Difa e Islam | الدفاع عن الإسلام | دفاع الإسلام |
تغيير اللغة:

العلاقة بين إيران والسودان ..

العلاقة بين إيران والسودان ..
الكاتب : يوسف الطريفي

العلاقات السودانية مع إيران تشكل بعدا هاما لا يمكن تجاهله فى فهم وتحليل النظام السياسى السودانى سواء من حيث ممارساته الداخلية أو سلوكه الخارجى، ومن هنا تحاول هذه الورقة إلقاء نظرة على النظام السودانى من منظور علاقاته مع إيران بمعنى توضيح أثر هذه العلاقات على الممارسات الداخلية والخارجية للنظام ولا يعنى ذلك رصد أو تعقب كل كبيرة وصغيرة فى هذه العلاقات أو فى ممارسات النظام، وإنما يتم التعرض لكل بمقدار ما تلقى من ضوء ما يمكن تسميته ـ الصبغة الإيرانية فى النظام السودانى ـ أولا:ـ موقع العلاقات السودانية ـ الإيرانية فى المنظومة الإقليمية:ـ الواقع أن حكومة الجبهة الإسلامية فى الخرطوم لم تكن أول من فتح الباب أمام إيران للوجود على الساحة السودانية، فقد كان للعلاقات السودانية ـ الإيرانية سوابق أهمها بعد سقوط جعفر نميرى عام 1985 حيث تم استئناف العلاقات الدبلوماسية التى كانت مقطوعة بينهما، وسمح بدخول صحيفة ـ كيهان ـ الإيرانية الناطقة بالعربية، وتعززت العلاقات بين البلدين بزيارة صادق المهدى لطهران فى ديسمبر 1986، وذكر بيان إيرانى ـ سودانى مشترك أن إيران تعهدت بتغطية الاحتياجات البترولية السودانية، غير أن طبيعة هذه العلاقات وحدودها قد اختلفت فى ظل حكم الجبهة القومية الإسلامية التى جاءت إلى السلطة مع انقلاب عمر البشير فى ـ 1989، حيث اتجه السودان إلى توثيق علاقاته مع إيران على عدة مستويات اقتصادية وسياسية وعسكرية، وقد تعزز التنسيق بين البلدين إلى الحد الذى شعر معه بعض المراقبين أنه يسير فى اتجاه تكوين محور جديد وقد وصل هذا التنسيق ذروته مع زيارة الرئيس الإيرانى ـ هاشمى رافسنجانى ـ للعاصمة السودانية الخرطوم فى ديسمبر 1992 على رأس وفد كبير، تلك الزيارة التى تم خلالها توقيع عدد من اتفاقيات التعاون بين البلدين، والتى كانت ردا على زيارات سابقة لمسئولين سودانيين إلى العاصمة الإيرانية طهران ويمكن تحديد أهم الأهداف الإيرانية التى تكمن وراء هذا التحرك فى رغبة طهران فى إيجاد موطئ قدم لها فى أفريقيا، خصوصا إذا كان ذلك فى القرن الأفريقى، أو فى بلد كالسودان، وقد رأت إيران أن الفرصة مواتية من ناحية، وأن ثمة ضرورة استراتيجية لمثل هذا التحرك من ناحية أخرى، فقد كانت الفرصة مواتية من حيث أن الدول العربية التى كانت تتمتع ببعض النفوذ السياسى والثقافى على جزء من القارة الأفريقية قد انشغلت بإزالة الآثار المترتبة على حرب الخليج الثانية، أو أصبحت قيد المعاناة من نتائجها فضلا عن أنها كانت قد انكفأت على شئونها الداخلية، وكان مثل هذا التحرك بمثابة ضرورة استراتيجية لإيران، ليس فقط بسبب التغيرات الهائلة التى لحقت بالخريطة السياسية للمنطقة بعد الغزو العراقى للكويت، وإنما أيضا لأن أهم تحالفاتها فى المنطقة العربية والتى تمثلت فى سوريا ولبنان قد أصبحت عرضة لإعادة التوازن وكان السودان بالطبع بحكم توجهاته الإسلامية، ومعاناته الاقتصادية، وظروف الحرب الأهلية، فضلا عن عزلته، كان هو الطرف المناسب لإقامة مثل هذه العلاقة ثم طرأت بعض المتغيرات التى عززت من أهمية السودان بالنسبة لإيران، ولعل أهمها هو مخاطر التصعيد الأمريكى ضد إيران والذى تمثل فى التهديد الأمريكى بفرض حصار على إيران وقد أغرى إيران بالمضى فى هذا الاتجاه ما حققته من نجاحات فى هذا الصدد فى مجال سياستها الخارجية؟ فقد نجحت فى حمل الصين وروسيا وكوريا الشمالية على عدم التجاوب مع التحذيرات الأمريكية ـ(ومؤشرات الترغيب والترهيب)ـ لوقف تعاونها مع إيران فى بناء مفاعلاتها النووية وإمدادها بالصواريخ والغواصات، وكذلك مساعدتها فى إعادة تعمير منشآتها البترولية التى تعرضت للتدمير خلال الحرب مع العراق أيضا تعزز الأمل الإيرانى فى مواجهة التصعيد الأمريكى مع خيبة أمل الإدارة الأمريكية فى تنفيذ فرض عقوبات أو غرامات مالية على التعامل التجارى مع إيران فى مجال البترول والذى رفضته دول المجموعة الأوروبية واليابان، حيث رأت فيه هذه الدول انتهاكا لحرية التجارة الدولية كذلك نلاحظ أن نجاح التحالف بين حركة أمل وحزب الله فى لبنان فى الانتخابات البرلمانية الأخيرة والذى جاء كمحصلة للجهود السورية من أجل تعزيز موقفها التفاوضى مع إسرائيل وإفشال مخطط الأخيرة فى إنجاز سلام منفرد مع لبنان بمعزل عن سوريا، هذا النجاح كان تعبيرا عن انتصار السياسة الخارجية الإيرانية، ولعل مثل هذه النجاحات قد فتحت شهية السياسة الإيرانية لتحقيق النصر الكامل الذى لاشك أن وجودها فى السودان يمثل إحدى ركائزه الأساسية ومن الناحية الأخرى فربما تكون الحكومة السودانية قد استهدفت من وراء توثيق علاقاتها بإيران الخروج من العزلة الإقليمية والدولية، وخلق توازن جديد فى المنطقة بعد تدهور علاقاتها مع المملكة العربية السعودية ومصر، وهو ما فهمه المراقبون على أنه رسالة واضحة من جانب الخرطوم تدل على عزمها على مواصلة سياساتها، تلك السياسات التى يبدو أن الخرطوم قد انتهجتها فى ظل مناخ إقليمى ودولى لم يكن مناسبا بحال من الأحوال وربما كان من أهدافها أيضا تعزيز موقفها فى الحرب الدائرة فى الجنوب من خلال الحصول على الأسلحة من إيران بعد أن توقفت المساعدات العراقية، وفتح مجالات للتعاون الاقتصادى مع إيران بما يخفف من حدة الأزمة الاقتصادية فى الداخل ويساعد على تنفيذ سياسة السودان تجاه الدول الأفريقية المحيطة بها والرامية إلى خلق حزام متعاون مع الاتجاهات الإسلامية فى السودان، أو على الأقل غير مناوئ لها وقد كان من الطبيعى أن تثير هذه العلاقات السودانية ـ الإيرانية قلق العديد من دول المنطقة، إذ أن تواجد قوة إقليمية مثل إيران فى منطقة القرن الأفريقى وعلى شواطئ البحر الأحمر وفى المدخل الشمالى لأفريقيا وعلى التخوم الجنوبية لمصر ودول شمال أفريقيا قد يفتح الباب أمام تداعيات سياسية وأمنية فى المنطقة العربية والقارة الأفريقية، ويزداد هذا القلق بالنظر إلى النوايا الإيرانية فى إقامة نظم موالية لها فى المنطقة عن طريق مساندة الحركات الأصولية الإسلامية وكانت مصر أكثر حساسية بالنسبة لهذا الوضع حيث رأت فى المساعى الإيرانية تهديدا لثوابت علاقاتها مع السودان وتهديدا استراتيجيا للأمن القومى المصرى ومحاولة لتعطيل الدور المصرى فى المنطقة وترك الساحة خالية لإيران بعد أن تخلصت من القوة الإقليمية المناوئة لها فى الخليج، خصوصا وأن إيران لم تقبل أبدا بدور مصرى فى منطقة الخليج لقد جاءت العلاقات السودانية ـ الإيرانية بصفة عامة فى منظومة إقليمية قوامها التناقض:ـ التناقض العربى ـ الإيرانى والذى انعكس فى حالة من الصراع بين الجانبين وغياب أدنى حد من التنسيق، والذى ترجم أيضا فى تصادم المصالح بين الطرفين على مختلف العصور صحيح أن هناك بعض المواقف التى شذت عن هذه القاعدة، لكنها لم تكن سوى استثناء ولم تكن كافية لبعث الاطمئنان بين طرفى العلاقة ثم التناقض فى رؤى مصادر التهديد وما ينطوى عليه ذلك من احتمالات سوء فهم نوايا الآخرين ومقاصدهم ثم التناقض بين النخب الحاكمة من حيث فلسفاتها وتوجهاتها، هذا التناقض الذى يعتبر مفتاح السياسات الخارجية لعديد من دول المنطقة، لاسيما إذا كانت التوجهات الأصولية الإسلامية طرفا فى محور التناقض ثم أخيرا التناقض بين السياق السياسى العام للمنطقة والذى تمثله أغلب الدول وتؤيده القوى الكبرى، وبين التوجهات المعادية لها فإذا لاحظنا أن هذه العلاقات تقع دائما على أحد أطراف كل محور من محاور التناقض لاتضح مدى ما يمكن أن تثيره من حساسيات لدى الآخرين من ناحية، ومدى محوريتها أو أهميتها لطرفيها فى نفس الوقت لكن رغم أهمية هذه العلاقات للطرفين السودانى والإيرانى، فإن ثمة تحفظات بشأنها، من أهم هذه التحفظات أن الجانب الإيرانى قد انتهج فى الآونة الأخيرة أسلوبا براجماتيا، وقد عنت هذه السياسة البراجماتية أمرين:ـ أولهما تبنى منهج التكيف مع المتغيرات وقد نجد ترجمة ذلك فى تنشيط قنواتها الدبلوماسية مع كثير من الدول، وذلك فى معنى عدم الاعتماد على ركيزة واحدة أو طرف واحد من ناحية، وأنها لم تعد تعطى أهمية محورية لعلاقاتها بطرف ما من ناحية أخرى وثانيهما التخلى عن التشدد، وهنا نلاحظ أن سياستها قد اتسمت بقدر كبير من التريث تحسبا لأى تفسير خاطئ لحركتها أو انتظارا لما ستؤول إليه الأوضاع أيضا يأتى ضمن هذه التحفظات أن العلاقات بين إيران والسودان لم تصل إلى حد التعاون الاستراتيجى، وأن إيران تنحو دائما إلى تغليب الحذر فى علاقاتها مع السودان، كما أن هناك قيودا كثيرة ترد على هذه العلاقات منها التباين المذهبى كالثورة الإيرانية شيعية المذهب بينما الجبهة القومية الإسلامية سنية الانتماء ومنها أيضا عدم وثوق إيران فى الجبهة الإسلامية فى السودان كحليف رئيسى فى المنطقة نظرا لبراجماتية الجبهة أو انتهازيتها فيما يتعلق بسلوكها السياسى، بالإضافة إلى علاقاتها مع العراق ومن جانب السودان فإن تكن قد استهدفت من هذه العلاقات فك العزلة، فقد حدث أن زادت من عزلتها من ناحية أخرى خصوصا فى مجالها الإقليمى، فضلا عن أن أوضاعها الداخلية لم تشهد تحسنا ويمكن القول أن العكس هو الذى حدث سواء على الصعيد السياسى أو الاقتصادى ثانيا:ـ النظام السودانى فى الداخل من منظور علاقاته مع إيران:ـ يرى بعض المراقبين أن الحكم العسكرى فى السودان بقيادة الجبهة القومية الإسلامية قد اضطلع بمهمة تغيير المجتمع عن طريق إقامة دولة أيديولوجية بوليسية على شاكلة النموذج الإيرانى ولعل فى هذه المقولة ما يشير إلى أهمية العلاقات السودانية ـ الإيرانية من حيث انعكاساتها على طبيعة النظام السياسى السودانى صحيح أنه لا يجب أن تؤخذ هذه المقولة على عواهنها، لكن وبنفس المنطق لا يمكن تجاهل مغزاها، ومن ثم فالمطلوب أن توضع فى حجمها الصحيح دون تهويل أو تهوين وإن تكن الفكرة الجوهرية فى هذه المقولة هى أن المكون الدينى هو المدخل الأساسى لتصور إمكانية تأثير إيران على النظام السودانى، فالحقيقة أن المكون الدينى فى النظام السودانى أسبق من هذه العلاقات بعبارة أخرى يمكن القول أن التوجه الإسلامى سواء تمثل فى مشروعات للأسلمة أو فى الأصولية الإسلامية له جذوره فى النظام السودانى ومن ثم فقد نشأ مستقلا عن العلاقات مع إيران وسابقا عليها، فقد طبق نظام الفريق إبراهيم عبود 58 ـ 1964 نظام أسلمه بالوسائل الإدارية وأمر بطرد كل القساوسة الأجانب من الجنوب، وذلك فى أوائل عام 1964، كذلك أعلن نظام جعفر نميرى 69 ـ 1985 ما أسماه ـ الثورة التشريعية ـ وأصدر قوانين سبتمبر فى 1983 تطبيقا للشريعة الإسلامية، كذلك لم تخل العهود الديمقراطية من مشروعات الأسلمة، حدث ذلك فى غضون مرحلة الديمقراطية الثانية 64 ـ 1969 فى النص فى مشروع دستور البلاد الدائم على أن تكون الشريعة الإسلامية هى مصدر التشريع الرئيسى، ثم تجسد ذلك بصورة أوضح أثناء الديمقراطية الثالثة 85 ـ 1989 فى إجازة عدد من القوانين الإسلامية وفى مشروعات القوانين التى قدمت للجمعية التأسيسية ولعل المغزى هنا واضح، وهو أن الأزمات الحالية التى يشهدها النظام السودانى والتى تتمثل فى:ـ أزمة الجنوب، وأزمة الديمقراطية ـ(وما ترتب عليهما من أزمات اقتصادية وإنسانية)ـ والتى تنسب إلى الجبهة القومية الإسلامية، هى بمثابة امتداد لاتجاهات سبق أن تحددت ولم يكن للعلاقات مع إيران دور فى صنعها فمن الواضح أن الانقلابات العسكرية الثلاثة التى شهدها السودان منذ استقلاله ـ(انقلاب إبراهيم عبود 1958، وانقلاب جعفر نميرى 1969، وانقلاب عمر البشير 1989)ـ قد ارتبطت بتفعيل التوجهات الإسلامية، وارتبط ذلك فى نفس الوقت بتعقيد مشكلة الجنوب من ناحية ونسف الديمقراطية من ناحية أخرى ويذكر فى هذا الصدد أن حدة تناول النظم العسكرية التى تمخضت عن هذه الانقلابات لمشروعات الأسلمة هى التى أشعلت أو جددت أو عمقت لجوء المقاومة الجنوبية للسلاح وذلك فى الأعوام 1963 و1975 و1983 و1991، ويضاف أنها عصفت بالعهود الديمقراطية وما صاحب هذه العهود من حوارات واتفاقات بشأن الجنوب وخصوصية أوضاعه، وأنه حتى لو أن العهود الديمقراطية قد انطوت على برامج للأسلمة فقد كانت حذرة ومتدرجة، والأهم من ذلك أنها كانت أكثر مراعاة للحوار مع الأطراف السياسية الجنوبية اعترافا بخصوصية وضع الجنوب فى السودان لقد جرى هذا الحوار فى غضون الديمقراطية الثانية ـ(64 ـ 1969)ـ عبر مؤتمر المائدة المستديرة ـ(1965)ـ ولجنة الإثنى عشر ـ(1966)ـ ومؤتمر الأحزاب السودانية ـ(1968)ـ وأفضى هذا الحوار إلى مشروع اتفاق على قيام حكم ذاتى إقليمى فى الجنوب كذلك جرى حوار فى مرحلة الديمقراطية الثالثة ـ(85 ـ 1989)ـ عبر مؤتمر توجادام ـ(1986)ـ والمبادرة السودانية ـ(1988)ـ والبرنامج الانتقالى ـ(1989)ـ وأفضى الحوار إلى تجميد القوانين المختلف عليها وتم الاتفاق على عقد المؤتمر الدستورى لإنهاء الحرب وعقد اتفاقية سلام فى المرة الأولى عصف انقلاب 1969 بنتائج الحوار، ولم تكن صدفة أن يعصف انقلاب يونيو 1989 والذى أعلن برنامج الجبهة القومية الإسلامية بنتائج الحوار فى المرة الثانية خصوصا وأنه وقع قبل يوم أو يومين من انعقاد المؤتمر الذى كان مزمعا بين حكومة الصادق المهدى وقيادات الحركة المتمردة فى الجنوب والذى يبدو أنه كان سيحل المشكلة نهائيا، فمن المعروف أن جنوب السودان يختلف عرقيا ودينيا وثقافيا ـ(وربما لغويا)ـ عن شماله، وأن أى حل وسط بين الشمال والجنوب لابد أن يعترف للجنوب بكيانه الثقافى المستقل وقد توقع المراقبون أن الاعتراف بكيان ثقافى للجنوب مستقل عن شماله كان ضمن الخطوط العريضة المتفق عليها فى الحوار الذى سبق المؤتمر، ومن ثم فقد كان تحرك الضباط المنتمين إلى تنظيمات إسلامية للاستيلاء على الحكم فى يونيو 1989 دليلا ـ من وجهة نظر المراقبين ـ على أن التنظيمات الإسلامية لا تقبل الاعتراف بكيان ثقافى فى الجنوب وعلى العموم فإن هذه الخبرة تؤكد أن هذه التنظيمات لم تكن أبدا تقبل بالتعددية ولم تكن أبدا قادرة على الأخذ بالحلول الوسطى عندما يتعلق الأمر بأقلية دينية، وبالتالى فهى لم تقر فى يوم من الأيام بوجود كيان ثقافى خاص فى الجنوب، وأن هذا التوجه كان بمثابة مكون أصيل فى توجهاتها وليس لإيران أو العلاقات معها دخل فيه يضاف إلى ذلك أن هذا الانقلاب قد قطع الطريق أيضا على عقد اجتماع استثنائى لمجلس الوزراء برئاسة الصادق المهدى لتجميد جملة القوانين ـ سيئة السمعة ـ التى صدرت فى عهد الرئيس جعفر نميرى عام 1983، فضلا عن قطه الطريق على المؤتمر الدستورى الذى كان من المقرر له أن يحسم مصير السلطة والثروة فى السودان، أى أنه كان إجهاضا للتجربة الديمقراطية وعموما فإن نسف الديمقراطية الذى اضطلعت به الجبهة القومية الإسلامية والذى تمثل فى حل الأحزاب وإلغاء مؤسسات المجتمع المدنى وتعطيل الحريات كان سابقا على إقامة العلاقات السودانية ـ الإيرانية أيضا كان للتنظيمات الإسلامية سوابق فى ضرب الديمقراطية، فقد كانت المصالحة الوطنية بين جعفر نميرى والإخوان المسلمين بزعامة الترابى فى 1977 وراء عدد من التشريعات التى اعتبرت مجافية لسماحة الإسلام، وبفضل هذه المصالحة وضع الترابى صيغة مبايعة الرئيس نميرى أميرا للمؤمنين ودعا أهل السودان إلى طاعته وتفويضه المطلق فى تصريف شئون البلاد ويذكر أن الترابى فى هذه الفترة قد انتهز فرصة حل الأحزاب للانفراد بالساحة السياسية وراح ينكل بالمناوئين لتوجهاته إلى حد اتهام المفكر الإسلامى محمود طه بالردة والإلحاد والحكم عليه بالإعدام، وأنه قد ذهب آمادا أبعد من ذلك فى تصفية وزارة الخارجية من الدبلوماسيين ذوى النزعة القومية، ونشط فى تجنيد الطلاب وبعض عناصر القوات المسلحة فى خلايا سرية، وأسس للإخوان قوة اقتصادية هائلة تمثلت فى شركات زراعية وتجارية ومالية بدعم من المصارف الإسلامية ولعل رفض الديمقراطية يرجع إلى أيديولوجية الجبهة القومية الإسلامية بزعامة الترابى والتى يطلق عليها ـ إسلام الضرورة ـ أو ـ فقه التقية ـ بدعوى أن الضرورات تبيح المحظوران، والتى تقر مشروعية الوصول إلى الأهداف ـ(السامية)ـ بالوسائل والأساليب التى يأباها الإسلام حتى لو اقتضى الأمر استخدام القوة لقد كان بوسع الإخوان المسلمين ـ(والتى أصبحت الجبهة القومية الإسلامية بعد ذلك)ـ الوصول إلى السلطة من خلال الانتخابات، فقد أحرزوا ثلاثة مقاعد فى بلرمان التجربة الديمقراطية الأولى، وأقل من عشرة مقاعد فى التجربة الثانية، وخمسين مقعدا فى التجربة الثالثة ـ(أى فى إطار صيغة الجبهة الإسلامية)ـ لكن الترابى رجح الوصول إلى السلطة من خلال الانقلاب العسكرى بقيادة البشير ومن ثم فقد يرى البعض أن هذه الأيديولوجية قد تشكلت من روافد ثلاثة هى:ـ أفكار وكتابات سيد قطب فى وقت محنته، دعاوى أبو الأعلى المودودى، ثم ممارسات الخومينية فى إيران والحقيقة أنه يصعب أن نلمس قدرا من التشابه بين أيديولوجية الترابى والثورة الإيرانية، اللهم إلا فى بعض الانتهازية التى وصمت سلوك الجبهة القومية الإسلامية فى السودان والتى قد تجد صداها ـ نسبيا ـ لدى بعض الممارسات الإيرانية غير أنه يمكن القول أن مثل هذه الانتهازية لا تضمن بالضرورة أن تكون سياسات الجبهة عرضة للتأثر أو التوجيه من جانب إيران، بل العكس هو الصحيح، فقد نلاحظ أن الحكومة السودانية تحتفظ دائما بقدر من المناورة فى سياساتها، وأنها بحكم هذه الانتهازية قد تتصرف بشكل مخالف لمبادئها:ـ مبادئ الجبهة الإسلامية، فعلى سبيل المثال اتخذت الحكومة إجراءات إصلاحية فى المجال الاقتصادى محاباة لتوصيات صندوق النقد الدولى فرفعت الدعم على كثير من السلع حتى الخبز وتبنت برنامجا طموحا للإصلاح كان من شأنه إفقار شرائح واسعة من الشعب السودانى، وحتى لو قيل أن مؤيدى الجبهة قد استفادوا من هذه الإصلاحات، فإن ذلك دليل على الانتهازية فلم تكن تلك الإصلاحات بدافع إسلامى، ومعنى ذلك أنه من الصعب القول بوجود أثر للعلاقات مع إيران على سياسات النظام السودانى فى الداخل ربما يكون للعلاقات الإيرانية ـ السودانية أثرها على النظام السودانى فى بعض المناحى التى يمكن تحديدها على النحو التالى:

1 ـ التأييد العسكرى الإيرانى للنظام السودانى والذى جعل إمكانية حل مشكلة الجنوب بعيدة المنال، فقد رفع النظام شعار ـ الجهاد ـ ضد التمرد فى الجنوب، واعتبر الصدام الجارى حربا دينية ـ وسواء كان ذلك وسيلة للحصول على الدعم العسكرى الإيرانى أو كان نتيجة لهذا الدعم، إن ذلك لا ينفى الدور الإيرانى فى هذا الشأن.
2 ـ مساهمة إيران فى بناء جهاز أمنى فى السودان، الجهاز الذى تشكل من قوات الدفاع الشعبى، وشرطة الأمن، والجناح العسكرى ـ(السرى ـ( للجبهة القومية الإسلامية، والذى إليه تعزى أغلب حالات القمع وممارسات العنف وانتهاكات حقوق الإنسان، فقد مكنت المساعدات الفنية والتدريبية والأسلحة التى قدمتها إيران، مكنت الحكومة من قمع العديد من الانتفاضات، والتى يذكر منها على سبيل المثال ما حدث فى الشمال بسبب ارتفاع معدلات التضخم ـ(120%)ـ وما حدث فى مقاطعة دار فور، ثم فى جبال النوبة.
3 ـ المساعدات المالية ـ(قدرها البعض بنحو 86 مليون دولار)ـ والتى أدت إلى تعظيم الأصولية الإسلامية فى السودان، ولاشك فى أن هذه المساعدات قد ارتبطت ببعض الشروط حول كيفية استخدامها، وهى مسألة لم يكشف عنها النقاب ثالثا :ـ السلوك الخارجى للنظام السودانى من منظور علاقاته مع إيران:ـ يتضح مما سبق أن العلاقات السودانية ـ الإيرانية تقوم على البراجماتية أكثر منها على التماثل الأيديولوجى، فقد نظرت الأصولية الإسلامية فى السودان إلى إيران كمصلحة قبل كل شىء، فاعتبرتها دعما عسكريا وتجاريا وماليا كبديل لانقطاع المساعدات المالية التى كانت تأتى من بعض دول الخليج العربى، وفى ظل رفض صندوق النقد الدولى المتكرر تقديم قروض جديدة للسودان هذا بينما رأت إيران فى السودان قاعدة لدعم وتشجيع الحركات الأصولية فى شمال أفريقيا والشرق الأوسط ودول القرن الأفريقى، ونقطة ارتكاز تستطيع منها تعقب طموحاتها الإقليمية خصوصا فى مواجهة أعدائها الإقليميين التقليديين:ـ مصر والسعودية على وجه التحديد ومن هنا كان تأثير العلاقات السودانية ـ الإيرانية على السلوك الخارجى للنظام السودانى أكثر وضوحا، ذلك فى أكثر من منحى:
1 ـ تبنى قيام المؤتمر الشعبى العربى الإسلامى بزعامة الدكتور حسن الترابى ـ(زعيم الجبهة القومية الإسلامية)ـ كأداة لتحقيق ما أسمى ـ أجنده الأممية ـ وهو ما يعتبره النظام السودانى رسالته فى العالم الإسلامى وقد مثل هذا المؤتمر المظلة التى تنضوى تحتها العديد من الحركات الأصولية الإسلامية ويزعم الترابى أن هدف المؤتمر هو مجرد توصيل الرسالة أو الفكرة الإسلامية، لكن المعتقد أن أغلب المساعدات المالية التى تأتى من إيران ومن الجهات الأخرى المؤيدة للأصولية الإسلامية تذهب إلى الحركات الأصولية فى مصر وفى دول شمال أفريقيا.
2 ـ دعم النظام السودانى للحركات المسلحة المناوئة لحكوماتها فى الدول المجاورة، أى فى دول القرن الأفريقى وبعض الدول العربية ورغم أن علاقة النظام السودانى بهذه الحركات الأصولية التى تمارس العنف فى بلدانها كانت مجرد اتهامات ارتبطت بحقيقة أنها تعبير عن سياسة الجبهة القومية الإسلامية واتجاهاتها، إلا أنها تحولت إلى حقائق مع توافر كثير من الأدلة التى تؤكد أن الحكومة السودانية تقدم فى كثير من الأحيان المأوى للعديد من أعضاء الحركات الأصولية الإسلامية وقياداتها المطلوبة فى بلدانها الأصلية، وأنها منحتهم بعض التسهيلات التى تساعدهم على التنقل والإقامة أو الهروب وممارسة أنشطتهم، وأنها تقوم أيضا بتدريب بعض هذه العناصر على أعمال العنف والتخريب، فضلا عن تقديمها الدعم المادى لكثير من هذه الحركات طالما كانت مناوئة لحكوماتها حتى لو لم تكن ضمن الأصولية الإسلامية ومن أهم الأسئلة على ذلك وجود عدة معسكرات فى أنحاء مختلفة من السودان يتم فيها تدريب العديد من الأصوليين من مصر وبلدان أخرى تمهيدا للدفع بها لزعزعة الاستقرار ـ(تدريب عناصر مصرية فى معسكر مزرعة عبد الباسط فى 1991)ـ، كما أكدت المصادر المصرية أن العديدين من أعضاء الحركات الإسلامية المصرية المتواجدين بالخارج يتسللون إلى مصر عبر الحدود السودانية، كذلك يفر بعض المطلوب القبض عليهم لمحاكمتهم فى حوادث إرهابية عبر هذه الحدود، وأن هناك أسلحة يتم إرسالها من هذا الطريق كذلك اضطلع النظام السودانى باستقبال العديد من العناصر الإرهابية أو التى تدعم الإرهاب وتسهيل إقامتها أو تنقلها ومن أبرز هذه الحالات:ـ الإرهابى الدولى كارلوس الذى أقام فترة فى السودان وسلمته إلى فرنسا، عمر عبد الرحمن الأب الروحى لتنظيمات الجهاد فى مصر والذى أقام لفترة فى السودان قبل سفره إلى الولايات المتحدة الأمريكية، أسامة بن لادن وهو رجل أعمال سعودى يدعم الإرهاب وقد استقبلته السودان، ومن المعتقد أنه مازال على اتصال بالنظام السودانى، وكذلك راشد الغنوشى زعيم الحركة الإسلامية فى تونس أيضا تبنى النظام السودانى حركات معارضة فى الدول الأفريقية المجاورة وقدم لها الدعم، مثال ذلك حركة ـ الجهاد ـ فى إريتريا، وحركة ـ أروموا ـ فى إثيوبيا، وحركة دينية مسيحية فى أوغندا هى حركة ـ جيش الرب ـ ويذكر فى هذا الصدد أن الرئيسين الإريترى والإثيوبى قد اجتمعا فى نوفمبر 1994 بالرئيس السودانى وأكدا له أن لديهما دلائل مؤكدة على دعم نظامه لحركات مسلحة فى بلديهما وطلبا منه الكف عن هذا الدعم، فرفض طلبهما بحجة أن للسودان رسالة لابد أن يؤديها ضاف إلى هذه القائمة والتى لم تكن إلا مجرد أمثلة تورط النظام السودانى فى محاولة اغتيال الرئيس حسنى مبارك فى أديس أبابا فى 1995 ولعل مثل هذا السلوك والذى من المعتقد أن إيران تدعمه، أو بالأحرى أنه يجرى فى سبيل خدمة الأهداف الإيرانية، كان عاملا هاما فى توسيع شقة الخلاف الأيديولوجى والسياسى بين السودان وجيرانه العرب والأفارقة، خصوصا وأن السودان بقيادة نظام الجبهة القومية الإسلامية يتصور أنه بإمكانه صياغة العلاقات الإقليمية وفقا لتصوراته الخاصة والتى يطلق عليها ـ رسالة ـ أو ـ مشروعا حضاريا ـ، وأن الحكومة السودانية تريد أن تضطلع بدور الشقيق الأكبر، أو بالدقة بدور الدولة الإقليمية الأكبر فى المنطقة ورغم الإقرار بأن إيران وراء هذا السلوك الخارجى للنظام السودانى إلا أن ثمة متناقضة أساسية وهى أن إجادة النظام السودانى لهذا الدور تعنى بالضرورة القطيعة مع دول المنطقة، وهو ما حدث بالفعل هذا فى حين أن إيران باتت بحاجة ماسة إلى تحسين علاقاتها بعدد من هذه الدول العربية والأفريقية، فقد كانت لها محاولات جادة ودءوبة لإعادة علاقاتها مع مصر، ولم تكن رغبتها فى تحسين العلاقات مع المملكة السعودية ـ(ودول الخليج عموما خافية)ـ، كذلك كانت حريصة على تحسين علاقاتها مع الجيران الأفارقة للسودان، ولعل الجولة الأفريقية للرئيس الإيرانى رافسنجانى فى سبتمبر 1996 توفر أو تقدم الدليل على ذلك، تلك الجولة التى شملت كينيا وأوغندا وتنزانيا وزيمبابوى والتى انتهت بالسودان من المرجح أن ثمة تغييرا قد لحق بالسياسة الخارجية الإيرانية فى أعقاب الانتخابات البرلمانية التى جرت فى العام الماضى، وأن هذا التغيير قد انعكس بدوره على ما يمكن أن يؤديه النظام السودانى لخدمة السياسة الإيرانية أو على مجمل العلاقات بينهما هذا التغيير يمكن أن يفهم فى ضوء تصعيد المواجهة بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية وتوسيع هذه المواجهة لتشمل القرن الأفريقى، خصوصا وأن الولايات المتحدة قد رجحت ـ ضمن خيارات عدة ـ خيار محاصرة السودان من خلال جيرانه، فقدمت المساعدات العسكرية والمالية لكل من أثيوبيا وإريتريا وأوغندا بهدف إسقاط نظام الجبهة الإسلامية فى السودان ـ(قدمت الولايات المتحدة فى النصف الثانى من العام الماضى إلى هذه الدول مساعدات عسكرية تقدر بحوالى 20 مليون دولار، وتشير المصادر إلى تكثيف هذه المساعدات بأشكالها المختلفة حيث بلغت حتى الآن حوالى 106 ملايين دولار لإثيوبيا وحدها)ـ ولعل إسقاط نظام الجبهة القومية الإسلامية فى السودان مسألة تعتبرها إيران هزيمة لها فى ظل هذه المواجهة، وبالتالى فربما تكون بدورها قد استجابت لنقل المواجهة إلى القرن الأفريقى، فكانت جولة رافسنجانى الأفريقية تهدف إلى إدانة الهيمنة الأمريكية والتصدى لتهديداتها بفرض الحصار على إيران، ثم الإعداد والتمهيد لزعامة طهران لما أطلقت عليه مجموعة عدم الانحياز، ورغم أن الجولة لم تحقق أهداف إيران لعدم التطابق فى الأولويات، إلا أن إيران ترى أنها نجحت فى إعادة العلاقات الدبلوماسية بين أوغندا والسودان بعد حوالى ستة عشر شهرا من المواجهات السياسية والمناوشات العسكرية على امتداد مائة كيلو متر من الحدود المشتركة بينهما، كما أنها عززت من مساعداتها للنظام السودانى، فزادت المساعدات المالية إلى 150 مليون دولار فضلا عن شحنات الأسلحة المتطورة والمساعدات الفنية لاستخراج البترول ورغم أن الصورة العامة توحى بانتعاش فى العلاقات السودانية الإيرانية، إلا أن الحقيقة هى أن هناك تغيرا نوعيا فى رؤية إيران لما يمكن أن يؤديه النظام السودانى فى خدمة أهدافها، وأن هذا التغير الكمى ـ إن صح التعبير ـ والذى تمثل فى زيادة المساعدات لم يكن إلا لحماية النظام السودانى من السقوط كجزء من المواجهة مع الولايات المتحدة الأمريكية وأن التغير النوعى المقصود يتحدد فى المساعى الإيرانية لتوسيع محاور الارتكاز فى المنطقة دون قصرها على النظام السودانى من ناحية، وتغيير المسلك الأساسى الذى يقوم على أعمال العنف والتخريب، إلى التسلل الدبلوماسى إلى بعض الدول الأفريقية من خلال فتح سفارات للسودان فى هذه الدول تضطلع بمهمة الترويج للنفوذ الإيرانى وإن يكن البعض قد رأى فى هذه السفارات قواعد للاستخبارات الإيرانية، فإن المرجح أن السياسة الإيرانية قد تركز على أساليب أخرى غير أعمال العنف والتخريب فى تحقيق أهدافها، وأن هذا من شأنه أن يغير من ملامح السلوك الخارجى للنظام السودانى فى المرحلة المقبلة إن كل ذلك فى مجمله يؤكد برجماتية العلاقات السودانية الإيرانية والتى تحكمها المصالح المتغيرة وليس التعاضد الأيديولوجى رابعا:ـ العلاقات السودانية ـ الإيرانية والأزمة الحالية:ـ ما يحدث فى السودان الآن من مواجهات عسكرية بين النظام الحاكم وتحالف قوى المعارض هو بمثابة تتويج لسلسلة من التراكمات التى لاشك أن نظام الجبهة القومية الإسلامية يعد المسئول الأول عنها، فقد فشل هذا النظام فى معالجة الأوضاع الداخلية المتردية ـ(أزمة الجنوب، أزمة الديمقراطية وما ترتب عليهما من تدهور اقتصادى وإنسانى ـ(كما أخفق فى التعامل مع المعطيات الإقليمية والاحتفاظ بعلاقات حسن الجوار مع دول المنطقة، بل أن البعض يرى أن مسئولية النظام عن هذه الأوضاع لا تقتصر على عجزه عن التعامل معها، وإنما تمتد إلى دوره فى صنع هذه الأزمات وإن يكن الأمر كذلك فإن مسئولية العلاقات السودانية ـ الإيرانية عن الأزمة إنما تتحدد بمقدار ما أسهمت به هذه العلاقات فى توجيه النظام أو التأثير عليه، أى بقدر ما تركته من بصمات على ممارسات النظام وتوجهاته وبغض النظر عن المسئولية عن نشوء الأزمة فإن الأهم هو أنها مثلت ورطة للأصولية سواء فى السودان أو فى إيران سواء على المستوى الحركى، أو الأيديولوجى، أو الواقعى:ـ ـ ـ فمن الناحية الحركية تعكس هذه الأزمة فشل توجهات نظام الجبهة القومية الإسلامية وسوء تقدير السياسات التى اتبعتها وقصر نظر واضح، فمن المؤكد أن النظام لم يكن يتوقع أن تصل الأمور إلى هذا الحد ـ ـ وعلى الصعيد الأيديولوجى تمثل الأزمة مأزقا يصعب الخروج منه، ذلك أن كل ما يطرح الآن، أو ما يمكن أن يطرح من دعاوى بقصد تعزيز موقف النظام الحاكم لا يتسق مع ما سبق أن طرحه نظام الجبهة الإسلامية من أسانيد ومبررات، ولعل ذلك لم يكن جديدا فكثيرا ما كانت الطروحات الأيديولوجية للجبهة تتسم بالتناقض، لكن الورطة هذه المرة كانت أكبر مما هو متصور ـ ـ أيضا من الناحية السياسية الواقعية ووفقا لما أسفرت عنه الأزمة من مواقف وردود أفعال يبدو أنه لم يبق هناك من يتعاطف مع النظام الحاكم سوى إيران قد تكون هناك دول أخرى توفر دعما سياسيا ـ(مثل العراق أو الصين لكن الدعم السياسى لم يعد كافيا ومن ثم سوف يقع على إيران وحدها عبء تقديم الدعم العسكرى والمادى ورغم ذلك فإن هناك من يشكك فى قدرة إيران على ذلك حتى لو توافرت لديها النوايا الحسنة، فثمة ظروف واعتبارات دولية وجغرافية وفنية تعوق إمكانية تقديم دعم يكفى لخوض مواجهة عسكرية بهذا الحجم من جانب قوات النظام الحاكم، هذا فضلا عن إيران قد ضاقت بمطالب الحكومة السودانية التى لا نهاية لها ـ هكذا يرى بعض المراقبين ـ وبدأت تشعر بأنها لا قبل لها بتلبية هذه المطالب، وأن السودان لم تعد تتصدر قائمة أولوياتها، بل ولم تكن كذلك فى يوم من الأيام، وأنها ـ أى إيران ـ لا تعطى إلا بقدر ما تأخذ وعلى العموم فإن نظام الجبهة الإسلامية فى السودان قد انكشف فى ظل الأزمة إلى أقصى حد ممكن، وأصبح يشعر بنوع من العزلة غير مسبوق، وقد تكون إيران هى صاحبة الفضل فى ذلك لأكثر من سبب:ـ أولا:ـ لم تحظ دعاوى النظام السودانى بأن هناك مخططات أثيوبية وإرترية تستهدف وحدة السودان وتهدد منابع النيل الخ لم تحظ هذه الدعاوى بأى قدر من المصداقية ويكمن تفسير ذلك فى الممارسات السابقة للنظام إزاء الدول المجاورة والتى يعتقد الكثيرون أن إيران كانت وراءها والحقيقة أن هناك من يستبعد ذلك تماما ويفهمه على أنه تشويه للحقائق وتضخيم للأحداث بغرض الحصول على المساندة والتأييد أو استجدائهما، لكن هناك أيضا من يستريب فى مواقف هذه الدول خصوصا فى ضوء مواقفهما من نظام الجبهة الإسلامية، وفى ظل الشك فى وجود علاقة بين أرتيريا وإسرائيل وبغض النظر عن صحة هذا التوجه أو ذاك فإن المحقق من الخبرة التاريخية فى صراعات المنطقة هو صعوبة، ما لم يكن استحالة، تقديم العون العسكرى من جانب هذه الدول ـ(أثيوبيا أو أرتيريا)ـ إلى قوات المعارضة ما لم تتوافر بنية أساسية أو لوجستيكية، لا يبدو أنها متوافرة الآن وثانيا :ـ فإن تصوير الحرب الدائرة على أنها حرب بين العرب والأفارقة، أو بين الإسلام والمسيحية، هذا التصوير الذى ينسب لإيران أو على الأقل هى شريك أساسى فى نسجه، ليس فى صالح السودان لأنه يعطى الحرب أبعادا أيديولوجية وينقلها إلى مناطق جديدة، ويؤلب العديد من القوى الإقليمية والدولية ضد النظام الحاكم، ويوسع من دائرة الحرب على نحو لا تستطيع معه أطرافها التحكم فى مسارها هذا وإن يكن من الصعب التكهن بما يمكن أن تسفر عنه الأحداث فإنه يمكن القول أن الأحداث وصلت إلى مرحلة لم تعد إيران فيها بمثابة الفاعل الأساسى، فقد خسرت على ما يبدو الكثير من أوراق اللعبة، وأصبح هناك من يعنيه الأمر أكثر من إيران.