان الثورة في طبرستان بعيداً عن أعين العباسيين، وحيث تتوافر لدعوته الحماية والأمن في تلك البلاد، لأن طبيعتها الجبلية، وبعدها عن حاضرة الخلافة، يحول دون إرسال جيوش العباسين اليها، كما أن مذهب جده القاسم كان منتشراً في هذه المنطقة عن طريق الدعاة، وقد أثمرت جهود هؤلاء الدعاة، فظهرت في طبرستان (الممتدة بين جبال لابرز، وساحل بحر قزوين الجنوبي) دولة علوية حكمها الداعي الحسن بن زيد سنة (250هـ/864م) غير أن الزيدية لم تعترف به إماماً لأنه لم يستوف شروط الإمامة، وهي العلم والزهد والسياسة ورغم أن تجربة طبرستان فشت سياسياً على ما يبدو في إقامة كيان الدولة التي كان يطمع اليها يحيى بن الحسين الا أنها على الصعيد الديني ـ العقائدي حققت نجاحاً كبيراً، إذ انتشرت الدعوة الزيدية بين قبائل طبرستان وبلاد الديلم بشكل واسع، ممــا أوجد له أتباعاً وأنصاراً كثيرين، ساعدوه ودعموا فيما بعد دعواته ونشاطاته في المناطق الأخرى، ومنها اليمن التي نجح في إقامة دولته فيها، وكانوا من أخلص المقاتلين في معاركه ضد أعدائه هناك.
أسباب اختيار الهادي اليمن لاقامة الدولة الزيدية
تقف على مسألة اختيار الهادي لليــمن لإقامة دولته، جملة أسباب منها داخلية تتمثل أبرزها في أن الدعام بن إبراهيم وهو من رجالات اليمن البارزين، تزعم وفداً لدعوة الهادي يحيى بن الحسين واستقدامه إلى اليمن ومبايعته إماماً، وكذلك دور الهادي في عملية المصالحة التي نجح فيها بين قبيلتي بني فطيمة والأكيليين، وأيضاً ضعف دولة بني يعفر (الموالية للخلافة العباسية)، اضافة إلى ما كانت عليه حال البلاد من القحط وجدب الأرض وفناء الرجال بفعل الحروب والمطاحنات الداخلية بين القبائل. أما عن العوامل الخارجية التي شجعت الهادي على المسير إلى اليمن، فترجع إلى اضطراب أحوال الخلافة العباسية، وضعف السلطة المركزية في بغداد.
سياسة الإمام الهادي في توطيد سلطته
دخل الامام يحيى بن الحسين الهادي منطقة صعدة مع جموع الأكيليين، وبني فطيمة بعد أن اصلح بينهم، ولم يكن بصحبته إلا عدد قليل من بني معاوية بن حرب، الذين تبعوه أو من انضم إليه في الطريق. كتب الهادي عند قدومه إلى صعدة كتاباً إلى أهل اليمن، يدعوهم فيه إلى الجهاد معه، وحدد أصول الدين في معرفة الله وتوحيده، والعدل، والوعد والوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم الخروج مع أئمة آل البيت من ولدي الحسن والحسين، وشرط على نفسه في دعوته أربعة شروط هي:
اـ الحكم بكتاب الله وسنة نبيه
3ـ أن يقدمهم عند العطاء قبله
2ـ أن يؤثر اتباعه على نفسه، فلا يتفضل عليهم
4ـ أن يتقدمهم عند لقاء عدوهم وعدوه
وشرط عليهم في مقابل ذلك الطاعة لله في السر والعلانية، وان يطيعوه ما أطاع الله فيهم، فان خالف فلا طاعة له عليهم.
ومن هذا البيان الذي قدم به بيعته، اتضح أنه كان يرمي إلى إقامة حكم إسلامي، فهو يرى أنه صاحب رسالة إصلاحية إسلامية، وأن عليه أن ينشرها بين جميع أهل اليمن.
وبالفعل استطاع الإمام الهادي إلى الحق بفضل تدينه وسياسته وعدله أن يفرض سيطرته على اليمن من أقصى شمالها إلى أقصى جنوبها، وقد دانت له البلاد بالولاء والطاعة، وبذلك أرسى حجر الأساس لهذه الدولة الشيعية العلوية التي عرفت باسم (الدولة الزيدية)، واتخذت من مدينة صعدة عاصمة لها.
وفي أوائل القرن الحادي عشر بدأ الأئمة بالتغلغل في جنوب اليمن وتهامة حتى امتد نفوذهم إلى حضرموت في أيام المتوكل إسماعيل وأولاده ومن تلاهم من آل القاسم بعد أن خلت البلاد من قوة مناوئة بجلاء الأتراك الجلاء الثاني على أن الأمر لم يخل من ثورات وتمردات كثيرة كثورة همدان وبني حشيش وبني الحارث سنة 1102 التي قامت في وجه المهدي وثورة همدان 1256، وثورة صنعاء 1260 وغير ذلك من الثورات التي كان أكثر بواعثها النزاع حتى بين الأسرة الواحدة كالنزاع بين آل القاسم أنفسهم الذي استمر حتى سنة 1269 حين خرجت الأمة منهم بقيام الإمام المنصور محمد بن عبد الله.
وبعد أن خرجت الإمامة من آل المنصور عادت إليهم سنة 1307 عندما تولاها الإمام المنصور محمد بن يحيى حميد الدين من ناحية أخرى فان الاحتلال التركي دام 85 عاماً، أي إلى نهاية الحرب العالمية الأولى سنة 1337هـ/1918م، حيث استطاع الإمام المتوكل يحيى بن محمد حميد الدين السيطرة على كامل اليمن بشماله وجنوبه. عرف عهده وعهد ابنه أحمد بعهد الحكومة المتوكلية، وقد استمر هذا العهد من سنة 1332 إلى سنة 1382هـ.
وكثير من هؤلاء الأئمة كانوا يباشرون الحرب بأنفسهم في سبيل توطيد ملكهم، وبعضهم كان يقتل في المعارك، كما أن فيهم مؤلفين كالإمام المتوكل احمد بن سليمان (532 - 566) صاحب كتاب (أصول الأحكام) المشتمل على ثلاثة آلاف وثلاثمائة حديث، وكتاب المدخل في أصول الفقه وكتاب (الحكمة الدرية) في أصول الدين.
وقد جمع أحد أصحابه سليمان بن يحيى الثقفي سيرته في كتاب خاص.
كما أن الإمام المنصور القاسم بن محمد (1006 - 1029) مؤسس الدولة القاسمية، بالإضافة إلى كونه من رجال العلم وله مؤلفاته الكثيرة وأبرزها (الأساس في علم الكلام) و (الإرشاد في تيسير الاجتهاد) والاعتصام في الحديث) كان إلى جانب ذلك إماما وقائداً محارباً استطاع أن يتغلب على الأتراك ويحصرهم في مناطق محدودة لا يتجاوزونها.
الأئمة الزيديون الذين حكموا اليمن بعد الهادي كانوا في معظمهم من نسله، وعددهم 59 إماما، هم الأئمة الحسينيون، وبويع خمسة أئمة حسنيين آخرين من غير نسله، كما بويع إمامان حسينيان، على أن سلطة الأئمة لم تتعد شمال اليمن حتى أوائل القرن الحادي عشر، إلا في فترات متقطعة قصيرة، وإن كان بعضهم كالمتوكل المطهر بن يحيى وولده المهدي، ومن جاء بعدهما حتى أواخر عهد محمد بن الناصر، قد استطاعوا خلال القرنين الثامن والتاسع أن يسيطروا على صنعاء وذمار، ولكن سيطرة غير مستقرة، تزعزعها المعارك بين الأئمة وبين آل طاهر وآل رسول، والإمام المتوكل على الله يحيى شرف الدين (912 - 965) وولده المطهر (965 - 980) استطاعا أن يثبتا سيطرتهما على صنعاء في أول عهدهما إلى أن دهمهما الغزو التركي، فأخرجهما من صنعاء ولاذا بالجبال.
وبعد أن حكم شرف الدين أربعين عاماً اعتزل الإمامة فقام مقام ولده المطهر الذي صمد للأتراك صموداً كان مثارا للإعجاب، ومن بعده صمد لهم الإمام المنصور القاسم (1006 - 1029) ثم ولده المؤيد الذي استطاع أن يجلي الأتراك ويخرجهم من اليمن على أن حكم الأئمة لم يستطع أن يخضع المناطق اليمنية الأخرى مثل اب وتعز وحضرموت وتهامة، بل ظلت دون متناول أيديهم، ما عدا سنوات من الفترة التي حكم فيها الإمام شرف الدين، فقد استطاعت قواته السيطرة على تعز وأب من سنة 941 - 945 يقودها ولده المطهر الذي لم يتوان عن الفتك والبطش والقسوة في سبيل توطيد حكم والده وإيصاله إلى ما لم يكن قد وصل إليه من قبل، على أن المطهر بعد تنازل أبيه له عن الإمامة فوجئ بالغزو العثماني، فاضطر للتخلي عما كان في يده والانسحاب إلى الشمال.
أبرز إنجازات حكم الدولة الزيدية
·                       1) الاهتمام بتنظيم أمر البلاد، وتولية العمال (الولاة)، وكانت مهمتهم جمع الخراج لزيادة موارد الدولة والإنفاق على دار الإمارة في صعدة، والجنود.
·                       2) وضع عهداً بمثابة (إقرار ثابت) لولاته، حُدد فيه واجباتهم، والتزامهم العدل في السياسة والأجراء بالنسبة للرعية، بحيث لا ينتزعون من أهل البلد مسكناً، ولا يصادرون منهم حقاً مشروعاً.
·                       3) إشاعة العدل والمساواة بين المسلمين وعامة الناس ممن يعيشون في ظل الدولة الزيدية، حيث تم تحديد القواعد التي يحب مراعاتها في القضاء، والتي من شأنها منع التعسف وإلحاق الظلم.
·                       4) تحديد موارد الدولة وتنظيم ميزانية صرفها بشكل عادل ومُرضي، كما تم تحديد المقادير التي يأخذها الولاة على زكاة الأرض بأنواعها، وزكاة التجار، وجزية أهل الذمة من اليهود والنصارى، وقد ميز في ذلك بين الأغنياء والفقراء، كل حسب طاقته وحدود حاله المادي.
·                       5) العمل على استتاب الوضع الأمني في البلاد، من خلال بذل الجهد في القضاء على الفتن، وتهدئة الأحوال وتيسير الأرزاق، وتأمين الناس على حياتهم وممتلكاتهم.
·                       6) التأكيد على الطابع الديني والسياسي للدولة في آن واحد، حيث ألزم كافة الولاة ومسئولوا الدولة بالسعي إلى نشر تعاليم الدين، وإقامة فرائضه العبادية، وإقامة مراكز تعليم الناس قراءة القرآن الكريم، وأداء الصلاة في المسجد، ومتابعة خطب ودروس علماء الدين في المساجد وكل ما يتعلق بعلوم الدين، وإلزام الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على أن يكون الالتزام بذلك بدءاً من قادة الدولة وولاتها أولاً ثم الرعية وعموم الناس من بعد ذلك.
المصادر
1 ـ العلامة السيد حسن الأمين/ موسوعة المعارف الإسلامية الشيعية/الجلد الثالث
2 ـ الإمام السيد محمد الشيرازي/ ممارسة التغيير
3 ـ حسن خضيري أحمد/ قيام الدولة الزيدية في اليمن

دولة الإمام علي
بعض الملامح
علي الشمري
المصدر: مجلة النبأ – العدد 34 ربيع الأول 1420
إن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بالرغم من الأمر الذي تمّ على صعيد إقصاءهم عن مجال الحكم، كانوا يتحمّلون باستمرار مسئوليتهم في الحفاظ على الرسالة وعلى التجربة الإسلامية المحمدية، وتحصينها ضد التردي إلى هاوية الانحراف والانسلاخ من مبادئها وقيمها، فكلما كان الانحراف يطغى ويشتد وينذر بخطر التردي إلى الهاوية، كان الأئمة يتخذون التدابير اللازمة ضد ذلك، وكلما وقعت التجربة الإسلامية أو العقيدة في محنة أو مشكلة وعجزت الزعامات عن علاجها بحكم عدم كفاءتها بادر الأئمة إلى تقديم الحل ووقاية الأمة من الأخطار التي كانت تهددها.
وبكلمة مختصرة كان الأئمة يحافظون على المقياس العقائدي والرسالي في المجتمع الإسلامي ، ويحرصون على أن لا يهبط إلى درجة تشكل خطراً ماحقاً، وهذا يعني ممارستهم جميعاً دوراً إيجابياً فعالاً في حماية العقيدة وتبني مصالح الرسالة والأمة، وفي هذا فعل أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(ع) حين تولى مسؤولية الخلافة الإسلامية وتسلّم رسمياً مهمة قيادة الدولة والأمة الإسلامية في فترة سنوات 35-40 هجرية.
الإيجابيات التي جسدها الإمام علي(ع) قبل خلافته
لقد تمثّل الدور الإيجابي الذي جسّده الإمام(ع) في تجربته العظيمة وسياسته الحكيمة في صور عدة أبرزها:
·                       1- إيقاف الحاكم عن المزيد من اللامسئولية والانحراف، وهو ما تجسد كما عبر عنه(ع) حين صعد عمر بن الخطاب على المنبر وتساءل عن ردّ الفعل لو صرف الناس عما يعرفون إلى ما ينكرون، فرد الإمام(ع) عليه بكل وضوح وصراحة «إذن لقومناك بسيوفنا».
·                       2- تعريفة الزعامة المنحرفة إذ أصبحت تشكل خطراً ماحقاً ولو عن طريق الاصطدام المسلّح والشهادة.
·                       3- مجابهة المشاكل التي تهدّد كرامة الدولة الإسلامية، وعجز الزعامات القائمة عن حلها.
·                       4- إنقاذ الدولة الإسلامية من تحد يهدد أمنها وسيادتها.
·                       5- اتخاذ مظهر السلبية والمقاطعة في أكثر الأحايين، بدلاً عن مظهر الاصطدام المباشر والمقابلة المسلحة صيانة لدماء المسلمين، إذ أن المعارضة حتى بصيغتها السلبية كانت بمثابة عملاً إيجابياً عظيماً في حماية الإسلام والحفاظ على مثله وقيمه السامية.
·                       6- تموين الأمة العقائدية بشخصيتها الرسالية والفكرية من ناحية، ومقاومة التيارات الفكرية التي تشكل خطراً على الرسالة وضربها في بدايات تكوينها من ناحية أخرى.
وفي الواقع فإن تلك الآثار الإيجابية وغيرها مثّلت العطاء والدور الإيجابي الذي مارسه الإمام(ع) في الأمة بالرغم من إقصائه عن مركز الحكم لسنوات طويلة، وهذا كان سبباً واضحاً وملموساً في إفراز الواقع المرير والصور السلبية التي رافقت حياة الأمة المسلمة على مختلف الأصعدة (سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، بل وحتى معنوياً)، ولدرجة ما آلت إليه الأمور في نهاية المطاف، وبما أدت إلى ثورة الأمة وقتل الخليفة (الثالث) عثمان بن عفان، وبالتالي قيام دولة الحكم الإسلامي بإمامة وقيادة علي(ع)، والتي كانت بحق فترة انتقالية وعودة إلى التجربة المحمدية الأصيلة.
صورة الوضع القائم في عهد الخليفة عثمان
انعكست مسيرة الحكم لعثمان بن عفان، وما آلت إليه من ممارسات خاطئة وتطورات سلبية طالت مجمل الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بسبب مباشر من عدد كبير من الولاة والصحابة والعمال، أمثال سعيد بن العاص وعبد الله بن عوف الزهري، وقادة بني أمية وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان، وغيرهم ممن قربهم عثمان إليه ومكّنهم في الوصول إلى دائرة الحكم.
ويمكن إجمال مظاهر ومساوئ الحالة العامة التي سادت مجتمع الأمة المسلمة وقتذاك بالآتي:
·                       1- سوء الإدارة وفساد جهاز الحكم.
·                       2- سوء السياسة المالية، وشيوع السرقة في بيت مال المسلمين والرشوة.
·                       3- نشوء التعددية الطبقية، وبروز طبقة (الأرستقراطية) التي ضمت المقربين من الخليفة والحاشية الحاكمة.
·                       4- معاداة واضطهاد كبار صحابة الرسول محمد(ص) والإمام علي(ع)، أمثال عمار بن ياسر ومالك الأشتر النخعي وأبو ذر الغفاري ومحمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة وسلمان الفارسي (المحمدي).
·                       5- سياسة القسوة والبطش، المتبعة في إسكات وقمع حركات الاحتجاج الشعبي لدى مختلف أوساط الأمة.
·                       كل تلك المظاهر أدت إلى تفاقم حدّة النقمة والمعارضة الشعبية الواسعة، وفقدان الأمة الثقة بحكامها، وبالتالي بروز حركات التمرد والثورة ضد الخليفة عثمان وسلطته، فيما كانت الكوفة (العراق) ساحة لأقوى تلك الحركات المعارضة والثائرة طلباً للإصلاح ومحاسبة ومعاقبة المقصرين والمتآمرين على الإسلام والأمة، ولما لم يكن هناك من يصغي للمطالب المشروعة للأمة، فإنها آلت في نهاية المطاف إلى مقتل الخليفة عثمان وسقوط نظام سلطته الحاكمة.
علي (ع) يتصدّى لتغيير هذا الواقع
لقد كان صوت علي بن أبي طالب(ع) في مقدمة الأصوات التي ارتفعت بالنقد والمعارضة لهذه التغييرات الاقتصادية والاجتماعية التي طرأت على المجتمع العربي الإسلامي في العهود التي سبقت خلافته، ومن ثم فإن حركة المعارضة والنقد، ثم الثورة، ضد هذه الأوضاع الشاذّة المستجدة قد اتخذت من علي(ع) رمزاً لها وقيادة تلتفّ من حولها، كي تمارس الضغط والنقد والتجريح لأصحاب المصلحة الحقيقية في هذه الأوضاع الطارئة على المجتمع. حدث ذلك حتى قبل مقتل عثمان ومبايعة علي بالخلافة.
ومن هنا كانت الوقائع والأحداث التي سجّلتها مصادر التاريخ تحكي علاقة الإمام بحركة التغيير، وموقفه (ع) من التطبيقات الخاطئة ففي لقاء من بين لقاءات عدة بين علي وعثمان، ينتقد فيه علي عثمان لميله لبني أمية، وإطلاقه العنان لهم كي يستأثروا بخيرات الناس ويحتازوا حقوقهم، وينبهه إلى خروجه عن نهج الأمة الذي سار عليه من سبقه، وينكر أن يكون عثمان في نهجه مساوياً لأبي بكر وعمر بن الخطاب على أقل تقدير.
والاعتقاد الراسخ هو أن موقف علي(ع) ضد الفرع الأموي من قريش، إنما هو جزء في موقفه العام ضد قادة قريش وأغنيائها، أولئك الذين ناصبوا الفرع الهاشمي المحمدي، العداء منذ ظهر الإسلام، وخاضوا ضده الحروب، ثم تربصوا به -حينما هُزموا- حتى انقضوا على دولة الدين الجديد تحت راياته وأعلامه.
ولو كانت القيادة الإسلامية قد آلت إلى الإمام (ع) قبل حادثة السقيفة أو بعدها لما حدث هذا الاختلال الملحوظ وكان مصداق ذلك ما تحقق عندما بايعه الناس بالخلافة حيث أعلن الثورة الشاملة ضد الأوضاع السياسية والاجتماعية التي كانت محل نقده ومعارضته.
الإمام علي(ع) بعد تولي الخلافة
أصبح علي(ع) الخليفة الفعلي للمسلمين، واجتمعت بيديه مقاليد الأمور، فثاب إلى المجتمع هدوء مشفوع بالأمل وارتقاب فجر جديد، وبدأ علي (ع) أول ما بدأ بإعطاء الحق إلى الشعب، فقد وجد أن مشاكلهم المعلقة أضحت مزمنة، لم يبت فيها بشيء، فعطف على آلام هذا الجمهور وواساه بنفسه وقلبه ما وجد إلى ذلك سبيلاً.
وذهب مع تقريره بأن المجتمع الذي يقوم النظام فيه على برنامج غير مكتوب، يظلّ عرضة للعبث والتلاعب والتصرفات التي من شأنها أن تضيره، إذا لم يقصد أولاً وقبل كل شيء إلى الاختيار وانتقاء الشخصيات التي تضم إلى الكفاءة، الإخلاص والضمير. بل من رأي علي(ع) الإصلاح حتى في المجتمعات التي يستوي النظام فيها على برامج مكتوبة، لا يتم على وجه مضمون إلاّ بالشخصية المنتقاة، ولمس إلى ذلك إن أكبر عناصر الشكوى وأهم أجزائها هو الجزء الخاص بالأمراء والولاة، فبادر قدماً إلى تغيير التعيينات، متوخياً في ذلك مجاراة الحق والعدل والمصلحة العليا للإسلام والأمة، دون أن تأخذه لومة لائم، أو يمنعه سطوة جاه أحد أو تأثير حزب أو فئة ما أو أية ضغوطات أو مؤثرات.
صور وإنجازات الحركة الإصلاحية في دولة الإمام(ع)
·                       1- في السياسة: أعلن عن عزل العمال والولاة السابقين على الأقاليم، ولم يتراجع عن ذلك عندما حاول البعض الحيلولة دون ذلك، وهذا موقف شهير في كل كتب التاريخ.
·                       2- في ميدان القطائع: كانت هناك الأرض التي جعلها الخليفة عمر ملكا خاصاً لبيت المال، ثم جاء عثمان فأقطعها لأوليائه وأعوانه وولاته وأهل بيته، وبصددها كان موقف علي(ع) حازماً وحاسماً.. فلقد ألغى هذه العقود، وقرر ردّ هذه الأرض إلى ملكية الدولة وحوزة بيت المال، ورفض أن يعترف أو يقر التغييرات «التصرفات العقارية» التي حدثت في هذه الأرض.
·                       3- في ميدان العطاء: أحدث علي(ع) تغييراً ثورياً لعله كان أخطر التغييرات الثورية التي قررها، والتي أراد بها العودة بالمجتمع إلى روح التجربة الثورية الإسلامية الأولى على عهد الرسول الكريم(ص) ذلك أن النظام الذي كان معمولاً به من عهد النبي(ص) فيما يتعلق بالعطاء -والعطاء هو نظام قسمة الأموال العامة بين الناسبالمساواة، وهذا كان قد ألغاه الخليفة الثاني واستبد له بنظام التفضيل.
وبشكل عام يمكن إجمال صور الحركة الإصلاحية الشاملة التي قادها الإمام بالآتي:
·                       أولاً- الإصلاح الإداري: حيث قام بعزل معظم الولاة عن الأمصار ومسئولي الجهاز التنفيذي الإداري من الدولة، وإقصاء أولئك النفعيين الذين لم يكن لهم هم في الحياة سوى السلب والنهب وكنز الذهب والفضة والتسلّط المرير على رقاب المسلمين، وقال(ع) في ذلك: «والله لا أدهن في ديني ولا أعطي الدنيَّ من أمري» .
·                       ثانياً- الإصلاح الاقتصادي: وتمثل بإرجاع قطائع العهد السابق وأقطاب الحاشية الحاكمة لأصحابها الشرعيين، وتوزيع الثروة بشكل عادل، وإلغاء التصنيف الطبقي للناس، ومصادرة الأموال التي نهبها المدللون من خزانة (صندوق) الدولة، ليتمتعوا بها على حساب الجماهير الجائعة المحرومة، وإعادة تنظيم بيت المال (الميزانية) على أسلوب جديد سليم ومستقيم.
·                       ثالثاً- الإصلاح الاجتماعي: وهذا تجلى في أولى خطواته (ع) بإلغاء القيم العشائرية والقضاء على النزعة القبلية السائدة في المجتمع، والعودة إلى قيم الإسلام الأصيلة القائمة على أساس المساواة العامة الشاملة، فلا تفاضل بين قوم وقوم وجنس وجنس، ولا شأن أبداً للعرق أو اللون أو العمر أو أي امتياز آخر من الامتيازات العرقية التي كان يتمايز بها الناس، ولا تصنيف للطبقات والفئات الاجتماعية، ولا تنابز بالألقاب، ولا تفاخر بالزينة والأموال والأولاد.
أسس السياسة عند الإمام علي(ع)
تتمثل أسس السياسة الشرعية التي انتهجها الإمام علي(ع) وطريقة الحكم التي جسدها خلال فترة السنوات الخمس (35-40هجرية) التي تولى فيها مسؤولية الخلافة وقيادة الدولة الإسلامية، تتمثل بمجموعة مبادئ وجوانب؛ أبرزها يتحدد بـ:
·                       أخلاق الحاكم أو القائد السياسي وواجباته:
1- العمل الصالح أعظم ذخيرة.
2- امتلاك الهوى، والشح بالنفس عما لا يحل له، والشح يعني «الإنصاف فيما أحببت وكرهت».
3- العدل بين الناس جميعاً، فإنهم صنفان:«إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق».
4- التحذير من سفك الدماء بغير حق، وهو مما أكّد عليه الدين الإسلامي.
5- النهي عن الإعجاب بالنفس، وحب الإطراء.
6- النهي عن المن على الرعية بالإحسان، أو التزيد في إظهار ما وقع منه بالفعل.
7- النهي عن الإخلاف في الوعد، بعد الوعد.
8- النهي عن الاستئثار بما فيه الناس متساوون.
9- الحلم وتأخير السطوة حتى سكون الغضب ليمتلك الحاكم عندها الاختيار، وقوام ذلك «ذكر المعاد إلى ربك».
10- أَمرُ الحرس والشرطة والأعوان بعدم التعرّض لذوي الحاجات، حتى يعرض واحدهم حاجته للحاكم، دون تردد.
11- ألا يطيل احتجابه عن رعيته.
12- تنحية الضيق والاستكبار عن الرعية.
13- إجابة من يستعملهم (السلطة التنفيذية بعده) عما يعجز عنه الإداريون وتعقيداتهم.
14- منع خاصته (ع) من التدخّل في شؤون الحكم.
15- إلزام الحق من لزمه، قريباً كان أو بعيداً.
16- إظهار العذر للرعية، حال ظنها وقوع الظلم عليها من قبل الحاكم.
·                       خصائص المستشارون وصفاتهم
لا غنى للحاكم عن المستشارين، وأهم صفات المستشار هي:
1- ألا يكون بخيلاً يعدل بالحاكم عن الفضل، ويعده الفقر.
2- ألا يكون جباناً يضعفه عن الأمور.
3- ألا يكون حريصاً يزين الشره بالجور.
4- تعويد المقربين والإعلاميين على عدم المدح، أو كسب رضا الحاكم وفرحه بباطل لم يفعله.
5- عدم المساواة بين المحسن والمسيء، فإن ذلك تشجيعاً لأهل الإساءة على إساءتهم، وتزهيداً لأهل الإحسان في إحسانهم، وإلزام كل منهم ما ألزم به نفسه، من شكر أو عقاب.
6- حسن الظن بالرعية، دليله إحسانه إليهم، وعدم استكراههم على ما ليس عندهم، وتخفيف الأثقال (المؤونات) عنهم.
·                       سياسته (ع) في مجال القضاء ومواصفات القضاة
حدد(ع) صفات القاضي بما يلي:
1- أن يكون ممن لا تضيق به الأمور، ولا تغضبه الخصوم.
2- أن لا يتمادى في الزلّة.
3- أن لا يضيق صدره من الرجوع إلى الحق إذا أخطأ.
4- أن لا تشرف نفسه على طمع.
5- أن يكون عميق النظر، لا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه.
6- أن يكون حازماً عند اتضاح الحكم.
7- أن يكون طويل الأناة، لا يضيق بمراجعة الخصم، وصبوراً حتى تتكشف الأمور له.
8- أن لا يستخفّه زيادة الثناء عليه، ولا يستميله إغراء.
·                       العلاقة الاجتماعية - السياسية بين الحاكم والرعية
وهذه تقوم على المبادئ التالية:
1- إطلاق عقدة كل حقدٍ بين الناس، وتعهد قطع دابر أية عداوة بينهم.
2- التغابي عن كل ما لا يصح له.
3- عدم تصديق الساعي بالوقيعة والنميمة، فهو غاشٌّ وإن بدا متشبهاً بالناصحين.
·                       الطبقة السفلى من المجتمع
وتضم المساكين والمحتاجون وشديدو الفقر، وذوي العاهات أو الأمراض التي تمنعهم من الكسب، ويوصي الإمام(ع) بهذه الطبقة، ففيهم السائل، والمتعرض للعطاء بلا سؤال، وطريقة التعامل العملية معهم هي:
1- تخصيصهم بنصيب مقسوم لهم من بيت المال، كما أن لهم نصيب من ثمرات أرض الغنيمة.
2- المساواة فيما بينهم من هذا التخصيص، فللقاصي منهم كالداني.
3- تعهدهم بشكل دائم من قبل الحاكم، فلا يصرفنّ همة عنهم، ولا يتكبرنَّ عليهم.
4- تفقد أمور من لا يطالب بحقه منهم، وذلك بتخصيص رجال ثقاة للبحث عنهم، والتعرّف على أحوالهم عن كثب، ممن هم من أهل خشية الله والتواضع لعباده.
علي(ع) والنظام الإداري
أقام الإمام(ع) نظاماً إدارياً محكماً، حدّد فيه الوظائف وأوضح طرق تعيين الموظفين، وبيَّن واجباتهم وحقوقهم، وأقام عليهم تفتيشاً دقيقاً، ووضع أسس الثواب والعقاب، والمسؤولية الإدارية بشكل عام.
إن العامل يقوم مقام الخليفة إذا كان معيناً من قبله، أو يقوم مقام أعلى إذا كان هذا العامل هو الذي عينه. ويشترط الإمام في العامل شروطاً مشددة، لخطورة مركزه والسلطة التي يتمتع بها، يقول الإمام(ع) في عهده لمالك الأشتر:«ثم أنظر في أمور عمالك، فاستعملهم اختياراً، ولا تولّهم محاباة وأثرة، فإنهم جماع من شعب الجور والخيانة، وتوخّ فيهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة، والقدم في الإسلام المتقدمة».
·                       الإمام (ع) حدد سياسة التعامل مع الولاة بالشروط الآتية:
1- تولية الواحد منهم بالامتحان، وليس اختصاصاً، وميلاً لمعاونتهم، ولا استبداداً بلا مشورة.
2- أن يكون من أهل التجربة والإحياء من أهل البيوتات الصالحة، والخطوة السابقة في الإسلام.
3- التحفّظ من الأعوان، وعقوبة من اجتمعت عليه أخبار المراقبين بما فعل.
4- تفقد أمر الخراج (الضرائب) مما يصلح أهله، لأنه مهم لحياة الناس.
5- تفضيل عمارة الأرض على جباية الضرائب وفرض المكوس.
·                       أما ما يتعلق بالكتّاب، وهم في عصر الإمام(ع) أفراد الجهاز الإداري للدولة، فالطريقة التي اعتمدها تمثّلت بالشروط الآتية:
1- عدم اجتماع سلطات إدارية واسعة في يد واحدة.
2- اختبارهم بما وُلوا للصالحين قبل.
3- أن يكون واحدهم حسن الأثر في العامة.
4- أن يكون أعرف الناس بالأمانة والقيام بها.
5- سوء إدارة الكتّاب، مسؤول عنه من وضعهم في مناصبهم تلك.
الناحية الدستورية:
جعل الإمام (ع) في عهده رضا الأغلبية واحترامها أساساً في الحكم مادام هذا الرضا ينسجم مع العدل في منظوره الإسلامي، «وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمّها في العدل وأجمعها لرضا الرعية، فإن سخط العامة يجحف برضا الخاصة (أي يذهب به)، وإن سخط الخاصة يُغتفر مع رضا العامة.
وإنما عماد الدين وجماع (جمع المسلمين)، والعدة للأعداء العامة من الأمة، فليكن صفوك لهم، وميلك معهم».
سياسته المالية:
لقد كان الإمام علي(ع) ثورة في هذا المجال، قد لا تكون البشرية حققتها حتى اليوم، إذ أنه لم يخلط قط بين مال أحد ومال الدولة أو مال الله، ولم يتعامل مع الأشياء العامة على أنها أشياؤه الخاصة.
كانت الدولة في نظره مختلفة عنه شخصياً، على أساس أنها سلطة من الله تعالى، وشعب من البشر الذين هم إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، وأن أموالها هي أموال الله وأموال المسلمين، وليست أموال الخاصة.
يقول (ع) عندما اقترحوا عليه أن يعطي الكبار بشكل مميّز:«لو كان المال مالي لسويت بينهم فكيف والمال مال الله» ، ومن هذا الاعتبار كان موقفه من طلب عقيل وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب المساعدة، وكان موقفه عندما أبلغ أهل الكوفة إنه لن يأخذ حصته من العطاء، حيث قال:«يا أهل الكوفة، إن خرجت من عندكم بغير رحلي وراحلتي وغلامي، فأنا خائن» ، وكذلك عندما أتاه عبد الله بن زمعة يطلب مالاً، إذ قال له:«إن هذا المال ليس لي ولا لك، إنما هو فيء المسلمين» .
ولما كان المال كذلك، فهو أمانة للأمة عند متسلّمه وهو مؤتمن عليه، ولهذا فإن العامل أو (الولاة) ليسوا أحراراً في التصرف بالأموال، وهم مقيدون بالشرع فيما يخص الحقوق والحريات، فتكون حريته في التصرّف على الصعيد الشخصي، غير قائمة فيما يخصّ وظيفته تجاه المواطنين، وفي ذلك تمييز أساسي.
______________________________
تاريخ الطبري: ج4 ص440.
نهج البلاغة: م2 ج2 ص182.
الوسائل: م6 ص83.
نهج البلاغة: م3 ج13 ص183.

دولة الخلافة الفاطمية   في بلاد المغرب و مصر    259 ـ 524 هـ
المصدر: مجلة النبأ – العدد 38 – رجب - 1420
أصل مؤسس الدولة
من الواضح إن الأقوال و المزاعم التي كانت بجملتها تتصاعد في كل مكان، و كلها تحمل الشك بانتساب أسرة عبيد الله المهدي، للإمام علي بن أبي طالب(ع) و زوجته السيدة فاطمة الزهراء بنت النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ، و التي تسمى قادة هذه الدولة باسمها، و لعل فترة التستر في مدينة (السلمية) في سوريا هي التي أسدلت هذا الستار من الشك على الحقيقة، و أوجدت ذلك الواقع الرهيب من المزاعم و من المعلوم إن الشيعة انقسمت بعد الأمام المعصوم السادس جعفر بن محمد الصادق(ع)، إلى إسماعيليين (نسبة إلى ولده الأكبر إسماعيل)، و موسويين (نسبة إلى ولده الأصغر موسى الكاظم)، و قد اتخذ الاسماعيليون الذين ينتسب إليهم الفاطميون زمام المبادرة، و وقفوا بصمود و عناد بوجه الخلفاء العباسيين و أتباعهم، يقارعونهم بأساليب عديدة.
و حين نجح عبيد الله المهدي في الهجرة و الوصول بسلام إلى بلاد المغرب، و وجد أمنه فيها، اقتنع بأنه آن الأوان لدحض تلك المزاعم و الأقوال المغرضة التي تشكك بنسبه، فأعلن بوضوح عن أصله من كونه ينحدر من سلالة أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب، و من فاطمة بنت الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم مباشرة، و في هذا ما يميزه عن الفروع العلوية الأخرى المنحدرة من علي(ع) و زوجاته ـ غير فاطمة.
و الجدير ذكره هنا إن عبيد الله كان قد ولد في (السلمية) في سوريا سنة 259 هـ، و مات و دفن في (المهدية) عاصمة دولته سنة 322 هـ عن عمر بلغ 63 عاما، أما مدة خلافته فهي 25 عاما (297 ـ 322هـ).
أسماء الخلفاء الفاطميين العشرة

التسلسل

اسم الخليفة

تاريخ الولادة

سنين الحياة

تاريخ تسلمه الحكم

مدة الحكم

تاريخ الوفاة

ملاحظات

1

عبيد الله المهدي

259

63

297

25

322

المغرب

2

القائم بأمر الله

279

55

322

12

334

"

3

المنصور بالله

302

39

334

7

341

"

4

المعز لدين الله

319

46

341

24

365

الديار ـ المصرية

5

العزيز بالله

344

42

365

21

386

"

6

الحاكم بأمر الله

375

36

386

25

411

"

7

الظاهر بأمر الله

395

32

411

16

427

"

8

المستنصر بالله

420

67

427

60

487

"

9

أحمد المستعلي

467

28

487

8

495

"

10

الآمر بأحكام الله

487

37

495

29

524

"

 
الفاطميون و مبدأ الإمامة (الخلافة)
يعتبر الاسماعيليون المستعلييون (البهرة) بفرعيهم السليماني و الداؤودي و هكذا الدروز ـ عبيد الله المهدي إماما ـ مستودعا ـ أي بمعنى إماما وكيلا أو وصيا أو نائبا للإمام الأصيل لفترة زمنية محدودة، و ليس له صلاحيته توريث الإمامة لأحد من أولاده، فمثله كمثل (الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب) عليهما السلام.
بينما يعتبره الإسماعيليون النزاريون إماما مستقرا ـ و صاحب نص ثابت، فهو كالأمام ( الحسين بن علي بن أبي طالب) عليهما السلام، له صلاحية توريث الإمامة لمن يقع اختياره عليه من أولاده.
بدايات نشر الدعوة الفاطمية:
من المعلوم أن الأئمة (العلويين ـ الإسماعيليين) الذين اتخذوا من (السلمية) في سوريا قاعدة لهم، و منطلقا لنشاطاتهم الفكرية و السياسية، بعد فرارهم من العراق و بلاد فارس (إيران) الذي تم تحت تأثير ضغط العباسيين. و من الواضح أن نزول هؤلاء الأئمة في هذه البقعة العزلاء البعيدة عن أنظار خلفاء بغداد، سهل لهم الأسباب، و مهد أمامهم الطرق، لإطلاق دعاتهم و عمالهم بحرية و أمان إلى الأقطار العربية و الإسلامية البعيدة و القريبة على السواء للتبشير بأفكارهم و نشر مبادئ دعوتهم (الدينية) التي من أولى مبادئها الوصول إلى (الخلافة الإسلامية).
و ثمة عوامل عديدة ساعدت على إنجاح الفكرة و الدعوة الفاطمية على يد رائدها عبيد الله المهدي و بعون و دعم من جانب نصيره أبو عبد الله الشيعي، فالناس في هذه الأرجاء كانوا قد وصلوا إلى مرحلة قصوى من القلق و التبرم من حياة الظلم و التعسف و الفساد و الاستئثار و إهمال مطالب الأمة، و هضمها من جانب حكومة الخلافة العباسية المتمركزة في بغداد، و من يحيط بها من الأعوان و الحلفاء.
و هكذا انضوى تحت لواء الدعاة الفاطميين آلاف من الناس و الجماعات و القبائل و فئات أخرى من أجزاء عديدة من العالم العربي الإسلامي.
برع الأئمة الإسماعيليون في اختراع أساليب الدعاية و نشر الأفكار و التعاليم، و كانت أولى طلائع تلك الجهود، حملة الدعاة الفاطميين الذين راحوا يجوبون البلدان لتثبيت دعوتهم، و لا سيما في مواسم الحج في مكة و المدينة، و أيضاً اليمن و العراق و بلدان مصر و المغرب، و من هؤلاء الدعاة البارزين (الحلواني و أبو سفيان) و (رستم بن الحسين بن فرج بن حوشب) و الداعي الكبير (الحسين الأهوازي) الذي شاءت الأقدار أن يتعرف إلى (الحسن بن أحمد بن زكريا) الذي عُرف بالتاريخ فيما بعد بـ (أبو عبد الله الشيعي)، و هذا يمني الأصل كان يعيش في بغداد، و أن يقيم الاهوازي علاقة وثيقة معه، و من ثم يرسله إلى اليمن للالتحاق بالداعي ابن حوشب للعمل معه في اليمن و معاونته في نشر الفكر الفاطمي.
المهدي و الهجرة إلى بلاد المغرب
بعد ما شعر عبيد الله المهدي بعدم إمكانية بقاءه في السلمية، إثر انقلاب حلفاءه القرامطة عليه و تحولهم إلى عدو لدود يبيت له العداوة و القتل، و كذا الحال بالنسبة للحكم العباسي، و مطاردته له للقبض عليه قرر الخروج من السلمية يرافقه و لي العهد (القائم بأمر الله) و بعض القريبين له، حيث انتقل إلى مدينة حماه، ثم خرج باتجاه الشام في رحلة شاقة و طويلة، فقصد حوران ثم الأردن، فنابلس، و بينما هو في مدينة الرملة متخفيا عن أعين العباسيين، وصلته أبناء المذبحة الدامية التي حلت بأهله و أنصاره ممن تركهم في مدينة السلمية حين اجتياحها من قبل جيش القرامطة بقيادة (يحيى بن زكرويه) إلا أن هذا الموقف العصيب لم يمنع عبيد الله المهدي من مواصلة رحلته من أجل الغاية الكبرى التي خرج لأجلها، فخرج من الرملة تحت جنح الظلام باتجاه الأراضي المصرية، و من مصر واصل سيره إلى ليبيا ثم تونس، بعدها توغل في أراضي المغرب الأقصى حتى وصل (سجلماسه)، و هناك قبض عليه أميرها (أليسع بن مدرار) و أودعه السجن و كان ذلك سنة 296 هـ.
و بينما كان أبو عبد الله الشيعي يتابع فتوحاته في المغرب الأوسط، جاءه خبر ما وقع للمهدي في سجلماسه، و لذا تظاهر بعدم المبالاة في بادئ الأمر، فيما عزم على وضع خطة بنفسه لإنقاذه، و هو ما تم بالفعل بعد أشهر وجيزة، و نجح في ذلك حيث كانت قواته تزحف لاحتلال سجلماسه، إذ سقطت هذه المدينة بيد أبو عبد الله و فر حاكمها (أليسع)، و كان أولى المهام التي وضعها القائد الفاطمي الفاتح على جدول مخططه هو التوجه إلى سجن بني مدرار، و تحرير الإمام الفاطمي المعتقل عبيد الله المهدي.
عبيد الله المهدي أمير المؤمنين و خليفة المسلمين
أخرج أبو عبد الله الشيعي (عبيد الله المهدي) من سجن بني مدرار أصحاب سجلماسه، مجللا بالنصر، و جاء به إلى قصر المدرايين، و أجلسه في مقام الخلافة، و اوعز إلى قواد ألوية الجيش و رؤساء الكتائب بمبايعته و المناداة به خليفة للمسلمين، و اميرا للمؤمنين. و قد تم ذلك في جو زاخر بأفراح النصر، و استغرقت احتفالات المبايعة عدة أيام، و كان ذلك في مطلع شهر رجب 296 هـ، و شملت شيوخ القبائل و العلماء و رجالات الدين و سائر طبقات الناس.
و بعد أن تم ذلك انتقل إلى مدينة (رقادة) سنة 297، فبايعه فريق آخر من الناس، و كان يقف بين يديه قائده الكبير و مستشاره الأول أبو عبد الله الشيعي و رؤساء كتامة، و هكذا أقام في قصر الأمارة، مبتدأ سلطة حكم دولة الخلافة الإسلامية الفاطمية.
مصر تدخل كنف الدولة الفاطمية
لم تكن دولة الخلافة الفاطمية في المغرب، تظهر على مسرح الدنيا العربية و الإسلامية، أو تعيش طويلا لو لا أن يكون من مبادئها التنظيم و الإدارة، و إقامة العدل، و إحلال النظام، و قد وضعوا منذ بادئ الأمر نصب أعينهم مبدأ منافسة العباسيين و إنهاء حالات الظلم و التعسف و الفساد التي تسببوا بها، و هكذا بالنسبة للأمويين، فوضعوا القواعد و أقاموا الأعمدة، و تطلعوا إلى الديار المصرية التي هي مهوى أفئدتهم، فأرسلوا إليها الدعاة للقيام بالدعوة و كسب الأنصار و المؤيدين، و كان ذلك في وقت مبكر من ظهور دولتهم. و قد نجحوا على هذا الصعيد، بعد ذلك راحت القيادة الفاطمية تمهد للعمل العسكري بغية فتح مصر على يدها و ضمها إلى دولتها، إذ تم إرسال ثلاث حملات عسكرية إلى الديار المصرية في عهد الخليفة المؤسس المهدي
·        أ ـ الحملة الاولى: كانت في سنة 301هـ، و كان يقود الجيش الفاطمي القائد الكتامي (جناسه ابن يوسف) و قد نجح في احتلال الاسكندرية و الوجه البحري، إلا أن جيش الخليفة العباسي المقتدر بقيادة (مؤنس الخادم) سرعان ما استردهما من الفاطميين و أرغم جناسه على التراجع، و أبدى قطاع واسع من الشعب المصري موقفا ميالا لصالح الفاطميين بغية التخلص من تسلط العباسيين.
·        ب ـ الحملة الثانية: تحت سنة 307 هـ من قبل الأسطول البحري الفاطمي بقيادة ولي العهد (القائم بأمر الله)، و تمكن الفاطميون من احتلال الإسكندرية و الجيزة و الوجه البحري، إلا أن جيش الخليفة العباسي بقيادة مؤنس الخادم، تمكن ثانية من إلحاق الهزيمة بالجيش الفاطمي و إجباره على التراجع.
·        ج ـ الحملة الثالثة: تمت ما بين سنة 321 ـ 324، و كان يقود الجيش الفاطمي الكبير هذه المرة القائد الكتامي (حبش بن أحمد) و في هذه المرة نجح الفاطميون في احتلال معظم أرجاء مصر و ضمها لدولتهم، مما دعا زعماء البلاد و الشيوخ إلى المثول للحكم الفاطمي و إعلان الطاعة و الولاء، و قد اتفقوا على توقيع معاهدة صلح اعتبروا فيه أنفسهم من رعايا الدولة الفاطمية.
و مع ضم مصر، أصبحت الدولة الفاطمية تشتمل على ثلاث ولايات:
هي مصر وتعتبر مركز الخلافة العامة، و الشام و أفريقية، و نواب الخليفة فيها يعرفون بـ (الولاة)، و للشام واليان هما والي دمشق و والي الرملة و يشمل حكمه سائر فلسطين، و كان القطر المصري ينقسم إلى أربعة أقاليم أو ولايات هي:
ولاية قوص و هي أعظمها، و كانت تشمل الوجه القبلي كله، و الشرقية و الغربية و الإسكندرية وهي أقلها. و أما أفريقية فقد لبثت مدى حين تابعة للخلافة، ثم استقلت بشؤونها فيما بعد، و أستأثر الأمراء البربر بالسلطان فيها، و لبثت صقلية كذلك تابعه من الناحية الدينية للخلافة عصرا حتى انتهت بالسقوط في يد الفرنج النورمان في سنة 462 هـ (1072 م)، و كانت أعمال الحرمين و اليمن أيضا تابعة للخلافة الفاطمية من الوجهة المذهبية، يُدعى فيها الخليفة الفاطمي، و لكنها كانت مستقلة بشؤونها.
الدولة الفاطمية و الحرب مع الروم البيزنطيين
اتجهت سياسة الفاطميين بعد أن امتد نفوذهم إلى مصر في عهد المعز لدين الله الفاطمي سنة 358 هـ / 969م إلى استعادة المدن التي استولى عليها البيزنطيون في شمال الشام، و لقد كان الفاطميون بعيدي النظر حين أدركوا أن الجيوش البرية وحدها لا تكفي لحماية العالم الإسلامي و إنقاذ الوطن العربي، فأنشأوا أسطولاً ضخمًا حمى البلاد من الهجمات البيزنطية ثم دافع عنها بعد ذلك في الحروب الصليبية.
و إلى جانب ذلك فإن الفاطميين وضعوا منذ الساعة الأولى لحكمهم خطة هي أن يقوم هذا الحكم على قواعد ثابتة من العلم و المعرفة، و خططوا كما يقال اليوم لسياسة تعليمية شاملة ترتكز على إنشاء جامعة كبرى، ثم على تفريغ العلماء للعلم، ثم أرسلوا يستدعون العلمــاء من الخارج و قد اشتــد هذا المــنهج و اتسع و قوي بعد إقامة الوحدة بضم البلاد الأخرى إلى مصر، و إنشاء القاهرة و إقامة الأزهر.
و قام بتنفيذ هذه السياسة القائد الفاطمي جعفر بن فلاح الذي جهز جيشًا كبيرًا لاسترداد إنطاكية من الروم، و لكن الحملات الفاطمية التي أرسلت لإجلائهم عنها، فشلت في تحقيق هذه السياسة، و ظلت النزاعات و الغارات العسكرية المتبادلة قائمة بين الدولة الفاطمية و الدولة البيزنطية حتى عام 377هـ / 987م حيث قدمت إلى مصر رسل الإمبراطور بارسيل الثاني، تحمل الهدايا للخليفة الفاطمي العزيز، و تطلب عقد الصلح بين الدولتين، و أبرمت إتفاقية للهدنة بينهما إلا أنها سرعان ما انهارت بعد فترة لم تدم طويلاً، و ظل الروم البيزنطيون ينتهزون الفرص للنيل من الفاطميين، و تكررت المواجهات المسلحة بين الطرفين، و على الرغم من تتابع انتصارات الفاطميين على البيزنطيين في شمال الشام، فأن القائد الفاطمي برجوان عول على مهادنتهم ليتسنى له التفرغ للقضاء على الفتن الداخلية في مصر، و بعد مراسلات سلمية بين قادة الدولتين استؤنفت المفاوضات و لما تم الاتفاق على شروط الصلح، انتدب برجوان أرسطيس بطريرك بيت المقدس لمصاحبة السفير البيزنطي لدى مصرف سفره إلى القسطنطنية لعرض هذه الشروط على الامبراطور الرومي و إقرارها منه، فقام أرسطيس بهذه المهمة، و تم بذلك إبرام معاهدة صداقة بين مصر و الدولة البيزنطية تقرر فيها ما يأتي:
تظل الهدنة قائمة بين مصر و الدولة البيزنطية مدة عشر سنوات. يتمتع المسيحيون الذين يقيمون في أنحاء الدولة الفاطمية بالحرية الدينية، و يسمح لهم بتجديد كنائسهم و بناءها. يتعهد امبراطور الروم باسيل الثاني بأمداد مصر بما تحتاج إليه من الحبوب.
و رغم معاهدة الصلح هذه ظلت الأجواء المتوترة تحكم العلاقات ما بين الفاطميين و البيزنطيين إلى أن توفي الخليفة الفاطمي العزيز سنة 411 هـ / 1020م و خلفه إبنه الظاهر، الذي تم في عهده إبرام معاهدة صلح جديدة تضمنت الشروط التالية:
·                       أن يسمح للإمبراطور البيزنطي بإعادة بناء كنيسة القيامة ببيت المقدس.
·                       أن يسمح لكافة المسيحيين بإعادة بناء الكنائس التي هدمها الحاكم عدا التي حولت إلى جوامع.
·                       أن يعين الإمبراطور البيزنطي بطريقًا في بيت المقدس.
·        أن لا يقوم الفاطميون بــأي عمل عدائــي نحو حـــلب، حتى تقـــوم بســـداد الجزية السنوية التي كانت تدفعها للدولة البيزنطية منذ عام 970م.
·        ألا تمد الدولة الفاطمية يد المساعدة لأي عدو من أعداء الدولة البيزنطية و خاصة أهل صقلية الذين هددوا هذه الدولة و عاثوا في جزر بحر الأرخبيل.
و في مقابل هذه الشروط، يتعهد الإمبراطور بما يأتي:
·        أن يعمل على ذكر اسم الخليفة الفاطمي في الخطبة في جامع القسطنطنية و المساجد الواقعة داخل حدود الدولة البيزنطية.
·                       أن يعيد بناء جامع القسطنطينية، و كان قد هدم ردا على هدم كنيسة القيامة في عهد الحاكم بأمر الله.
·                       أن يطلق سراح الأسرى المسلمين الذين في قبضة الروم.
·        أن لا يقدم الإمبراطور أية مساعدة لحسان بن مخرج بن الجراح الطائي صاحب الرملة الذي خرج على الخليفة الظاهر الفاطمي.
و في سنة 429هـ / 1027م تجدد إبرام اتفاق صلح جديد بين الخليفة الفاطمي المستنصر بالله و الإمبراطور ميخائيل الرابع، بعد تعرض الاتفاق السابق لخروقات كانت سببا في تعكير جو العلاقات بين الدولتين.
المزايا السياسية و الفكرية لنظام الدولة الفاطمية
كان نظام الحكم في ظل الخلافة الفاطمية، كما كان في سائر الدول الإسلامية الأخرى، في العصور الوسطى، نظاما مطلقا يستأثر فيه الخليفة بجميع السلطات الروحية و الزمنية، و قد سارت الخلافة الفاطمية على هذا النحو منذ قيامها بالمغرب، ثم بعد ذلك منذ قيامها بمصر، فكان الخليفة الفاطمي، هو الدولة، و هو صاحب السلطات المطلق. و صورة الأمور السلطانية تضم الشروح الآتية:
(إن طاعة الإمام جامعة للملوك و الرعايا، و الرعايا تجمع الإعطاء و الطاعة، و إن الوزير يجمع السياسة، و الجباية، و الجباية جامعة للوزراء و العمال، و أن الملك يجمع الطاعة و السياسة، و العامل يجمع الجباية و الإعطاء و إن الإعطاء جامع للعمال و الرعايا، و أن السياسة مشتركة).
و من هذه الشروح الفلسفية لنظرية الحكم الفاطمية، يتضح أن الإمام هو رئيس الدولة الأعلى، و قد يكون هو الإمام الروحي و الملك الزمني معا، و قد يكون تحت رياسته ملوك آخرون، يدينون له بالطاعة الدينية و الدنيوية، و هو الحاكم المطلق، و من تحته تتدرج السلطات من أعلى إلى أسفل، و أول من يليه من أهل السلطات هو الوزير، و باسمه و بتوجيهه يزاول سلطاته في الحكم، و يلي الوزير العمال أو حكام الولايات و الثغور، و هؤلاء يزاولون سلطات الحكم على من دونهم من الرعايا، و ليس للرعية شأن و لا قول و لا رأي، و ليس لها أن، تتصل بالعامل أو الوزير أو الملك، إلا بالطاعة المطلقة.
و الخلاصة إنها من الناحية الدستورية (نظرية الحكم المطلق) بل هي تمتاز فوق ذلك، بأن رئيس الدولة الأعلى فيها، و هو الإمام يمتاز بصفات العصمة و القداسة، باعتباره قائم الزمان، و أن قيامه يرجع إلى مشيئة الله.
و من الميزات التي تميزت بها الدولة الفاطمية صبغتها المذهبية العميقة، كما كانت تمتاز بطرافة نظمها السياسية و قد كانت الدولة الفاطمية مبتكرة مجددة في كثير من قواعد الحكم و الإدارة، و في كثير من الرسوم و النظم، و كانت هذه الرسوم و النظم فوق طرافتها الدستورية تطبعها نفس الصبغة الباذخة، التي تطبع الدولة الفاطمية و سائر مظاهرها.
كانت الخلافة الفاطمية خلافة مذهبية (شيعية) شعارها الإمامة الدينية، و كان لهذه الصفة المذهبية أثرها في صوغ كثير من النظم و الرسوم التي اختصت بها. و قد نشأت الدولة الفاطمية في قفار المغرب، دولة عسكرية ساذجة تظللها الصبغة الدينية، فلما اتسع ملكها و عظم سلطانها بافتتاح مصر و الشام، شعرت بالحاجة إلى التوسع في النظم السياسية و الإدارية، التي يقوم عليها هذا الملك الباذخ، و لم تكتف بالاعتماد على الخطط العسكرية و الدينية و المدنية المعروفة، بل عمدت إلى الابتكار في تنظيم الأصول و الخطط الدستورية، وفقًا لحاجاتها و غاياتها السياسية و المذهبية.
و ليس من المبالغة القول إن ديوان الإنشاء كان أعظم الدواوين قاطبة في إدارة الحكم الفاطمية، و كانت مهمته من أخطر و أدق المهام. ففي دولة كالدولة الفاطمية، لها صبغة مذهبية خاصة، كانت السجلات أو المراسيم تصاغ في أساليب عالية، و كان بث الدعوة المذهبية و عرضها خلال المكاتبات السياسية، يتطلب أرقى و أبلغ الصيغ البيانية.
أما الخطط الدينية فكانت تشمل عدة وظائف خطيرة، أعظمها و أجلها قدرًا منصب قاضي القضاة، و منصب الدعاة، و كان قاضي القضاة أعظم زعيم ديني في الدولة، و إليه مرجع الأحكام الشرعية في العبادات و المعاملات و الحدود، و النظر في شؤون السكة (دار الضرب)، و شؤون المساجد و أئمتها و سائر المتصرفين فيها، و كان اختصاصه يشمل مصر و الشام و المغرب و الحرمين، و مركزه العام بالقاهرة.
أما عن المتون الشرعية التي كانت مرجعا للقضــاء في العصر الـــفاطمي، فقـــد كانت تتضمن أساسا متون الفقه الشيعي أو فقه الأمامية الإسماعيلية، و ذلك سواءًا في العبادات، أو المعاملات أو الحدود، و كان العلامة الفقيه الشيعي الكبير النعمان بن محمد القيرواني قاضي المعز لدين الله، هو أول من وضع متونا منفصلة في أحكام الفقه الإسماعيلي، لبثت طوال العصر الفاطمي، هي المرجع الأول للقضاء.
من جهة أخرى اتسمت الخلافة الفاطمية على الصعيد الديني بسياسة ثابتة، اتسمت بجانب من المرونة، تمثلت في استمالة أهل السنة و الجماعة، و تمكينهم من إظهار شعائرهم على اختلاف مذاهبهم، و كانت المذاهب السنية المعروفة، الشافعي و مالك و أحمد (بخلاف أبي حنيفة) ظاهرة الشعائر في مملكتهم، و كان مذهب مالك بالأخص ذائعًا، و من سأل الحكم به أجيب إلى طلبه.
و قد أنشئت في الخلافة الفاطمية لأول مرة هيئة رسمية خاصة للنظر في شؤون العلوية و المنتسبين إلى آل البيت(ع)، و عرفت هذه الهيئة يومئذ بـ (نقابة الطالبيين)، و كان يتولى النظر عليها واحد من أكبر شيوخهم و أجلهم قدرا، يسهر على صحة الأنساب و إثباتها و رعاية شؤونهم و رعاية مصالحهم، و فيما بعد عرفت هذه الهيئة باسم (نقابة الأشراف).
كانت الدولة الفاطمية أشد الدول الإسلامية حرصًا على أن تطبع الشعب والمجتمع بطابعها الخاص، و أن تصوغ روح الشعب و عقليته و تفكيره و برامجه وفقًا لمناهجها و رسومها.
تركزت الأعياد الدينية الرسمية في عهد الدولة الفاطمية، بجملة أعياد خاصة بها شرعت لغايات دينية و سياسية، أما الأعياد العامة، فهي رأس السنة الهجرية، و ليلة المولد النبوي الكريم، و ليلة أول رجب وليلة نصفه، و ليلة أول شعبان و ليلة نصفه، و غرة رمضان، و يوم الفطر، و يوم النحر أو عيد الأضحى، و أما الأعياد المذهبية فهي الاحتفال بمولد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، و مولد ولديه الحسن و الحسين، و مولد زوجته السيدة فاطمة الزهراء ابنة النبي صلى الله عليه وسلم ، و هي التي ينتسب إليها الخلفاء الفاطميون، و يوم عاشوراء أو عاشر المحرم، أي اليوم الذي يصادف فيه مقتل الإمام الحسين(ع) في طف كربلاء سنة 61 هـ هذا إلى جانب أعياد مصرية قديمة، كعيد فتح الخليج، و يوم النيروز، و عيد الشهيد.
و كانت الخلافة الفاطمية ترمي بترتيب هذه الرسوم و المناسبات إلى غايتين:
·                       الأولى: أن تثبت هيبتها الدينية بما تسيغه من الخطورة و الخشوع على بعض المظاهر و الرسوم المذهبية.
·        الثانية: أن تغمر الناس بفيض من الحفلات و المآدب و المواكب الباهرة، و أن تنثر عليها ما استطاعت من دواعي البهجة و المرح، و ذلك لكي تكسب ولاء الناس و عرفانهم و تأييدهم لها.
الحركة الفكرية و العلمية في ظل الفاطميين
قامت الدولة الفاطمية بمصر و الحركة العقلية المصرية تشكل طورا من أطوار قوتها، ذلك أن الدولة الأخشيدية التي استخلص الفاطميون منها تراث مصر، كانت نصيرة للعلوم و الآداب، و في ظلها إزدهرت الحركة الفكرية و الأدبية، ونبغ عدة من المفكرين، و الكتاب الممتازين، مثل ابن يونس المحدث و المؤرخ، و الفقيه أبوبكر الحداد، و أبو عمر الكندي المؤرخ، و الأديبين الشاعرين أبو جعفر النحاس و أبو القاسم بن طباطبا الحسيني، و الحسن بن زولاق الفقيه والمؤرخ.
و لما قامت الدولة الفاطمية بمصر ما لبثت الحركة العقلية أن لقيت ملاذها في قيام الجامعة الفاطمية الكبرى، التي تمثلت بـ (الجامع الأزهر) الذي أقيم في البداية ليكون مسجد الدولة الجديدة و منبرها الرسمي، ثم أنشئت فيه منذ عهد العزيز بالله تلك الحلقات الدراسية التي استحالت فيما بعد إلى جامعة حقة، و كانت الدولة الفاطمية تعني منذ قيامها بناحية معينة من الدراسات الدينية هي الناحية المذهبية، و أنشئت (جامعة دار الحكمة) الشهيرة في عهد الحاكم بأمر الله.
و أيضا أنشئ منصب داعي الدعاة ليشرف على بث الدعوة على يد نوابه و نقبائه، و تولي تدريس الأصول الشيعية و فقه آل البيت(ع) منذ البداية، جماعة من الفقهاء الممتازين، و في مقدمتهم بنو النعمان. و أولى الحاكم الفاطمي الحركة العقلية شيئا أو جانبا من رعايته، فأجزل النفقة لجامعة دار الحكمة كما هو بالنسبة للجامع الأزهر، و زودها بخزائن الكتب الجليلة، وعقد مجالس المناظرة للعلماء و الأدباء، و غمرهم بصلاته، و قرب إليه عدة من أقطاب المفكرين و الأدباء، أمثال الكاتب و المؤرخ الكبير محمد بن القاسم بن عاصم شاعر الحاكم و جليسه، و أبي الحسن علي بن محمد الشابشتي الكاتب صاحب الديارات، و قد توفي سنة 390 هـ، و ابن يونس العلامة و الرياضي و الفلكي الشهير و غيرهم.
كما نبغ في مجال علوم الطب عدة من أكابر الأطباء، منهم محمد بن أحمد سعيد التميمي طبيب العزيز بالله، و أبو الفتح منصور بن مقشر النصراني، ثم طبيب ولده الحاكم من بعده.
و ازدهرت الحركة الفكرية المصرية نوعا ما خـــلال النصـــف الأول مـــن القرن الخامس، بـــيد إنها ضعفت في أواخر هذا القرن في عهد المستنصر بالله، و كانت هـــذه الفترة غـــاصة بالمحن و الأحـــداث و الفتن الداخلية و الخارجية، فلم تلـــق الحركة الأدبــية كثــــيرا من الرعاية أو التعضيد، بيد إنها عادت في أوائل القرن السادس فانتعشت، و استمرت على إنتعاشا و قوتها حتى نـــهاية الدولة الفاطمية سنة 567هـ / 1172م.
و في الفترة الأخيرة من عصر الدولة الفاطمية، ازدهرت حركة الكتابة في مجال النثر من حيث براعته وروعة إسلوبه و افتنانه، و تعاقب فيها من ديوان الأنشاء عدة من أئمة البيان الرائع، الذين جعلوا من رسائلهم الحلافية و الديوانية نماذج من الفصاحـــة الباهــرة، و كـــان من هؤلاء أبو الفتوح الدمياطي شيخ القاضي الفاضل، و ابن الخلال.
و من أبرز الفلاسفة الكثيرين الذين تأثروا بالعقائد الشيعية عامة و الفاطمية خاصة أحمد حميد الدين الكرماني فيلسوف الدعوة وحجتها في العراق و صاحب الكتب الفلسفية الفاطمية مثل كتاب راحة العقل و كتاب المصابيح و كتاب الأقوال الذهبية و غيرها، و كذلك المؤيد في الدين و غيره.
و لعل أشهر عالم رياضي شهدته مصر الفاطمية هو الفيلسوف أبو علي محمد بن الحسن الهيثم الذي تضاهي مرتبته العلمية مرتبة اينشتاين في العصر الحديث.
لقد تفرد الفاطميون بإنشاء دور الكتب الكبرى في الإسلام و بلغت تلك الدور حداً عجيباً، و اجتمع فيها من أمهات الكتب و مصادر العلوم المختلفة. من مآثر الفاطميين التي لا يزال المسلمون يستفيدون منها حتى اليوم جامع الأزهر، و قد شرع القائد الفاطمي جوهر في بناء الأزهر بأمر من المعز عندما شرع في بناء مدينة القاهرة يوم السبت لست بقين من جمادى الأولى سنة 359هـ، و تم بناؤه في التاسع من رمضان سنة 361هـ، ثم جدد فيه العزيز بالله و الحاكم بأمر الله ثم جدده المستنصر بالله و الحافظ لدين الله. و كان هذا المسجد محل رعاية الخلفاء الفاطميين و عنايتهم فلم يقصروا في تجديده و الزيادة فيه، و وقفوا لمؤذنيه و خدمه وسائل نظافته و إنارته و فرشه ما هو مذكور في كتب التاريخ.
المصادر:
السيد حسن الأمين / موسوعة دائرة المعارف الشيعية.
الدكتور عارف تامر / الموسوعة التاريخية الفاطمية.
محمد عبد الله عنان / الحاكم بأمر الله و أسرار الدعوة الفاطمية.

الدولة البويهية
322-454هـ/933-1066م
بقلم / علي الشمري
المصدر: جريدة النبأ العدد 37 جمادى الثانية - 1420
أصل البويهيون
اختلف الكثير من المؤرخين في أصل نسب البويهيين، فيذكر ابن خلكان، أن الصابي ذكر في كتابه (التاجي) إنهم يرجعون في نسبهم إلى بهرام جور بن يزدجر الملك الساساني، أما ابن الأثير فيرى إن نسبتهم إلى قوم الديلم بسبب طول مقامهم ببلادهم، في حين إن الأصفهاني الذي هو أكثر المؤرخين معرفة بأصول ملوك الفرس، فرغم إنه يجعل للبويهيين أصلاً يعود إلى الملك الساساني بهرام غور، إلا أنه يعود ويذكر إن علي بن بويه كان زعيماً لإحدى قبائل الديلم تسمى شيرذيل أوندن، تقيم في قرية كياكاليش في ديلمان.
البويهيون على الأرجح ينتسبون إلى الديلم سكان المنطقة الجبلية في مقاطعة جيلان من بلاد فارس (إيران)، وكان من بين من خرج مع ملك الديلم ناصر الدين الأطروش، هو علي بن بويه، وعندما تولى الحسن بن القاسم الداعي، خلافة الناصر، أرسل ولديه أحمد وجعفر لمقاتلة السامانيين فكان من بين الذين برزوا في قتال السامانيين (أبو شجاع بويه بن فناخسروا)، وكان لأبي شجاع ثلاثة أولاد قامت على أكتافهم فيما بعد الدولة البهويهية وهم: علي – الحسن – أحمد.
حكم آل بويه رقعة من العالم الإسلامي، وأقاموا دولة كبيرة عرفت بـ(الدولة البويهية) وضمت بلاد فارس والعراق، ابتدأت من عام 321هـ في فارس و334هـ في العراق، وانتهى حكمهم بسيطرة السلاجقة على ممتلكاتهم ودخولهم بغداد سنة 447هـ. كانت بداية التسلط البويهي، عندما قلد مرداويج بن زيار مؤسس الدولة الزيارية في جرجان وطبرستان علي بن بابويه ناحية الكرج سنة320هـ/932م، ولقد أتاحت له صفاته كقائد يسعى للملك والسيطرة بأي ثمن وبأية وسيلة لأن يؤسس دولته المستقلة العظيمة.
من الكرج استولى علي بن بويه وأخواه على أصفهان، ثم قصد فارس فسقطت مدنها الواحدة تلو الأخرى بين يديه، وتم له الاستيلاء عليها عام 322هـ/933م، ومن فارس التي جعلها قاعدة ملكة، تابع علي بن بويه وأخواه فتوحاتهم، ففي هذه الأثناء كان الأخ الثاني الحسن قد احتل تقريباً كل إقليم الجبال، عقب مقتل مرداويج سنة 323هـ، فيما أخذ الأخ الثالث أحمد في غزو كرمان، وتم له فتحها سنة 324هـ/935م، ثم اتجه نحو خوزستان مستفيداً من صراع ابن رائق والبريدي، الأمر الذي فتح أمامه الطريق إلى بغداد بسهولة، خاصة بعد أن تمكن أحمد البويهي من السيطرة على الأهواز بصورة نهائية سنة 326هـ/937م.
ففي ظل تدهور الوضع ومساوئ الحكم العباسي واستياء طبقات العامة وتمردهم عليه، في هذه الأثناء زحف أحمد البويهي من الأهواز قاصدا بغداد، فاضطربت المدينة واختفى الخليفة العباسي المستكفي وابن شيرادار، وانسحب الجند الأتراك إلى الموصل، وبعد مفاوضات أجراها أبو محمد المهلبي صاحب أحمد البويهي، دخل الأخير إلى بغداد في جمادى الثاني 334هـ/945م حيث لقي الخليفة العباسي المستكفي وتبايعا، ولقبه الخليفة بـ (معز الدولة)، ولقب أخاه الأكبر علي بـ (عماد الدولة وأخاه الثاني الحسن بـ (ركن الدولة)، ومنذ هذا التاريخ وقعت الخلافة العباسية تحت سيطرة الأسرة البويهية، ولغاية تاريخ دخول السلاجقة بغداد وسيطرتهم بدورهم على الخلافة سنة447.
أسباب التغلب البويهي
عندما بدأ البويهيون في الظهور على مسرح الأحداث في العشرينات من القرن الرابع الهجري، ما كان لأحد أن يتوقع نجاحهم في إقامة دولة تسيطر على الخلافة العباسية وأراضيها، والواقع إن كتب التاريخ لا تجد ما تبرر به بروز علي بن بويه وبخاصة في الوصول إلى ما وصل إليه، سوى صفاته الشخصية: العسكرية والخلقية. فمسكويه يفسر نجاحات علي، بسماحته وسعة صدره وشجاعته، كذلك يفعل ابن الأثير وابن خلكان.
إلا أن البعض من المؤرخين لا يرون في تلك الصفات لوحدها مهما بلغت أهميتها في أن تكون أسباب نجاحات بن بويه، هؤلاء يرون أن ظروفاً وأسباباً معينة لعبت دوراً أساسياً في تمكينه من تثبيت حكمه في فارس، ولاحقاً فتحت أمامه أبواب بغداد على مصراعيها، ومن هذه الأسباب:
·                       تدهور أحوال الخلافة العباسية:
لقد بدأ المشروع البويهي وتطور، في مرحلة من أسوأ المراحل التي مرت بها الخلافة العباسية، ففي ظل هذه الأحوال، وخاصة بعد فشل ولاة الخليفة كياقوت وابنيه في القضاء على البويهيين الذين لا يشكلون خطراً على الخلافة كالذي يهددها من جانبي القرامطة أو مرداويج بن زيار.
فالخلافة العباسية التي أنهكتها فترة حكم أمير الأمراء، وجدت في البويهيين الذين بات دخولهم بغداد أمراً واقعاً، الأمل الذي سيخلصها من حالة التدهور التي وصلت إليها البلاد آنذاك.
·                       تضعضع الدولة الزيارية:
كان مرداويج بن زيار صاحب جرجان وطبرستان، قد بات القوة الأساسية في إيران، والآخذة بالتوسع تدريجياً على حساب أراضي الخلافة، ومن هذه الدولة خرج البويهيون ليأسسوا إمارتهم المستقلة منذ سنة 322هـ/933م، فان لابد من أن يشكل كل منهما خطراً على الآخر، ذلك إنهما ينتميان لنفس المنطلقة (الديلم).
وبالفعل شكلت الدولة الزيارية بقيادة مرداويج خطراً حقيقياً على المشروع السياسي لعلي بن بويه الذي حاول جهد إمكانه مداهنة مرداويج بأساليب شتى لكي يمنع المواجهة العسكرية معه أو يؤجلها، وكأنه كان يدرك إن أية مواجهة حاسمة مع مرداويج، كفيلة بالقضاء عليه، لذلك ارتضى أن يخطب له في فارس، وأن يضع أخاه الحسن رهينة لديه، أما مرداويج فقد ارتضى هذه المصالحة وفي نيته مهاجمة علي بن بويه في العام التالي. إلا أن مقتل مرداويج المفاجئ وتضعضع قوة خلفائه، أعطى للبويهيين فرصة كبيرة للانطلاق في ترسيخ وتوسيع رقعة سيطرتهم.
·                       موقف البويهيين من الخلافة:
لم يقع علي بن بويه في ذلك المطب الصعب الذي وقع فيه الكثير من الحركات الكبرى (إعلان العداء والمواجهة)، والذي كان أحد أسباب فشلها والقضاء عليها، على إن الخلافة العباسية ما كانت لتتساهل حتى في أقصى مراحل ضعفها مع الذين يظهرون نواياهم في القضاء عليها، وكما حصل لمشاريع بابك أو مزيار، القرامطة والصفاريين، واستقرار أمر الطاهريين والسامانيين ومن ثم البويهيين.
كان أول ما فعله علي بن بويه إثر استيلائه على بلاد فارس الحصول على اعتراف الخليفة به، أي تأمين الغطاء الشرعي لسلطته، وإقراره بسلطة الخلافة الاسمية على إمارته، وعندما راودت معز الدولة (أحمد البويهي) إثر دخوله بغداد، فكرة الإطاحة بالخلافة العباسية، سرعان ما نهاه عنها بشدة وزيره ورجال دولته، مخافة أن يؤدي ذلك إلى زوال الدولة البويهية نفسها. وقد حرص البويهيون على إظهار كل تعظيم وتقدير وطاعة للخليفة العباسي، في المناسبات العامة، وأمام مواطنيهم، فيما هم في الحقيقة قد انتزعوا منه كل صلاحياته.
·                       أهمية بلاد فارس ودورها في ترسيخ الدولة البويهية:
شكلت فارس تلك القاعدة الصلب التي أرتكز عليها البويهيون لتثبيت ملكهم وتوسيعه، فبالإضافة إلى موقعها القريب من عاصمة الخلافة بغداد، فقد كانت أغنى مقاطعات الخلافة اقتصادياً وأكثرها استقراراً. والواقع إن هذه الأسباب مجتمعة بالإضافة إلى شخصية علي بن بويه وما تمتع به من قدرات عسكرية وسياسية وإدارية، هي التي مكنت البويهيين من الاستيلاء على فارس وترسيخ سلطته عليها، وبالتالي إخضاع الخلافة العباسية لسيطرتهم.
التغييرات التي نتجت عن استيلاء البويهيين على العراق
·        منع الخليفة العباسي من التصرف بأموال الدولة، وتحديد راتب معين له، وكان استيلاء أمير الأمراء على موارد بيت المال (سابقاً) لعهد البويهيين، فعلى سبيل المثال خصص معز الدولة البويهي للخليفة العباسي المستكفي بالله (كل يوم خمسة آلاف درهم)، وبعد خلع المستكفي خفضه إلى ألفي درهم يومياً، كما إن الضياع السلطانية الخاصة بالخليفة لم تسلم من سيطرة البويهيين عليها.
·                       انتقال السلطة إلى الوزراء وكتاب الأمير البويهي دون وزراء الخليفة وكتابه.
·                       إلزام الخليفة بزيارة الأمراء البويهيين في بعض المناسبات خلافاً للقاعدة المتبعة من قبل.
·                       مشاركة الأمراء البويهيين في بعض الامتيازات الخاصة بالخلفاء (رغم معارضة الخلفاء لذلك)، فمثلاً:
أ) راح يذكر اسم الأمير بعد اسم الخليفة في صلاة الجمعة في العاصمة، وضرب الطبول على أبوابهم خلال أوقات الصلاة، وهذين الامتيازين بالذات لم يفعله الخلفاء لأي أمير من الأمراء قبل العهد البويهي.
ب) طلب الأمراء البويهيون في أن تضرب ألقابهم وأسمائهم على العملة النقدية، وبالفعل فمثلاً الخليفة المستكفي أمر أن تضرب ألقابهم وكناهم على الدنانير والدراهم.
ج) عدم إشراك الخلفاء والاستنارة برأيهم في قضايا ذات علاقة بسيادة الخليفة، فمثلاً إن الأمراء البويهيون كانوا أحياناً يعقدون معاهدات صلح دون علم الخليفة أو توقيعه على تلك المعاهدات.
أهم مزايا وإنجازات الحكم البويهي
قال السيد أمير علي في كتاب "مختصر تاريخ العرب": لقد شجع البويهيون الروح الأدبية وعضدوا مدرسة بغداد التي كان قد اضمحل شأنها في أثناء تدهور الخلافة، وحفروا الجداول وهيأوا للملاحة حتى مدينة شيراز، فأزالوا بذلك خطر الفيضانات الموسمية (الدورية) التي كانت تغمر المناطق كما شيد عز الدولة مستشفى فخماً وفتح عدة كليات في بغداد، ولعل أبرز المزايا:
·        امتاز عهد آل بويه بالخصب العلمي والأدبي بتأثيرهم الخاص، أو بتأثير وزرائهم، ذلك إنهم استوزروا أبرع الكتاب وأبرزهم واعتمدوا عليهم في التخطيط وتدبير شؤون الحرب وأمور السياسة والإدارة والمال، وقد برز صيتهم في ميدان الأدب والفلسفة والعلم، فكان أثرهم في الحياة الفكرية قوياً جداً.
·        تطويرهم تجربة العمل السياسي والمسائل التي تتعلق بشؤون الانتخابات وتركيبة الجهاز الحاكم ومؤسساته، وهنا يقول الأستاذ حسن أحمد محمود الشريف في كتابه "العالم الإسلامي في العصر العباسي": إن الخلفاء العباسيين تعرضوا (في عهد البويهيين) أقل للتغيير والتبديل أو لمهزلة الانتخاب الشكلي، فلم يستبدل الخلفاء بسرعة كما كان في العصر السابق، فقد حكم المطيع لله 29سنة (334-363) والطائع 18 سنة (831) والقادر 41 سنة (433هـ):
·        أظهر الحكام البويهيون على عكس من سبقهم من الأمراء والملوك التي انضوت في ظل حكم الخلافة العباسية المزيد من الاحترام والتنسيق مع سلطته العليا في المواقف والمحافل الرسمية، وكانوا أكثر اتباعاً للأصول والمجاملات من القادة العسكريين الذين سبقوهم.
على إن لهذه السياسة وجانبها الإيجابي كان له الأمر الواضح في لجوء المذاهب المتنازعة إلى المنطق والفلسفة وعلم الكلام لتأييد آرائها، فحدثت نهضة فكرية – علمية وكثرت التصانيف في المناظرات.
·        الاهتمام بالقطاع الاقتصادي، وخاصة مجالي الزراعة والري، حيث أمر الحكام البويهيون بحفر الجداول وهيئوها للملاحة، حتى مدينة شيرازي، وكانت الأنهار ببغداد قد دفنت مجاريها وعفيت رسومها، فأمر بحفرها من جديد وأقام القناطر والجسور وعملت عملاً محكماً، وحضر كثير من أهل البادية فزرعوا وعمروا البرية. وبنوا أسواقاً للبزازين (تجار الأقمشة).
·        العمل على نشر الأمن وتأمين الاستقرار في البلاد ورعاية مصالح عامة الناس وأمنهم، وقد تركز جهدهم في تطهير السبل من اللصوص، ومحو أثر قطاع الطرق، وإعادة النظام إلى صحراء جزيرة العرب وصحراء كرمان، بعدما كانت مخيفتان، وكان سكانهما يضعون الضرائب والأتاوات على قوافل الحج، فارتفعت وتحقق الأمن، وأقام للحجاج السواقي في الطرق واحتفرت الآبار وفجرت الينابيع، وأقيمت السور على مدينة الرسول محمد - صلى الله عليه و آله و سلم-.
·        رعاية الجانب الصحي وتشييد المراكز الصحية العديدة للناس، وفي عهد آل بويه شيد بيمارستاناً (مستشفى) كبيراً في بغداد، وصدرت الأوامر برعاية العجزة والمرضى وتقديم العون المادي والمعنوي لهم.
·        الاهتمام بجانب الخدمات الاجتماعية، فقد أمر الحكام البويهيون وبالخصوص عضد الدولة، الذي أمر بدرار الأرزاق على قوام المساجد والمؤذنين وأئمة الصلاة والقراء، وإقامة الجريات لمن يأوي إليها من الغرباء والضعفاء، وتجاوزت صدقاته أهل الإسلام إلى غير المسلمين، حيث أذن للوزير في عمارة المعابد لليهود والأديرة للنصارى وإعطاء الأموال لكل محتاج وإن لم يكن مسلماً.
ومن آثاره تجديد عمارة مشهد أمير المؤمنين علي عليه السلام وكان قد أوصى بدفنه فيه، فدفن بجواره.
البويهيون والحالة الدينية
كان الإسلام قد عم فارس، وثبت أقدامه منذ زمن بعيد، وكان أهل السنة هم الأكثرية، فيما كان الشيعة أقلية صغيرة بفارس انحصرت أماكن تواجدهم على ساحل الخليج المقابل لمناطق الجزيرة العربية التي كانت إحدى مراكز الحركات الشيعية، وخلال الحكم البويهي لم يطرأ أي تغيير على انتماءات السكان الدينية رغم تشييع الأسرة البويهية الحاكمة، إذ ظلت فارس مقاطعة سنية.
ويبدو أن أنصار المذهب الشيعي انحصروا في فئة رجال الفكر والعلم، كذلك كانت حالة المعتزلة الذين عادوا للانتعاش خلال الحكم البويهي، وتولى الكثير منهم مراكز مهمة في الدولة.
الوقائع كشفت إن مواقف وسياسات البويهيين تجاه سائر القضايا، والعلاقات مع الأطراف الداخلية كانت محكومة بالانفتاح والمرونة والحكمة السياسية.
إن البويهيين لم يقيموا دولة شيعية انحصارية، إذ لم يفرضوا مذهبهم (الشيعي) كمذهب رسمي منحصر، ولم يدفعوا السكان إلى الالتزام به، وأصلاً لم يكن هذا الأمر على الإطلاق أحد أهدافهم، نعم كان المكسب الأساسي للمذهب الاثنى عشري، من وجود البويهيين في السلطة، هو حريتهم في التحرك والعمل بصورة علنية، ووثوقهم بوجود سلطة تحميهم وتدافع عنهم. لكن سياسة البويهيين في هذا المجال في بغداد وخاصة أيام معز الدولة، كانت نقيض ما سبق، وهذا يعود بالأساس إلى اختلاف وضع كل من العراق وفارس السياسي والاجتماعي بالنسبة للبويهيين، إذ كان العراق وهو المركز الأول للتشييع مركز الخلافة العباسية السنية، مما جعله مركز الصراعات الحادة بين مختلف الأطراف الداخلية والمحيطة به، فقد كان من الصعب الإمساك بالسلطة في بغداد لفترة طويلة، فكيف هي الحال إذن إذا كانت هذه السلطة غريبة عن بغداد، ومن غير المذهب السني، كما هل حال البويهيين، هذا إلى جانب كون بغداد مركز صراع لجميع الحركات الروحية في مملكة الإسلام، مع وجود أكبر حزبين كانا بها في القرن الرابع الهجري هما الحزبان المتشددان في التمسك بمذهبهما وهما الحنابلة والشيعة، والأخير يمثلون الأكثرية السكانية للعراق عامة.
الشيء الذي تمسك به الخلفاء العباسيون، ولم يسمحوا بإعطاءه أو تقليده للأمراء البويهيين هو قضاء القضاة، كونه يعد اكبر منصب ديني بعد الخلافة، ولذا فقد حرم منه رجال وقادة الشيعة، على اعتبار أن ذلك يؤدي إلى إضعاف مركز الخليفة الديني، وتجريده من السيطرة على أكبر جهاز له أهميته في نزاع الخليفة مع الأمير البويهي (الشيعي) من أجل استعادة السلطة الزمنية منه.
والأمر اللافت للانتباه هو إن البويهيين رغم كونهم من الشيعة إلا أنهم فشلوا في إكساب ثقة وتعاون الأمراء الشيعة داخل البلاد العراقية، لأن البويهيين، كما يظهر في تعاملهم مع الأمراء الشيعة، مثال عمران بن شاهين وبنو مزيد في الحبة وبنو حمدان في الموصل وحلب، عن أي حاكم سني في بغداد، ذلك لأنهم كانوا يجعلون الاعتبارات السياسية فوق الاعتبارات المذهبية.
أسباب سقوط ونهاية الدولة البويهية
اتسمت علاقة بلاد فارس بالبويهيين، بعلاقة تبادلية، فكما نجح البويهيون في توفير الأمن وأجواء التسامح وتسهيل متطلبات الحركة التجارية وتوفير متطلبات النمو الاقتصادي، وفوق كل ذلك ضبط الجيش وإبعاده عن صراعاتهم الداخلية، أعطتهم بالمقابل لكل متطلبات استمرار حكمهم لها.
لكن أحوال فارس أخذت فيما بعد بالتدهور منذ أيام صمصام الدولة، أي منذ أن نقل البويهيون صراعاتهم إلى داخلها، وكان نظام الوراثة المتبع لديهم أحد أسباب تلك الصراعات، ومنذ أن فقد أمراء فارس القدرة على ضبط الجيش بصراعاته وانقساماته وتعدد ولائاته وبأعماله مثلما كان عليه جيش العراق.
أما أبر أسباب انهيار الحكم البويهي وسقوط الدولة البويهية فتتحدد بالآتي:
·        خضوع مقاطعات المملكة البويهية (فارس والعراق) لنظام الاقطاع العسكري وانعكاس أضراره على مجمل قطاعات ونشاطات المجتمع، وخاصة النشاط الاقتصادي. وفي ظل سيطرة طبقة العسكر نشأت إمارة الأمراء في العراق، وبالتالي انتقال الإدارة المدنية للبلاد إلى الإدارة العسكرية، وتحديداً أمير الأمراء وقواده العسكريين.
·        تزايد ظاهرة الصراعات والانقسامات داخل كتل وأجهزة الدولة البويهية، وهذا سبب تدهور الوضع الأمني بشكل عام، وانتشار مظاهر الفساد والسرقة والرشوة وجرائم القتل.
·        نجاح الفاطميين في سنة 391هـ/100م من تحويل تجارة المحيط الهندي، من الخليج إلى البحر الأحمر، وإلحاق الضرر الاقتصادي والتجار الفادح باقتصاد الدولة البويهية.
·        سيطرة الغزنويين على خطوط المواصلات البرية المؤدية إلى الهند والصين، وهذا الأمر أضعف التجارة البرية لبلاد فارس.
·        التهديد العسكري والحربي الذي تمثل بالسلاجقة، وحالة الذعر والفوضى التي عمت إيران نتيجة التقدم السلجوقي، ومن ثم استيلائهم على كل مناطق المملكة البويهية، ليضيق الخناق على فارس التي كانت تعيش أسوأ لحظاتها مع أسوأ أمراءها (فلاستون)، الذي لم يستطع أن يقف بوجه إحدى قبائل الأكراد المحلية (شبنكارة) التي نشرت الفوضى والدمار بأرجاء فارس، ثم أطاحت بـ فلاستون، ونصب رئيسها فضلويه، أصغر أخوة فلاستون أميراً، فيما هو الحاكم الفعلي لفارس.
·        سوء التصرف بخزانة الدولة وعائداتها المالية وما يتصل بالنفقات، كما صارت أموال النواحي والولايات تحمل إلى خزائن الأمراء فيأمرون وينهون فيها، وفي الوقت ساد فيه الاضطراب على الحالتين المالية والإدارية، فإن الضرائب هي الأخرى كانت عاملاً إضافياً زاد في سوء الأحوال.
المصادر:
موسوعة المعارف الشيعية: السيد حسن الأمين.
تاريخ الدولة البويهية.
الانتفاضات الشيعية.