Difa e Islam | الدفاع عن الإسلام | دفاع الإسلام |
تغيير اللغة:

السيستاني لبريمر : أنا إيراني وأنت أمريكي

السيستاني لبريمر : أنا إيراني وأنت أمريكي


يقول السيستاني لبريمر: أنا ايراني وانت امريكي، فلنسمح للعراقيين بتدبير شؤونهم بينما يتسابق الكثيرون لخطب ود الحاكم المدني لقوات الاحتلال في العراق، يربأ المرجع الديني، آية الله السيد علي السيستاني بنفسه عن مقابلة بول بريمر، ويعتذر له بأدب فيه الكثير من المغزي: أنا ايراني وانت امريكي فلنترك العراقيين يديرون شؤونهم. حاول بريمر مرارا مقابلة السيستاني، ولكن الرجل الذي يعيش بساطة متناهية، حسب قول الذين زاروه في منزله، يري ان مهمته ممارسة الدرس الديني وتخريج الفقهاء، ولا ينازع اهل السياسة في ما يتنازعون عليه. في منزله تجلس في مجلس متواضع يرتاده طلاب العلم، وتهيمن عليه احاديث القرآن والفقه، ولا يحتوي علي شيء من زخارف الدنيا. وهنا يكمن سر عظمة مراجع الدين الكبار، فهي عظمة مكتسبة من موقع الدين في نفوس الناس، وليس باساليب القهر والغلبة والقوة. وبينما وقف اولئك المراجع الكبار حماة لقيم الدين ومبادئه، وقف غيرهم يبرر منع الحجاب في فرنسا ويبرر لحكومتها القرار الذي اتخذته. لقد كانت مواقف العلماء الكبار في العراق مفصلية في الحركة السياسية منذ زمن طويل. فعندما أصدر آية الله السيد حسن الشيرازي في 1892 فتواه الشهيرة بتحريم التنباك في ايران فاضطرت الشركة لسحب امتيازها وتقلص النفوذ البريطاني في ايران. وبعدها بأقل من ثلاثين عاما وقف علماء العراق حاملين راية مقاومة الاستعمار فكانت ثورة العشرين الشهيرة. آية الله السيستاني، استحضر تلك المواقف التاريخية لأسلافه، فطرح موقفه السياسي الاخير برفضه المشروع الامريكي لوضع دستور دائم للعراق عبر مجلس وطني معين، وطالب بانتخاب حر مباشر لاعضاء المجلس الذي يعين الحكومة الانتقالية ويشرف علي وضع الدستور. آية الله السيستاني تعايش مع الوضع السياسي السابق بصمت، وانصرف للتعليم الديني في الحوزة العلمية في النجف الاشرف. وعندما رأي تلك الحوزة تتداعي تدريجيا في عهد حكم حزب البعث، وهي التي صمدت علي مدي الف عام منذ تأسيسها علي يدي الشيخ المفيد في القرن الرابع الهجري، ارتأي ما رآه الفقهاء الآخرون، ومن بينهم آية الله السيد أبو القاسم الخوئي، ضرورة الحفاظ علي ما تبقي من تلك الحوزة بعد ان استهدفها النظام بشكل مباشر، وتعرض العديد من رموزها الكبار للقتل او الاغتيال، وقتل المئات من المنتسبين اليها. وكانت الحوزة العلمية في النجف قد شهدت ازدهارا متواصلا حتي نهاية الستينات عندما وصل حزب البعث الي الحكم. وتراجعت اعداد المتعلمين فيها حتي وصل الي ما دون الالف في الاعوام الاخيرة. السيد السيستاني كان احد اعمدتها، خصوصا بعد وفاة السيد الخوئي قبل عشرة اعوام. لكنه التزم الصمت بسبب الاوضاع الامنية الصعبة التي عاشها العراق. 

وبعد سقوط النظام، ارتأي السيد السيستاني الذي اصبح موضع اتفاق فقهاء النجف كمرجع اعلي للمسلمين الشيعة، عدم التدخل في الممارسة اليومية للسياسة، لكنه في الوقت نفسه ساهم بشكل مباشر في احلال الامن في تلك المدينة من خلال التوجيهات والارشادات العامة. وفي البداية أصدر فتواه الشهيرة بعدم جواز استهداف عناصر حزب البعث وقتلهم بشكل عشوائي، مطالبا باقامة نظام القانون، ومنع القتل الانتقامي الذي كانت غريزة البعض تدفعهم اليه. ولولا تلك الفتوي لسالت حمامات الدم في مناطق العراق. هذا لا يعني ان حوادث القتل التي استهدفت البعثيين توقفت تماما، لكن من المؤكد انها لم تصبح ظاهرة كما كان متوقعا. كما انه لم ينطلق علي اساس طائفي في مواقفه، فساهم في افشال المخططات التي كانت تهدف لاثارة فتنة طائفية في ارض الرافدين. وفي الوقت نفسه لم يدع لحمل السلاح بوجه قوات الاحتلال، الامر الذي وفر عليهم الكثير من الضحايا والمشاكل. ولكنه هو نفسه الذي احرج السلطة المدنية للاحتلال برفض مشروعها الذي اعلنه بول بريمر بتشكيل مجالس في المحافظات من اعيانها تقوم باختيار اعضاء المجلس الوطني المخول تشكيل الحكومة ووضع الدستور. وقبل اكثر من ثلاثة شهور اعلن عن موقفه الداعي لانتخاب اعضاء المجلس المخول مهمة وضع الدستور. ثمة استغراب كبير حول هذه المفارقة الكبيرة بين موقف مرجع ديني مسلم يصر علي الممارسة الديمقراطية، وموقف الامريكيين الذين وجدوا في الدعاية الديمقراطية مخرجا من الورطة السياسية التي وجدوا انفسهم فيها بعد فشلهم في اكتشاف اسلحة الدمار الشامل بعد سقوط النظام. فعلي مدي الشهور التسعة الماضية روج الساسة الامريكيون والبريطانيون تبريراتهم لشن الحرب ضد العراق بانها تهدف لتخليص الشعب العراقي من حاكم طاغية واستبداد مروع، وانهم بصدد اقامة نظام ديمقراطي متميز بدلا عنه. ولكن العالم يلاحظ اليوم انهم فشلوا في اول امتحان ديمقراطي لهم علي ارض الواقع. 
وكان بعض اعضاء مجلس الحكم يبرر عدم اجراء الانتخابات باعذار عديدة منها عدم وجود سجل احصائي سكاني، وصعوبة الوضع الامني في البلاد، واحتمال تصاعد اعمال العنف والارهاب ضد مراكز الاقتراع والتصويت، وعدم وجود الوقت الكافي للاعداد للانتخابات. غير ان الامريكيين واعضاء مجلس الحكم وجدوا انفسهم الآن امام محك كبير. فالمقولة الديمقراطية تواجه مصيرا خطيرا خصوصا مع اصرار آية الله السيستاني علي اجراء الانتخابات، وبعد ان فشلت كل المحاولات التي بذلها بعص اعضاء مجلس الحكم لثني المرجع الديني عن موقفه. لم يعد خافيا ان ما تدعيه السلطة المدنية للاحتلال من وقائع لعدم اعتماد العملية الانتخابية للمجلس التأسيسي يختلف عن الدوافع غير المعلنة. فما تطرحه من وقائع تدحضها الحقائق، سواء في ما يتعلق بالاحصاء السكاني (خصوصا مع وجود البطاقة التموينية والسجلات المضبوطة لدي وزارات الدولة) ام الوضع الامني ام عدم وجود الوقت الكافي لاعداد البرنامج الانتخابي. وما هو واضح ان الامريكيين يسعون لصياغة المستقبل العراقي وفق رؤاهم واهدافهم، ويخشون ان لا تحقق الارادة العراقية الحرة ما يطمحون اليه. فمن ضمن ما سيقوم به المجلس المقترح اقرار اتفاقات امنية مع قوات الاحتلال، وتحديد طبيعة العلاقات وآفاقها بين واشنطن وبغداد، وتوجه علاقات العراق الاقليمية خصوصا ازاء الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين. ويصعب التكهن بما ستتمخض عنه الانتخابات الحرة من اتجاهات ايديولوجية وسياسية. وكثيرا ما كرر الامريكيون عدم رغبتهم في صعود التيار الديني الي القيادة السياسية، غير انهم، في الوقت نفسه، اصبحوا يواجهون حقائق علي ارض الواقع ربما لم يتوقعوها. ففي افغاتستان مثلا، وجد الامريكيون اصرارا من اعضاء اللويا جيرغا علي الحفاظ علي الهوية الاسلامية للبلاد، ابتداء بتسمية البلاد جمهورية افغانستان الاسلامية وانتهاء بالدستور الذي كرست فيه الهوية الاسلامية بشكل واضح. وبالرغم من محاولات واشنطن التأثير علي المسيرة السياسية في البلاد، فهناك توجه عام للاحتفاظ بقدر من الاستقلال في اتخاذ القرار والحفاظ علي الهوية الدينية للبلاد. ومن المؤكد ان اقتلاع نظام الطالبان قد أزال مصدر تهديد لواشنطن وواحدا من الاهداف الرئيسية لما تسميه الحرب ضد الارهاب ولكنه لم يؤد الي قيام نظام سياسي وفق ما تريده الولايات المتحدة. ويشعر الساسة الامريكيون انهم يواجهون وضعا مشابها في العراق، فقد اقتلعوا نظام صدام حسين بحجة امتلاكه اسلحة الدمار الشامل، وعندما لم يعثروا علي شيء منها لاحقا، تغير الشعار المعلن للحرب، وتوسع الحديث عن الديمقراطية وحقوق الانسان. لكن هذه الشعارات تحمل، في طياتها، تحديات جديدة لواشنطن. وقد اصبحت واشنطن الآن امام المحك. فاما ان تلتزم بشعاراتها الديمقراطية وتسمح للشعب العراقي بممارستها عمليا بدءا بكتابة دستوره، مرورا باالانتخابات البرلمانية وانتهاء بتشكيل حكومة مدنية منتخبة علي اساس لكل مواطن صوت وتشجيع قيام مؤسسات المجتمع المدني، او تعلن للعالم ان الديمقراطية التي ترفع شعارها انما هي انتقائية وليست قيمة مطلقة بل تخضع للزمان والمكان. ولا بد ان تعي واشنطن ان للديمقراطية تبعاتها وقد لا تكون نتائجها دائما منسجمة مع ما تريده واشنطن. ومن المؤكد ان الولايات المتحدة تعي ذلك تماما، ولهذا لم تمارسها كقيمة مطلقة، ولم تدعم المنادين بها الا عندما تشعر ان ذلك لا يتعارض مع مصالحها. وقد وقفت بشكل متواصل مع الانظمة القمعية في العالم، وتحالفت مع اشد الانظمة استبدادا وتخلفا، ولم تدعم دعاة الديمقراطية في البلدان التي تحالفت حكوماتها مع امريكا، حتي لو كانت تلك الحكومات ديكتاتورية. العراق سيكون انبوبة اختبار لشعار الشراكة الديمقراطية الذي طرحه وزير الخارجية الامريكي، كولن باول. والشهور المقبلة سوف تقرر مدي نجاح الولايات المتحدة في ذلك الاختبار. العراقيون يريدون الممارسة الديمقراطية بدون شك، وقد مارسوها عمليا في ادارة شؤونهم المحلية علي مستوي المحافظات ومؤسسات المجتمع المدني، وعبروا عن عشقهم للحرية علي صفحات الجرائد التي انتشرت بشكل واسع منذ سقوط نظام صدام حسين، والتي اصبح عددها يربو علي 150 يوميا. وعبروا عن تشبثهم بحقوقهم الديمقراطية بالتظاهرات السلمية التي نظمتها المجموعات المهنية المختلفة، سواء عناصر الجيش الذين تم تسريحهم ولم يحصلوا علي رواتبهم، ام المواطنون المطالبون بتحسين اوضاعهم المعيشية او السياسية. وبالرغم من انهم لم يعتادوا الاقتراع في صناديق الاقتراع فانهم، قادرون علي ممارسة الحق الديمقراطي بدون مشكلة. الدافع الاكبر لرفض الممارسة الانتخابية ينطلق من الخشية من فقدان السيطرة علي نتائجها، فيصل ممثلون عن الشعب قد لا تتوافق رؤاهم ومواقفهم مع ما يريده المحتل الامريكي. فالعراق اليوم يرزح تحت وطأة احتلال لا يخطط للبقاء طويلا علي اراضيه فحسب، بل يسعي لصياغة نظام حكم خاضع بشكل مباشر للقرار الامريكي، ونظام ثقافي ـ اجتماعي متوافق مع الذوق الامريكي، ليكون مثلا يمكن تكراره في البلدان الاخري. وتأتي مناهج التعليم ونمط الحياة الاجتماعية وذهنية الفرد العراقي، في مقدمة الجوانب التي يراد لها ان تتغير. فالعراق انبوبة اختبار كبيرة، نظرا لحجم العراق وموقعه وتأثيره علي محيطه. وقد اعتمد الامريكيون في العقود الثلاثة الماضية علي المملكة العربية السعودية لتطويع المنطقة للارادة الامريكية، ولكنهم ادركوا الآن فشل تلك المحاولة، لاسباب كثيرة. واصبحوا اكثر وعيا لاهمية بناء الذهنية كأساس للمشروع الامريكي، وهذا يتطلب الاهتمام بطرق التعليم ومناهج التثقيف، واساليب التوعية الشعبية. وبمعني آخر، ترتكز الخطة الامريكية علي تأميم العملية التربوية بحيث تكون شاملة وتغطي كافة منابع الثقافة اليومية للمواطن. من هنا يمكن اعتبار ما دعا اليه المرجع الديني آية الله السيد علي السيستاني، من اعادة تأهيل المواطن العراقي لممارسة دوره في بناء بلاده، ابتداء باعطائه الحق في المشاركة في صياغة دستوره وتشكيل حكومته، بداية مشروع لمواجهة المشروع الامريكي ليس في جوانبه السياسية فحسب، بل في ابعاده الثقافية والفكرية والاجتماعية. فلا غرابة اذن ان يهرع بول بريمر الي واشنطن للتشاور مع رؤسائه في كيفية الخروج من عنق الزجاجة. فالمضي في مشروعهم بدون مراعاة مطالب السيستاني قد يؤدي الي عزلهم ومن يتعاون معهم شعبيا، وبالتالي فقدان التأثير المطلوب لتمرير المشروع. اذ لا يمكن فرض اي مشروع بدون وجود التفاعل الشعبي الواسع معه. ويعرف الامريكيون ان امتناع القيادات الدينية الشيعية عن الدعوة للمقاومة العسكرية المسلحة للاحتلال ليس خيارا دائما، بل هو محاولة لمنع تفاقم الامور في العراق وعودة شبح التوتر العسكري، وان اية مواجهة معها سوف يزيد الوضع تعقيدا ويضاعف الخسائر الامريكية في الوقت الذي اصبحت فيه الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة علي الابواب. 

_________________________

2004/01/21
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن