القواعد السديدة في حماية العقيدة
القواعد السديدة في حماية العقيدة
طه الدليمي
المقدمة
الحمد لله رب العامين .
والصلاة والسلام على الهادي الأمين. وعلى آله أصحابه وأتباعه أجمعين .
وبعد ..
فمن المسَلَّم به عند جميع العقلاء أن كل دعوى لا بد لها من بينة او دليل. والدليل إنما سمي دليلاً لأنه يشتمل على شروط أو عناصر جعلته صالحاً لأن يطلق عليه هذا الاسم ، وإلا لم يكن دليلا معتبراً.
ومن المسَلَّم به أيضا أن أعظم دعوى في الوجود هي العقيدة ممثلةً بأصولها ، ومن بعدها تأتي أصول الشريعة أو الأعمال الشرعية التي هي كالبناء بالنسبة إلى أساس العقيدة .
وبما أن هذه الدعوى هي أعظم دعوى فلا بد أن تكون شروط أدلتها أعظم الشروط وأصعبها وأدقها وأبعدها عن الظنون والاحتمالات ، بحيث لا يمكن أن يتطرق إليها الشك أو الاحتمال بأي وجه من الوجوه ليكون الدين قائما على أساس متين تطمئن إليه النفس وتثق به ثقة مطلقة ، وإلا فإن الشك إذا تطرق إلى أصول الدين فمعنى ذلك أن الدين في أساسه بات مشكوكاً فيه . وما ذلك بدين؛ لأن الدين مبناه على القطع واليقين.
لقد علِمنا من ديننا أنه حتى المسائل الفرعية إذا كانت المسألة عظيمة أو خطيرة فإن الله تعالى يشدد في شروط أدلتها ما لا يشدد في غيرها : فمن المعروف أن كل الشهادات يكتفى فيها بشاهدين ، إلا الزنا فلا بد لإثبات وقوعه من مضاعفة الشهود مع توفر المشاهدة العيانية الجازمة ، لخطورة التهمة ومساسها بسمعة المتهم ودينه ومصيره .
وهكذا الحال عندما يتعلق الأمر بما هو أعظم ألا وهو أصول الدين التي بها يتقرر مصير الإنسان : هل إلى الجنة أم إلى النار ؟ وقبلها هل هو من المسلمين أم من الكفار ؟ وما يترتب على ذلك من مسائل وأحكام في الدنيا والآخرة .
فما هي العناصر أو الشروط التي ينبغي توفرها في
أدلة أصول الدين وهي بهذا المستوى من المنزلة والخطورة ؟ أو بعبارة أخرى : كيف يمكن أن تثبت هذه الأصول ؟
الجواب عن هذا السؤال هو موضوع هذا الكتاب المختصر .
إن معرفة هذه الشروط أمر في غاية الأهمية لكونه لا غنى عنه من أجل حماية الدين من الإضافات والمبتدعات التي كثرت وعمت في غيبة هذا الأمر البالغ الأهمية عن أذهان غالبية أبناء الإسلام ، بحيث صار أسهل شيء على أي إنسان - مهما بلغ جهله وانحطت في العلم منزلته - أن يخترع ما يشاء ويضيف ما (يستحب) بأوهى الأدلة وأسمج الحجج !!
إن من أشد الأمور عجباً وأكثرها انتشاراً أن تخترع أصول خطيرة بشطر من آية مقتطعة ، أو تسلب الملايين بل المليارات من جيوب المغفلين بكلمة مشتبهة. بل إن هناك ما هو أعجب: أن تنتهك الحرمات وتستباح فروج المحصنات بمثل تلك الكلمة!! ثم ما أسهل أن توضع – من بعد ذلك – الروايات وتختلق على ألسنة الأئمة، أو تضاف إلى أحاديث رسول الأمة محمد e . وهكذا فسدت عقائد الملايين من المسلمين وتحللت أخلاقهم وتفرقت كلمتهم وانهار اجتماعهم وسرقت عقولهم وأموالهم ، وخرجت إلى الوجود أديان وطوائف تنتسب إلى الإسلام بينما هي في الواقع تغط في لجج من البدع والخرافات والأوهام بعيداً عن الشاطئ الأمين لهذا الدين العظيم .
ثم إن هذا الكتاب يجيب عن سؤال آخر يقارب السؤال الأول في أهميته ، هو كيف يمكن للعامي الذي لم يتعلم الحرف ولم يدرس العلم أن يعرف جزماً ومن دون الاستعانة بالعلماء أصول الحق من أصول الباطل؟ فينجو من ضلالات المضلين وشبه الزائغين ، ويرسو باطمئنان على ذلك الشاطئ الأمين .
في القرآن قانون أصولي يشبه في قوته ودقته وانضباطه الكامل من جميع الوجوه القانون الرياضي أو الحسابي . لكنه يتفوق عليه من حيث أنه واضح المعالم ، سهل الإدراك يمكن معرفته من قبل الجميع : الأمي والمتعلم ، والعامي والعالم ! ويمكن تطبيقه بسهولة على أية مسألة أصولية أو قضية أساسية مـن
قضايا الدين ليعرف الكل ، وبصورة جازمة قاطعة ،
وسهلة ميسرة صحتها من بطلانها !
وبذلك نستغني عن الردود المطولة ، والجدالات المحتدمة التي تدور بعيداً عن هذا القانون الرباني القرآني، وتجري في منعرجات البحث عن دلالة النص أو (الدليل) دون التوقف أولاً – وهذا أعظم ما يستدعي التوقف - عند صلاحية الدليل للاستدلال من خلال النظر في مدى حيازته على شروط الدليل الأصولي .
هذا .. وقد اتخذت من أصول الدين الصحيحة الكبرى ، ومن عقيدة (الإمامة) عند الشيعة مجالاً أطبق عليه تفاصيل هذا المبحث المهم في غاية الأهمية لأثبت من خلاله مدى حاجتنا إلى معرفة هذا القانون ، ومدى فعاليته في الوصول إلى الحق بسهولة ويسر منقطع النظير .
وأخيراً أقول : أرأيت طريقا يؤدي إلى مكان خطير
وضعت عليه (نقطة تفتيش) عليها حراس شداد في منتهى الشدة، أذكياء في قمة الذكاء لا يجوزهم إلا شخص يمتلك هوية رسمية بشروط وصفات واضحة محددة ؟
إن معرفتنا بشروط أدلة أصول الدين تجعل على طريق كل مزور حقود أو مبتدع جهول هذه (النقطة) ذات الحراس الأشداء الأذكياء تقطع عليه الطريق وتحول دون مرور أباطيله ومروق أضاليله ووصولها إلى حمى الدين العظيم ، لأن هويتها مزورة لا تمتلك مواصفات الهوية الشرعية الواضحة المحددة .
والله I اسأل أن ينفع بها كاتبها وقارئها والمسلمين أجمعين . آمين .
المؤلف
1419هـ / 1998م
المنهج القرآني
في إثبات أصول الدين
نقصد بالأصول : العقائد التي يتوقف عليها الإيمان ، ويعد منكرها كافراً خارجاً من الملة كالتوحيد والنبوة والمعاد . وكذلك أساسيات الشريعة المعلومة من الدين بالضرورة كالصلاة والصيام والحج والزكاة والجهاد ، وكحرمة الفواحش كالزنا والسرقة والكذب وقتل النفس .
لقد نصب الله تعالى لهذه الأمور أو الأصول من الأدلة في كتابه ما لا يمكن بعدها جحودها أو تأويلها لأن النصوص التي تناولتها واضحة بينة متضافرة لا تحتمل تكذيباً أو تأويلاً . وهي التي يسميها الأصوليون بـ(قطعية الثبوت والدلالة) . ولذلك اعتبر منكرها كافراً خارجاً عن الملة.
فلا يجوز اعتقاد أمر أو الإيمان بأصل من أصول الشريعة ، وتكفير من لم يعتقده أو يؤمن به ما لم يثبت في القرآن بالنصوص الصريحة القطعية الخالية من الاحتمالات الدالة على غير ما يدل عليه ظاهر تلك النصوص صراحة وقطعاً .
فهل الأدلة التي نصبها الإمامية على إثبات (الإمامة) حائزة على هذه الشروط ؟!
ولنفترض أن إنساناً عاقلاً ذكياً لم يعرف الإسلام من قبل، أراد أن يتعرف عليه من خلال القرآن فاطلع عليه اطلاعاً عابراً . إنه – ولا شك – سيعلم أن تلك الأصول الاعتقادية والشرعية – التي ذكرتها آنفاً – هي من أوليات وأساسيات ما يدعو اليه هذا الكتاب لكثرة ورود الأدلة عليها ، وتكرار النصوص بشأنها ، ووضوحها وسلامتها من الاحتمال ، وعدم إمكانية تأويلها بغير ما يدل عليه ظاهرها .
ولكن ..
لو رجع ذلك الإنسان بصره في القرآن وحاول مراراً وتكراراً لما استنتج منه شيئاً اسمه (الإمامة) ، أو أن هناك (إماماً) اسمه علي أو الحسن العسكري تجب طاعته كما تجب طاعة رسول الله e ، وأن هؤلاء (الأئمة) (معصومون) البتة([1])، ولما خطر له على بال ! لأنه لا ذكر له فيه ، ولا دليل منه عليه !
إنما هذه العقائد وأمثالها أشياء اعتقدوها أولاً من خارج القرآن ... ثم من بعد ذلك كلفوا أنفسهم البحث فيه عما عسى أن يؤيدها من النصوص بأي وجه كان على طريقة -( يعتقدون ثم ... يستدلون ) . وهو أمر لا يصعب على أحد ، بل هو أسلوب كل أهل البدع والضلالات والديانات الباطلة الذين يعتقدون بعقولهم وآرائهم أولاً ، ثم يبحثون في النصوص بعد ذلك .
الاستدلال قبل الاعتقاد
أما أهل الحق فاعتقادهم يأتي بعد الاستدلال وينبني عليه . فالدليل عندهم هو الأصل ، والاعتقاد تبع ونتيجة . فهم (يستدلون ثم يعتقدون) ، وليسوا (يعتقدون ثم … يستدلون) . يقول تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) الحجرات /1 .
فكيف يجعل مثل هذه الاعتقادات التي لا نصَّ عليها صريحاً من القرآن أصولاً للدين من جحدها أو جهلها كفر ؟!
لماذا امتلأ القرآن بالنصوص القطعية المصرحة –بلا أدنى احتمال ولا غموض- بالتوحيد والنبوة والمعاد ، والصلاة والزكاة وأمثالها مع التدليل عليها ؟ وعقائد –كالإمامة- لها هذا الخطر وتلك المنزلة ليس عليها أي دليل – يصح ان يسمى دليلاً– في القرآن ؟!!
شرط الدليل سلامته من الاحتمال
تقول القاعدة الأصولية : (الدليل اذا تطرق اليه الاحتمال بطل به الاستدلال) . وهذا معنى قولِه تعالى: (منه آيات محكمات) أي قاطعات الدلالة لا احتمال فيها ، (وأخر متشابهات) أي تحتمل أكثر من وجه ، (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه) آل عمران/7 . وقولِه : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) النجم/28.
ولم نجد الإمامية يحتجون لأصولهم بدليل إلا والاعتراضات تكتنفه من كل جانب ، بل غالباً ما يكون المعنى الذي وجهوا إليه النص بعيداً كل البعد عن المعنى الذي ذهبوا إليه ، ولا ينقدح في الذهن الا بصعوبة ، او نادراً ما يخطر على البال . وهو في أحسن أحواله يكون (ظنا مرجوحاً) !! والعقيدة لا تصح بـ(الظن الراجح) فكيف بالمرجوح ؟! فكيف بما هو دونه ؟!
وهذه الطريقة تتبعها كل الفرق والطوائف الضالة المخذولة حتى البهائية والإسماعيلية . بل كل فرقة انتسبت إلى الإسلام تحتج بمثل هذا ، ولا تتجرأ على القول بأن ما هي عليه جاءت به من خارج القرآن . بل اليهود والنصارى لا يعدمون أمثال هذه (المتشابهات) يحتجون بها على أهل الإسلام ! وسيأتي ذكر أمثلة على ذلك إن شاء الله .
طريقة القرآن
في إثبات أصول الاعتقاد
الإخبار والإثبات
يتبين من خلال استقراء القرآن أن الله تبارك وتعالى حين يعرض لأصول العقيدة لا يكتفي بتقرير الحقيقة والخبر عنها حتى يضيف إلى ذلك إقامة البرهان العقلي على صحتها .
فالنصوص في هذا الباب ليست مجرد أخبار ، وإنما هي أخبار برهن الله على صحتها بالدليل .
وهكذا يتبع القران الكريم في طرحه لأصول العقيدة أسلوب
1- التقرير والإخبار أولاً .
2- ثم التدليل والإثبات ثانياً .
التكرار
وبين الإخبار والإثبات تتكرر الآيات وتكثر فتبلغ المئات . وهذه هي الحقيقة الثالثة التي يلاحظها المتتبع
لآيات الاعتقاد .
فلا يكتفي القرآن وهو يتحدث عن أصول الاعتقاد بآية او آيتين ، فضلاً عن نصف آية من هنا وربعها من هناك –كما هو الحال في أدلة الشيعة عن (الإمامة) وغيرها- وإنما هي مئات من الآيات تتضافر جميعها لتؤدي وظيفة واحدة هي تقرير العقيدة وإثباتها.
الوضوح التام أو القطعي
والحقيقة الرابعة أن هذه الآيات واضحة تمام الوضوح قطعية الدلالة على المراد : لا يمكن تأويلها او صرفها عن معناها الذي تؤدي إليه . وهذا القطع مُتأتٍّ من أمرين :
1- وضوح اللفظ وإحكامه بحيث لا يمكن حمله على معنى آخر غير ظاهر معناه المتبادر إلى الذهن كقوله تعالى وهو يقرر رسالة نبينا محمد r : (محمد رسول الله) الفتح /29 فهذا اللفظ قطعي الدلالة على كون محمد r رسول الله .
2- كثرة الآيات وتضافرها .
هذه أربعة حقائق متلازمة لا تتخلف في القرآن في
بيانه لأصول الاعتقاد ومسائله الكبرى وهي : الإخبار والإثبات والتكرار والوضوح التام .
وهناك حقيقتان أخريان تخصان هذا الباب هما :
ان العقل والرواية ( الأحاديث النبوية او الروايات والآثار ) لا يستقلان بإنشاء أصول العقيدة ما لم تذكر أولاً في القرآن بالطريقة التي بيناها آنفاً .
إن دور العقل او الأحاديث والآثار في باب الأصول يقتصر على التعضيد والتأكيد لما ثبت أولاً بالقرآن . ثم تفصيل ما أجمل ذكره فيه من الأصول وبيان فرعياتها . وسأتناول الحديث عن هاتين الحقيقتين لاحقاً إن شاء الله تعالى .
الأدلة التفصيلية على هذه الحقائق الأربع
أصول الاعتقاد التي يدور حولها القرآن الكريم ثلاثة هي : الألوهية .. والنبوة .. والمعاد .
أو الإيمان بوحدانية الله تعالى ونبوة محمد r واليوم الآخر.
1- وحدانية الله
فمن ناحية يخبر القرآن ويقرر أنه (لا اله الا الله) كما في الآيات التالية:
(الله لا اله الا هو الحي القيوم) البقرة /255 .
(فاعلم انه لا اله الا الله ) محمد /19.
(قل هو الله احد) الإخلاص/1
(هو الله الذي لا اله الا هو) الحشر /22.
(وإلهكم اله واحد لا اله الا هو الرحمن الرحيم) البقرة /163.
(انما هو اله واحد) إبراهيم /52.
(وقال الله لا تتخذوا الهين اثنين إنما هو اله واحد) النحل/5.
(وإلهنا وإلهكم واحد) العنكبوت /46 .
إلى غيرها من الآيات التي يصعب إحصاءُها.
ومن ناحية أخرى يقيم الأدلة ليثبت بها هذه الحقيقة
التي اخبر عنها، كما في الآيات التالية :
]لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا[ الأنبياء/22.
]قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذن لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً[ الإسراء/42.
]ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من اله إذن لذهب كل اله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض[ المؤمنون/91.
]هل من خالق غير الله[ فاطر/31.
]أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون[ الطور/35.
]يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم –إلى قوله– فلا تجعلوا لله أندادا وانتم تعلمون[ البقرة/21-22.
]أتدعون بعلا وتذرون احسن الخالقين[ الصافات/125.
]ضرب لكم مثلاً من أنفسكم هل لكم مما ملكت إيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فانتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك
نفصل الآيات لقوم يعقلون [ الروم /28
].. والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير * ان تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم [ فاطر /13،14.
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة جداً .
وأنت ترى أنّ هذه الآيات قطعية الدلالة على وحدانية الله تعالى بحيث لا يمكن إنكارها أو حملها على معنى آخر غير ما دلت بظواهرها عليه.
وهكذا انطبقت تلك المواصفات القرآنية الأربع الخاصة بأصول الاعتقاد على هذا الأصل العظيم: الإخبار والإثبات والتكرار والوضوح. والقرآن كله شاهد على هذه الحقيقة كما يشهد على الحقيقة الأخرى أو الأصل الآخر : ( نبوة محمد r ) بالطريقة نفسها:
2- نبوة محمد r
جاء الإخبار عن هذه الحقيقة في آيات كثيرة منها:
]مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ[ الفتح /29.
]وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [ آل عمران /144.
] إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ[ يس/3.
]وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ[ الصف/6.
]وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ [ محمد /2.
وهكذا مئات الآيات .
ثم تأتي آيات أخر لتثبت صحة نبوته بالبراهين العقلية كما في قوله :
]وان كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله[ البقرة/23.
]ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين [ الحاقة /44-46 .
]ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين[ النحل/103.
]قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لثبت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون[ يونس16.
]قل ما كنت بدعاً من الرسل[ الأحقاف/9.
]قل إنما أعظمكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة [ سبأ/46.
وعلى هذا المنوال تتوالى الآيات تثبت نبوة محمد e وتدافع عنها بحيث لا يمكن ان يتطرق الشك إلى قلب مسلم في أن محمداً رسول الله ، بل ولا إلى غير المسلم من العقلاء المنصفين . وهذان هما الشرطان الثالث والرابع (التكرار والوضوح القطعي). وهكذا انطبقت المواصفات الأربع على أدلة الأصل الثاني من أصول العقيدة : نبوة محمد e .
وكذلك الحال بالنسبة للأصل الثالث : (الإيمان باليوم الآخر) :
3- اليوم الآخر
جاء الإخبار عنه في آيات كثيرة جداً منها:
}مالك يوم الدين{ الفاتحة/3
}وبالآخرة هم يوقنون{ البقرة/4
} كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ { البقرة/28
}وَيلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ { المطففين/10-12
} وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ{ السجدة/20
}وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآْخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ { الروم/16
وجاء إثباته بالأدلة العقلية في آيات كثيرة كذلك منها:
}قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الشَّجَرِ الأْخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأْرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ{ يس/78-82
}لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ { إلى قوله تعالى: } أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُْنثَى* أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى{ /القيامة
} يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ{ إلى قوله تعالى: } ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ * وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُنِيرٍ{ الحج/5-8.
وهكذا عشرات ومئات الآيات الصريحة الواضحة فتحقق الشرطان الآخران : التكرار والقطع بوقوع يوم القيامة .
طريقة القرآن
في إثبات أصول الشريعة
فاذا آمن المرء بالله وبرسوله وباليوم الآخر فعليه بعد ذلك أن يعمل بمقتضى هذا الإيمان .
وهنا يأتي دور الشريعة .
فالدين عقيدة وشريعة : العقيدة هي الأصل ، والشريعة فرع عنها. تلك الأساس ، وهذه البناء .
ويتبين من خلال استقراء القرآن أن أصول الشريعة تثبت بأمرين هما :
1- الإخبار
2- والقطع
أي الخبر القرآني القطعي الدلالة . ولا حاجة هنا إلى الدليل العقلي للبرهنة على صحتها ، لأنها إنما يخاطب بها المسلم المؤمن بصحة ما نزل من القرآن ، فهو لا يحتاج للعمل بها إلى غير علمه بأنها مما أنزل، وأن الله كلفه بها . فلا يحتاج المسلم الى أدلة إثباتية على أن الصلاة من الدين أو الزكاة أو الصيام ؛ ولذلك لا يخاطب الكافر بها . إنما يحتاج إلى دليل قطعي على أن الله خاطبه أو كلفه بها .
والشريعة أصول وفروع لهذه الأصول .
فأصول الشريعة - كالصلاة والزكاة وبر الوالدين - لا بد لإثباتها من الدليل الخبري القطعي . أما تفاصيلها وفروعها فيكفي فيها الدليل الظني الراجح.
والدليل القطعي إنما هو قطعي لوضوحه وعدم احتماله لغير ظاهر معناه .
ولا بأس من التأكيد على أنه لا بد أن يكون الدليل قرآنياً ، فلا تستقل الروايات ولا الآراء التي يسمونها (عقليات) بإيجاد شيء جديد في الأصول دون ان يثبت ذلك بالقرآن أولاً .
وهذا الشرط يشمل أصول العقيدة والشريعة.
خلاصة القانون
فتكون لأصول العقيدة خمسة شروط هي :
1- النص القرآني
2- القطعي الدلالة
3- الكثير التكرار
4- إخباراً
5- وإثباتاً
ولأصول الشريعة ثلاثة شروط هي :
1- النص القرآني
2- القطعي الدلالة
3- إخباراً فقط
هذا هو القانون أو المنهج القرآني في إثبات الأصول .
و(الإمامة) – عند الإمامية – من المسائل التي لا يصح الإيمان إلا بها بحيث يعد منكرها عندهم من الكافرين ! فهي إذن من المسائل الاعتقادية الأصولية أو الأساسية طبقاً لمنهج القرآن . فلا بد أن تثبت عند من يراد له أن يؤمن بها – على أقل تقدير – بالنص القرآني القطعي الدلالة .
فهل لذلك النص في القرآن من وجود ؟!
كل الذي يحتجون به آيات متشابهة ظنية الدلالة،
كهذه الآيات :
(وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة:124) .
(إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (المائدة:55) .
(حرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (المائدة:3).
(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ
أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (الأحزاب:33).
وهذا أقوى ما استدلوا به من آي الذكر الحكيم ، وقد كتبت الآيات بتمامها لعل عاقلاً يتأكد بنفسه أنه لا علاقة بين ما ذهبوا إليه من معنى للآية والمعنى الحقيقي الذي ترمي إليه ، والذي يتبين أكثر عندما تقرأ الآية كاملة ، لا مقطعة كما هو عادة الشيعة عند احتجاجهم بآيات الكتاب .
ما علاقة هذه الآيات بـ(الإمامة) التي يتحدث عنها الشيعة أولاً ؟
ثم ما علاقتها بـ(إمامة) علي t ثانياً ؟
وما علاقتها بـ(الأئمة) الآخرين الذين يلتزم الشيعة ويلزمون غيرهم بالإيمان بهم ثالثاً ؟ بشرط أن تكون هذه العلاقة قطعية لا احتمال فيها لأن الدليل الأصولي إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال كما قال تعالى: (وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (النجم:28) .
إن دلالة هذه الآيات وسواها مما احتجوا به ليست قطعية، بل ولا تدخل في باب الظن الراجح الذي يقبل في فروع الشريعة أو الفقه !! وإنما هي وهمٌ ، أحسن أحواله ان يكون ظنا مرجوحاً :
فالآية الأولى تتحدث عن إمامة سيدنا إبراهيم u ولا ذكر فيها لعلي ولا غيره قط . ولا دليل فيها صريحاً على أن الإمامة المذكورة فيها هي الإمامة التي اصطلح عليها الشيعة ، إنما هي الإمامة بمعنى القدوة . غاية ما يمكن قوله جدلاً أن ما يدعونه أمر ظني ! والظن لا تثبت به العقائد الكبرى .
والآية الثانية تتحدث عن الميتة والدم ولحم الخنزير . فما الذي حشر (إمامة) علي - كرمه الله - بين هذه الأمور ولا رابط يجمع بينهما ؟! ثم إنه لا ذكر لهذا الموضوع في الآية البتة .
أما الآية الثالثة - فبالإضافة إلى أنه لا ذكر فيها لعلي ولا غيره ولا لـ(الإمامة) ولا لـ(العصمة) وهذا يكفي في إبطال الاحتجاج بها على ذلك - نجدها في سياق يتحدث عن أمهات المؤمنين . بل إن أول الآية خطاب صريح موجه إليهن . فما الأمر الذي يحملنا جزماً على أن نخرجهن من حكم الآية ونقصرها على علي وبعض أهل بيته فقط ؟! وحين نتبين الأمر لا نجد دليلاً من الآية على هذا سوى التحكم بلا حاكم والادعاء بلا داعٍ ! وأعلى ما يمكن قبوله هنا أن يقال: إن ذلك ظن ، (وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) .
فلم تنطبق على هذا (الأصل) شروط إثبات أصول الشريعة التي هي فروع بالنسبة لأصل العقيدة. بل ولا فروع الشريعة : اذ أن هناك أموراً فرعية في الدين كالحيض والجماع والنكاح والطلاق والبيع والشراء … الخ تناولها القرآن بآيات واضحة : إما قطعية الدلالة ، وإما تفيد المسلم ظنا راجحاً يكفي للعمل بأمثالها من الفرعيات !!
فكيف يؤسس مثل هذا الامر العظيم الذي يكفر جاحده على نصوص دلالتها في أحسن أحوالها ظنية مرجوحة ؟!
إن الظن المرجوح لا يجوز العمل به في الفرعيات الفقهية فكيف يدخل في باب الأصول الاعتقادية ؟!!
اما اذا أردنا ان نطبق المواصفات أو الشروط التي تخص أصول الاعتقاد والمستفادة من استقراء القرآن وهي : النص القرآني القطعي الذي يكثر ويتنوع وهو يتناول الموضوع بطريقتين : الإخبار ثم الإثبات العقلي ، فسيظهر جزماً ان خير باب يدخل تحته هذا الامر هو باب الخرافات .
فأين الأدلة المتكررة؟!
وأين الأخبار القطعية ؟!
وأين أدلة الإثبات ؟
إن كان النص خبرا فأين إثباته ؟!
وإن كان إثباتاً فأين الخبر الذي جاء يثبته ؟!
العقل
وأصول الدين
حقيقة ( العقل ) المقصود
لو كان ( العقل ) الذي ينسبون إليه ما يسمونه بالحجج العقلية شيئاً له كيان مستقل اذا طرحت عليه المسائل أجاب بجواب واحد عن كل مسألة ، وهذا الجواب معصوم من الخطأ لأمكن ان يكون مرجعاً عند النزاع في أصول الاعتقاد، كما هو حال القرآن في أجوبته عنها : اذ هو كتاب مستقل معروفة آياته لا يقبل الزيادة ولا النقصان ، اتفق المسلمون جميعاً على قطعية ثبوتيته ، ويمكن الرجوع اليه بسهولة ويسر لنجد الجواب القطعي في جميع أصول الدين ومسائله العظيمة . وليس الأمر كذلك بالنسبة لـ(العقل) .
فـ(العقل) المقصود حقيقته العملية ما يعقله كل عاقل ، أي رأيه وما يصدقه ويستسيغه هو بعقله. وبما ان كل إنسان يمكن ان يعقل او يرى ما لا يعقله أو يراه الآخر فلا بد من ان تعدد الآراء وتتضارب (الحجج العقلية) الا فيما اتفقت عليه عقول البشر كالبديهيات ، أو الأمور العلمية البحتة كالرياضيات، او ما يدخل تحت التجربة والمشاهدة، وهذه امور محسة وملموسة يمكن البرهنة عليها بالوسائل المعروفة، وقد اتفق العالم عليها.
وعلى هذا فإن ما تسمعه من قولهم : العقل يحكم بكذا ويقضي بكذا فهو تدليس ولعب بالألفاظ ! لأن العقل المطلق هنا ليس هو عقلاً واحداً لا يخطئ يرجع اليه كل العقلاء، وإنما هو عقل المتكلم نفسه ، أي ما يراه هو بعقله ! فهو رأي من الآراء لا أكثر . وقد يختلف فيه مع غيره من العقلاء فيرى غيره بعقله ويحكم بغير ما يراه هو ويحكم به، وهكذا.. !
اختلاف العقلاء فيما يعقلون
وهكذا تتباين العقول فيما بينها وتختلف في كثير من المسائل العقلية : فهذا يثبت عقله ويوجب ما ينفيه الآخر ويقول عقله باستحالته ! علماً أن الواجب والمستحيل ضدان لا يجتمعان . فماذا نفعل وكلاهما يحتج
بالعقل والدليل العقلي ؟!
وهكذا اختلف الفلاسفة والمتكلمون فيما بينهم . بل وهكذا انحرفت الديانات : فما فسدت اليهودية والنصرانية الا عندما تركت نصوص الوحي لعقول علمائهم وأقوالهم ، فاخترعوا الأقاويل ثم دعموها بالروايات الملفقة في معزل عن الوحي .
تأمل هذا الدليل العقلي الذي يقدمه أحد القسسة الإنجليز عن الثالوث يقول :
المادة لها ثلاث حالات : صلبة وسائلة وغازية، والهواء : أوكسجين ونتروجين وهيدروجين ، والماء سائل وغاز وثلج ، والشمس : دفء ونور وحرارة ، والزمن : ماضي وحاضر ومستقبل، والإنسان روح وعقل وجسم ، والعائلة أب وأم وأولاد . وهكذا الحال بالنسبة إلى الله : الأب والابن وروح القدس .
لقد كان القس يقدم هذه (الأدلة العقلية) في مناظرة مع احد علماء المسلمين أمام حشد كبير من الناس. فلا بد
– والحالة هذه - أنه كان مقتنعاً عقلياً بمثل هذا الدليل العقلي المتهافت([2]).
ومن له أدنى اطلاع على كتب الفلاسفة والمتكلمين الذين ارادوا ان يخضعوا العقيدة لآرائهم وعقولهم يدرك معنى ما اقول ، ويصيبه الذهول لهذا الاختلاف والتضارب بالحجج التي يسمونها (عقلية) دون طائل اذ ان كل حجة يمكن نقضها بمثلها ، حتى ان بعضهم ألَّف في بيان (تكافؤ الأدلة العقلية) وأنها لا يمكن ان تؤدي الى يقين لإمكان نقضها بمثلها .
وحتى إن واحداً منهم وهو ابن واصل الحموي الذي كان من أبرعهم - كما يقول الخبير الحاذق شيخ الإسلام ابن تيمية - في الفلسفة والكلام قال وهو يصور هذا المعنى : ( استلقى على قفاي وأضع الملحفة على نصف وجهي ثم اذكر المقالات وحجج هؤلاء وهؤلاء واعتراض هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر ولم يترجح عندي شيء ) .
وقد انشد بعضهم في هذا قائلاً :
حججٌ تَهافتُ كالزجاجِ تَخالُها حقاً وكلٌّ كاسرٌ مكسورُ
لا يصح استقلال العقل في أصول الاعتقاد
ولما كانت الحجج (العقلية) على مثل هذا الحال من الاختلاف- وواقع الفلاسفة والمتكلمين أوضح شاهد - فالله جل وعلا أرحم بعباده من ان يكل دينهم الى عقولهم المجردة . ودين الله أعظم من ان يكون ألعوبة للآراء التي يسمونها ظلما بـ( العقل ) .
ولما كان الله قد أقام الحجة على خلقه على أتم وجهٍ وأكمل صورة ، فلا بد ان تكون هذه الحجة أمراً آخر غير ( الحجج العقلية ) لأنها مضطربة مختلفة .
فأين هي الحجة إذن؟!
القرآن هو الحجـة
يقول تعالى : ]رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيما * لكن الله يشهد بما انزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا[ (النساء/166،165) . فليس مع حجة الله ولا بعدها لأحد حجة ، وشهادة الله تكفي فليس بعدها ولا قبلها شهادة .
وإذا لم تكن حجة الله وشهادته في أصول الدين والعقيدة ، ففي أي شيء تكون ؟!!
يقول تعالى : ] أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا في السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ[ (العنكبوت:51،52) .
ورسولنا r أعظم الرسل، وحجته التي أعطاه الله إياها وشهد له بها أعظم الحجج . ]فأين تذهبون [ ؟!
]أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ[؟!
]سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ [ ؟
فلا بد ولا مهرب من ان تثبت أصول العقائد أولاً بالنصوص القرآنية القطعية فهي المرجع المستقل الوحيد في هذا الباب كما قال تعالى :
]هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ [ (آل عمران:7) ومعنى (محكمات) أي قاطعات الدلالة لا يدخلها الاحتمال . وقد وجدنا آيات الكتاب الخاصة بأصول العقائد كما أخبر سبحانه : محكمة قطعية ، على الوجه الذي أسلفناه تحت عنوان (طريقة القرآن في الاستدلال على أصول الاعتقاد) فصح أن تكون ( أماً ) أي مرجعا.
وإذا كان الدين هو مجموعة الأوامر النازلة من عند الله فلا شك أن أعظم ما نزل من عنده جل وعلا ، والمحور الذي يدور عليه ، وأساسه وقاعدته هو أصول العقيدة . ولذلك لا يمكن بحال ان لا تكون هذه الأصول أول ما قصد بالنزول من عند الله : فهي أول شيء نزل ، وأبْينُه وأوْضحه . فإن لم يكن القرآن مشتملاً على أهم أمر في الدين فعلام يشتمل ؟ وبأي شيء نزل ؟! وهو الذي نزله الله تعالى كما قال : ]وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ[ (النحل:89) فهل نزل تبياناً للفروع دون الأصول؟ أم نزل تبياناً لبعض الأصول دون بعض ؟ والله تعالى يقول : ]مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ[ (الأنعام:38) . هذا ما لا يمكن ان يقرّ به عاقل !
ثم متى قصر القرآن في بيان أصول الدين حتى نلجأ إلى غيره ؟!
لذلك لا يصح عقلاً ان يأتي ( العقل ) بأمر هو من أصول العقيدة دون ان يكون هذا الأصل مفصلاً في القرآن . والقرآن شاهد على ما أقول.
وظيفة العقل
وظيفة العقل إذن ليست في البحث عن أصول الدين بمعزل عن الوحي ، وإنما تنحصر بتعقل ما جاء به الوحي واعتقاده ، والتيقن من كونه مما تستسيغه العقول السليمة ، وأنه ليس هناك من تناقض فيه ، وإقامة الأدلة على ذلك سواء كانت الأدلة عقلية أم نقلية .
ويقوم العقل كذلك باستنباط الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها الظنية ، سواء كانت هذه الأدلة نصوصاً شرعية أو غير ذلك في حالة عدم توفر النص في أي مسألة من المسائل . وكذلك يقوم بتنزيل هذه الأحكام على مواردها .
أدلة القرآن عقلية بحتة
إن الأدلة التي يبرهن بها القرآن على صحة مراده هي أدلة عقلية بحتة تقسر العقل السليم على الإذعان لها، والتسليم بصحة مرادها. أقرأ قوله تعالى:
]ان في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي
الألباب[ آل عمران /190. او قوله :
]أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون[ الطور/35. أو قوله:
]ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من اله إذن لذهب كل اله بماخلق
ولعلا بعضهم على بعض [ المؤمنون/91.
او قوله في التدليل على نبوة محمد r :
]ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين [ الحاقة /44-46. او قوله :
]وان كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله ان كنتم صادقين[ البقرة /23.
حجج القرآن لا تنفع الزائغين
وهنا ينقسم الناس الى فريقين : فريق جعل الحق وجهته وإدراكه غايته فهذا هو الذي ينتفع به اذا تليت عليه حجته كما قال تعالى: ] ألم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين [ البقرة 1،2. فالمتقون وحدهم هم الذين
يهتدون به ، وهم المعنيون بقوله : ]ويهدي به كثيرا[ البقرة/26.
وفريق غايته نصرة وجهته هو او مذهبه او شيخه او طائفته او عشيرته ، وهذا الصنف يجعل من القرآن وسيلة للوصول إلى أغراضه وأهوائه ، فلا يمكن ان تنفع فيه دلائله وآياته كما قال تعالى: ]وما تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون[ يونس/101 وهم المعنيون بقوله: ]يضل به كثيرا[ البقرة /26.
اتباع المتشابه هو العلامة الفارقة بين الفريقين
فإذا أردت أن تعرف هؤلاء المضلين لتحذرهم فانظر إلى حججهم تجدها شبهات واحتمالات لا تدخل في دائرة القطعي أو المحكم كما قال تعالى: ]إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس[ النجم/23 . وكما قال أيضاً : ]وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه[ لماذا؟ ]ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله[ أي تصريفه على ما يهوون ويشتهون : فبدلاً من الرجوع إلى الأدلة الواضحة يذهبون إلى كلمة من هنا وسطر من هناك مستغلين سعة اللغة العربية وانقسامها إلى حقيقة ومجاز ، وكونها تحتوي على ألفاظ مشتركة : وهي كل لفظة تحمل عدة معان ، كالعين مثلاً دون اعتبار للقرائن التي تحدد اللفظ بالمعنى المعين . وكذلك ما في القرآن من مجمل قد فصل في مكان آخر، أو مطلق قيد في موضع آخر، أو عام مخصص، فيقطعون المجمل عن تفصيله والمطلق عن قيده وهكذا.
طريقة كل المضلين
وهكذا لا توجد فرقة ضالة أو ديانة باطلة إلا وتستطيع الاحتجاج بالقرآن وغيره على طريقة المتشابه . بل هذا هو الواقع :
أليس القدري يحتج بمثل قوله تعالى: ]إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً[ الإنسان/3 .
والجبري يحتج بقوله :]وما تشاءون إلا أن يشاء الله[ الإنسان/30 مع أن الآيتين في سورة واحدة !
والخارجي يحتج بقوله: ]ان الحكم الا لله[ يوسف/40.
والمعطل يحتج بقوله ]ليس كمثله شيء[ الشورى/11 .
والمشبه بقوله: ]يد الله فوق أيديهم[ الفتح /10 .
بل اليهود والنصارى يحتجون لصحة ديانتهم بالقرآن !!
أمثلة من احتجاج النصارى بالقرآن
اذكر هذا للمقارنة عسى ان ينتفع به من سيتبين له من هذه الأمثلة أن حجج النصارى – وكذلك اليهود - أقوى وأدل على المراد من حجج الشيعة القائلين بـ(الإمامة) . وإذا كان الأمر كذلك فهل نترك ديننا لمثل هذه (المتشابهات) التي يتساوى لديها الكافر والمسلم ؟!
هذه طائفة من الآيات القرانية التي يحتج بها النصارى مقتبسة من خطاب مفتوح الى الشيخ (الشعراوي) موجهة اليه من الكنيسة القبطية في مصر انقلها بتصرف للاختصار :
يحتج صاحب الكتاب وهو يرد تهمة الكفر والشرك عن المسيحيين بقوله تعالى :
] ان الذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون[ البقرة /62 قائلاً : يا فضيلة الشيخ النصارى من ضمن الذين آمنوا بالله وليسوا من الكفرة .
]إذ قال الله يا عيسى اني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة [ آل عمران /55 يقول : فهل المسيحيون كفرة بموجب هذه الآية أم انهم فوق الذين كفروا ؟!
]لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ [ (آل عمران:113-114) . يقول : فالمسيحيون من الصالحين وليسوا من الكافرين .
]فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ ممَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ[ (يونس: 94) يقول : فالمسلم اذا كان في شك مما انزل إليه فعليه أن يرجع إلى أهل الإنجيل فيسألهم ليدلوه على الحقيقة. فالمسيحيون هم المرجع ، فاذا لم يكن المرجع سليماً يا صديقي ضاع كل من حاول الرجوع اليه .
]فاسألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون[ الأنبياء /7. يقول: فمن هم اهل الذكر ؟ النصارى هم اهل الذكر. المسيحيون هم المرجع .
أي الفريقين أقوى حجة ؟!
وأنا اقول معلقاً على استدلال هذا النصراني بالآيتين الأخيرتين فقط :
أليست حجة المسيحي في الدلالة على أن ( أهل الذكر) المقصودين في الآية هم النصارى أقوى من حجة الإمامي حين يقول : إن المقصود بـ ]أهل الذكر[ هو (الأئمة المعصومون) ؟!
إن قوله تعالى : ]فسألوا اهل الذكر[ يساوي ]فسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك[
وقوله ] :ان كنتم لا تعلمون[ يساوي قوله: ]فان كنت في شك مما انزل إليك[. ويستطيع النصراني ان يضيف قائلاً: اذا كان رسولكم مأموراً بنص كتابكم بالرجوع إلينا فكيف بكم ؟!
فالنصراني عنده قرينة وان كانت ظنية ، وهؤلاء لا قرينة عندهم البتة !
ولكن كيفية الاستدلال واحدة :
ان الفريقين يتفقون تماماً في اتباع طريقة واحدة على اختلافهم في قوة الحجة وضعفها :
فأنت ترى هذه الآيات مبتورة عن أمها ومرجعها .
وكل آية لا نرجع بها الى أصلها الواضح المتفق على دلالته فهي متشابهة ، والمحتج بها متبع للمتشابه .
ان (الذكر) في عموم القرآن هو القرآن نفسه كما في هذه الآيات وأمثالها :
]انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون[ الحجر/9
]وانه لذكر لك ولقومك[ الزخرف/44
]ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم[ آل عمران/58
]وقالوا يا أيها الذين نزل عليه الذكر انك لمجنون[ الحجر/6
]وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل اليهم[ النحل/44
]وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون[ الأنبياء/50
]ان هو الا ذكر وقرآن مبين[ يس/69
]ص * والقرآن ذي الذكر[ ص/ 2،1
فإذا أخذنا بهذا العموم تبين لنا أن معنى الذكر في الآية هو القرآن ، فأهله هم أهل القرآن أي العلماء الربانيون . أما الأمر بالرجوع إلى (أهل الكتاب) الذي هو أحد معاني الآية فليس على إطلاقه ، وإنما هو في أمر خاص معلوم لديهم هو كون الأنبياء رجالاً . وليست الآية حجة للنصراني دون اليهودي . فحصول الشبهة جاء من تعميم أمر خاص . وتعميم الخاص اتباع للمتشابه كتخصيص العام وتقييد المطلق وإطلاق المقيد . ولولا قطع الآية عن ( أمها ) ومرجعها لما استطاع النصراني أن يحتج بها على ما أراد من كون المسيحيين هم المرجع على الإطلاق .
وهكذا فعل الذين احتجوا لـ( عصمة الأئمة ) أو (الإمامة) - مثلاً - بقوله تعالى: ]إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا[ إذ عمدوا إلى آية من القرآن فاقتطعوا منها هذا الجزء - وهو آخرها - وفصلوه عن أولها؛ فلا ينتبه القارئ إلى العلاقة العضوية بينهما . وسموا هذا الجزء بـ(آية التطهير) إمعاناً في صرف نظره عن الآية كاملة وهي قوله تعالى خطاباً لأزواج النبي r : ]وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ...[ الأحزاب/34.
وقاموا كذلك بفصل الآية عن الآية التي بعدها التي تعزز أن المقصود بالخطاب هو أمهات المؤمنين دون سواهن ، وهي قوله تعالى : ]وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً[ (الأحزاب:34). وفصلوها أيضاً عن السياق كله الذي هو خطاب لأمهات المؤمنين (رضي الله عنهن) : اذ بدأ بقوله تعالى: ]يا أيها النبي قل لأزواجك ان كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالينَ – إلى قوله – وان كنتن تردن الله ورسوله – الى قوله – يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة – الى قوله – ومن يقنت منكن الله ورسوله – الى قوله – يا نساء النبي لستن كأحد من النساء ان اتقيتن – الى قوله - وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله – ثم يأتي قوله تعالى مباشرة – انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت ويطهركم تطهيراً – ثم يستمر بقوله – واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفاً خبيراً[(الأحزاب /28-35).
وقطعوا النص عن مثله كقوله تعالى عن أهل بدر :
]إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ[ (لأنفال:11) .
وقوله عن المؤمنين جميعاً : ]خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها[ التوبة /103.
فلفظ (التطهير) إذن لا يعني (بالعصمة) في استعمال القرآن، ولا علاقة له بـ(الإمامة).
القرآن يشهد أنه المرجع الوحيد في تلقي الأصول
يقول تعالى :
]فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب[ لماذا ؟
]ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه[ البقرة /213.
]وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه الى الله[ الشورى/10.
]وما أنزلنا عليك الكتاب الا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه[ النحل/64
]ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون[ المائدة /50
]فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون[ الجاثية/6
]ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين[ البقرة/2
]قل ان هدى الله هو الهدى[آل عمران/73
]فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم
يحزنون * والذين كفروا وكذبوا بآياتنا اولئك أصحاب النار هم فيها خالدون[ البقرة /39،38
]وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ[ النحل /89
]وإن اهتديت فيما يوحي إلي ربي[ سبأ/50
]وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه[ النمل/92.
لكن المبطلين رغم آيات الكتاب الواضحة البينة يختلفون لاختلاف أهوائهم كما قال تعالى: ]وما اختلف الذين أوتوا الكتاب الا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ومن يكفر
بآيات الله فان الله سريع الحساب[ آل عمران/19 .
فالبغي إذن سبب الاختلاف والتفرق . وهذا ما أكده تعالى بقوله : ]ان يتبعون الا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى[ . فالهدى موجود لكن الاختلاف والضلال واقع بالظنون والأهواء .
قال تعالى : ] وما تفرق الذين أوتوا الكتاب الا من بعد ما جاءتهم البينة [ البينة/4 . والبينة مفسرة بقوله : ]رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة [ البينة /1،2.
]ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه[ هود/110.
]وان الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد[ البقرة/176.
]ولا يزالون مختلفين الا من رحم ربك[ هود/118.
ولا شك أن الاختلاف الذي نزعت من أهله الرحمة
هو ما كان في أصول الدين لا فروعه . وإذن لا ينبغي الاختلاف في هذه الأصول لأنها واضحة بينة كما قال تعالى: ] لقد أرسلنا رسلنا بالبينات[ الحديد/25.
فمن لم يرجع الى الله في الدنيا فسيرجع الى حكمه حتماً في الآخرة كما قال تعالى ] إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون [ المائدة /48.
] وليبين لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون[ النحل/92.
ولكن بعد فوات الأوان!
فكما أن المرجع في الآخرة الى امر الله وكلامه لا الى غيره مما يراه الناس بعقولهم وآرائهم فكذلك في الدنيا سواء بسواء : ]وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله[ الزخرف/84.
لماذا يهربون من القرآن إلى عقولهم وآرائهم؟
وبهذا يتبين أن الهروب من آيات الله المحكمة ، والتعلق بما يسمونه بالـ(عقليات) دليل على التصفير الذي يعاني منه هؤلاء والإفلاس من مادة القرآن لأنه لا يعينهم على مرامهم، اذ ليس فيه دليل على ما يقولون. وإلا قل لي بربك: ما سر هذا التمسك بالأقاويل والآراء ؟ فلو كانت النصوص تؤيدهم وتنطق بمرادهم لماذا يعرضون عنها ويتركونها إلى غيرها ؟ متحملين هذا العناء والجدل الذي لا ينتهي مع إمكانية حسم كل هذا بآية محكمة واحدة قاطعة الدلالة على المطلوب.
الأحاديث (أو الروايات) وأصول الدين
إن الكتاب والسنة والقياس (أو العقل) من أدلة الأحكام الشرعية . ولكن هذا القول لا ينبغي أن يقبل على عمومه دون تفصيل ، وتوظيف لهذه الأدلة :
فالسنة يلجأ إليها عندما لا نجد للحكم الشرعي نصاً في القرآن .
والقياس أو العقل (أو الاجتهاد بتعبير آخر) يأتي من
بعد السنة ، ولذلك قيل: (لا اجتهاد في مورد النص)، وهي قاعدة أصولية متفق عليها بين العلماء . فهذا التفصيل ضروري لتقنين ذلك القول .
ولكن هذا كله في المسائل الفرعية .
أما المسائل الأصولية والقضايا الأساسية والكبرى من
الدين فلا يصح أن تخضع لهذا التقنين . إن هذه الأمور من اختصاص القرآن وحده بآياته المحكمات القاطعات الدلالة حصراً .
الوظيفة الخاصة
بكل من الكتاب والسنة والعقل
إن هذا يحتاج منا إلى استحضار الوظيفة الخاصة بكل من الكتاب والسنة والاجتهاد بحيث لا تختلط هذه الوظائف ببعضها فنقع في الاضطراب .
وظيفة القرآن الخاصة
إن وظيفة القرآن الخاصة به حصراً هي بيان أصول الدين ومعالمه الكبرى بياناً جلياً لا يحتاج معه إلى غيره من بقية أدلة الأحكام ، وإلا لم تعد هذه الوظيفة خاصة به . والقرآن يقوم بأداء هذه الوظيفة خير قيام . وهذا يثبت تطبيقياً بالاستقراء بعد أن ثبت تنظيرياً بالأدلة القطعية .
وظيفة السنة
أما السنة أو الأحاديث النبوية فهي وإن استوعبت أصول الدين، لكن استيعاب القرآن الكريم لا يقل عن استيعاب السنة لهذه الأصول. وهذا أمر مقطوع به؛ فلا يمكن بحال أن تتضمن السنة أصلاً غفل القرآن عن ذكره، أو قصر عن تضمنه. لكن هناك ملحظاً في غاية الأهمية هو أن أحداً من الخلق يستحيل عليه أن يضيف إلى القرآن ما ليس منه. وعليه يستحيل أن يخترع أحد أصلاً ويضع له نصاً صريحاً يمكن أن ينسبه للقرآن. بينما يمكن أن يخترع أصلاً ويضع له نصاً صريحاً ينسبه إلى السنة. وهذا واقع كثيراً. فحتى لا يخترق أحد أصول الدين توجب عليه إذا احتج لأصل برواية أن يأتي أولاً بما يثبته من القرآن بالنص الصريح؛ لأنه – كما قلنا - لم تنفرد السنة بأصل لا وجود له في القرآن. وبعبارة أخرى نقول: لا يمكن أن تستقل السنة أو الحديث بتأصيل العقيدة ما لم يكن لهذه الأصول بيان واضح في القرآن الذي أنزله الله تعالى ]تبياناً لكل شيء[ النحل/89 . إن وظيفة السنة تدور حول ثلاثة أمور :
1- التأييد والتأكيد لما جاء أصلا في القرآن .
2- التفصيل لما أُجمل ذكره فيه كتفصيل وصف الجنة
والنار .
3- أمور فرعية في العقيدة كعلامات الساعة .
قد يقال : إن في الروايات متواتراً نقطع بصحته عن الرسول e فلماذا لا نأخذ به ؟ والجواب: ليس موضوعنا هو الأخذ بالروايات من عدمها ، إنما هو هل يمكن أن يكون في هذه الروايات من الأصول ما قصَّـر القرآن في بيانه ، أو غاب ذكره عنه كلياً فنحتاج إلى إثباته بهذه الروايات ؟ والجواب القطعي : كلا . هذا هو المهم . وعندها نعلم أن ورود الأصول في السنة أمر كمالي لا تكميلي، وإلا ما عاد الكتاب مصدراً كاملاً للهداية كما قال سبحانه: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة:2) ، وقال: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) (الأنعام:38) .
والنتيجة أن السنة –وإن اشتملت على أصول الدين- فإن اشتمالها هذا يأتي من وراء القرآن وليس استقلالاً.
وهذا يلزمنا برد كل (أصل) بني على الروايات لا
ذكر له صريحاً صراحة تامة في القرآن. فيقتصر أخذ
الأصول على القرآن فقط .
وعلى هذا فلا يقبل تأسيس أصول العقيدة على الأحاديث استقلالاً ، فضلاً عن الروايات المنسوبة إلى (الأئمة) . بل يصير عندنا واضحاً أن كل رواية تنشئ أصلاً غيرَ مصرحٍ به في القرآن الكريم باطلة . ويصبح ذكر ذلك (الأصل) في أي رواية دليلاً قاطعاً على بطلانها بدلاً من الاحتجاج بها على صحته !
والنتيجة الحتمية أن المحتجين لأصولهم بالروايات دون نص صريح من القرآن هم أهل الباطل.
أرأيت قوة هذا القانون الرباني القرآني وبساطته!!
وبهذا يتم وأد كل الروايات الملفقة التي يلجأ إليها أهل الأهواء تأييداً لبدعهم بعد أن أعيتهم آيات القرآن أن يجعلوها ناطقة بحججهم . فلو كان ما ابتدعوه صحيحاً لما ترك الله ذكره في كتابه وموضوعه الأساس أصول الدين وقضاياه الكبرى .
أما وظيفة الاجتهاد الخاصة فقد ذكرناها سابقاً عند حديثنا عن (العقل) وعلاقته بأصول الاعتقاد .
الخلاصة
وخلاصة هذا المبحث أن أي أصل أو أمر عظيم أضيف - أو يضاف - إلى الدين سواء كان من أصول الاعتقاد كـ(الإمامة) أو(العصمة) ، أو كان من أصول الشريعة ومسائلها العظيمة كـ(خمس المكاسب) أو القضايا الخطيرة المتعلقة بأعراض الناس وفروج المحصنات مثل نكاح (المتعة) يرد على من أضافه ولا يمكن القبول به شرعاً لسبب بسيط هو أنه أضيف إلى الدين بلا دليل يصلح أن يسمى دليلاً بالمعنى العلمي للدليل . وما لا دليل عليه فهو باطل ، ولا ينبغي لمسلم أكرمه الله جل وعلا بالعقل وأعزه بالوحي، وجعل أساس دينه قائماً على الدليل والحجة والبرهان أن يعتقد باطلاً ويتبع وهماً أو ظناً لا يغني من الحق شيئاً.
ضربة قاضية لكل الأصول الباطلة
وهذه القواعد التي ذكرتها إنما هي سلاح قاطع وضربات قاضية لكل أصل فاسد يمكن أن يضاف ليشوه به صفاء هذا الدين العظيم .
وبهذا نستطيع أن نحاصر أهل البدع ، ونحمي سياج الدين من ان تتغلغل من خلاله بدع المبتدعين وأضاليل الزائغين .
والحمد لله رب العالمين.
خاتمة خارج صلب البحث
التضخم يصيب الفكر الإسلامي الأصولي
في غيبة هذا القانون عن ذاكرة البحث الأصولي وخلو المنهج الاستدلالي لدى الباحثين في الأصول من تبنيه والبناء عليه في بحوثهم ونقاشاتهم أصيب الفكر الإسلامي الأصولي بحالة من التضخم ما كان أغناه عنها لو انتبهنا من وقت مبكر ووعينا تمام الوعي مراد الله تعالى بقوله : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ) (آل عمران:7) .
وقوله: (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظَنّاً إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) (يونس:36) .
وقوله:(وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (النجم:28) وأمثالها من الآيات البينات التي تلزم الإنسان بأن يبني أصول اعتقاداته وأساسيات دينه على اليقين ، ولا تعترف بما بني منها على الظن والشبهة والاحتمال .
وهذا يستلزم - أول ما يستلزم - إسقاط جميع الأدلة الظنية وعدم اعتبارها ، فلا داعي للانشغال بإبطال دلالاتها لأن الدليل فقد اعتباره من الأساس .
ليس هذا هو قصدي تماماً بما غاب عن أذهان العلماء ، إنما هو شيء آخر هو الأساس وهذا وصفه . لقد انشغلنا بالوصف وذهلنا عن الموصوف الذي هو وجوب أن يكون الدليل الأصولي نصاً قرآنياً حصراً . فالروايات لا تأتي بأصل غاب ذكره فلم يبينه الله تعالى أولاً في القرآن . فضلاً عن أن يكون هذا الأصل لا ذكر له في الكتاب ولا في السنة فنحتاج إلى استنتاجه بعقولنا القاصرة . إذن لماذا بعث الله محمداً e ؟!
قصر الدليل الأصولي على النص القرآني المحكم
وبالجمع بين الوصف والموصوف نتوصل إلى هذا القانون الرباني الأصولي ألا وهو وجوب كون الدليل الأصولي نصاً قرآنياً قطعي الدلالة ، فلا يقبل فيه:
- النص القرآني الظني الدلالة
- ولا النص الروائي
- فضلاً عن الاجتهاد العقلي .
بعبارة أخرى : قصر الدليل الأصولي على محكمات آيات الكتاب .
كيف نخلص العوام من طامة التقليد في الأصول
بهذا نصل إلى الحق من أقرب طريق ، وبأيسر وسيلة . ونصيب كبد الحقيقة : فنعرف الأصول الصحيحة من الأصول الباطلة دونما حاجة إلى كثرة الردود وإطالة النقاش ، ولا لجوء إلى كتب التفسير وأقوال العلماء ، أو قواميس اللغة الأمر الذي شوش صورة الحق في أذهان الكثير من عوام الناس وجعلهم يعيشون في بلبلة فكرية شديدة لا يدرون بالضبط مع من يكون الحق ؟ وأخيراً لا يجدون ملجأً غير تقليد من يثقون به مع أن الكل متفقون على عدم جواز التقليد في الأصول . فقل لي بربك مَن من العوام يستطيع تبين وجه الحق وسط هذه المعمعة من الجدالات والنقاشات التي يصعب استيعابها دون معرفة دقيقة سابقة بأصول الفقه واللغة والحديث والمنطق وأساليب الجدل وغيرها من لوازم معرفة دلالات الأدلة ؟! مَن من العوام يفهم في هذا ليستطيع الحكم مستقلاً بالحق لهذا قطعاً دون ذاك ؟! وكيف له أن يتخلص من التقليد ليتوصل بنفسه إلى معرفة أصول دينه وقد أمست الأصول تحتاج إلى كل هذه التشكيلة من العلوم وهو لا يحسنها ؟!
إن هذا هو أحد الأسباب التي تجعل من العوام صيداً سهلاً للمشككين ، ما يؤدي بهم إلى أن يكونوا دوماً رصيداً احتياطياً لأهل الباطل .
أما إذا علّمنا المسلم أن لا يبني أصول دينه إلا على
الآيات الواضحة التي لا يحتمل نصها إلا معنى محدداً لا يحتاج إلى تفسير فقد خلصناه أولاً من الحاجة إلى التقليد في التعرف على الأصول ، وجعلناه ثانياً على بينة قاطعة من أن هذه الأصول التي يؤمن بها إنما هي الأصول التي جاء بها رسول الله e من ربه جل وعلا . وفي الوقت نفسه يستطيع إطلاق الحكم الجازم دون تردد ببطلان كل أصل باطل بنفسه دون الحاجة إلى الاستعانة بأحد من العلماء وغيرهم ، ولا معرفة بأي علم من تلك العلوم التي أشرنا إليها آنفاً . بل يستطيع أي مسلم حتى لو كان أمياً أن يُسكت أي عالم من علماء الضلالة مهما أوتي من علم وكان على دراية بأساليب الجدل ما دام أصله الذي يحتج له لا وجود له في القرآن بالنص المحكم الصريح القطعي في دلالته .
عدم الحاجة إلى أي علم لمعرفة الأصول
إن هذا القانون سيغني المسلم عن الحاجة إلى معرفة أي علم من العلوم لكي يتعرف على أصول دينه - حتى لو كان هذا العلم علم تفسير القرآن - ما دام النص القرآني الأصولي ناطقاً بنفسه معبراً عن الأصل المراد صراحة .
وأما الحديث وعلومه فلا حاجة له فيه البتة لأن الأصول كلها موجودة صراحة في القرآن .
كذلك العلوم العقلية شأنها شأن ما سبقها من العلوم: التفسير فما دونه !
وبهذا نكون قد خلصنا الفكر الإسلامي الأصولي من حالة التضخم والترهل التي أصابته في الصميم ، وأدت به إلى أن يتحول إلى فكر انعزالي نخبوي لا يحسن التعامل معه إلا من امتلك رصيداً غير قليل من العلم والثقافة والمعرفة، بينما يتفق الجميع على أن الأصول وأدلتها يجب أن تكون في متناول الجميع علماء وعامة .
لقد كان يفترض على الفكر الإسلامي الأصولي أن يحسم هذه القضية العظيمة منذ البداية ويبرزها ويجعلها في متناول إدراك كل مسلم . ولو حصل ذلك لكنا قد استغنينا عن هذه الردود الطويلة المرهقة ، وتخلصنا من آلاف الكتب المطولة والمختصرة التي ألفت في موضوع العقيدة ، والتي هي مجرد ردود على أباطيل أهل الزيغ الذين نجحوا أيما نجاح في جرنا بعيداً عن المصدر الأساس والوحيد للأصول ألا وهو محكم القرآن العظيم .
جملة واحدة تكفي لإسقاط جميع أصول المبتدعة
ولو كنا قد انتبهنا إلى هذه المغالطة المنهجية في الاستدلال الأصولي لكان نقاشنا مع المبتدعة وجميع المبطلين ينتهي بجملة واحدة ، وأباطيلهم تسقط بضربة واحدة هي : هل هذا الذي تدعونه من الأصول عليه دليل صريح من القرآن ؟ عند ذاك سيتبين للجميع – علماء وعامة ، متعلمين وأميين – عجزهم الكامل والواضح عن الإتيان ولو بآية واحدة دليلاً على ما يدعون ! لأن هذا الكتاب العظيم (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) فليس فيه حجة محكمة لأهل الباطل .
لكن في غيبة هذه الحقيقة الواضحة السهلة الميسرة
يجرجرنا أهل الزيغ بعيداً عن محكمات الكتاب إلى متشابهاته التي تحتمل وجوهاً عديدة من المعاني ، وفيها مجال واسع للاختلاف بين العلماء ، وليس من السهل القريب أحياناً إلزام الخصم بالمعنى الآخر للآية موضوع النقاش ، ولا يعدم الأمر من رأي شاذ قال به بعض المنتسبين للحق . فإذا أدخلت الروايات في النقاش أو الاستدلال تعقدت المسألة أكثر لأن الروايات يكثر فيها المكذوب والضعيف ناهيك عن الصحيح المحتمل المعنى، فلا بد أن نلجأ إلى قواعد التصحيح والتضعيف والخوض في علم الجرح والتعديل ، وهو بحر لا ساحل له فإن الاختلاف فيه ليس له حدود ، ولكل فريق قواعده وأحكامه الخاصة ، وكلٌ يصحح ويضعف ما لا يتفق فيه مع الآخر فيتحول الكلام إلى حركة في فراغ لا طائل تحته ! وتتضخم الردود وتزدحم المكتبة بركامها .
أما إذا دخلت الأدلة (العقلية) والأبحاث الفلسفية في حومة النزاع فتكون الواقعة قد وقعت وقضي الأمر وانسدت السبل كلها في وجه طالبي الحق والحقيقة من حيث نتصور أننا نلتمس الحق ونجلي وجهه لطالبيه !
دين الله في ليس معقداً ولا فوق مستوى ذهن العوام
والآن قل لي بربك : هل يمكن أن تتصور أن دين الله جل وعلا معقد إلى هذه الدرجة ؟ وأنه سبحانه قد وكل عباده كي يتعرفوا على معالم دينه الكبرى إلى هذه السبل الطويلة البعيدة المتعرجة التي لا يحسن الخوض فيها إلا الفطاحل من البشر ؟ ثم يحاكم على أساسها عامة المسلمين مع أن سلوكها أو فهمها متعذر عليهم ! فإذا أخطأ أحدهم لأنه لم يجد بداً من تقليد العلماء فيها يكون حاله كحال أولئك الذين أخبر الله تعالى عنهم فقال :
( وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً ) .
حاشا وكلا ! إن دين الله في أصوله ومعالمه الكبرى سهل ميسر ، في إمكان أي إنسان معرفته وفهمه دون حاجة إلى أحد سوى القرآن كما قال رسول الله e : (( تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك )) . ولو كان الدين معقداً إلى هذه الدرجة التي وصلنا إليها في معزل عن القرآن لما قال الرسول هذا القول ، ولجاز شرعاً أن تتعدد الأديان والطوائف بتعدد أصولها التي لا ضابط لها كما جاز تعدد المذاهب الفقهية طبقاً للاختلاف الجائز في المسائل الفرعية التي لا يمكن أن ترجع في عمومها إلى مثل ما ترجع إليه الأصول من ذلك القانون الرباني القرآني الحكيم الذي هو موضوع رسالتنا هذه.
ولقد تأملت أصول الفرق الزائغة فوجدتها جميعاً تافهة ليست بشيء ؛ لأنها لا تقوم على أساس شرعي يستحق التوقف والنظر . وعلى هذا فإن إطالة حبل النقاش فيها بالنظر في دلالات (أدلتها) دون حسمه ببيان كون (الدليل) غير مؤهل للاستدلال من الأساس هو الذي أعطى هذه الأصول قيمة في أذهان الناس ، وجعل الكثيرين منهم يعيشون حالة من الشك ، أو - على الأقل - يحتملون صحة هذه الأصول . ولو اتبعنا المنهج الإلهي القرآني لكان قد تبين لكل مسلم تفاهة كل أصل من تلك الأصول ومن الجولة الأولى لأننا بتطبيق هذا المنهج لا نحتاج إلى ردود طويلة أو معقدة تشوش صورة الحق في ذهن القارئ أو السامع وتجعله في تردد وتشكك من تبيُّن وجه الحقيقة .
المحتوى
المنهج القرآني في إثبات أصول الدين |
|
اختلاف العقلاء فيما يعقلون |
|
([1]) روى الكليني عن أبي عبد الله (جعفر الصادق) قال : (كان أمير المؤمنين(ع) إماماً ثم كان الحسن (ع) إماماً [وعدد البقية] … ومن أنكر ذلك كان كمن أنكر معرفة الله تبارك وتعالى ومعرفة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم) - أصول الكافي 1/181.
وعن أبي عبد الله (ع) قال: (لا يسع الناس إلا معرفتنا ولا يعذر الناس بجهالتنا من عرفنا كان مؤمناً ومن أنكرنا كان كافراً ومن لم يعرفنا ولم ينكرنا كان ضالاً حتى يرجع إلى الهدى) - أصول الكافي 1/187 .
ويقول ابن بابويه القمي : (اعتقادنا في الأنبياء والرسل والأئمة والملائكة عليهم السلام انهم معصومون مطهرون من كل دنس، وانهم لا يذنبون ذنباً صغيراً ولا كبيراً ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون . ومن نفى عنهم العصمة في شيء من أحوالهم فقد جهلهم ، ومن جهلهم فهو كافر . واعتقادنا فيهم انهم معصومون موصوفون بالكمال والتمام والعلم من أوائل أمورهم وأواخرها ولا يوصفون في شيء من أحوالهم بنقص ولا عصيان ولا جهل) - الاعتقادات في = = دين الإمامية ص70 - ابن بابويه القمي – المطبعة العلمية – قم 1412هـ بتحقيق غلام رضا المازندراني.
([2]) القس هو (شروش) ، والعالم المسلم هو (أحمد ديدات). والمناظرة مسجلة في شريط فديو .