واشنطن تحذر السيستاني من لعب دور خميني العراق ..
هل ستجري الانتخابات العراقية المقررة والمنتظرة في يناير "كانون الثاني"المقبل؟ رسميا، هذا السؤال يبدو حتى الآن غير مطروح لا بالنسبة للأميركيين ولا بالنسبة للحكومة العراقية المؤقتة ولا حتى بالنسبة للمرجع الشيعي الأعلى آية الله السيستاني ولا طبعا بالنسبة للأكراد، بل إن جميع هؤلاء يؤكدون يومياً أن الموضوع غير قابل للجدل والنقاش ويصل السيستاني إلى حد اعتبار الانتخاب واجباً دينياً ومن يتخلف عنه مهدد بدخول جهنم. ومن هنا يبدو أن المبرر الوحيد للتساؤل يتعلق بحصول الانتخابات في المنطقة السنية وبمدى وطريقة إقناع سنة العراق والعشائر وتنظيمات المقاومة بإقفال جهنم الموت والدمار اليومية ودخول العملية السياسية إن لم يكن بالتخلي عن السلاح نهائياً، فعلى الأقل بالموافقة على نوع من الهدنة تتيح إجراء استبعاد السنة وحرمانهم من المشاركة في الحكم.
لكن المعلومات التي حصلت عليها "الوطن العربي" تكشف عن وجود عراقيل تتجاوز الساحة السنية في تهديدها لمستقبل الانتخابات في العراق ولا تشكل المقاومة والحرب ضدها سوى جانب واحد من مجموعة جوانب خفية تدفع إلى القول باستحالة إجراء تلك الانتخابات في موعدها كما تدفع بأكثر من طرف إلى العمل سراً على تأجيلها رغم الترويج العلني لها. وفي الأيام الماضية، حصلت "الوطن العربي" على أكثر من تقرير متشائم لا فقط بالنسبة لعقد انتخابات يناير "كانون الثاني" بل خصوصاً بالنسبة لنتائجها المحتملة وانعكاساتها الخطرة على مستقبل العراق كدولة ديمقراطية موحدة وتعددية.
حتى الآن يبدو أن الخطر الوحيد الذي يهدد الانتخابات يتأتى من الفلتان الأمني في بغداد والمناطق السنية واستمرار تمردها وفضها للاحتلال الأميركي والسلطة العراقية الحالية، وبالتالي الدعوة إلى المقاومة لإخراج المحتل قبل أي حديث عن الانتخابات.
وقد بات من المؤكد، وخصوصاً بعد إعادة انتخاب بوش لولاية ثانية، أن المفاوضات التي يجريها رئيس الحكومة المؤقتة إياد علاوي مع بعض فصائل المقاومة العراقية وزعماء العشائر لإقناعهم بخوض الانتخابات قد دخلت في طريق مسدود، بحيث لم يبق سوى الحسم العسكري بدءا باقتحام الفلوجة وتدميرها وإبادة المقاومة فيها على أمل أن تكون درساً للمدن المتمردة الأخرى في المثلث السني.
لكن الحسابات العسكرية الأميركية لا تتقاطع مع آخر التقارير الاستخبارية عن حقيقة موازين القوى والمعادلات دخل المثلث السني، فعلى الرغم من أن الاستطلاع السري الأخير الذي أجراه "المعهد الجمهوري الدولي" أفاد بأن ثلثي سنة العراق يرغبون في خوض الانتخابات، إلا أن التقارير الاستخبارية الأخيرة كشفت أن المقاومة العراقية ما زالت تسجل إقبالاً متزايداً من الشباب العراقي وأن عملياتها، رغم ما يقال عن وحشية تنظيم الزرقاوي الرفض الشعبي لاستهداف العراقيين العاملين مع السلطة، قادت إلى زيادة شعبية المقاومة وتأييدها في المناطق السنية. وكشف أحد التقارير أن مناصري المقاومة العراقية باتوا يعدون بمئات الألوف وأن هؤلاء يسيطرون على مدن وقرى بكاملها لافتاَ إلى أن الحسم العسكري في الفلوجة وحدها أو مع الرمادي أو اليوسفية لن يقود إلى إنهاء المقاومة أو حتى إخفاقها وأن هذا الأمر يحتاج على الأقل إلى اقتحام 22 مدينة عراقية وإخراج المقاومة منها وبسط سيطرة القوى الشرعية عليها.
ورغم ذلك يضيف التقرير أن مشاركة السنة في الانتخابات لن تكون مضمونة، ويشير إلى أن الجو العام في الشارع السني هو أن التركيبة الحالية والانتخابات هدفها إخراج السنة من معادلة السلطة وخسارتهم موقعهم بعد ما كانوا الفئة المهيمنة والنافذة مع حزب البعث ويضيف أن لدى السنة قناعة بأنه ليس هنالك أي حزب مثلهم فعلاً فالمقاومة البعثية والجماعات الدينية ستظل مصممة على مقاطعة الانتخابات، وبالتالي فإن الشخصيات والأحزاب "السنية" المتبقية وإن كان منها أسماء مثل عدنان الباجه جي وناصر الجادرجي أو غازي الياور أو ممثلي الحزب الإسلامي فثمة شكوك في قدرتهم على تأكيد موقع السنة وحقوقهم في البرلمان الجديد الذي سيهيمن عليه الشيعة. وعلى الرغم من استمرار التساؤلات حول الموقف النهائي لهيئة علماء المسلمين من الانتخابات، إلا أن التشاؤم يظل سيد الموقف وآخر المعلومات تشير إلى أن المقاومة العراقية ستكون قادرة على منع إجراء الانتخابات في غالبية مراكز الاقتراع في المثلث السني سواء عبر العمليات العسكرية ضد هذه المراكز أو عبر تهديد المرشحين أو حتى الناخبين بالموت.
في ظل هذه المعدلة ازدادت الشكوك العربية والدولية في عدم شرعية الانتخابات المقبلة لجهة عدم تمثيلها كل شرائح ومناطق العراق وقادت إلى مخاوف جدية من أن تقود إلى شرعنة الهيمنة الشيعية على العراق، وبالتالي إلى وضع حجر الأساس إما لإقامة دولة دينية أو لتقسيم العراق وتفكيكه بانتخابات أعدت لتكون أداة لتوحيد البلد.
وفي معلومات "الوطن العربي" إن هذه المخاوف قادت الأميركيين إلى إعادة النظر في تأييدهم لخطة إجراء الانتخابات في يناير "كانون الثاني" المقبل، ويبدو أن واشنطن بدأت تعمل جدياً على تفادي ذلك الموعد لكنها تجد نفسها عاجزة عن التصريح برغبتها هذه علناً مخافة أن تجد نفسها أمام جبهة مقاومة شعبية أخرى يفتحها آية الله السيستاني .
لائحة أميركية
وكشف خبير أميركي مطلع لـ "الوطن العربي" أن الإدارة الأميركية تواجه منذ أكثر من ثلاثة أشهر احتمال استحالة إجراء انتخابات في كل العراق، وتدرك أن المقاومة ستحول دون ذلك في الناطق السنية. ومنذ ذلك الوقت تشهد الساحة العراقية نوعاً من الحرب السرية بين الأميركيين من جهة والشيعة من جهة ثانية سرعان ما انضمت إليها إيران إلى جانب الطرف الأخير. ويضيف هذا المصدر أن ثمة سباقاً محموماً بين لائحة شيعية موحدة يدعمها السيستاني علنا وتباركها إيران سراً رغم عدائها للمرجع العراقي وبين لائحة وطنية عراقية موحدة تدعمها واشنطن وتسعى عبرها لمواجهة خطة السيستاني للهيمنة الشيعية على البرلمان والحكم المقبلين في العراق، وبالتالي فرض رؤيته الدينية على الدستور الدائم. ومن هذا المنطلق، فيما كانت واشنطن تؤكد بإلحاح إصرارها على بوفير كل الظروف للعراقيين لانتخابات حرة ونزيهة تنقل السلطة والقرار إليهم مباشرة وكلية، كانت في الوقت نفسه تعمل على إعداد "لائحة ائتلاف وطني" تجمع حلفاءها المضمونين وتضم مرشحي الأحزاب الستة الرئيسية التي شكلت المجلس الانتقالي: الوفاق الوطني والمؤتمر الوطني ، والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، والدعوة، والاتحاد الوطني الكردستاني، والحزب الديمقراطي الكردستاني.
وفي حسابات الأميركيين أن هذه اللائحة الموحدة هي اللائحة الأضمن لمواجهة الخطة الإيرانية على الساحة العراقية عبر الانتخابات والتي تمثلت حسب بعض التقارير بإقناع مقتضى الصدر بتسليم سلاحه وخوض الانتخابات. وفي المعلومات الأميركية أن إيران رصدت عشرات ملايين الدولارات للتأثير على الانتخابات المقبلة وأرسلت آلاف الجواسيس والعملاء والموفدين لاختراق الساحة الشيعية بسائر أحزابها لبسط نفوذها داخلها بغية التأثير في نتائج صناديق الاقتراع. وتؤكد مصادر "الوطن العربي" أن الخارجية الأميركية سارعت إلى رصد أكثر من أربعين مليون دولار، لمواجهة هذا المخطط الإيراني تحت ذريعة مساعدة الأحزاب العراقية على خوض الانتخابات. ويبدو أن الجهات الأميركية تراهن كثيراً على استقطاب حزبي الدعوة والمجلس الأعلى الشيعيين في لائحتها لضمانها قدرتهما على حرمان المرشحين والأحزاب الشيعية الأخرى ذات التوجه الإيراني المفضوح من الأصوات والمقاعد النيابية. وفي حسابات واشنطن أن هذين الحزبين الشيعيين يملكان حجماً تمثيلياً للساحة الشيعية بحيث يمكن الرهان عليهما لإبعاد أي مرشح إيراني عن البرلمان العراقي المقبل.
وفي معلومات "الوطن العربي" أن فكرة هذه اللائحة الائتلافية المدعومة أميركياً لاقت قبولاً سريعاً من "ذوي العلاقة" وحظيت أيضاً بترحيب جهات سنية راغبة في خوض الانتخابات على لوائح مضمونة قيل إنها تضم الباجة جي والجادرجي وحتى الرئيس غازي الياور. وتؤكد المصادر أن المفاوضات لتشكيل هذه اللائحة الائتلافية من 275 اسماً كانت قد بلغت مرحلة متقدمة قبل دخول آية الله السيساني على الخط بلائحته الائتلافية الأخرى.
استراتيجية السيستاني
وفي آخر المعلومات أن المرجعية الشيعية مازالت مصممة على خوض الانتخابات بلائحة شيعية موحدة. ويجري تقديم هذه اللائحة على أنها لائحة مرشحين تباركها المرجعية الشيعية وتهدف كما وضعها مهدي الكربلائي ممثل السيستاني "لإعادة الحقوق الشيعية". وقياساً إلى الأغلبية العددية الشيعية وعلى ضوء المقاطعة السنية للانتخابات تملكت هذه اللائحة حظاً كبيراً في حصد الغالبية العظمى من مقاعد البرلمان، وخصوصاً ضمان الهيمنة الشيعية على عملية إعداد الدستور العراقي الجديد. وبالطبع ستكون "اللائحة الشيعية الموحدة" مفتوحة أمام جميع الفئات العراقية الأخرى ويتوقع أن يسيطر عليها الحزبان الشيعيان الرئيسيان المجلس الأعلى والدعوة، وستضم أيضاً مرشحين عن أحزاب وتنظيمات علمانية لكن على أن يقبل هؤلاء بثلاثة شروط: الالتزام بالتصويت للائحة كاملة والتعهد بعدم إدخال أي تعديل على البعد الإسلامي للشعب العراقي وعدم دعم أي قانون أو مشروع مخالف للشريعة الإسلامية.
وبمعنى آخر، لا تكفل هذه اللائحة فقط الهيمنة الشيعية على السلطة العراقية المقبلة، بل تجعل من آية الله السيستاني المرشد الروحي للحكم العراقي الجديد. ومن هنا المخاوف الجدية من أن تكون الانتخابات العراقية المقبلة عملية تكريس استراتيجية السيستاني وبداية لتحقيق الدولة الدينية في العراق والجمهورية الإسلامية العراقية رغم كل ما يقال عن رفض السيستاني للتحول إلى خميني العراق ومعارضته إقامة نموذج جديد للجمهورية الإسلامية الإيرانية في العراق.
وفي معلومات "الوطن العربي" أن واشنطن التي سبق أن أعلنت رفضها إقامة دولة دينية في العراق أعلنت عن استيائها الشديد ومعارضتها لخطة السيستاني واستراتيجيته ليكون "خميني العراق الديمقراطي" وباتت تتخوف علنا من أن تقود أية سلطة عراقية جديدة ذات هيمنة شيعية على البرلمان والحكومة إلى توثيق العلاقات أكثر مع إيران. ولهذا أبلغت جماعة السيستاني رفضها تكريس الطائفية عبر الانتخابات معلنة تفضيلها للائحة توافقية وطنية.
لكن السؤال هو أي لائحة سيختار كل من المجلس الأعلى وحزب الدعوة وماذا لو انضم حزب الجلبي بدوره إلى اللائحة الشيعية وهو احتمال وارد جداً ويمكن أن ينسحب أيضاً على كل الأحزاب الشيعية التي قد تجد صعوبة في تحدي إرادة المرجع الأعلى؟
في أي حال لا يبدو أن اللائحة الشيعية التي يشرف على إعدادها آية الله السيستاني ستلعب دوراً في إقناع السنة بالمشاركة في الانتخابات حتى عبر تخويفهم من خسارة نهائية لموقعهم داخل السلطة العراقية ولعب دور الشيعة عام 1921 عندما قادت مقاطعتهم إلى خسارتهم لأي نفوذ داخل السلطة.
وفي قناعة أكثر من مراقب أن إصرار السيستاني على مشروعه سيزيد من رفض السنة للدخول في اللعبة السياسية وسيعزز من موقع المقاومة داخل المثلث السني وكلها أسباب إضافية للعمل على تأجيل موعد الانتخابات.. وتعجيل موعد الانفجار الكبير الذي ينتظر العراق والذي قد تكون معركة الفلوجة شرارته الأولى!
______________________________
الوطن العربي العدد 1445 ـ 12/11/2004