السنة العراقيون.. ضياع للهوية أم بحث عن السلطة؟ ..
منذ سقوط النظام العراقي السابق، كان السؤال الأبرز الذي اخذ يطرحه الكثير من المراقبين ما هو مصير السنة العرب في العراق الذين كانوا يشكلون من الناحية العملية العمود الفقري للنظام من خلال المواقع الحزبية المتقدمة ومن خلال قيادة الأجهزة الأمنية المتعددة والحرس الجمهوري وجهاز الأمن الخاص، ولم تكن الإجابة بحاجة إلى وقت طويل لتظهر على ارض الواقع، فقد بدأت المناطق السنية مبكرا حالة المواجهة مع قوات التحالف، وبرز في تلك المناطق مثل الفلوجة وسامراء وبعقوبة والموصل رجال الدين السنة من خلال ما يسمى هيئة علماء المسلمين كمرجعية دينية وسياسية للسنة العرب، والتى سرعان ما بدأت تمارس دورها في احتضان مجمل العمل العسكري والسياسي والديني ضد القوات الأميركية في تلك المناطق بما في ذلك توفير الغطاء للمقاتلين العرب القادمين «للجهاد».
فتحولت من الناحية العملية هذه الهيئة من رجال الدين إلى مرجعية للسنة العرب في العراق بدون امتلاك أي برنامج محدد وواضح المعالم باستثناء برنامج النقطة الواحدة المتمثل بخروج القوات الأميركية من العراق، ويثير هذا الواقع من الناحية العملية عدة أسئلة منها: ما هو مصير السنة، هل ستبقى هيئة علماء المسلمين هي الممثل الشرعي لهم؟
وهل حزب البعث العربي الاشتراكي الذي كان يمسك بزمام الدولة العراقية على مدى خمسة وثلاثين عاما، اصبح حزبا مرتبطا وملتصقا بالفكر السلفي الذي يمثله هيئة علماء المسلمين أم أن الحزب اخذ يغطي نفسه بالخطاب الديني السلفي بعد أن اكتشف أن السنة العرب فقط من بين العراقيين الذين مازالوا يؤمنون بفكره و بعد أن اكتشف حجم الكراهية له كسلطة وكفكر لدى الشيعة العرب والأكراد وبقية التكاوين الأخرى في الديمغرافيا العراقية؟ أم أن الحزب بصدد الهروب من الفكرة القومية العلمانية إلى فكر جديد يزاوج بين الخطاب الأصولي الديني مع الخطاب القومي التقليدي؟ وهنا أيضا يطرح تساؤل مهم حول موقف العشائر السنية من مستقبل السنة، وهل يقبل شيوخ تلك العشائر بان يكونوا مجرد منفذين لأوامر وفتاوى هيئة علماء المسلمين التي أصبحت تدفعهم في اتجاهات معادية تماما للحالة الوطنية العراقية؟
بعض تلك الأسئلة يمكن تصور إجابات محددة له، غير إن بعضها الآخر مازال مرهونا بالتطورات السياسية وربما تمثل الدعوة التى أطلقتها هيئة علماء المسلمين والتي طالبت فيها بمقاطعة السنة للانتخابات العراقية المقبلة أحد المؤشرات الواضحة على النهج التصعيدي الذي تريده هذه الهيئة والتى تريد جعل السنة في حالة صدام دائم مع الحالة الوطنية العراقية وتحويلهم الى أقلية طائفية تريد إما السلطة او الاستمرار في العنف، أي بمعني آخر تريد للسنة أن يكونوا أشبه بالحالة المارونية في لبنان أو الحالة الصربية في يوغسلافيا القديمة، وهو نهج معاكس تماما للحالة الشيعية التى تدفع مرجعيتها الدينية ممثلة بآية الله السيستاني الشيعة الى المشاركة الفاعلة في العملية السياسية الجارية في العراق وبخاصة الانتخابات القادمة، فالعقلانية في الخطاب الديني والسياسي للشيعة العرب يقابله خطاب متزمت ومتطرف للحالة السنية.
لقد مارس الشيعة العرب بعد ثورة العشرين الشهيرة في العراق ضد القوات البريطانية نفس الخطأ الذي تريد هيئة علماء المسلمين السنة فعله مع السنة العرب، فبعد الثورة ومع بداية الحكم الملكي في العشرينيات من القرن الماضي قاطع الشيعة الدولة العراقية بكل تكويناتها، واكتشفوا بعد سنوات من تلك المقاطعة أن بناة الدولة العراقية وعمودها الفقري هم من السنة وبقى الأمر على حاله ولم يتغير حتى بعد الانقلاب على الملكية ومجيء عبد الكريم قاسم وبعده عبد السلام عارف والحكم البعثي الذي استمر حتى سقوط النظام السابق والذي عزز تلك السيطرة السنية بدرجة عالية من الاستفزاز والاستعداء للمكونات العراقية الأخرى وبصورة متعمدة ومدروسة.
لقد نجحت هيئة علماء المسلمين في إيهام السنة أن الحل الوطني والديني في العراق يتمثل فقط في حرب مفتوحة مع الأميركيين ومع الحكومة المؤقتة ومجمل العملية السياسية في العراق الى ان يتم طرد الأميركيين من العراق عبر حل عسكري محض تباح فيه كل أنواع القتل من السيارات المفخخة الى جز الرقاب.. كل أنواع الرقاب ولكل من يتعامل مع الأميركيين في إطار فتاوى الجهاد المعروفة، ولكن ما لا يدركه شيوخ تلك الهيئة انهم سيكونون وبهذا النهج الاقصائي للآخرين على موعد مع حروب أخرى أهلية بعد الانتهاء من قوات الاحتلال، حروب مع المكونات الأخرى في النسيج الديمغرافي العراقي من شيعة وأكراد وتركمان وغيرهم، فالحل العسكري الذي يرفض " الاحتلال " ويرفض العملية السياسية ويرفض الانتخابات ويرفض كل شئ هو مشروع حرب أهلية _ طائفية.
إن هيئة علماء المسلمين تدفع السنة العراقيين نحو الخروج من المعادلة الوطنية والدخول في مشروع عدمي يبدا بحرب أهلية وقد ينتهي من الناحية العملية بتقسيم العراق وهو خطر اصبح ماثلا للعيان، ويزداد احتمال وقوعه مع مرور الوقت.
أما النتيجة فانهم لن يستعيدوا سلطة ضائعة ولن يصنعوا هوية، بل سيكونون مجرد رمز انفصالي يصعب أن ينظر له بتقدير لا في العراق ولا في الإقليم.