العراق : المرجعية الدينية غير كافية للقيادة السياسية ..
أعادت معركة الفلوجة الثانية، من حيث لم يتوقع أحد، المسألة الطائفية في العراق إلي ساحة الجدل والنقاش، بل إلي التلاسن وتبادل الإتهامات. والحقيقة ان المسألة الطائفية كانت حاضرة منذ بداية الإحتلال الامريكي، ولكن إنخراط التيار الصدري والشيخ الخالصي في المقاومة والتقارب بينهم وبين القوي السنية الإسلامية، كهيئة العلماء المسلمين، ساعد إلي حد كبير في ثلم حدة الجدل الطائفي وفي التوكيد علي ان من يقاوم الإحتلال ليسوا سنة فحسب، بل عراقيين سنة وشيعة. ولكن التيار الصدري تعرض منذ تموز (يوليو) الماضي، ومنذ معركة النجف علي وجه الخصوص، لضغوط من المرجعية الشيعية ومن أوساط شيعية أخري، أجبرته في النهاية علي الخروج من دائرة المقاومة والبحث عن مصالحة ما مع حكومة علاوي المؤقتة. وليس من الواضح، علي أية حال، ما إن كانت هذه المصالحة ستستمر طويلاً، وما إن كانت ستؤدي إلي إدخال التيار الصدري العمل السياسي في ظل الإحتلال.
ثمة عدد من المظاهر التي إجتمعت معاً، وفي لحظة واحدة، لتؤجج الخطاب الطائفي، إنتهت جميعاً عند عتبة المرجع الشيعي السيد السيستاني، الإيراني الأصل والمقيم منذ عقود في مدينة النجف. فيما عدا التيار الصدري، خيم علي الأوساط الشيعية العراقية صمت مطبق إزاء الإستعدادات الامريكية العسكرية الهائلة لإقتحام مدينة الفلوجة؛ بل ان خطيباً ينتمي لجماعة الحكيم، التي تتظلل بالسيد السيستاني، بدا في خطبة جمعة سابقة علي بدء الهجوم علي الفلوجة وكأنه يحرض علي المدينة وأهلها. وقد دفع صمت السيد السيستاني، وقد بدأت عاصفة الموت والدمار في الإطباق علي الفلوجة، الشيخ مهدي الصميدعي، أحد أبرز العلماء السنة في العراق والذي سارعت قوات الإحتلال إلي إعتقاله، إلي إنتقاد صمت السيستاني والتذكير بموقف العلماء والقوي السنية من الهجوم الامريكي علي النجف. دار هذا الجدل في وقت نشرت وكالة أنباء أجنبية صورة لجنود عراقيين من الحرس الوطني يحملون صورة السيد السيستاني ويعرضونها علي جنود امريكيين، بينما هم يحتشدون معاً إستعداداً للهجوم المرتقب علي مدينة الفلوجة. وقد أفادت أوساط عراقية سنية مناهضة للإحتلال بأن قوات الحرس الوطني التي تشارك الامريكيين الهجوم علي الفلوجة هي قوات من الشيعة العرب ومن الأكراد، وان عدداً منها يعود إلي ميليشيات الأحزاب الشيعية والكردية التي تم ضمها مسبقاً للحرس الوطني الجديد. وربما كان هذا الأمر متوقعاً، علي أية حال، فقد ساد التحريض علي الفلوجة منذ البداية قدر ملحوظ من الخطاب الطائفي؛ كما ان قوات الحرس الوطني المختلطة التي سبق ان استدعيت للمشاركة في الهجوم علي الفلوجة في نيسان (ابريل) الماضي هجرت مواقعها عند بدء المعركة ورفضت القيام بالدور المخصص لها. فكأنما جاء الإقتصار علي وحدات شيعية وكردية هذه المرة لضمان ولاء قوة الحرس وإنخراطها في العمليات العسكرية البشعة التي كانت تنتظر المدينة العراقية، العربية ـ الإسلامية، السنية .
جاء الهجوم الدموي المدمر علي الفلوجة بعد أن أغلقت حكومة علاوي باب التفاوض مع أهالي الفلوجة وبدا واضحاً أن علاوي ورجاله إنصاعوا للقرار الامريكي المبيت بالإنتقام من المدينة وأهلها. وجاء الهجوم بإسم إعادة الأمن والسلام للعراق المحتل، والتحضير للإنتخابات المزمع إجراؤها في كانون الثاني (يناير) القادم. وقد أصبحت الإنتخابات ذاتها مجالاً آخر من مجالات التدافع الطائفي. ففي حين نشرت تصريحات صادرة عن مكتب السيد السيستاني تفيد بدعمه غير المتحفظ للعملية الإنتخابية المقبلة، بل ومساواتها بالواجب الديني، ذكرت الأصوات السنية المعارضة لإجراء الإنتخابات في ظل الإحتلال بأن السيد السيستاني كان قد أعرب عن إعتراضه علي القانون المنظم للإنتخابات والذي تمت صياغته تحت إشراف إدارة بريمر، الحاكم الامريكي السامي للعراق المحتل. ولكن المسألة لم تقتصر علي إعلان دعم المرجعية للعملية الإنتخابية، إذ عمل مكتب السيد السيستاني خلال الأسابيع القليلة الماضية علي تشكيل قائمة مرشحين شيعية واحدة تضم تآلفاً من الدعوة والمجلس الأعلي والتيار الصدري (وهي قوي إسلامية شيعية بالفعل، وإن تفاوتت في خطابها الطائفي)، إضافة إلي المؤتمر الوطني الذي يقوده أحمد الجلبي والوفاق الذي يقوده علاوي (وكلاهما حزبان علمانيان معلنان وإن قادهما سياسيان شيعيان). يشي مثل هذا الجهد بتصور طائفي للعملية السياسية في العراق، ولمستقبل العراق، يعمل السيد السيستاني ومكتبه علي بنائه ورعايته وتعزيزه، بغض النظر عن إحتمالات نجاحه أو فشله.
بعد ان إعتقد كثيرون انه سيكون أحد مفاتيح الحل بات السيد السيستاني مشكلة رئيسية تضاف إلي مشكلات عراق ما بعد الإحتلال. هذا البلد العربي الكبير، المسكون بالتاريخ والدور، الذي لم يعرف إنقساماً طائفياً في تاريخه الحديث كله، يوشك الآن أن يعيش كابوساً طائفياً لا يستطيع أحد توقع مداه أو عواقبه. فكيف نحدد موقع السيد السيستاني في هذا كله، ولماذا يحيط دور السيد السيستاني وقيادته للشأن الشيعي الكثير من الوهم والقليل من الحقيقة؟
يحتل السيد السيستاني مكانة بارزة في المؤسسة العلمية الشيعية بإعتباره فقيهاً مجتهداً ومرجعاً فقهياً يكاد يكون الوارث الرئيسي لمرجعية السيد الخوئي والملايين من مقلديه. وبالرغم من عدم وجود إحصائيات يعتد بها في هذا المجال، فالمعتقد ان أغلب المتدينين من شيعة العراق يقلدون السيد السيستاني. ولكن السيد السيستاني ليس المرجع الوحيد المقيم في العراق، فهناك آخرون مثل محمد سعيد الحكيم والنجفي وفياض، إلا ان أياً منهم لا يتمتع بنفوذ وعدد مقلدي السيستاني. كما ان هناك عدداً آخر من العلماء الشيعة البارزين المعدودين من علماء الصف الثاني، كالحسيني والبغدادي والخالصي، الذين يعارضون الإحتلال ويرفضون نهج السيد السيستاني. وبالرغم من الإحترام الذي يحظي به هؤلاء بين الكثير من العراقيين الشيعة، والسنة، فليس من المؤكد ان أياً منهم قد بلغ المرتبة العلمية التي تؤهل للمرجعية. هذا إضافة إلي عدد من علماء الصف الثاني الذين أعلنوا تأييدهم للغزو والنظام المنبثق عنه، لاسيما أولئك المحسوبين علي الأحزاب الشيعية التي عادت للعراق من الخارج في أعقاب الإحتلال.
يحيط بنظام المرجعية الكثير من الأساطير، مثل الإعتقاد بأنه وجد منذ محمد بن الحسن الطوسي (المعروف بشيخ الطائفة) في القرن الخامس الهجري. والحقيقة ان المرجعية كما هي معرفة اليوم، أي وجوب وواقع تقليد عموم الناس لمرجع تقليد أقر له الوصول إلي مرتبة الإجتهاد، قد تبلورت في نهايات القرن الثامن عشر وخلال القرن التاسع عشر. لعب العلماء المسلمون، سواء السنة منهم أو الشيعة، دوراً رئيسياً وواسعاً في حياة واجتماع الجماعة المسلمة وتشكيل رؤيتها للعالم منذ بروز العلماء كطبقة ومؤسسة في القرون الهجرية الأولي؛ كما حمل المسلمون إجلالاً كبيراً للعلم والعلماء. ولكن مؤسسة المرجعية تعود إلي الصراع الذي خاضه العلماء الأصوليون المجتهدون، بقيادة آقا محمد باقر بهباني (1790) ضد العلماء الإخباريين الرافضين للإجتهاد، وهو الصراع الذي دارت رحاه في النجف وكربلاء. وإذ حسم الصراع لصالح الأصوليين المجتهدين، أخذت موضوعة وجوب تقليد غير المجتهدين للمجتهد في الإستقرار، لتصل إلي إكتمال تبلورها الفقهي علي يد محمد مرتضي الأنصاري (1862). عزز هذا التطور، وما صاحبه من دفع زكاة الخمس للمراجع، من موقع العلماء المسلمين الشيعة الإثني عشرية، ووفر لهم إمكانات الدور القيادي السياسي والإجتماعي. إلا ان العلماء المجتهدين إختلفوا في تحديد طبيعة الدور الذي يطلع به العالم (وهو المبدأ المعروف بولاية الفقيه)؛ فبينما إعتقدت قلة منهم بحق المجتهد في وراثة أغلب الصلاحيات التي هي للإمام (طالما ان الإمام غائب)، أقر آخرون بصلاحيات محدودة للمجتهد، لا تشمل القيادة السياسية. يقف علي رأس التيار الأول من المعاصرين الإمام الخميني، بينما كان الخوئي، وبعده السيستاني، من أنصار وجهة النظر الثانية.
لقد لعب العلماء المراجع الشيعة أدواراً إجتماعية قيادية من بدايات القرن التاسع عشر، لاسيما بعد ان بدأ الصعود الغربي، الروسي والأنكلو ـ فرنسي، في إقتطاع بلاد من دار الإسلام وفي التسبب في أزمات سياسية وإقتصادية داخلية كبري في داخل الدول الإسلامية. ولكن أولئك العلماء الذين إجتمع الناس حول قيادتهم لم يكونوا مجتهدين فحسب، بل كانوا مجتهدين إتخذوا عن وعي وتصميم قرار حمل تبعات القيادة والتصدي للحكام الظلمة أو مهمات إعلان الجهاد وإمضائه دفاعاً عن دار الإسلام. المجتهدون الذين إختاروا تجنب المتاعب وعواقب المواقف ضد الظلم وموازين القوي المختلة، ظلوا فقهاء كباراً يحوزون الإحترام لعلمهم وفقههم، ولكن ليس أكثر من ذلك. ليس كل المجتهدين هم أولئك الذين خاضوا معركة إعطاء إحتكار التنباك لشركة أجنبية؛ وقد إلتفت العشائر العراقية حول المجتهد الكبير محمد تقي الحائري الشيرازي في ثورة العشرين لفتواه المؤيدة للثورة ومواقفه المناهضة للإحتلال البريطاني، بالرغم من أن الجميع كان يقر بالتفوق العلمي ـ الفقهي لمحمد كاظم اليزدي الذي عرف بتهاونه مع المحتلين. وعندما صعد الإمام الخميني من منفاه في النجف كقائد وزعيم شعبي كبير، بعد سنوات من مناهضة حكم الشاه والسيطرة الأجنبية علي إيران، كان كل من آية الله الخوئي (في العراق) وآية الله شريعة مداري (في إيران) يتقدمان عليه مرجعياً وعلمياً. الموقع العلمي والفقهي وحده لم يؤهل للقيادة السياسية والإجتماعية.
أخذت مرجعية السيد السيستاني بالبروز منذ منتصف التسعينات، بعد وفاة أستاذه آية الله خوئي. وقد إلتزم السيد السيستاني منذ بروزه الصمت تجاه ما يحدث في العراق وله، بحيث يصعب ان نحدد، حتي الآن، ما إن كان السيستاني معارضاً لسياسات الرئيس العراقي صدام حسين أو لا، وما إن كان معارضاً للحصار الدولي المدمر علي العراق أو لا. كان التقدير دائماً ان أصول الرجل الإيرانية وموقفه المتحفظ من ولاية الفقيه جعلاه راغباً عن الإنخراط في الشأن العراقي العام، قولاً أو فعلاً. ولكن إحتلال العراق حمل مفاجآت عدة. فقد أخذت الأحزاب الشيعية العائدة للعراق (المجلس الأعلي في شكل خاص، والدعوة بدرجة أقل)، إضافة لبعض السياسيين الآخرين الموالين للإحتلال، مثل الربيعي والجلبي، في الإلحاح علي إسم السيستاني باعتباره مرجعاً للدين والسياسة معاً. وسرعان ما أخذ السيد السيستاني، شخصياً أو عن طريق مكتبه، في الإستجابة وإصدار الآراء والفتاوي المتعلقة بهذا الشأن أو ذاك.
وفي عدة حالات، عندما تعارضت آراؤه مع إدارة الإحتلال، كان عليه إبتلاع مواقفه، خاصة ان إدارة بريمر لم تنصت إلا للآراء والمواقف المؤيدة لها تماماً. ليس الرجل عالماً مناضلاً، ولا له من التاريخ والخبرة ما يؤهله للدور الذي تصدي له، ولا يبدو ان مكتبه يضم من المستشارين من يستطيع تقدير مصالح الإسلام وسط عواصف السياسة والحرب. بل إن الرجل يعيش عزلة علمية تقليدية، لا يخرج علي الناس، ولا يسمعهم صوته، ويصعب ان توصف مواقفه المعلنة حتي الآن بالحكمة أو الشجاعة. الأحزاب التي دفعته للـــدور العام أرادته مظلة عند الحاجة لتغطية مواقفها المتورطة مع الإحتلال ولمشروعها الطائفي، أو درءاً من الشعبية الهائلة للتيار الصدري. وبموافقته علي لعب هـــذا الــــدور تورط هو الآخر في كل هذا معاً: أصبح مصدراً غير مباشـــــر لتسويغ المشروع الإحتلالي، ساهم في إخضاع التيار الصدري، وتحول مكتبه إلي مركز للتخطيط لعراق طائفي منقسم علي نفسه.
كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث
______________________
2004/11/18