Difa e Islam | الدفاع عن الإسلام | دفاع الإسلام |
تغيير اللغة:

المرجعية الشيعية في إيران والعراق

المرجعية الشيعية في إيران والعراق

من أكثر القضايا إثارة وجدلا هذه الأيام تلك التي تتعلق بالتساؤلات حول القيادة الشيعية أو المرجعية الشيعية في العراق وإيران، بل والنظام الشيعي بمؤسسته الدينية وعلاقاتها المتشعبة والمعقدة، فضلا عن مستقبل هذه المؤسسة ومدى إمكانية استمرارها..

والحق أن فكرة المؤسسة الدينية قد ارتبطت بالمذهب الشيعي وحده، خاصة مع إنشاء الحوزات العلمية الدينية التي بنيت على أساس تجميع المدارس الفقهية التي يمثلها مراجع الشيعة، وقد ساعد على ذلك مبدأ الإمامة الذي يفرض على كل شيعي أن يكون مقلدا لأحد الفقهاء، يرجع إليه في أمور دينه ودنياه، ويكون حبل وصله بالإمام؛ لأنه من مات بغير إمام -كما يعتقد الشيعة- مات جاهليا.

ومع استقرار هذه الأفكار أصبحت الحاجة ملحة لاستمرار حركة الفقه وتربية الفقهاء وفتح باب الاجتهاد، كما أتاح لمراجع الشيعة تحصيل الزكاة والهبات والنذور فضلا عن الأنفال التي تتمثل في الخمس الذي أسقطه علماء السنة باعتبار أنه كان من حق النبي عليه السلام وسقط بموته؛ لأنه لا يورث، في حين أن الشيعة يعتقدون أنه من حق الإمام، وينوب في تحصيله عنه الوكلاء والمراجع في فترة غيبته، وبهذا الدعم المالي أصبح للشيعة مؤسسة دينية قوية مستقلة لا تنتظر دعما من حاكم يتدخل في شئونها، ومن هنا أيضا كانت فكرة ولاية الفقيه.

وقد استطاع شيعة إيران أن يقيموا أول حكومة دينية في أوائل القرن العاشر الهجري على يد الأسرة الصفوية، واستطاع المحقق الكركي المعروف بالمحقق الثاني أن يقيم حوزة علمية دينية قوية في أصفهان، وكان قد أمضى فترة كبيرة من حياته في الحلة والعتبات المقدسة في العراق، وبعد وفاته تابع الملا عبد الله التستري مسيرته فعمل على دعم الحوزة وتوسعتها وتطويرها بإدخال العلوم العقلية إلى جانب العلوم النقلية، حيث كانت الحكمة والفلسفة والتصوف والرياضيات من المواد الدراسية التي تخصص فيها عدد من علماء الشيعة.

وقد وضع الملا محمد باقر المجلسي بعد ذلك أول موسوعة للفقه الشيعي تحت اسم "بحار الأنوار". وقد تنافست حوزات شيعية أخرى مع حوزة أصفهان هي حوزة النجف، وحوزة جبل عامل، وحوزة البحرين، وقد ضمت كل حوزة عددا من المدارس الدينية كان يدرس فيها أكثر من 1700 طالب، فضلا عن عدد من مدارس البنات.

ازدهار حوزة النجف

لقد كانت الحوزة العلمية الدينية في النجف مزدهرة فقهيا وعلميا خلال القرن الثالث عشر الهجري مع ظهور علماء أفذاذ مثل الشيخ الطوسي الذي أسس دار العلم، والشيخ مرتضى الأنصاري، وآخوند الخراساني، ومحمد حسن الشيرازي، وسيد أبو الحسن الأصفهاني، ومحمد حسن النجفي، كما صارت أكبر مركز علمي ديني للشيعة في عهد محمد حسين كاشف الغطاء بعد أن أنشئت معاهد ومراكز بحث وجمعيات علمية مثل جمعية منتدى النشر التي أسسها الشيخ محمد رضا مظفر، وكلية الفقه التي أسستها جمعية علماء العتبات المقدسة والتي كانت تصدر مجلة النجف ومجلة الطلاب، وقد أدخلت فصول تدريب الخطباء على الدعوة.

ثم أنشأ محمد حسين كاشف الغطاء وزملاؤه في حوزة النجف جمعية التحرير الثقافي التي ساهمت في تطوير الحوزة بإدخال علوم جديدة تقتضيها طبيعة العصر الحديث. وينسب إلى آية الله عبد الكريم الحائري تأسيس حوزة قم الدينية التي أدخل فيها فكرة التخصص العلمي، كما أدخل فيها تعليم اللغات الأجنبية.

وقد ظلت الحوزة الدينية مهدا لتربية العلماء والمفكرين والمجتهدين في الفروع المختلفة مثل الفقه والتفسير والفلسفة والتصوف والتاريخ والرياضيات، واستطاعت أن تستقطب إليها أعدادا كبيرة من المقلدين والمريدين والطلاب، خاصة حوزات النجف وسامراء وكربلاء وجبل عامل وقم ومشهد، وقد جعل علماء الحوزة المساجد مكانا للتدريس وبيوتهم مكانا لعقد الندوات والمناظرات العقائدية والعلمية، ثم صارت البيوت فيما بعد مركزا لإدارة المعاملات المالية وموارد شيوخ الحوزة من النذور والهبات والزكاة وحق الخمس.

نظام الحوزة والتطور فيه

وتتميز الحوزات العلمية الدينية بأنها تعطي لطلابها عناية خاصة، فهي لا تضع نظم المدارس الدينية لمجرد منح الشهادات أو الإجازات العلمية، بل تحرص على تنمية استعداد الطلاب العقلي والبحثي وزيادة معلوماتهم الفقهية والأصولية والفلسفية والثقافية، مع تزويدهم بالرؤية العلمية والسياسية، ومن هنا يبدأ معهم المنهج الاجتهادي منذ الصغر ومع تدرجهم في المراتب العلمية كواعظ ثم كمجتهد ثم كحجة الإسلام وحجة الإسلام والمسلمين ويظل حتى المرجعية فيصبح آية الله ثم آية الله العظمى، مما يجعل عملية التجديد في الفكر الشيعي وخطابه الديني مستمرة، وينعكس ذلك على تنظيم الحوزة ذاتها.

كما فكر علماء الحوزة في إدخال نظام الشهادات الدراسية في مدارس الحوزة ودرجاتها العلمية ونظام الوحدات الدراسية، لكن هذا التوجه لاقى معارضة كبيرة من جانب كثير من العلماء؛ باعتبار أن هذه النظم الموجودة في الجامعات نظم غربية خاضعة لثقافات أجنبية تختلف في طبيعتها عن الثقافة الإسلامية والهوية الثقافية للحوزات الدينية الشيعية، فضلا عن الخوف من التحجر أو الاتجاه إلى الجمود في قوالب فكرية من النظم وإطارات شكلية للمستوى العلمي والثقافي، يترتب عليها وضع نظم جامدة لامتحان الطلاب والمجتهدين وتوفيق أوضاع الأساتذة من غير حملة الشهادات، مما يؤدي إلى مشكلات معنوية خطيرة قد تهدم كيان الحوزة.

وقد أضيف إلى الحوزة في عصر التحرر الفكر الثوري باعتبار أن الإسلام ثورة في حد ذاته، كما أضيفت فكرة تأثير الزمان والمكان على الاجتهاد، فضلا عن دراسة اللغات والفلسفات المعاصرة والإعلام والاستفادة منه في الدعوة والتبليغ.

ومن الواضح أن الدور الذي يمثله المرجع في الحوزة قد اتسع باتساع قدرة شخصيته على التأثير واستقطاب الزملاء والتلامذة والمقلدين بأفكاره ونظرياته، وقد أتاح تجميع مرجعية التقليد في يد بعض علماء الدين خلال فترات متقاربة أن يقوم مرجع التقليد بدور الزعيم الذي يخرج من مجرد التوجيه الديني والاجتماعي إلى المجال السياسي والاقتصادي، بحيث كانت الحوزة تقود الحركة الاجتماعية السياسية في العراق، وأهمها ثورة العشرين التي قادها سيد محمد تقي الشيرازي ضد الإنجليز الذين استولوا على العراق عام 1917م، وحمل الشيعة -مراجع ومقلدين- السلاح في وجه الاستعمار، كما أعلن الشيرازي تحريم "التنباك" في بيانه الذي ألقاه في سامراء، وأعلنت التعبئة العامة بفتوى علماء النجف. كذلك قامت حوزة قم بدعم تأميم البترول ومكافحة الإنجليز ومعارضة السفور وإقامة علاقات مع إسرائيل.

ولاية الفقيه بين الإطلاق والتقييد

وتعتمد نظرية ولاية الفقيه المطلقة التي صارت أساس الحكومة الدينية في إيران بعد نجاح الثورة الإسلامية فيها، على أربعة عناصر أساسية:

الولاية: ومعناها التصدي والأولوية في إنجاز شئون الآخرين، فالرجل العادي في المجال الاجتماعي فاقد الأهلية وعاجز عن الفعل، ومحتاج بشكل دائم لراع شرعي، أي إن كل فعل شعبي يحتاج لإذن قبلي، أو لإقراره بعد تمامه، بمعنى آخر فإن الولاية هي القيامة على الناس، وليس للناس أي دخل في تنصيب أو عزل الولي الفقيه، أو في أعمال وإنجازات الولاية، فجميع الأوضاع العامة تضمن مشروعيتها بانتسابها للولي الفقيه، وينحصر دور الشعب -بشكل تشريعي- على الطاعة والتبعية الكاملة لأوامره ونواهيه، فهذه ولاية قهرية، وليست اختيارية، دائمة أبدية دوام العمر، وليست مؤقتة، عامة على الجميع بدون قيد أو شرط.

النصابة: ومعناها أن تعيين الشخص الصالح للحكم محدد من قبل الإمام الغائب، أي معهودة للفقهاء، ولا يمكن أن يتم اختيار "الولي الفقيه" بناء على رغبة الشعب. الفقيه مفتقد لشروط الفقه والعدالة، يعزل نفسه بنفسه أو بواسطة الله سبحانه، فالحاكم مسئول أمام الله مباشرة.

الإطلاق: بمعنى أن نطاق سلطة الولي الفقيه تنسحب على المجال العام وقضايا الحكم، فلا يوجد ما هو خارج عن محيط ولاية الفقيه، لأن صلاحيات الولي الفقيه هي نفسها اختيارات النبي (ص) والأئمة (ع).

هذه الأمور ليست فقط محصورة على الأركان الأربعة للحكم الإلهي، ولكن الولي الفقيه بإمكانه سحب شرعيته فيما يخص أمور الحكم والسياسة. هذه الأمور تتمتع فقط بوجوبية التبعية والإذعان الخاصة بالأمور الشرعية، بل إنها مقدمة كليا على كل الأحكام الشرعية الفرعية.

التفقه أو الفقهية: وتعد أهم الشروط الواجب توفرها لإدارة المجتمع، فالفقه يلعب دورا أساسيا في تشكيل المجتمع وأساليب إدارته، فكل تشكيل سياسي لا بد أن يعتمد على أسس فقهية، فللفقيه القدرة على حل كل مشاكل العالم السياسية والاقتصادية والعسكرية، لقدرته على إرشاد المجتمعات.

وتتفرع عن ولاية الفقيه المطلقة، ولاية الفقيه المقيدة بالانتخاب أو الرقابة على الفقيه والقيادة الشعبية، استوجبتها المشاكل الكثيرة الخاصة بنظرية ولاية الفقيه المطلقة، سواء على المستوى النظري أو العملي، حيث حاول الفقهاء أن يجتهدوا لصنع تناغم بين القيادة الشعبية والعناصر الأربعة لهذه النظرية بالتغيير في هذه الأركان الأربعة، وكانت أولى المحاولات لذلك في القرن الماضي عن طريق "ميرزاي نائيني" فلقد أعلن إمكان تأسيس حكومة دستورية تحت رقابة ممثلين من الفقهاء –مع الحفاظ على الولاية العامة للفقهاء- بعدم بسط سلطة الفقهاء إلى الناس.

وكمحاولة ثانية شرح سيد محمد باقر الصدر نظرية "الخلافة الشعبية برقابة المرجعية الدينية" بأن الحقوق السياسية للشعب مستقلة عن الفقهاء بشكل رسمي، ويجب أن يكون هناك مزيد من الرقابة على وضع الفقهاء، وعلى المستوى التنفيذي يتم اختيار المرجع الديني بشكل اعتيادي تقليدي، وليست بالانتخابات الديمقراطية.

وفي محاولة ثالثة أعلن فقهاء قم نظرية ولاية الفقيه المقيدة بالانتخابات، وقد اكتملت على يد "آية الله حسينعلي نجف آبادي". وفي هذه النظرية تم التغيير في ثلاثة أركان أساسية من نظرية ولاية الفقيه المطلقة. ولعنصر الفقهية ارتكاز هام في هذه النظرية، فلقد عد الأكثر فقها هو الأكثر صلاحية ليكون الولي الفقيه.

وعموما فبعد بحث لتجربة ولاية الفقيه والتي استمرت لمدة خمسة وعشرين عاما، أنتجت النظرية السابقة محاولة للحد من رقابة الولي الفقيه، وأدواره التنفيذية، ولكن من الواضح أن الرقابة الشرعية ليست سوى ولاية الفقيه المؤسسة على التكليف الشرعي للفقيه. وتتمركز محاور القيادة الشعبية في هذه النظرية في:

1-  جميع العاملين في الخدمة العامة حتى الرجل الأول، لا بد أن يتم اختيارهم في انتخابات عامة، وللشعب حق المشاركة في اختيارهم.

2-    يجب التعامل مع الحق الشعبي في الساحة الاجتماعية بوصفه أحد أطراف العقد، وقبول كل أسس القيادة الشعبية.

3-  يعتمد حق مشاركة الشعب في وضع القانون، بوصف هذا الحق عنصرا تأسيسيا لتحقيق القيادة الشعبية، ومن الممكن تسمية هذه النظرية بالقيادة الشعبية الدينية، وتحقق إسلاميتها رقابة أو ولاية الفقيه العليا، ويدار المجتمع بقيادته الشعبية.

وعموما فإن نظرية ولاية الفقيه مقبولة من معظم إن لم يكن كل الفقهاء، رغم أنها من قضايا الفقه الخلافية، مثل أمور الحسبة ومثل رعاية الأطفال فاقدي الرعاية، أي الأمور التي لا يمكن تجاهلها تحت أي ظرف. وعموما فإن ولاية الفقيه هي السلطة السياسية للفقيه. وقد أقر الفقهاء أن الدين الكامل لكي يتحقق لا بد أن يتوفر له نموذج ثابت للفعل السياسي، وفي حال انتفائه يكون كمال الدين مستحيلا؛ لأن الهدف من الدين هو تطبيق أحكام الشريعة، والفقهاء هم وحدهم من يملكون صلاحية تحقيق هذا الهدف، فيكون تأسيس حكومة دينية اعتمادا على الولي الفقيه أمرا لازما بل وبديهيا، وهو أمر يقبل به علماء جبل عامل في لبنان فأسسوا حزب الله، كما يقبل به معظم علماء النجف الذين أسسوا المجلس الأعلى للثورة الإسلامية العراقية.

آيات الله والمستقبل المنتظر للعراق

وقد ظهرت قيادة آية الله العظمى محسن الطباطبائي الحكيم والد آية الله محمد باقر الحكيم للشيعة في العراق ونفوذه بين القبائل والعشائر وتأثيره على الأوساط الاجتماعية والثقافية العراقية، في اعتراضه على قرار مجلس الثورة العراقي بقانون الأحوال المدنية الذي يغلب الجانب العلماني فيه على الجانب الإسلامي، وأعلن آية الله الحكيم في بيان له عدم شرعية هذا القانون، وقد أدى هذا البيان إلى حدوث المواجهة بين الحوزة العلمية الدينية في النجف وبين نظام صدام حسين البعثي، حيث قام البعثيون بإغلاق عدد من مدارس حوزة النجف، وطرد عدد من مدرسيها وطلابها، وأثاروا الفزع وعدم الأمن في العتبات المقدسة، وضيقوا الخناق على آية الله محسن الحكيم حتى يعتزل الحياة السياسية، وألصقوا تهمة الجاسوسية بابنه سيد مهدي الحكيم وأعدموه، وقد تأثر آية الله لذلك فظل بقية عمره منزويا في مسكنه بالكوفة، كما اضطر ابنه محمد باقر الحكيم إلى الهرب لإيران وتشكيل جيش بدر لمحاربة النظام البعثي العراقي، وها هو جيش بدر يوضع في أول اختبار حقيقي له مع اغتيال قائده آية الله الحكيم حيث أخذ يتدفق إلى العراق لحماية مراجع الشيعة والانتقام من قتلة قائده.