هل تتحول الميليشيات الشيعية في العراق إلى دولة داخل الدولة؟ ..
خلال زيارته الأخيرة للعراق، أبدى السيناتور الأمريكي جون ماكين، مخاوفه من التأثير الإيراني وتغلغل الحرس الثوري الإيراني داخل العراق، وصعوبة تشكيل الجيش العراقي الذي يتطلب بناؤه وقتا طويلا.
تصريحات جون ماكين لم تكن الوحيدة التي تحذر من الوجود الإيراني في العراق، فقد سبق أن اعتبر نائب مبعوث الرئاسة الأمريكية إلى التحالف الدولي لمحاربة «داعش» بريت ماكجورك، أن «وجود ميليشيات إيرانية في العراق»، يسبب مشاكل لكل من رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، والمرجع الشيعي علي السيستاني، فضلا عن موقف بلاده من هذا الوجود.
كما أن ماكين خلال زيارته اجتمع في السفارة الأمريكية ببغداد بعدة شخصيات سياسية عراقية شيعية صديقة لواشنطن، وطلب منها أن تعطي تصوراتها في كيفية التعاطي الامريكي مع النفوذ الإيراني المتزايد في العراق، ولاسيما في إطار الحرب لمواجهة «داعش». فقيل له إن الأخطاء الامريكية التي وقعت خلال السنوات الماضية، ومنذ عام 2003 هي التي ساهمت في تنامي النفوذ الإيراني من جهة، ومن جهة أخرى أن النفوذ الإيراني صار من القوة والتمدد بحيث عقد وزاد صعوبات محاولات إيقافه، والسكوت عنه قد يحول العراق كله إلى ساحة تمدد إيرانية باتجاه دول الخليج العربي. وسمع ماكين كلاما من أن النفوذ الإيراني لم يعد محصورا بالقوى السياسية الشيعية وأنما تمدد وشمل الاحزاب الكردية؛ وأضحت إيران تملك أوراق ضغط ونفوذ داخل القوى السياسية الكردية لا يملكها ولا يوازيها فيها أي طرف إقليمي أو دولي.. وأن التمدد الإيراني صار يتجه إلى أطراف وقوى سنية عراقية. وقيل للسيناتور ماكين إن قوات الحشد الشعبي سيطرت عليها الميليشيات الشيعية، وهذه القوات تفوقت سريعا على قوات الحكومة العراقية في أهميتها، وأن هذه الميليشيات تسيطر عليها بصورة كبيرة الجمهورية الاسلامية في إيران. وفي الحقيقة فأن العديد منها تابع لفيلقالقدس الإيراني، وبالتالي فإن الحرب الجارية لطرد «داعش» مرتكزة على الحملة الجوية لقوات التحالف وعلى الميليشيات الشيعية التي أثبتت قدرتها القتالية، وبالتالي وبهذا المعنى فإن إيران وامريكا تقاتلان معا العدو المشترك «داعش». وسمع ماكين تقييما من الشخصيات الشيعية الصديقة مغزاه أن على أمريكا الآن أن تعمل على دعم حكومة العبادي وتقويتها، وأحد أسس هذا الدعم يجب أن يكون بتشجيع الأطراف العربية على الانفتاح القوي على العراق، في الوقت ذاته الذي يجب فيه تشجيع العبادي على مواجهة الفساد ورجالاته، ويجب مساعدته في هذا الاطار، من خلال أن يكون للامريكيين دور كبير في فضح ملفات الفساد، خلال الفترة السابقة، لا سيما أن الامريكيين لديهم معلومات كثيرة في هذا الصدد،، وبالتالي تعرية رموز الفساد واسقاطها شعبيا، الأمر الذي يجعل العبادي وحكومته تتعاطى مع هذا الملف بشكل جدي.. وهذا من شأنه أن يهز بعض أعمدة النفوذ الإيراني، إذ من المعروف أن عددا من رموز الفساد في العراق هي ذاتها تمثل أركانا رئيسية للنفوذ الإيراني، او على الأقل ان مثل هذا الاجراء لا يسمح بتحول هذه الميليشيات، ولاسيما القوية منها إلى دولة داخل الدولة.
فمن المعلوم أن هذه الرموز استثمرت سقوط الموصل في يونيو الماضي على أيدي «داعش» واتضاح عدم أهلية القوات المسلحة العراقية التقليدية، التي ابتليت بالفساد والمحاباة المستفحلين بصورة عامة في النظام السياسي العراقي في عراق بعد 2003، حتى صارت الميليشيات المنظمة المسنودة من إيران تملأ الفراغ الذي تركه الجيش التقليدي. وقد ساعد في بروز هذا التحول إصدار المرجع الشيعي الأعلى آية الله السيستاني فتوى حول الالتزام بالدفاع عن البلد بوجه تهديد «الدولة الاسلامية». وفي حين أن السيستاني كان يقصد تشجيع الناس بالانضمام إلى القوات الامنية العراقية الرسمية، فإن فتواه في التطبيق أنجبت المظلة الواسعة للميليشيات الشيعية التي عرفت باسم قوات الحشد الشعبي .بينما هذه الميليشيات نفسها تعبر عن ذاتها بأن تسمى بالمقاومة الاسلامية.
وطبقا لموجة الزخم التي تكونت من قبل السيستاني وبسبب ضعف القوات الامنية الرسمية، فإن من النادر أن توجد بعض المناطق التي لا تنشط فيها الميليشيات الشيعية. وأن النجاحات العسكرية التي تحققت على أيدي هذه الميليشيات مثل تحرير منطقة جرف الصخر وفك الحصار عن آمرلي، فضلا عن تطهير الكثير من المناطق والمدن في ديالى وصلاح الدين، وكذلك في محافظة الأنبار، الذي في جزء كبير منه يدار بقيادة هذه الميليشيات وباشراف ومساعدة إيرانية من قبل مستشاري الحرس الثوري الإيراني. وكما وصف احد المسؤولين العراقيين الذي نقلت «الغارديان» عنه :»من الذي تعتقدون أنه يدير الحرب؟ هل هم هؤلاء الجنرالات الثلاثة الذين هربوا؟ قاسم سليماني هو الذي يقود، ترتبط الميليشيات به مباشرة». ومنذ ذلك الوقت، قاد سليماني معظم القتال ضد «داعش» وكأن حاضرا شخصيا في العديد من المواجهات الرئيسية. وإلى جانب قادة «قوة القدس» وعشرات مستشاري الحرس الثوري، هناك تقارير تتحدث عن وجود مستشاري حزب الله اللبناني على الارض في العراق، وبالاضافة إلى ذلك، فقد عادت القوات العراقية شبه العسكرية التي كانت منتشرة في سورية إلى العراق من أجل الاشتراك في القتال.
وبحسب تقارير موثوقة هناك على الأقل عشرة ميليشيات شيعية هي التي تمثل قوات الحشد الشعبي في العراق، حصلت على التدريب السابق من قبل الحرس الثوري، رغم ذلك، لا تريد إيران أن تتحول أي من تلك المجاميع الشيعية إلى قوة بما فيه الكفاية لكي تتقاطع معها وتتبع اجندتها الخاصة. ولكي تمنع ذلك، فهي تحتفظ بالعديد من الميليشيات التابعة المتنافسة إحداها مع الاخرى. ومن بين أكثر التابعين في هذا المجال، عصائب اهل الحق، التي طورت بصورة خاصة علاقات وثيقة مع رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي، وكتائب حزب الله (مع مجموعتها الجانبية: سرايا الدفاع الشعبي)، ومنظمة بدر. وهذه المنظمات الثلاث ارسلت مقاتلين إلى سورية لمساعدة نظام الاسد، وشاركت أيضا في جهود الحكومة العراقية العسكرية في الأنبار منذ بداية السنة الماضية، حينما سقطت الفلوجة واجزاء من الرمادي في البدء خارج سيطرة الحكومة العراقية. وإلى جانب هؤلاء اللاعبين الثلاثة الرئيسيين، هناك تابعون إيرانيون آخرون، مثل سرايا الخراساني، كتائب سيد الشهداء وحركة النجباء، وكلها شاركت في سورية ايضا. ولم تبذل تلك المجموعات أي محاولة لاخفاء انتسابها الايديولوجي لإيران..
وإلى جانب عملاء إيران المباشرين، هناك اعضاء من ميليشيات شيعية أخرى، أغلبها من تلك التي ترتبط بأحد الزعماء الشيعة بشكل أو بآخر. مثل سرايا السلام (جيش المهدي سابقا)، التابعة للسيد مقتدى الصدر. وميليشيا لواء الشباب الرسالي، التي تدعي ارتباطها بالشيخ محمد اليعقوبي وتربط نفسها بميراث والد مقتدى الصدر، آية الله محمد محمد صادق الصدر. وكذلك فرع ميليشيا خط الصدر التي ظهرت لاول مرة في سورية، ولكنها انسحبت منذ ذلك الوقت إلى العراق، وهي لواء ضحى الفجر. وفي موقع آخر من تيار الطيف السياسي الشيعي، هناك ميليشيات مرتبطة بقادة المجلس الاعلى الاسلامي في العراق، مثل سرايا أنصار العقيدة التي يتزعمها الشيخ جلال الدين الصغير، وسرايا الشورى، التي يقودها السيد عمار الحكيم. وتبدو هذه الميليشيات محاولة من رموز المجلس الاعلى لاقامة قواهم المليشياوية الخاصة بهم، لمنافسة منظمة بدر التي اعلنت انشقاقها في وقت سابق عن المجلس الاعلى الاسلامي العراقي. والميليشيا الاخرى الموجودة التي يمكن أن ترتبط برموز من ذوي الاتجاهات الإيرانية القوية، كتائب الغضب، المرتبطة بحزب الدعوة الموالي لإيران ( تنظيم الداخل). ولازال من الممكن تشخيص مجموعات اخرى كمحاولات واضحة لمنافسة عملاء إيران او الميليشيات الشيعية الأخرى، مثل « كتائب حزب الله – المجاهدين في العراق» التي يقودها عباس المحمداوي من كتلة ابناء العراق الغيارى السياسية، وقوى ابو الفضل العباس المستندة إلى الميليشيا السورية الشيعية المشهورة، لواء ابو الفضل العباس. وبصورة طبيعية، فإن الميليشيات الشيعية هي كتل احادية التفكير الايديولوجي بشكل لا يقبل النقاش. والتوتر الاكثر وضوحا هو بين الميليشيات التابعة لإيران وتلك التي تتبع تيار مقتدى الصدر. وهي الحالة التي يتجاوز فيها خطابها الاخرين بصورة غالبة. وهم كلهم يؤكدون على «الدفاع عن الوطن والمدن المقدسة»، ويحاولون الادعاء بأنهم متحدون وراء القضية المشتركة «المقاومة» والكبرياء الطائفية الشيعية. ومع ذلك، فإن المجموعات غير المتراصفة كليا مع إيران هي بلا شك خارج النفوذ او الهيمنة الإيرانية. وعلاقاتهم مع الجمهورية الاسلامية هي ببساطة اكثر تعقيدا وغموضا مقارنة بالاخرين.
ويرى الكثير من المراقبين أن تكاثر الميليشيات الشيعية في العراق، مع كون العديد منها تابعة لإيران، سيبقى ضروريا في المستقبل المنظور في اطار القتال ضد «داعش»، لكنه في نهاية المطاف سيخلق حالة «دولة داخل الدولة»، وأن كثيرا من اللاعبين الاقوياء في هذه الميليشيات سيبحث عن أبعاد ومضامين يستطيع عبرها أن يعبر عن قوته، ومن الصعب والمستبعد بصورة كبيرة أن يتم تفكيكها ببساطة حتى اذا طُلب منها ذلك. ولا يمكن تصور مدى السلطة التي ستبلورها هذه الميليشيات لاسيما تلك التي تؤسس لقوتها وهيمنتها على الارض عبر المكاسب التي تحققها في إطار الفوز بالحرب على «داعش».
عصام فاهم العامري - كاتب وصحافي عراقي - القدس العربي