Difa e Islam | الدفاع عن الإسلام | دفاع الإسلام |
تغيير اللغة:

رد شبهة قبوري بآية: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا [الكهف: 21]

رد شبهة قبوري بآية: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا [الكهف: 21]

قال الشيخ - حفظه الله -:

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

ففي محاولة الهجوم على دعوة التوحيد وتحقير الدعاة إليه وتهوين مكانتهم، وجعل قضية المساجد التي بها قبور قضية فقهية فرعية لا ترقى في أن تكون سببًا للتهوين في التفريق بين المسلمين والتنابز بالألقاب والتباعد والهجران، وفي ظل تعظيم القبور والمشاهد والأضرحة تولى من يؤيِّد تشييد المساجد عليها واعتبار أن الصلاة فيها تصل إلى درجة الاستحباب بالانتصار لهذا المعتقد بشبهة من آية من سورة الكهف في قوله تعالى:

(فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا) [الكهف: 21]، حيث قال -هداه الله-:

«ووجه الاستدلال بالآية أنَّها أشارت إلى قصَّة أصحاب الكهف، حينما عثر عليهم الناس، فقال بعضهم: نبني عليهم بُنيانًا، وقال آخرون: لنتَّخذنَّ عليهم مسجدًا.

والسياق يدلُّ على أنَّ الأَوَّل: قول المشركين، والثاني: قول الموحِّدين، والآية طرحت القولين دون استنكار، ولو كان فيهما شيء من الباطل لكان من المناسب أن تشير إليه، وتدلُّ على بطلانه بقرينة ما، وتقريرها للقولين يدلُّ على إمضاء الشريعة لهما، بل إنَّها طرحت قول الموحِّدين بسياقٍ يفيد المدح، وذلك بدليل المقابلة بينه وبين قول المشركين المحفوف بالتشكيك، بينما جاء قول الموحِّدين قاطعًا ?لَنَتَّخِذَنَّ? نابعًا من رؤية إيمانية، فليس المطلوب عندهم مجرَّد البناء، وإنَّما المطلوب هو المسجد. وهذا القول يدلُّ على أنَّ أولئك الأقوام كانوا عارفين بالله معترفين بالعبادة والصلاة.

قال الرازي في تفسير(لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا): نعبد الله فيه، ونستبقي آثارَ أصحاب الكهف بسبب ذلك المسجد (1 - «تفسير الرازي» (11/ 106).).

وقال الشوكاني: ذكر اتخاذ المسجد يُشعر بأنَّ هؤلاء الذين غلبوا على أمرهم هم المسلمون، وقيل: هم أهل السلطان والملوك من القوم المذكورين، فإنهم الذين يغلبون على أمر من عداهم، والأوَّل أولى (2 - «فتح القدير» في التفسير للشوكاني: (3/ 277).).

وقال الزجاجي: هذا يدلُّ على أنَّه لما ظهر أمرهم غلب المؤمنون بالبعث والنشور؛ لأنَّ المساجد للمؤمنين. هذا بخصوص ما ذكر في كتاب الله فيما يخصُّ مسألة بناء المسجد على القبر».

وبعد الأمانة في النقل أقول -وبالله التوفيق والسداد-:

فلا دلالة في الآية على جواز الصلاة بالمسجد الذي به ضريح أحدِ الأنبياء عليهم السلام أو الصالحين، بَلْهَ أن تصل إلى درجة الاستحباب؛ لأنَّ غاية ما يدل عليه أنَّ الذين اتخذوا مسجدًا على قبور الصالحين كانوا من النصارى الذين لعنهم النبيُّ صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم كما صرَّح به غير واحدٍ من أهل التفسير،

وقد بَيَّن النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم إنكاره هذا الصنيع المسنون لليهود والنصارىفي أربعة عشر حديثًا منها:

- حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في مرضه الذي لم يقم منه: «لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ». لَوْلاَ ذَلِكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ خُشِيَ أن يُتخذَ مَسجدًا (3 - أخرجه البخاري: كتاب الجنائز، باب ما جاء في قبر النبي وأبي بكر وعمر فأقبره: (1324)، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة: (1184)، من حديث عائشة رضي الله عنها.).

- وعن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم قَالاَ: لَمَّا نُزِلَ بِرَسُولَ اللهِ، طَفِقَ يَطْرَحُ خمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ وَهُوَ كَذلِكَ: «لَعْنَةُ اللهُ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارى. اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» يُحَذِّرُ مِثْلَ الَّذِي صَنَعُوا (4 - أخرجه البخاري: كتاب المساجد، باب الصلاة في البيعة: (425)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة: (1187)، من حديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهم.).

- وعن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أنه سَمِعَ النَّبِيَّ، قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ، وَهُوَ يَقُولُ: « ... أَلاَ وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ، أَلاَ فَلاَ تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ. إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذ?لِكَ» (5 - أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة: (1188)، من حديث جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه.).

- وعن عائشة رضي الله عنها: لَمَّا كانَ مَرَضُ رسولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَذَاكَرَ بعضُ نسائِهِ كنيسةً بأرضِ الحَبَشَةِ يقال لها مَارِيَةُ، وقد كانتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمُّ حَبِيْبَةَ رضي الله عنهما قد أَتَتَا أرضَ الحَبَشَةِ فَذَكَرْنَ من حُسْنِهَا وتصاوِيْرِهَا قالتْ: فقالَ النبيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ أُولَئِكِ إِذَا كَانَ فِيْهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا ثُمَّ صَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولِئَِكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللهِ» (6 - أخرجه البخاري: كتاب المساجد، باب الصلاة في البيعة: (424)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة: (1181)، واللفظ للبيهقي في «السنن الكبرى»: (7321)، من حديث عائشة رضي الله عنها.).

قال القرطبي -رحمه الله-: «قال علماؤنا: ففعل ذلك أوائلهم ليتأنَّسوا برؤية تلك الصُّوَر ويتذكَّروا أحوالهم الصالحة فيجتهدون كاجتهادهم ويعبدون الله عزَّ وجلَّ عند قبورهم، فمضت لهم بذلك أزمان، ثمَّ أنهم خَلَف من بعدهم خلوف جهلوا أغراضهم، ووسوس لهم الشيطان أنَّ آباءكم وأجدادكم كانوا يعبدون هذه الصورة فعبدوها؛ فحذَّر النبيُّ صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم عن مثل ذلك، وشدَّد النكير والوعيد على من فعل ذلك، وسدَّ الذرائع المؤدِّية إلى ذلك، فقال: "اشتدَّ غضب الله على قوم ?تخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد"» (7 - «تفسير القرطبي»: (2/ 85) (10/ 380).).

وقال ابن رجب -رحمه الله-:

«هذا الحديث يدلُّ على تحريم بناء المساجد على قبور الصالحين، وتصوير صورهم فيها كما يفعله النصارى، ولا ريب أنَّ كُلَّ واحدٍ منهما محرَّم على انفراد، فتصوير صور الآدميِّين محرَّم، وبناءُ القبور على المساجد بانفراده محرَّم كما دلَّت عليه النصوص أخرى يأتي ذكر بعضها ... فإن اجتمع بناء المسجد على القبور ونحوها من آثار الصالحين مع تصوير صورهم فلا شكَّ في تحريمه، سواء كانت صورًا مجسّدة كالأصنام أو على حائطٍ ونحوه، كما يفعله النصارى في كنائسهم، والتصاوير التي في الكنيسة التي ذكرتها أم حبيبة وأم سلمة أنهما رأتاها بالحبشة كانت على الحيطان ونحوها، ولم يكن لها ظل، وكانت أم سلمة وأم حبيبة قد هاجرتا إلى الحبشة.

فتصوير الصور على مثل صور الأنبياء والصالحين؛ للتبرك بها والاستشفاع بها محرم في دين الإسلام، وهو من جنس عبادة الأوثان، وهو الذي أخبر النبيُّ صَلَّى الله عليه وسلم أنَّ أهله شرار الخلق عند الله يوم القيامة.

وتصوير الصور للتآنس برؤيتها أو للتَّنَزُّه بذلك والتلهي محرَّم، وهو من الكبائر وفاعله من أشدِّ الناس عذابًا يوم القيامة، فإنه ظالم ممثل بأفعال الله التي لا يقدر على فعلها غيره، والله تعالى ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ? [الشورى: 11]، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله سبحانه وتعالى» (8 - «فتح الباري» لابن رجب: (3/ 197).).

وقال الألوسي -رحمه الله-:

«هذا، واستدلَّ بالآية على جواز البناء على قبور الصلحاء واتخاذ مسجد عليها وجواز الصلاة فيها وممَّن ذكر ذلك الشهاب الخفاجي في حواشيه على البيضاوي وهو قول باطلٌ عاطلٌ فاسدٌ كاسدٌ فقد روى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه

عن ابن عباس قال:

قال رسول الله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «لَعَنَ اللهُ تَعَالَى زَائِرَاتِ القُبُورِ وَالمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا المَسَاجِدَ وَالسُّرَجَ» (9 - أخرجه أبو داود (3236)، والترمذي (320)، والنسائي (2043)، وأحمد: (3108)، من حديث أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما، والحديث بهذا السياق ضعيف،

قال ابن رجب الحنبلي في «فتح الباري» (3/ 201):

«وقال مسلم في كتاب التفصيل: هذا الحديث ليس بثابت، وأبو صالح باذام قد اتقى الناس حديثه، ولا يثبت له سماع من ابن عباس». لكن ورد له شواهد تقويه في

«لعن زائرات القبور»، مثل الحديث الذي أخرجه الترمذي (1056) وغيره: «لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ زَوَّارَاتِ القُبُورِ»،

وأخرى في «اتخاذ المساجد على القبور» وقد تواتر ذلك عنه صلى الله عليه وآله وسلم. انظر: «الإرواء»: (3/ 212)، و «السلسلة الضعيفة»: (1/ 393) للألباني.) ... إلى غير ذلك من الأخبار الصحيحة والآثار الصريحة.

««توقيع حفيدة الحميراء»»

وذكر ابن حجر في «الزواجر» (10 - انظر: «الزواجر» للهيثمي: (194) في الكبيرة الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتسعون: اتخاذ القبور مساجد وإيقاد السرج عليها واتخاذها أوثانًا، والطواف بها واستلامها والصلاة إليها.): «أنه وقع في كلام بعض الشافعية عدّ اتخاذ القبور مساجد والصلاة إليها واستلامها والطواف بها ونحو ذلك من الكبائر» (11 - «تفسير الألوسي»: (11/ 196).).

قلت: وليس النهي منقولاً عن الشافعية فقط بل عند كافَّة المذاهب، فمن ذلك ما قاله القرطبي المالكي رحمه الله -في معرض إيراده حديث عائشة رضي الله عنها-: «قال علماؤنا: وهذا يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء مساجد» (12 - «تفسير القرطبي»: (10/ 380).).

وقال ابن قدامة الحنبلي -رحمه الله-:

«ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور لهذا الخبر، ولأنَّ النبيَّ صَلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» يحذر ما صنعوا ... ، ولأنَّ تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها، والتقرُّب إليها، وقد روينا أنَّ ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات باتخاذ صورهم ومسحها والصلاة عندها» (13 - «المغني» لابن قدامة: (1/ 360).).

وقال الزيلعي الحنفي -رحمه الله-:

«ويكره أن يبنى على القبر أو يقعد عليه أو ينام عليه أو يوطأ عليه أو يقضى عليه حاجة الإنسان ... أو يصلى إليه أو يصلى بين القبور ... ونهى عليه الصلاة والسلام عن اتخاذ القبور مساجد» (14 - «تبيين الحقائق» للزيلعي: (1/ 246).).

وهكذا صرَّح عامَّة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها مُتابعةً منهم للسُّنَّة الصحيحة الصريحة من غير اختلافٍ بين الأئمة المعروفين،

قال ابن تيمية -رحمه الله-:

«ويحرم الإسراج على القبور، واتخاذ المساجد عليها وبنيها ويتعيَّن إزالتها، ولا أعلم فيه خلافًا بين العلماء المعروفين» (15 - «اختيارات ابن تيمية» للبعلي: (81).).

هذا، وإن كان المنقول عن طائفة أهل العلم أطلقت الكراهة على بناء المساجد على القبور، فإنه ينبغي أن تحمل على الكراهة التحريمية إحسانًا للظنِّ بالعلماء لئلاَّ يُظنَّ بهم أنهم يجوزون نهيًا تواتر عن رسول الله صَلَّى الله عليه وآله وسلم أنّه لَعَن فاعله وشدَّد النكير والوعيد على فعله.

فالحاصل أنه اجتمع في اتخاذ القبور مساجد فتنتين وقع بسببها الضلال والانحراف العقدي:

الأولى: فتنة القبور، وهي أعظم الفتنتين ومبتدأها حيث عظموها تعظيمًا مبتدعًا آل بهم إلى الشرك.

الثانية: فتنة التماثيل والصور التي وضعت للتأسي والتذكار ثمَّ نسي القصد وآل بهم الأمر إلى عبادتها.

فكانالمغضوب عليهم والضالون يبنون المساجد علىقبور أنبيائهم وصالحيهم، وقدجاءت النصوص الصحيحة والصريحة متواترة عنالنبي صلى الله عليه وآله وسلمبنهي أُمَّته عن ذلك والتغليظ فيه في غيرموطن حتىفي وقت مفارقته الدنيا.

قال ابن القيم -رحمه الله-: «وبالجملةفمنله معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه، وفهم عن الرسول صلى الله عليه وآلهوسلممقاصده، جزم جزمًا لا يحتمل النقيض أنَّ هذه المبالغة منه باللعنوالنهى بصيغتيه: صيغة: «لاتفعلوا»، وصيغة: «إني أنهاكم» ليس لأجل النجاسة، بل هو لأجل نجاسة الشركاللاحقة بمن عصاه، وارتكب ما عنه نهاه، واتبع هواه، ولم يخش ربه ومولاه، وقلّ نصيبه أو عدم عن تحقيق شهادة أن لا إله إلاَّ الله. فإنَّ هذا وأمثالهمن النبيِّ صَلَّى الله عليه وآله وسلم صيانةً لحمى التوحيد أن يلحقهالشرك ويغشاه، وتجريد له وغضب لربه أن يعدل به سواه. فأبى المشركون إلامعصية لأمره، وارتكابًا لنهيه، وغرَّهم الشيطان. فقال: بل هذا تعظيم لقبورالمشايخ والصالحين. وكُلَّما كنتم أشدّ لها تعظيمًا، وأشدّ فيهم غلوًّا، كنتم بقربهم أسعد، ومن أعدائهم أبعد.

ولعمرالله، من هذا الباب بعينه دخل على عبَّاديغوث ويعوق ونسر، ومنه دخل علىعباد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة. فجمع المشركون بين الغلو فيهم، والطعن في طريقتهم وهدى الله أهل التوحيدلسلوك طريقتهم، وإنزالهم منازلهمالتي أنزلهم الله إياها: من العبودية وسلبخصائص الإلهية عنهم، وهذا غايةتعظيمهم وطاعتهم» (16 - «إغاثة اللهفان» لابن القيم: (1/ 189).).

هذا، وعلى فرض أنَّ الذين غلبوا على أمرهم -في الآية- لم يكونوا نصارى فلايتمُّ التسليم بأنهم كانوا مؤمنين، بل هم الملوك والولاة كما ذكر ذلك ابنرجب وابن كثير والآلوسي وغيرهم (17 - انظر: «روح المعاني» للآلوسي: (15/ 236). «فتح الباري» لابن رجب: (3/ 194). و «تفسير ابن كثير»: (3/ 78).)،وقد كانواأهل شرك أو فجور، حيث إن لفظة «لَنَتَخِذَنَّ» تلائم أهل القهروالغلبة منالملوك والولاة، دون «اتخذوا» بصيغة الطلب المعبر بها الطائفة الأولى؛ ذلك لأنَّ مثل هذا الفعل تنسبه الولاة إلى نفسها، وضمير «أَمْرهِمْ» هنا للموصول المراد به الولاة، ومعنى غلبتهم على أمرهم: أنهم إذا أرادواأمرًا لم يتعسَّر عليهم، ولم يحل بينه وبينهم أحد، كما قال تعالى: ?وَاللهُغَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ? [يوسف: 21].

قال ابن رجب -رحمه الله-: «فجعلاتخاذ القبور علىالمساجد من فعل أهل الغلبة على الأمور، وذلك يشعر بأنمستنده القهروالغلبة واتباع الهوى، وأنه ليس من فعل أهل العلم والفضلالمتبعين لما أنزلالله على رسله من الهدى» (18 - «فتح الباري» لابن رجب: الجزء والصفحةنفسها.).

قلت: وليسفي الآية إقرار على فعلهم، بل فيهاإنكار، لأنه يكتفى في الردِّ علىالكفار أو الفجار عزو حكاية القول إليهم، إذ المعلوم -أصوليًّا- أنَّ منشرط الإقرار أن لا يكون المسكوت عنه صادرًامن كافر أو فاجر فلا عبرة فيهلما علم بالضرورة إنكاره صَلَّى الله عليهوآله وسلم لما يفعله الكفاروالفجار، كما أنَّ من شرط الإقرار أن لا يكونالشارع قد بَيَّن حكمهبيانًا يسقط عنه وجوب الإنكار وقد لعنهم الله تعالىعلى لسان نبيِّهصَلَّى الله عليه وآله وسلم فأيُّ إنكار أوضح من هذا؟

وإذا سلَّمنا -جدلاً- أنهم كانوا مسلمين فلا يتمُّ التسليم بأنَّ فعلهم محمودٌ شرعًا ورد -على وجه الصلاح- تمسُّكًا بشريعة نبي مرسل.

قال ابن كثير -رحمه الله- بعد ما حكى عن ابن جرير القولين: «والظاهر أنالذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ، ولكن هل هم محمودون أم لا؟ فيهنظر؛ لأنَّ النبيَّ صَلَّى الله عليه وآله وسلم قال: «لَعَنَ اللهُاليَهُودَ واَلنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْوَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ» يحذر ما فعلوا، وقد روينا عن أمير المؤمنين عمربن الخطاب رضي الله عنه أنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق، أمر أنيخفى عن الناس، وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدوها عنده، فيها شيء منالملاحموغيرها» (19 - «تفسير ابن كثير»: (3/ 78).).

وعلى تقدير أنهم أهل إيمان وصلاح، ووقع صنيعهم محمودًا بالنظر لتمسكهم بشريعة نبي مرسل، فجوابه من جهتين:

الجهة الأولى: لا يلزم الأخذ بمضمون الآية الدالة على جواز بناء المسجدعلىالقبر؛ لأنَّ ما تقرر -أصوليا- «أنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا لَيْسَشَرْعٌلَنَا»، ولا يحلُّ الحكم بشريعة نبيّ مَن قبلنا لقوله تعالى: ?لِكُلٍّجَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا? [المائدة: 48]، ولقولهصَلَّىالله عليه وآله وسَلَّم: «فُضِّلْتُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ» فذكرمنها: «أَنَّ النَّبِيَّ كَانَ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ بُعِثَ إِلَى الأَحْمَرِوَالأَسْوَدِ وَالنَّاسِ كَافَّةً» (20 - أخرجه مسلم، كتاب «الصلاة»: (1167)،من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ورواية «الأحمر والأسود» أخرجها: الدارميفي «سننه»: (2375)، وأحمد (20792)،من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وأحمدكذلك: (2737)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. قال الهيثمي في «مجمعالزوائد» (8/ 261): «رجال أحمد رجال الصحيح غير يزيد بن أبي زياد وهوحسنالحديث»، وصححه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد»: (4/ 261)،والألباني في «الإرواء»: (1/ 316).)، فدلَّ ذلك على أنه لم يبعث اللهتعالى إلينا أحدًامن الأنبياء غير محمَّد صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم، وإنما كان غيرهيبعث إلى قومه فقط لا إلى غير قومه.

الجهة الثانية: وعلى تقدير أنَّ شرع من قبلنا شرع لنا فمشروط بعدم التصريحفي شرعنا ما يخالفه، ويبطله، فإن ورد في شرعنا ما ينسخه لم يكن شرعًا لنابلا خلاف، كالأصرار والأغلال التي كانت عليهم في قوله تعالى: ?وَيَضَعُعَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ? [الأعراف: 157]، وقد جاءت النصوص الحديثية متضافرةً ومتواترة تنسخ هذا الحكم وتنهىعنبناء المساجد على القبور وتغلِّظ النكير.

قال ابن تيمية -رحمه الله-: «فإنَّ الله تعالى قد أخبر عن سجود إخوة يوسفوأبويه وأخبر عن الذين غلبوا على أهل الكهف أنهم قالوا: ?لَنَتَّخِذَنَّعَلَيْهِمْ مَّسْجِدًا? ونحن قد نهينا عن بناء المساجد على القبور» (21 - «مجموع الفتاوى» لابن تيمية: (1/ 300).).

وقال ابن كثير -رحمه الله-: «وهذا كان شائعاً فيمن كان قبلنا، فأمَّا فيشرعنا فقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم أنهقال: «لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَأَنبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» يحذر ما فعلوا» (22 - «البداية والنهاية» لابنكثير: (2/ 116).).

قال الآلوسي -رحمه الله-: «مذهبنا في شرع من قبلنا وإن كان أنه يلزمنا علىأنه شريعتنا، لكن لا مُطلقًا، بل إن قصَّ اللهُ تعالى علينا بلا إنكار، وإنكارُ رسوله صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم كإنكاره عزَّ وجلَّ، وقدسمعتَ أنه عليه الصلاة والسلام لَعَنَ الذين يتخذون المساجد على القبور، على أن كون ما ذكر من شرائع من قبلنا ممنوع، وكيف يمكن أن يكون اتخاذالمساجد على القبور من الشرائع المتقدمة مع ما سمعت من لعن اليهود والنصارىحيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، والآية ليست كالآيات التي ذكرنا آنفًااحتجاج الأئمة بها، وليس فيها أكثر من حكاية قول طائفة من الناس وعزمهم علىفعل ذلك، وليست خارجة مخرج المدح لهم والحض على التأسِّي بهم، فمتى لميثبت أنَّ فيهم معصومًا لا يدل على فعلهم -فضلاً عن عزمهم- على مشروعية ماكانوا بصدده. وممَّا يقوِّي قِلة الوثوق بفعلهم القول بأنَّ المراد بهمالأمراء والسلاطين كما روي عن قتادة» (23 - «روح المعاني» للآلوسي: (5/ 31).).

فالحاصل: إن كان بناء المساجد على القبور سُنَّةالنصارى، فإن كان شرعًا لهم فقدنسخه الإسلام بما نطقت الأخبار الصحيحةوالآثار الصريحة، وإن كان بدعةًمنهم فأجدر بتركها والتخلي عنها إذ «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ، وَكُلُّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ» (24 - أخرجه النسائيكتاب «صلاة العيدين»،باب كيف الخطبة: (1578)،

من حديث جابر رضي الله عنه، والحديث صححه الألباني في «الإرواء»: (3/ 73).)،ولا يستدلُّ بالآية بمعزل عمَّا تقتضيه الأحاديث الثابتةاكتفاءً بالقرآنالكريم واستغناءً عن السُّنَّة المُطهَّرة فإنَّ هذا منصنيع أهل الأهواءوالبدع، وأهلُ الحقِّ يؤمنون بالوحيين، ويعلمون أنَّطاعة الرسول من طاعةالله تعالى، ويعملون بمقتضاهما، قال تعالى: ?مَنْيُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ? [النساء: 80]، وقال صَلَّى الله عليه وآله وسلم: «أَلاَإِنِّي أُوتِيتُ القُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ» (25 - أخرجه أحمد: (16722)، من حديث المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه. وأخرجه أبو داود كتاب السنة، باب في لزوم السنة (4604) بلفظ: «أَلاَ إِني أُوتِيتُ الكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ»،والحديث صححه الألباني في «المشكاة»: (1/ 57).)، وفي روايةٍ: «أَلاَوَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ مِثْل مَا حَرَّمَ اللهُ» (26 - أخرجهأحمد: (16743)، والدارمي: (592)، من حديث المقدام بن معدي كرب رضي اللهعنه. والحديث صححه الألباني في «صحيح الجامع»: (8186).)

، وفي سياق تمثيل من يكتفي بالقرآن ويستغني عن السُّنَّة، يقول الألباني -رحمه الله-: «ومامثل من يستدلُّ بهذه الآية على خلاف الأحاديث المتقدِّمة إلاَّ كمثل منيستدلُّ على جواز صنع التماثيل والأصنام بقوله تعالى في الجِنِّ الذينكانوا مُذَلَّلِين لسليمان عليه السلام: ?يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنمَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ? [سبأ: 13]، يستدل بها على خلاف الأحاديث الصحيحة التي تحرم التماثيلوالتصاوير، وما يفعل ذلك مسلمٌ يؤمن بحديثه صَلَّى الله عليه وآلهوسلم» (27 - «تحذير الساجد» للألباني: (83).).

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلّم تسليمًا.

-------------------------------------

1 - «تفسير الرازي» (11/ 106).

2 - «فتح القدير» في التفسير للشوكاني: (3/ 277).

3 - أخرجه البخاري: كتاب الجنائز، باب ما جاء في قبر النبي وأبي بكر وعمرفأقبره: (1324)، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة: (1184)، من حديث عائشةرضي الله عنها.

4 - أخرجه البخاري: كتاب المساجد، باب الصلاة في البيعة: (425)، ومسلم، كتابالمساجد ومواضع الصلاة: (1187)، من حديث عائشة وابن عباس رضي اللهعنهم.

5 - أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة: (1188)، من حديث جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه.

6 - أخرجه البخاري: كتاب المساجد، باب الصلاة في البيعة: (424)، ومسلم، كتابالمساجد ومواضع الصلاة: (1181)، واللفظ للبيهقي في «السنن الكبرى»: (7321)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

7 - «تفسير القرطبي»: (2/ 85) (10/ 380).

8 - «فتح الباري» لابن رجب: (3/ 197).

9 - أخرجهأبو داود (3236)، والترمذي (320)، والنسائي (2043)، وأحمد: (3108)، منحديث أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما، والحديث بهذا السياق ضعيف، قالابن رجب الحنبلي في «فتح الباري» (3/ 201): «وقال مسلم في كتاب التفصيل: هذا الحديث ليس بثابت، وأبو صالح باذامقد اتقى الناس حديثه، ولا يثبت لهسماع من ابن عباس». لكن ورد له شواهدتقويه في «لعن زائرات القبور»، مثلالحديث الذي أخرجه الترمذي (1056) وغيره: «لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّىاللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَزَوَّارَاتِ القُبُورِ»، وأخرى في «اتخاذ المساجد على القبور» وقد تواترذلك عنه صلى الله عليه وآله وسلم. انظر: «الإرواء»: (3/ 212)، و «السلسلةالضعيفة»: (1/ 393) للألباني.

10 - انظر: «الزواجر» للهيثمي: (194) فيالكبيرةالثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتسعون: اتخاذالقبور مساجد وإيقاد السرج عليها واتخاذها أوثانًا، والطواف بهاواستلامهاوالصلاة إليها.

11 - «تفسير الألوسي»: (11/ 196).

12 - «تفسير القرطبي»: (10/ 380).

13 - «المغني» لابن قدامة: (1/ 360).

14 - «تبيين الحقائق» للزيلعي: (1/ 246).

15 - «اختيارات ابن تيمية» للبعلي: (81).

16 - «إغاثة اللهفان» لابن القيم: (1/ 189).

17 - انظر: «روح المعاني» للآلوسي: (15/ 236). «فتح الباري» لابن رجب: (3/ 194). و «تفسير ابن كثير»: (3/ 78).

18 - «فتح الباري» لابن رجب: الجزء والصفحة نفسها.

19 - «تفسير ابن كثير»: (3/ 78).

20 - أخرجه مسلم، كتاب «الصلاة»: (1167)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ورواية «الأحمر والأسود» أخرجها: الدارمي في «سننه»: (2375)، وأحمد (20792)،من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وأحمد كذلك: (2737)، من حديث ابنعباس رضي الله عنهما. قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (8/ 261): «رجال أحمدرجال الصحيح غير يزيد بن أبي زياد وهو حسن الحديث»، وصححه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد»: (4/ 261)، والألباني في «الإرواء»: (1/ 316).

21 - «مجموع الفتاوى» لابن تيمية: (1/ 300).

22 - «البداية والنهاية» لابن كثير: (2/ 116).

23 - «روح المعاني» للآلوسي: (5/ 31).

24 - أخرجه النسائي كتاب «صلاة العيدين»،باب كيف الخطبة: (1578)، من حديثجابر رضي الله عنه، والحديث صححه الألباني في «الإرواء»: (3/ 73).

25 - أخرجه أحمد: (16722)، من حديث المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه. وأخرجه أبو داود كتاب السنة، باب في لزوم السنة (4604) بلفظ: «أَلاَ إِنيأُوتِيتُ الكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ»، والحديث صححه الألباني في «المشكاة»: (1/ 57).

26 - أخرجه أحمد: (16743)، والدارمي: (592)، من حديث المقدام بن معدي كربرضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «صحيح الجامع»: (8186).

27 - «تحذير الساجد» للألباني: (83).

أبوعبد المعز محمدفركوس

مُلْتَقَى أَهْلِ الْحَدِيْثِ

افتراضي قوله تعالى "لنتخِذنَّ عليهم مسجداً" شرح الاية مع رد الشبهة

قوله تعالى "لنتخِذنَّ عليهم مسجداً" شرح الاية مع رد الشبهة

معنى الآية التي وردت في سورة الكهف، قال الله تعالى

{وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنياناً ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً}

قول الله تبارك وتعالى: {وكذلك أعثرنا عليهم}،

يعني أعثر الله تبارك وتعالى على هذه المجموعة وهم أهل الكهف، وذلك عندما خرج الذي أرسلوه لشراء الطعام ودخل القرية بعد ثلاثمائة سنة وتسع سنوات، كان قد تغير كل شيء، القرية بُنيت من جديد، وأُمة جديدة، والعملة التي يمتلكها بالطبع أصبحت قديمة غير مستعملة، فلما دخل على الناس بهذا الشكل ومعه عملة عليها صورة ملك من ثلاثمائة سنة، تذكر الناس بعد ذلك شأن هذا الغريب، فركض وركضوا خلفه حتى وصلوا إلى مكانهم، فالله يقول: {وكذلك أعثرنا عليهم}، جعلنا هؤلاء الناس يعثرون عليهم ليعلموا: {أن وعد الله حق}، أن الرب قد حفظ هذه الأجساد دون أن تبلى أو تتغير بالرغم من رقودها في الكهف أكثر من ثلاثمائة سنة، فلما رأى الناس هذه الآية علموا أن وعد الله حق، والقيامة حق.

فاحتار فيهم الناس ماذا يفعلون بهم؟ هل يعملون لهم توابيت من ذهب أو توابيت من فضة أم يضعوهم في قصر أم ماذا؟ فقال جماعة منهم: اجعلوهم في مكانهم وابنوا عليهم دار عبادة، يعني مسجداً نصلي بجانب ناس مباركين ربهم أعلم بهم، وكان هذا رأي الذين غلبوا على أمرهم من الناس.

* لكن هل مدحهم الله على أمرهم؟ لقد ذكرهم لكن لم يمدحهم: {قال الذين غلبوا على أمرهم} دون أن يمدحهم الله، {لنتخذن عليهم مسجداً} واتخاذ المساجد على الموتى مذموم في كل دين ليس في كلام النبي محمد صلى الله عليه وسلم فقط، فعيسى وموسى عليهما السلام قد ذموا هذه المساجد ولم يأمروا بها، وإنما فعلها من جهلة الأتباع، كما جاء من جهلة أمة محمد صلى الله عليه وسلم من أقام المساجد على القبور بالرغم من أن النبي نهى عن ذلك نهياً شديداً، فلما جاءته أم سلمة رضي الله تعالى عنها وكانت قد ذهبت مع زوجها إلى الحبشة، وأم حبيبة زوجة النبي كذلك كانت في الحبشة، حيث كانتا في الحبشة مع أزواجهم، ثم كان من زوج أم حبيبة أنه تنصر فتزوجها النبي بعد ذلك، وأما أم سلمة رجعت مع زوجها ثم مات أبو سلمة فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرتا للنبي، قالتا له عندما كنا في الحبشة دخلنا كنيسة من كنائسهم وفيها صور معلقة على طريقة النصارى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هؤلاء إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا عليه مسجداً وصوروا هذه الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة".

وأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها تحكي عن آخر ساعات النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحياة، تقول: كان النبي يأخذه الغم وهو ينازع سكرات الموت، وعنده علبة ماء يأخذ منها ويمسح عن وجهه صلى الله عليه وسلم، وعنده خميصة يضعها على وجهه ثم يرفعها، ويقول: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد"، تقول أم المؤمنين: "يُحَذّر ما صنعوا"،

يعني يحذرنا أن نصنع مثل صنيعهم،

فهذا كلام النبي في حياته وكلامه الأخير عند الموت.

الشرح للشيخ عبدالرحمن عبدالخالق اليوسف.