شيعة العراق وطنيون لا طائفيون ..
مجتمع فسيفسائي.. وصفٌ لطالما تردد علي ألــسنة المتابـعين للشأن العراقي، وهم يقصدون من ذلك القول بأن العـراق مجتمع متعدد القوميات والأديان والمذاهب، وبالتالي فإن الانطباع النهائي الذي يحاولون أن يوحوا به هو أن العراق مجتمع لا يمكن السيطرة عليه، وبأنه قابل للانفجار بين لحظةٍ وأخري. ولذا راجت الاحتمالات التي تنذر بحروب أهلية وشيكة سواء أكانت قومية أم طائفية، ولعل أكثر الآراء انتشاراً هي التي تحدثت ولاتزال، عن مواجهة طائفية محتملة بين السـنة والشـيعة.
لكن الوقائع سريعاً ما أثبتت مدي خطل هذا الرأي وسطحيته في أحسن الفروض، أو أن وراءه نوايا تحريضية دحضها العراقيون منذ اليوم الأول للاحتلال، عندما رفعوا في الأعظمية كما في النجف، وفي الرمادي مثلما في كربلاء، لافتات سارت وراءها الملايين وهي تتحدث عن الوحدة الإسلامية السنية والشيعية..
ومع كل شيء فإن الأمر كما أعتقد يحتاج إلي شيء من المناقشة العجلي. من المهم الإشارة، إلي أن العراق ليس استثناء في كونه مجتمعا متعدد التكوين، إذ لا أظن أن أحداً يستطيع أن يجد دولة متجانسة بشكل مطلق. بل أن العراق، وفق المنظور السوسيولوجي هو من بين المجتمعات المتماسكة، إذ علي الأقل فإن أكثر من 95% من سكانه مسلمون، والهوية الإسلامية هي انتماء يسمو علي ما سواه من اثنيات فرعية أخري.
ثم من قال بأن الدول إذا كانت ذات طابع موزائيكي فإن هذا يعني أن التناحر والصراع يغدو فيها محتوماً. فها هي دول العالم التي تمتاز بالتنوع تحظي باستقرار أكثر من سواها الأكثر تكاملاً منها، فالعبرة ليست بالتنوع بحد ذاته وإنما في الإرث القيمي للمجتمعات لإمكانية التعايش فيما بين أبنائها من جهة، وقدرة النظام السياسي علي احتواء التمايزات الأثنية عبر وعاء قانوني يضمن المساواة بين أفراده من جهة أخري.
تأسيساً علي ما تقدم، فإن من نوافل الكلام، أن المجتمع العراقي وعبر عقود التاريخ السالفة لم يشهد يوماً ما صراعاً مجتمعياً. صحيح أنه كانت هناك ثمة مواجهات بين السلطة السياسية وبعض شرائح المجتمع، إلا أن هذه ظلت محصورة في نطاق سلطوي ليس إلا، ولم تتغلغل إلي النسيج الاجتماعي الذي ظل متماسكاً وعصياً علي التفتيت رغم محاولات الحث الخارجي لأغراض سياسية محضة.
وعلي نحو مضاد من ذلك، فإن هنالك اليوم محاولات واضحة لا تخفي دوافعها علي اللبيب، تهدف إلي الفت في عضد المجتمع العراقي من خلال التصريح أو التلميح إلي وجود تنافر بين السنة والشيعة من خلال غمز الشيعة بأنهم أقل وطنية من السنة في مواجهة الاحتلال، وهم يستدلون علي ذلك من خلال الفروقات الواضحة في المواقف السياسية بين أبناء كلتا الطائفتين ازاء ما يجري من أحداث، وهذه الأدلة تتضمن علي وجه الدقة ما يأتي: ان المقاومة تقع في ما أصبح يعرف بالمثلث السني وبمنطق المخالفة لكأنهم يريدون القول بأن الشيعة متواطئون مع الاحتلال، وثانياً: ان الأحزاب الشيعية الثورية الرئيسية قد أصبحت أعضاء في مجلس الحكم الذي عينه بريمر، وثالثاً: إن الحوزة العلمية في النجف الأشرف لم تصدر فتوي بإعلان الجهاد ضد الاحتلال. وعلي الرغم من حساسية هذا الموضوع وحراجته، فإن الحقيقة تدعونا للتأمل في هذه الأمور الثلاثة بروية ومناقشتها لدحض ما فيها من تضليل مقصود.
فالقول بأن المقاومة تجري في المثلث السني حصراً لا يمكن قبوله علي عواهنه، فالمثلث السني ليس سنياً خالصاً، إذ أن بغداد التي تشهد مقاومة يومية ليست سنية بكاملها، ففي مدينة الصدر لوحدها أكثر من مليوني شيعي، ثم أن بعقوبة التي تقع فيها أكثر المصادمات عنفاً مع قوي الاحتلال ليست سنية خالصة، فضلاً عن أن المناطق الشيعية البحت شهدت مرات عدة مصادمات محتدمة، ففي حادثة واحدة تم فيها قتل ستة جنود بريطانيين في العمارة الشيعية وفي بلد والدجيل ذات الاغلبية الشيعية المطلقة والتي تقع في محافظة تكريت تكبد الامريكان خسائر فادحة كما وأن مواجهة شعبية واسعة النطاق حدثت قبل أيام في البصرة وأظنها لن تتوقف عند ذلك.
لكنما الأهم من ذلك بالقطع هو أن المقاومة الأولي للاحتلال والأكثر ضراوة حدثت في جنوب العراق الشيعي وليس في سواه. أما القول بأن انضمام الأحزاب الشيعية الرئيسية إلي مجلس الحكم يقدح في وطنية الشيعة فإن فيه تسطيحا للوقائع، إذ فضلاً عن أن الأحزاب السياسية الشيعية تفتقر للتمثيل الشعبي الذي ظل ملتزماً بخط الحوزة المناهض للاحتلال، فإن وجود شخصيات شيعية في المجلس لا يعني أنهم يمثلون الشيعة البتة، لأن انتماءهم للمذهب ليس إلا انتماء رمزيا، إذ لا يمكن قبول أن أحمد الجلبي أو عقيلة الهاشمي أو إياد علاوي وهم من العلمانيين يمثلون الشيعة.
وبالمقابل هل من ينسي أن أهم الأحزاب السنية طرا وهو (الإخوان المسلمون) أو ما أصبح يعرف باسمه الجديد (الحزب الإسلامي العراقي) هو عضو في مجلس الحكم من خلال رئيسه محسن عبد الحميد. وللتشكيك الموهوم في وطنية الشيعة يري البعض أن عدم إصدار الحوزة العلمية فتوي بالجهاد ضد المحتلين دليل علي ذلك. غير أن التدقيق الموضوعي يحدونا للقول بأن الحوزة العلمية لم تفت بعدم جواز الجهاد، وإنما هي تعتقد بأفضلية أرجاء هذا الأسلوب لعدم توفر التمكن أو الأمن الجهادي ، وإيثار إعطاء فرصة ما لإثبات حسن نوايا المحتلين من خلال مغادرة العراق طوعاً وبعكسه فإن الحوزة سيكون لها ردها المناسب للاحتلال مثلما اصدر آية الله العظمي السيد علي السيستاني فتوي بعدم شرعية اي دستور لا تكون هيئته التأسيسية منتخبة شعبيا، هذا عن الحوزة التقليدية أو الصامتة أما تيار الحوزة الناطقة وهي إشارة إلي التيار السياسي الجديد ممثلاً بالسيد مقتدي الصدر الذي يحظي بشعبية لا نظير لها، فقد كانت له مواقفه الواضحة ضد الاحتلال من خلال التصريح بعدم شرعيته وتكفير المتعاونين معه بل وذهب إلي أبعد من ذلك بكثير عندما دعا إلي إنشاء جيش وطني بديل عن الجيش الذي تزمع قوي الاحتلال تشكيله.
أما عدم المجاهرة بالجهاد فيمكن فهمه، اذ ان السفير بريمر قد أصدر أمراً يقضي بسجن وتغريم أي دعوة للمقاومة، وبالتالي فإن عدداً من وطنيي العراق شيعة وسنة، لئن كانوا يؤيدون المقاومة سراً، فانهم لا يستطيعون الافصاح عن رأيهم جهراً خشية الايقاع بهم، والسنة والشيعة في ذلك سواء، إذ أن جمعية علماء الدين وهي أكبر مرجع للسنة لم تصدر فتوي الجهاد بعد، كما وأن معظم رجال الدين في الفلوجة والرمادي، وهما من المدن التي تبدي مقاومة شرسة، آثروا الصمت علي قضية الجهاد.
صفوة ما تقدم، فإن المحاولات القصدية لتشويه صورة شيعة العراق إنما تنطوي علي افتراء كبير وتضليل متعمد لبث تناحر موهوم لكنما العراقيون أثبتوا علي الدوام أنهم يمتلكون وعياً ونضجاً سياسياً قادراً علي مواجهة التحديات بتماسك قل نظيره، فشيعة العراق مثلما هم سنته وطنيون لا طائفيون.