Difa e Islam | الدفاع عن الإسلام | دفاع الإسلام |
تغيير اللغة:

حكم إتيان الزوجة في دبرها

حكم إتيان الزوجة في دبرها

  إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد :
فهذا بحث حول حكم وطء الزوجة في الدبر، جمعت فيه نتفا من أقوال أهل العلم في المسألة، مع بيان سبب خلافهم، ومناقشة نسبة ذلك إلى بعض السلف رضي الله عنهم وأرضاهم، وقد جعلته مباحث :
 
المبحث الأول : مذاهب العلماء في ذلك :
المبحث الثاني :  نقولات عن أئمة المذاهب القائلين بالحرمة :
المبحث الثالث : أدلة القائلين بحرمة وطء الدبر :
المبحث الرابع : مناقشة نسبة ذلك إلى الإمام مالك :
المبحث الخامس : مناقشة نسبة هذا القول إلى الشافعي :
المبحث السادس : مناقشة نسبة هذا القول إلى ابن عمر رضي الله عنه :
المبحث السابع : سبب خلافهم في حكم الوطء في الدبر :
المبحث الثامن : مناقشة أدلة المبيحين للوطء في الدبر :
المبحث التاسع : أسبابَ وتعليلات تحريم الوطء في الدبر:
المبحث العاشر : خلاصة البحث :
 
 
المبحث الأول : مذاهب العلماء في ذلك :
ذهب جماهير العلماء من الأحناف والمالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية إلى حرمة وطء الزوجة أو الأمة في دبرها وهو مروي عن عَلِيٌّ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْي، وَابْنُ الْمُنْذِرِ.
وهناك قول ضعيف بإباحته مروي عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَنَافِعٍ، وَمَالِكٍ، على خلاف في نسبة هذا القول إليهم.
 
المبحث الثاني :  نقولات عن أئمة المذاهب القائلين بالحرمة :
مذهب السادة الأحناف :
جاء في البحر الرائق : "قَالَ الْكَاكِيُّ أَيْضًا ثُمَّ إتْيَانُ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ"اهـ.
جاء في بدائع الصنائع : "وَلَا يَحِلُّ إتْيَانُ الزَّوْجَةِ فِي دُبُرهَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ نَهَى عَنْ قُرْبَانِ الْحَائِضِ وَنَبَّهَ عَلَى الْمَعْنَى وَهُوَ كَوْنُ الْمَحِيضِ أَذًى وَالْأَذَى فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ أَفْحَشُ وَأَذَمُّ فَكَانَ أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ "اهــ
 
مذهب السادة المالكية :
جاء في مواهب الجليل : "وأما الوطء في الدبر المشهور ما ذكره المصنف أنه لا يجوز"اهـ
جاء في شرح الخرشي : "( قَوْلُهُ خَلَا الْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ ) أَيْ فَيَجُوزُ أَنْ يَتَمَتَّعَ بِظَاهِرِهِ، وَلَوْ بِوَضْعِ الذَّكَرِ عَلَيْهِ خِلَافًا لِقَوْلِ تت يُمْنَعُ التَّمَتُّعُ بِالدُّبْرِ بِالنَّظَرِ وَدَلِيلُ حُرْمَةِ وَطْءِ الدُّبُرِ خَبَرُ النَّسَائِيّ " اهــ
 
مذهب السادة الشافعية :
جاء في الحاوي للماوردي :"قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ، وَمَا عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ الفضلاء وَجُمْهُورُ التَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَطْءَ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ أَنَّ وَطْءَ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ حَرَامٌ."اهــ
 
 
مذهب السادة الحنابلة :
جاء في المغني : " وَلَا يَحِلُّ وَطْءُ الزَّوْجَةِ فِي الدُّبُرِ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ "اهــ
قال في الإنصاف : "وَهَذَا أَيْضًا بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ."اهــ
جاء في كشاف القناع : "( وَيَحْرُمُ ) الْوَطْءُ ( فِي الدُّبُرِ ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – (إنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَدْبَارِهِنَّ ) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا : (لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَى رَجُلٍ جَامَعَ امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا ) رَوَاهُمَا ابْنُ مَاجَهْ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا :(مَنْ أَتَى حَائِضًا أَوْ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا، أَوْ أَتَى عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ) رَوَاهُ الْأَثْرَمُ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى :( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ).
فَرَوَى جَابِرٌ قَالَ " كَانَ الْيَهُودُ يَقُولُونَ إذَا جَامَعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فِي فَرْجِهَا مِنْ وَرَائِهَا جَاءَ الْوَلَدُ أَحْوَلُ " فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى :( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ) مِنْ بَيْنِ يَدَيْهَا وَمِنْ خَلْفِهَا غَيْر أَنْ لَا يَأْتِيَهَا إلَّا فِي الْمَأْتَى مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ أَيَّتُهَا مُقْبِلَةً وَمُدْبِرَةً إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْفَرْجِ."اهــ
 
مذهب السادة الظاهرية :
جاء في المحلى : "ولا يحل الوطء في الدبر أصلا، لا في امرأة ولا في غيرها، أما ما عدا النساء، فإجماع متيقن وأما في النساء، ففيه اختلاف، اختلف فيه عن ابن عمر."اهــ
 
المبحث الثالث : أدلة القائلين بحرمة وطء الدبر :
واستدلوا لتحريم ذلك بأدلة منها :
-       ما رواه أَبِو هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَفِي لَفْظٍ : ( لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَى رَجُلٍ جَامَعَ امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ.
-       وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ أَتَى حَائِضًا أَوْ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا أَوْ كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَقَالَ : فَقَدْ بَرِئَ مِمَّا أُنْزِلَ ).
-       وَعَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ : ( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ.
-       وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَعْجَازِهِنَّ، أَوْ قَالَ : فِي أَدْبَارِهِنَّ).
-       وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ :( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الَّذِي يَأْتِي امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا : هِيَ اللُّوطِيَّةُ الصُّغْرَى ) رَوَاهُمَا أَحْمَدُ .
-       وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ طَلْقٍ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَسْتَاهِهِنَّ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ.
-       وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَى رَجُلٍ أَتَى رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً فِي الدُّبُرِ )رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَدِيثٌ غَرِيبٌ ).
 
المبحث الرابع : مناقشة نسبة ذلك إلى الإمام مالك :
جاء في مواهب الجليل : "قد نفى المالكية نسبة هذا القول إلى مالك رحمه الله، ولهم مستندهم وحججهم في ذلك."اهــ
الحجة الأولى :
 هو أن هذا القول منسوب إليه في كتاب له يُدعى "كتاب السر" وهو كتاب مشكوك في نسبته إلى مالك.
 فقد جاء في مواهب الجليل : "والقول بالجواز منسوب لمالك في كتاب السر، وموجود له في اختصار المبسوط قاله ابن عبد السلام، قال: قال مالك إنه أحل من شرب الماء البارد، أما كتاب السر، فمنكر قال ابن فرحون وقفت عليه، فيه من الغض من الصحابة والقدح في دينهم، خصوصا عثمان رضي الله تعالى عنه، ومن الحط على العلماء والقدح فيهم ونسبتهم إلى قلة الدين مع إجماع أهل العلم على فضلهم، خصوصا أشهب ما لا أستبيح ذكره، وورع مالك ودينه ينافي ما اشتمل عليه كتاب السر، وهو جزء لطيف نحو ثلاثين ورقة انتهى."
 
قال القرطبي : "وحكي ذلك عن مالك في كتاب له يسمى "كتاب السر". وحذاق أصحاب مالك ومشايخهم ينكرون ذلك الكتاب، ومالك أجل من أن يكون له "كتاب سر". ووقع هذا القول في العتبية."اهــ
 
وقد أجيب عن ذلك بما يلي :
فقد  وقف عليه – أي كتاب السر هذا- الحافظ ابن حجر وغيره.
 
 فقال في التلخيص الحبير :
"وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ : نُصَّ فِي كِتَابِ السِّرِّ عَنْ مَالِكٍ عَلَى إبَاحَتِهِ، وَرَوَاهُ عَنْهُ أَهْلُ مِصْرَ، وَأَهْلُ الْمَغْرِبِ.
قُلْت : وَكِتَابُ السِّرِّ وَقَفْت عَلَيْهِ فِي كُرَّاسَةٍ لَطِيفَةٍ مِنْ رِوَايَةِ الْحَارِثِ بْنِ مِسْكِينٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ، وَهُوَ يَشْتَمِلُ عَلَى نَوَادِرَ مِنْ الْمَسَائِلِ، وَفِيهَا كَثِيرٌ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْخُلَفَاءِ، وَلِأَجْلِ هَذَا سُمِّيَ كِتَابُ السِّرِّ، وَفِيهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ أُسَامَةَ التُّجِيبِيُّ وَهَذَّبَهُ، وَرَتَّبَهُ عَلَى الْأَبْوَابِ، وَأَخْرَجَ لَهُ أَشْبَاهًا وَنَظَائِرَ فِي كُلِّ بَابٍ." اهــ
 
الحجة الثانية :
ما ذكره القرافي في الذخيرة:
"وَقَالَهُ الْأَئِمَّةُ وَنِسْبَتُهُ إِلَى مَالِكٍ كَذِبٌ، قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قُلْتُ لِمَالِكٍ إِنَّهُمْ حَكَوْا عَنْكَ حِلَّهُ فَقَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَلَيْسَ أَنْتُمْ قَوْمًا عَرَبًا قُلْتُ بَلَى قَالَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)،وَهَلْ يَكُونُ الْحَرْثُ إِلَّا فِي مَوْضِعِ الزَّرْعِ أَوْ مَوْضِعِ النَّبْتِ؟
وَقَالَ إِسْرَائِيلُ بْنُ رَوْحٍ : سَأَلْتُهُ عَنْ إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ، فَقَالَ : مَا أَنْتُمْ قَوْمٌ عَرَبٌ هَلْ يَكُونُ الْحَرْثُ إِلَّا فِي مَوْضِعِ الزَّرْعِ أَلَا تَسْمَعُونَ اللَّهَ يَقُولُ :(نِسَاؤُكُمْ حرث لكم فَأتوا حَرْثكُمْ أَنى شِئْتُم) قَاعِدَة وقائمة وعَلى جنبها وَلَا يَتَعَدَّى الْفَرْجَ، قُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إِنَّهُمْ يَنْقُلُونَ عَنْكَ حِلَّهُ، فَقَالَ: يَكْذِبُونَ عَلَيَّ، يَكْذِبُونَ عَلَيَّ، يَكْذِبُونَ عَلَيَّ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ.
وَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ زِيَادٍ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عِنْدَنَا قَوْمٌ بِمِصْرَ يُحَدِّثُونَ عَنْكَ أَنَّكَ تُجِيزُ الْوَطْءَ فِي الدُّبُرِ، فَقَالَ :كَذَبُوا عَلَيَّ، فَالرِّوَايَاتُ مُتَظَافِرَةٌ عَنْهُ بِتَكْذِيبِهِمْ وَكَذِبِهِمْ عَلَيْهِ."اهــ
 
وقد أجيب عن هذا بما يلي :
 
جاء في التلخيص الحبير : "وَرَوَى فِيهِ مِنْ طَرِيقِ مَعْنِ بْنِ عِيسَى، سَأَلْت مَالِكًا عَنْهُ فَقَالَ : مَا أَعْلَمُ فِيهِ تَحْرِيمًا.
وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي كِتَابِ الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ فِي شَرْحِ الْعُتْبِيَّةِ : رَوَى الْعُتْبِيُّ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ لَهُ، وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ مُخَلِّيًا بِهِ، فَقَالَ.
حَلَالٌ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : وَلَمْ أُدْرِك أَحَدًا اُقْتُدِيَ بِهِ فِي دِينٍ يَشُكُّ فِيهِ"اهـ
 
وينقل الحافظ خلاصة الكلام في هذه النسبة :
"مَا تَقَدَّمَ نَقْلُهُ عَنْ الْمَالِكِيَّةِ، لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَصْحَابِهِمْ إلَّا عَنْ نَاسٍ قَلِيلٍ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : كَانَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْأَصِيلِيُّ يُجِيزُهُ وَيَذْهَبُ فِيهِ إلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُحَرَّمٍ، وَصَنَّفَ فِي إبَاحَتِهِ مُحَمَّدُ بْنُ سَحْنُونٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ شَعْبَانَ، وَنَقَلَا ذَلِكَ عَنْ جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنْ التَّابِعِينَ.
وَفِي كَلَامِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ وَالْمَازِرِيِّ مَا يُومِئُ إلَى جَوَازِ ذَلِكَ أَيْضًا، وَحَكَى ابْنُ بَزِيزَةَ فِي تَفْسِيرِهِ، عَنْ عِيسَى بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : هُوَ أَحَلُّ مِنْ الْمَاءِ الْبَارِدِ، وَأَنْكَرَهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَصْلًا وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَابْنُ عَطِيَّةَ قَبْلَهُ : لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ بِذَلِكَ، وَلَوْ ثَبَتَتْ الرِّوَايَةُ فِيهِ لِأَنَّهَا مِنْ الزَّلَّاتِ.
وَذَكَرَ الْخَلِيلِيُّ فِي الْإِرْشَادِ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ أَنَّ مَالِكًا رَجَعَ عَنْهُ، وَفِي مُخْتَصَرِ ابْنِ الْحَاجِبِ، عَنْ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ إنْكَارُ ذَلِكَ، وَتَكْذِيبُ مَنْ نَقَلَهُ عَنْهُ، لَكِنَّ الَّذِي رَوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهِ.
وَالصَّوَابُ مَا حَكَاهُ الْخَلِيلِيُّ فَقَدْ ذَكَرَ الطَّبَرِيُّ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ أَبَاحَهُ، رَوَى الثَّعْلَبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ طَرِيقِ الْمُزَنِيِّ قَالَ : كُنْت عِنْدَ ابْنِ وَهْبٍ وَهُوَ يَقْرَأُ عَلَيْنَا رِوَايَةَ مَالِكٍ فَجَاءَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ : يَا أَبَا مُحَمَّدٍ ارْوِ لَنَا مَا رَوَيْت، فَامْتَنَعَ أَنْ يَرْوِيَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَقَالَ : أَحَدُكُمْ يَصْحَبُ الْعَالِمَ، فَإِذَا تَعَلَّمَ مِنْهُ لَمْ يُوجِبْ لَهُ مِنْ حَقِّهِ مَا يَمْنَعُهُ مِنْ أَقْبَحِ مَا يُرْوَى عَنْهُ، وَأَبَى أَنْ يَرْوِيَ ذَلِكَ.
وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ كَرَاهَتُهُ، وَتَكْذِيبُ مَنْ نَقَلَهُ عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، أَخْرَجَهُ الْخَطِيبُ فِي الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ حِصْنٍ، عَنْ إسْرَائِيلَ بْنِ رَوْحٍ، قَالَ : سَأَلْت مَالِكًا عَنْهُ، فَقَالَ : مَا أَنْتُمْ قَوْمُ عَرَبٍ، هَلْ يَكُونُ الْحَرْثُ إلَّا مَوْضِعَ الزَّرْعِ ؟ قُلْت : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ، قَالَ : يَكْذِبُونَ عَلَيَّ، وَالْعُهْدَةُ فِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ عَلَى إسْمَاعِيلَ فَإِنَّهُ وَاهِي الْحَدِيثِ.
وَقَدْ رَوَيْنَا فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ لِلْحَاكِمِ قَالَ : نَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، نَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ الْبَيْرُوتِيُّ، نَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بِشْرُ بْنُ بَكْرٍ، سَمِعْت الْأَوْزَاعِيَّ يَقُولُ : يُجْتَنَبُ، أَوْ يُتْرَكُ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْحِجَازِ خَمْسٌ، وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْعِرَاقِ خَمْسٌ، مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْحِجَازِ : اسْتِمَاعُ الْمَلَاهِي، وَالْمُتْعَةُ، وَإِتْيَانُ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ، وَالصَّرْفُ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَمِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِرَاقِ : شُرْبُ النَّبِيذِ، وَتَأْخِيرُ الْعَصْرِ حَتَّى يَكُونَ ظِلُّ الشَّيْءِ أَرْبَعَةَ أَمْثَالِهِ، وَلَا جُمُعَةَ إلَّا فِي سَبْعَةِ أَمْصَارٍ، وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ، وَالْأَكْلُ بَعْدَ الْفَجْرِ فِي رَمَضَانَ.
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ : لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَخَذَ بِقَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ : فِي اسْتِمَاعِ الْغِنَاءِ، وَإِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ، وَبِقَوْلِ أَهْلِ مَكَّةَ : فِي الْمُتْعَةِ، وَالصَّرْفِ، وَبِقَوْلِ أَهْلِ الْكُوفَةِ : فِي الْمُسْكِرِ، كَانَ شَرَّ عِبَادِ اللَّهِ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنِ أُسَامَةَ التُّجِيبِيُّ : نَا أَبِي، سَمِعْت الرَّبِيعَ بْنَ سُلَيْمَانَ الْجِيزِيَّ يَقُولُ : أَنَا أَصْبَغُ ؛ قَالَ : سُئِلَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ فِي الْجَامِعِ، فَقَالَ : لَوْ جُعِلَ لِي مِلْءُ هَذَا الْمَسْجِدِ ذَهَبًا مَا فَعَلْته، قَالَ : ونَا أَبِي سَمِعْت الْحَارِثَ بْنَ مِسْكِينٍ يَقُولُ : سَأَلْت ابْنَ الْقَاسِمِ عَنْهُ فَكَرِهَهُ لِي.
قَالَ : وَسَأَلَهُ غَيْرِي فَقَالَ : كَرِهَهُ مَالِكٌ."اهــ
 
وأورد السيوطي في الدر المنثور:
وأخرج الخطيب في رواة مالك عن أبي سليمان الجرجاني قال : سألت مالك بن أنس عن وطء الحلائل في الدبر فقال لي : الساعة غسلت رأسي منه.
وأخرج ابن جرير في كتاب النكاح من طريق ابن وهب عن مالك : أنه مباح.
وأخرج الطحاوي من طريق أصبغ بن الفرج عن عبدالله بن القاسم قال : ما أدركت أحداً اقتدى به في ديني يشك في أنه حلال، يعني وطء المرأة في دبرها، ثم قرأ ( نساؤكم حرث لكم) ثم قال : فأي شيء أبين من هذا.
 
وجاء في فتح الباري لابن حجر:
"عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن الْقَاسِم قُلْت لِمَالِك : إِنَّ نَاسًا يَرْوُونَ عَنْ سَالِم : كَذَبَ الْعَبْد عَلَى أَبِي، فَقَالَ مَالِك : أَشْهَد عَلَى زَيْد بْن رُومَان أَنَّهُ أَخْبَرَنِي عَنْ سَالِم بْن عَبْد اللَّه بْن عُمَر عَنْ أَبِيهِ مِثْل مَا قَالَ نَافِع، فَقُلْت لَهُ : إِنَّ الْحَارِث بْن يَعْقُوب يَرْوِي عَنْ سَعِيد بْن يَسَار عَنْ اِبْن عُمَر أَنَّهُ قَالَ أُفّ، أَوَيَقُول ذَلِكَ مُسْلِم ؟ فَقَالَ مَالِك : أَشْهَد عَلَى رَبِيعَة لَأَخْبَرَنِي عَنْ سَعِيد بْن يَسَار عَنْ اِبْن عُمَر مِثْل مَا قَالَ نَافِع، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيق عَبْد الرَّحْمَن بْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك وَقَالَ : هَذَا مَحْفُوظ عَنْ مَالِك صَحِيح ا ه"
 
وقال الحافظ بعد ذكر قصة إسرائيل بن روح :
"وَعَلَى هَذِهِ الْقِصَّة اِعْتَمَدَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ الْمَالِكِيَّة، فَلَعَلَّ مَالِكًا رَجَعَ عَنْ قَوْله الْأَوَّل، أَوْ كَانَ يَرَى أَنَّ الْعَمَل عَلَى خِلَاف حَدِيث اِبْن عُمَر فَلَمْ يَعْمَل بِهِ، وَإِنْ كَانَتْ الرِّوَايَة فِيهِ صَحِيحَة عَلَى قَاعِدَته."اهــ
 
 
المبحث الخامس : مناقشة نسبة هذا القول إلى الشافعي :
 
جاء في الحاوي الكبير :
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : اعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ، وَمَا عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ الفضلاء وَجُمْهُورُ التَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَطْءَ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ أَنَّ وَطْءَ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ حَرَامٌ.
جاء في التلخيص الحبير :
قَوْلُهُ : وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ : لَمْ يَصِحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَحْرِيمِهِ وَلَا فِي تَحْلِيلِهِ شَيْءٌ، وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ حَلَالٌ،
قُلْت : هَذَا سَمِعَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ مُحَمَّدٍ، وَكَذَلِكَ الطَّحَاوِيُّ، وَأَخْرَجَهُ عَنْهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ لَهُ، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ، عَنْ الْأَصَمِّ، عَنْهُ، وَأَخْرَجَهُ الْخَطِيبُ، عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ مُوسَى، عَنْ الْأَصَمِّ.
وَرَوَى الْحَاكِمُ، عَنْ نَصْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُعَدَّلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ شَعْبَانَ الْفَقِيهِ، قَالَ : ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عِيَاضٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمَّادٍ قَالَا : نَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِيَانِ ابْنَ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ : قَالَ الشَّافِعِيُّ كَلَامًا كَلَّمَ بِهِ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ فِي مَسْأَلَةِ إتْيَانِ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا، قَالَ : سَأَلَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، فَقُلْت لَهُ : إنْ كُنْت تُرِيدُ الْمُكَابَرَةَ، وَتَصْحِيحَ الرِّوَايَاتِ وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ، فَأَنْتَ أَعْلَمُ، وَإِنْ تَكَلَّمْتَ بِالْمُنَاصَفَةِ، كَلَّمْتُك، قَالَ : عَلَى الْمُنَاصَفَةِ.
قُلْت : فَبِأَيِّ شَيْءٍ حَرَّمْته قَالَ : بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ }.
وَقَالَ : { فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } وَالْحَرْثُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْفَرْجِ،
قُلْت : أَفَيَكُونُ ذَلِكَ مُحَرِّمًا لِمَا سِوَاهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ، قُلْت : فَمَا تَقُولُ : لَوْ وَطِئَهَا بَيْنَ سَاقَيْهَا، أَوْ فِي أَعْكَانِهَا، أَوْ تَحْتَ إبْطِهَا، أَوْ أَخَذَتْ ذَكَرَهُ بِيَدِهَا، أَفِي ذَلِكَ حَرْثٌ ؟ قَالَ : لَا، قُلْت : أَفَيُحَرَّمُ ذَلِكَ ؟ قَالَ : لَا، قُلْت : فَلِمَ تَحْتَجُّ بِمَا لَا حُجَّةَ فِيهِ ؟ قَالَ : فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: { وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } الْآيَةَ، قَالَ : فَقُلْت لَهُ : إنَّ هَذَا مِمَّا يَحْتَجُّونَ بِهِ لِلْجَوَازِ، إنَّ اللَّهَ أَثْنَى عَلَى مَنْ حَفِظَ فَرْجَهُ مِنْ غَيْرِ زَوْجَتِهِ، وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ، فَقُلْت : أَنْتَ تَتَحَفَّظُ مِنْ زَوْجَتِهِ وَمِمَّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ.
قَالَ الْحَاكِمُ : لَعَلَّ الشَّافِعِيَّ كَانَ يَقُولُ بِذَلِكَ فِي الْقَدِيمِ، فَأَمَّا فِي الْجَدِيدِ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ حَرَّمَهُ.
قَوْلُهُ : قَالَ الرَّبِيعُ : كَذَبَ وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ، قَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى تَحْرِيمِهِ فِي سِتَّةِ كُتُبٍ، هَذَا سَمِعَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ مِنْ الرَّبِيعِ، وَحَكَاهُ عَنْهُ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي، وَأَبُو نَصْرِ بْنُ الصَّبَّاغِ فِي الشَّامِلِ، وَغَيْرُهُمَا، وَتَكْذِيبُ الرَّبِيعِ لِمُحَمَّدٍ لَا مَعْنَى لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْفَرِدْ بِذَلِكَ، فَقَدْ تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَخُوهُ عَنْ الشَّافِعِيِّ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بْنُ أُسَامَةَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي السَّمْحِ الْمِصْرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ : سَمِعْت عَبْدَ الرَّحْمَنِ.
فَذَكَرَ نَحْوَهُ عَنْ الشَّافِعِيِّ، وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ، عَنْ الْأَصَمِّ، عَنْ الرَّبِيعِ، قَالَ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : قَالَ اللَّهُ : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ }
احْتَمَلَتْ الْآيَةُ مَعْنَيَيْنِ :
أَحَدَهُمَا : أَنْ تُؤْتَى الْمَرْأَةُ مِنْ حَيْثُ شَاءَ زَوْجُهَا ؛ لِأَنَّ ( أَنَّى شِئْتُمْ }، يَأْتِي بِمَعْنَى أَيْنَ شِئْتُمْ.
ثَانِيَهُمَا : أَنَّ الْحَرْثَ إنَّمَا يُرَادُ بِهِ النَّبَاتُ فِي مَوْضِعِهِ دُونَ مَا سِوَاهُ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ، وَأَحْسِبُ كُلًّا مِنْ الْفَرِيقَيْنِ تَأَوَّلُوا مَا وَصَفْت مِنْ احْتِمَالِ الْآيَةِ، قَالَ : فَطَلَبْنَا الدَّلَالَةَ مِنْ السُّنَّةِ، فَوَجَدْنَا حَدِيثَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، أَحَدُهُمَا ثَابِتٌ وَهُوَ حَدِيثُ خُزَيْمَةَ فِي التَّحْرِيمِ، قَالَ، فَأَخَذْنَا بِهِ.
قَوْلُهُ : وَفِي مُخْتَصَرِ الْجُوَيْنِيِّ أَنَّ بَعْضَهُمْ أَقَامَ مَا رَوَاهُ، أَيْ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَوْلًا، انْتَهَى.
وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ قَوْلٌ قَدِيمٌ، وَقَدْ رَجَعَ عَنْهُ الشَّافِعِيُّ كَمَا قَالَ الرَّبِيعُ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ إطْلَاقِ الرَّبِيعِ تَكْذِيبَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ فِي ثِقَتِهِ وَأَمَانَتِهِ، وَإِنَّمَا اغْتَرَّ مُحَمَّدٌ بِكَوْنِ الشَّافِعِيِّ قَصَّ لَهُ الْقِصَّةَ الَّتِي وَقَعَتْ لَهُ بِطَرِيقِ الْمُنَاظَرَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَالِمَ فِي الْمُنَاظَرَةِ يَتَقَذَّرُ الْقَوْلَ وَهُوَ لَا يَخْتَارُهُ، فَيَذْكُرُ أَدِلَّتَهُ إلَى أَنْ يَنْقَطِعَ خَصْمُهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ فِي الْمُنَاظَرَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
 
 
المبحث السادس : مناقشة نسبة هذا القول إلى ابن عمر رضي الله عنهما :
قد أخرج ذلك عنه ابن جرير وغيره.
وجاء في الدر المنثور للسيوطي :" وقال ابن عبد البر : الرواية عن ابن عمر بهذا المعنى صحيحة معروفة عنه مشهورة"اهــ
وقد بحثها الحافظ فقال في التلخيص الحبير فقال :" وَالْمَدَنِيُّونَ يَرْوُونَ الرُّخْصَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُشِيرُ بِذَلِكَ إلَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي سَعِيدٍ، أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ : فَلَهُ طُرُقٌ رَوَاهُ عَنْهُ نَافِعٌ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَسَعِيدُ بْنُ يَسَارٍ، وَغَيْرُهُمْ، أَمَّا نَافِعٌ، فَاشْتُهِرَ عَنْهُ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا، مِنْهَا رِوَايَةُ مَالِكٍ، وَأَيُّوبَ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمْرِيِّ، وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ، وَهِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، وَعُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ، وَأَبَانَ بْنِ صَالِحٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْن أَبِي فَرْوَةَ.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ، فِي أَحَادِيثِ مَالِكٍ الَّتِي رَوَاهَا خَارِجَ الْمُوَطَّأِ : نَا أَبُو جَعْفَرٍ الْأُسْوَانِيُّ الْمَالِكِيُّ بِمِصْرٍ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمَّادٍ، نَا أَبُو الْحَارِثِ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الْفِهْرِيُّ، نَا أَبُو ثَابِتٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ : قَالَ لِي ابْنُ عُمَرَ : أَمْسِكْ عَلَيَّ الْمُصْحَفَ يَا نَافِعُ، فَقَرَأَ حَتَّى أَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ } فَقَالَ : تَدْرِي يَا نَافِعُ، فِيمَنْ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ؟.
قَالَ : قُلْت : لَا.
قَالَ : فَقَالَ لِي : فِي رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ أَصَابَ امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا، فَأَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ } الْآيَةَ.
قَالَ نَافِعٌ : فَقُلْت لِابْنِ عُمَرَ : مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا ؟ قَالَ : لَا، إلَّا فِي دُبُرِهَا، قَالَ أَبُو ثَابِتٍ : وَحَدَّثَنِي بِهِ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ مَالِكٍ، وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ وَفِيهِمَا عَنْ نَافِعٍ مِثْلُهُ، وَفِي تَفْسِيرِ الْبَقَرَةِ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، نَا إِسْحَاقُ، أَنَا النَّضْرُ، أَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ : كَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ، قَالَ : فَأَخَذْت عَلَيْهِ يَوْمًا، فَقَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ حَتَّى انْتَهَى إلَى مَكَان، فَقَالَ : تَدْرِي فِيمَ أُنْزِلَتْ ؟ فَقُلْت : لَا.
قَالَ : نَزَلَتْ فِي كَذَا وَكَذَا.
ثُمَّ مَضَى، وَعَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ : حَدَّثَنِي أَبِي - يَعْنِي عَبْدَ الْوَارِثِ -، حَدَّثَنِي أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْله تَعَالَى : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ } قَالَ : يَأْتِيهَا فِي.
قَالَ : وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ هَكَذَا وَقَعَ عِنْدَهُ، وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى فِي تَفْسِيرِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ مِثْلُ مَا سَاقَ، لَكِنَّ عَيْنَ الْآيَةِ وَهِيَ { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ } وَغَيْرُ قَوْلِهِ كَذَا وَكَذَا فَقَالَ : نَزَلَتْ فِي إتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ، وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ ابْنِ عَوْنٍ، وَأَمَّا رِوَايَةُ عَبْدِ الصَّمَدِ فَهِيَ تَفْسِيرُ إِسْحَاقَ أَيْضًا عَنْهُ.
وَقَالَ فِيهِ : يَأْتِيهَا فِي الدُّبُرِ، وَأَمَّا رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ فَأَخْرَجَهَا الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْأَعْيَنِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ بِلَفْظِ : إنَّمَا نَزَلَتْ { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ } رُخْصَةً فِي إتْيَانِ الدُّبُرِ، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ مِنْ طَرِيقِ عِيسَى بْنِ مَثْرُودٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، وَمِنْ طَرِيقِ سَهْلِ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ مِنْ طَرِيقِ زَكَرِيَّا السَّاجِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَارِثِ الْمَدَنِيِّ، عَنْ أَبِي مُصْعَبٍ، وَرَوَاهُ الْخَطِيبُ فِي الرُّوَاةِ عَنْ مَالِكٍ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ الْحَكَمِ الْعَبْدِيِّ، وَرَوَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدِ الْفَرْوِيِّ، وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي تَارِيخِ أَصْبَهَانَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ صَدَقَةَ الْفَدَكِيِّ كُلُّهُمْ عَنْ مَالِكٍ.
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ : هَذَا ثَابِتٌ عَنْ مَالِكٍ.
وَأَمَّا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ فَرَوَى النَّسَائِيُّ، وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْهُ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ : { أَنَّ رَجُلًا أَتَى امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَ مِنْ ذَلِكَ وَجْدًا شَدِيدًا }.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ } الْآيَةَ، وَأَمَّا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ : فَرَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ عَنْهُ : أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يَرَى بِهِ بَأْسًا، مَوْقُوفٌ، وَأَمَّا سَعِيدُ بْنُ يَسَارٍ : فَرَوَى النَّسَائِيُّ، وَالطَّحَاوِيُّ، وَالطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ : قُلْت لِمَالِكٍ : إنَّ عِنْدَنَا بِمِصْرٍ اللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ يُحَدِّثْ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ : قُلْت لِابْنِ عُمَرَ : " إنَّا نَشْتَرِي الْجَوَارِيَ فَنُحَمِّضُ لَهُنَّ ".
وَالتَّحْمِيضُ الْإِتْيَانُ فِي الدُّبُرِ، فَقَالَ : أُفٍّ أَوَ يَفْعَلُ هَذَا مُسْلِمٌ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : فَقَالَ لِي مَالِكٌ : أَشْهَدُ عَلَى رَبِيعَةَ لَحَدَّثَنِي، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ عَنْهُ، فَقَالَ : لَا بَأْسَ بِهِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ : فَرَوَى أَبُو يَعْلَى وَابْنُ مَرْدُوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ، وَالطَّبَرِيُّ وَالطَّحَاوِيُّ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ
سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ : " أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا، فَأَنْكَرَ النَّاسُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَقَالُوا : ثَفَّرَهَا ".
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ }.
وَرَوَاهُ أُسَامَةُ بْنُ أَحْمَدَ التُّجِيبِيُّ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ وَلَفْظُهُ : كُنَّا نَأْتِي النِّسَاءَ فِي أَدْبَارِهِنَّ، وَيُسَمَّى ذَلِكَ الْإِثْفَارُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ.
وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ مَعْنِ بْنِ عِيسَى، عَنْ هِشَامٍ، وَلَمْ يُسَمِّ أَبَا سَعِيدٍ قَالَ : كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، قُلْت : وَقَدْ أَثْبَتَ ابْنُ عَبَّاسٍ الرِّوَايَةَ فِي ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ، فَرَوَى أَبُو دَاوُد مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبَانَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : إنَّ ابْنَ عُمَرَ وَاَللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ أَوْهَمَ، إنَّمَا كَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ وَهُمْ أَهْلُ وَثَنٍ، مَعَ هَذَا الْحَيِّ مِنْ يَهُودَ وَهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وَكَانُوا يَرَوْنَ لَهُمْ فَضْلًا عَلَيْهِمْ مِنْ الْعِلْمِ، فَكَانُوا يَقْتَدُونَ بِكَثِيرٍ مِنْ فِعْلِهِمْ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يَأْتُونَ النِّسَاءَ إلَّا عَلَى حَرْفٍ، وَذَلِكَ أَسْتَرُ مَا تَكُونُ الْمَرْأَةُ، فَكَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ قَدْ أَخَذُوا بِذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ، وَكَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ قُرَيْشٍ يُشَرِّحُونَ النِّسَاءَ شَرْحًا مُنْكَرًا، وَيَتَلَذَّذُونَ مِنْهُنَّ مُقْبِلَاتٍ وَمُدْبِرَاتٍ وَمُسْتَلْقِيَاتٍ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَةَ تَزَوَّجَ رَجُلٌ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ، فَذَهَبَ يَصْنَعُ بِهَا ذَلِكَ، فَأَنْكَرَتْهُ عَلَيْهِ، وَقَالَتْ : إنَّمَا كُنَّا نُؤْتَى عَلَى حَرْفٍ، فَاصْنَعْ ذَلِكَ وَإِلَّا فَاجْتَنِبْنِي، فَسَرَى أَمْرُهُمَا حَتَّى بَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى : - { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } أَيْ : مُقْبِلَاتٍ وَمُدْبِرَاتٍ وَمُسْتَلْقِيَاتٍ يَعْنِي بِذَلِكَ مَوْضِعَ الْوَلَدِ.
وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ." اهــــ
 
يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى :
وَأَمَّا " إتْيَانُ النِّسَاءُ فِي أَدْبَارِهِنَّ " فَهَذَا مُحَرَّمٌ عِنْدَ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ. وَأَمَّا الْقَوْلُ الْآخَرُ بِالرُّخْصَةِ فِيهِ : فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْكِيهِ رِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ وَنَافِعٌ نَقَلَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ لَمَّا قَرَأَ عَلَيْهِ:(نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ)  قَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ : إنَّهَا نَزَلَتْ فِي إتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ.
 فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ غَلَّطَ نَافِعٌ عَلَى ابْنِ عُمَرَ أَوْ لَمْ يَفْهَمْ مُرَادَهُ ؛ وَكَانَ مُرَادُهُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي إتْيَانِ النِّسَاءِ مِنْ جِهَةِ الدُّبُرِ فِي الْقُبُلِ ؛ فَإِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَكَانَتْ
الْيَهُودُ تَنْهَى عَنْ ذَلِكَ وَتَقُولُ : إذَا أَتَى الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ فِي قُبُلِهَا مِنْ دُبُرِهَا جَاءَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ.
 " وَالْحَرْثُ " مَوْضِعُ الْوَلَدِ ؛ وَهُوَ الْقُبُلُ. فَرَخَّصَ اللَّهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَطَأَ الْمَرْأَةَ فِي قُبُلِهَا مِنْ أَيِّ الْجِهَاتِ شَاءَ.
 وَكَانَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ يَقُولُ : كَذَبَ الْعَبْدُ عَلَى أَبِي. وَهَذَا مِمَّا يُقَوِّي غَلَطَ نَافِعٍ عَلَى ابْنِ عُمَرَ ؛ فَإِنَّ الْكَذِبَ كَانُوا يُطْلِقُونَهُ بِإِزَاءِ الْخَطَأِ ؛ كَقَوْلِ عبادة : كَذَبَ أَبُو مُحَمَّدٍ. لَمَّا قَالَ : الْوِتْرُ وَاجِبٌ. وَكَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ : كَذَبَ نَوْفٌ : لَمَّا قَالَ لِمَا صَاحَبَ الْخَضِرَ لَيْسَ مُوسَى بَنِي إسْرَائِيلَ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : ابْنُ عُمَرَ هُوَ الَّذِي غَلِطَ فِي فَهْمِ الْآيَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذَلِكَ كَانَ ؛ لَكِنْ نُقِلَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ. أَوَيَفْعَلُ هَذَا مُسْلِمٌ لَكِنْ بِكُلِّ حَالٍ مَعْنَى الْآيَةِ هُوَ مَا فَسَّرَهَا بِهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَسَبَبُ النُّزُولِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ."اهـــ
 
المبحث السابع : سبب خلافهم في حكم الوطء في الدبر :
 
يرجع سبب خلاف العلماء في ذلك إلى خلافهم في سبب نزول قوله جل وعلا : ( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ )
 
وجاء في فتح الباري :"وَقَالَ الْمَازِرِيُّ : اِخْتَلَفَ النَّاس فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَة وَتَعَلَّقَ مَنْ قَالَ بِالْحِلِّ بِهَذِهِ الْآيَة، وَانْفَصَلَ عَنْهَا مَنْ قَالَ يَحْرُم بِأَنَّهَا نَزَلَتْ بِالسَّبَبِ الْوَارِد فِي حَدِيث جَابِر فِي الرَّدّ عَلَى الْيَهُود، يَعْنِي كَمَا فِي حَدِيث الْبَاب الْآتِي.
قَالَ : وَالْعُمُوم إِذَا خَرَجَ عَلَى سَبَب قَصُرَ عَلَيْهِ عِنْد بَعْض الْأُصُولِيِّينَ، وَعِنْد الْأَكْثَر الْعِبْرَة بِعُمُومِ اللَّفْظ لَا بِخُصُوصِ السَّبَب، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُون الْآيَة حُجَّة فِي الْجَوَاز، لَكِنْ وَرَدَتْ أَحَادِيث كَثِيرَة بِالْمَنْعِ فَتَكُون مُخَصِّصَة لِعُمُومِ الْآيَة، وَفِي تَخْصِيص عُمُوم الْقُرْآن بِبَعْضِ خَبَر الْآحَاد خِلَاف ا ه.
وَذَهَبَ جَمَاعَة مِنْ أَئِمَّة الْحَدِيث - كَالْبُخَارِيِّ وَالذُّهْلِيِّ وَالْبَزَّار وَالنَّسَائِيِّ وَأَبِي عَلِيّ النَّيْسَابُورِيّ - إِلَى أَنَّهُ لَا يَثْبُت فِيهِ شَيْء."اهـــ
 
المبحث الثامن : مناقشة أدلة المبيحين للوطء في الدبر :
 
-       احتج المبيحون للوطء في الدبر، برواية ابن عمر رضي الله عنهما لسبب نزول الآية.
-      وقد أجيب عن هذا بما يلي :
-      فجاء في سبل السلام :" وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا عَلَى ثَلَاثِهِ أَقْوَالٍ :
 ( الْأَوَّلُ ) مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ أَنَّهُ فِي إتْيَانِ الْمَرْأَةِ مِنْ وَرَائِهَا فِي قُبُلِهَا، وَأَخْرَجَ هَذَا الْمَعْنَى جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ عَنْ جَابِرٍ، وَغَيْرِهِ، وَاجْتَمَعَ فِيهِ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ طَرِيقًا صَرَّحَ فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ إلَّا فِي الْقُبُلِ، وَفِي أَكْثَرِهَا الرَّدُّ عَلَى الْيَهُودِ.
( الثَّانِي ) أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي حِلِّ إتْيَانِ دُبُرِ الزَّوْجَةِ أَخْرَجَهُ جَمَاعَةٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ طَرِيقًا
( الثَّالِثُ ) أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي حِلِّ الْعَزْلِ عَنْ الزَّوْجَةِ أَخْرَجَهُ أَئِمَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مُقَدَّمٌ عَلَى غَيْرِهِ فَالرَّاجِحُ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَابْنُ عُمَرَ قَدْ اخْتَلَفَتْ عَنْهُ الرِّوَايَةُ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهَا الْعَزْلُ لَا يُنَاسِبُهُ لَفْظُ الْآيَةِ ".
-       يقول ابن حزم في المحلى :" وهذا لا حجة لهم فيه لان "أنى" في لغة العرب التى نزل بها القرآن إنما هي بمعنى "من أين" لا بمعنى أين فإذا كان ذلك كذلك، فإنما معناه من أين شئتم قال الله عز وجل: (يا مريم أنى لك هذا) بمعنى من أين لك هذا.
-        وقالوا: لو حرم من المرأة شئ لحرم جميعها
-       قال أبو محمد: هذا كما قالوا لو لم يأت نص بتحريمه، وقالوا: وطء المجموعة جائز وربما مال الذكر إلى الدبر قال على: إذا لم يتمكن من وطئ المجموعة إلا بالإيلاج في الدبر فوطئها حرام"اهـ
-       واحتجوا أيضا بما يلي :
جاء في الحاوي للماوردي : " قوله تعالى:( أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ)[الشُّعَرَاءِ : 165، 166 ].
فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَبَاحَ مِنَ الْأَزْوَاجِ مِثْلَ مَا حَظَرَ مِنَ الذُّكْرَانِ.
 وَقَالَ تَعَالَى : (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) [ الْبَقَرَةِ : 187 ]
فدَلَّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَهُنَّ لِبَاسٌ يُسْتَمْتَعُ بِهِ عَلَى عُمُومِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوِ اسْتَثْنَاهُ مِنْ عَقْدِ النِّكَاحِ فَسَدَ، وَلَوْ أَوْقَعَ عَلَيْهِ الطَّلَاقَ سَرَى إِلَى الْبَاقِي، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَقْصُودٌ بِالِاسْتِمْتَاعِ، كَالْقُبُلِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا سَاوَى الْقُبُلَ فِي كَمَالِ الْمَهْرِ، وَتَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ، وَوُجُوبِ الْحَدِّ، سَاوَاهُ فِي الْإِبَاحَةِ.
" وَدَلِيلُنَا " :
 قَوْلُهُ تَعَالَى : (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ) [الْبَقَرَةِ : 222 ].
 فَحَرَّمَ الْوَطْءَ فِي الْحَيْضِ : لِأَجْلِ الْأَذَى، فَكَانَ الدُّبُرُ أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ : لِأَنَّهُ أَعْظَمُ أَذًى، ثُمَّ قَالَ : فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [ الْبَقَرَةِ : 222 ].
 يَعْنِي فِي الْقُبُلِ، فَدَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ إِتْيَانِهَا فِي الدُّبُرِ."اهــ
-       وجاء فيه أيضا :" وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، أَمَّا عَلِيٌّ سُئِلَ عَنْهُ فَقَالَ : (أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ)[ الْأَعْرَافِ : 80 ].
 وَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْهُ فَقَالَ : هَذَا يَسْأَلُنِي عَنِ الْكُفْرِ، وَأَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ فَغَلَّظَا فِيهِ وَحَرَّمَاهُ، وَلَيْسَ لِمَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ فَصَارَ إِجْمَاعًا.
-        فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ خَالَفَهُمُ ابْنُ عُمَرَ، قِيلَ : قَدْ رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ سَالِمٌ خِلَافَهُ، وَأَنْكَرَ عَلَى نَافِعٍ مَا رَوَاهُ عَنْهُ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عُثْمَانَ لِنَافِعٍ : أَنْتَ رَجُلٌ أَعْجَمِيٌّ، إِنَّمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ : مِنْ دُبُرِهَا
فِي قُبُلِهَا، فَصَحَّفْتَ وَقُلْتَ : فِي دُبُرِهَا، فَأَهْلَكْتَ النِّسَاءَ."اهـــ
 
-       وقال أيضا :" وَمِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ أَنَّهُ إِتْيَانٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُحَرَّمًا كَاللِّوَاطِ، وَلِأَنَّهُ أَذًى مُعْتَادٌ فَوَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ الْإِصَابَةُ فِيهِ كَالْحَيْضِ، وَلَا يَدْخُلَ عَلَيْهِ وَطْءُ الْمُسْتَحَاضَةِ : لِأَنَّهُ نَادِرٌ.
 
فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَقَدْ رَوَى جَابِرٌ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا مَا ذَكَرَتْهُ الْيَهُودُ : أَنَّ مَنْ أَتَى امْرَأَةً مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا جَاءَ وَلَدُهُ أَحْوَلَ.
 وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : وَهِمَ ابْنُ عُمَرَ فِي ذَلِكَ، إِنَّمَا نَزَلَتْ فِيمَنْ وَطَءَ فِي الْفَرْجِ مِنْ خَلْفِهَا، وَحُكِيَ عَنِ النَّبِيِّ {صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ} عَلَى أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ {صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ} جَلَسُوا يَوْمًا مَعَ قَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ، فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ إِنِّي لَآتِي امْرَأَتِي وَهِيَ مُضْطَجِعَةٌ، وَيَقُولُ الْآخَرُ إِنِّي لَآتِيهَا وَهِيَ قَائِمَةٌ، وَيَقُولُ الْآخَرُ إِنِّي لَآتِيهَا
وَهِيَ عَلَى جَنْبِهَا، وَيَقُولُ الْآخَرُ إِنِّي لَآتِيهَا وَهِيَ بَارِكَةٌ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ : مَا أَنْتُمْ إِلَّا أَمْثَالُ الْبَهَائِمِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ : حَرْثٌ لَكُمْ وَالْحَرْثُ هُوَ مِنْ مُزْدَرَعِ الْأَوْلَادِ فِي الْقُبُلِ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِبَاحَةَ تَوَجَّهَتْ إِلَيْهِ دُونَ الدُّبُرِ الَّذِي لَيْسَ بِمَوْضِعِ حَرْثٍ، وَلَا مِنْ مُزْدَرِعٍ لِذَلِكَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى :( أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ )  [ الشُّعَرَاءِ : 165، 166 ] فَمَعْنَاهُ أَتَأْتُونَ الْمَحْظُورَ مِنَ الذُّكْرَانِ، وَتَذَرُوَنَ الْمُبَاحَ مِنْ فُرُوجِ النِّسَاءِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ [ الْبَقَرَةِ : 187 ].
 فِيهِ تَأْوِيلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ اللِّبَاسَ السَّكَنُ كَقَوْلِهِ : وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا [ الْفَرْقَانِ : 47 ] أَيْ سَكَنًا.
وَالثَّانِي : أَنْ بَعْضَهُمْ يَسْتُرُ بَعْضًا كَاللِّبَاسِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ عَلَى التَّأْوِيلَيْنِ دَلِيلٌ لَهُمْ.
وَأَمَّا فَسَادُ الْعَقْدِ بِاسْتِثْنَائِهِ وَسَرَائِهِ الطَّلَاقُ بِهِ فَقَدْ يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِاسْتِثْنَاءِ كُلِّ عُضْوٍ لَا يَصِحُّ الِاسْتِمْتَاعُ بِهِ مِنْ فُؤَادِهَا وَكَبِدِهَا، وَيَسْرِي مِنْهُ الطَّلَاقُ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِهَا وَلَا يَدُلُّ عَلَى إِبَاحَةِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِ، فَكَذَلِكَ الدُّبُرُ."اهـــ
-      ومما احتجوا به أنه لم يصح حديث في تحريم الوطء في الدبر وكل ماورد فلا يسلم  من علة.
-       وأجيب عن ذلك فقال ابن الملقن في البدر المنير :
قلت : وَرُوِيَ النَّهْي عَن ذَلِك أَيْضا من حَدِيث جماعات من الصَّحَابَة خُزَيْمَة بن ثَابت، وَعمر، وَعلي، وَعلي بن طلق، وطلق بن عَلّي، وَابْن مَسْعُود، وَجَابِر، وَابْن عَمْرو بن الْعَاصِ، وَابْن عَبَّاس، والبراء بن عَازِب، وَعقبَة بن عَامر، وَأنس، وَأبي ذَر.
ثم ساق تخريجها,,,
فَهَذِهِ ثَلَاثَة عشر حَدِيثا يعضد بَعْضهَا بَعْضًا."اهـــ
 
-       وقال ابن حجر في فتح الباري : "لَكِنْ طُرُقهَا كَثِيرَة فَمَجْمُوعهَا صَالِح لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَيُؤَيِّد الْقَوْل بِالتَّحْرِيمِ أَنَّا لَوْ قَدَّمْنَا أَحَادِيث الْإِبَاحَة لَلَزِمَ أَنَّهُ أُبِيحَ بَعْد أَنْ حَرُمَ وَالْأَصْل عَدَمه، فَمِنْ الْأَحَادِيث الصَّالِحَة الْإِسْنَاد حَدِيث خُزَيْمَةَ بْن ثَابِت أَخْرَجَهُ أَحْمَد وَالنَّسَائِيُّ وَابْن مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ اِبْن حِبَّانَ، وَحَدِيث أَبِي هُرَيْرَة أَخْرَجَهُ أَحْمَد وَالتِّرْمِذِيّ وَصَحَّحَهُ اِبْن حِبَّانَ أَيْضًا، وَحَدِيث اِبْن عَبَّاس وَقَدْ تَقَدَّمَتْ إِشَارَة إِلَيْهِ. وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ مِنْ وَجْه آخَر بِلَفْظِ " لَا يَنْظُر اللَّه إِلَى رَجُل أَتَى رَجُلًا أَوْ اِمْرَأَة فِي الدُّبُر " وَصَحَّحَهُ اِبْن حِبَّانَ أَيْضًا، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ صَلَحَ أَنْ يُخَصِّص عُمُوم الْآيَة وَيُحْمَل عَلَى الْإِتْيَان فِي غَيْر هَذَا الْمَحَلّ بِنَاء عَلَى أَنَّ مَعْنَى " أَنَّى " حَيْثُ وَهُوَ الْمُتَبَادِر إِلَى السِّيَاق، وَيُغْنِي ذَلِكَ عَنْ حَمْلهَا عَلَى مَعْنًى آخَر غَيْر الْمُتَبَادِر، وَاللَّهُ أَعْلَمُ."اهـــ
 
المبحث التاسع : أسبابَ وتعليلات تحريم الوطء في الدبر:
 
وقد ذكرها ابن القيم في زاد المعاد:
"قلت : ومن ها هنا نشأ الغلط على من نقل عنه الإباحة من السلف والأئمة، فإنهم أباحوا أن يكون الدبر طريقا إلى الوطء في الفرج، فيطأ من الدبر لا في الدبر، فاشتبه على السامع من بـ في، ولم يظن بينهما فرقا، فهذا الذي أباحه السلف والأئمة، فغلط عليهم الغالط أقبح الغلط وأفحشه،
 وقد قال تعالى : ( فاتوهن من حيث أمركم الله )
قال مجاهد : سألت ابن عباس عن قوله تعالى : ( فاتوهن من حيث أمركم الله )
فقال : تأتيها من حيث أمرت أن تعتزلها يعني في الحيض، وقال علي بن أبي طلحة عنه يقول : في الفرج ولا تعده إلى غيره.
 وقد دلت الآية على تحريم الوطء في دبرها من وجهين :
 أحدهما : أنه أباح إتيانها في الحرث وهو موضع الولد، لا في الحش الذي هو موضع الأذى، وموضع الحرث هو المراد من قوله : (من حيث أمركم الله ) الآية.
 قال : (فاتوا حرثكم أنى شئتم ) وإتيانها في قبلها من دبرها مستفاد من الآية أيضا لأنه قال : أنى شئتم أي : من أين شئتم من أمام أو من خلف.
 قال ابن عباس : فأتوا حرثكم يعني : الفرج.
 وإذا كان الله حرم الوطء في الفرج لأجل الأذى العارض، فما الظن بالحش الذي هو محل الأذى اللازم مع زيادة المفسدة بالتعرض لانقطاع النسل والذريعة القريبة جدا من أدبار النساء إلى أدبار الصبيان.
 وأيضا : فللمرأة حق على الزوج في الوطء، ووطؤها في دبرها يفوت حقها، ولا يقضي وطرها ولا يحصل مقصودها.
 وأيضا : فإن الدبر لم يتهيأ لهذا العمل، ولم يخلق له وإنما الذي هيئ له الفرج، فالعادلون عنه إلى الدبر خارجون عن حكمة الله وشرعه جميعا.
 وأيضا : فإن ذلك مضر بالرجل، ولهذا ينهى عنه عقلاء الأطباء من الفلاسفة، وغيرهم لأن للفرج خاصية في اجتذاب الماء المحتقن، وراحة الرجل منه والوطء في الدبر لا يعين على اجتذاب جميع الماء، ولا يخرج كل المحتقن لمخالفته للأمر الطبيعي.
 وأيضا : يضر من وجه آخر وهو إحواجه إلى حركات متعبة جدا لمخالفته للطبيعة،  وأيضا فإنه محل القذر والنجس فيستقبله الرجل بوجهه ويلابسه.
 وأيضا : فإنه يضر بالمرأة جدا لأنه وارد غريب بعيد عن الطباع، منافر لها غاية المنافرة.
 وأيضا : فإنه يحدث الهم والغم والنفرة عن الفاعل والمفعول.
 وأيضا : فإنه يسود الوجه ويظلم الصدر ويطمس نور القلب، ويكسر الوجه وحشة تصير عليه كالسماء يعرفها من له أدنى فراسة.
 وأيضا : فإنه يوجب النفرة والتباغض الشديد، والتقاطع بين الفاعل والمفعول ولا بد.
 وأيضا : فإنه يفسد حال الفاعل والمفعول فسادا لا يكاد يرجى بعده صلاح إلا أن يشاء الله بالتوبة النصوح.
 وأيضا : فإنه يذهب بالمحاسن منهما ويكسوهما ضدها، كما يذهب بالمودة بينهما ويبدلهما بها تباغضا وتلاعنا.
 وأيضا : فإنه من أكبر أسباب زوال النعم، وحلول النقم فإنه يوجب اللعنة والمقت من الله، وإعراضه عن فاعله وعدم نظره إليه، فأي خير يرجوه بعد هذا وأي شر يأمنه، وكيف حياة عبد قد حلت عليه لعنة الله ومقته، وأعرض عنه بوجهه ولم ينظر إليه.
 وأيضا : فإنه يذهب بالحياء جملة والحياء هو حياة القلوب، فإذا فقدها القلب استحسن القبيح، واستقبح الحسن وحينئذ فقد استحكم فساده.
 وأيضا : فإنه يحيل الطباع عما ركبها الله ويخرج الإنسان عن طبعه إلى طبع، لم يركب الله عليه شيئا من الحيوان بل هو طبع منكوس، وإذا نكس الطبع انتكس القلب والعمل والهدى، فيستطيب حينئذ الخبيث من الأعمال والهيئات، ويفسد حاله وعمله وكلامه بغير اختياره.
 وأيضا : فإنه يورث من الوقاحة والجرأة ما لا يورثه سواه.
 وأيضا : فإنه يورث من المهانة والسفال والحقارة ما لا يورثه غيره.
 وأيضا : فإنه يكسو العبد من حلة المقت والبغضاء وازدراء الناس له واحتقارهم إياه واستصغارهم له ما هو مشاهد بالحس، فصلاة الله وسلامه على من سعادة الدنيا والآخرة في هديه واتباع ما جاء به، وهلاك الدنيا والآخرة في مخالفة هديه وما جاء به."اهــ
 
المبحث العاشر : خلاصة البحث :
 
من خلال استعراض الأدلة السابقة يتبين يقينا أن الراجح هو حرمة وطء الدبر، وأن الخلاف في هذه المسألة خلاف ضعيف جدا، والقائلون بإباحة وطء الدبر ليس معهم دليل لا من كتاب ولا من سنة ولا من عقل ولا من فطرة، بل قد قَال ابْنُ الْقَيِّمِ في زاد المعاد : وَطْءُ الْحَلِيلَةِ فِي الدُّبُرِ لَمْ يُبَحْ عَلَى لِسَانِ نَبِيٍّ مِنَ الأْنْبِيَاءِ، وقصارى أدلتهم هو قول عبد الله بن عمر رضي الله عنه، وهو قول باجتهاده، وكما هو معلوم عند الأصوليين أن من شروط قبول قول الصحابي:
-       أن لا يكون خالف نصا، وفي مسألتنا هذه قد خالف نصوصا تنهى عن ذلك.
-       ألا يكون خالف صحابيا آخر، وهنا قد خالف كبار الصحابة منهم علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وغيرهما.
-       ألا يكون رجع عن هذا القول، وفي مسألتنا هذه تضارب النقل عنه بأنه مذهبه، وأيضا بأنه مكذوب عليه.
-       أن ينتشر قوله بين الصحابة بلا نكير، وهذا لم يتحقق لإنكار عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عليه وتخطئته.
 
يقول ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى : "فَإِذَا غَلِطَ بَعْضُ النَّاسِ غَلْطَةً لَمْ يَكُنْ هَذَا مِمَّا يُسَوِّغُ خِلَافَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَمَا أَنَّ طَائِفَةً غَلِطُوا فِي إبَاحَةِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ لِمَا جَاءَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَكَذَلِكَ طَائِفَةٌ غَلِطُوا فِي أَنْوَاعٍ مِنْ الْأَشْرِبَةِ."اهـ
 
قال القرطبي في تفسيره مرجحا تحريم الوطء في الدبر: "وهذا هو الحق المتبع والصحيح في المسألة، ولا ينبغي لمؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرج في هذه النازلة على زلة عالم بعد أن تصح عنه. وقد حُذرنا من زلة العالم.
وقد روي عن ابن عمر خلاف هذا، وتكفير من فعله؛ وهذا هو اللائق به رضي الله عنه
كذلك كذب نافع من أخبر عنه بذلك، كما ذكر النسائي وقد تقدم. وأنكر ذلك مالك واستعظمه، وكذب من نسب ذلك إليه". اهــ
 
وختاما أحمد الله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه أن يسر إتمام هذا البحث، فما كان فيه من توفيق فمن الله وحده لا شريك له، وما كان فيه من خطإ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء.
 
      واللهَ أسأل أن يجعل ما علمناه حجة لنا لا علينا، وأن يزيل الغشاوة عن أعيننا، وأن يجمع كلمتنا على كتابه وسنة نبينا، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
 
 جمع : عبد الجليل مبرور - 


 إباحة الاتصال الجنسي عن طريق المحل الآخر 

الاتصال الجنسي ضرورة من ضرورات دوام الحياة البشرية، وتلبية الحاجة الجسدية. لقد خلق الله تعالى لتحقيق هذا الاتصال ما يناسبه من الوسائل والأعضاء ومن ذلك العضو التناسلي الأنثوي (الفرج أو القبل). إذ جعله الله مهيأً وظيفياً تهيئة تامة لذلك الاتصال، وحصول الغرض منه دونما ضرر.
أما المحل الآخر فهو غير مناسب وظيفياً (فسلجياً) للاتصال الجنسي، إذ لا يمكن أن يتم الاتصال الجنسي عن طريقه دونما ضرر، لا سيما للمرأة. كالتسلخات والقروح وما يرافقها من ألم، ويعقبها من التهاب وفطور ودمامل ونواسير، وأمراض أخرى قد تكون خطيرة جداً كمتلازمة نقص المناعة المكتسب (الأيدز AIDS). ناهيك عن تناقضه مع أصل الصحة وقاعدتها: النظافة؛ ما يؤدي إلى مختلف الأمراض لدى الرجل والمرأة.
وهذا يعني أن الله جل وعلا لم يخلق هذا العضو لهذه الوظيفة، وإلا لهيأه لأدائها على أحسن وجه. لأنه سبحانه }أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ{ السجدة/7. وهو حكيم أتقن كل شيء صنعه، ووضعه موضعه. كما أخبر عن نفسه فقال: }سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى*الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى*وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى{ الأعلى/2-3.
حتى الحيوانات نراها لا تعرف هذا الاتصال، بغريزتها وفطرتها التي فطرها الله عليها. ولهذا فإن الطباع الآدمية السليمة التي بقيت على فطرتها تأنف منه وتعافه.
فإذا جئنا إلى القرآن الكريم لا نجد دليلاً واحداً على أباحته، بل ظاهر الأدلة على حرمته إلا إذا اتبعنا المتشابه من الألفاظ. وهكذا كان الأمر لدى الشيعة محتجين لشرعنته بقوله تعالى: }نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ{ (البقرة:223).

 الاحتجاج بقوله تعالى: (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنى شئتمْ)
   بما أن اللفظ يتعلق بالجنس واللذة، فقد حملوه على أوسع محامله، وفسروا قوله
تعالى: }فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ{ بمعنى من حيث شئتم من القبل أو الدبردون اعتبار
للقرائن اللفظية الموجودة في النص. وهذا - بلا شك - اتباع للمتشابه تحقيقاً لرغبات النفس وشهواتها([1]) كما قال تعالى: }إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأْنْفُسُ{ النجم/23.
 
القرائن اللفظية المرجحة
يقول تعالى: }وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أذى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ
لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ{ (البقرة/222،223).
في هذا النص القرآني لا توجد قرينة واحدة ترجح أن المقصود بـ(أنى شئتم) التخيير بين القبل والدبر –أي من أي موضع منهما شئتم- سوى التحكم بحمل اللفظ (أنى) على هذا المعنى المحتمل. ولا داعٍ له سوى الهوى والرغبة. فهو تفسير غير منزه عن الدوافع الذاتية والميول النفسية. مما يجعله موضع اتهام من الأساس. لا سيما وهو مخالف لمقاصد الخلقة ووظيفتها.
ومثل هذا التفسير لا يمكن قبوله، ما لم تؤيده قرائن لفظية قوية جداً من النص نفسه. وذلك لا وجود له بتاتاً، إنما الموجود هو القرائن اللفظية المعاكسة له!
من هذه القرائن:
1- وصف النساء بالحرث: }نساؤكم حرث لكم{. والحرث هو موضع الزرع والإنبات. والأمر بالإتيان متوجه إلى الحرث -أي إلى موضع الزرع والإنبات- وليس ذلك إلا الفرج الذي منه ينبت الولد.
2- إن قوله تعالى: }أَنَّى شِئْتُمْ{ متعلق بالحرث لا بغيره. لأن النص يقول: }فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ{ أي جامعوا نساءكم في موضع الزرع والإنبات - وهو الفرج - بالوضعية التي تريدونها مقبلين ومدبرين، وغير ذلك. ولكن في الحرث، أي الفرج.
3- قوله تعالى: }فأتوهن من حيث أمركم الله{. أي جامعوهن من الموضع الذي أمركم الله أن تجامعوهن منه وهو الحرث. ولما لم يكن لذلك إلا موضعان هما القبل والدبر. فلابد أن يكون أحدهما هو المقصود بالإتيان. وإلا لم يكن لقوله تعالى: }من حيث أمركم الله{ معنى. إذ يصبح زائداً لا يؤدي غرضاً.
وتأمل كيف عبر بـ}أَنَّى شِئْتُمْ{ عندما أراد الإشارة إلى أحوال أو أوضاع الاتصال التي قيدها بالحرث! أي كيف شئتم مقبلين ومدبرين وعلى جنب..الخ، ما دام الإتيان في محل الحرث.
وعندما أراد المكان أو موضع الاتصال قال: (من حيث). فـ(حيث) للموضع والمكان. و(أنى) للكيفية والحال، وقد تأتي للمكان. يقول الراغب الأصفهاني في (مفرداته): أنى: للبحث عن الحال والمكان. ولذلك قيل: هو بمعنى أين وكيف لتضمنه معناهما.
وقال الرازي في (مختار الصحاح: (أنى) معناه أين. تقول: أنى هذا أي من أين
لك هذا... وقد تكون بمعنى كيف تقول: أنى لك أن تفتح الحصن أي كيف لك هذا. ا.هـ.
والذي أراه أن لفظ (أنى) مركب من (كيف وأين) – وهذا أحد الأقوال التي ذكرها الراغب - أي من الحال والمكان. فقول زكريا عليه السلام الذي حكاه الله تعالى عنه وهو يسأل مريم وقد رأى عندها الطعام: }يا مريم أنى لك هذا{ (آل عمران/37) يحمل المعنيين أي من أين لك، وكيف وصلك هذا؟!
وأوضاع الجماع حالية ومكانية. فإتيان المرأة من الأمام والخلف وعلى جنب ومن فوق وأسفل، هذا كله يعطي تصور الكيفية والجهة ممتزجتين. وبعض الأوضاع كالقيام والقعود ليس فيه إلا معنى الكيفية والحال، دون الجهة والمكان. هذا إذا تصورناه مجرداً. أما واقعاً فلا بد فيه من جهة. وكل ذلك جائز إذا كان من صمام واحد هو موضع الحرث أي الفرج. وهذا هو الذي أرجحه سبباً لاختيار هذه الكلمة بالذات (أنى) دون غيرها لأداء المعنى المراد منه مطابقاً لما هو واقع بالفعل.
أما قصر اللفظ على معنى واحد هو المكان دون الكيفية، وتفسير المكان بموضع الجماع دون الجهة، فهذا تحكم محض ليس له من دليل سوى الاحتمال المجرد الذي لا تسنده قرينة. فكيف إذا كانت القرائن ضده؟!
4- قوله تعالى: }فإذا تطهرن فأتوهن{ اشترط للجماع طهارة المحل. وليس ذلك إلا للفرج الذي يتعرض للنجاسة بدم الحيض بضعة أيام في الشهر. ثم ينقطع الدم ويطهر المحل فيكون صالحاً للجماع. أما المحل الآخر فهو دائم التعرض للأذى والنجاسة. فلا يمكن أن يكون هو المقصود بالتطهر شرطاً للإتيان.
5- إن الله تعالى أمر باعتزال المرأة في المحيض. وعلل ذلك بوجود الأذى فقال: }ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض{. ولا شك أن الأذى بالنجو (ما يخرج من المحل الآخر) أشد من أذى دم المحيض. وتأذيه بالجماع أشد من تأذي القبل به. ولو سألت أي طبيب عن نكاح الدبر أليس هو أذى؟ لقال: بلى. وبما أن الأمر بالاعتزال متعين بسبب الأذى بنص الآية، وبما أن الأذى ملازم لذلك دائماً فاعتزاله على الدوام هو المطلوب إذن.
6- إن الله تعالى نهى عن مقاربة النساء عند المحيض فقال: }ولا تقربوهن حتى يطهرن{. والمجامع من الخلف لا يمكن أن يكون إلا مقارباً لزوجته. وذلك منهي عنه في تلك الحال. فتعين النهي عن ذلك الجماع.
7- إن الله ختم الآية بقوله: }إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين{. ولا يمكن أن يوصف ناكح الدبر بأنه من المتطهرين. كما أنه لا يمكن أن يوصف من جامع امرأته في قبلها حال محيضها بذلك الوصف. والأول من باب أولى. فإذا كان الأمر الثاني منهياً عنه تحقيقا للوصف، فالأول كذلك من باب أولى.
ولذلك وصف قومُ لوط آلَ لوط عليه السلام فقالوا: }إنهم أناس يتطهرون{. أي عن إتيان الأدبار. ومن هذا قول لوط عليه السلام: }هؤلاء بناتي هن أطهر لكم{.
كل هذا وغيره ضرب عرض الحائط! وحمل اللفظ على غير معناه الراجح اتباعاً للمتشابه طبقاً لقاعدة (التوسيع في الملذات والتضييق في العبادات). د. طه الدليمي..


([1]) لقد تسالم فقهاء الإمامية جميعاً في القديم والحديث على جواز إتيان المرأة من دبرها على اختلاف بينهم في حكمه: هل هو مكروه أم جائز بإطلاق. ويروون في جوازه روايات ينسبونها إلى (الأئمة). منها ما يرويه الكليني تحت (باب محاش النساء) بسنده عن صفوان بن يحيى قال: قلت للرضا (ع): إن رجلاً من مواليك أمرني أن أسألك عن مسألة هابك واستحيى منك أن يسألك. قال: وما هي؟ قلت: الرجل يأتي امرأته في دبرها؟ قال: ذلك له. قلت له: فأنت تفعل؟ قال: إنا لا نفعل ذلك. وروى بسنده تحت الباب نفسه عن بعض أصحاب أبي عبد الله (ع) قال: سألته عن إتيان النساء في أعجازهن؟ فقال: هي لعبتك لا تؤذها. (فروع الكافي 5/540).
وجاء في [رسائل الشريف المرتضى/المجموعة الأولى ص300/منشورات مؤسسة النور للمطبوعات/بيروت-لبنان]: مسألة سادسة وخمسون (حلية الوطء دبراً وقبلا): مباح للزوج أن يطأ زوجته في كل واحد من مخرجيها. وليس في ذلك شيء من الحظر والكراهة. والحجة في ذلك: إجماع الإمامية عليه. وقوله تعالى: (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُم). وأن الشرع يقتضي التمتع بالزوجة مطلقاً من غير استثناء لموضع دون آخر.
وسئل محمد محمد الصدر: هل يجوز الدخول بالزوجة دبراً؟ فأجاب: هو على وجه الكراهة الشديدة، وليس بحرام. [مسائل وردود / الجزء الثالث ص56/ مسألة 362].
وسئل علي الغروي: هل يجوز جماع الزوجة من الدبر في حالة الاختيار، وإذا كان مضطراً لمرض في زوجته يمنعه من مجامعتها قبلاً؟
فأجاب: جاز مطلقاً إذا كان برضا الزوجة. [طريق النجاة / ص46/ مسألة 157].


دعوى تعارض السنة مع القرآن في شأن وطء المرأة في دبرها(*)

مضمون الشبهة:
يدعي بعض المغرضين تعارض أحاديث تحريم وطء المرأة في دبرها مع القرآن الكريم؛ ويستدلون على زعمهم هذا بأن القرآن الكريم صرح بأن للرجل أن يأتي امرأته أنى شاء؛ فقد قال تعالى(نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم) (البقرة: ٢٢٣)، ثم جاءت الأحاديث فنهت عن ذلك، ومن هذه الأحاديث ما رواه خزيمة بن ثابت أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «إن الله لا يستحيي من الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهن»، ويتساءلون: أليس هذا تعارضا صريحا بين ما أحله الله تعالى وبين ما حرمه رسوله الكريم؟!

وجها إبطال الشبهة:
1) لقد نزلت آية:  (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئت) (البقرة: ٢٢٣)؛ لتبين أن للرجل أن يأتي امرأته كيف شاء من الأمام أو الخلف أو مضطجعة أو على جنب، بشرط أن يكون ذلك كله في القبل لا في الدبر، فقيدت موضع الإتيان بموضع الحرث وهو موضع النسل، والدبر ليس موضعا للحرث، لذلك فلا تعارض؛ بين القرآن والسنة في هذا الشأن؛ إذ قد اتفقا على تحريم إتيان النساء في أدبارهن.

2) إن الإتيان في الدبر يسبب أمراضا بدنية ونفسية عديدة أثبتها الأطباء، وإذا كان الله حرم الوطء في الفرج لأجل الأذى العارض وهو الحيض، فمن باب أولى أن يحرم الإتيان في الدبر الذي هو محل الأذى اللازم مع زيادة المفسدة بالتعرض لانقطاع النسل.

التفصيل:
أولا. إن قوله تعالى:  (أنى شئتم)، يفيد تعدد جهات الإتيان من الأمام أو الخلف أو الجنب، كل ذلك في موضع الحرث أو موضع النسل؛ وهو القبل:
إن القرآن الكريم لم يبح إتيان النساء في أدبارهن كما زعم هؤلاء المغرضون، وإنما أباح إتيانهن في القبل موضع الحرث والنسل، وهذا ما أكده النبي -صلى الله عليه وسلم- في أحاديثه، وقد اجتمع القرآن والحديث على إباحة ما فيه مصلحة الإنسان، والنهي عما فيه ضرر له.

قال تعالى:  (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين (223)) (البقرة)، وهذه الآية نزلت لتبين أن للرجل أن يأتي امرأته كيف شاء من الأمام أو الخلف أو مضطجعة أو على جنب بشرط أن يكون كل ذلك في قبلها لا دبرها؛ ولذلك قيد الله - سبحانه وتعالى- موضع الإتيان بموضع الحرث كناية عن موضع النسل، ولا يمكن أن يكون الدبر موضعا للحرث؛ لأنه لا يأتي منه الولد، وبمعرفة سبب نزول الآية يتأكد هذا المعنى، فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: «كانت اليهود تقول إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها كان الولد أحول، فنزلت الآية:  (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم)»[1]، وزاد مسلم في رواية أخرى عن الزهري: «وإن شاء مجبية وإن شاء غير مجبية غير أن ذلك في صمام واحد»[2].

و"المجبية" أي: مكبوبة على وجهها، والصمام الواحد هو الفرج، وقوله:  (فأتوا حرثكم)، أي: موضع الزرع من المرأة، وهو قبلها الذي يزرع فيه المني، لابتغاء الولد، ففيه: إباحة وطئها في قبلها إن شاء من بين يديها، وإن شاء من ورائها، وإن شاء مكبوبة: وأما" الدبر" فليس هو بحرث، ولا موضع زرع[3].

وروى الترمذي في سننه عن ابن عباس، قال: «جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله هلكت، قال: وما أهلكك؟ قال: حولت رحلي الليلة، قال، فلم يرد عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئا، قال فأنزلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الآية:  (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم) أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة»[4]، ومن هذين الحديثين يتبين أن نزول الآية كان لأن اليهود كانت تعتقد أن إتيان النساء في قبل من الدبر يؤدي إلى إنجاب طفل أحول العينين، وكذلك سؤال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم؛ كان خوفا من الهلكة بسبب إتيانه زوجته في قبلها من جهة ظهرها، وكنى في ذلك رحله عن زوجته؛ لأن المجامع يعلو المرأة ويركبها مما يلي وجهها فحيث ركبها من جهة ظهرها، كنى عنه بتحويل رحله.

فنعلم من ذلك أن الأمر المسئول عنه هو جهة الإتيان، أي من أي جهة يأتي القبل؟ وليس المقصود هل هو القبل أو الدبر كما ظن بعض من ليس له علم؛ لذلك كانت إجابة النبي - صلى الله عليه وسلم- موضحة أكثر في قوله لعمر رضي الله عنه: «أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة»، أي: أولج في القبل من جانب القبل أو الدبر، واتق الإيلاج في الدبر نفسه.

يقول الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة، بعد ذكر الأحاديث المبينة سبب النزول: هذه الأحاديث في إباحة الحال والهيئات كلها إذا كان الوطء في موضع الحرث، أي: كيف شئتم من خلف ومن قدام، وباركة ومستلقية ومضطجعة، فأما الإتيان في غير المأتى فما كان مباحا ولا يباح!

وذكر "الحرث" يدل على أن الإتيان في غير المأتى محرم، و"حرث" تشبيه لأنهن مزدرع الذرية، فلفظ" الحرث" يعطي أن الإباحة لم تقع إلا في الفرج خاصة؛ إذ هو المزدرع، وأنشد ثعلب:
إنما الأرحام أرضون لنا محترثات
فعلينا الزرع فيها وعلى الله النبات
ففرج المرأة كالأرض، والنطفة كالبذر، والولد كالنبات، فالحرث يعني المحترث.

وقوله تعالى:  (أنى شئتم)، معناه عند الجمهور من الصحابة والتابعين وأئمة الفتوى: من أي وجه شئتم مقبلة ومدبرة، كما ذكرنا، وفي قوله تعالى:  (فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله) مع قوله تعالى:  (فأتوا حرثكم) يدل على أن في المأتى اختصاصا، وأنه مقصور على موضع الولد.

وإتيان الدبر محرم بإجماع؛ لأن إباحة الإتيان مختصة بموضع الحرث،؛ لقوله تعالى:  (فأتوا حرثك) ولأن الحكمة في خلق الأزواج بث النسل، فغير موضع النسل لا يناله ملك النكاح، وهذا هو الحق، وقد قال أصحاب أبي حنيفة فيمن يأتي المرأة في الدبر: إنه عندنا ولائط الذكر سواء في الحكم؛ ولأن القذر والأذى في موضع النجو[5] أكثر من دم الحيض، فكان أشنع، وأما صمام البول فغير صمام الرحم.
وقال مالك لابن وهب، وعلي بن زياد، لما أخبراه أن ناسا بمصر يتحدثون عنه أنه يجيز ذلك، فنفر من ذلك، وبادر إلى تكذيب الناقل فقال: "كذبوا علي كذبوا علي، ثم قال: ألستم عربا؟ ألم يقل الله تعالى:  (نساؤكم حرث لكم)؟ وهل يكون الحرث إلا في موضع المنبت؟"

وما استدل به المخالف من أن قوله عز وجل:  (أنى شئتم) شامل للمسالك بحكم عمومها فلا حجة فيها؛ إذ هي مخصصة بما ذكرناه، وبأحاديث صحيحة حسان وشهيرة رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - اثنا عشر صحابيا بمتون مختلفة، كلها متواردة على تحريم إتيان النساء في الأدبار[6].

ونذهب إلى الألوسي في تفسيره، فنجده يقول: قوله تعالى:  (أنى شئتم) "، قال قتادة والربيع: من أين شئتم، وقال مجاهد: كيف شئتم، وقال الضحاك: متى شئتم.

ومجيء أنى بمعنى: "أين" و"كيف" و"متى" مما أثبته الجم الغفير، وتلزمها على الأول "من"، ظاهرة أو مقدورة.

واختار بعض المحققين كونها هنا بمعزل بمعنى: "من أين"، أي: من أي جهة؛ ليدخل فيه بيان النزول.

والقول بأن الآية حينئذ تكون دليلا على جواز الإتيان من الأدبار ناشئ عن عدم التدبر في أن "من" لازمة إذ ذاك؛ فيصير المعنى: (من أي مكان)، لا (في أي مكان)، فيجوز أن يكون المستفاد حينئذ تعميم الجهات من القدام والخلف والفوق والتحت واليمين والشمال، لا تعميم مواضع الإتيان، فلا دليل في الآية لمن جوز إتيان المرأة في دبرها، وعلى فرض تسليم أن" أنى" تدل على تعميم مواضع الإتيان كما هو الشائع، فيجاب بأن التقييد بمواضع الحرث يدفع ذلك[7].

وهذا ابن القيم - رحمه الله - ينفي أي تعارض قد يتوهم بين الآية والحديث، بل يؤكد أن الآية دلت على تحريم الوطء في الدبر كما دلت الأحاديث؛ فيقول: "وقد دلت الآية على تحريم الوطء في دبرها من وجهين، أحدهما: أنه أباح إتيانهن في الحرث، وهو موضع الولد لا في الحش (الدبر) الذي هو موضع الأذى، وموضع الحرث هو المراد من قوله تعالى:  (من حيث أمركم الله)، قال تعالى:  (فأتوا حرثكم أنى شئتم)، وإتيانها في قبلها من دبرها مستفاد من الآية أيضا؛ لأنه قال: أنى شئتم، أي: من أين شئتم من أمام أو من خلف، قال ابن عباس: فأتوا حرثكم، يعني: الفرج[8].

وجزم النووي - رحمه الله - بأن معنى قوله:  (أنى شئتم)، أي: كيف شئتم، ثم قال: واتفق العلماء الذين يعتد بهم على تحريم وطء المرأة في دبرها: حائضا كانت أو طاهرا؛ لأحاديث كثيرة مشهورة[9]؛ وقد بوب الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم بابا بعنوان: "باب جواز جماعه امرأته في قبلها، من قدامها ومن ورائها، من غير تعرض للدبر"، فدل على جواز الإتيان في القبل، ونهي عن الإتيان في الدبر، وروى ابن ماجه في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الله لا يستحيي من الحق ثلاث مرات. لا تأتوا النساء في أدبارهن»[10].

وروى الترمذي - أيضا - عن علي بن طلق قال: «أتى أعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! الرجل منا يكون في الفلاة، فتكون منه الرويحة، ويكون في الماء قلة؟ فقال رسول صلى الله عليه وسلم: وإذا فسا أحدكم فليتوضأ، ولا تأتوا النساء في أعجازهن، فإن الله لا يستحىي من الحق» [11].

ولا ننسى أن أشد ما أكد به النبي -صلى الله عليه وسلم - على تحريم هذا الفعل قوله لسيدنا عمر بن الخطاب: «أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة»، وبعد ذكر هذه الأحاديث الصحيحة التي أكدت تحريم إتيان النساء في أدبارهن، وأن القبل هو موضع الإتيان لا غيره - يتضح لنا أنه ليس في الآية الكريمة أدنى دلالة على إباحة الإتيان فيما هو دون القبل، وأنها جاءت لتبيح الإتيان من أي جهة مع التقييد بموضع واحد فقط وهو موضع الحرث؛ سواء كان إتيانه من الأمام أو الخلف أو الجنب فلا غضاضة في ذلك، وكان هذا مخالفة لاعتقاد اليهود الباطل والذي كذبه الله -عز وجل- بنص الآية، أما ما زعمه هؤلاء المتخرصون من أن الآية تبيح وتحلل كل المواضع والسنة تحرمه، فهذا ناتج عن فهمهم الخاطئ لمعاني القرآن الذي يتفق مع السنة على تحريم إتيان الدبر، ولا تعارض بينهما في ذلك.

ثانياالحكمة التشريعية من تحريم وطء المرأة في دبرها:
إن الوطء في الدبر يصيب الرجل والمرأة بأمراض خطيرة، ولا يحل الله أمرا يصيب الإنسان بالأذى، فهو الأعلم بحال من خلق، يأمرهم بما يصلح حالهم، وينهاهم عما يضرهم، لذلك أمر الله بإتيان النساء في موضع الحرث وهو القبل، ونهى عما سواه، وإذا كان الله حرم الوطء في الفرج لأجل الأذى العارض وهو الحيض، فما الظن بالحش (الدبر) الذي هو محل الأذى اللازم مع زيادة المفسدة بالتعرض لانقطاع النسل والذريعة القريبة جدا من أدبار النساء إلى أدبار الصبيان؟!

ثم إن للمرأة حقا على الزوج في الوطء، ووطؤها في دبرها يفوت حقها، ولا يقضي وطرها، ولا يحصل مقصودها، والدبر لم يتهيأ لهذا العمل، ولم يخلق له، وإنما الذي هيئ له الفرج، فالعادلون عنه إلى الدبر خارجون عن حكمة الله وشرعه جميعا.

وهذا العمل مضر بالرجل أيضا، ولهذا ينهى عنه عقلاء الأطباء من الفلاسفة وغيرهم؛ لأن للفرج خاصية في اجتذاب الماء المحتقن وراحة الرجل منه، والوطء في الدبر لا يعين على اجتذاب الماء، ولا يخرج كل المحتقن لمخالفته للأمر الطبيعي، بالإضافة إلى أن هذا الوضع يحوج الرجل إلى حركات متعبة جدا لمخالفته للطبيعة.

ومن مضاره - أيضا - أنه محل القذر والنجو، فيستقبله الرجل بوجهه، ويلابسه، وأيضا فإنه يضر بالمرأة جدا؛ لأنه وارد غريب بعيد عن الطباع، منافر لها غاية المنافرة[12].

إن كانت هذه الأضرار هي ما ذكرها الطب القديم، فإن الطب الحديث بأبحاثه العديدة، وأجهزته الحديثة، وتجاربه المتكررة قد أثبت أن إتيان المرأة في دبرها يضرها ضررا بالغا؛ حيث يفوت حقها على زوجها في النكاح، والاستمتاع الذي لا يحققه وطؤها في دبرها.

كما أن الوطء في الدبر يضر بالرجل أيضا؛ ذلك أن للفرج عضلات قادرة على اعتصار قضيب الرجل المنتصب، والعمل على الإنزال الكامل للمني، فإذا لم يتم الإنزال الكامل - كما يحدث عندما يطأ الرجل زوجته في دبرها - فإنه يحدث احتقان شديد في غدة البرستاتا والأعضاء التناسلية الأخري، مما يسبب آلاما عديدة في منطقة العجان والخصيتين، ناهيك عن سرعة القذف، وضعف الانتصاب الذي يسببه الاحتقان المزمن، في حين أن الأمر غير ذلك عند إتيان المرأة في فرجها، حيث إن المهبل يفرز سائلا يساعد على تشحيم الفرج والمهبل معا، مما يساعد وييسر عملية الإيلاج[13].

وفي الواقع أن كل أجزاء الجهاز التناسلي الأنثوي لها دور فعال في الجماع، فحينما يحدث الاحتكاك بين قضيب الرجل وفرج المرأة تنطلق النبضات من نهايات عصبية منتشرة في الغشاء المخاطي المبطن للمهبل vaginal mucosa، وكذلك في البظر، حيث تنطلق هذه النبضات implulses إلى الجهاز العصبي المركزي central nervous system، فيرسل إشاراته بالتالي؛ ليتحقق لكلا الزوجين الاستمتاع المنشود[14].

وليست الأضرار المتسببة عن إتيان المرأة في دبرها أضرارا بدنية فقط، بل هناك أضرار نفسية أشد على الإنسان من الأضرار البدنية فصل فيها ابن القيم - رحمه الله - القول، ومجملها أنه يحدث الهم، والغم، ويسود الوجه، ويطمس نور القلب، وهذا العمل يوجب النفرة والتباغض الشديد، والتقاطع بين الزوجين، وكذلك يذهب بالحياء جملة، والحياء هو حياة القلوب، فإذا فقدها القلب، استحسن القبيح، واستقبح الحسن، وحينئذ فقد استحكم فساده.

ويحيل الطباع عما ركبها الله، ويخرج الإنسان عن طبعه إلى طبع لم يركب الله عليه شيئا من الحيوان، بل هو طبع منكوس، وإذا نكس الطبع انتكس القلب، والعمل، والهدي، فيستطيب حينئذ الخبيث من الأعمال والهيئات، ويفسد حاله وعمله وكلامه بغير اختياره[15].

فإن كانت هذه الأضرار الصحية والنفسية تلحق بالإنسان من جراء إتيان الدبر فهل يمكن أن يحلها الله؟ وهو الذي لم يحل ما يضر الإنسان قط، بل نهى عن كل ما فيه أدنى ضرر بالإنسان.

الخلاصة:
·   كانت اليهود تقول: إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها كان الولد أحول، فنزلت آية:  (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم) (البقرة: 223)، مجبية أو غير مجبية؛ أي: مكبوبة على وجهها أو غير مكبوبة لكن كل ذلك في صمام واحد، أي: فأتوا النساء كيف شئتم؛ من الأمام، أوالخلف، أو مضطجعة، أو على الجنب لكن شرط أن يكون ذلك كله في القبل الذي هو موضع الحرث، أو موضع النسل، فلا يجوز الإتيان في غير القبل؛ لأن غيره ليس بموضع للحرث أو الولد.

·   سأل عمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن إتيانه زوجته من الخلف في القبل، فنزلت هذه الآية تبيح له ذلك، وأكده النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة» فشرط أن لا يكون الإتيان في الدبر؛ لأن الدبر ليس موضعا للولد.

·   إن المقصود في الآية هو القبل دون غيره، قال تعالى:  (فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله) (البقرة: 222)، والطهر يكون من الدم النازل من القبل لا من الدبر.
·   لقد أجمع العلماء على أن إتيان المرأة في دبرها محرم بنص الكتاب والسنة؛ وذلك للأضرار الخطيرة المترتبة على هذا الفعل، وإذا كان الله حرم الوطء في الفرج أثناء الحيض لأجل الأذى العارض، فما الظن بالدبر الذي هو محل الأذى اللازم مع زيادة المفسدة بالتعرض لانقطاع النسل؟!

·   من الأضرار البدنية التي أثبتها الطب الحديث والقديم أيضا والتي تبين إعجاز القرآن الكريم والسنة والنبوية - أن هذا العمل مضر بالرجل لأن للفرج خاصية في اجتذاب الماء المحتقن وراحة الرجل منه، ولا يستطيع الدبر فعل ذلك فيسبب هذا الاحتقان له آلاما شديدة، بالإضافة إلى أن هذا الوضع يحوج الرجل إلى حركات متعبة جدا لمخالفته للطبيعة، وأن الدبر محل القذر والنجو، وأما ضرره للمرأة فإنه وارد غريب بعيد عن الطباع، منافر لها غاية المنافرة؛ لا يحقق لها الاستمتاع المنشود من عملية الجماع، وما أثبته العلم في هذا الأمر يؤكد أن القرآن والسنة من عند خالق البشر، الخبير بأحوالهم، العليم بما يضرهم وما ينفعهم.

·   ومن الأضرار النفسية المترتبة على إتيان النساء في أدبارهن أن ذلك الفعل يحدث الهم والغم، ويسود الوجه، ويطمس نور القلب، ويؤدي إلى النفرة والتقاطع بين الفاعل والمفعول، ويذهب بالحياء، وإذا فقد القلب الحياء استحسن القبيح، واستقبح الحسن، ومن المحال أن يبيح الله -عز وجل- شيئا يكون فيه كل هذه الأضرار البدنية والنفسية. 


(*) دفاعا عن رسول الله، محمد يوسف، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط1، 2008م. كيف نتعامل مع السنة النبوية، د. يوسف القرضاوي، دار الشروق، القاهرة، ط1، 1427هـ / 2006م. مختلف الحديث عند الإمام أحمد، د. عبد الله بن فوزان بن صالح الفوزان، مكتبة المنهاج، الرياض، ط1، 1428هـ.
[1]صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: التفسير، باب: نساؤكم حرث لكم، (8/ 37)، رقم (4528). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: النكاح، باب: جواز جماعه امرأته في قبلها من قدامها ومن ورائها من غير تعرض للدبر، (5/ 2231)، رقم (3472).
[2]صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: النكاح، باب: جواز جماعه امرأته في قبلها من قدامها ومن ورائها من غير تعرض للدبر، (5/ 2231)، رقم(3474).
[3]شرح صحيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (5/ 2232).
[4]حسن: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: التفسير، باب: سورة البقرة، (8/ 258)، رقم(3164). وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (2980).
[5]النجو: ما يخرج من البطن من ريح وغائط.
[6]الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، (3/ 93: 95)، بتصرف.
[7]روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، الألوسي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د. ت، (2/ 124) بتصرف.
[8]زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن قيم الجوزية، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1405هـ/ 1985م، (4/ 261).
[9]شرح صيح مسلم، النووي، تحقيق: عادل عبد الموجود وعلي معوض، مكتبة نزار مصطفى الباز، مكة المكرمة، ط2، 1422هـ/ 2001م، (5/ 2232).
[10]صحيح، أخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب: النكاح، باب: النهي عن إتيان النساء في أدبارهن، (1/ 619)، رقم(1924). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه برقم (1924).
[11]حسن: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: الرضاع، باب: ما جاء في كراهية إتيان النساء في أدبارهن، (4/ 274)، رقم (1174). وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح برقم (314).
[12]زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن قيم الجوزية، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1405هـ/ 1985م، (4/261، 262) بتصرف.
[13]نظرات إسلامية على الأمراض الجلدية والتناسلية، د. محمد عبد العال، نقلا عن: موسوعة الإعجاز العلمي في سنة النبي الأمي، حمدي عبد الله الصعيدي، مكتبة أولاد الشيخ للتراث، مصر، ط1، 2007م، ص455.
[14]انظر: موسوعة الإعجاز العلمي في سنة النبي الأمي، حمدي عبد الله الصعيدي، مكتبة أولاد الشيخ للتراث، مصر، ط1، 2007م، ص455.
[15]انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن قيم الجوزية، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1405هـ/ 1985م، (4/462).

موقع بيان الإسلام..


أن رجلا أصاب امرأة في دبرها زمن رسول الله 

الجواب

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن عَلِيٍّ الصَّائِغُ، نا يَعْقُوبُ بن حُمَيْدٍ ، حَدَّثَنَا أَبُو صَفْوَانَ عَبْدُ اللَّهِ بن سَعِيدِ بن عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَجُلا، أَصَابَ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ النَّاسُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ : نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ.
 
 رواه الطبراني في الأوسط عن ابن عمر وفيه يعقوب بن حميد بن كاسب وثقه ابن حبان وضعفه الأكثرون وبقيه رجاله ثقات (مجمع الزوائد6 /319).