كف العصابة عما شجر بين الصحابة - السيد بن عبدالمقصود ..
كف العصابة عما شجر بين الصحابة
السيد بن عبدالمقصود
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد كثر في هذه الأيام الطعنُ في أصحاب رسول الله من الرّوافض الجدد وممن سار في ركبهم من بعض الكتّاب والصحفيين، بل وصل الأمر إلى أن يطعن أمثال أسامة أنور عكاشة في بعض الصّحَابة على الملأ وفي بعض الفضائيات.
إن هذه الهجمة الشرسة هي جزء من مخطط منظم للنيل من الصحابة الكرام، أهل الدين والعرفان؛ وسبب هذه الهجمة من معروف سلفاً كشف عنه الإمام أبو زرعة –رحمه الله- حينما قال: (إذا رأيت الرجل ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعلم أنه زنديق، يريدون أن يجرحوا شهودنا، هذه الكلمة التي قالها أبو زرعة الإمام –رحمه الله- تكشف لنا بوضوح ما يرمي إليه أهل الزَّيغ والضلال من الطعن في الشريعة، حيث لا يستطيعون الطّعن فيها مباشرة، فيعمدون إلى الطعن في نَقَلَتِهَا وهم الصحابة الكرام، ومن ثمَّ يتمُّ لهم ما أرادوا من زعزعة الثقة بالشرع المطهر ولن يحدث بإذن الله؛ لذا فقد جمعت هذه الرسالة وسميتها: "كفُّ العصابة عما شَجَرَ بين الصحابة". بيّنت فيها موقف أهل السنة من هذه المسألة.
أسأل الله تعالى أن يدّخر لي ثوابها عنده وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[فصل]
في فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:
لد تواترت الفضائل بذكر مناقب الصحابة رضي الله عنهم وَأَلَّف العلماء في ذلك كتباً جمة، بل ألّفوا في فضائل الصحابي الواحد بعد الآخر.
وتضمنت الآيات القرآنية الثناء عليهم رضي الله عنهم، وهذه وحدها وسام على صدورهم رضي الله عنهم وأرضاهم.
فقد وصفهم الله تعالى بالسابقين وأن الله تعالى رضي الله عنهم، بل وجعل جزاءهم الحسنى وهي الجنة.
وأدلة ذلك في الكتاب كثيرة منها:
ـ قال الله تعالى: }وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ { [التوبة:100].
ـ وقال سبحانه }مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيماً{ [الفتح:29].
ـ وقال سبحانه: }لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى{ [الحديد:10].
ـ وقال سبحانه: } لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ . وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ { [الحشر:8-10].
ـ وقال سبحانه: }إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ{ [الأنفال:72] .
ـ وقال سبحانه: } لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ { [التوبة:117].
وكذلك جاءت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بمدحهم والثناء عليهم والنهي عن سَبِّهم.
ـ فمن ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم : (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم). قال عمران:" فلا أدري: أَذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة"([1]).
ـ وقوله صلى الله عليه وسلم : (لا يدخلُ النّارَ إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد، الذين بايعوا تحتها..". الحديث ([2]).
ـ وقوله صلى الله عليه وسلم : (لا تَسُبّوا أحداً من أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أُحدِ ذهباً، ما أدرك مدَّ أحدهم ولا نصيفة) ([3]).
ـ وقال ابن عمر رضي الله عنهما: (لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلمقام أحدهم ساعة، خير من عبادة أحدكم أربعين سنة "وفي رواية" خير من عمل أحدكم عمره) ([4]).
وجعل النبي صلى الله عليه وسلم حبهم من علامات الإيمان، وبغضَهم من علامات النّفاق فقال: (آية الإيمان حبُّ الأنصار، وآية النفاق بغضُ الأنصار) ([5]).
ـ وعن جابر رضي الله عنه قال: (استغفر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وعشرين مرة) ([6]).
بل كان استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه كذلك بعد موتهم: ففي حديث عوف بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم على جنازة، فحفظ من دعائه وهو يقول: اللهم اغفر له، وارحمه وعافه وأعف عنه وأكرم نزله..) الحديث ([7]).
وبعد: أوليست هذه الأحاديث كلها والآثار تدلُّ على فضائل أصحابه صلى الله عليه وسلم على الدعاء لهم بالمغفرة والرحمة؟!.
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يدعو لأصحابه بالمغفرة، وهذه منقبة عظيمة لهم. ودعاؤه صلى الله عليه وسلم مستجاب لاشك. أفيظن رجل أن يدعو لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمغفرة ولا يغفر لهم الله اللهم لا.
ـ فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (ما نسينا الغبار عن شعر صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: اللهم إن الخير خير الآخر، فاغفر للأنصار والمهاجرة.. ) الحديث ([8]).
وعن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه، قال: (رأيت رسول ا لله صلى الله عليه وسلم وأكلت معه خبزاً ولحماً، أو قال ثريداً فقلت غفر الله لك يا رسول الله قال: ولك، قلت: استغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم، ولك، وتلا: } وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ { ([9]).
***
[فصل]
في اعتقادنا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:
في هذا الفصل نجمل اعتقادنا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقول وبالله التأييد وبيده التوفيق.
تعتقد أن الصحابة هم أفضل وخير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا يختار الله تعالى لصحبة نبيه إلا خير وأفضلهم ديناً وحسباً ونسباً، فنحن نحبهم ولا نغالي فيهم، ونواليهم ولا نسبهم، ونبغض من يسبهم ويعاديهم، ونتهمه بالبدعة وسوء القصد كما نعتقد أن بعض الصحابة أفضل من بعض فتقدم أبا بكر رضي الله عنه، ثم عمر ثم عثمان ثم علي، على ترتبيهم في الخلافة.
نقول: لكل منهم سابقة ولكل منهم فضل لا ينكره إلا جاهل أو جاحد أو مكابر، ونمسك عما شجر بينهم من قتال ولا ننشر ذلك بين الناس ونقول ما وقع منهم من قتال صدر عن اجتهاد منهم فهم متقلبون بين أجر وأجرين، وقد سبقت لهم من الله تعالى الحسنى، والله يغفر لهم إما بتوبة ماضية أو مصائب مكفرة، أو غير ذلك، ونقول كما علمنا الله تعالى: }رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ{ [ الحشر:10].
فينبغي أن ندعو لهم، ونطهر ألسنتنا من الخوض فيهم كما طهرنا سيوفنا عما شجر بينهم، ونعتقد أنهم خير القرون بشهادة النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم، كما نوقن أن من علامات أهل البدع الوقيعة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ينبغي أن ننشر فضائلهم في المجالس ونعطرها بمناقبهم، ولا نشحن قلوب الناس عليهم بذكر ما شجر بينهم، ونعتقد أن حبهم من الإيمان وموالاتهم، ونتقرب إلى الله تعالى بحبهم، ونسأل الله تعالى أن نحشر معهم، فويلٌ لمن وقع فيهم أو ملأ قلبه حقداً ودغلاً عليهم، أو أبغضهم وآذاهم، أو سبّهم وعاداهم، فلا أربح الله تجارته في الدنيا والآخرة، ولا جمع الله شمله. بل نسأل الله تعالى أن يجعله عبرة للمعتبرين، وعطفه للسالكين.
[فصل]
ذكر أقوال أهل السنة في الكف عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم:
في هذا الفصل سننقل أقوال أهل السنة في الكف عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم، وذلك ليقف المسلم على مذهب أهل السنة في هذه المسألة. فمن ذلك قوله الإمام شهاب بن خراش –رحمه الله-: "أدركت من صَدَرةٍ هذه الأمة وهم يقولون: اذكروا في المجلس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تأتلف عليه القلوب ولا تذكروا الذي شجر بينهم فتحرشوا عليهم الناس" ([10]).
ـ وقال إبراهيم بن آزر الفقيه: "حضرت أحمد بن حنبل وسأله رجل عما جرى بين علي ومعلوية؟ فأعرض عنه، فقيل له: يا أبا عبد الله هو رجل من بني هاشم فأقبل له: يا أبا عبد الله هو رجل من بني هاشم فأقبل عليه فقال اقرأ: }تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ { ([11]).
وقال أيضاً: "هذه دماء طهر الله منها أيدينا فلنكف عنها ألسنتنا" ([12]).
ـ جاء رجل إلى الإمام أبي زرعة الرازي –رحمه الله- فقال له: "إني أبغض معاوية، فقال له الإمام: ولما؟ قال: لأنه قاتل علياً بغير حق، فقال له الإمام –رحمه الله- رب معاوية رب رحيم، وخصم معاوية خصم كريم، فما دخولك بينهما"([13]).
ـ وقال الإمام الطحاوي –رحمه الله-: "ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الحق يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان... ومن أحسن القول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه المطهرات من كل دنس وذرياته المقدسين من كل رجس، فقد برئ من النفاق" ([14]).
ـ وقال الإمام ابن قدامة –رحمه الله- : "ومن السنة قول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر محاسنهم، والترحم عليهم، والاستغفار لهم، والكف عن ذكر مساوئهم وما شجر بينهم، واعتقاد فضلهم، ومعرفة سابقتهم، قال الله تعالى: } رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ { الآية [الحشر:10].
وقال تعالى: }مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا{ [الفتح:29].
ومن السنة الترضي عن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين المطهرات المبرآت من كل سوء ([15]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- : "ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم، وألسنتهم لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .. ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة أو الإجماع من فضائلهم ومراتبهم .. ويتبرؤون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت يقول أو فعل ويمسكون عما شجر بين الصحابة ويقولون إن هذه الآثار المروية في مساوئهم، منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص، وغيّر عن وجهه والصحيح منه: هم فيه معذورون: إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون. وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم من كبائر الإثم وصغائره، بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر حتى إنه يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم، وقد ثبت. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنهم خير القرون) ([16]). وأن المد من أحدهم إذا تصدق به، كان أفضل من جبل أحد ذهباً ممن بعدهم" ([17]).
ثم إذا صدر عن أحدهم ذنب، فيكون قد تاب منه أو أتي بحسنات تمحوه، أو غُفر له بفضل سابقته، أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذين هم أحق الناس بشفاعته، أو ابتلى ببلاء في الدنيا كُفَّر به عنه، فإذا كان هذا في الذنوب المخففة، فكيف بالأمور التي كانوا فيها مجتهدين: إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطأوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور.
ثم القدر الذي ينكر من فعل بعضهم نزر مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم، ومن الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله، والهجرة والنصرة، والعلم النافع، والعمل الصالح، ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة، وما منّ الله به عليهم من الفضائل، علم يقيناً أنهم خير الخلق بعد ا لأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم، وأنهم هم صفوة الصفوة من قرون هذه الأمة، التي هي خير الأمم وأكرمها على الله" ([18]).
وقال أيضاً: "وكذلك نؤمنُ بالإمساك عما شجر بينهم (أي الصحاب) ونعلم أن بعض المنقول في ذلك كذب وهم كانوا مجتهدين إما مصيبين فلم أجران، أو مثابين على عملهم الصالح المغفور لهم خطؤهم، وما كان من السيئات وقد سبق لهم من الله الحسنى فإن الله يغفرها لهم إما بتوبة أو بحسنات ماحقة أو مصائب مُكفّرة أو غير ذلك، فإنهم خير هذه الأمة كما قال صلى الله عليه وسلم" ([19]).
ـ وقال الحافظ الذهبي –رحمه الله- :"سبيلنا الكف والاستغفار للصحابة ولا نحب ما شجر بينهم ونعوذ بالله منه" ([20]).
ـ وقال أيضاً: "معاذ الله أن نشهد على أتباع الزبير أو جند معاوية أو علي بأنهم في النار، بل نفوض أمرهم إلى الله ونستغفر لهم" ([21]).
ـ وقال أيضاً: :نحمد الله أن أوجدنا في زمان قد أنمحص فيه الحق، واتضح من الطرفين وعرفنا مآخذ كل واحد من الطائفتين، وتبصّرنا فغذرنا، واستغفرنا وأحببنا باقتصاد" وترحمنا على البغاة بتأويل سائغ في الجملة أو بخطأ إن شاء الله مغفور وقلنا كما علمنا ربنا: }رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ{ [الحشر:10].
وترضّينا عمن اعتزال الفريقين كسعد بن أبي وقاص وابن عمر ومحمد بن مسلمة وسعيد بن زيد وخلق، وتبرأنا إلى الله من الخوارج المارقين الذين حاربوا علياً وكفروا الفريقين، فالخوارج كلاب النار قد مرقُوا من الدين ومع هذا فلا نقطع لهم بخلود النار كما نقطع لعبدة الأصنام" ([22]).
ـ وقال أيضاً: "ولا نذكر أحداً من الصحابة إلا بخير ونترضى عنهم، ونقول هم (أي معاوية وأصحابه) طائفة من المؤمنين بغت على الإمام علي وذلك بنص قول المصطفى صلوات الله عليه لعمار (تقتلك الفئة الباغية)، فنسأل الله أن يرضى عن الجميع وأن لا يجعلنا ممن في قلبه غل للمؤمنين ولا نرتاب أن علياً أفضل من حاربه وأنه أولى بالحق رضي الله عنه" ([23]).
ـ وقال أيضاً: "ما نقرّر الكف عن كثير مما شجر بين الصحابة وقتالهم رضي الله عنه أجمعين وما زال يمر بنا في الدواوين والكتب والأجراء، ولكن أكثر ذلك منقطع وضعيف وبعضه كذب وهذا فيما بأيدينا وبين علمائنا، فينبغي طيه، وإخفاؤه، بل إعدامه لتصفو القلوب وتتوفر على حب الصحابة والترضي عنهم وكتمان ذلك متعين على العامة وآحاد العلماء، وقد يُرخّصُ في مطالعة ذلك خلوةُ للعالم المنصف العري عن الهوى بشرط أن يستغفر لهم كما علمنا الله تعالى.." إلى أن يقول: "فالقوم لهم سوابق وأعمال مكفّرة لما وقع منهم وجهاد محَّاء، وعبادة ممحصة، ولسنا ممن يغلو في أحد منهم، ولا ندعي فيهم العصمة، ونقطع بأن بعضهم أفضل من بعض .. فأما ما تنقله الرافضة وأهل البدع في كتبهم من ذلك فلا تعرّج عليه ولا كرامة فأكثره باطل وكذب وافتراء ودأب الروافض رواية الأباطيل أو ردّ ما في الصحاح والمسانيد ومتى إفاقة من ربه سكران" ([24]).
ـ وقال الإمام أبو بكر الإسماعيلي في معتقد أهلي السنة: "ويرون تعلُّمَ العلم وطلبه من مظانَّه، والجدّ في تعلم القرآن وعلومه وتفسيره، وسماع سنن الرسول صلى الله عليه وسلم وجمعها، والتفقه فيها، وطلب آثار الصحابة، والكف عن الوقيعة فيهم، وتأول القبيح عليهم، ويكلونهم في جرى بينهم على التأويل إلى الله عز وجل" ([25]).
ـ وقال العلامة سعد الدين التفتازاني: "ويجب تعظيم الصحابة والكف عن مطاعنهم، وحمل ما يوجب بظاهرة الطعن فيهم على محامل وتأويلات سيما المهاجرين والأنصار، وأهل بيعة الرضوان، ومن شهد بدراً وأحداً والحديبية، فقد انعقد على علو شأنهم الإجماع، وشهدت بذلك الآيات والأخبار الصحاح، وتفاصيلها في كتب الحديث والسير والمناقب وكف اللسان عن الطعن فيهم ([26]). ـ وقال عبد الله بن سوار العنبري قاضي البصري المتوفي سنة 228هـ: "السنة عندنا تقديم أبي بكر وعمر وعثمان والحب للصحابة جميعاً، والكف عن مساوئهم، وعظيم الرجاء لهم" ([27]).
قلت: ولهذا كان السلف يوصون بعدم الخوض فيما شجر بين الصحابة.
ـ وقال الشافعي –رحمه الله- للربيع: "أقبل مني ثلاثة أشياء لا تخض في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن خصمك النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، ولا تشتغل بعلم الكلام فإني أطلعت من أهل الكلام على أمر عظيم، ولا تشتغل بالنجوم، فإنه يجر إلى التعطيل" ([28]).
ـ وقال سفيان الثوري –رحمه الله- : "لا تشتم السلف وادخل الجنة بسلام"([29]).
ـ وقال العلامة السفاريني –رحمه الله-:
واحذر من الخوض الذي قد يزري |
| بفضلهم مما جرَى لو تدري |
فإنّه عن اجتهاد قد صدر |
| فاسلم أذّل الله من لهم هجر |
قال: "ولهذا اتفق أهل الحق ممن يعتد به في الاجتماع على قبول شهادتهم ورواياتهم وثبوت عدالتهم، ولهذا قال علماؤنا كغيرهم من أهل السنة ومنهم ابن حمدان في "نهاية المبتدئين" : يجب حب كل الصحابة والكف عما جرى بينهم كتابة وقراءة وإقراءً وسماعاً وتسميعاً، ويجب ذكر محاسنهم والترضي عنهم والمحبة لهم وترك التحامل عليهم واعتقاد العذر لهم وأنهم إنما فعلوا ما فعلوا باجتهاد سائغ لا يوجب كفراً ولا فسقاً بل ربما يثابون عليه؛ لأنه اجتهاد سائغ، ثم قال يعني ابن حمدان: "والمصيب عليّ ومن قاتله فخطؤه معفو عنه".
ـ وقال السفاريني: "والذي أجمع عليه أهل السنة والجماعة أنه يجب على كل أحد تركية جميع الصحابة بإثبات العدالة لهم والكف عن الطعن فيهم والثناء عليهم.
ـ وقال في شرحه للنظم السابق: "وإنما نهى عن الخوص؛ لأن الإمام أحمد كان ينكر على من خاص، ويسلم أحاديث الفضائل، وقد تبرأ رضي الله عنه ممن ضللهم أو كفّرهم وقال السكوت عما جرى بينهم" ([30]).
ـ وقال الشيخ عدي من مسافر في بيان معتقد أهل السنة " والكف عن ما شجري بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونشر محاسنهم والكف عما جري بينهم وأن الله قد غفر لهم وعلّم نبيه أنهم سيقتتلون" ([31]).
ـ وقال الحافظ ابن حجر –رحمه الله- : "واتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب وما وقع لهم من ذلك ولو عُرف المحقّ منهم؛ لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد وقد عفا الله تعالى عن المخطئ في الاجتهاد بل ثبت أنه يؤجر أجراً واحداً، وأن المصيب يؤجر أجرين"([32]).
ـ وفي ترجمة ابن الداعي من "السير" قال الحافظ الذهبي –رحمه الله-: "قال أبو علي التنوخي حدثنا أبو الحسن بن الأزرق قال: "كنت بحضرة الإمام عبد الله بن الداعي فسأله أبو الحسن المعتزلي عما يقول في طلحة والزبير فقال: " أعتقد أنهما من أهل الجنة، قال: ما الحجة، قال: قد رويت توبتهما والذي هو عمدتي أن الله بشرهما بالجنة، قال: فما تنكر على من زعم أنه عليه السلام قال: (إنهما من أهل الجنة، ومقالته: فلو ماتا لكانا في الجنة، فلما أحدثنا زال ذلك قال: هذا لا يلزمن وذلك أن نقل المسلمين أن بشارة النبي صلى الله عليه وسلم سبقت لهما فوجب أن تكون موافاتهما القيامة على عمل يُوجب لهما الجنة وإلا لم يكن ذلك بشارة، فدعا له المعتزلي واستحسن ذلك، ثم قال: ومحال أن يعتقد هذا فيهما، ولا يعتقد مثله في أبي بكر وعمر إذ البشارة للعشرة"([33]).
[نصيحة مهمة]
لقد أمتاز ديننا بمزايا جليلة فمن ذلك أنه وصل إلينا بالإسناد الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه المزية العظيمة، فقدتها الأمم السابقة، وكان من نتائج ذلك أن حرّفوا وبدلوا، وتسبوا أشياء إلى أنبيائهم وصالحيهم ما قالوها بل ونسبوا أشياء إلى رب الأرض والسماء ما قالها الله تعالى، ومن هنا تكمن أهمية الإسناد ومعرفته وقيمته في الرواية.
ورحم الله بن المبارك حيث قال: "الإسناد عندي من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء" ([34]).
فالاعتماد على الرواية الصحيحة الثابتة في إثبات واقعة من الوقائع أمر لابد منه، والسبب في ذلك أن بعض من لهم أغراض خبيثة قد حاولوا النيل من هذا الدين العظيم فدَسُّوا ما لا يصح من الأحاديث والآثار ونسبوها زوراً وبهتاناً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، ثم خلف من بعدهم خلفٌ تلقفوا هذه الأخبار ونشروها، بل وزاد بعضهم فيها وعليها، ما أملاه هواه وشيطانه.
ولكن الله تعالى قيض لهذا الدين الجهابذة من النقاد والعلماء الذين ضحوا بأموالهم وأوقاتهم وصحتهم، بل وأرواحهم في كثير من الأحيان في سبيل الدفاع عن دين الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم وعن صحابته الكرام رضوان الله عليهم، فكشف العلماء زيف الروايات الباطلة التي تطعن في نزاهة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فنصيحتي لطالب الحق أن يحاول قدر الإمكان التثبت في الروايات، ثم إن التاريخ الإسلام قد أصابه بعض الغبار من جراء تلك المرويات المكذوبة التي نُسبت إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي يراد من ورائها تشويه صورتهم، وقد حاول الغربيون من مستشرقين وغيرهم وما زالوا بث تلك الروايات الباطلة، إما بواسطة مؤلفاتهم أو بواسطة أناس ممن تربوا على أيديهم ورضعوا من فلسفاتهم، فربوهم على أعينهم ودفعوا بهم بين ظهراني المسلمين، ولعلك تسمع أسمائهم، وقد سموا بالأسماء العربية وانتسبوا إلى الإسلام فروجوا المقالات الضالة، والمؤلفات المشينة، والنشرات العقنة التي تطعن في سلف الأمة، وحاول هؤلاء الروافض الجدد أن يطمسوا كل فضيلة لأصحاب رسول ولكن الله تعالى دفع باطلهم ولا يزال بعلماء من أهل الآخرة يذبون الكذب عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وينشرون فضائلهم.
من أمثال تلك الكتب الضالة التي تطعن في الصحابة "أضواء على السنة" لمحمود أبي ربة، ويطعن صاحب هذا الكتاب خاصة في أبي هريرة الصحابي كما أنه يردُّ عشرات الأحاديث الصحيحة، ومن تلك الكتب أيضاً: "علي وبنوه" و"الفتنة الكبرى" كلاهما لطه حسين عميل الاستشراق في الوطن العربي لا عميد الأدب العربي، لقد كان طه حسين وأمثاله يرددون مقالات المستشرقين أمثال مرجليوث وجولد تسهير، ومن لا دين ولا ورع عنده.
فواجبنا النصح وأن ينصح بعضنا بعضاً ونتواصى بالحق فيما بيننا، فلنحذر قراءة أمثال تلك الكتب، فإن النظر فيها يُقَسّي القلوب ويشحنها بالبغضاء على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فالحذر الحذر من تلك المؤلفات، وإن من أراد أن يقرأ فيها ينبغي أن تكون عنده قاعدة سليمة واعتقاد مستقيم وهذه قراءة لتلك الكتب الضالة لا تكون لأي إنسان بل تكون للعالم الذي أوتي من العلم ما يجعله يفند الشبهات التي اشتملت عليها تلك المؤلفات ومع قراءة العالم لتلك المؤلفات ننصحه بأن يقرأها لبيان الأخطاء فيها وتحذير الناس منها يستغفر الله، فإن الزمان قصير والوقت كالسيف فالأولى أن يستغل الوقت فيما يفيد.
وقد يطالع العالم في بعض الكتب الحديثية التي اشتملت على بعض ما شجر بين الصحابة فإذا وقع تلك للعالم فليطالعه خفية ولا ينشره بين الناس حرصاً على اجتماع الناس على محبة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
ـ وما أجمل ما قال العلامة الذهبي –رحمه الله- قال: "ومازال يمر بنا في الدواوين والكتب والأجزاء – يعني من الأخبار التي تحكي ما شجر بين الصحابة- ولكن أكثر ذلك منقطع وضعيف وبعضه كذب، وهذا فيما بأيدينا وبين علمائنا، فينبغي طيه وإخفاؤه بل إعدامه؛ لتصفو القلوب وتتوافر على حب الصحابة والترضي عنهم وكتمان ذلك متعين عن العامة وآحاد العلماء، وقد يرخص في مطالعة ذلك خلوة للعالم المنصف العري من الهوى بشرط أن يستغفر لهم كما علمنا الله تعالى، حيث يقول: } رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ { الآية [الحشر:10] .
فالقوم لهم سوابق وأعمال مكفرة لما وقع منهم وجهاد محاء وعبادة ممحصة، ولسنا ممن يغلوا في أحد منهم ولا ندعي فيهم العصمة ونقطع بأن بعضهم أفضل من بعض .. الخ.
ثم قال –رحمه الله- : "بعد كلام طويل: "وما تنقله الرافضة وأهل البدع في كتبهم من ذلك- أي من حكاية ما شجر وغير ذلك من الطعن- فلا نعرج عليه ولا كرامة فأكثره باطل وكذب وافتراء ودأب الرافضي رواية الأباطيل أو رد ما في الصحاح والمسانيد ومتى إقامة من به سكران" ([35]).
ثم قال : "والعاقل خصم نفسه ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" ([36]).
مما سبق من كلام الحافظ الذهبي يتبين:
1ـ عدم بث ونشر ما شجر بين الصحابة من قتال.
2ـ وجوب كتمان ما شجر بينهم على العامة وآحاد العلماء.
3ـ قد يرخص للعالم المنصف العري عن الهوى مطالعة ما شجر في الكتب والإنصاف في ذلك والاستغفار للصحابة كما علمنا الله.
4ـ عدم الاعتماد على ما ورد في كتب أهل البدع والروافض، وعدم الوثوق بها.
5ـ لا يجوز للعامي ولا أنصاف المتعلمين مطالعة كتب الروافض وأهل البدع.
6ـ أكثر ما ورد فيما شجر بين الصحابة لا يصح من قبل إسناده فهو إما ضعيف أو كذب أو منقطع لا يوثق بمن نقله ورواه.
7ـ ينبغي إعدام تلك الروايات الباطلة؛ لأنها من العلم الذي لا ينفع والذي يحرم نشره وبثه.
وفي موضع آخر يقول الحافظ الذهبي مبيناً أن من العلم الذي يحرم نشره القصص الباطلة والروايات المنكرة، فيقول –رحمه الله- : "والعلم الذي يحرم تعلمه ونشره علم الأوائل وإلهيات الفلاسفة) ([37]). وبعض رياضتهم، بل أكثر وعلم السحر والسيمياء ([38])، والكمياء والشعبذة والحيل ونشر الأحاديث الموضوعة وكثير من القصص الباطلة أو المنكرة، وسيرة أبطال المختلفة وأمثال ذلك ورسائل إخوان الصفا ([39]). وشعر يعرض فيه إلى الجناب النبوي، فالعلوم الباطلة كثيرة جداً، فلنحذر ومن ابتلي بالنظر فيها للفرجة والمعرفة من الأذكياء، فليقلل من ذلك وليطالعه وحده ويستغفر الله تعالى وليلتجئ إلى التوحيد والدعاء بالعافية في الدين" ([40]).
ـ وما أجمل ما قال شهاب بن خراش –رحمه الله- : " أدركت من أدركت صدره هذه الأمة، وهم يقولون: اذكروا في المجلس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تأتلف عليه القلوب ولا تذكروا الذي شجر بينهم فتحرشوا عليهم الناس" ([41]).
وبعد هذا كله أعجب كل العجب من جرأة من لا علم عنده ويتكلم في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُطلق العنان لقلمه، ويهرف بما لا ويتكلم في مجال لا يُحْسِنه وما أجدر أن يقال لهذا وأمثاله:
ـ"ليس بعُشَّك فادرُج إلى خُشَكَ"([42]).
ـ "ودَعْ عَنْكَ الكتابة لست منها".
ـ"ولو سَوِّدت وَجْهَك بِالمِدادِ".
ورحمه الله على من قال:
إني امرؤ ليس في ديني لغامزه |
| لين ولست على الإسلام طعاناً |
فلا أسبُّ أبا بكر ولا عمراً |
| ولن أسبَّ معاذ الله عثمانا |
ولا ابن عم رسول الله أشتمه |
| حتى أُلبَّس تحت الترب أكفاناً |
ولا الزبير حواري الرسول ولا |
| اهدى لطلحة شتماً عزَّ أوهاناً ([43]) |
ـ لقد كان السلف رضوان الله عليهم يطردون من مجالسهم من يسبُّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يقع فيهم؛ ففي ترجمة سلام بن سليم الحنفي وكنيته أبو الأحوص، قال العجلي: "كان ثقة صاحب سنة واتباع، وكان إذا ملئت داره من أصحاب الحديث قال لابنه أحوض: "يا بني قم فمن رأيته يشتم أحداً من الصحابة فأخرجه ما يجئ بكم إلينا) ([44]).
بل لقد أفتى الإمام مالك –رحمه الله- بالهجرة من البلد التي يسب فيها السلف رضي الله عنهم ([45]).
قلت: سبحان الله! فكيف لو رأى مالك –رحمه الله- ما يقع من بعض الناس من سب فاطر السموات والأرض وسب دينه، وقد هاجر الخرقي –رحمه الله- صاحب المختصر الذي شرحه ابن قدام- هاجر من بلده بغداد التي كان يسكنها لما سمع فيها من يسب الصحابة رضي الله عنهم ([46]).
لقد كان العلماء يحذرون ممن يسب الصحابة ولو كان هذا الساب ممن أوتي قسطاً من العلم، فكانوا يحذرون الناس منه، ومن الأخذ عنه، فقد رَوي الإمام مسلم في مقدمة صحيحه بسنده عن عبد الله ابن المبارك أنه صعد على المنبر، وقال : "دعوا حديث عمرو بن ثابت فإنه كان يسب السلف ([47]).
وما أحسن ما قال الإمام أبو زرعة –رحمه الله-: "إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعلم أنه زنديق" ([48]).
([1]) رواه البخاري في مواضع منها الشهادات (5/ 258-259)، فضائل الصحابة (7/ 3)، ومسلم في فضائل الصحابة (4/ 1964).
([2]) رواه مسلم في فضائل الصحابة (4/ 1942).
([3])
([4]) رواه البخاري في فضائل الصحابة (7/ 21)، مختصراً ومسلم في فضائل الصحابة، (4/ 1967-1998)، واللفظ له.
([5]) رواهما الإمام أحمد في فضائل الصحابة (20،15) وابن ماجة (162) وابن أبي عاصم في السنة (1040) بإسناده صحيح.
([6]) رواه البخاري (1/ 62)، ومسلم (1/ 85).
([7]) رواه الترمذي (3853)، وقال حسن صحيح غريب.
([8]) رواه مسلم (73 ،2916)
([9]) رواه مسلم (2346)، وأحمد (5/ 82).
([10]) سير أعلام النبلاء (8/ 285).
([11]) مناقب الإمام أحمد، لابن الجوزي، ص(126).
([12]) آداب الشافعي ومناقبه (314)، وعلق الشافعي على الأثر بقوله:"هذا جميل لأن سكوت الإنسان عما لا يعنيه هو الصواب".
([13]) تاريخ دمشق، للحافظ ابن عساكر"الفتح" (3/ 93).
([14]) شرح العقيدة الطجاوية، ص (493).
([15]) لمعة الاعتقاد، ص (29).
([16]) رواه البخاري (3651)، ومسلم (253) (212) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وقد صرح بتواتره الحافظ ابن حجر في مقدمة الإصابة (1/ 13).
([17]) رواه البخاري (3673)، ومسلم (2541)، (222)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
([18]) العقيدة الواسطية ، ص (119،115-122،120).
([19]) الوصية الكبرى، ص(41).
([20]) سير أعلام النبلاء (1/ 39).
([21]) المصدر السابق (1/ 39).
([22]) المصدر السابق (3/ 128).
([23]) المصدر السابق (8/ 210).
([24]) المصدر السابق (10/ 94،93،92).
([25]) اعتقد أهل السنة، ص (60،59)، لأبي بكر الإسماعيلي –رحمه الله- .
([26]) شرح المقاصد (5/ 303)، ونقله الألوسي في صبَّ العذاب، ص(396،395).
([27]) تهذيب التهذيب (5/ 248) لابن حجر.
([28]) توالي التأسيس ، ص (73) سير أعلام النبلاء (10/ 28).
([29]) الشرح والإبانة الكبرى لابن بطة ، ص (257).
([30]) لوامع الأنوار البهية (2/ 385-389) بتصرف. والسنة (2/ 536-592) لعبد الله بن أحمد.
([31]) اعتقاد أهل السنة والجماعة، ص (38)، للشيخ عدي بن مسافر تحقيق حمدي السلفي.
([32]) فتح الباري (13/ 37).
([33]) سير أعلام النبلاء (16/ 115).
([34]) رواه مسلم في مقدمة صحيحة رقم (32).
([35]) السير (10/ 94،93).
([36]) المصدر السابق.
([37]) كعلم الكلام والذي حذر منه السلف.
([38]) لعله ضرب من ضروب السحر وحيلة الباطلة.
([39]) وهي مجموعة رسائل مأخوذة من ملل ونحل شتى تشتمل على مخالفات كثيرة.
([40]) سيرة أعلام النبلاء (10/ 604).
([41]) أورد في السير (8/ 285).
([42]) مثل يضرب لمن دخل في شيء لا يحسنه أو أفتى بضلال وجهل!.
([43]) من شعر عبد الله بن المبارك –رحمه الله- أورده في السير (8/ 413-414).
([44]) السير (8/ 282).
([45])ذكر ذلك الحافظ في الفتح في كتاب الفتن.
([46])والخرفي هو عمر بن الحسين –رحمه الله- وقد أورد عن ذلك الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (6/ 288).
([47]) رواه مسلم في مقدمة صحيحه رقم (32).
([48]) رواه الخطيب البغدادي بسنده في الكفاية، ص (49).