الإمامة وأثرها على السنة النبوية الشريفة - تركمان أوغلو
الإمامة وأثرها على السنة النبوية الشريفة
تركمان أوغلو
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
لم يتعرض شيء في الإسلام بمثل ما تعرض له السنة النبوية الشريفة من هجوم وتشكيك.
لقد بدأ هذا الهجوم والتشكيك منذ فجر الإسلام على أيدي الخوارج الذين كانوا أول فرقة إسلامية فارقت الأمة على أساس عقدي.
ثم تبعهم على ذلك الشيعة الذين شككوا في السنة النبوية التي رواها صحابة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم وطعنوا في عدالتهم بسبب عقيدتهم في النص على الإمامة، فكفروا جل الصحابة، وفسقوا من لم يكفروهم، ولم يروهم أهلا لرواية أي خبر، أو حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد كان من الطبيعي عندما رفض الشيعة مرويات الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تكون لهم سنة خاصة بهم، فقالوا بعصمة إثني عشر إماما من أهل البيت يكونون حفظة للشريعة، وحراسا للعقيدة، وبديلا عن السنة التي نقلها الصحابة.
ثم جاء من بعدهم المعتزلة الذي أنكروا كثيرا من السنة النبوية الشريفة، فأنكروا على سبيل المثال أحاديث الشفاعة، لأنها في نظرهم مخالفة للعقل وللقرآن الكريم، ولقوله تعالى: } وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى {[النجم/39].
ثم تطور الأمر إلى ظهور فرقة إسلامية أنكرت السنة النبوية من أساسها، ونفوا حجيتها، واكتفوا بالقرآن الكريم فقط على أساس قول الله تعالى: } وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ {[النحل/89].
ثم جاء المستشرقون وأدلوا دلوهم في هذا المجال، غايتهم إسقاط السنة النبوية الشريفة، بعد أن عجزوا عن تشكيك المسلمين بقرآنهم.
إن ما يهمنا في هذا البحث هو الرد على شبهات الشيعة ـ الذين اصطفوا إلى جانب المستشرقين من اليهود والنصارى في طعنهم في السنة النبوية الشريفة ـ لاسيما مع القول المنسوب عندهم إلى الإمام جعفر الصادق رحمه الله تعالى: ( ما خالف العامة ففيه الرشاد ). ومع أن الرواية عندهم ضعيفة فقد قالوا فيها:( في طريق هذا الخبر ضعف لكنه مشهور بين الأصحاب متفق على العمل بمضمونه بينهم ). قال المولى محمد صالح المازندراني في شرح أصول الكافي في توجيه هذه الرواية: ( لأن الموافق لهم محمول على التقية ولعدم اشتمال الكتاب على التناقض علم أن الفقيه الموافق لهم أخطأ في استنباط حكمه عن الكتاب).
إن الشيعة ـ وبحكم إعتقادها بالإمامة الإلهية، وبعصمة إثنى عشر إماما من أهل بيت النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم تعمل بجد عند كل مناسبة ـ وما أكثرها عندهم ـ على تجديد الصراع التاريخي بين الأمة، والتي لا تجني الأمة منها سوى المزيد من التناحر والتفرق. ولسان حالهم يقول: نحن أيها السنة لا نتفق معكم لا في دين ولا في دنيا([1])، فالطريق مسدود من قبلهم، والتفكير في التوفيق بين السنة والشيعة أصبح أمرا مستحيلاً، لأنهما صارا دينين مختلفين، لا يجمع بينهما غير الأسماء الخالية من محتواها.
لذا فبدلا من التفكير في الجمع بينهما صار لزاما علينا أهل السنة والجماعة أن نبين باطل القوم لتحصين أهل السنة من ضلالاتهم، لأنهم يرون الإسلام كفرا، والكفر إسلاما؛ ويقولون أن أصحاب جعفر الصادق من أمثال زرازة بن أعين، وهشام بن الحكم، وشيطان الطاق، أهدى من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار:] وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا[[النساء : 51].
أسأل الله تعالى أن يهيئ لهم مَنْ يصحح لهم عقيدتهم في أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويهديهم لما هو خير الإسلام والمسلمين، وأن يجمع شملهم مع بقية المسلمين.
وقد رأيت أن أقدم للبحث بمقدمتين أرى أنها ضرورية لتصور موقف كل إنسان تابع لغيره دون أن يعرف الدليل الذي هو الحجة والبرهان على صحة القول والمعتقد.
وجعلت البحث في ثلاثة فصول:
الفصل الأول: خصصته في السنة النبوية الشريفة وحجيتها، وتضمن مباحث ثلاثة:
المبحث الأول: السنة النبوية الشريفة المصدر الثاني في التشريع
المبحث الثاني: حجية السنة النبوية توجب حفظها
المبحث الثالث: في أسباب إختلاف تلقي السنة النبوية بين أهل السنة والشيعة. ومدلول قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما يسمونه بحديث ( الثقلين، أو العترة ) والفرق بينه وبين السنة النبوية الشريفة.
وفي الفصل الثاني: عالجت شبهات الشيعة حول السنة النبوية الشريفة في مباحث أربعة:
جعلت المبحث الأول: في شبهة المنع من تدوين الحديث النبوي، والرد عليها.
والمبحث الثاني: في شبهة وضع الحديث من قبل الصحابة، ولاسيما معاوية وبني أمية؛ والرد عليها.
والمبحث الثالث: في شبهة تأخر تدوين السنة النبوية، والرد عليها، وكيفية تدوين الشيعة للحديث النبوي الشريف.
والمبحث الرابع: في طعن الشيعة بعدالة الصحابة
وجعلت الفصل الثالث والأخير في صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي التمييز بين السابقين الأولين منهم والمنافقين. وفي معنى عدالة الصحابة، والفرق بين القول بعدالتهم والقول بعصمتهم. ثم بحثت في الحروب الداخلية التي نشبت بين المسلمين في خلافة سيدنا علي رضي الله عنه وأثرها في عدالة الصحابة الذين شاركوا فيها، وفي معنى الباغي والفاسق وروايتهم للحديث الشريف، والفرق في الرواية بين حق الله تعالى وحقوق المخلوقين.
وقد إجتهدت فيه وسعي أن لا أشوب الحق بالباطل، أو الضلالة بالهدى، وأسأل الله تعالى أن يجعل فيه منفذا للقلوب، وأن يهدي به من كان همه تبيان الحق ولزوم المحجة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المقدمات الكبرى
المقدمة الأولى
نشأة الأبناء على دين الآباء والأجداد
المقدمة الثانية
قراءة التاريخ
المقدمة الأولى
نشأة الأبناء على دين الآباء والأجداد
لم تكن المعصية التي وقع فيها آدم وزوجه حواء بعد أن حذرهما الله تعالى بنفسه من عداوة إبليس قد وقعت من دون حكمة أو عبرة، إنها رسالة لكل من سيأتي من ذرية آدم على وجهين:
الوجه الأول: إن وقوع المعصية من آدم وهو أول البشر، رسالة إلى أبنائه بحتمية وقوعهم في المعصية، وإلاّ فإن الله تعالى كان قادرا على أن لا يعرّضه إلى هذه التجربة، أو المحنة، أو أن يخلقه معصوما، بحيث لا يستطيع إبليس أن يجد له طريقا إلى إغوائه.
فآدم عليه السلام وقع في المعصية مع التحذير الرباني له بشكل مباشر، فكيف لا يقع الأبناء في المعاصي مع ما ينتابهم من الغفلة، وإغراء إبليس وجنوده لهم!
وأيضا ما كان الله تعالى ليقص علينا بعضا من المآخذ على أنبيائه الكرام في القرآن الكريم عبثا دون حكمة، كقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [التحريم: 1]. وقوله: { عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ } [التوبة: 43]. بل كل هذا ليعلم بني البشر أنه لا عصمة مطلقة في كل شيء لأحد دون الله تعالى، فإنه وحده الذي لا يضل ولا ينسى كما قال موسى عليه السلام : { عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى } [طه: 52].
الوجه الثاني: بإنتقال عداوة إبليس من آدم إلى أبنائه، وإنظار الله تعالى له، وقسمه بعزة الله([2]) أن يغويهم أجمعين إلا ما رحم ربي، فيه رسالة بأن إبليس سيغير دينهم الحق إلى دين باطل، وعندئذ فلطف الله تعالى فيهم يقتضي أن يرسل إليهم الرسل ليهديهم إلى الطريق الحق، قال تعالى مخاطبا بني آدم : ] يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [[الأعراف : 35 ، 36].
إستمرت رسل الله تترا، كلما بدلت البشرية أو أهل قرية معينة منهج رسولهم وحرفوا دينه، أرسل الله تعالى إليهم رسولا آخر، إما بشريعة جديدة، أو بإحياء شريعة النبي الذي قبله. علما أن أصول دين الأنبياء واحدة لا تتغير ولا تتبدل، وفيها قول الله تعالى : ] شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ [[الشورى : 13]، وإنما الذي يتغير بين شرائع الأنبياء، الحلال والحرام، وهذا واضح في قوله تعالى عن عيسى عليه السلام : ] وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ [[آل عمران : 50].
ربما يقال هنا: إن أول البشر كان نبيا فكان على الدين الصحيح المرضي عند الله تعالى، فكيف إنحرفت الأجيال بعده، ومن أين دخل الزيغ والإعوجاج على الأبناء حتى مالوا عن دين الآباء؟
والجواب: إن من طبيعة بني آدم أن تتجاذبه الغفلة أحيانا، والشهوة أحيانا أخرى، وفي كلا الحالتين، ولوجود العدو الدائم المتمثل في إبليس وجنوده الذين يزينون لبني آدم عمله فيراه حسنا بعقله ومعقوله، يخرج من الدين الذي هو عليه، ولأن الإنسان ميّال إلى التحلل من القيود والأوامر المفروضة عليه من الخارج. وبما أن الدين الحق يفرض على صاحبه قيودا تجاه ربه، وتجاه نفسه، وتجاه الآخرين، فتراه يميل إلى الدين الذي يتماشى مع هوى نفسه ورغباتها، وبتزيين الشيطان له؛ يرى أنه على الدين الصحيح، قال الله تعالى: ] قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [[الكهف : 103 ، 104]
حان في علم الله تعالى ختم الأنبياء والرسل بنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه علم أن البشرية قد بلغت من الرشد والوعي، أصبحت معها قادرة على حفظ شريعة النبي الخاتم وعلى تحمل أعباء نقلها إلى من يليهم. وإلاّ فإن الله تعالى لطيف بعباده، رحيم بهم، بل أرحم بهم من أنفسهم، ما كان يتركهم من غير لطف، ولمد في عمر رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما مد في عمر نوح، حتى يتم حجة الله علينا وعلى الناس جميعا.
لم يخرج نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الدنيا إلاّ بعد أن أكمل الله تعالى له الدين، وأتم الحجة على الناس، قال تعالى: ٍ} الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا { [المائدة/3]. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك)([3]).
فلطف الله فينا اليوم يتمثل في كتاب الله تعالى وسنة رسوله، فمادامت الأمة قد حفظت هذه الشريعة فإن اللطف فينا موجود، ولسنا بحاجة إلى أكثر من هذا.
يقول سيدنا علي في رسالة له إلى الأشتر حينما ولاه على مصر: [ واردد إلى اللّه ورسوله ما يضلعك من الخطوب ويشتبه عليك من الأمور فقد قال اللّه تعالى لقوم أحبّ إرشادهم ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ {[النساء/59]، فالرّدّ إلى اللّه الأخذ بمحكم كتابه، والرّدّ إلى الرّسول الأخذ بسنّته الجامعة غير المفرّقة]([4]).
وكون الأمة قد وصلت إلى درجة النضج والوعي التي أهلتها بأن تقوم بحفظ هذا الدين وتبليغه أمر متفق عليه بين المسلمين. يقول علامة الشيعة إبراهيم الأميني في كتابه ( النبوة والنبي ):
( إن المجتمع البشري في عصر البعثة المحمدية كان قد بلغ في التكامل الفكري والرشد العقلي حداً أصبح معه صالحاً لأن يحافظ على مواريث الأنبياء العلمية والدينية ويصونها من خطر الحوادث، وأن يكون نفسه مبلِّغاً لتلك القيم والمفاهيم المقدسة، وقد وصل في هذا المجال إلى درجة الاكتفاء الذاتي، ولهذا لم تبقَ حاجة بعد هذا إلى إرسال الرسل).
ومن الطبيعي أن الإنسان وبحكم العقل المركوز فيه لا يسعى وراء ما يعلم أنه كفر أو وراء ما يعقب عليه الأهوال والمصائب إلاّ بنوع من الغفلة، أو بنوع من التأويل الذي يحرِّف المعقول إلى معقول آخر يظنه معقولا، وقد لا يكون كذلك.
هذا الذي جرى على بني آدم من إبليس وأتباعه إلى يومنا هذا، فهو إما يأتي عن طريق الغفلة، أو عن طريق إتّباع الهوى، أو عن طريق تزيين الباطل بالعقل على أنه حق، كما أوحى إلى أوليائه في قضية تحريم الميتة، فقال لهم: أتأكلون ما قتلتم بأيديكم، ولا تأكلون ما قتله الله؟! فجاءهم من حيث يظنونه صحيحا بعقولهم، كما قال تعالى: { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } [الأنعام: 121] ولقد حذر الله تعالى بني آدم بعد خطيئة آدم عليه السلام قائلا: ] يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ [[الأعراف : 27].
ولو أجرينا إحصائية بنسبة الذين يخالفون دين الآباء والأجداد، لرأينا أن نسبتهم ضئيلة جدا، وهم الذين يغيّرون عقيدتهم حقا كان أم باطلا عن قناعة ويقين. أما أكثرية من في الأرض فهم ينشأون على ما وجدوا عليه آباءهم.
وعلى أساس هذه الحقيقة تتجلى فضل صحابة رسول الله من السابقين الأولين علينا وعلى الأمة إلى يوم الدين، لأنهم ما تركوا دين الآباء والأجداد الذي ألفوه ردحاً من الزمن إلاّ عن قناعة ويقين بدين الإسلام الذي أتى به محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، مع ما كان يصاحب هذا التحول من الظلم والإضطهاد لهم من قبل آبائهم وأقربائهم من المشركين.
من يعرف هذه الحقيقة يعلم مدى صحة وعمق القول الذي قاله عمر بن الخطاب: ( إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية).
هذا القول يتجلى فيه معنيان:
المعنى الأول: ليس كل من يولد على الإسلام هو خير ممن قضى زمنا من عمره في الكفر، لأن الذي يولد على الإسلام ينشأ على أساس ما ألفه من الآباء والأجداد؛ أي أنه لم يتفكر في الأديان والمذاهب، حتى إختار الدين الإسلامي عن قناعة ويقين. وهذا من فضل الله تعالى علينا أن جعلنا مسلمين، لأنه من يدري لو ولدنا في بيت يهودي أو نصراني أو مجوسي أكنّا نختار الإسلام أم ننشأ على دين الآباء والأجداد. فالحمد لله على هذه النعمة العظيمة.
المعنى الثاني: إن الذي يولد على الإسلام لا يعرف ولا يميز كثيرا بين ما هو من الدين الإسلامي، وبين ما هو من دين الجاهلية، لاسيما في هذا الزمن الذي إختلط فيه الحق بالباطل وزُين لكثير من بني آدم إعتقاداتهم وأفعالهم؛ إذ ربما خلط بينهما وهو يظن أنه هو الإسلام، كما يحدث لكثير من أهل البدع والأهواء في زماننا هذا وغير زماننا، والمسكين لا يدري أن : ( كل بدعة ضلالة ). بينما الذي عاش في الكفر ثم تحول إلى الإسلام عرف حقيقة الفرق بين الدينين، فلا يخلط بينهما.
وما يقال في الأديان المختلفة، يمكن إسقاطه على المذاهب المختلفة داخل دائرة الدين الواحد. وعلى هذا الأساس فالذي يولد من أبويين سنّيين ينشأ سنّيا، دون معرفة ما لدى الطرف المقابل، وكذلك الذي يولد لأبوين شيعيين، يرى نفسه على الحق دون أن يتعرف ما لدى المقابل من حق أو باطل. وهكذا تنشأ الأبناء على مذهب الآباء والأجداد.
المقدمة الثانية
قراءة التاريخ
ينتج من نشأة الأبناء على دين الآباء والأجداد، قراءة التاريخ المدوّن قراءة تقليدية أيضا عبر قراءة ما كتبه الآباء والأجداد، وتوارثته الأجيال جيلا بعد جيل.
فإذا علمنا أن التاريخ لم يكتب إلاّ على أساس التأثيرات العقدية، والتجاذبات السياسية، كان على قرّاء التاريخ التجرد التام في قراءتهم لما كتبه الأسلاف من كل عقيدة مسبقة، أو حكم مسبق على مدونات التاريخ، والتحقق من كل خبر فيه، وأن يعلموا أن التاريخ لم يحققه المحققون كما حققوا أخبار النبي ورواياته، ومع هذا فالسنة والشيعة لا يعترف أحدهما بمرويات الطرف الآخر، فكيف يتفقون على التاريخ إذن؟
والملاحظ على المسلمين الذين يقرأون التاريخ الإسلامي، أن لهم فيها قراءتين:
القراءة الأولى: وهي طريقة الشيعة الإمامية، وهي قراءة إسقاطية لكل ما في التاريخ، إذ كل ما في التاريخ الإسلامي لديهم هو تاريخ أسود ـ لاسيما ـ التاريخ الممتد من بعد وفاة النبي وإلى يومنا هذا، كل ذلك بحكم عقيدة مظلومية أئمة أهل البيت التي نتجت عن عقيدة الإمامة. ولا حتى في زمن حكم علي بن أبي طالب، لأنهم يقولون: إن رعيته كانت لا تطيعه، لأنهم كانوا على مذهب الخلفاء الثلاثة الذين سبقوه بالخلافة.
إسمع إلى الشريف المرتضى الملقب بعلم الهدى وهو يقول: ( وما المنكر من أن يكون عليه السلام خائفا متى نازع وحارب من ضرر عظيم يلحقه في نفسه وولده وشيعته، ثم ما المنكر من أن يكون خاف من الإنكار من ارتداد القوم عن الدين وخروجهم عن الإسلام ونبذهم شعار الشريعة، فرأى أن الإغضاء أصلح في الدين من حيث كان يجر الإنكار ضررا فيه لا يتلافى ).
وأضاف قائلا: أنه عليه السلام رأى من الإمارات والدلائل ما يجعله يتظاهر بالعدول عن حقه ( رأى المنصوص عليه أكثر الأمة بعد الوفاة بلا فصل، اقبلوا يتنازعون الأمر تنازع من لم يعهد إليه بشئ فيه، ولا يسمع على الإمامة نصا لان المهاجرين قالوا نحن أحق بالأمر، لان الرسول صلى الله عليه وآله منا ولكيت وكيت. وقال الأنصار نحن آويناه ونصرناه فمنا أمير ومنكم أمير. هذا، والنص لا يذكر فيما بينهم).
وأما عن عدم إظهاره خلاف من تقدم عليه في أحكامه يوم توليه الخلافة، فقال: ( إن الأمر ما أفضى إليه عليه السلام إلا بالاسم دون المعنى، وقد كان عليه السلام معارضا منازعا مغصصا طول أيام ولايته إلى أن قبضه الله تعالى إلى جنته، وكيف يأمن في ولايته الخلاف على المتقدمين عليه عليه السلام رجل من تابعه وجمهورهم شيعة أعدائه عليه السلام. ومن يرى أنهم مضوا على اعدل الأمور وأفضلها. . . وهو القائل عليه السلام وقد استأذنه قضاته فقالوا بم نقضي يا أمير المؤمنين فقال عليه السلام: " اقضوا بما كنتم تقضون حتى يكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي " يعني عليه السلام من تقدم موته من أصحابه والمخلصين من شيعته الذين قبضهم الله تعالى وهم على أحوال التقية والتمسك باطنا بما أوجب الله جل اسمه عليهم التمسك به. وهذا واضح فيما قصدناه. وقد تضمن كلامنا هذا الجواب عن سؤال من يسأل عن السبب في امتناعه عليه السلام من رد فدك إلى يد مستحقها لما أفضى التصرف في الإمامة إليه عليه السلام.)([5]).
هذا الإعتقاد جعلهم ينكرون جهاد الصحابة وتضحياتهم، وإنفاقهم في سبيل الله، وهجرتهم للأهل والخلان، لأنهم في نظر الشيعة ثلة من المنافقين أحاطوا بالرسول وتظاهروا بالإسلام، رغبة في الدنيا ومتاعها، واستطاعوا أن يخفوا نفاقهم طيلة حياة النبي، وما أن مات رسول الله حتى ارتدوا عن بكرة أبيهم إلاّ بضعة نفر؛ فقهروا الوصي، واستبدوا بالأمر من دونه، وضربوا زوجته، وأسقطوا جنينها، واغتصبوا إبنته أم كلثوم، وغيّروا الأحكام وعطّلوا الشرع، وحرّفوا القرآن.
أما أهل البيت والنفر القليل من الصحابة الذين كانوا معهم فكانوا مستضعفين لا يملكون من الأمر شيئا، ما استطاعوا أن يظهروا النص على علي، كما لم يستطع علي من إظهاره، فعاشوا مقهورين مظلومين.
ولما وصل الأمر إلى علي وصار خليفة للمسلمين لم يستطع إظهار ما نفسه، لأن رعيته لم يكونوا على وفاق معه، فعاش في تقية ولم تسمح له الظروف من إرجاع الحق إلى نصابه، وفي هذا يقول الشريف المرضى أيضا في (الشافي في الإمامة): ( فلعمري أن كثيرا من التقية زال عنه في أيام إمامته بزوال أسبابها، وبقي كثير من التقية لبقاء أسبابها، وبهذا لم ينقض جميع أحكام من تقدم ولا فسخ عقدهم، وأين أنصاره وأعوانه في الكثرة والتظاهر، والتوازر في أيام إمامته من أنصاره فيما تقدم، ولا إشكال على منصف في الفرق بين الأمرين).
هذه القراءة الإسقاطية للتاريخ لم تقف عند التاريخ وأخبار الوقائع، بل تعداها إلى تأويل جميع الفضائل التي وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة في حق الصحابة على هذا الأساس، فأصبحت قراءتهم للتاريخ والقرآن والسنة، قراءة تفتيشية للسيئات، وتكبيرها وتضخيمها، ونشرها على الملأ، وتأويل حسناتهم، أو إنكارها.. وهم كما قال المعري:
أعُوذُ باللَّهِ من قومٍ، إذا سمِعوا خيراً أسرّوهُ، أو شرّاً أذاعوهُ
وكما قال الآخر:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا
ثم نظروا إلى الخلاف بين المسلمين الأوائل على أنها خلاف عقائدي وليس خلافا سياسيا تاريخيا مضى وانتهى. يقول شيخ الشيعة مرتضى المطهري في كتابه ( الإمامة: ص26 ):( لو إفترضنا أن الإغضاء عن سلبيات التاريخ يصح في المواطن العادية، فكيف يصح في قضية هي من الإسلام بالصميم، بل هي أس الإسلام وأهم قضية فيه. حيت تتصل بمسألة القيادة ويتوقف عليها مصير المجتمع الإسلامي. لا ريب أن الإغضاء عن قضية مثل هذه، هو في حكم الإغضاء عن قضية سعادة المسلمين).
القراءة الثانية: هي طريقة النقد والتمييز بين الحسنات والسيئات، وهي قراءة أهل السنة والجماعة، فهم قبل أن يقرأوا التاريخ من مصادر التاريخ التي تشوبها الكثير من التحريفات بسبب الأهواء والميول العقائدية والسياسية، التي أثرت في كتابتها وفي توجيه أحداثها توجيها طائفيا؛ يقرأونها من خلال آيات القرآن الكريم، ومن خلال ما صح من سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأن القرآن كله قطعي الثبوت. أما السنة فقد إستطاع العلماء الجهابذة من غربلتها، وتمييز الصحيح منها من السقيم، فهم يقرأون التاريخ بعد عرضه عليهما.
وعلى هذا الأساس أنزلوا الناس منازلهم، وشعارهم في ذلك قول الله تعالى : ] وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ [[الأعراف : 85]) فنظروا إلى الصحابة من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وأهل بيت النبي الأطهار نظرة إحترام وتقدير، لما لهم من سبق في الإسلام والجهاد في سبيله، وهم عاشوا إخوة متحابين، يتزوج أحدهم من بنات أو أخوات الآخر، ويتسمّون بأسماء مشتركة، وهم مع هذا بشر تتجاذب نفوسهم الطاعات والمعاصي، وهم ليسوا معصومين، ولكن حسناتهم غمرت سيئاتهم، واستحقوا مدح الله تعالى لهم وتقديمهم على من جاءوا من بعدهم في آيات تتلى إلى يوم القيامة:
] لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [[الحديد : 10].
كما سجل رضاءه عنهم وعمّن إتبعهم بإحسان، فقال: ] وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [[التوبة : 100].
أما الخلافات التي حدثت بينهم، فلما نظروا أن القرآن لم يتطرق إليها، ولم يذكر شيئا منها، ولكن بعضاً منها تطرقت إليها السنة النبوية الشريفة، بأن فيها طائفة باغية، وأخرى محقة، فمدح الصلح بينهما، ( وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أَنَّهُ قَالَ : " { تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عَلَى حِينِ فِرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ تَقْتُلُهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ } وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ عَنْ الْحَسَنِ : " { إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَسَيُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ } . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَمَّارٍ أَنَّهُ قَالَ : " { تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ : ] وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [ . فَثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ مُسْلِمُونَ وَأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ كَانُوا أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْ الطَّائِفَةِ الْمُقَاتِلَةِ لَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ([6]).
والكلام فيها اليوم ليس فيها مصلحة للأمة، لأنها قضية مضت وانتهت، ولا تُعرف حقيقتها، والكلام فيها من باب الغيبة المذمومة، لأنه كلام بلا علم ولا عدل. والله تعالى قد أمرنا بالعدل حتى مع الكفار فقال: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [[المائدة : 8]، فكيف لا نعدل مع المهاجرين والأنصار الذين وصفهم القرآن الكريم بالصادقين والمفلحين، ثم أمر الذين جاءوا من بعدهم بالإستغفار لهم فقال: ] لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [[الحشر :8-10].
ثم إن الكلام فيما جرى بين الصحابة لا عمل تحته، إن أصبت فيه لم تؤجر، وإن أخطأت فيه أثمت؛ لاسيما أننا لم نشهد تلك الحروب، وإن ما نُقل في الكتب والدواوين بعضه، منقطع وضعيف، وبعضه كذب، فما لنا والإنشغال بهذا الشأن الذي لا يعود علينا بنفع لا في الدنيا ولا في الآخرة!
بل فيه الضرر البليغ على وحدة الأمة الإسلامية، لاسيما في يومنا هذا الذي تكالبت فيه قوى الشر، وأعداء الأمة من كل حدب وصوب، يريدون تشتيت جمعنا، وتفريق كلمتنا.
هذا وقد رأيت بعض الباحثين في التاريخ يأخذ منه ما يوافق رأيه وهواه، وإن كان ضعيفا في سنده، مقلوبا في متنه؛ ويطرح ما يضاده، حتى وإن كان أصح ما دونه المؤرخون وأجمعوا عليه. وهذا ليس من إنصاف الخصم، ولا من قواعد وأخلاقيات المناظرة ولا من أصول البحث العلمي المتجرد.
كما أن البعض الآخر عند الإحتجاج من كتب الخصم يتعامل بإزدواجية مع النصوص لاسيما في القضايا الخلافية. وإذا حدث هذا فهذا ليس طالب حق، وإنما هو مجرد خصم مجادل فلا قيمة للحوار معه كما قال تعالى: { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } [الزخرف : 58].
الفصل الأول
السنة النبوية الشريفة وحجيتها
المبحث الأول
السنة النبوية الشريفة المصدر الثاني في التشريع
المبحث الثاني
حجية السنة توجب حفظها
المبحث الثالث
أسباب إختلاف تلقي أهل السنة والشيعة للسنة النبوية الشريفة
وفيه المطالب التالية:
المطلب الأول: كتاب الله وعترتي
المطلب الثاني: كتاب الله وسنتي
المطلب الثالث: الفرق بين العترة والسنة
المبحث الأول
السنة النبوية الشريفة المصدر الثاني في التشريع
إتفق أهل السنة والشيعة على أن السنة النبوية الشريفة هي المصدر الثاني في إثبات الأحكام وبيان الحلال والحرام بعد كتاب الله تعالى. والأدلة على ذلك كثيرة نذكر منها([7]):
قوله تعالى في سورة النساء: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}[8]، وقال تعالى في سورة النساء أيضا: { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا }[9]، وكيف تمكن طاعته ورد ما تنازع فيه الناس إلى كتاب الله وسنة رسوله، إذا كانت سنته لا يحتج بها، أو كانت كلها غير محفوظة، وعلى هذا القول يكون الله قد أحال عباده إلى شيء لا وجود له، وهذا من أبطل الباطل، ومن أعظم الكفر بالله وسوء الظن به، وقال عز وجل في سورة النحل: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }[10]، وقال فيها أيضا: { وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لهم الذي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }[11]، فكيف يكل الله سبحانه إلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم تبيين المنزل إليهم، وسنته لا وجود لها أو لا حجة فيها، ومثل ذلك قوله تعالى في سورة النور: { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ }[12]، وقال تعالى في السورة نفسها: { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }[13]. فإقتران طاعة رسول الله بطاعة الله تعالى دال على أن طاعة الله في ما أمر به ونهى عنه في كتابه الكريم، وطاعة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم تتمثل في طاعته بما أمر به ونهى عنه في غير ما ذُكر في القرآن.
ومنها قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } [الأنفال: 24].
وكيف يمكن ذلك مع عدم العمل بسنته، أو القول بأنه لا صحة لها، أو لا يعتمد عليها؟!
وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه كان يوصي أصحابه في خطبته، أن يبلغ شاهدهم غائبهم، ويقول لهم:
( رب مبلغ أوعى من سامع )، ومن ذلك ما في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما خطب الناس في حجة الوداع في يوم عرفة وفي يوم النحر قال لهم: ( فليبلغ الشاهد الغائب فرب من يبلغه أوعى له ممن سمعه ) فلولا أن سنته حجة على من سمعها وعلى من بلغته، ولولا أنها باقية إلى يوم القيامة، لم يأمرهم بتبليغها، فعلم بذلك أن الحجة بالسنة قائمة على مَنْ سمعها مِن فيه عليه الصلاة والسلام وعلى من نقلت إليه بالأسانيد الصحيحة.
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة: 2].
قال ـ له قائل ـ : فقد علمنا أن الكتاب كتاب الله فما الحكمة؟
قلت: سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
قال: أفيحتمل أن يكون يعلمهم الكتاب جملة والحكمة خاصة وهي أحكامه؟
قلت: تعني بأن يبين لهم عن الله عز وعلا مثل ما بين لهم في جملة الفرائض من الصلاة والزكاة والحج وغيرها فيكون الله قد أحكم فرائض من فرائضه بكتابه وبين كيف هي لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: إنه ليحتمل ذلك.
قلت: فإن ذهبت هذا المذهب فهي في معنى الأول قبله الذي لا تصل أليه إلا بخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: فإن ذهبت مذهب تكرير الكلام.
قلت: وأيهم أولى به إذا ذكر الكتاب والحكمة أن يكونا شيئين أو شيئا واحدا؟
قلت: فأظهرهما أولاهما في القرآن دلالة على ما قلنا وخلاف ما ذهبت إليه.
قال: وأين هي؟
قلت: قال الله عز وجل : { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا } [الأحزاب: 34] فأخبر أنه يتلى في بيوتهن شيئان.
قال: فهذا القرآن يتلى فكيف تتلى الحكمة؟
قلت: إنما معنى التلاوة أن ينطق بالقرآن والسنة كما ينطق بها.
قال: فهذه أبين في أن الحكمة غير القران من الأولى)([8]).
وحيث أنهما من عند الله تعالى فلا يمكن الإختلاف بينهما في الواقع، ويستحيل أن يوجد كتاب وسنة ـ كل منهما قطعي الدلالة والثبوت ـ بينهما تعارض مع الإتحاد في الزمن وغيره، مما يشترط لتحقق التعارض([9]). ولهذا قال الإمام الشافعي: ( ولا تكون سنة أبدا تخالف القرآن ).
وقال العلامة إبن القيم: ( والذي يشهد الله ورسوله به أنه لم تأت سنة صحيحة واحدة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تناقض كتاب الله وتخالفه ألبتة. كيف ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو المبين لكتاب الله وعليه أنزل وبه هداه الله وهو مأمور باتباعه وهو أعلم الخلق بتأويله ومراده)([10]).
والسنة مع الكتاب ـ من حيث دلالتها على ما فيه ـ وعلى غيره، على ثلاثة أنواع، كما ذكره الشافعي في الرسالة وتبعه الجمهور:
النوع الأول: موافقة له من حيث الإجمال والبيان وواردة معه مورد التأكيد له.
النوع الثاني: سنة مبينة لما في الكتاب، كأن تفصل مجمله، أو توضح مشكله، أو تقيد مطلقه، أو تخصص عامه. كالأحاديث التي فصلت مجمل الصلاة والزكاة وأحكام الصيام والحج . . . إلخ.
وأغلب السنة من هذا النوع، ولهذه الغلبة وصفت بأنها مبينة للكتاب في قوله تعالى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }[النحل : 44].
النوع الثالث: سنة دالة على حكم سكت عنه القرآن، ولم ينص عليه، ولا على ما يخالفه؛ كالأحاديث التي دلت على تحريم الرضاع ما يحرم من النسب، وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها، وتشريع الشفعة، وكون الجدة ( أم الأم أو أم الأب ) ترث، وكونها تأخذ السدس وكذا تحريم الحمر الأهلية . . إلخ. وليس للسنة مع كتاب الله منزلة رابعة.
والشيعة تتفق مع أهل السنة بوجود بعض الأحكام الإستقلالية التي قد جعلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشرعها بنفسه، كتحريم كل مسكر غير الخمر، وتحريم كل ذي ناب ومخلب، وإعطاء السدس للجد، وتشريع نوافل الصلاة والصيام، وتحريم المدينة ما بين لابتيها([11]).
المبحث الثاني
حجية السنة توجب حفظها
بعد أن ثبت لدينا بما لا يقبل الشك أن السنة النبوية الشريفة حجة في الدين ومصدر من مصادر التشريع، فمن غير المعقول أن تكون الغاية منها أن يتلقاها الجيل الأول المصاحب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فإذا مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنتهت تلك السنة أو حرفت أو شوهت.
نعم لو لم يكن نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، وشريعته خاتمة الشرائع السماوية، فمن الممكن أن تجري عليها سنن الله تعالى في الأنبياء وشرائعهم من قبل، فقد كان النبي قبل نبينا يبعث إلى قومه خاصة؛ ثم إن كُذبوا ـ وهو الغالب ـ يهلكهم الله تعالى، ويبعث نبيا آخرا إما بشريعة جديدة، أو بشريعة من تقدمه من الأنبياء، وكان حفظ الشريعة إذ ذاك موكولا إلى الأمة، فبعد مرور فترة من مضي النبي ووفاته يبدأ التحريف يدب في منهجهم فيبعث الله تعالى نبيا يصحح لهم المنهج.
فلما ختم الله تعالى أنبياءه بنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان لابد من حفظ شريعته لتكون حجة على الناس إلى يوم القيامة، فهو مبعوث إلى الناس كافة، وإلى عالمي إنسه وجنه، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
نعم لقد تحقق الوعد الإلهي بحفظ كتابه الكريم وسنة نبيه الشريفة على أيدي أصحابه الأمناء، ( وذلك لأن الأمانة لم يكن المقصود بها الجيل الأول الذي تلقاها عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فقط ، فإذا مات الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعث الله رسولاً آخر يلتقي الناس مباشرة ليتلقَّوا عنه بلا واسطة. إنما المقصود بها أن تنتقل إلى العالم أجمع. والواسطة بين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبين العالم ذلك الجيل الذي عاصر الرسول لا غير، فلا بد أن يكون أميناً وإلا ضاعت الأمانة)([12]).
ومادامت السنة النبوية جزءا من الرسالة الإسلامية الخاتمة، وهي مبينة وشارحة للقرآن الكريم، فلابد أن تكون محفوظة مع حفظ الله تعالى لكتابه الكريم: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر: 9]. لأن إسم الذكر واقع على كل ما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم من قرآن أو من سنة يبين بها القرآن.
ولا شك أن سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحي منزل، فقد حفظها الله كما حفظ كتابه، وقيض الله لها علماء نقادا، ينفون عنها تحريف المبطلين، وتأويل الجاهلين، ويذبون عنها كل ما ألصقه بها الجاهلون والكذابون والملحدون؛ لأن الله سبحانه جعلها تفسيرا لكتابه الكريم، وبيانا لما أجمل فيه من الأحكام، وضمنها أحكاما أخرى، لم ينص عليها الكتاب العزيز، كأعداد الصلوات وكيفية إخراج الزكاة وأنصبتها. . . إلخ.
نسأل كيف عرفها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن أين أخذها؟
والجواب: لا يخلو من وجهين:
الأول: من عند نفسه دون أن يرجع إلى الوحي. فلو حدث هذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم مشرعا مستقلا عن الله تعالى، ووجب علينا إتباعه في شيء ليس هو في القرآن.
الثاني: أخذها عن الله تعالى عن طريق الوحي غير المكتوب، أي غير القرآن، وعندها صارت سنته وحيا متلوا غير مكتوب وجب علينا أيضا العمل بها.
فكلا الوجهين يثبت لنا أن الوحي ينقسم من الله عز وجل إلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم إلى قسمين:
أحدهما: وحي متلو مؤلف تأليفا معجز النظام، وهو القرآن.
والثاني: وحي مروي منقول غير مؤلف ولا معجز النظام، ولا متلو لكنه مقروء، وهو الخبر الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
كما أن من المعلوم أن الله تعالى أوكل مهمة تبيين القرآن الكريم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنص التنزيل فقال عز من قائل: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }[النحل : 44]. فإذا كانت السنة مفسرة لكتاب الله تعالى، كان من تمام حفظ المفسَّر( الذي هو القرآن ) أن يحفظ له المفسِّر ( الذي هو السنة ).
لقد أمر الله تعالى المسلمين بالتأسي بنبيهم صلى الله عليه وآله وسلم كما في قوله تعالى: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } [الأحزاب: 21] فكيف يتأسى المسلمون الذين لم يصاحبوا نبيهم به إذا لم تصلهم سنته صحيحة وسالمة؟!
فلو لم يحفظ الله عز وجل سنة نبيه لكان هذا التأسي من تكليف ما لا يطاق، وهذا يتنزه عنه الباري جلا جلاله.
قال أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي (المتوفى : 456هـ):
( قال الله عز وجل عن نبيه صلى الله عليه وآله وسلم : { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } [النجم : 3 ، 4] وقال تعالى: } لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ {[النحل : 44] وقال تعالى: } إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ {[الحجر : 9].
فصح أن كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كله في الدين وحي من عند الله عز وجل، لا شك في ذلك ولا خلاف بين أحد من أهل اللغة والشريعة في أن كل وحي نزل من عند الله تعالى فهو ذكر منزل، فالوحي كله محفوظ بحفظ الله تعالى له بيقين، وكل ما تكفل الله بحفظه فمضمون ألا يضيع منه وألا يحرف منه شئ أبدا تحريفا لا يأتي البيان ببطلانه، إذ لو جاز غير ذلك لكان كلام الله تعالى كذبا وضمانه خائسا، وهذا لا يخطر ببال ذي مسكة عقل، فوجب أن الدين الذي أتانا به محمد صلى الله عليه وآله وسلم محفوظ بتولي الله تعالى حفظه، مبلغ كما هو إلى كل من طلبه مما يأتي أبدا إلى انقضاء الدنيا قال تعالى:} لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ{ [الأنعام : 19] فإن كان ذلك كذلك فبالضروري ندري أنه لا سبيل البتة إلى ضياع شئ قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الدين، ولا سبيل البتة إلى أن يختلط به باطل موضوع اختلاطا لا يتميز عن أحد من الناس بيقين، إذ لو جاز ذلك لكان الذكر غير محفوظ، ولكان قول الله تعالى:} إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ{ كذبا ووعدا مخلفا وهذا لا يقوله مسلم.
فإن قال قائل: إنما عنى تعالى بذلك القرآن وحده، فهو الذي ضمن تعالى حفظه لسائر الوحي الذي ليس قرآنا.
قلنا له وبالله تعالى التوفيق: هذه دعوى كاذبة مجردة من البرهان، وتخصيص للذكر بلا دليل، وما كان هكذا فهو باطل لقوله تعالى: { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [البقرة : 111] فصح أن لا برهان له على دعواه، فليس بصادق فيها، والذكر اسم واقع على كل ما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم من قرآن أو من سنة وحي يبين بها القرآن، وأيضا فإن الله تعالى يقول: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } فصح أنه عليه السلام مأمور ببيان القرآن للناس.
وفي القرآن مجمل كثير كالصلاة والزكاة والحج وغير ذلك مما لا نعلم ما ألزمنا الله تعالى فيه بلفظه، لكن بيان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا كان بيانه عليه السلام لذلك المجمل غير محفوظ ولا مضمون سلامته مما ليس منه، فقد بطل الانتفاع بنص القرآن فبطلت أكثر الشرائع المفترضة علينا فيه، فإذا لم ندر صحيح مراد الله تعالى منها، فما أخطأ فيه المخطئ أو تعمد فيه الكذب الكاذب، ومعاذ الله من هذا )([13]).
وقال أيضا: ( خبرونا عن إكمال الله دينا ورضاه الإسلام لنا دينا، ومنعه تعالى من قبول كل دين حاشا الإسلام، أكل ذلك باق علينا ولنا إلى يوم القيامة ؟ أم إنما كان ذلك للصحابة رضي الله عنهم فقط ؟ أم لا للصحابة ولا لنا ؟ ولا بد من أحد هذه الوجوه. فإن قالوا: لا للصحابة ولا لنا، كان قائل هذا القول كافرا لتكذيبه الله تعالى جهارا وهذا لا يقوله مسلم، وإن قالوا: بل كان كل ذلك باق لنا وعلينا إلى يوم القيامة صاروا إلى قولنا ضرورة، وصح أن شرائع الإسلام كلها كاملة، والنعمة بذلك علينا تامة ).([14])
المبحث الثالث
أسباب إختلاف تلقّي أهل السنة والشيعة للسنة النبوية الشريفة
بعد أن إتفق أهل السنة والشيعة على أن السنة النبوية الشريفة هي المصدر الثاني في الأحكام بعد كتاب الله تعالى إلاّ أنهم إختلفوا في السنة النبوية الشريفة مضمونا وتلقيا.
ويرجع أساس الخلاف بين السنة والشيعة إلى عقيدة الإمامة الإلهية التي يؤمن بها الشيعة دون سائر الفرق الإسلامية.
يقول شيخهم محمد الحسين الحسينى الطهرانى:
( إن أساس الاختلاف بين الشيعة والسنّة ينحصر في مسألة الولاية، فالشيعة يقولون إن الإمام يجب أن يكون معصوماً ومُنصّباً من قبل الله سبحانه وتعالى، بينما يقول السنّة انّ العصمة ليست من شرائط الإمام، وأنّ الناس بإمكانهم أن يختاروا إماماً لهم فيتّبعوه. أمّا بقيّة المسائل المُختلف عليها بين هذين الفريقين فمتفرّعة بأجمعها عن ذلك الأصل وتابعة له؛ لأنّ أرضيّة الاختلاف في الأساس والأصل لابدّ وأن تؤدّي إلى اختلافات كثيرة في الفروع، أما لو انتفى الاختلاف في الأساس، فاتّحد هذان الفريقان في المرام والمذهب، فانّ الاختلافات في الفروع ستنتفي بدورها وتتبع الأصل في الوحدة)([15]).
وتتلخص عقيدة الإمامة عندهم بأن الله تعالى أمر رسوله الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن ينصب عليا خليفة من بعده، ثم الحسن والحسين، ثم تسعة من أولاد الحسين بن علي رضي الله عنه لإعتقادهم أن هؤلاء معصومون من الذنوب والمعاصي، بل وحتى من السهو والخطأ والنسيان من الولادة إلى الممات.
إلا أن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إغتصبوا منصب الخلافة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الخليفة الشرعي، وعصوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، بل يقولون: ( إرتد الناس بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ ثلاثة أو أربعة ).
وإرتداد الصحابة لم يكن لجحدهم الإسلام وشرائعه وأركانه من الصلاة والصيام والزكاة، بل لأنهم تنكروا لعلي رضي الله عنه وجحدوا حقه في الخلافة.
نتجت عن هذه العقيدة آثارا كثيرة: كان من أهمها: أن الصحابة لم يكونوا أهلا لرواية أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، لأنهم في أحسن أحوالهم إن لم يكونوا خارجين عن الملة، فلا أقل من أن يكونوا فاسقين؛ والفاسق لا يؤخذ بخبره، ولا يوثق في شهادته.
وعلى هذا الأساس فجميع مرويات أهل السنة لا تزن جناح بعوضة عند الشيعة، لأنها من طريق الصحابة. إسمع إلى شيخهم محمد حسين كاشف الغطا وهو يقول: ( أما ما يرويه مثل: أبي هريرة، وسمرة بن جندب، ومروان بن الحكم، وعمران بن حطان الخارجي، وعمرو بن العاص، ونظائرهم، فليس لهم عند الإمامية من الاعتبار مقدار بعوضة، وأمرهم أشهر من أن يذكر)([16]).
وسنرى فيما بعد أن ذكر إسم مروان بن الحكم وعمران بن حطان الخارجي ما هو إلا من قبيل ذر الرماد في الأعين ذلك لأنهم لم يستثنوا من هذا الحكم لا أبا بكر ولا عمر ولا سعد بن أبي وقاص ولا عبدالرحمن بن عوف، بل ولا حتى عمار بن ياسر وسلمان الفارسي ولا غيرهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، فليس في كتبهم المعتمدة روايات يتصل سندها برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قبل أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى الذين وقفوا إلى جانب علي في حروبه في الجمل وصفين.
لذا أرى أن جميع الخلافات التي بين السنة والشيعة ناتجة عن عقيدة الإمامة، ومهما حاول الباحثون البحث في الوسائل التي تجمع أو توفق بين السنة والشيعة في مسألة غير مسألة الإمامة، فلا طائل من ورائه، اللهم إلا من باب بيان الحق وإقامة الحجة على المخالف.
فمن هذا الباب سأتناول هذه المسألة في ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: في بيان حجج الشيعة في تعلقهم بروايات أهل البيت ( كتاب الله والعترة )
المطلب الثاني: في بيان حجج أهل السنة في تعلقهم برواية: ( كتاب الله وسنتي )
والمطلب الثالث: في بيان الفرق بين منهج الشيعة ومنهج أهل السنة في تلقي السنة النبوبة الشريفة.
المطلب الأول
كتاب الله والعترة
قبل الدخول في صلب القضية أود أن أشير إشارة موجزة إلى أن العقائد عند الشيعة مصدرها النظر ( العقل ) وليس الكتاب والسنة.
قال شيخ الشيعة محمد رضا المظفر في كتابه (عقائد الإمامية):
( نعتقد: أنّ الإمام كالنبي يجب أن يكون معصوماً من جميع الرذائل والفواحش، ما ظهر منها وما بطن، من سنِّ الطفولة إلى الموت، عمداً وسهواً.
كما يجب أن يكون معصوماً من السهو والخطأ والنسيان، لانّ الأئمة حفظة الشرع والقوَّامون عليه، حالهم في ذلك حال النبي، والدليل الذي اقتضانا أن نعتقد بعصمة الأنبياء هو نفسه يقتضينا أن نعتقد بعصمة الأئمة بلا فرق . . . ولهذا نعتقد: أنّ الأحكام الشرعية الإلهية لا تستقى إلاّ من نمير مائهم، ولا يصحّ أخذها إلاّ منهم، ولا تفرغ ذمّة المكلَّف بالرجوع إلى غيرهم، ولا يطمئنّ بينه وبين الله إلى أنّه قد أدّى ما عليه من التكاليف المفروضة إلاّ من طريقهم).
ويقول شيخ الشيعة محمد علي الإسترابادي:
( تواتر الأثر وتكاثر الخبر عن سيّد الإنس والبشر ( صلى الله عليه وآله ) ممّا دُوِّن في كتب الفضائل والمناقب وشاع ذكره واشتهر أمره لدى جميع المذاهب بطرق مختلفة وأسانيد متعدّدة قوله ( صلى الله عليه وآله: ) إنّي تارك فيكم الثَقَلين أحدهما أكبر من الآخر: كتابَ اللهِ حبلٌ ممدودٌ من السماءِ إلى الأرض وعترتي أهلَ بيتي، وإنّهما لَنْ يفترقا حَتّى يَرِدا عَليَّ الحوض)([17]). ويضيف: ( ولذا كانوا صلوات الله عليهم مصداقاً لمفهوم السُنّة الشريفة التي تعدّ ثاني مصدر من مصادر التشريع الإسلامي بعد كتاب الله عزّ وجلّ).
ويقول الشيخ محمد رضا المظفر أيضا: ( السنة في اصطلاح الفقهاء : قول النبي أو فعله أو تقريره. ومنشأ هذا الاصطلاح أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإتباع سنته فغلبت كلمة ـ السنة ـ حينما تطلق مجردة عن نسبتها إلى أحد على خصوص ما يتضمن بيان حكم من الأحكام من النبي صلى الله عليه وآله وسلم سواء كان ذلك بقول أو فعل أو تقرير، على ما سيأتي من ذكر مدى ما يدل الفعل والتقرير على بيان الأحكام. أما فقهاء ـ الإمامية ـ بالخصوص فلما ثبت لديهم أن المعصوم من آل البيت يجري قوله مجرى قول النبي من كونه حجة على العباد واجب الإتباع فقد توسعوا في اصطلاح السنة إلى ما يشمل قول كل واحد من المعصومين أو فعله أو تقريره، فكانت السنة باصطلاحهم ( قول المعصوم أو فعله أو تقريره ) والسر في ذلك أن الأئمة من آل البيت عليهم السلام ليسوا هم من قبيل الرواة عن النبي والمحدثين عنه ليكون قولهم حجة من جهة أنهم ثقاة في الرواية، بل لأنهم هم المنصوبون من الله تعالى على لسان النبي لتبليغ الأحكام الواقعة، فلا يحكمون إلا عن الأحكام الواقعية عند الله تعالى كما هي، وذلك من طريق الالهام كالنبي من طريق الوحي أو من طريق التلقي من المعصوم قبله، كما قال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام: ( علمني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألف باب من العلم ينفتح لي من كل باب ألف باب)([18]).
وبعيدا عن مناقشة مدلول آل النبي وأهل بيته وعترته، إن كانوا هم بنو هاشم، أو آل عبدالمطلب، أو غيرهم، وهل الأزواج يدخلون ضمن أهل البيت؛ فإننا سنسلم للشيعة من باب الجدل، أنهم هم أهل الكساء، هم علي بن أبي طالب والحسن والحسين وفاطمة وتسعة من ولد الحسين بن علي رضي الله عنهم جميعا.
لكن ألا يجب علينا أن نتساءل:
إذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد عاشوا معه في حله وترحاله، وسمعوا منه مباشرة، فهل كان يجب عليهم أن يرجعوا إلى أهل البيت ليتأكدوا من ما سمعوه من النبي مباشرة؟
لا أعتقد أن عاقلا يقول بذلك.
ثم هل كان يجب على أبناء الصحابة الذين تلقّوا أحكام الدين وشرائعه من القرآن ومن ما نقله إليهم آباؤهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يرجعوا إلى أهل البيت؟
وقل هكذا إلى ما بعد عصر التابعين وتابعيهم.
ولو تنازلنا وقلنا بقول الشيعة، أنه لا يجوز أخذ السنة إلا من طريق أهل البيت عليهم السلام، لكن ألا يجب علينا ونحن لا نعيش عصر أئمة أهل البيت، وقد غاب آخرهم ولا يُعرف له خبر، ولم يتركوا لنا كتبا من تأليفاتهم، ولا وصلت إلينا ما دونه أحد من أصحابهم المباشرين لهم أراءهم وفقههم ـ كما هو الحال عند أئمة أهل السنة، ككتاب الموطأ للإمام مالك، والمسند للإمام أحمد، وكتاب الأم للإمام الشافعي ـ أن نتأكد من المنقول إلينا عن لسانهم؟
يقول شيخ الشيعة محمد علي الإسترابادي:
( ولمّا كانت السُنّة بما فيها قول المعصوم وفعله وتقريره ـ كما عرّفها أرباب الفقه وأصحاب الإستنباط وكُتّاب الاُصول ـ على هذه الأهمّية، كان لا بُدّ من إحراز صدورها عن المعصوم ( عليه السلام ) من خلال الإطمئنان الكامل والتام بصحّة سند المرويّات عنهم ( عليهم السلام ) المدوّنة في المجامع الحديثيّة والّتي تكون بطبعها حاكية عن السُنّة.
وهذا بالطبع لا يتيسّر لكلِّ مستنبط إلاّ إذا كانت له إحاطةٌ تامةٌ برجال السند ورواة الأخبار ونقلة الآثار، والتعرّف على شؤونهم وشجونهم، وأنّهم أهلٌ للإعتماد على نقلهم والركون إلى قولهم)([19]).
ويقول شيخهم الخوئي مبينا عدم صحة جميع ما في الكتب الأربعة المعول عليها عند الشيعة، وهي ( الكافي والإستبصار، والتهذيب، ومن لا يحضره الفقيه) قائلا:
( ذهب جماعة من المحدثين إلى أن روايات الكتب الأربعة قطعية الصدور.
وهذا القول باطل من أصله، إذ كيف يمكن دعوى القطع بصدور رواية رواها واحد عن واحد. ولاسيما أن في رواة الكتب الأربعة من هو معروف بالكذب والوضع، على ما ستقف عليه قريبا وفي موارده إن شاء الله تعالى.
ودعوى القطع بصدقهم في خصوص روايات الكتب الأربعة - لقرائن دلت على ذلك - لا أساس لها، فإنها بلا بينة وبرهان، فإن ما ذكروه في المقام - وادعوا أنها قرائن تدلنا على صدور هذه الروايات من المعصوم - عليه السلام – لا يرجع شئ منها إلى محصل([20])).
وردّ على الذين يدّّعون أن كل ذلك صادر من المعصومين قائلا:
( أولا: إن أصحاب الأئمة عليهم السلام وإن بذلوا غاية جهدهم واهتمامهم في أمر الحديث وحفظه من الضياع والاندراس حسبما أمرهم به الأئمة عليهم السلام، إلا أنهم عاشوا في دور التقية، ولم يتمكنوا من نشر الأحاديث علنا، فكيف بلغت هذه الأحاديث حد التواتر أو قريبا منه! وهذا ابن أبي عمير حبس أيام الرشيد، وطلب منه أن يدل على مواضع الشيعة وأصحاب موسى بن جعفر عليه السلام، وأن أخته دفنت كتبه عند ما كان في الحبس فهلكت، أو تركها في غرفته، فسال عليها المطر فهلكت. وهكذا حال سائر أصحاب الأئمة عليهم السلام، فإن شدتهم في ما كانوا عليه، وعدم تمكنهم من نشر الأحاديث علنا مما لاشك فيه ذو مسكة. ومع ذلك كيف يمكن دعوى: أنها قطعية الصدور ؟
ثانيا: إن الاهتمام المزبور لو سلمنا أنه يورث العلم، فغاية الأمر أنه يورث العلم بصدور هذه الأصول والكتب عن أربابها، فنسلم أنها متواترة، ولكنه مع ذلك لا يحصل لنا العلم بصدور رواياتها عن ـ المعصومين ـ عليهم السلام، وذلك فإن أرباب الأصول والكتب لم يكونوا كلهم ثقات وعدولا، فيحتمل فيهم الكذب.
وإذا كان صاحب الأصل ممن لا يحتمل الكذب في حقه، فيحتمل فيه السهو والاشتباه.
وهذا حذيفة بن منصور قد روى عنه الشيخ بعدة طرق:
منها: ما رواه بطرقه المعتبرة عن محمد بن أبي عمير عنه رواية: أن شهر رمضان لا ينقص عن ثلاثين يوما ثم قال: ( وهذا الخبر لا يصح العمل به من وجوه: أحدها أن متن هذا الحديث لا يوجد في شئ من الأصول المصنفة، وإنما هو موجود في الشواذ من الأخبار. ومنها: أن كتاب حذيفة بن منصور عري منه، والكتاب معروف مشهور، ولو كان هذا الحديث صحيحا عنه لضمنه كتابه ).
إلى آخر ما ذكره - قدس سره - .
ثالثا: لو سلمنا أن صاحب الكتاب أو الأصل لم يكذب ولم يشتبه عليه الأمر، فمن الممكن أن من روى عنه صاحب الكتاب قد كذب عليه في روايته، أو أنه اشتبه عليه الأمر، وهكذا . .
رابعا: إن الأصول والكتب المعتبرة لو سلمنا إنها كانت مشهورة ومعروفة إلا أنها كانت كذلك على إجمالها، وإلا فمن الضروري أن كل نسخة منها لم تكن معروفة ومشهورة، وإنما ينقلها واحد إلى آخر قراءة أو سماعا، أو مناولة مع الإجازة في روايتها، فالواصل إلى المحمدين الثلاثة إنما وصل إليهم من طريق الآحاد، ولذلك ترى أن الشيخ الصدوق بعد ما ذكر في خطبة كتابه من لا يحضره الفقيه أن: جميع ما أورده فيه مستخرج من كتب مشهورة معروفة أشار إلى طريقه إليها، وقال: ( وطرقي إليها معروفة في فهرس الكتب التي رويتها عن مشايخي وأسلافي رضي الله عنهم ).
فإنه يظهر من ذلك أنه - قدس سره - كان قد ألف فهرسا ذكر فيه طرقه إلى الكتب التي رواها عن مشايخه وأسلافه، فهو إنما يروي الكتب بتلك الطرق المعروفة في ذلك الفهرس، ولكنه لم يصل إلينا، فلا نعرف من طرقه غير ما ذكره في المشيخة من طرقه إلى من روى عنهم في كتابه.
وأما طرقه إلى أرباب الكتب فهي مجهولة عندنا، ولا ندري أن أيا منها كان صحيحا، وأيا منها غير صحيح. ومع ذلك كيف يمكن دعوى العلم بصدور جميع هذه الروايات من المعصومين عليهم السلام.
وعلى الجملة: إن دعوى القطع بصدور جميع روايات الكتب الأربعة من المعصومين عليهم السلام واضحة البطلان. ويؤكد ذلك أن أرباب هذه الكتب بأنفسهم لم يكونوا يعتقدون ذلك)([21]).
ويضيف أبو القاسم الخوئي قائلا: ( وليت شعري إذا كان مثل المفيد والشيخ - قدس سرهما - ، مع قرب عصرهما، وسعة اطلاعهما لم يحصل لهما القطع بصدور جميع هذه الروايات من المعصومين عليهم السلام، فمن أين حصل القطع لجماعة متأخرين عنهما زمانا ورتبة ؟ أو ليس حصول القطع يتوقف على مقدمات قطعية بديهية أو منتهية إلى البداهة ؟).
ويقول أيضا: ( ثم إن في الكافي - ولاسيما في الروضة - روايات لا يسعنا التصديق بصدورها عن المعصوم عليه السلام، ولابد من رد علمها إليهم عليهم السلام.
والتعرض لها يوجب الخروج عن وضع الكتاب، لكننا نتعرض لواحدة منها ونحيل الباقي إلى الباحثين.
فقد روى محمد بن يعقوب بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبدالله عليه السلام في قول الله عز وجل: { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ } [الزخرف: 44] . فرسول الله صلى الله عليه وآله الذكر وأهل بيته المسؤولون وهم أهل الذكر ).
أقول: لو كان المراد بالذكر في الآية المباركة رسول الله صلى الله عليه وآله فمن المخاطب، ومن المراد من الضمير في قوله تعالى:{ لَكَ } ولقومك وكيف يمكن الالتزام بصدور مثل هذا الكلام من المعصوم عليه السلام فضلا عن دعوى القطع بصدوره ؟!
وعلى الجملة: إن دعوى القطع بعدم صدور بعض روايات الكافي عن المعصوم عليه السلام - ولو إجمالا - قريبة جدا، ومع ذلك كيف يصح دعوى العلم بصدور جميع رواياته عن المعصوم عليه السلام ؟ بل ستعرف - بعد ذلك - أن روايات الكتب الأربعة ليست كلها بصحيحة ، فضلا عن كونها قطعية الصدور)([22]).
وعلى هذا فلأي سبب يقطع الشيعة أنهم هم أتباع أهل البيت دون غيرهم؟
لو فرضنا أن ما قاله الإمام هو عين ما قاله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أو حتى عين ما قاله ربنا تبارك وتعالى، لكن لما كان الواصل إلى الشيعة من هذه الروايات هي من باب الآحاد، أو مشكوك في نسبتها إلى الإمام لكثرة الكذابين عليهم، وإنها ليست متسلسلة عن طريق المعصومين، وإن الذين تصدوا لرواية الحديث عن الإمام، والذين تصدوا لجمع مرويات الأئمة وإثباتها في المدونات ليسوا معصومين. فكيف ولماذا يفخرون على أهل السنة وينسبون أنفسهم إلى أهل البيت لأنهم يروون عن جعفر الصادق، أو محمد الباقر، ولا ينسبون أهل السنة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو أصل العترة، مع أنهم أخذوا بسنته الشريفة مباشرة؟
ولماذا لا يكون أهل السنة والجماعة الذين يستندون في دينهم إلى السنة القولية والعملية المسندة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هم أولى من غيرهم بالنبي، وأصح نقلا وأجدر بالتبعية له؟
إذا كان الطرفان يستندون في أحكام دينهم وشريعتهم على نقل غير المعصومين، فلأي سبب يكون النقل عن أهل البيت أولى وأحق من النقل عن رسول الله؟
إننا في الوقت الذي نجل فيه أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم نرى أن الرجوع إلى النقل المباشر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أولى من الرجوع إلى أئمة أهل البيت الذين تعترف الشيعة فيهم أنهم عاشوا في خوف وتقية، وأن الكذبة كثرت عليهم حتى سقط صدقهم بكذب هؤلاء عليهم، وذلك للأسباب التالية:
1. روايات أهل السنة ينتهي سندها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو المتفق على عصمته بين السنة والشيعة. في حين أن أغلب روايات الشيعة ينتهي سندها إلى جعفر الصادق، أو الباقر أو غيرهما. وهؤلاء وإن إعتقد الشيعة بعصمتهم، فإن أهل السنة لا يعتقدون بعصمة أحد غير نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه هو صاحب الرسالة المكلف بتبليغها إلى الناس، أما غيره فناقل عنه. وأين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غيره كائنا من كان؟
2. عدم ورود أحاديث أئمتهم عن طريق سلسلة من المعصومين حتى تدوينها. فلو كانت أحاديثهم مسلسلة بأئمة أهل البيت حتى تدوينها، أو لو ترك أحدٌ من أئمة أهل البيت كتابا مدونا بخط يده، أو بخط أحد أصحابه المباشرين له في حله وترحاله، لكان لهم الحق في أن يفتخروا بأنهم أتباع أهل البيت عليهم السلام! كل هذا لم يحدث، إنما كانت رواياتهم مروية عن طريق سلسلة من الرواة غير المعصومين، ولكن سندها ينتهي بأحد الأئمة. ولو أجرينا مقابلة بين مروياتهم ومرويات أهل السنة لبان لنا أن الناقلين لروايات أهل السنة هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، بما فيهم أهل بيت النبي وأزواجه؛ وسندهم ينتهي إلى صاحب الرسالة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم. فأي الفريقين أحق بالإتباع إن تركتم التعصب والهوى؟
3. جواز تلقي العلم عندهم من غير المعصوم، كقول الإمام : ( أما الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم). وبنى الخميني على هذه الرواية أحكام ولاية الفقيه. فإن جاز الرجوع إلى غير المعصوم في تلقي أحكام الشريعة، فما العيب عند أهل السنة أن يتلقوا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أشخاص عاشوا معه في حله وترحاله؟ وما الضير إذا رجعوا إلى المجتهدين منهم في الحوادث الواقعة التي لا نص فيها في الكتاب والسنة، ألم يقل ربنا تبارك وتعالى: { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } [الأنبياء : 7]؟
4. تصديقهم بالأبواب الأربعة الذين كان الواحد منهم ينقل عن المهدي مع عدم عصمته ومع عدم وجود طريق للتأكد من صدقه!
5. جواز أخذ الأحكام الشرعية عندهم الآن من الفقيه والمجتهد الشيعي، وهو غير معصوم بالإجماع. بل يوجبون على العامي أن يقلد فقيها شيعيا حتى من دون معرفة دلائل أحكامه.
6. إن القرآن الكريم لم يجعل العصمة شرطا في النقل، بل غاية ما جاء به، أن الخبر إذا جاء من طريق من هو مشهور بالفسق، التثبت منه، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات : 6]. ولو كانت العصمة شرطا في الناقلين لبطلت جميع العلوم والمعارف.
وكذلك قوله تعالى: { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها من لم يسمعها، فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)([23]).
كما أن سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعوثه ورسائله وقضاته لتعليم الناس أمور دينهم في القرى والأمصار تدل بوضوح عدم إشتراط العصمة في تبليغ كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
7. الذين نقلوا عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أحاديثه هم أصحابه وأهل بيته بما فيهم أزواجه الذين عاشوا معه في حله وترحاله([24])، أما نقلة أحاديث الشيعة عن أئمتهم فهم في أغلبهم قميون وكوفيون لم يعيشوا مع الإمام، وربما لم يساكنوه في البلد الواحد إلا في سفر أو حج أو عمرة. فعن زرارة قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن أحاديث جابر، فقال: ما رأيته عند أبي قط، إلا مرة واحدة، وما دخل على قط ". قال الخوئي: وأما قول الصادق عليه السلام، في موثقة زرارة: ( ما رأيته عند أبي إلا مرة واحدة، وما دخل علي قط) فلابد من حمله على نحو من التورية . . . علما أن جابر هذا هو (جابر بن يزيد الجعفي) روى سبعين ألف حديث عن الباقر عليه السلام، وروى عن باقي الأئمة مائة وأربعين ألف حديث. والظاهر أنه ما روى أحد ـ بطريق المشافهة ـ عن الأئمة عليهم السلام أكثر مما روى جابر، فيكون عظيم المنزلة عندهم، لقولهم عليهم السلام «اعرفوا منازل الرجال منا، على قدر رواياتهم عنا»([25]).
8. نقلة أحاديث أهل السنة من الأصحاب والآل وإن كانوا غير معصومين، ولكن الله تعالى مدحهم وأثنى عليهم في آيات كثيرة تتلى إلى يوم القيامة. أما أصحاب الأئمة فقد كثر فيهم الكذابون والغالون والمنحرفون حتى أنهم كانوا يشكُون منهم كثيرا. ونقل عن الصادق قوله:( إنّا أهل بيت صادقون لا نخلو من كذّاب يكذب علينا قيسقط صدقنا بكذبه عند الناس )([26]). وجاء عن أبي الحسن - عليه السلام - أنه قال: ( لو ميزت شيعتي لم أجدهم إلا واصفة ولو امتحنتهم لما وجدتهم إلا مرتدين ولو تمحصتهم لما خلص من الألف واحد ولو غربلتهم غربلة لم يبق منهم إلا ما كان لي إنهم طال ما اتكوا على الأرائك، فقالوا: نحن شيعة علي، إنما شيعة علي من صدق قوله فعله )([27]). وعن أبي عبدالله - عليه السلام - قال: ( إن ممن ينتحل هذا الأمر لمن هو شر من اليهود، والنصارى، والمجوس، والذين أشركوا )([28]). وقال أبو عبدالله عليه السلام: ( لقد أمسينا وما أحد أعدى لنا ممن ينتحل مودتنا )([29]). إلى غير ذلك من الروايات التي يطول المقام بنا لو أردنا إستقصاءها.
9. النقل عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أولى لعدم جواز التقية في حق الرسول([30]) صلى الله عليه وآله وسلم مما يجعل من روايات أهل السنة أكثر إعتمادا من روايات الشيعة الذين يجيزون التقية على الإمام حتى لمجرد المخالفة بين أصحابه. يقول شيخ الشيعة يوسف البحراني: ( فصاروا صلوات الله عليهم - محافظة على أنفسهم وشيعتهم - يخالفون بين الأحكام وان لم يحضرهم أحد من أولئك الأنام، فتراهم يجيبون في المسألة الواحدة بأجوبة متعددة وان لم يكن بها قائل من المخالفين، كما هو ظاهر لمن تتبع قصصهم وأخبارهم وتحدى سيرهم وآثارهم)([31]). فمع كون الإمام حجة في الدين، عليه أن لا يلجأ إلى التقية في فتاويه وجواباته عن أسئلة يُسأل بها، وأحكام يُراد معرفتها. لأن ذلك تحريف للدين وتزوير للحقائق. لاسيما أن الأحكام عند الشيعة لا تعرف إلاّ من قبل الإمام، وأنه قائم مقام النبي في تبليغ الأحكام، وأن قوله يجري مجرى قول النبي. والإمام عند الشيعة معصوم، وما قاله أو فعله، يجب إعتباره، وإلاّ فقد حجية الأسوة، والقدوة؛ وحيث أن التقية لا تجوز في حق النبي، لأن ذلك يؤدي إلى تحريف الشريعة، فكذلك الحال مع الإمام.
يقول الأستاذ علي أكبر غفاري: ( ولما كان صلى الله عليه وآله مؤسسا للأحكام الشرعية، لم يجز في فعله احتمال التقية لمنافاة التقية لمنصبه، وكونها من إغراء بالقبيح. وأما الإمام عليه السلام فحيث هو حافظ للسنة وحاك لها، جازت عليه التقية، وعلى ذلك دلت الأدلة القاطعة. نعم، لو فرض حدوث ما لم يعلم جهته إلا منه عليه السلام كان كالنبي صلى الله عليه وآله في عدم جواز التقية عليه)([32]).
وأرى أن هذا القول لا يستقيم مع قول شيخهم محمد رضا المظفر: ( أن الأئمة من آل البيت عليهم السلام ليسوا هم من قبيل الرواة عن النبي والمحدثين عنه ليكون قولهم حجة من جهة أنهم ثقاة في الرواية، بل لأنهم هم المنصوبون من الله تعالى على لسان النبي لتبليغ الأحكام الواقعة . . . ولهذا نعتقد: أنّ الأحكام الشرعية الإلهية لا تستقى إلاّ من نمير مائهم، ولا يصحّ أخذها إلاّ منهم، ولا تفرغ ذمّة المكلَّف بالرجوع إلى غيرهم، ولا يطمئنّ بينه وبين الله إلى أنّه قد أدّى ما عليه من التكاليف المفروضة إلاّ من طريقهم).
10. ليس في روايات ( الكتاب والعترة ) التمسك بأهل البيت ـ وإن كانوا أهلا لأن نتمسك بما صح عنهم ـ ولمزيد من البيان نقول:
لقد وردت هذه الرواية بصيغ متعددة ليس في واحدة منها التمسك بأهل البيت. ونحن نذكر ما صح منها عند أهل السنة والجماعة:
روى الإمام مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم قال: قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فينا خطيبا بما يدعي خم بين مكة و المدينة، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ و ذكر ثم قال:
( أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور من استمسك به وأخذ به كان على الهدى ومن أخطأه ضل فخذوا بكتاب الله تعالى واستمسكوا به وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي ).
فَقَالَ لَهُ حُصَيْنٌ وَمَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ يَا زَيْدُ أَلَيْسَ نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ قَالَ نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَلَكِنْ أَهْلُ بَيْتِهِ مَنْ حُرِمَ الصَّدَقَةَ بَعْدَهُ. قَالَ وَمَنْ هُمْ قَالَ هُمْ آلُ عَلِىٍّ وَآلُ عَقِيلٍ وَآلُ جَعْفَرٍ وَآلُ عَبَّاسٍ. قَالَ كُلُّ هَؤُلاَءِ حُرِمَ الصَّدَقَةَ قَالَ نَعَمْ ).
وفي رواية أخرى: ( فَقُلْنَا مَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ نِسَاؤُهُ قَالَ لاَ وَايْمُ اللَّهِ إِنَّ الْمَرْأَةَ تَكُونُ مَعَ الرَّجُلِ الْعَصْرَ مِنَ الدَّهْرِ ثُمَّ يُطَلِّقُهَا فَتَرْجِعُ إِلَى أَبِيهَا وَقَوْمِهَا أَهْلُ بَيْتِهِ أَصْلُهُ وَعَصَبَتُهُ الَّذِينَ حُرِمُوا الصَّدَقَةَ بَعْدَهُ).
وفي سنن الترمذي عن جابر بن عبد الله قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب فسمعته يقول: ( يا أيها الناس إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي ). قال وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.
وقد وردت روايات أخرى لا يخلو الواحدة منها من ضعف، نذكر منها ما رواه إبن أبي شيبة في المصنف، وإبن أبي عاصم في السنة عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إني تارك فيكم خليفتين، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض).
ومن الملاحظات على هذه الروايات:
الأولى: إنها ـ والله تعالى أعلم ـ كلها ترجع إلى رواية واحدة ولكن بعض الرواة رواها بالمعنى، أو تصرف فيها بما لا يخل بالمعنى. فأصل الرواية ما رواه مسلم في صحيحه في غدير خم.
الثانية: أن جميع صيغ الرواية لم يُذكر في واحدة منها ـ حتى الضعيفة ـ التمسك بأهل البيت عليهم السلام، بل الوصية بالتمسك بكتاب الله تعالى، والوصية بحسن التعامل مع أهل البيت، لاسيما إذا إستحضرنا علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما سيصيب أهل بيته من مصائب بعد موته.
11. لم أجد رواية واحدة صحيحة عن أهل البيت أنهم قالوا نحن معصومون، وأنه لا يجوز أخذ السنة إلا عنهم، بل العكس هو الصحيح؛ فهم من جهةٍ لم يطعنوا في أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نقلهم لأحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم يوجبوا لأحد الرجوع الحتمي إلى أقوالهم دون سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
12. لقد وردت روايات كثيرة في كتب الشيعة توصي بالرجوع إلى سنة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم سواء من قبل الأئمة أنفسهم، أو من قبل المسلمين عامة، نذكر منها:
أ- في الكافي عن أيوب بن الحر قال: سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول: ( كل شئ مردود إلى الكتاب والسنة، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف).
وفيه أيضا عن ابن أبي يعفور في هذا المجلس قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به ومنهم من لا تثق به؟ قال: إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب الله أو من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وإلا فالذي جاء كم به أولى به.
ب- وفيه عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه قال: سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول: من خالف كتاب الله وسنة محمد صلى الله عليه وآله فقد كفر.
وفيه عن حماد، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: سمعته يقول: ما من شئ إلا وفيه كتاب أو سنة.
ت- وفيه عن سماعة، عن أبي الحسن موسى عليه السلام قال: قلت له: أكل شئ في كتاب الله وسنة نبيه صلى اليه عليه وآله؟ أو تقولون فيه؟ قال: بل كل شئ في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله.
وفيه أيضا عن أبان بن تغلب، عن أبي جعفر عليه السلام أنه سئل عن مسألة فأجاب فيها، قال: فقال الرجل: إن الفقهاء لا يقولون هذا، فقال: يا ويحك وهل رأيت فقيها قط؟ ! إن الفقيه حق الفقيه الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، المتمسك بسنة النبي صلى الله عليه وآله.
ث- وفي بحار الأنوار عن ابن حميد رفعه قال: جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال: أخبرني عن السنة والبدعة، وعن الجماعة وعن الفرقة، فقال أمير المؤمنين صلى الله عليه: السنة ما سن رسول الله صلى الله عليه واله والبدعة ما احدث من بعده.
ج- وفي نهج البلاغة عن علي صلى الله عليه وآله وسلم من كلام له عليه السلام قاله قبيل موته على سبيل الوصية لما ضربه ابن ملجم لعنه الله: وصيتي لكم أن لا تشركوا بالله شيئا. ومحمد صلى الله عليه وآله فلا تضيعوا سنته. أقيموا هذين العمودين وخلاكم ذم.
ح- وفيه أيضا من كلام له ( وَارْدُدْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَا يُضْلِعُكَ مِنَ الْخُطُوبِ وَيَشْتَبِهُ عَلَيْكَ مِنَ الْأُمُورِ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِقَوْمٍ أَحَبَّ إِرْشَادَهُمْ: { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } فَالرَّدُّ إِلَى اللَّهِ الْأَخْذُ بِمُحْكَمِ كِتَابِهِ وَالرَّدُّ إِلَى الرَّسُولِ الْأَخْذُ بِسُنَّتِهِ الْجَامِعَةِ غَيْرِ الْمُفَرِّقَةِ)
وفيه أيضا: ( فانظر أيّها السائل؛ فما دلّك القرآن عليه من صفته فائتمّ به، واستضئ بنور هدايته، وما كلّفك الشيطان علمه ممّا ليس في الكتاب عليك فرضه ولا في سنّة النبيّ(صلى اللّه عليه وآله وسلم) وأئمّة الهدى أثره، فكِل علمه إلى اللَّه سبحانه؛ فإنّ ذلك منتهى حقّ اللَّه عليك ).
خ- وفيه: أنه لما كلم عثمان بن عفان رضي الله عنه في بعض الأمور التي نقموها عليه قال له: ( إن الناس ورائي وقد استسفروني بينك وبينهم ووالله ما أدري ما أقول لك ؟ ما أعرف شيئا تجهله، ولا أدلك على أمر لا تعرفه. إنك لتعلم ما نعلم. ما سبقناك إلى شئ فنخبرك عنه، ولا خلونا بشئ فنبلغكه. وقد رأيت كما رأينا، وسمعت كما سمعنا، وصحبت رسول الله صلى الله عليه وآله كما صحبنا. وما ابن أبي قحافة ولا ابن الخطاب أولى بعمل الحق منك، وأنت أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وشيجة رحم منهما. وقد نلت من صهره ما لم ينالا. فالله الله في نفسك، فإنك والله ما تبصر من عمى ولا تعلم من جهل، وإن الطرق لواضحة، وإن أعلام الدين لقائمة … )([33]).
د- وروى الكشي في صحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبدالله عليه السلام: ( ولا تقبلوا علينا حديثا إلا ما وافق الكتاب والسنة أو تجدون معه شاهدا من أحاديثنا المتقدمة، فإن المغيرة بن سعيد - لعنه الله دس - في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدث بها أبي. فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا وسنة نبينا ).
ذ- وفي الكافي عن أبي عبدالله عليه السلام قال: إن ثلاث نسوة أتين رسول الله صلى الله عليه وآله فقالت إحداهن: إن زوجي لا يأكل اللحم، وقالت الأخرى: إن زوجي لا يشم الطيب، وقالت الأخرى: إن زوجي لا يقرب النساء، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله يجر رداء، حتى صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ما بال أقوام من أصحابي لا يأكلون اللحم ولا يشمون الطيب ولا يأتون النساء، أما إني آكل اللحم وأشم الطيب وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني.
ر- وفي وسائل الشيعة عن سدير قال: قال أبو جعفر وأبو عبدالله ( عليهما السلام ): لا تصدق علينا، إلا ما وافق كتاب الله وسنة نبيه ( صلى الله عليه وآله ) .
قلت: هذه الروايات توصي بالرجوع إلى كتاب الله تعالى، وإلى سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فإذا كان كتاب الله تعالى الذي هو هذا القرآن الذي بأيدي المسلمين، فمن اليسير على كل أحد أن يرجع إليه، ويتثبت من موافقة أو مخالفة ما جاء عن الإمام للقرآن الكريم. ولكن كيف لنا أن نعرض ما جاءنا عن الإمام على السنة النبوية؟ الم يقولوا لنا أنه لا يجوز أخذ السنة إلا عن طريق أئمة الشيعة؟ كيف يتسنى لنا عرض ما جاءنا عن طريق الإمام على السنة إن لم تكن السنة النبوية الشريفة معلومة لدى المسلمين. وإلا فمن المحال أن يأمرنا الإمام عرض السنة على السنة!
ز- وأخيرا فسواء وردت هذه الروايات في كتب الفريقين، أم لم ترد، فإن القرآن الكريم قد تكفل بذلك في آيات كثيرة، نذكر منها قوله تعالى: { وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا }[الحشر/7]، وقوله تعالى: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } [النساء/59].
وبهذا تعرف أنه لا معنى لقول الشيعة أنهم متمسكون بأهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم من دون سائر المسلمين، فلأهل السنة والجماعة أن يقولوا: إذا كنتم متمسكين بأهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فنحن متمسكون بسنة جدهم صلى الله عليه وآله وسلم المنقولة إلينا عن طريق السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين رضي الله عنهم وعمن تبعهم إلى يوم الدين. وهل يحتاج الإنسان في هذا إلاّ إلى آية من كتاب ربه جل جلاله توصيه بإتباع من سجل رضاءه عنه في كتابه الكريم. قال تعالى: { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [التوبة/100].
ومن المؤسف جدا أن علماء الشيعة أشاعوا بين عوام الشيعة أن من لم يؤمن بعقيدة الإمامة، وأن أئمة أهل البيت معصومين يعتبر من المعادين لهم، ويتهمونه بالنصب، والعداء لأهل البيت. وسيأتي اليوم الذي يقفون فيه أمام رب العالمين وسيسألهم عن هذا الكذب والإفتراء، وتزوير الحقيقة.
وفيما يلي بيان لأهم مظاهر الحب والولاء التي يكنها فعليا أهل السنة والجماعة لأهل بيت النبي عليه الصلاة والسلام:
1. إتفاق أهل السنة على أن عليا رضي الله عنه كان رابع الخلفاء الراشدين الذين كانت خلافتهم على منهاج النبوة.
2. إتفاقهم على أن سنة علي رضي الله عنه هي داخلة في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ ).
3. إتفاق معظم أهل السنة على تصويب علي في حروبه في الجمل وصفين والنهروان.
4. مذهب جمهور أهل السنة هو تفضيل آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن جملتهم أفضل من جملة غيرهم. وهذا المذهب أقرب إلى موالاة وحب أهل البيت من مذهب الإمامية الذين قصروا فضيلة أهل البيت في إثني عشر إماما منهم دون سائرهم أو جملتهم.
5. ومن موالاة السنة لأهل البيت وقوف أئمة أهل السنة مع من خرج من أهل البيت على خلفاء وولاة الجور.
6. ومنها: أنهم رووا في فضائل أهل البيت الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة، وإفراد المحدثين فضائلهم فردا فردا في مروياتهم وكتبهم.
7. ومنها: أن الخلفاء الذين سبقوا عليا كانوا يستشيرونه في الحروب، والفتيا، وكانوا يقدمون أهل البيت في التقدير والعطاء، حتى على أهل بيتهم.
8. ثم إن من أرفع مراتب التمسك بأهل البيت، هو التمسك بسنة سيد أهل البيت النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، كما فعل المحدثون والفقهاء الذين قضوا أعمارهم في جمع السنن النبوية ومعرفة رجالها وأسانيدها ومعانيها([34]).
إلى غير ذلك من وجوه محبة أهل البيت وموالاتهم. ويكفي من ذلك كله تقريرهم بطلان صلاة من لم يصلِّ عليهم في صلاته.
ولكن كل مظاهر الحب والولاء هذه تذهب أدراج الرياح، ولا قيمة لها عند الشيعة، إذا لم يصاحب هذا الحب والولاء القول بإمامة علي وأحد عشر من بنيه من بعده، والقول بعصمتهم من الذنوب والأخطاء من ولادتهم حتى مماتهم، والبراءة من أبي بكر وعمر وعثمان.
المطلب الثاني
كتاب الله وسنتي
أول ما يستوقفنا في هذا المبحث أننا لا نحتاج فيه إلى رواية توصي بالرجوع إلى كتاب الله تعالى وإلى سنة نبيه، فقد تكفل الله تعالى بيانه في كتابه العزيز، قائلا: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ([35]) إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } [النساء/59]. و { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } [محمد/33] و { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } [النساء/80].
فمن المعلوم أن طاعة الله تعالى هو طاعة ما أمر به ونهى عنه في كتابه الكريم، وطاعة رسوله هو طاعته فيما أمر به ونهى عنه في سنته.
هذا ولم يفرض الله تعالى علينا طاعة مطلقة لغير الله تعالى ولغير رسوله، لأن طاعة رسوله من طاعة الله تعالى بحكم كونه مبلغا عن الله تعالى، وليس غيره كذلك.
ولو كانت هناك جهة ثالثة مأمورون بإتباعها لأمرنا الله تعالى برد تنازُعنا إليه، في حين نرى في الآية السابقة أنه قصّر الرد في التنازع إلى الله تعالى وإلى الرسول.
ومع هذا فقد ورد في السنة النبوية الشريفة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه عنه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهم ( ما تمسكتم بهما ) كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض)([36]).
وقلنا فيما مضى أن سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي من الذكر الذي تكفل الله تعالى بحفظه، لأنها مبينة وشارحة للقرآن، ولأنها من الدين الذي أتمه الله تعالى وأكمله ورضيه لنا. فحفظ كتاب الله تعالى يستوجب حفظ السنة، لأننا نجد بالإضطرار من أنفسنا أنه لولا السنة النبوية الشريفة لغاب عنّا الكثير من تفاصيل الشريعة الإسلامية.
لقد إتفق المسلمون جميعا ـ إلاّ الشيعة([37]) ـ على أن الله تعالى قد تعهد بحفظ كتابه الكريم من التحريف والزيادة والنقصان، ذلك لأنه خاتمة الكتب السماوية لخاتم النبيين، وهذا يستدعي أن يتدخل الله تعالى في حفظه. ولكن هذا الحفظ لم يتم على أيدي ملائكة أنزلهم الله تعالى من السماء ليقوموا بحراسة الكتاب العزيز وبحفظه، ولا جعل فيه من داخله قوة رادعة تفتك بمن يريد تغييره وتحريفه؛ وإنما تم ذلك بأن هيأ الله تعالى لنبيه أصحابا أمناء قامت بهذه المهمة العظيمة، فبعد أن أجمعوا على ما صح عندهم أنه قرآن منزل جمعوه ونسخوا منه عدة نسخ وأرسلوا كل نسخة منها إلى مصر من الأمصار الإسلامية ليكون المرجع الأساس عند الإختلاف، ثم أمروا بحرق بقية النسخ التي كانت عند بعضهم كتبها بمفرده، ليقرأ فيه. وهكذا حفظ هؤلاء العظام كتاب ربهم بكل أمانة ونزاهة وأوصلوه إلى من بعدهم حفظا في الصدور وكتابة في الصحف، حتى وصل إلينا ـ والحمد لله ـ سالما من كل نقص أو تحريف.
هؤلاء الصحابة الذين هم حفظة كتاب الله تعالى الخالد هم أنفسهم حفظة سنة نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم ونقلتها إلى الأجيال من بعدهم. فإما أن لا نثق فيهم في نقل القرآن، أو نثق بنقلهم لسنة نبيهم أيضا.
وعلى هذا الأساس، وتحقيقا للوعد الإلهي في حفظ دينه فقد حفظ لنا الثقاة من الصحابة والتابعين جملة عظيمة من أقوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأفعاله، حفظوا لنا نومه ويقظته، وحركاته وسكناته، وقيامه وقعوده، ومسيره ومغازيه وسراياه، وأكله وشربه، وصفاته الخَلقية والخُلقية، حتى كان هذا النقل من أعظم ما تميزت به الأمة الإسلامية، وخصيصة من خصائصها إنفردت بها من دون سائر الأمم على مر التاريخ.
لقد وضع علماء الحديث قواعد وعلامات يميزون من خلالها صحة الحديث وسلامة متنه وإسناده، قال إبن الجوزي: « مَا أَحْسَنَ قَوْلَ القَائِلِ: كُلُّ حَدِيثٍ رَأَيْتَهُ تُخَالِفُهُ العُقُولُ وَتُنَاقِضُهُ الأُُصُولُ وَتُبَايِنُهُ النُقُولُ فَاعْلَمْ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ ».
وقال الرازي في " المحصول ": « كُلُّ خَبَرٍ أَوْهَمَ بَاطِلاً، وَلَمْ يَقْبَلِ التَّأْوِيلَ، فَمَكْذُوبٌ، أَوْ نَقَصَ مِنْهُ مَا يُزِيلُ الوَهْمَ »([38]).
وقال الدكتور السباعي: ( أما السند فقد قدمنا لك ما اشترطوا في الراوي من العدالة والضبط والحفظ والسماع في كل رَاوٍ في السلسلة إلى أن يصل إلى الصحابي.
وأما المتن فقد تقدم لك ما يرشدك إلى القواعد التي وضعوها لنقده وأهمها:
1 - ألاََّّ يكون ركيك اللفظ، بحيث لا يقوله بليغ أو فصيح.
2 - ألاََّّ يكون مخالفاً لبدهيات العقول، بحيث لا يمكن تأويله.
3 - ألاََّّ يخالف القواعد العامة في الحِكَمِ والأخلاق.
4 - ألاََّّ يكون مخالفًا للحس والمشاهدة.
5 - ألاََّّ يخالف البدهي في الطب والحكمة.
6 - ألاََّّ يكون داعية إلى رذيلة تتبرأ منها الشرائع.
7 - ألاََّّ يخالف العقول في أصول العقيدة من صفات الله ورسله.
8 - ألاََّّ يكون مخالفاً لسنة الله في الكون والإنسان.
9 - ألاََّّ يشتمل على سخافات يصان عنها العقلاء.
10 - ألاََّّ يخالف القرآن أو مُحْكَمَ السُنَّةِ أو المجمع عليه أو المعلوم من الدين بالضرورة، بحيث لا يحتمل التأويل.
11 - ألاََّّ يكون مخالفاً للحقائق التاريخية المعروفة عن عصر إلنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
12 - أن لا يوافق مذهب الراوي الداعية إلى مذهبه.
13 - ألاَّ يخبر عن أمر وقع بمشهد عظيم ثم ينفرد رَاوٍ وَاحِدٌ بروايته.
14 - ألاَّ يكون ناشئا عن باعث نفسي، حمل الراوي على روايته.
15 - ألاَّ يشتمل على إفراط في الثواب العظيم على الفعل الصغير، والمبالغة بالوعيد الشديد على الأمر الحقير)([39]).
ومن الجدير بالذكر أن علم الحديث وما يتصل به من علوم هو خاصة المسلمين دون غيرهم من الملل والنحل، إذ ليس في أمة نبي من الأنبياء البالغ عددهم ـ كما في الخبر 124 ألف نبي ـ قبل نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمة غير أمة الإسلام حفظت أقوال وأفعال نبيها بهذا الكم الهائل، وبهذا الوصف الدقيق.
وعلم الحديث في أمة الإسلام من خاصة أهل السنة والجماعة دون غيرها من المذاهب، أو الفرق المنتسبة إلى الإسلام.
ويشهد لهذا ما قاله علي أكبر الغفاري من علماء الشيعة:
( فقد صنف عدد كبير من أفاضل علماء السنة كتبا في هذا المجال. منهم - القاضي - أبو محمد حسن بن عبد الرحمن الرامهرمزي (ت 360 ق) صاحب " المحدث الفاصل بين الراوي والواعي ". - الحاكم محمد بن عبد الله النيسابوري (ت 405 ق) صاحب " معرفة علوم الحديث ". - الخطيب، أبو بكر أحمد بن علي البغدادي (ت 463 ق) صاحب " الكفاية في معرفة علم الراوية " و " الجامع ". - أبو عمر وعثمان بن عبد الرحمن بن الصلاح (ت 643 ق) صاحب " علوم الحديث ". - الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني (ت 852 ق) صاحب " نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر " و " نزهة النظر " في شرحه. هذا، ومن جانب آخر فقد ألف علماء الشيعة الكرام آثارا قيمة قد بقيت لتدل على التراث الإسلامي العريق. ومما تجدر الإشارة إليه بعد مقارنة بين آثار الشيعة والسنة هو أن الأصول السائدة في تدوين علم الدراية عند الشيعة تأثرت، بصورة رئيسة، بوجهات النظر الأصولية في الفقه والأصول والأسس العقائدية لديهم، واستلهمت من التعابير الموجودة في السنة والعترة النبوية الشريفة صلى الله عليه وآله وسلم. وبناء على هذا فإن الدقة والعمق والعراقة التي تبرز في تصانيف الشيعة في هذا المجال قد ميزت هذا العلم بكثير على الرغم من سبق الآخرين لهم في مجال تدوين مصطلح الحديث ومن أعاظم علماء الشيعة هم: - الشهيد الثاني زين الدين بن على الشامي العاملي (ت 966 ق) صاحب نية القاصدين في معرفة اصطلاح المحدثين " و " البداية في علم الدراية " التي قد شرحها وعلق عليها - عز الدين حسين بن عبد الصمد الحارثي العاملي تلميذ الشهيد الثاني، ووالد شيخنا البهائي (ت 984 ق) صاحب " وصول الأخيار إلى أصول الأخبار ". - أبو منصور حسن بن زين الدين العاملي (ت 1011 ق) الذي قد ذكر في مقدمة كتابه " منتقى الجمان في الأحاديث الصحاح والحسان " أصول علم الحديث. - الشيخ بهاء الدين العاملي (ت 1031 ق) صاحب " الوجيزة في علم دراية الحديث ". - والسيد الداماد مير محمد الباقر الحسينى الأستر آبادى (ت 1041 ق) صاحب " الرواشح السماوية ".)([40]).
ومن خلال الفرق بين تاريخ بداية إهتمام أهل السنة بعلوم الحديث، والذي يبدأ ـ كما ذكر الغفاري ـ بتاريخ ( 360 ق)، وبين بداية إهتمام الشيعة ( 966 ق ) نرى مدى تقدم أهل الستة على الشيعة في علوم الحديث وعلله.
المطلب الثالث
الفرق بين العترة والسنة
بينّا فيما مضى أن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( كتاب الله وعترتي ) ليس بأولى من قوله: ( كتاب الله وسنتي)، فرغم أن الشيعة تعتقد بعصمة أئمتهم، إلاّ أن هذه العصمة تتلاشى وتزول أمام عرض أقوالهم على الكتاب والسنة. فلو لم تكن هذه العصمة مخترعة لما ورد عن أئمتهم قولهم : ( لا تصدق علينا، إلا ما وافق كتاب الله وسنة نبيه ( صلى الله عليه وآله ). ولو لم تكن السنة النبوية الشريفة معلومة للناس في ذلك الوقت، لم يكن أمرهم بعرض أقوالهم على السنة النبوية أي معنى.
ومع كل هذا فقد كان أئمة أهل البيت من أطوع الناس لسنة نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم فلم يكن لهم أن يخرجوا عن سنة نبيهم قيد أنملة، فقد روى العياشي بإسناده عن خيثمة قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ( من حدث عنّا بحديث فنحن سائلوه عنه يوما فإن صدق علينا فإنما يصدق على الله وعلى رسوله وإن كذب علينا فإنما يكذب على الله وعلى رسوله لأنا إذا حدثنا لا نقول قال فلان وقال فلان إنما نقول قال الله وقال رسوله ثم تلا هذه الآية « ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله » الآية ثم أشار خيثمة إلى أذنيه فقال صمتا إن لم أكن سمعته)([41])
فأقوالهم بالتالي ترجع إلى سنة جدهم المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وهي لم تكن حكرا لأهل البيت لا يجوز لغيرهم أن ينقل عنه ما سمعه منه مباشرة، أو سمعه من الثقاة من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم . لأن الصحابة بما فيهم علي بن أبي طالب لم يكن ملازما للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في جميع حالاته، فعلى سبيل المثال فارق النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما ذهب إلى اليمن قبل حجة الوداع، وفارقه عندما أرسله صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة لتبليغ سورة براءة.
ثم أنه صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله: ( فليبلغ الشاهد الغائب ) فلولا أن أصحابه كانوا أهلا للتبليغ لكان أمره بالتبليغ عبثا ـ حاشاه صلى الله عليه وآله وسلم .
ثم أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يرسل رسلا من غير أهل البيت إلى الأمصار والقرى التي كانت تسلم، ليعلمهم أمور دينهم؛ فقد أرسل حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس حاكم مصر، وأرسل دحية الكلبي إلى هرقل عظيم الروم، وأرسل مصعب بن عمير إلى المدينة المنورة يعلمهم دينهم ويقرئهم القرآن، وذلك قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليها، وأرسل معاذ بن جبل إلى اليمن، وقال له: ( إِنَّكَ تَأْتِى قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّى رَسُولُ اللَّهِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ في كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ في فُقَرَائِهِمْ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ )([42]).
كما أن القرآن الكريم قد دل بما لا يقبل الشك، أن تبليغ أحكام الشريعة ليس حكرا على أحد دون أحد، فكل مسلم عدل هو أهل لأن يكون مبلِّغا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وداعيا إلى دينه، قال الله تعالى مخاطبا نبيه صلى الله عليه وآله وسلم: } قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ { [يوسف: 108].
وتتجلى هذه الصورة واضحة في قوله تعالى: } وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ { [التوبة: 122]
قال الشيخ ناصر مكار الشيرازي في تفسير هذه الآية:
( لا شك أنّ المقصود من التفقه في الدين هو تحصيل جميع المعارف والأحكام الإِسلامية، وهي أعم من الأصول والفروع، لأنّ كل هذه الأُمور قد جمعت في مفهوم التفقه، وعلى هذا، فإنّ هذه الآية دليل واضح على وجوب توجه فئة من المسلمين وجوباً كفائياً على الدوام لتحصيل العلوم في مختلف المجالات الإِسلامية، وبعد الفراغ من التحصيل العلمي يرجعون إِلى مختلف البلدان، وخصوصاً بلدانهم وأقوامهم، ويعلمونهم مختلف المسائل الإِسلامية).
وأضاف: ( إِن ممّا لا شك فيه أن علم الفقه على سعته التي نراها اليوم لم يكن له وجود ذلك اليوم، وكان من السهل على المسلمين أن يتعلّموا المسائل من النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لكن هذا لا يعني أنّ علماء الإِسلام كان عملهم هو بيان المسائل فقط، لأن الكثير من هؤلاء كانوا يذهبون إِلى الأماكن المختلفة كقضاة وأمراء، ومن البديهي أن يواجهوا من المسائل مالم يسمعوا حكمها بالذات من النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلاّ أنّها كانت موجودة في عمومات واطلاقات آيات القرآن المجيد. فكان هؤلاء قطعاً يقومون بتطبيق الكليات على الجزئيات ـ وفي الإِصطلاح العلمي: رد الفروع إِلى الأُصول ورد الأُصول على الفروع ـ لمعرفة حكم هذه المسائل، وكان هذا بحد ذاته نوعاً من الإِجتهاد البسيط.
إِنّ هذا العمل وأمثاله كان موجوداً في زمن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتماً، فعلى هذا فإنّ الجذور الأصلية للإِجتهاد كانت موجودة بين أصحاب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولو أنّ الصحابة لم يكونوا جميعاً بهذه الدرجة)([43]).
وقال العلامة الطباطبائي في تفسير هذه الآية:
( ومعنى الآية لا يجوز لمؤمني البلاد أن يخرجوا إلى الجهاد جميعا فهلا نفر وخرج إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) طائفة من كل فرقة من فرق المؤمنين ليتحققوا الفقه والفهم في الدين فيعملوا به لأنفسهم و لينذروا بنشر معارف الدين وذكر آثار المخالفة لأصوله وفروعه قومهم إذا رجعت هذه الطائفة إليهم لعلهم يحذرون ويتقون.
ومن هنا يظهر أولا: أن المراد بالتفقه تفهم جميع المعارف الدينية من أصول وفروع لا خصوص الأحكام العملية وهو الفقه المصطلح عليه عند المتشرعة، والدليل عليه قوله: "لينذروا قومهم" فإن ذلك أمر إنما يتم بالتفقه في جميع الدين وهو ظاهر)([44]).
وأيضا فكما أنه أجاز أئمة أهل البيت لأصحابهم ـ وهم غير معصومين ـ أن ينقلوا ما سمعوه عنهم، أو علّموهم إياهم إلى غيرهم، فهذا الجواز أيضا يسري في حق أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضا.
لقد ورد في الكافي عن أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عليه السلام قَالَ سَأَلْتُهُ وَقُلْتُ: مَنْ أُعَامِلُ أَوْ عَمَّنْ آخُذُ وَقَوْلَ مَنْ أَقْبَلُ؟ فَقَالَ لَهُ: الْعَمْرِيُّ ثِقَتِي فَمَا أَدَّى إِلَيْكَ عَنِّي فَعَنِّي يُؤَدِّي.
ونقل الكشي عن أبي عبدالله أنه قال: ( فإذا أردت حديثنا فعليك بهذا الجالس - وأومأ بيده إلى رجل من أصحابه - فسألت أصحابنا عنه، فقالوا: زرارة بن أعين)([45]).
وفي الإحتجاج عن الإمام المهدي قوله بخط يده:( أما الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم)([46]).
فما من سبب يجعل الرواية مقبولة عن الإمام من قبل أصحابه، إلا وفي أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم أضعاف ما يوجب قبول الرواية عنهم. فلماذا يكون أصحاب الإمام أولى من أصحاب النبي؟!
كما أن التاريخ يشهد أن الإسلام لم يصل إلى أفريقيا ولا إلى الصين ولا إلى أوربا عن طريق أهل البيت، إذ من المعلوم تاريخيا أن أحدا من أئمة أهل البيت لم يصلوا إلى هذه الأماكن؛ اللهم إلاّ أن يُقال أن كل هؤلاء ليسوا مسلمين ـ والعياذ بالله.
ومن هنا لا أرى أن النقل عن أئمة أهل البيت أصح وأولى بالقبول من النقل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا إذا قيل بكفر الصحابة جميعا ـ حاشاهم. وهذا موضوع آخر سنبحثه فيما بعد إن شاء الله تعالى.
ومن الجدير بالتأكيد هنا أن المشكلة بين الشيعة وبين غيرهم من المسلمين، ليست في أصل رواية الحديث، وإنما المشكلة تكمن في مدلول الأحاديث والروايات التي يستندون عليها عند الإستدلال على عقيدة الإمامة.
كما أن هذه المشكلة هي نفسها قائمة بين الطرفين في الآيات التي يستدلون بها في إثبات الإمامة من كتاب الله تعالى.
فأعظم وأكبر دليل لهم من كتاب الله قوله تعالى: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } [المائدة/55]. ينازعهم في دلالتها أهل السنة في رد طويل وعريض ليس هنا محل ذكرها.
وهكذا في إستدلالهم بالسنة النبوية الشريفة. فليست لديهم حديث أو رواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا وهي موجودة عند المسلمين، ولعل أقوى دليل عندهم من السنة النبوية الشريفة على إمامة علي رضي الله عنه هو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( من كنت مولاه فهذا علي مولاه)، فهذا النص وغيره مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: ( أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّى بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى غَيْرَ أَنَّهُ لاَ نَبِىَّ بَعْدِى ) هي مروية في صحاح أهل السنة والجماعة. إلا أنهم لا يتفقون مع الشيعة في الإستدلال بها على الإمامة.
فالمشكلة إذن بين السنة والشيعة ليست في عدالة الصحابة في رواية أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا في كذب الصحابة على نبيهم، ولا في تحريفهم للأحاديث، ولا في كتمان البعض منها. فهم كانوا أمناء في نقل حديث رسولهم صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يبخسوا لا أهل البيت ولا غيرهم من حقهم شيئاً، وإنما مشكلتهم تكمن في الدليل، والإستدلال.
فأبسط ما يُقال للشيعة مثلا في الإستدلال: ما بال القرآن الكريم نص في إثبات أصول الدين ( التوحيد، والنبوة، والمعاد) بعشرات، بل بمئات النصوص الصريحة والقطعية { هن أم الكتاب } ولم ينص بآية واحدة صريحة وقطعية على الإمامة وتوابعها من العصمة وغيرها التي جعلتموها أصلا من أصول الدين وكفّرتم من لم يؤمن بها؟
بل ما بال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ حين خلا القرآن من النصوص القطعية على الإمامة ـ ما باله لم ينص على إمامة وخلافة علي بنص واحد صريح وقطعي على أنه هو الخليفة من بعده؟
نعم لقد إعترف علماؤكم بأن أقوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ( أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ) و ( من كنت مولاه فعلي مولاه ) لا نعلم المراد به إلا استدلالاً وإستنباطا وليس صريحا على الإمامة بل هو من النص الذي يسميه أصحابنا النص الخفي([47]).
والاستنباط لا يجوز دليلاً في أصول الدين وأساسياته، وإتباع المتشابه ممنوع بنص القرآن الحكيم.
وبهذا فليست المشكلة بين الشيعة وبين غيرهم من المسلمين في رواية السنة، وإنما الخلاف في فهم المراد منها، ودلالتها، وحجيتها، وبالتالي يبطل طعنهم في عدالة الصحابة.
كما أن الخلاف بين السنة والشيعة ليس خلافاً في الفروع التي تعالجها السنة النبوية الشريفة، إنما الخلاف بين الطرفين يكمن في أصول الدين، وأصول الدين عند الشيعة مرجعها العقل؛ وليس الكتاب والسنة. فإتهامهم للصحابة في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس له دخل في الخلاف، ولا في تحريف الدين من عدمه.
الفصل الثاني
شبهات الشيعة حول السنة
المبحث الأول
المنع من تدوين الحديث
المبحث الثاني
شبهة وضع الأحاديث
المبحث الثالث
تأخر تدوين السنة
المبحث الرابع
الطعن في عدالة الصحابة
الفصل الثاني
شبهات الشيعة حول السنة
مما يبعث على الأسى والأسف أن تصطف الشيعة إلى جانب المستشرقين من اليهود والنصارى الذين ما برحوا يعملون على تقويض الدين الإسلامي كتاباً وسنةً ليلاً ونهاراً، وراحوا يؤلفون الكتب والمجلدات في الطعن بالقرآن الكريم وبالسنة النبوية الشريفة.
نعم ولكون الشيعة أقلية قليلة في العالم الإسلامي، فإن المستشرقين لم يأبهوا بعقائد الشيعة لاسيما في ما يختلفون فيه مع بقية المسلمين، كما أن كتبهم العقائدية والكلامية كانت محدودة التداول إلا فيما بين من يحصل على درجة الإجتهاد ويسمى بآية الله العظمى، أو حجة الله، أو غيرها من الألقاب المتداولة فيما بينهم، بحجة أن العوام لا يفقهون منها شيئا.
لذلك بقيت أمهات كتبهم بعيدة عن متناول المستشرقين، وهذا الذي جعلهم يتجهون صوب كتب المسلمين من غير الشيعة ليعملوا معاول الهدم والتشكيك فيها.
فبالإستفادة من هذه الكتب الإستشراقية، وما كتبه علماؤهم قديما وحديثا صار الشيعة تحتج بعدد من الشبهات في رد أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الواردة عن طريق أصحاب النبي المدونة في كتب أهل السنة والجماعة، ومن هذه الشبهات:
أولا: المنع من تدوين الحديث
ثانيا: شبهة وضع الأحاديث:
ثالثا: تأخر تدوين السنة
رابعا: الطعن في عدالة الصحابة، بحجة أن فيهم منافقون لا تستطيع الشيعة تمييزهم عن المؤمنين الحقيقيين، كما أنهم يكفرون الصحابة الذين قاتلوا عليا، وغير ذلك من الأمور.
وسنحاول بتوفيق الله تعالى أن نرد على هذه الشبهات ردا علميا بعيدا عن التجريح والتشهير، وبعيدا عن الأسلوب الإنشائي العاطفي الذي ينمق صاحبه الكلام دون أن يقدم دليلا على صحة مدعاه، نسأل الله تعالى أن يجعل فيه منفذا للقلوب.
المبحث الأول
شبهة المنع من تدوين الحديث
تدعي الشيعة أن الخلفاء الذين كانوا قبل علي بن أبي طالب كانوا ينهون الناس عن التحديث بأحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن كتابة أحاديثه، فأدى هذا المنع إلى ضياع كثير من معالم السنة النبوية المباركة. كما أنهم يحتجون بما ورد في صحيح مسلم من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن كتابة أحاديثه وأقواله، وهم يزعمون أن لهم أدلة على ذلك من كتب أهل السنة وهي:
أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أمر أصحابه بكتابة القرآن الكريم وحضهم على ذلك ونهى أصحابه عن كتابة شيء من السنة قولاً كانت أو فعلا وذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم:( لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه )([48])
كما أن كبار الصحابة ومنهم الخلفاء الراشدون كانوا يكرهون رواية الأحاديث ويحذرون منها وكان عمر يهدد رواة الحديث ويتوعدهم وقد حبس عدداً من الصحابة بسبب روايتهم للحديث تنفيذاً لوعيده وتهديده إياهم بعدم رواية الحديث.
الرد على الشبهة وتفنيدها([49]):
يمكن أن نرد على هذه الشبهة في عدة نقاط:
أولا: أما قولهم بأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن كتابة الحديث بينما حضَّ على كتابة القرآن وحفظه وكان له صلى الله عليه وآله وسلم كتبة القرآن فقول مبالغ فيه ويقوم على التدليس وذكر بعض الحق وإخفاء البعض وليس من شك في أن القرآن المجيد قد لقي من العناية بكتابته وحفظه ما لم يكن للسنة النبوية فهو مصدر الدين الأول وهو أعلى من السنة منزلة وقداسة وهو أحق بالعناية والاهتمام بكتابته وحفظه لذلك حظي القرآن من العناية بما لم تحظ به السنة وبخاصة تدوينها وكتابتها والأسباب التي جعلت الصحابة يهتمون بكتابة القرآن فوق اهتمامهم بكتابة السنة كثيرة.
منها: أن القرآن الكريم محدود بحدود ما ينزل به جبريل على قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكتابته والإحاطة به أيسر وهم على ذلك أقدر.
أما السنة النبوية من أقوال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأفعاله فكثيرة ومتشعبة تتضمن أقواله عليه السلام وأفعاله اليومية وعلى مدى ثلاث وعشرين سنة عاشها صلى الله عليه وآله وسلم بينهم وهذا أمر يشق كتابته وتدوينه وبخاصة إذا أخذنا في الاعتبار ندرة أو قلة الكاتبين بين الصحابة رضوان الله عليهم.
ومنها: أن كتابة القرآن ضرورة يفرضها ويحتمها كون القرآن العظيم وحي الله تعالى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلفظه ومعناه ولا تجوز روايته بالمعنى أما السنة فتجوز روايتها بالمعنى ويجوز في السنة أن يقول القائل: " أو كما قال " وما هو من قبيلها وليس ذلك جائزاً في القرآن.
ومنها: أن الكاتبين بين الصحابة رضوان الله عليهم كانوا قلة وليس في مقدورهم أن يكتبوا السنة والقرآن معاً وإذا كان ثمة اختيار بين أيهما يكتب الصحابة العارفون الكتابة فليكن المكتوب هو القرآن وذلك حتى يسلموه لمن بعدهم محرراً مضبوطاً تاماً لم يزد فيه ولم ينقص منه حرف.
ثانيا: وأما احتجاجهم بأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن كتابة غير القرآن، وغير القرآن هو السنة فهو احتجاج باطل من وجوه.
أولها: أن هذا الحديث الذي رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري وهو قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ( لا تكتبوا عني، ومـن كتب عني غير القرآن فليمحه ). هذا الحديث معلول أعله أمير المؤمنين في الحديث أبو عبد الله البخاري وغيره بالوقف على أبي سعيد ". ولو صرفنا نظراً عن هذا فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما نهى عن الكتابة، فقد ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم الإذن بها بل الأمر بها في أحاديث أخر ولذلك قلنا إن استدلالهم فيه تدليس حيث ذكروا حديث النهي ولم يشيروا إلى أحاديث الإذن وهي كثيرة:
منها: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطب يوم الفتح فقال “ إن الله حبس عن مكة القتل – والفيل الشك من البخاري وسلط عليهم رسول الله والمؤمنون .. " ولما انتهى من خطبته جاء رجل من أهل اليمن فقال: اكتب لي يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( اكتبوا لأبي شاه ).([50])
ومنها: ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: " ما كان أحد أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مني إلا عبد الله بن عمرو فقد كان يكتب ولا أكتب"([51]).
ومن ذلك ما روي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن بعض الصحابة حدثه فقال: إنك تكتب عن رسول الله كل ما يقول ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشر يغضب فيقول ما لا يكون شرعاً، فرجع عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره بما قيل له، فقال له الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ( اكتب، فوالذي نفسي بيده ما يخرج من فمي إلا الحق ).([52])
ومنها ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي جحيفة قال: سألت عليا رضي الله عنه هل عندكم شيء ما ليس في القرآن ؟ وقال مرة ما ليس عند الناس ؟ فقال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما عندنا إلا ما في القرآن إلا فهما يعطى رجل في كتابه وما في الصحيفة. قلت وما في الصحيفة ؟ قال العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر. وفي رواية أخرى: ( ما عندنا كتاب نقرؤه إلا كتاب الله غير هذه الصحيفة قال: فأخرجها فإذا فيها أشياء من الجراحات وأسنان الإبل قال: وفيها ( المدينة حرم ما بين عير إلى ثور فمن أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل. ومن والى قوما بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل. وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل ).
وهذه الروايات في الصحيح وهناك غيرها ضعيف وهي كثيرة فإذا ما وازنا بين روايات المنع وروايات الإذن “ وجدنا أبا بكر الخطيب رحمه الله (ت463هـ ) قد جمع روايات المنع فلم يصح منها إلا حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه السابق ذكره وقد بينا أن الإمام أبا عبدالله البخاري قد أعله بالوقف على أبي سعيد وكذلك فعل غيره بينما أحاديث الإذن كثيرة والصحيح منها كثير.
وقد اجتهد العلماء في الجمع بين أحاديث الإذن وأحاديث المنع، فنتج عن ذلك آراء أهمها:
أن ذلك من منسوخ السنة بالسنة أي أن المنع جاء أولاً ثم نسخ بالإذن في الكتابة بعد ذلك وإلى ذلك ذهب جمهرة العلماء، ومنهم ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث وقد قالوا إن النهي جاء أولاً خشية التباس القرآن بالسنة فلما أمن الالتباس جاء الإذن.
أن النهي لم يكن مطلقاً، بل كان عن كتابة الحديث والقرآن في صحيفة واحدة أما في صحيفتين فمأذون به.
أن الإذن جاء لبعض الصحابة الذين كانوا يكتبون لأنفسهم، ويؤمن عليهم الخلط بين القرآن والسنة.
وهناك آراء غير ذلك لكن الذي يتضح من روايات المنع وروايات الإذن أن الإذن جاء آخراً فإن كان نسخ فهو الناسخ للمنع وهذا الذي رواه الجمهور.
وبهذا يسقط استدلالهم بحديث المنع الذي رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه هذا الحديث الذي يعدونه حجر الزاوية في احتجاجهم بعدم تشريعية أو حجية السنة ويكثرون اللجاج به.
ثالثا: وأما دعواهم بأن كبار الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يكرهون رواية الحديث وكان عمر رضي الله عنه يتهدد رواة السنة وأنه نفذ وعيده فحبس ثلاثة من الصحابة بسبب إكثارهم من رواية السنة فهذا كذب يضاف إلى ما سبق من دعاواهم الكاذبة وفيه جانب من التدليس الذي لا يخلو عنه كلامهم.
فأما كراهة الصحابة لرواية الحديث فهذا باطل والحق أنهم كانوا يخشون روايتها ويهابون من ذلك لعظم المسؤولية ووعيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على من يكذب عليه في قوله عليه السلام ( من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار) ولقد كان الصحابة رضوان الله عليهم بين أمرين هم حريصون على كل منهما:
أولهما: تبليغ دين الله إلى من يليهم من الأمة.
ثانيهما: التثبت والتحري الشديد لكل ما يبلغونه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لذلك كان الواحد منهم يمتقع وجهه، وتأخذه الرهبة وهو يروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فالصواب إذن أن الصحابة كانوا يهابون رواية الحديث بسبب شدة خوفهم من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو الخطأ فيما يروون وليس كما يزعم الشيعة أن النهي جاء للحدّ من نشر فضائل أهل البيت (عليهم السلام).
ولو كان الأمر كما تدعي الشيعة، فليقولوا لنا من أخرج فضائل أهل البيت عليهم السلام؟
أليسوا هم أهل السنة والجماعة؟
أليسوا هم الذين أخرجوا حديث: ( من كنت مولاه فهذا علي مولاه) الذي يستدلون به على إمامة علي بن أبي طالب؟
أليسوا هم من أخرجوا : ( حديث الثقلين، وحديث الكساء، وحديث المنزلة، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( لأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ رَجُلاً يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) وحديث ( الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة) وحديث ( فاطمة بضعة مني ). . . إلى غير ذلك من الأحاديث التي يصعب إحصاؤها في مثل هذا البحث.
رابعا: أما دعوى حبس عمر رضي الله عنه ثلاثة من أصحابه هم: عبد الله بن مسعود، وأبو ذر، وأبو الدرداء رضي الله عنهم فهذه رواية ملفقة كاذبة، جرت على الألسنة وقد ذكرها البعض كما تجري على الألسنة وتدون في كتب الموضوعات من الأحاديث والوقائع فليس كل ما تجري به الألسنة أو تتضمنه بعض الكتب صحيحاً وقد تولى تمحيص هذه الدعوى الكاذبة الإمام " ابن حزم " رحمه الله في كتابه : “ الإحكام “ فقال: ( وروي عن عمر أنه حبس ابن مسعود، وأبا الدرداء وأبا ذر من أجل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبعد أن طعن ابن حزم في الرواية بالانقطاع محصها شرعاً فقال: إن الخبر في نفسه ظاهر الكذب والتوليد . . . لأنه قد روي عنه رضوان الله عليه خمسمائة حديث ونيف، على قرب موته من موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فصح أنه كثير الرواية، والحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما في الصحابة أكثر رواية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عمر بن الخطاب، إلا بضعة عشر منهم فقط . . . وقد جاء ما قلناه عن عمر رضي الله نصا دون تأويل، كما أنبأ عبد الله بن ربيع، ثنا محمد بن معاوية القرشي، ثنا ابن خليفة الفضل بن الحباب الجمحي قال: ثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي، ثنا الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن بكير بن عبد الله بن الاشج أن عمر بن الخطاب قال: سيأتي قوم يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنة أعلم بكتاب الله عز وجل).
المبحث الثاني
شبهة وضع الأحاديث
قالوا: إن حَمَلَةَ السنة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم كانوا جنودا للسلاطين والملوك في العصر الأموي والعباسي فكانوا يضعون لهم من الأحاديث ما يوافق رغباتهم ويثبت ملكهم.
الرد على هذه الشبهة:
ولقد أجاب الدكتور مصطفى السباعي على هذا الزعم الباطل في كتابه مكانة السنة في التشريع الإسلامي فقال:
"إن أعداء الإسلام من غلاة الشيعة والمستشرقين ودعاة الإلحاد لم يصلوا ولن يصلوا إلى مدى السمو الذي يتصف به رواة السنة من الترفع عن الكذب حتى في حياتهم العادية بل ولن يصل أعداء الإسلام إلى مبلغ الخوف الذي استقر في نفوسهم بجنب الله خشية ورهبة، ولا مدى استنكارهم لجريمة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى قال منهم من قال بكفر من يفعل ذلك وقَتْلِهِ وعدم قبول توبته.
إن أعداء الإسلام معذورون إذ لم يفهموا عن علمائنا هذه الخصائص لأنه لا يوجد لها ظل في نفوسهم ولا فيمن حولهم، ومن اعتاد الكذب ظن في الناس أنهم أكذب منه واللص يظن الناس لصوصا مثله وإلا فمن الذي يقول في قوم جاهروا بالإنكار على بعض ولاتهم لأنهم خالفوا بعض أحكام السنة وتعرض بعضهم للضرب والإهانة والتنكيل في سبيل الجهر بكلمة الحق من يقول: إن هؤلاء استباحوا لأنفسهم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليضيفوا إلى سنته أحكاما لم يقلها".ا هـ
نعم إن قوما لم يحابوا في حكمهم على الرجال أحدا لا أبا ولا ابنا ولا أخا ولا صديقا ولا شيخا إن ذلك لَعُنوَانُ صدق ديانتهم ونزاهتهم وأمانتهم وعنوان إجلال الحفاظ للسنة النبوية الشريفة وأنها عندهم أغلى من الآباء والأجداد والأولاد والأحفاد فكانوا مضرب المثل في الصدق والتقوى والأمانة.
وهاك أمثلةً على نزاهتهم في حكمهم على الرجال:
1- المُجَرِّحُونَ لآبائهم:
الإمام علي بن المديني سئل عن أبيه فقال: "سلوا عنه غيري" فأعادوا المسألة، فأطرق ثم رفع رأسه فقال: "هُوَ الدِّينُ، إِنَّهُ ضَعِيفٌ".
2- المجرحون لأبنائهم:
الإمام أبو داود السجستاني "صاحب السنن" قال: "ابني عبد الله كذاب". ونحوه قول الذهبي في ولده أبي هريرة: "إنه حفظ القرآن، ثم تشاغل عنه حتى نسيه".
3- المجرحون لإخوانهم:
زيد بن أبي أنيسة قال: "لا تأخذوا عن أخي يحيى المذكور بالكذب".
4- المجرحون لأصهارهم وأختانهم:
شعبة بن الحجاج قال: "لو حابيت أحدا لحابيت هشام بن حسان كان خَتَنِي، ولم يكن يحفظ".
5- المجرحون لبعض أقاربهم:
أبو عروبة الحراني: "قال الذهبي في ترجمة الحسين بن أبي السري العسقلاني: "قال أبو عروبة: هو خال أمي، وهو كذاب".
6- ومن الذين لم يحابوا مشايخهم:
روى الإمام ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن مهدي قال: "اختلفوا يوما عند شعبة، فقالوا: اجعل بيننا وبينك حكما فقال: قد رضيت بالأحول يعني: يحيى بن سعيد القطان، فما برحنا حتى جاء يحيى فتحاكموا إليه فقضى على شعبة وهو شيخه ومنه تعلم وبه تخرج، فقال له شعبة: ومن يطيق نقدك - أو من له مثل نقدك - يا أحول؟!
قال ابن أبي حاتم:
هذه غاية المنزلة ليحيى بن سعيد القطان إذ اختاره شيخه شعبة من بين أهل العلم، ثم بلغ من عدالته بنفسه وصلابته في دينه أن قضى على شعبة شيخه ومعلمه".
وبلغ من نزاهة أئمة الحديث أنهم كانوا لا يقبلون شفاعة إخوانهم للسكوت عمن يرون جرحه وكيف يرتضون تلك الواسطة وهم الذين طعنوا في أبنائهم وآبائهم وإخوانهم لما رأوا منهم ما يستوجب القدح.
أما عن موقف الصحابة والتابعين فمن بعدهم من أئمة الإسلام من ملوكهم وأمرائهم فالنماذج المشرفة الدالة على ذلك كثيرة فمنها على سبيل المثال لا الحصر موقف أبي سعيد الخدري من مروان والي المدينة، وموقـف ابن عمر من الحجاج وموقف الإمام الزهري مع هشـام بن عبد الملك الأموي وغيرهم الكثير والكثير.
فلو كان الصحابة وأهل الحديث يكذبون على النبي صلى الله عليه وآله وسلم محاباة للحكام والسلاطين لأخرجوا أحاديث في فضائل معاوية وهو الذي حكم عشرين سنة أميرا ( واليا على الشام )، وعشرين أخرى خليفة للمسلمين، ولنذكر مثالا واحدا فإن فيه كفاية لمن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد:
فقد روى الإمام مسلم في صحيحه عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِى قِلاَبَةَ قَالَ كُنْتُ بِالشَّامِ في حَلْقَةٍ فِيهَا مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ فَجَاءَ أَبُو الأَشْعَثِ قَالَ قَالُوا أَبُو الأَشْعَثِ أَبُو الأَشْعَثِ. فَجَلَسَ فَقُلْتُ لَهُ حَدِّثْ أَخَانَا حَدِيثَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ. قَالَ نَعَمْ غَزَوْنَا غَزَاةً وَعَلَى النَّاسِ مُعَاوِيَةُ فَغَنِمْنَا غَنَائِمَ كَثِيرَةً فَكَانَ فِيمَا غَنِمْنَا آنِيَةٌ مِنْ فِضَّةٍ فَأَمَرَ مُعَاوِيَةُ رَجُلاً أَنْ يَبِيعَهَا في أَعْطِيَاتِ النَّاسِ فَتَسَارَعَ النَّاسُ في ذَلِكَ فَبَلَغَ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ فَقَامَ فَقَالَ إِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَنْهَى عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ وَالْبُرِّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْحِ بِالْمِلْحِ إِلاَّ سَوَاءً بِسَوَاءٍ عَيْنًا بِعَيْنٍ فَمَنْ زَادَ أَوِ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى. فَرَدَّ النَّاسُ مَا أَخَذُوا فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ فَقَامَ خَطِيبًا فَقَالَ أَلاَ مَا بَالُ رِجَالٍ يَتَحَدَّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَحَادِيثَ قَدْ كُنَّا نَشْهَدُهُ وَنَصْحَبُهُ فَلَمْ نَسْمَعْهَا مِنْهُ. فَقَامَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ فَأَعَادَ الْقِصَّةَ ثُمَّ قَالَ لَنُحَدِّثَنَّ بِمَا سَمِعْنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَإِنْ كَرِهَ مُعَاوِيَةُ - أَوْ قَالَ وَإِنْ رَغِمَ - مَا أُبَالِى أَنْ لاَ أَصْحَبَهُ في جُنْدِهِ لَيْلَةً سَوْدَاءَ. قَالَ حَمَّادٌ هَذَا أَوْ نَحْوَهُ.
فانظر إلى هذا الإصرار من الصحابي على رواية الحديث رغم إعتراض معاوية، وكان من الممكن أن يحرفوا الأحاديث، ويحتجوا بالتقية كما هي حال أئمة الشيعة في تحريف الأحكام .
فلا معاوية كذب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وروى حديثا في فضل نفسه، ولا إستطاع أحد من الصحابة، ولا أحد من التابعين الذين عاصروه، ولا الرواة الذين وثقهم أهل السنة, ولا أئمة الحديث أن ينقلوا في فضله أو مدحه حديثا واحدا عن رسول الله.
يقول شيخ الإسلام إبن تيمية:
( مع إن الحاكم منسوب إلى التشيع وفد طلب منه إن يروي حديثا في فضل معاوية فقال ما يجيء من قلبي ما يجيء من قلبي وقد ضربوه على ذلك فلم يفعل وهو يروي في الأربعين أحاديث ضعيفة بل موضوعة عند أئمة الحديث )([53]).
وذكر الإمام المزي في" تهذيب الكمال " (1/338)، والإمام الذهبي في " السير " (13/130):
( وَقَالَ الوَزِيْرُ ابْنُ حِنْزَابَةُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بنَ مُوْسَى المأَمونِيَّ - صَاحِبُ النَّسَائِيّ - قَالَ : سَمِعْتُ قَوْماً يُنْكِرُوْنَ عَلَى أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيِّ كِتَاب " الخَصَائِص " لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَتَرْكَهُ تَصْنِيْفَ فَضَائِلَ الشَّيْخَيْنِ، فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: دَخَلتُ دِمَشْقَ وَالمُنْحَرِفُ بِهَا عَنْ عَلِيٍّ كَثِيْر، فَصَنَّفْتُ كِتَابَ " الخَصَائِصِ " رَجَوْتُ أَنْ يَهْدِيَهُمُ الله تَعَالَى. ثُمَّ إِنَّهُ صَنَّفَ بَعْدَ ذَلِكَ فَضَائِلَ الصَّحَابَةِ، فَقِيْلَ لَهُ: وَأَنَا أَسْمَعُ أَلاَ تُخْرِجُ فَضَائِلَ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ؟ فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أُخْرِجُ ؟ حَدِيْثَ : " اللَّهُمَّ لاَ تُشْبِعْ بَطْنَهُ " فَسَكَتَ السَّائِلُ .ا.هـ)([54]).
ثم كانت الدولة لبني أمية من بعده، فلو كان هؤلاء يستحلون الكذب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عيب علي لأمتلأ الصحيحان فضلا عن غيرهما بعيبه وذمه وشتمه، فما بالنا لا نجد عن هؤلاء حديثا صحيحا ظاهرا في عيب علي، ولا في فضل معاوية، كما إمتلأت كتب الشيعة ظلما وزورا بمثالب الصحابة وبني أمية وبني العباس؟!([55])
المبحث الثالث
تأخر تدوين السنة
تدعي الشيعة أن تأخر تدوين الحديث أدى إلى ضياع كثير من معالم السنة النبوية المباركة.
وحينما تطعن الشيعة في أحاديث أهل السنة بسبب تأخرهم في تدوين أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فهل كانوا هم أحسن حالا من أهل السنة؟
وهل إستطاعوا أن يحافظوا على تراث وروايات ومدونات أئمتهم وعلمائهم السابقين؟
هل نجحوا في تدوين الحديث النبوي الشريف، وأوصلوها إلى الأجيال اللاحقة منهم؟
لهذا وجب عليّ البحث في تاريخ وطريقة وكيفية تدوين الحديث النبوي من قبل الطرفين في مبحثين مستقلين:
المطلب الأول
تدوين السنة النبوية عند أهل السنة والجماعة
من يقرأ تاريخ العرب قبل الإسلام يرى أن الأمية التي كانت متفشية فيهم قد أورثتهم قوة في الذاكرة، وقابلية عجيبة للحفظ. فكانت العرب تعتمد على حافظتها في حفظ أشعارها وآثارها ومآثرها، ومن شواهده أنا نرى وصول جمهرة عظيمة من قصائدهم التي تحمل لغتهم وثقافة حروبهم وجميع جوانب حياتهم. فلما بعث الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فيهم كانوا يعتمدون في نقل العلم على الحفظ، دون الكتابة، لأن الكتابة كانت قليلة فيهم. حتى قيل أن إبن عباس رضي الله عنه حفظ قصيدة عمر بن أبي ربيعة، والتي مطلعها:
أمن آل نًعم أنت غاد فمبكر . . . وهي خمسة وسبعون بيتًا في سمعة واحدة على ما ذكروا, وليس أحد اليوم على هذا([56]).
ونقل إبن عبدالبر رحمه الله عن إبن شهاب الزهري أنه كان يقول: إني لأمر بالبقيع فأسد آذاني مخافة أن يدخل فيها شيء من الخنا، فوالله ما دخل أذني شيء قط فنسيته.
كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرشد أصحابه إلى الحفظ، ويأمر به، كما جاء في حديث وفد عبد قيس عن إبن عباس رضي الله عنه قال: ( إن وفد عبد القيس لما أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( من الوفد )؟ قالوا: ربيعة قال ( مرحبا بالوفد أو القوم غير خزايا ولا ندامى ) . قالوا يا رسول الله: إن بيننا وبينك كفار مضر فمرنا بأمر ندخل به الجنة ونخبر به مَنْ وراءنا فسألوا عن الأشربة فنهاهم عن أربع وأمرهم بأربع أمرهم بالإيمان بالله قال: ( هل تدرون ما الإيمان بالله )؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: ( شهادة ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة - وأظن فيه - صيام رمضان وتؤتوا من المغانم الخمس ). ونهاهم عن الدباء والحنتم والمزفت والنقير. وربما قال: ( المقير ). قال: ( احفظوهن وأبلغوهن من وراءكم ).
وفي الحديث عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمسجد الخيف من منى فقال: ( نضر الله امرأ سمع مقالتي فحفظها ووعاها وبلغها من لم يسمعها ثم ذهب بها إلى من لم يسمعها ألا فرب حامل فقه لا فقه له ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)([57]).
فالحفظ يثبت بأشياء كثيرة: منها التواتر، ومنها نقل العُدُول الثقات، ومنها الكتابة، والقرآن نفسه لم يكن جَمْعُهُ في عهد أبي بكر بِنَاءً على الرقاع المكتوبة فحسب، بل لم يكتفوا بالكتابة حتى تواتر حفظ الصحابة لكل آية منه، وليس النقل عن طريق الحفظ بأقل صحة وضبط من الكتابة.
روى إبن عبدالبر عن الأوزاعي قوله: ( كَانَ هَذَا الْعِلْمُ شَيْئًا شَرِيفًا إِذْ كَانَ مِنْ أَفْوَاهِ الرِّجَالِ يَتَلاَقَوْنَهُ وَيَتَذَاكَرُونَهُ، فَلَمَّا صَارَ فِي الْكُتُبِ ذَهَبَ نُورُهُ وَصَارَ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ )([58]).
وقديما قال الخليل أحمد:
لَيْسَ بِعِلْمٍ مَا حَوَى الْقِمَطْرُ مَا الْعِلْمُ إِلَّا مَا حَوَاهُ الصَّدْرُ
فالمعول عليه في المحافظة على ما هو حجة وصيانته من التبديل والخطأ هو أن يحمله الثقة العدل حتى يوصله لمن هو مثله في هذه الصفة. وهكذا. سواء أكان الحمل له على سبيل الحفظ للفظه أو الكتابة له أو الفهم لمعناه فهما دقيقا مع التعبير عن ذلك المعنى بلفظ واضح الدلالة عليه بدون لبس ولا إبهام. فأي نوع من هذه الأنواع الثلاثة يكفي في الصيانة ما دامت صفة العدالة متحققة. فإذا اجتمعت هذه الثلاثة مع العدالة كان ذلك الغاية والنهاية في المحافظة. وإذا اجتمعت وانتفت العدالة لم يجد اجتماعها نفعا ولم يغن فتيلا. ولم نأمن حينئذ من التبديل والعبث بالحجة. ومن باب أولى ما إذا انفردت الكتابة عن الحفظ والفهم وعدالة الكاتب أو الحامل للمكتوب. فإنا لا نثق حينئذ بشيء من المكتوب([59]).
حتى لقد ذهب علماء الأصول إلى أنه إذا تعارض حَدِيثًان: أحدهما مسموع والآخر مكتوب، كان المسموع أولى وأرجح.([60])
ويشهد لهذا أن بني إسرائيل حرفوا التوراة بعد أن نزلت إليهم مكتوبة في الألواح، قال تعالى: { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } [الأعراف : 145]
المطلب الثاني
تدوين السنة النبوية عند الشيعة
حينما تجعل الشيعة تأخر تدوين السنة النبوية الشريفة عند أهل السنة مطعنا وسندا ودليلا لهم في رد مرويات الصحابة عن نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم ، نرى هل إستطاعوا هم من تدوين السنة الشريفة وتدوين أقوال أئمتهم وإيصالها إلى الأجيال اللاحقة بدون تأخير.
هل ورثوا من أئمتهم كتبا أو مؤلفات بخط يدهم، أو بخط يد أصحابهم المعاصرين لهم؟
من المعروف أن معاصرة الشيعة لأئمتهم دامت إلى حوالي سنة ( 260هـ) حين بدأت الغيبة الصغرى من ولادة المهدي، فتعاقب على النيابة عنه أربعة أشخاص، كانوا هم وحدهم القادرين على الإتصال بالمهدي ورؤيته دون غيرهم.
إستمرت الغيبة الصغرى حوالي السبعين سنة، إلى أن خرج توقيع من المهدي ينهي الغيبة الصغرى في سنة ( 329هـ ) لتبدأ الغيبة الكبرى التي تستمر إلى قبل قيام الساعة بفترة قصيرة، عندها يخرج مهديهم ويفعل ما لم يفعله آباؤه ولا أجداده من قبل.
في فترة الغيبة الصغرى كانت تخرج من الإمام رقاع مكتوبة بخط يده؛ ولكنهم مع الأسف لم يستطيعوا المحافظة على هذه الرقاع، أو التوقيعات الشريفة ـ كما يسمونها.
ثم أنهم يقولون إن الشيعة كانوا يدونون أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأن أول من دوّن كان علي بن أبي طالب، وأن عندهم مصحف فاطمة، وعندهم الجفر وهو جلد ثور مملوء علما فيه علم الأولين والآخرين، وعندهم الجامعة صَحِيفَةٌ طُولُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً بِذِرَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَإِمْلَائِهِ مِنْ فَلْقِ فِيهِ وَخَطِّ عَلِيٍّ بِيَمِينِهِ فِيهَا كُلُّ حَلَالٍ وَحَرَامٍ وَكُلُّ شَيْءٍ يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْهِ حَتَّى الْأَرْشُ فِي الْخَدْشِ، ثم كانت عندهم الأصول الأربعمائة، وهي التي كان يكتبها أصحاب الأئمة، ومع هذا فلم يصلهم شيء من هذا كله رغم أنهم يعوّلون على الحفظ بالتدوين. بل الأغرب من هذا كله، أنه ليس في يد الشيعة الآن كتاباً واحداً منسوبا إلى أي إمام من أئمتهم الإثنى عشر، ولا لأي واحد من أصحاب أئمتهم، كما هو الحال عند أهل السنة.
وإذا كان الأمر كذلك، أليس من العيب أن تعيب الشيعة على أهل السنة بتضييع السنة النبوية الشريفة لعدم تدوينهم لأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، وليس في أيديهم ما هو مدوّن عن أئمتهم؟
وما هو الذي عندهم أكثر مما عند أهل السنة، في غير الإمامة والعصمة والرجعة، وما إلى ذلك من خصوصياتهم من دون سائر الفرق الإسلامية؟!
ثم أليس الشيعة تطعن في الإمام البخاري وغيره من الذين دوّنوا السنة، بأنهم بتروا بعض الأحاديث، وحرّفوا البعض الآخر منها، وأعرضوا عن فضائل أهل البيت. فما يًقال في الإمام البخاري ممكن أن يًقال في غيره من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم لو كانوا دونوا الأحاديث.
أليس الصحابة مطعون في عدالتهم عند الشيعة، فما الذي كان يفرق بين ما تناقلوه بالحفظ، أو بالكتابة؟!
فعلى سبيل المثال: لنفرض أن أبا هريرة رضي الله عنه كان قد دون هذه الأحاديث التي رواها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فإن الذي يطعن في عدالة أبي هريرة، يمكنه أن يقول: إنه إفترى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودوّن ما لم يقله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أو حرّف وغيّر، وما إلى ذلك من الأقوال.
إن أصحاب هذه الشبهة لم يفرقوا بين كتابة الحديث وتدوينه وتصنيفه:
فالتدوين بدأ منذ عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقلنا فيما مضى أن هناك قسما من الصحابة من الذين كانوا يجيدون الكتابة كانوا يكتبون الحديث لأنفسهم. أما تصنيف الأحاديث على الأبواب في المصنفات والجوامع، فقد تم في أوائل القرن الثاني بين سنة 120 ـ 130 هـ ، بدليل الواقع الذي بين لنا ذلك، فهناك جملة من هذه الكتب مات مصنفوها في منتصف المائة الثانية، مثل جامع معمر بن راشد(154)، وجامع سفيان الثوري(161)، وهشام بن حسان(148)، وابن جريج (150)، وغيرها كثير([61]).
إن البحث عن الإسناد لم ينتظر مائتي سنة كما وقع في كلام الزاعم، بل فتش الصحابة عن الإسناد منذ العهد الأول حين وقعت الفتنة سنة 35 هجرية لصيانة الحديث من الدس، وضرب المسلمون للعالم المثل الفريد في التفتيش عن الأسانيد، حيث رحلوا إلى شتى الآفاق بحثاً عنها واختباراً لرواة الحديث، حتى اعتبرت الرحلة شرطاً أساسياً لتكوين المحدث. فقد روى الحاكم عن الإمام عبد الله بن المبارك أنه قال: " الإسناد من الدين، لولا الإسناد؛ لقال مَنْ شاء ما شاء ". وجاء في مقدمة صحيح مسلم عن ابن سيرين: قال: ( لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم). والفتنة المشار إليها في هذا الأثر هي فتنة مقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه. علما إن الشيعة تصحح نسبة كتاب نهج البلاغة إلى علي بن أبي طالب، وهو غير مسند وبين مدونه وهو الشريف الرضي وبين علي رضي الله عنه أكثر من ( 350 ) سنة!
إن الشيعة تدعي أن أئمتهم عاشوا في تقية وكتمان بسبب ما كانوا يتعرضون له من ظلم وعدوان من قبل حكام الجور، فمن عاش في مثل هذه الأجواء أنى له أن يحفظ للناس دينهم؟! ولهذا يقول آيتهم العظمى السيستاني: ( لم يستطع الأئمة من تدوين الروايات، حيث كانوا معرضين للرقابة الشديدة والتضييق الشديد، ولم يُجزْ لهم المجتمع من نشر الأحكام كاملة)([62]).
ورغم عدم صحة مظلومية أهل البيت، وعدم لجوئهم إلى التقية، فإن الشيعة لما وجدوا الإختلاف الشديد في أحاديث أئمتهم، لم يجدوا منه مخرجا إلاّ بالقول بالتقية ليعللوا إختلاف ما صدر عنهم. وكما يُنقل عن رئيس فرقة البترية سليمان بن جرير الذي قال لأصحابه إن أئمة الرافضة وضعوا لشيعتهم مقالتين، لم يظهروا معها من أئمتهم على كذب أبداً وهما: القول بالبداء، وإجازة التقية.
( وأما التقية: فإنه لمّا كثرت على أئمتهم مسائل شيعتهم في الحلال والحرام وغير ذلك من صنوف أبواب الدين، فأجابوا فيها وحفظ عنهم شيعتهم تلك الأجوبة لتقادم العهد وتفاوت الأوقات لأن مسائلهم لم ترد في يوم واحد ولا في شهر واحد، بل في سنين متباعدة وأشهر متباينة وأوقات متفرقة، فوقع في أيديهم في المسألة الواحدة عدة أجوبة مختلفة متضادة وفي مسائل مختلفة أجوبة متفقة، فلما وقفوا على ذلك منهم ردّوا إليهم هذا الإختلاف والتخليط في جواباتهم وسألوهم عنه وأنكروا عليهم فقالوا: من أين هذا الإختلاف، وكيف جاز ذلك؟
قالت لهم أئمتهم: إنما أجبنا بهذا للتقية ولنا أن نجيب بما أجبنا وكيف شئنا لأن ذلك إلينا ونحن نعلم بما يصلحكم وما فيه بقاؤكم وكف عدوكم عنّا وعنكم فمتى يظهر من هؤلاء على كذب ومتى يُعرف لهم حق من باطل!)([63]).
ولعل هذا القول الذي سننقله من آية الله علي السيستاني يكشف ما نذهب إليه، يقول السيستاني: ( إن الملاحظ في الروايات الصادرة عنهم عليهم السلام عدم التقية في مجال الأصول العقائدية الخاصة بالمذهب، فنرى الروايات كثيرة في العصمة، وعلم الغيب، والمعاجز، والفضائل، والمطاعن على الآخرين، لا تقية ولا خوف أصلا. وكذلك في الفروع الواقعية محل النزاع الشديد كالمتعة، والمسح على الخفين، والعول والتعصيب، فإن الأحاديث صدرت فيها بلا تقية أصلا، بل ألفت فيها الكتب، أمثال اعلام الشيخ المفيد، والإنتصار للسيد المرتضى. فإذا كانت هذه الموارد الحساسة التي يختص بها المذهب دون غيره من المذاهب لا يتقي فيها الأئمة أحدا، مع إنها مورد النزاع فكيف بالموارد الجانبية كبعض الوضوء، وأحكام الشك والسهو تكون صادرة على نحو التقية مع إنها محل الخلاف حتى بين العامة أنفسهم، فمن لا يتقي في أصول الفكر ومهمات المسائل، كيف يتقي في المسائل الفرعية الجانبية؟)([64]).
وأضاف السيستاني أيضا: ( إن الروايات المتحدثة عن التقية تنص على إختصاصها بحال الضرورة فقط، كرواية زرارة المذكورة في الوسائل باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ص468 بسند معتبر عن الباقر عليه السلام : ( التقية في كل ضرورة وصاحبها أعلم بها حين تنزل به)، ومثلها رواية الفضلاء إسماعيل الجعفي وممد بن يحيى ومحمد بن مسلم وزرارة قالوا: سمعنا أبا جعفر يقول: ( التقية في كل شيء يضطر إليه غبن آدم فقد أحله الله)، فإذا كانت التقية في حال الضرورة فقط؛ فكيف يُقال بصدور مئات الروايات عنهم عليهم السلام لأجل الخوف من عالم بعيد عن المجتمع أو مطعون فيه من قبل العامة، من أن هذا ليس من موارد الضرورة؟)([65]).
وإن تعجب فاعجب من شيخهم الطوسي الذي يلقبونه بـ ( شيخ الطائفة ) فقد حكم في كتابه ( الإستبصار فيما اختلف من الأخبار )على كل ما يوافق أهل السنة بأن الإمام قال ذلك تقية، فأراد بذلك أن يزيل التناقض والإختلاف بين أحاديث أئمته، ولكنه أساء إليهم إذ نسب التقية إليهم في كل صغيرة وكبيرة، دون أن يعلم أن هذا يعني تحريف الشريعة من قبل الإمام من غير ضرورة تلجئه إلى ذلك!
وبعد هذا، فلينظر العاقل إلى تاريخ تدوين السنة الشريفة بين أهل السنة والشيعة ليرى من منهما له السبق في هذا المجال؟
ثم لينظر إلى عدد الرواة بين الجامع للحديث النبوي وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو حتى الإمام في كلا الطرفين.
لقد إخترعوا عصمة الإمام، وأن ما قاله الإمام هو عين ما قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ومع كل هذا لم تصلهم روايات أئمتهم إلا عن طريق سلسلة رواة هم يعترفون بعدم عصمتهم.
وهنا أود الإشارة إلى أن أعظم كتاب عندهم يبحث في الأصول هو كتاب الكافي لشيخهم الكليني الذي عاصر المهدي في الغيبة الصغرى، إلا أنه لم يروِ عنه مباشرة، ولا روى عن أحد وكلائه الأربعة الذين تعاقبوا على بابه.
فإذا كان هذا هو حال الشيعة في الرواية، أو في المحافظة على مرويات أئمتهم، وإذا كان هذا حال أئمتهم في التقية وتحريف الشريعة بدون ضرورة ملجئة؛ فبأي وجه حق يتطاولون على أهل السنة، ويطعنون في أحاديث أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟
لقد صدق شاعرنا حين قال:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم.
وإليك عزيزي القاريء مثالاواحدا من سند الروايات الصحيحة لكل من الشيعة وأهل السنة، ومن أصح كتب الفريقين لتتطلع بنفسك على عدد الأشخاص الذين يدخلون في رواية كل حديث إبتداء من رسول الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم وحتى تدوينه في كتب كل فريق؛ وكن أنت الحكم فيه حتى في حال الإعتراف بعقيدة عصمة الإمام التي إنفرد بها الشيعة دون غيرهم من الفرق الإسلامية:
مثال من كتب الشيعة:
الرواية من الكافي ج : 1 ص : 176
بَابُ الْفَرْقِ بَيْنَ الرَّسُولِ وَالنَّبِيِّ وَالْمُحَدَّثِ:
مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ عَنِ الْأَحْوَلِ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام عَنِ الرَّسُولِ وَالنَّبِيِّ وَالْمُحَدَّثِ؟ قَالَ: الرَّسُولُ الَّذِي يَأْتِيهِ جَبْرَئِيلُ قُبُلًا فَيَرَاهُ وَيُكَلِّمُهُ فَهَذَا الرَّسُولُ وَأَمَّا النَّبِيُّ فَهُوَ الَّذِي يَرَى فِي مَنَامِهِ نَحْوَ رُؤْيَا إِبْرَاهِيمَ وَنَحْوَ مَا كَانَ رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم مِنْ أَسْبَابِ النُّبُوَّةِ قَبْلَ الْوَحْيِ حَتَّى أَتَاهُ جَبْرَئِيلُ عليه السلام مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِالرِّسَالَةِ وَكَانَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وآله وسلم حِينَ جُمِعَ لَهُ النُّبُوَّةُ وَجَاءَتْهُ الرِّسَالَةُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يَجِيئُهُ بِهَا جَبْرَئِيلُ وَيُكَلِّمُهُ بِهَا قُبُلًا وَمِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَنْ جُمِعَ لَهُ النُّبُوَّةُ وَيَرَى فِي مَنَامِهِ وَيَأْتِيهِ الرُّوحُ وَيُكَلِّمُهُ وَيُحَدِّثُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ يَرَى فِي الْيَقَظَةِ وَأَمَّا الْمُحَدَّثُ فَهُوَ الَّذِي يُحَدَّثُ فَيَسْمَعُ وَلَا يُعَايِنُ وَلَا يَرَى فِي مَنَامِهِ.
هذه الرواية صححها كل من:
1. المظفر في كتاب الشافي في شرح الكافي
2. البهبودي في صحيح الكافي
3. المجلسي في مرآة العقول
أما عدد الرواة وصولا إلى الإمام محمد الباقر ( أبو جعفر ) فهم كل من:
1. محمد بن يعقوب الكليني: صاحب كتاب الكافي، المتوفى ( 329 هـ ) يروي عن:
2. محمد بن يحي، يروي عن:
3. أحمد بن محمد، يروي عن:
4. الحسن بن محبوب، يروي عن:
5. الأحول: وهو: محمد بن علي النعمان أبي جعفر الاحول الملقب بـ( مؤمن الطاق ) عند الشيعة، وبـ ( شيطان الطاق ) عند أهل السنة يروي عن:
6. محمد الباقر، الإمام المعصوم السادس تسلسله عند الشيعة.
وأما عدد الرواة وصولا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهم كل من:
1. علي بن الحسين الذي يروي عنه محمد الباقر
2. الحسين بن علي الذي يروي عن أبيه الحسين
3. علي بن أبي طالب الذي يروي عن الرسول
4. رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم
فالمجموع 6 + 4 = 10 أشخاص مجموع سند الرواية إبتداء من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنتهاء بصاحب الكافي الذي دوّن الرواية في كتابه الكافي. علما أن دين الشيعة يُنسب إلى الإمام جعفر الصادق، لأن أغلب روايات كتبهم هو من أقوال جعفر بن محمد الباقر، وهذا يعني في أحيان كثيرة إضافة شخص آخر إلى السند في كلا الحالتين، لأن أغلب الرواة عاصروا محمد الباقر ربما لم يلحقوا زمن جعفر الصادق. وهذا يعني بالتالي إضافة شخص واحد للسند بين جعفر الصادق وبين صاحب الكافي، كما أنه يعني إضافة شخص آخر في السند بين جعفر الصادق وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فالمجموع إذن من الممكن أن يصل إلى ( 12 ) شخص. فتأمل رعاك الله!!
مثال من كتب أهل السنة:
الرواية من صحيح البخاري - (ج 1 / ص 12): كتاب الإيمان:
باب الإيمان وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( بني الإسلام على خمس ):
حدثنا عبيد الله بن موسى قال اخبرنا حنظلة بن أبي سفيان عن عكرمة بن خالد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان ).
عدد الرواة وصولا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فهم كل من:
1. محمد بن إسماعيل البخاري المتوفى ( 256 هـ )، يروي عن:
2. عبيدالله بن موسى، وهو يروي عن:
3. حنظلة بن أبي سفيان، الذي يروي عن:
4. عكرمة بن خالد، وهو يروي عن:
5. إبن عمر ( عبدالله بن عمر ) الذي يروي عن:
6. رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فحتى لو سلّمنا ـ جدلا ـ بعصمة أئمة الشيعة، فعدد الأشخاص الذي يدخلون في السند عند أهل السنة أقل من عدد الأشخاص الذين يدخلون في روايات الشيعة. وهذا يعني بالضرورة تقدم تدوين الحديث عند أهل السنة على تدوين الحديث عند الشيعة، لاسيما إذا لاحظنا تاريخ وفاة كل من الإمام البخاري والكليني، وما بينهما من تفاوت كبير!!
المبحث الرابع
الطعن في عدالة الصحابة
بداية أقول: الطعن في عدالة الصحابة فرع وأثر من آثار عقيدة الإمامة، لأن الصحابة في نظر الشيعة ـ مهما كان لهم من جهاد وتضحية في سبيل الإسلام ـ فإنهم في نهاية المطاف قد عصوا أمر نبيهم في خليفته ـ فبذلك أسقطوا جميع ما لديهم من حسنات ـ إن كانوا يعترفون بأن لهم حسنات.
فالخليفة الأول أبو بكر الصديق ـ في نظرهم ـ أول مغتصب للخلافة، ولم يكتف بغصبه الخلافة لنفسه، بل إغتصبها مرة ثانية حينما أعطاها لعمر من بعده، وهو الذي منع فاطمة إرثها في فدك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو الذي فعل كذا وكذا.
وما يقال في أبي بكر يقال في عمر وعثمان، وغيرهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فهل يبقى لمثل هؤلاء أي إعتبار في نظر الشيعة؟!
وهل نريد من الشيعة أن يؤمنوا أو يصدقوا بشيء إسمه عدالة الصحابة؟
وهل من كان مطعونا في عدالته يكون أهلا لأن يُؤخذ بمروياته عن رسول الله؟
يقول قاضي القضاة عبدالجبار المعتزلي: ( وكثيراً تسأل الإمامية عمّا كان من عثمان في تولية أقاربه وغير ذلك، وفي سير طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة، وما ذاك إلا لضعفهم وانقطاعهم لأن عثمان لو لم يولِّ أقاربه ولم يصنع ما صنع لكان كافراً مشركاً عندهم بادعائه الإمامة لنفسه ولأبي بكر وعمر، ولو كان طلحة والزبير وعائشة في عسكر أمير المؤمنين وفي المحاربين معه ما كانوا إلاّ مشركين باعتقادهم إمامة أبي بكر وعمر وعثمان، فكلام الإمامية في هذا الكلام مسلم لو كلم اليهود في وجوب النية في الطهارة، أو كلم النصارى في استحلالهم الخمر، وإنما يكلم في هذا من قال: لا ذنب لعثمان إلا ما أتاه من الحمى وتولية الأقارب ولو لا ذلك لكان مثل عمر، ومن قال: لا ذنب لطلحة والزبير وعائشة إلا مسيرهم إلى البصرة ولو لا ذلك لكانوا مثل أبي عبيدة وعبد الرحمن وابن مسعود. فاعرف هذا ولا تكلمهم فيه البتة، وكلمهم فيما يدعونه من النص فهو الأصل)([66]).
لابد من بديل:
إذا كان أكثر الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ حسب معتقد الشيعة ـ ليسوا بأهل لرواية ونقل أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولما كان المنقول عن علي رضي الله عنه لا يغطي ربع عشر الشريعة فكان لابد من إيجاد بديل لهؤلاء الصحابة الذين عاشوا مع النبي حياته، ثم أصبحوا خلفاءه من بعده.
كان البديل عن الصحابة أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولما لم يكن في أهل البيت عليهم السلام من عاصر النبي وصحبه غير علي؛ وعلي وحده لا يمكن أن يحيط بجميع جوانب الشريعة، فكان لابد من القول بعصمته حتى لا يُقال فيه أنه أخطأ أو نسي شيئا.
ولما لم يرد عن علي رضي الله عنه لا في كتب أهل السنة ولا في كتب الشيعة ما يكفي لتغطية الشريعة ونقلها إلى الأجيال اللاحقة، فكان لابد من القول بوجود معصومين من بعده لحفظ الشريعة ونقلها.
ولما كان أكثر المنقول في كتب الشيعة ليست مسندة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكان لابد من القول بأن ما قاله الإمام هو عين ما قاله النبي([67])، بل قالوا: يجوز أن تقول لما قاله الإمام، قال الله تعالى.
وكان لابد في نقل الشريعة وحفظها من معصومين متسلسلين حتى لا يقع إنقطاع في النقل المعصوم، فساروا على هذا الطريق ـ رغم ما إعترض طريقهم في هذا من عقبات كنقل الإمامة بين الأخوين، أو صغر عمر الإمام، أو إدعاء الإمامة من غير المعصومين من أولاد الإمام ـ إلى أن إنسد الطريق أمامهم وأُغلق بشكل نهائي حينما مات الحسن العسكري من غير ولد، فاخترعوا له ولدا لا يراه أحد غير البواب.
تناقلت هذه النيابة عن الإمام المهدي بين أربعة أشخاص، وأطلقوا على هذه الفترة إسم ( الغيبة الصغرى ) فلما رأى آخرهم أن الأمر لا يمكن أن يستمر هكذا إلى الأبد، وخوفا من إفتضاح أمره أخرج لهم توقيعا من الإمام يقول:
( بسم الله الرحمن الرحيم يا علي بن محمد السمري أعظم الله أجر إخوانك فيك: فانك ميت ما بينك وبين ستة أيام فاجمع أمرك ولا توص إلى أحد فيقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة التامة فلا ظهور إلا بعد إذن الله تعالى ذكره وذلك بعد طول الامد وقسوة القلب وامتلاء الارض جورا وسيأتي شيعتي من يدعي المشاهدة ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذاب مفتر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)([68]).
ولأهمية موضوع الصحابة وكونه الفيصل بين السنة والشيعة فسأتناوله في فصل مستقل بشيء من التفصيل والإسهاب.
الفصل الثالث
الصحابة أم المهاجرون والأنصار
وفيه المباحث التالية:
المبحث الأول: صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل إسلامهم
المبحث الثاني: عدم وجود النفاق في مكة
المبحث الثالث: تمايز المنافقين عن السابقين
الفصل الرابع: دلائل التمييز بين الصحابة والمنافقين: وفيه المطالب التالية:
المطلب الأول: ماذا قال القرآن في التمييز بين الصحابة والمنافقين؟
المطلب الثاني: من الذي يحدد السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار؟
المطلب الثالث: هل للصحابة خصوصية في مسألة العدالة؟
المبحث الخامس: أسباب طعن الشيعة بالصحابة. وفيه المباحث التالية:
المطلب الأول: الإمامة وأثرها في عدالة الصحابة.
المطلب الثاني: الذنوب والمعاصي وأثرها على عدالة الصحابة.
المبحث السادس: الحروب الداخلية بين المسلمين وأثرها في عدالة من شارك فيها. وفيه المباحث التالية:
المطلب الأول: رأي أهل السنة والجماعة في عدالة الصحابة.
المطلب الثاني: رأي الشيعة في عدالة الصحابة.
المطلب الثالث: حكم الفئة الباغية.
المطلب الرابع: الفرق بين الباغي المتعمد والمتأول.
المطلب الخامس: الفاسق وعدالته في رواية الحديث.
المطلب السادس: الفرق بين حق الله تعالى وبين حقوق العباد.
الفصل الثالث
الصحابة أم المهاجرون والأنصار
إن من يقرأ مطاعن الشيعة في أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجدها عامة وشاملة لكل الصحابة دون تفريق بين السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وبين الذين أسلموا بعد الفتح، أو الطلقاء منهم الذين تأخر إسلامهم.
بل إن تلك المطاعن لا تفرق بين السابقين منهم وبين المنافقين الذين تستروا بإسم الصحبة من أمثال عبدالله بن أبي بن سلول؛ بل ربما تجد الطعن بأبي بكر وعمر أكثر وأشد من الطعن بإبن سلول، فهل حقيقةً يصعب التمييز بين السابقين من الصحابة واللاحقين، وهل يصعب التمييز بين المهاجرين والأنصار منهم، وبين المنافقين؟
رغم أن إيمان السابقين الأولين من المهاجرين من أمثال أبي بكر وعمر والأنصار الذين آووا ونصروا لا يخفى حتى على أعداء المسلمين قديما([69]) وحديثا([70])، إلا أننا ومن باب إقامة الحجة على عوام الشيعة الذين غُرِّر بهم من قبل بعض علمائهم، سنحاول الإجابة على هذه التساؤلات بالحجج والبراهين التي تزيح الغشاوة عن العيون ليبصروا الحق والحقيقة كالشمس في رابعة النهار، وسنوجز القول فيها في المباحث التالية:
المبحث الأول: صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل إسلامهم
المبحث الثاني: عدم وجود النفاق في مكة
المبحث الثالث: تمايز المنافقين عن السابقين
المبحث الرابع: دلائل التمييز بين الصحابة والمنافقين: وفيه المباحث التالية:
المطلب الأول: ماذا قال القرآن في التمييز بين الصحابة والمنافقين؟
المطلب الثاني: من الذي يحدد السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار؟
المطلب الثالث: هل للصحابة خصوصية في مسألة العدالة؟
المبحث الخامس: أسباب طعن الشيعة بالصحابة. وفيه المباحث التالية:
المطلب الأول: الإمامة وأثرها في عدالة الصحابة.
المطلب الثاني: الذنوب والمعاصي وأثرها على عدالة الصحابة.
المبحث السادس: الحروب الداخلية بين المسلمين وأثرها في عدالة من شارك فيها. وفيه المطالب التالية:
المطلب الأول: رأي أهل السنة والجماعة في عدالة الصحابة.
المطلب الثاني: رأي الشيعة في عدالة الصحابة.
المطلب الثالث: حكم الفئة الباغية.
المطلب الرابع: الفرق بين الباغي المتعمد والمتأول.
المطلب الخامس: الفاسق وعدالته في رواية الحديث.
المطلب السادس: الفرق بين حق الله تعالى وبين حقوق العباد.
المبحث الأول
أصحاب النبي قبل إسلامهم
كان الصحابة قبل نبيهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم أهل كفر في تفرقهم واجتماعهم، يجمعهم أعظم الأمور: الكفر بالله وابتداع ما لم يأذن به الله. فنقلهم من الكفر والعمى، إلى الضياء والهدى.
قال تعالى:{ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]
يقول الشيخ مكارم الشيرازي :
( إن أهمية هذه النعمة العظمى (البعثة النبوية) إنما تتضح تمام الوضوح وتتجلى تمام الجلاء عندما يقاس الوضع الذي آلوا إليه بالوضع الذي كانوا عليه، وملاحظة مدى التفاوت بينهما وهذا هو ما يعنيه قوله : { وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }.
وكأن القرآن يخاطبهم قائلاً : إرجعوا إلى الوراء وانظروا إلى ما كنتم عليه من سوء الحال قبل الإسلام، كيف كنتم، وكيف صرتم ؟
إن الجدير بالتأمل هو وصف القرآن الكريم للعهد الجاهلي بقوله: ( ضَلَالٍ مُبِينٍ ) لأن للضلال أنواعاً وأصنافاً: فمن الضلال ما لا يمكن معه للإنسان أن يميز بين الحق والباطل، والخطأ والصواب بسهولة . . )([71])
والملاحظ أن الله تعالى إمتن بهذه الآية على الجمع من المؤمنين، فمن هم هؤلاء المؤمنين؟
من المؤكد أن هذه الآية لا تشمل أئمة الشيعة، لأنهم ـ وحسب المعتقد الشيعي ـ لم يكونوا في ضلال مبين؛ لأنهم معصومون من الولادة إلى الممات. فما بقي لدينا غير أبي بكر وعمر وعثمان ومَنْ على شاكلتهم، فهم الذين كانوا في الشرك والضلال فأخرجهم الله تعالى بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإيمان. فإن لم يكونوا مؤمنين فما وجه الإمتنان بهذه الآية؟!
وقال تعالى أيضا:{ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا } [آل عمران: 103].
قال الطبرسي:
( والمعنى احفظوا نعمة الله ومنته عليكم بالإسلام وبالائتلاف ورفع ما كان بينكم من التنازع والاختلاف فهذا هو النفع الحاصل لكم في العاجل مع ما أعد لكم من الثواب الجزيل في الأجل « إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم » بجمعكم على الإسلام ورفع البغضاء والشحناء عن قلوبكم « فأصبحتم بنعمته » أي بنعمة الله « إخوانا » متواصلين وأحبابا متحابين بعد أن كنتم متحاربين متعادين وصرتم بحيث يقصد كل واحد منكم مراد الآخرين لأن أصل الأخ من توخيت الشيء إذا قصدته وطلبته « وكنتم على شفا حفرة من النار » أي وكنتم يا أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) على طرف حفرة من جهنم لم يكن بينها وبينكم إلا الموت فأنقذكم الله منها بأن أرسل إليكم رسولا وهداكم للإيمان ودعاكم إليه فنجوتم بإجابته من النار وإنما قال « فأنقذكم منها » وإن لم يكونوا فيها لأنهم كانوا بمنزلة من هو فيها من حيث كانوا مستحقين لدخولها، قال أبو الجوزاء: قرأ ابن عباس « وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها » وأعرابي يسمع فقال: والله ما أنقذهم منها وهو يريد أن يقحمهم فيها، فقال ابن عباس: اكتبوها من غير فقيه)([72]).
وقال مكارم الشيرازي:
( ويريد سبحانه من قوله هذا: أنكم كنتم على حافة السقوط والإنهيار في الهاوية، وأن سقوطكم كان محتملاً في كلّ آن ومتوقعاً في كلّ لحظة، لتصبحوا بعد السقوط رماداً، وخبراً بعد أثر، ولكن الله نجاكم من ذلك السقوط المرتقب، وأبدلكم بعد الخوف أمناً، وبدل الإنهيار إعتلاء ومجداً، وهداكم إلى حيث الأمن والأمان في رحاب الأُخوة والمحبة. والنار في هذه الآية : هل هي نار الجحيم، أو نيران هذه الدنيا ؟ فيها خلاف بين المفسّرين، ولكن النظر في مجموع الآية يهدي إلى أن النار كناية عن نيران الحروب والمنازعات التي كانت تتأجج كلّ لحظة بين العرب في العهد الجاهلي بحجج واهية، ولأسباب طفيفة.
فإن القرآن يصور بهذه العبارة الوضع الجاهلي المتأزم ويصور أخطار الحروب المدمرة التي كانت تتهدد حياة الناس في كلّ لحظة بالفناء والدمار والإنهيار، وما منَ به الله سبحانه عليهم من النجاة والخلاص من ذلك الوضع في ظل الإسلام وبفضل تعاليمه، والذي بسببه تخلّص المسلمون أيضاً من نار جهنم، وعذابه الأليم.
ولمزيد من التأكيد على ضرورة الإعتصام بحبل الله مع الإعتبار بالماضي والحاضر، يختم سبحانه الآية بقوله ( كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون )([73]).
وقال العلامة الطباطبائي:
( قوله تعالى:{ وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها }، شفا الحفرة طرفها الذي يشرف على السقوط فيها من كان به. والمراد من النار إن كان نار الآخرة فالمراد بكونهم على شفا حفرتها أنهم كانوا كافرين ليس بينهم وبين الوقوع فيها إلا الموت الذي هو أقرب إلى الإنسان من سواد العين إلى بياضها فأنقذهم الله منها بالإيمان)([74]).
وفي تفسير العياشي عن أبى عبدالله عليه السلام قال: أبشروا بأعظم المنن عليكم قول الله " وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها " فالانقاذ من الله هبة والله لا يرجع من هبته.
وقال تعالى: { هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [الأنفال: 62، 63]
قال مكارم الشيرازي: ( لأنّ الله { هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ }. فكم أرادوا بك كيداً، وكم مهدوا وأعدّوا لك من خطط مدمّرة بحيث لم تكن الغلبة عليها بالوسائل المألوفة ممكنةً، لكنّه عزّ وجلّ حفظك ورعاك في مواجهة كل ذلك.
أضف إِلى ذلك أنّ المؤمنين المخلصين قد أحاطوا بك من كل جانب ولم يدخروا وسعاً في الدفاع عنك، فقد كانوا قبل ذلك متشتتين متعادين، ولكنَّ الله شرح صدورهم بأنوار الهداية { وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ }.
وقد كانت الحرب لسنوات طويلة قائمة على قدم وساق بين طائفتي الأوس والخزرج وكانت صدورهم تغلي غيظاً وحقداً بعضهم على بعض بشكل لم يكن أي أحد يتصور أنّهم سيعيشون بعضهم مع بعض بالحب والصفاء في يوم ما، وسيكونون صفاً واحداً متراصاً، ولكن الله القادر المتعادل فعل ذلك ببركة الإسلام وفي ظلال القرآن، ولم يكن هذا الأمر مقتصراً على الأوس والخزرج الذين هم من الأنصار، بل كان ذلك بين المهاجرين أيضاً الذين جاءوا من مكّة، إذ لم يكن بينهم ـ قبل الإِسلام ـ حب ومودّة، بل كانت صدورهم مليئة بالبغضاء والشحناء أيضاً، لكن الله عزّ وجلّ غسل كل تلك الأحقاد وأزالها بحيث تمكن معها ثلاثماثة وثلاثة عشر من أبطال بدر، منهم حوالي ثمانين نفراً من المهاجرين والباقي من الأنصار، فكانوا جيشاً صغيراً، لكنّه متحدّ قوي استطاع أن يكسر شوكة العدوّ ويحطم قوته.
ثمّ تضيف الآية أن اتّحاد تلك القلوب، أو إيجاد تلك الألفة، لم يكن بوسائل مألوفة أو مادية { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ }.
إنّ الذين يعرفون حالة نفوس المتعصبين والحاقدين، كأُولئك الذين كانوا في العصر الجاهلي، يعرفون كذلك أن تلك الأحقاد والضغائن لم يكن بالإِمكان إزالتها، لا بالمال ولا بالجاه والمقام، لأنّها كانت لا تزول عندهم إلاّ بالإِنتقام الذي يتكرر بصورة متسلسلة فيما بينهم، وفي كل مرّة يكون في صورة أبشع وأكثر وحشية وإجراماً، والأمر الوحيد الذي أمكن بسببه قلع تلك الجذور الفاسدة من أصولها، هو إحداث ثورة عارمة وتغيير شامل في الأفكار والأرواح والعقائد، ثورة تصنع تحوّلاً في شخصياتهم وتبدل أساليب تفكيرهم، وترفعهم عن الحضيض الذي كانوا فيه، لتتجلى لهم أعمالهم السابقة في وجهها الكالح القبيح، فيطهروا بذلك أنفسهم، ويدرأوا عنها الأحقاد والأوساخ والعصبية القبلية العمياء. وهذه أُمور لا يمكن إيجادها بالثروة ولا بالمال، بل في ظلال الإِيمان والتوحيد الخالص فحسب)([75]).
فهل نحتاج إلى شهادة أحد بعد شهادة الله تعالى بأن الذين صحبوا النبي لاسيما السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار صاروا مؤمنين متحابين، بعد أن كانوا في ضلال مبين؟!
وهل يصح بعد شهادة هؤلاء المفسرين الشيعة أن يأتي من يتهم أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنهم ما كانوا مؤمنين، أو كان إيمانهم نفاقا؟ ولو كانوا كذلك ـ حاشاهم ـ فلماذا يمتن الله تعالى مرة على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بأن أيّده بهؤلاء المؤمنين وألف بين قلوبهم، ومرة يمتن على المؤمنين بأن هداهم الله تعالى بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم للإيمان والإسلام بعد الكفر والضلال؟
المبحث الثاني
لا نفاق في مكة
كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة وحيدا فريدا، ومن معه في ذلة وقلة، وكان المشركون فيها يلاحقون تحركات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويرصدونها بدقة، ويتهددون، بل ويعذِّبون كل من يدخل في هذا الدين الجديد، ويخيفون كل من يحتمل دخولهم فيه. ولاسيما بعد وفاة عم النبي ( أبو طالب ) الذي كان له سندا قويا في مجال حرية الدعوة، فإن الأمور قد تطورت بشكل مخيف، فزاد الأذى على المسلمين وعظمت البلوى عليهم. ولقد صمد أولئك الذين أسلموا سنوات طويلة في مواجهة التعذيب والظلم والاضطهاد، حتى لقد فر قسم منهم بدينه إلى بلاد الغربة، فهاجر نفر منهم إلى الحبشة، وبقي الباقون يواجهون محاولات فتنتهم عن دينهم، بمختلف وسائل القهر، وإذا استثنينا أشخاصاً معدودين، كحمزة بن عبدالمطلب، وبعض من كانت لهم عشائر تمنعهم، فإن بقية المسلمين كانوا غالباً من ضعفاء الناس، الذين لا يستطيعون حيلة، ولا يجدون سبيلاً إلا الصبر، وتحمل الأذى.
ففي مثل هذه الظروف العصيبة هل يتصور إنسان عاقل أن يكون من بين أولئك المسلمين من أسلم نفاقا؟
لماذا ينافق؟ وعلى ماذا ينافق؟
إن الإنسان العاقل ـ ولا أقول المسلم ـ إذا تجرد عن الهوى والعصبية العمياء، لا يمكن أن يتخيل وجود منافق واحد بين أولئك المسلمين الذين آمنوا دون رغبة أو رهبة. آمنوا وهم يعلمون أن مصيرهم يدور بين القتل والتعذيب. آمنوا من دون سيف سُلّط على رقابهم. آمنوا ولم يكن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يستطيع حمايتهم. ولا أعطاهم شيئا من متاع الدنيا.
ومما هو معلوم بصريح العقل وصحيح النقل، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة لم يكن صاحب جاه أو سلطة، ولا كان له ثروة يعطيها لمن كان يؤمن به، فالذي يؤمن نفاقا، إما أن يكون خائفا من سطوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحيث إن لم يؤمن خاف على نفسه التهديد والقتل، أو أن يكون إيمانه طمعا في سلطة أو جاه أو ثروة؛ وكلا الأمرين كان منتفيا في مكة.
الذي يقرأ القرآن الكريم بإمعان يجد أن جميع الآيات التي إشتملت على ذكر المنافقين أو الذين في قلوبهم مرض هي آيات مدنية، أي إنها نزلت بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنورة؛ ( لأنّ مكة لم يكن فيها نفاق بل كان خلافه من الناس من كان يظهر الكفر مستكرهاً وهو في الباطن مؤمن، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وكان بها الأنصار من الأوس والخزرج وكانوا في جاهليتهم يعبدون الأصنام على طريقة مشركي العرب، وبها اليهود من أهل الكتاب على طريقة أسلافهم وكانوا ثلاث قبائل بنو قينقاع حلفاء الخزرج وبنو النضير حلفاء الأوس وبنو قريظة، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة وأسلم من أسلم من الأنصار من قبيلتي الأوس والخزرج وقلّ من أسلم من اليهود إلا عبد الله بن سلام رضي الله عنه ولم يكن إذ ذاك نفاق أيضاً لأنه لم يكن للمسلمين بعد شوكة تُخاف، بل قد كان صلى الله عليه وآله وسلم وادع اليهود وقبائل كثيرة من أحياء العرب حوالي المدينة، فلما كانت وقعة بدر وأظهر الله كلمته وأعز الإسلام وأهله، قال عبد الله بن أبي بن سلول وكان رأساً في المدينة وهو من الخزرج، وكان سيد الطائفتين في الجاهلية، وكانوا قد عزموا على أن يملّكوه عليهم فجاءهم الخير وأسلموا واشتغلوا عنه فبقي في نفسه من الإسلام وأهله، فلما كانت وقعة بدر قال: هذا أمر الله قد توجه، فأظهر الدخول في الإسلام، ودخل معه طوائف ممن هو على طريقته ونحلته وآخرون من أهل الكتاب فمن ثم وُجد النفاق في أهل المدينة ومن حولها من الأعراب، فأما المهاجرون فلم يكن فيهم أحد نافق لأنه لم يكن أحد يهاجر مكرهاً بل يهاجر فيترك ماله وولده وأرضه رغبة فيما عند الله في الدار الآخرة)([76]) فلم يظهر المنافقون على مسرح الأحداث إلاّ بعد أن قوي المسلمون وصارت لهم شوكة وأصبحت لديهم دولة وقوة ومنعة؛ بحيث وجد من يخاف منهم إما على كفره، وإما على مصالحه الدنيوية.
يقول شيخ الإسلام إبن تيمية:
( والمهاجرون لم يكن فيهم منافق، وإنما كان النفاق في بعض من دخل من الأنصار، وذلك أن الأنصار هم أهل المدينة، فلما أسلم أشرافهم وجمهورهم احتاج الباقون أن يظهروا الإسلام نفاقا لعز الإسلام وظهوره في قومهم، وأما أهل مكة فكان أشرافهم وجمهورهم كفارا، فلم يكن يظهر الإيمان إلا من هو مؤمن ظاهرا وباطنا، فإنه من كان أظهر الإسلام بمكة يؤذى ويهجر، وإنما المنافق يظهر الإسلام لمصلحة دنياه وكان من أظهر الإسلام بمكة يتأذى في دنياه)([77]).
قال تعالى: { وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النَّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ } فلهذا لم يأت ذكر المنافقين أو الذين في قلوبهم مرض في الآيات المكية، إلاّ قي موضع واحد وهو قوله عز وجل: { وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا. .} (المدثر:31). فهذه الآية مكية بالإتفاق، وقد ورد فيها ذكرٌ للذين في قلوبهم مرض؛ فمن هم هؤلاء وما تفسير هذه الآية؟
تقول الشيعة وبحسب عقيدة الإمامة التي تفرض عليهم سوء الظن بالصحابة: إن هؤلاء هم بعض أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذين أعلنوا إسلامهم في مكة نفاقاً؛ وبما أننا لا نعلم أعيانهم بالتحديد، فالشك يتطرق إليهم جميعاً لإمكان أن يكون كل فرد منهم هو المقصود؛ وبالتالي يسقط إسلام الجميع، وتسقط عدالتهم.
في حين أن الآية الكريمة تتكلم عن المستقبل وعن الغيب الذي يبينه الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أنه سيظهر مَنْ في قلبه مرض يقول هذا القول الذي بينه الله تعالى في هذه الآية.
فتأويل الآية أو تفسيرها أنه سيأتي اليوم الذي يتواجد فيه هذا الصنف من الناس في قلوبهم مرض يقولون ماذا أراد الله بهذا([78]).
يقول شيخ الطائفة الطوسي:
(وقوله { وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ } ومعناه لئلا يقول الذين في قلوبهم شك ونفاق { مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا } أي أيّ شيء أراد الله بهذا مثلا، وقيل اللام في قوله { وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } لام العاقبة كما قال { فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا}([79]).
فموسى عليه السلام كان طفلاً صغيراً رضيعاً عندما إلتقطه آل فرعون، فلم يكن عدواً وحزناً لهم في هذا العمر، أي في الحال؛ إنما لما كبر صار عدواً وحزناً لهم لأنه نجّى بني إسرائيل من ظلم فرعون وأهلك الله تعالى فرعون بسببه.
وأيضاً فقد أثبتنا بما لا يقبل الشك أن الذين أسلموا بمكة لم يكونوا بحاجة إلى النفاق لإنتفاء أسبابه ودواعيه.
المبحث الثالث
الصحابة والمنافقون
إن عقيدة الإمامة تفرض على الشيعة أن يسيئوا الظن بأصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا نفرا لا يتجاوزن العشرة على أحسن تقدير، فالمهاجرون قاطبة والأنصار كلهم عدا سعد بن عبادة ـ الذي كان قد ترشح لخلافة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قبل قومه ـ كلهم بايعوا أبا بكر الصديق رضي الله عنه يوم السقيفة، أو في اليوم التالي عند البيعة العامة في المسجد. ولم يذكر أحدهم بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوصى بالخلافة لعلي حينما قال : ( من كنت مولاه فهذا علي مولاه )، رغم قرب عهدهم بحادثة غدير خم.
إساءة الظن هذه بالصحابة أخذت أنواعا عديدة من الصور، أخطرها على الإطلاق هو رميهم بالكفر أو النفاق. فكان من الطبيعي أن تنسحب هذه الآثار على ماضي الصحابة، من أول إسلامهم، إلى آخر عهدهم بالدنيا.
وبالتالي كان من الطبيعي أيضاً أن لا يكون أولئك الصحابة محل ثقة، وأهلاً لأن تؤخذ منهم الأحاديث التي ينقلوها عن نبيهم المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم !
هذا هو أبسط تأثير الإعتقاد بالإمامة الإلهية عند الشيعة تجاه أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم! وكفى بهذه العقيدة أن تكون السبب الأساسي التي تفرق الأمة إلى يوم القيامة، وأن تقف حجر عثرة أمام كل المحاولات التي تجمع شمل الأمة، وتوحد صفها!!
فإيمان الصحابة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ حسب عقيدة الإمامة ـ في مكة كان نفاقا، وجهادهم مع رسول الله كان نفاقا ورياءً، وهم وإن كانوا يخرجون مع رسول الله ولكنهم كانوا من أجبن خلق الله، وكانوا يفرون من المعركة.
أما إنفاقهم في سبيل الله، فكله كذب، لم ينفقوا شيئا من المال، ومن أين لهم أموال حتى ينفقونها؟
أما محاربتهم للمرتدين، ومانعي الزكاة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ففسروها بأن هؤلاء كانوا من أنصار علي بن أبي طالب، وأنهم إمتنعوا عن دفع الزكاة لأن الذي تخلف على المسلمين كان مغتصبا للخلافة. وأما معاركهم فيما بعد مع الفرس والنصارى، فكلها كانت من قبيل العصبية والفخر والإعتزاز بعادة الغزوات التي ألفوها في عاداتهم الجاهلية.
هذه هي الصورة الحقيقية لأصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نظر الشيعة([80]).
أما الآيات التي تتحدث عن نصرة المؤمنين للنبي وإيمانهم به، ورضاء الله تعالى عنهم في بيعة الرضوان، والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين رضي الله عنهم وعمن إتبعهم، فحصروها في علي بن أبي طالب وعدد من الصحابة الذين وقفوا مع علي في حروبه في معركتي الجمل وصفين.
إن ما يستوقف الباحث المنصف عن الحق والحقيقة في هذا التصور هو نتائجه التي يمكن تلخيصها:
بأن المنافقين هم الذين كانوا حول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهم كانوا خاصته وبطانته، لأن إختصاص أبي بكر وعمر وعثمان وسعد وعبدالرحمن وغيرهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر مشهور لا يدفعه إلا جاهل. فإما أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد عرف نفاقهم، ومع هذا قرّبهم وتزوج منهم وزوجهم بناته، وبذلك يكون قد خالف أمر الله تعالى الذي يأمره بجهاد المنافقين والغلظة عليهم: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [التوبة: 73][ التحريم:9].
أو أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يعرف نفاقهم، لأنهم لم يظهر عليهم من علاماته شيء في حياته. وهذا أمر عسير لا يطيق أحد أن يخفي ما في نفسه مدة طويلة من الزمن.
قال مكارم الشيرازي:
( إنّ الإنسان لا يستطيع عادةً أن يكتم ما ينطوي عليه ضميره لمدة طويلة دون أن يظهر ذلك في كنايات كلامه وإشاراته ولحنه، ولذلك نقرأ في حديث عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام): «ما أضمر أحد شيئاً إلاّ ظهر في فلتات لسانه، وصفحات وجهه» وقوله: ( المرء مخبوء تحت لسانه فإذا تكلم ظهر). قال تعالى: { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ } [محمد: 29]؟
ويضيف ناصر مكارم الشيرازي قائلا:
( من الممكن أن يصدر عمل صالح أحياناً عن أفراد ليس لهم إيمان، ولكن ذلك لا يحدث باستمرار حتماً. فالذي يضمن بقاء العمل الصالح هو الإِيمان المتغلغل في أعماق وجود الإنسان، الإِيمان الذي يضع الإِنسان دوماً أمام مسؤولياته)([81]).
إنْ صحّتْ نظرية الشيعة في الصحابة، فهذا يعني أن المنافقين هم الذين أصبحوا قادة الأمة وأهل الحل والعقد فيها بعد وفاة النبي مباشرة، فلو كان هؤلاء منافقون، والجمهور الأعظم من المسلمين يدينون بالولاء لهم؛ فما الذي منعهم من القضاء على الإسلام؟ لاسيما مع الخوف والتقية التي كانت تعيشه أهل بيت النبي الذين لم يستطيعوا قول كلمة الحق، ولا تصدوا للمنافقين.
ولا يخفى أن المنافقين لم يكونوا أشباحا مجهولا في كيان الأمة، ولم يكونوا بالطبع سوادها العام وجمهورها الغالب، وإنما كانوا قلة مرذولة معلومة قد آل أمرها إلى الخزي والفضيحة، فعُلم بعضهم بأعيانه، والبعض الآخر بأوصافه، ولم يكونوا صانعي الأحداث في تاريخ الدعوة، ولا قادة إنتصاراتها وفتوحاتها([82]).
وكيف يكون الصحابة منافقين والله تعالى ما قبض نبيه صلى الله عليه وآله وسلم إلا بعد أن إطمأن إلى أن الذين سيأتون من بعده من أصحابه الذين تربوا في صحبته، وتخرجوا من مدرسته، سيحملون دين الله تعالى على أكتافهم، وينشرونه في الآفاق.
لم يذهب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ربه إلا بعد أن نزل عليه قول الله تعالى: { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا }[ النصر:1-3].
لم يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الدنيا إلا بعد أن نزل عليه قول الله تعالى: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [النور: 55]:
إن أول دلالة في هذه الآية على إيمان الذين قادوا الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو أن الله تعالى وعدهم بالنصر والتمكين وأنجز وعده، والله تعالى لا يخلف وعده.
يقول قاضي القضاة عبدالجبار المعتزلي : ( وفي هذا دلالة على صحة الخلفاء من بعده، ألا تسمعه يقول: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ» ولو قال: الذين آمنوا لكانت عدة تحتمل التسويف والتأويل، فلما قال: « مِنْكُمْ » جعلها فيهم ولهم ومنهم، فزالت الشكوك وارتفع اللبس، ولو كان الأمر على ما يقول الإمامية لكانت هذه الأخبار قد كذبت وهذه المواعيد قد أخلفت لأنهم زعموا أن المستخلف كان علي بن أبي طالب، وأنه ما كان متمكنا ولا آمنا بل كان مقهورا مغلوبا خائفا، فأين تصديق ما وعد الله، فنعوذ بالله من الذهاب عن الحق)([83]).
وقال العلامة فخر الدين الرازي في رده على الشيعة في تفسيرهم لهذا الوعد لأئمة الشيعة:
( قوله تعالى: { مّنكُمْ } يدل على أن هذا الخطاب كان مع الحاضرين وهؤلاء الأئمة ما كانوا حاضرين. الثاني: أنه تعالى وعدهم القوة والشوكة والنفاذ في العالم ولم يوجد ذلك فيه فثبت بهذا صحة إمامة الأئمة الأربعة وبطل قول الرافضة الطاعنين على أبي بكر وعمر وعثمان وعلى بطلان قول الخوارج الطاعنين على عثمان وعلي)([84]).
وأما قول الشيعة بأن هذه الآية لا تنطبق إلا على المهدي ـ عجل الله فرجه ـ فيقال : لا شك أن حكومة المهدي وكل حكومة سبقتها تتصف بصفات من وعدهم الله تعالى بالنصر والتمكين، هي من مصاديق هذه الآية، لكن حصرها بالمهدي فقط، يرده:
أولا: إن سيدنا علي رضي الله عنه في إستشارة عمر له في شخوصه لقتال الفرس بنفسه، أقر بصريح العبارة أنهم موعودون بالنصر والتمكين، فقال: ( إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا قلة، وهو دين الله الذي أظهره، وجنده الذي أعده، وأمده، حتى بلغ ما بلغ، وطلع حيث طلع، ونحن على موعود من الله، والله منجز وعده، وناصر جنده)([85]).
ويقول الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسيره:
( ولا ريب في أنّ هذه الآية تشمل المسلمين الأوائل، كما أنّ حكومة المهدي(عج) مصداق لها، إذْ يتفق المسلمون كافة من شيعة وسنة على أن المهدي(عج) يملأ الأرض عَدْلا وقسطاً بعد أن مُلئت جوراً وظلماً).
ثانيا: من غير المقبول عقلا وشرعا أن الدين الإسلامي لا يتمكن ولا يستخلف المسلمون في الأرض إلا لبضعة سنين وهو عمر المهدي فقط!
وأيضا فكما أن الله تعالى وعد بأن يستخلف المؤمنين في الأرض، فقد وعد أيضا بأن من يرتد عن الدين بإذهابه والإتيان بقوم مؤمنين، فقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [المائدة/54].
قال الرازي في تفسيره:
( ولنا في هذه الآية مقامات :
المقام الأول : أن هذه الآية من أدل الدلائل على فساد مذهب الإمامية من الروافض، وتقرير مذهبهم أن الذين أقروا بخلافة أبي بكر وإمامته كلهم كفروا وصاروا مرتدين، لأنهم أنكروا النص الجلي على إمامة علي عليه السلام فنقول: ( لو كان كذلك لجاء الله تعالى بقوم يحاربهم ويقهرهم ويردهم إلى الدين الحق ) بدليل قوله: { مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ } إلى آخر الآيه وكلمة [ مَنْ ] في معرض الشرط للعموم، فهي تدل على أن كل من صار مرتداً عن دين الإسلام فإن الله يأتي بقوم يقهرهم ويردهم ويبطل شوكتهم، فلو كان الذين نصبوا أبا بكر للخلافة كذلك لوجب بحكم الآية أن يأتي الله بقوم يقهرهم ويبطل مذهبهم، ولما لم يكن الأمر كذلك بل الأمر بالضد فإن الروافض هم المقهورون الممنوعون عن إظهار مقالاتهم الباطلة أبداً منذ كانوا علمنا فساد مقالتهم ومذهبهم، وهذا كلام ظاهر لمن أنصف.
المقام الثاني: أنا ندعي أن هذه الآية يجب أن يقال: إنها نزلت في حق أبي بكر رضي الله عنه والدليل عليه وجهان: الأول: أن هذه الآية مختصة بمحاربة المرتدين، وأبو بكر هو الذي تولى محاربة المرتدين على ما شرحنا، ولا يمكن أن يكون المراد هو الرسول عليه السلام لأنه لم يتفق له محاربة المرتدين، ولأنه تعالى قال:{ فَسَوْفَ يَأْتِى الله } وهذا للاستقبال لا للحال، فوجب أن يكون هؤلاء القوم غير موجودين في وقت نزول هذا الخطاب.
فإن قيل: هذا لازم عليكم لأن أبا بكر رضي الله عنه كان موجوداً في ذلك الوقت.
قلنا: الجواب من وجهين:
الأول: أن القوم الذين قاتل بهم أبو بكر أهل الردة ما كانوا موجودين في الحال.
والثاني: أن معنى الآية أن الله تعالى قال: فسوف يأتي الله بقوم قادرين متمكنين من هذا الحراب، وأبو بكر وإن كان موجوداً في ذلك الوقت إلا أنه ما كان مستقلاً في ذلك الوقت بالحراب والأمر والنهي، فزال السؤال، فثبت أنه لا يمكن أن يكون المراد هو الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا يمكن أيضاً أن يكون المراد هو علي عليه السلام، لأن علياً لم يتفق له قتال مع أهل الردة، فكيف تحمل هذه الآية عليه.
فإن قالوا: بل كان قتاله مع أهل الردة لأن كل من نازعه في الإمامة كان مرتداً.
قلنا: هذا باطل من وجهين:
الأول: أن اسم المرتد إنما يتناول من كان تاركاً للشرائع الإسلامية، والقوم الذين نازعوا علياً ما كانوا كذلك في الظاهر، وما كان أحد يقول: إنه إنما يحاربهم لأجل أنهم خرجوا عن الإسلام، وعلي عليه السلام لم يسمهم ألبتة بالمرتدين، فهذا الذي يقوله هؤلاء الروافض لعنهم الله([86]) بهت على جميع المسلمين وعلى علي أيضاً.
الثاني: أنه لو كان كل من نازعه في الإمامة كان مرتداً لزم في أبي بكر وفي قومه أن يكونوا مرتدين، ولو كان كذلك لوجب بحكم ظاهر الآية أن يأتي الله بقوم يقهرونهم ويردونهم إلى الدين الصحيح، ولما لم يوجد ذلك ألبتة علمنا أن منازعة علي في الإمامة لا تكون ردة، وإذا لم تكن ردة لم يمكن حمل الآية على علي، لأنها نازلة فيمن يحارب المرتدين، ولا يمكن أيضاً أن يقال: إنها نازلة في أهل اليمن أو في أهل فارس، لأنه لم يتفق لهم محاربة مع المرتدين، وبتقدير أن يقال: اتفقت لهم هذه المحاربة ولكنهم كانوا رعية وأتباعاً وأذنابا، وكان الرئيس المطاع الأمر في تلك الواقعة هو أبو بكر، ومعلوم أن حمل الآية على من كان أصلاً في هذه العبادة ورئيساً مطاعاً فيها أولى من حملها على الرعية والأتباع والأذناب، فظهر بما ذكرنا من الدليل الظاهر أن هذه الآية مختصة بأبي بكر.
والوجه الثاني في بيان أن هذه الآية مختصة بأبي بكر: هو أنا نقول: هب أن علياً كان قد حارب المرتدين، ولكن محاربة أبي بكر مع المرتدين كانت أعلى حالاً وأكثر موقعاً في الإسلام من محاربة علي مع من خالفه في الإمامة، وذلك لأنه علم بالتواتر أنه صلى الله عليه وآله وسلم لما توفي اضطربت الأعراب وتمردوا، وأن أبا بكر هو الذي قهر مسيلمة وطليحة، وهو الذي حارب الطوائف السبعة المرتدين، وهو الذي حارب مانعي الزكاة، ولما فعل ذلك استقر الإسلام وعظمت شوكته وانبسطت دولته. أما لما انتهى الأمر إلى علي عليه السلام فكان الإسلام قد انبسط في الشرق والغرب، وصار ملوك الدنيا مقهورين، وصار الإسلام مستولياً على جميع الأديان والملل، فثبت أن محاربة أبي بكر رضي الله عنه أعظم تأثيراً في نصرة الإسلام وتقويته من محاربة علي عليه السلام، ومعلوم أن المقصود من هذه الآية تعظيم قوم يسعون في تقوية الدين ونصرة الإسلام، ولما كان أبو بكر هو المتولي لذلك وجب أن يكون هو المراد بالآية.
المقام الثالث في هذه الآية: وهو أنا ندعي دلالة هذه الآية على صحة إمامة أبي بكر، وذلك لأنه لما ثبت بما ذكرنا أن هذه الآية مختصة به فنقول: إنه تعالى وصف الذين أرادهم بهذه الآية بصفات: أولها: أنه يحبهم ويحبونه.
فلما ثبت أن المراد بهذه الآية هو أبو بكر ثبت أن قوله { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } وصف لأبي بكر، ومن وصفه الله تعالى بذلك يمتنع أن يكون ظالماً، وذلك يدل على أنه كان محقاً في إمامته، وثانيها: قوله { أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين } وهو صفة أبي بكر أيضاً الدليل الذي ذكرناه ، ويؤكده ما روي في الخبر المستفيض أنه عليه الصلاة والسلام قال: « ارحم أمتي بأمتي أبو بكر » فكان موصوفاً بالرحمة والشفقة على المؤمنين وبالشدة مع الكفار، ألا ترى أن في أول الأمر حين كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في مكة وكان في غاية الضعف كيف كان يذب عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وكيف كان يلازمه ويخدمه، وما كان يبالي بأحد من جبابرة الكفار وشياطينهم، وفي آخر الأمر أعني وقت خلافته كيف لم يلتفت إلى قول أحد، وأصر على أنه لا بدّ من المحاربة مع مانعي الزكاة حتى آل الأمر إلى أن خرج إلى قتال القوم وحده، حتى جاء أكابر الصحابة وتضرعوا إليه ومنعوه من الذهاب، ثم لما بلغ بعث العسكر إليهم انهزموا وجعل الله تعالى ذلك مبدأ لدولة الإسلام، فكان قوله:{ أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين } لا يليق إلا به، وثالثها: قوله { يجاهدون فِى سَبِيلِ الله وَلاَ يخافون لَوْمَةَ لائِمٍ } فهذا مشترك فيه بين أبي بكر وعلي، إلا أن حظ أبي بكر فيه أتم وأكمل، وذلك لأن مجاهدة أبي بكر مع الكفار كانت في أول البعث، وهناك الإسلام كان في غاية الضعف، والكفر كان في غاية القوة، وكان يجاهد الكفار بمقدار قدرته، ويذب عن رسول الله بغاية وسعه، وأما علي عليه السلام فإنه إنما شرع في الجهاد يوم بدر وأُحد، وفي ذلك الوقت كان الإسلام قوياً وكانت العساكر مجتمعة، فثبت أن جهاد أبي بكر كان أكمل من جهاد علي من وجهين: الأول: أنه كان متقدماً عليه في الزمان، فكان أفضل لقوله تعالى: { لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وقاتل } [ الحديد : 10 ] والثاني: أن جهاد أبي بكر كان في وقت ضعف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وجهاد علي كان في وقت القوة، ورابعها: قوله { ذلك فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء } وهذا لائق بأبي بكر لأنه متأكد بقوله تعالى: { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة } [ النور : 22 ] وقد بينا أن هذه الآية في أبي بكر، ومما يدل على أن جميع هذه الصفات لأبي بكر أنا بينا بالدليل أن هذه الآية لا بدّ وأن تكون في أبي بكر، ومتى كان الأمر كذلك كانت هذه الصفات لا بدّ وأن تكون لأبي بكر، وإذا ثبت هذا وجب القطع بصحة إمامته، إذ لو كانت إمامته باطلة لما كانت هذه الصفات لائقة به.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: إنه كان موصوفاً بهذه الصفات حال حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ثم بعد وفاته لما شرع في الإمامة زالت هذه الصفات وبطلت.
قلنا: هذا باطل قطعاً لأنه تعالى قال: { فَسَوْفَ يَأْتِى الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } فأثبت كونهم موصوفين بهذه الصفة حال إتيان الله بهم في المستقبل، وذلك يدل على شهادة الله له بكونه موصوفاً بهذه الصفات حال محاربته مع أهل الردة، وذلك هو حال إمامته، فثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على صحة إمامته، أما قول الروافض لعنهم الله: إن هذه الآية في حق علي رضي الله عنه بدليل أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال يوم خيبر: « لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله » وكان ذلك هو علي عليه السلام، فنقول: هذا الخبر من باب الآحاد، وعندهم لا يجوز التمسك به في العمل، فكيف يجوز التمسك به في العلم، وأيضاً إن إثبات هذه الصفة لعلي لا يوجب انتفاءها عن أبي بكر، وبتقدير أن يدل على ذلك لكنه لا يدل على انتفاء ذلك المجموع عن أبي بكر، ومن جملة تلك الصفات كونه كراراً غير فرار، فلما انتفى ذلك عن أبي بكر لم يحصل مجموع تلك الصفات له، فكفى هذا في العمل بدليل الخطاب، فأما انتفاء جميع تلك الصفات فلا دلالة في اللفظ عليه، فهو تعالى إنما أثبت هذه الصفة المذكورة في هذه الآية حال اشتغاله بمحاربة المرتدين بعد ذلك فهب أن تلك الصفة ما كانت حاصلة في ذلك الوقت، فلم يمنع ذلك من حصولها في الزمان المستقبل، ولأن ما ذكرناه تمسك بظاهر القرآن، وما ذكروه تمسك بالخبر المذكور المنقول بالآحاد، ولأنه معارض بالأحاديث الدالة على كون أبي بكر محباً لله ولرسوله)([87]).
المبحث الرابع
إن من ينظر إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كأنهم ملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فقد أخطأ، ومن ينظر إليهم على أنهم ثلة من المنافقين، لم يؤمنوا بالرسول إلاّ لتحقيق رغباتهم ومصالحهم الدنيوية، فقد أخطأ وقال ظلما وزورا. فهم بشر كسائر البشرية، إلاّ أن لهم الفضل والسبق في الإيمان بنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهم الذين جاهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وحملوا لواء الإسلام عاليا بعده، وجاهدوا في سبيل نشره في الآفاق. فلم تغيرهم الدنيا حين ملكوها، ولم يركنوا إلى ملذاتها. وخرجوا منها أفقر مما كانوا عليها قبل إسلامهم.
إن التمايز واقع بين الصحابة والمنافقين إلا عند الشيعة، وهم يميزون جليا بينهم، ولكن كما قلنا أن وصف أبي بكر وعمر وعثمان بالإيمان لا يتفق مع عقيدتهم في النص على علي وعصمته؛ لذلك راحوا يشككون في إيمان جميع المهاجرين والأنصار إلا نفرا يسيرا منهم، لأن هؤلاء ـ كما يقولون ـ كان هواهم مع علي رضي الله عنه، ورفضوا خلافة أحد غيره.
وللشيعة نظريتان في نفي الإيمان عن الصحابة:
الأولى: أنهم ينفون إيمان الصحابة من أول يوم أسلموا فيه، ويقولون: إنهم أسلموا نفاقا لتحقيق مكاسب دنيوية، ولأجل الشهوة والرياسة، مما دفعهم إلى إنكار إيمانهم حتى في مكة قبل الهجرة النبوية الشريفة، يوم أن كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه من المسلمين مستضعفين، يعيشون تحت تنكيل وتعذيب مشركي قريش.
النظرية الثانية: قولهم: ( إرتد الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا ثلاثة أو أربعة) وهذا القول مشهور فيهم بحيث لا يستطيع أحد إنكاره، وجاءت هذه الردة بنظرهم يوم السقيفة حيث يقول شيخهم جلال الدين علي الصغير: ( وترينا الصورة التي تمخضت عنها مأساة السقيفة من ضلال الناس بعيداً عن الدين، وإذا بالرسالة التي بعثت هدى للعالمين سرعان ما غدت ملهاة بيد من لا خبرة له بعلم، ولا سابقة له في فهم، وليس أدل على ذلك من المهازل الدينية والسياسية التي ارتكبت في زمن الخليفة الأول كالحادثة المفجعة التي تمخضت عنها شهادة الزهراء البتول (عليها السلام) بعد غصب حقوقها المادية في فدك، والوجدانية في حقها بالبكاء على أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فضلاً عن الدينية بالحفاظ على إمامة الناس في الموضع الذي وضعه الرسول الأكرم (صلوات الله عليه وآله)، وكذا السياسية بأخذ مشورتها على الأقل فيمن سيخلف الرسول الأعظم، ناهيك عن سائر مآسي أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، والجريمة النكراء بحق الصحابي الجليل مالك بن نويرة، واغتيال سعد بن عبادة، وحرق الفجاءة السلمي، وعشرات غيرها!!.)([88]).
ولم أر لأصحاب هذه النظرية من قول أو إشارة تثبت إيمان الصحابة قبل أحداث السقيفة، بل تراهم ينفون عنهم إيمانهم برسول الله وإنفاقهم في سبيل الله وجهادهم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعده. فهذا يعني تساوي أصحاب هاتين النظريتين بالنهاية في نفي الإيمان عن جل الصحابة بداية.
فهل هذه هي الحقيقة؟ وإن لم تكن هذه حقيقة جل أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فكيف نميز بينهم وبين المنافقين؟
سنجيب على هذا التساؤل في المطالب التالية:
المطلب الأول: ماذا قال القرآن في التمييز بين الصحابة والمنافقين؟
المطلب الثاني: من الذي يحدد السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار؟
المطلب الثالث: هل للصحابة خصوصية في مسألة العدالة؟
المطلب الأول
ماذا قال القرآن في التمييز بين الصحابة والمنافقين
أولا: هنالك آيات كثيرة في القرآن الكريم فيها تقسيم واضح وتمييز جلي بين المسلمين من الصحابة والمنافقين. نذكر منها قوله تعالى:
{ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [التوبة: 100- 106].
يقول الشيخ مكارم الشيرازي :
( هذه الآية ـ التي وردت بعد الآيات المتحدثة عن حال الكفار والمنافقين ـ تشير إِلى مجموعات وفئات مختلفة من المسلمين المخلصين، وقسمتهم إِلى ثلاثة أقسام:
الأوّل: السابقون في الإِسلام والهجرة: (والسابقون الأولون من المهاجرين).
الثّاني: السابقون في نصرة وحماية النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه المهاجرين (والأنصار).
الثّالث: الذين جاؤوا بعد هذين القسمين واتبعوا خطواتهم ومناهجهم، وقبولهم الإِسلام والهجرة، ونصرتهم للدين الإِسلامي، فإنّهم ارتبطوا بهؤلاء السابقين: (والذين اتبعوهم بإحسان). وهذا الصنف الثالث يوضحه قول الله تعالى: { وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ }[الأنفال/74، 75]. حيث أثنى الله تعالى على الذين آمنوا من بعد السابقين من المهاجرين والأنصار، وجاهدوا معهم بأنه منهم؛ أي من { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }.
الرابع: { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }.
يقول الشيخ مكارم الشيرازي :
( أشارت هذه الآية هنا إِلى وضع جمع من المسلمين العاصين الذين أقدموا على التوبة لجبران الأعمال السيئة التي صدرت منهم، ورجاء لمحوها: ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم ) ويشملهم برحمته الواسعة فـ ( إنّ الله غفور رحيم ).
إنّ التعبير بـ (عسى) في الآية، والتي تستعمل في الموارد التي يتساوى فيها احتمال الفوز وعدمه، أو تحقق الأمل وعدمه، ربّما كان ذلك كيما يعيش هؤلاء حالة الخوف والرجاء، وهما وسيلتان مهمتان للتكامل والتربية.
ويحتمل أيضاً أنّ التعبير بـ (عسى) إِشارة إِلى وجوب الإِلتزام بشروط أُخرى في المستقبل، مضافاً إِلى الندم على ما مضى والتوبة منه وعدم الإِكتفاء بذلك بل يجب أن تجبر الأعمال السيئة التي ارتكبت فيما مضى بالأعمال الصالحة مستقبلا.
إِلاّ أنّنا إِذا لاحظنا أن الآية تُختم ببيان المغفرة والرحمة الإِلهية، فإن الأمل والرجاء هو الذي يرجح.
وهناك ملاحظة واضحة أيضاً، وهي أن نزول الآية في أبي لبابة، أو سائر المتخلفين عن غزوة تبوك لا يخصص المفهوم الواسع لهذه الآية، بل إنّها تشمل كل الأفراد الذين خلطوا الأعمال الصالحة الحسنة بالسيئة، وندموا على أعمالهم السيئة.
ولهذا نقل عن بعض العلماء قولهم: إِنّ هذه الآية أرجى آيات القرآن الكريم، لأنّها فتحت الأبواب أمام المذنبين العاصين، ودعت التّوابين إِلى الله الغفور الرحيم)([89]).
الخامس: { وَآَخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [التوبة/106].
قال الشيخ مكارم الشيرازي:
( في هذه الآية إِشارة إِلى مجموعة من المذنبين الذين لم تتّضح جيداً عاقبة أمرهم، فلا هم مستحقون حتماً للرحمة الإِلهية، ولا من المغضوب عليهم حتماً، لذا فإنّ القرآن الكريم يقول في حقّهم: ( وآخرون مرجون لأمر الله إمّا يعذبهم أو يتوب عليهم ).
«مرجون» مأخوذ من مادة (إِرجاء) بمعنى التأخير والتوقيف، وفي الأصل أخذت من (رجاء) بمعنى الأمل، ولما كان الإنسان قد يؤخر شيئاً ما أحياناً رجاء تحقق هدف من هذا التأخير، فإنّ هذه الكلمة قد جاءت بمعنى التأخير، إلاّ أنّه تأخير ممزوج بنوع من الأمل.
إِنّ هؤلاء في الحقيقة ليس لهم من الإِيمان الخالص والعمل الصالح بحيث يمكن عدهم من أهل السعادة والنجاة، وليسوا ملوّثين بالمعاصي ومنحرفين عن الجادة بحيث يُكتبون من الأشقياء، بل يوكل أمرهم إِلى اللطف الإِلهي كيف سيعامل هؤلاء، وهذا طبعاً حسب أوضاعهم الروحية ومواقعهم.
وتضيف الآية ـ بعد ذلك ـ أنّ الله سبحانه سوف لا يحكم على هؤلاء بدون حساب، بل يقتضي بعلمه وحكمته: (والله عليم حكيم)([90]).
ثم جاءت البشرى بتوبة الله عليهم في قوله تعالى:{ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }[التوبة: 117-118]
ثانيا: المنافقون وصفاتهم في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
هؤلاء هم طبقات الصحابة المسلمين على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فهل يمكن تمييزهم وفصلهم عن المنافقين الذين ذكرهم الله في قوله: { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ } [التوبة/101].
هؤلاء المنافقين قسمان:
الأول: المنافقون من الأعراب.
الثاني: المنافقون من أهل المدينة.
ولنا في هذه الآية وقفات:
إن أول ما يلفت النظر في هذه الآية أن الله تعالى خص النفاق بعد الأعراب في أهل المدينة، وهذا يدل على أن المهاجرين من مكة إلى المدينة ليس فيهم منافق. وقد قلنا أن أسباب النفاق لم ينجم إلا في المدينة بعد أن صار للمسلمين قوة ودولة.
في قوله تعالى: { لا تعلمهم }: هل كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا يعلم المنافقين؟
الإجابة على هذا السؤال يتطلب منا البحث في بعض الآيات الأخرى التي تخص المنافقين، كقوله تعالى: { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ }[محمد: 29-30].
يقول الشيخ مكارم الشيرازي : ( تشير هذه الآيات إلى جانب آخر في صفات المنافقين وعلاماتهم، وتؤكّد بالخصوص على أنّهم يظنّون أنّ باستطاعتهم أن يخفوا واقعهم وصورتهم الحقيقية عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين دائماً، وأن ينقذوا أنفسهم بذلك من الفضيحة الكبرى، فتقول أوّلاً: { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ } [محمد/29]).
«الأضغان» جمع ضِغْن، وهو الحقد الشديد. . . إنّ الإنسان لا يستطيع عادةً أن يكتم ما ينطوي عليه ضميره لمدة طويلة دون أن يظهر ذلك في كنايات كلامه وإشاراته ولحنه، ولذلك نقرأ في حديث عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام): «ما أضمر أحد شيئاً إلاّ ظهر في فلتات لسانه، وصفحات وجهه».
وقد ذكرت آيات القرآن الأُخرى كلمات المنافقين الجارحة، والتي هي مصداق للحن القول هذا، أو حركاتهم المشبوهة، ولعلّه لهذا السبب قال بعض المفسّرين: إنّ النّبي ( صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعرف المنافقين جيداً، من خلال علاماتهم، بعد نزول هذه الآية.
والشاهد على هذا الكلام هو أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أُمر بأن لا يصلّي على من مات منهم ولا يقوم على قبره داعياً الله له: { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة/84]).
لقد كان الجهاد بالذات من المواقف التي كان المنافقون يعكسون فيها ما يعيشونه في داخلهم، وقد أشارت آيات كثيرة في القرآن الكريم، وخاصّةً في سورة التوبة والأحزاب إلى وضع هؤلاء قبل الحرب حين جمع المساعدات وإعداد العدّة للحرب، وفي أثناء الحرب في ساحتها إذا اشتد هجوم العدو واستعرت حملته، وبعد الحرب عند تقسيم الغنائم، حتى وصل الأمر بالمنافقين إلى أن يعرفهم حتى المسلمون العاديّون في هذه المشاهد والمواقف)([91]).
فإذا كان المنافقون يسترون نفاقهم في البداية فإن سورة التوبة التي تسمى بـ ( الفاضحة ) قد فضحتهم وكشفت أستارهم بقوله تعالى:{ منهم } { ومنهم }، فانكشف أمرهم لعامة الناس بصفاتهم.
ويقول الشيرازي في قوله تعالى:
{ لا تعلمهم نحن نعلمهم }: ( ومن الطبيعي أنّ هذا إشارة للعلم الطبيعي للنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن هذا لا ينافي أن يقف كاملا على أسرارهم عن طريق الوحي والتعليم الإِلهي).
وقال شيخ الطائفة الطوسي:
( وليس يمكن أن يٌقال: أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يكن يعرف المنافقين بأعيانهم، لأن القرآن يشهد بأنه - عليه السلام - كان يعرفهم. قال الله تعالى: { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ } (التوبة:84). وليس يصح أن تتوجه إليه - صلى الله عليه وآله وسلم - هذه العبارة فيهم إلاّ مع المعرفة والتمييز، قال عز وجل: { وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ } (محمد:30)}. وفي هذا تصريح بأنه - عليه السلام - كان يعرفهم )([92]).
فليس من المعقول إذن أن يعرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم المنافقين بأعيانهم، ثم هو يقربهم ويجعلهم خاصته ويتزوج منهم ويزوجهم؛ هذا لا يقال في حق أخس الناس، فكيف يُقال في حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أنه كان يقرِّب أبا بكر وعمر وعثمان ويجعلهم خاصته وبطانته مع علمه بنفاقهم؟!
وفي قوله تعالى: { سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ }، تمييز واضح بين المنافقين وبين المؤمنين. ذلك أن الله تعالى وعد المنافقين بالعذاب مرتين، قبل عذاب الآخرة. فهل في الصحابة الذين ترميهم الشيعة بالنفاق، أو الذين لا يستطيعون التمييز بينهم وبين المؤمنين من عذّبه الله تعالى في الدنيا مرتين؟
قال الطبرسي:
( فيه أقوال ( أحدها ) أن معناه نعذبهم في الدنيا بالفضيحة فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ذكر رجالا منهم وأخرجهم من المسجد يوم الجمعة في خطبته وقال أخرجوا فإنكم منافقون ويعذبهم في القبر عن ابن عباس والسدي والكلبي وقيل مرة في الدنيا بالسبي والقتل ومرة في الآخرة بعذاب القبر عن مجاهد وروى حصيف عنه عذبوا بالجوع مرتين وقيل إحداهما أخذ الزكاة منهم والأخرى عذاب القبر عن الحسن وقيل إحداهما غيظهم من أهل الإسلام والأخرى عذاب القبر عن ابن إسحاق وقيل إن الأولى ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند قبض أرواحهم والأخرى عذاب القبر وقيل إن الأولى إقامة الحدود عليهم والأخرى عذاب القبر عن ابن عباس وكل ذلك محتمل غير أنا نعلم أن المرتين معا قبل أن يردوا إلى عذاب النار « ثم يردون إلى عذاب عظيم » أي يرجعون يوم القيامة إلى عذاب مؤبد في النار)([93]).
فهل وقع شيء من هذا العذاب في أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأخص بالذكر منهم أبي بكر وعمر وعثمان؟ فلو كان هؤلاء منافقين كما تقول الشيعة، فإن الله تعالى أصدق القائلين، فهلا عذب هؤلاء في الدنيا مرتين ـ كما أخبر ـ قبل عذاب الآخرة؟
وقال ناصر مكارم الشيرازي:
( لا شك أنّ العذاب العظيم إِشارة إلى عذاب يوم القيامة، إلاّ أنّ بين المفسّرين نقاشاً واحتمالات عديدة في نوعية العذابين الآخرين وماهيتهما. إلاّ أنّ الذي يرجحه النظر أن واحداً من هذين العذابين هو العقاب الإِجتماعي لهؤلاء، والمتمثل في فضيحتهم وهتك أسرارهم، والكشف عمّا في ضمائرهم من خبيث النوايا، وهذا يستتبع خسرانهم لكل وجودهم الإِجتماعي، والدليل على ذلك ما قرأناه في الآيات السابقة، وقد ورد في بعض الأحاديث أنّ أعمال هؤلاء عندما كانت تبلغ حد الخطر، كان النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يعرف هؤلاء الناس بأسمائهم وصفاتهم، بل وربّما طردهم من المسجد.
والعذاب الثّاني هو ما أشارت إِليه الآية (50) من سورة الأنفال، حيث تقول هناك: { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } [الأنفال/50].
ويحتمل أيضاً أن يكون العذاب الثّاني إشارة إلى المعاناة النفسية والعذاب الروحي الذي كان يعيشه هؤلاء نتيجة انتصارات المسلمين في كل الجوانب والأبعاد والمجالات)([94]).
وقال العلامة الطباطبائي:
( وقد اختلفت كلماتهم في المراد من تعذيبهم مرتين ما هما المرتان؟ فقيل: يعني مرة في الدنيا بالسبي والقتل ونحوهما ومرة بعذاب القبر، وقيل: في الدنيا بأخذ الزكاة وفي الآخرة بعذاب القبر، وقيل بالجوع مرتين وقيل مرة عند الاحتضار ومرة في القبر وقيل: بإقامة الحدود وعذاب القبر، وقيل: مرة بالفضيحة في الدنيا ومرة بالعذاب في القبر، وقيل غير ذلك، ولا دليل على شيء من هذه الأقوال، وإن كان ولا بد فأولها أولاها)([95]).
فهذا إجماع الأمة على أن هؤلاء المنافقين يجب أن يفتضح أمرهم ويؤول شأنهم إلى الخزي والعذاب في الدنيا قبل الآخرة.
فهل هذه كانت عاقبة أبي بكر وعمر ومن يتهمهم الشيعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخاصته بالنفاق؟ ألا تدل هذه الآية على براءتهم من النفاق؟
ثم اسمع إلى قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة: 73][ التحريم: 9].
قال الشيخ ناصر مكارم الشيرازي:
( المستفاد من الرّوايات وأقوال المفسّرين هو أنّ المقصود من جهاد المنافقين هو الأشكال والطرق الأُخرى للجهاد غير الجهاد الحربي والعسكري، كالذم والتوبيخ والتهديد والفضيحة، وربّما تشير جملة (واغلظ عليهم) إلى هذا المعنى)([96]).
كما أن الله تعالى نهى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم عن طاعة الكفار والمنافقين، فقال: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } [الأحزاب: 1].
وقال تعالى: { لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا } [الأحزاب: 60 - 62].
والسنة: هي العادة، فعادة الله تعالى أن ينصر المؤمنين ويعزهم، ويخذل المنافقين ويقهرهم.
وقال تعالى: { وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ } [المنافقون: 7، 8].
يقول شيخ الإسلام إبن تيمية: ( وبالجملة فلا ريب أن المنافقين كانوا مغمورين أذلاء مقهورين لاسيما في آخر أيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي غزوة تبوك لأن الله تعالى قال: { يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [سورة المنافقين ] فأخبر أن العزة للمؤمنين لا للمنافقين فعلم أن العزة والقوة كانت في المؤمنين وأن المنافقين كانوا أذلاء بينهم فيمتنع أن يكون الصحابة الذين كانوا أعز المسلمين من المنافقين بل ذلك يقتضى أن من كان أعز كان أعظم إيمانا ومن المعلوم أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الخلفاء الراشدين وغيرهم كانوا أعز الناس وهذا كله مما يبين أن المنافقين كانوا ذليلين في المؤمنين فلا يجوز أن يكون الأعزاء من الصحابة منهم)([97]).
المطلب الثاني
من الذي يحدد السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار؟
إن من أكبر المشاكل التي تعوق التقارب بين أهل السنة والشيعة، هو طعن الشيعة في عامة الصحابة بدون تحديد أعيانهم، ومن دون تفرقة بين السابقين منهم واللاحقين؛ ومن دون تمييز بين السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وبين عدد من المنافقين الذين كانوا في عداد الصحابة في ظاهر الأمر.
ونحن نعلم يقينا أن هذه المشكلة غير قابلة للحل، لأن عقيدة الإمامة التي بُني عليها التشيع لم تكن معروفة في مجتمع الصحابة، لذلك لم نجد لها أثرا عند أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا في حياته صلى الله عليه وآله وسلم ولا بعد وفاته مثلا في إجتماع السقيفة، ولا بعده.
لذلك فإن من أهم المشاكل التي فرّقت بين أهل السنة والشيعة، هو عدم إتفاقهم على تحديد أعيان المذكورين في قوله تعالى: { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [التوبة: 100]. وفي قوله : { وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَهَدُوا فِى سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ ءَاوَوا وَّنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }[ الأنفال: 74].
فمن خلال الوصف العام، يتفق الطرفان على أن المراد بالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار: هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة، أو هم الذين صلوا إلى القبلتين، أو هم الذين شاركوا في معركة بدر، أو هم الذين أسلموا قبل صلح الحديبية.
يقول الشيخ الطوسي:
( واختلفوا فيمن نزلت فيه هذه الآية، فقال أبو موسى وسعيد بن المسيب وابن سيرين وقتادة: نزلت فيمن صلى القبلتين، وقال الشعبي: نزلت فيمن بايع بيعة الرضوان وهي بيعة الحديبية، وقال: من اسلم بعد ذلك وهاجر فليس من المهاجرين الأولين.
وقال أبو علي الجبائي: نزلت في الذين أسلموا قبل الهجرة)([98]).
ويقول العلامة الطباطبائي:
( وقد اختلفت الكلمة في المراد بالسابقين الأولين فقيل: المراد بهم من صلى إلى القبلتين، وقيل: من بايع بيعة الرضوان وهي بيعة الحديبية، وقيل: هم أهل بدر خاصة، وقيل: هم الذين أسلموا قبل الهجرة، وهذه جميعا وجوه لم يوردوا لها دليلا من جهة اللفظ.
والذي يمكن أن يؤيده لفظ الآية بعض التأييد هو أن بيان الموضوع - السابقون الأولون - بالوصف بعد الوصف من غير ذكر أعيان القوم وأشخاصهم يشعر بأن الهجرة والنصرة هما الجهتان اللتان روعي فيهما السبق و الأولية)([99]).
ويضيف قائلا: ( فالمراد بالسابقين هم السابقون إلى الإيمان من بين المسلمين من لدن طلوع الإسلام إلى يوم القيامة.
ولكون السبق ويقابله اللحوق والإتباع من الأمور النسبية، ولازمه كون مسلمي كل عصر سابقين في الإيمان بالقياس إلى مسلمي ما بعد عصرهم كما أنهم لاحقون بالنسبة إلى من قبلهم قيد "السابقون" بقوله: "الأولون" ليدل على كون المراد بالسابقين هم الطبقة الأولى منهم.
وإذ ذكر الله سبحانه ثالث الأصناف الثلاثة بقوله: "والذين اتبعوهم بإحسان" ولم يقيده بتابعي عصر دون عصر ولا وصفهم بتقدم وأولية ونحوهما وكان شاملا لجميع من يتبع السابقين الأولين كان لازم ذلك أن يصنف المؤمنون غير المنافقين من يوم البعثة إلى يوم البعث في الآية ثلاثة أصناف: السابقون الأولون من المهاجرين، والسابقون الأولون من الأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، والصنفان الأولان فاقدان لوصف التبعية وإنما هما إمامان متبوعان لغيرهما والصنف الثالث ليس متبوعا إلا بالقياس.
وهذا نعم الشاهد على أن المراد بالسابقين الأولين هم الذين أسسوا أساس الدين ورفعوا قواعده قبل أن يشيد بنيانه ويهتز راياته صنف منهم بالإيمان واللحوق بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والصبر على الفتنة والتعذيب، والخروج من ديارهم وأموالهم بالهجرة إلى الحبشة والمدينة، وصنف بالإيمان و نصرة الرسول وإيوائه وإيواء من هاجر إليهم من المؤمنين والدفاع عن الدين قبل وقوع الوقائع )([100]).
ثم أن العلامة الطباطبائي يؤكد أن رضى الله تعالى عن السابقين الأولين هو رضىً لا سخط بعده، فيقول:
( وأما رضاه تعالى فإنما هو من أوصافه الفعلية دون الذاتية فإنه تعالى لا يوصف لذاته بما يصير معه معرضا للتغيير والتبدل كأن يعرضه حال السخط إذا عصاه ثم الرضى إذا تاب إليه، وإنما يرضى ويسخط بمعنى أنه يعامل عبده معاملة الراضي من إنزال الرحمة وإيتاء النعمة أو معاملة الساخط من منع الرحمة وتسليط النقمة والعقوبة.
ولذلك كان من الممكن أن يحدث له الرضى ثم يتبدل إلى السخط أو بالعكس غير أن الظاهر من سياق الآية أن المراد بالرضى هو الرضى الذي لا سخط بعده فإنه حكم محمول على طبيعة أخيار الأمة من سابقيهم وتابعيهم في الإيمان والعمل الصالح، وهذا أمر لا مداخلة للزمان فيه حتى يصح فرض سخط بعد رضى وهو بخلاف قوله تعالى: "لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة" الآية: [ الفتح: - 18] فإنه رضى مقيد بزمان خاص يصلح لنفسه لأن يفرض بعده سخط)([101]).
ويقول الشيخ ناصر مكارم الشيرازي:
( فتقول الآية الأُولى من الآيات محل البحث{ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } [الأنفال/72]، فقد أُشير في هذا القسم من الآية إِلى الطائفتين، الأُولى والثّانية [المهاجرون، والأنصار] أي الذين آمنوا في مكّة ثمّ هاجروا منها إِلى المدينة، والذين آمنوا في المدينة ثمّ آزروا النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونصروه ودافعوا عنه وعن المهاجرين، وقد وصفتهم الآية بأنّهم بعضهم أولياء بعض، وبعضهم حماة بعض.
والذي يسترعي النظر أنّ الآية وصفت الطائفة الأُولى بأربع صفات هي: الإِيمان، والهجرة والجهاد المالي والإِقتصادي « وذلك عن طريق الإِعراض عن أموالهم في مكّة، وما بذلوه من أموال في غزوة بدر »، والصفة الرّابعة جهادهم بأنفسهم ودمائهم وأرواحهم.
أمّا الأنصار فقد وصفتهم الآية بصفتين هما: الإِيواء، والنصرة.
وقد جعلت هذه الآية الجميع مسؤولين بعضهم عن بعض، ويتعهد كلّ بصاحبه بقولها { بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ }.
فهاتان الطائفتان ـ في الحقيقة ـ كانتا تمثلان مجموعتين متلازمتين لا يمكن لأحدهما الإِستغناء عن الأخرى، إذ منهما يتكون نسيج المجتمع الإِسلامي، فهما بمثابة «المغزل والخيط».
أمّا في الآية التالية فنجد تأكيداً على مقام المهاجرين والأنصار مرّة أُخرى، وما لهما من موقع وأثر في تحقق أهداف المجتمع الإِسلامي، فتثني عليهم الآية بقولها: { وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } لأنّهم هبوا لنصرة الإِسلام في الأيام الصعبة الشديدة وفي الغربة والمحنة وقد اشترك كل فرد منهم بنوع من النصرة لله ولرسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) { لهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }.
فهم فائزون بثواب الله والنعمة الأخروية، كما أنّهم يتمتعون في هذه الدنيا بالعزة ورفعة الرأس والكرامة)([102]).
فعلى أي وصف من هذه الأوصاف، فإن الإتفاق حاصل بين أهل السنة والشيعة بأن الخلفاء الثلاثة الذين حكموا قبل علي هم داخلون في السابقين الأولين من المهاجرين.
ونحن هنا وإن كنا لا نتفق مع الشيعة في هدم قاعدة عدالة جميع الصحابة ـ على الأقل في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويقيننا بأن أحدا منهم لم يتعمد الكذب في الرواية عنه صلى الله عليه وآله وسلم ، إلاّ أننا سنتنازل عن هذه القاعدة ـ من باب الجدل ـ ليخلص لنا بعض السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين هاجروا من مكة إلى المدينة وشهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جميع المعارك التي خاضها مع أعداء الدين، ثم واصلوا السير على خطى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تحمل أعباء الدين ونشره في الآفاق.
فبعد هذا الوصف العام لمن يدخلون في زمرة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، تعال معي لنرى كيف فرّغوا هذه الآيات من محتواها، وجعلوها في عدة أشخاص مِمّن وقفوا إلى جانب علي بن أبي طالب في حروبه الداخلية.
يقول الشريف المرتضى:
( فأما قوله تعالى: ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار) فلنا في الكلام عليه وجهان: أحدهما أن ننازع في أن السبق ها هنا السبق إلى الإسلام، والوجه الآخر أن نسلم ذلك فنبين أنه لا حجة في الآية على ما ادعوه، والوجه الأول بين لأن لفظة " السابقين " في الآية مطلق غير مضاف، ويحتمل أن يكون مضافا إلى إظهار الإسلام، وإتباع النبي صلى الله عليه وآله بل المراد به السبق إلى الخيرات والتقدم في فعل الطاعات، ويكون قوله " الأولون " تأكيدا لمعنى السبق كما يقولون: فلان سابق في الفضل إلى الخيرات سابق فيؤكدون باللفظين المختلفين، وقد قال الله تعالى: ( والسابقون السابقون أولئك المقربون) وقال تعالى: ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله) فإن قيل: إذا كان المراد ما ذكرتم فأي معنى لتخصيص المهاجرين والأنصار ولولا أنه أراد السبق إلى الإسلام.
قلنا: لم نخص المهاجرين والأنصار دون غيرهم لأنه تعالى قال: ( والذين اتبعوهم بإحسان).
وهو عام في الجميع على أنه لا يمتنع أن يخص المهاجرين والأنصار بحكم هو لغيرهم، إما لفضلهم وعلو قدرهم أو لغير ذلك من الوجوه.
فأما الوجه الثاني فالكلام فيه أيضا بيّن لأنه إذا سلم أن المراد بالسبق هو السبق إلى إظهار الإسلام فلا بد من أن يكون مشروطا بالإخلاص في الباطن لأن الله تعالى لا يعد بالرضا من أظهر الإسلام ولم يبطنه فيجب أن يكون الباطن معتبرا ومدلولا عليه فيمن يدعي دخوله تحت الآية حتى يتناوله الوعد بالرضا ومما يشهد بأن الإخلاص مشروط مع السبق إلى إظهار الإسلام قوله تعالى: (والذين اتبعوهم بإحسان) فشرط الإحسان الذي لا بد أن يكون مشروطا في الجميع على أن الله تعالى قد وعد الصابرين والصادقين بالجنان، فقال: ( هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم) وقوله تعالى: ( وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) ولم يوجب ذلك أن يكون كل صابر وصادق مقطوعا له بالجنة، بل لا بد من شروط مراعاة فكذلك القول في السابقين على أنه لا يخلو المراد بالسابقين من أن يكون هو الأول الذي لا أول قبله أو يكون من سبق غيره، وإن كان مسبوقا والوجه الأول هو المقصود لأن الوجه الثاني يؤدي إلى أن يكون جميع المسلمين سابقين إلا الواحد الذي لم يكن بعده إسلام أحد، ومعلوم خلاف هذا فلم يبق إلا الوجه الأول ولهذا أكده تعالى بقوله: ( الأولون) لأن من كان قبله غيره لا يكون أولا بالإطلاق، ومن هذه صفته بلا خلاف أمير المؤمنين عليه السلام وحمزة وجعفر وخباب بن الأرت وزيد بن ثابت وعمار ومن الأنصار سعد بن معاد وأبو الهيثم بن التيهان وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين فأما أبو بكر ففي تقدم إسلامه خلاف معروف فعلى من ادعى تناول الآية أن يدل أنه من السابقين)([103]).
ويقول شيخهم الملقب بـ( المفيد ):
( فإن قال قائل: فإني أترك التعلق بالخبر عن النبي صلى الله عليه وآله بأن القوم في الجنة لما طعنتم به فيه، مما لا أجد منه مخلصا، ولكن خبروني عن قوله تعالى: { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم }( التوبة 9: 100).
أليس قد أوجب لأبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وسعيد جنات عدن، ومنع بذلك من تجويز الخطأ عليهم في الدين والزلل عن الطريق المستقيم، فكيف يصح القول مع ذلك بأن الإمامة كانت دونهم لأمير المؤمنين عليه السلام وأنهم دفعوه بالتقدم عليه عن حق وجب له على اليقين، وهل هذا إلا متناقض؟!
قيل له: إن الله سبحانه لا يعد أحدا بالثواب إلا على شرط الإخلاص والموافاة بما يتوجه الوعد بالثواب عليه، وأجل من أن يعري ظاهر اللفظ بالوعد عن الشروط، لما في العقل من الدليل على ذلك والبرهان.
وإذا كان الأمر على ما وصفناه، فالحاجة ماسة إلى ثبوت أفعال من ذكرت في السبق والطاعة لله تعالى في امتثال أوامره ظاهرا على وجه الإخلاص، ثم الموافاة بها على ما ذكرناه حتى يتحقق لهم الوعد بالرضوان والنعيم المقيم وهذا لم يقم عليه دليل، ولا تثبت لمن ذكرت حجة توجب العلم واليقين، فلا معنى للتعلق بظاهر الآية فيه، مع أن الوعد من الله تعالى بالرضوان إنما توجه إلى السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، دون أن يكون متوجها إلى التالين الأولين.
والذين سميتهم من المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام ومن ضممت إليهم في الذكر، لم يكونوا من الأولين في السبق، وإنما كانوا من التالين للأولين، والتالين للتالين.
والسابقون الأولون من المهاجرين، هم: أمير المؤمنين عليه السلام، وجعفر بن أبي طالب، وحمزة بن عبد المطلب، وخباب، وزيد بن حارثة، وعمار وطبقتهم.
ومن الأنصار النقباء المعروفون، كأبي أيوب، وسعد بن معاذ، وأبي الهيثم بن التيهان، وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين، ومن كان في طبقتهم من الأنصار.
فأما أصحابك فهم الطبقة الثانية ممن ذكرناه، والوعد إنما حصل للمتقدمين في الإيمان دونهم على ما بيناه، وهذا يسقط ما توهمت)([104]).
فأنت ترى رغم سذاجة أقوالهم وبعدها عن الحق، وحقائق التاريخ، ومجانبتها للصواب؛ فإنه يدل على أن عقيدة الإمامة هي المحرك الأول والأخير في طعنهم في عدالة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. وبهذا يتضح أن خلاف أهل السنة مع الشيعة ليس في تنزيه الصحابة والقول بعدالتهم في الجملة، وإنما نزاعهم في تحديد السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، الذين أثبت الله تعالى رضاه عنهم؛ وهذا القدر من البيان يكفي لمن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
المطلب الثالث
هل للصحابة خصوصية في مسألة العدالة
لقد كثر قول الشيعة في عدالة أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ووجوب إعتبارهم كسائر المسلمين إلى قيام الساعة، لأن القرآن ـ على رأيهم ـ ذكر كثيرا من مساوئهم وأخطائهم.
فمثلا يقول شيخ الشيعة مرتضى العسكري وتحت عنوان:( رأي مدرسة أهل البيت في عدالة الصحابة):
( ترى مدرسة أهل البيت تبعا للقرآن الكريم: أن في الصحابة مؤمنين أثنى عليهم الله في القرآن الكريم . . . وكذلك تبعا للقرآن ترى فيهم منافقين ذمهم الله في آيات كثيرة . . . وفيهم من أخبر الله عنهم بالافك . . . وفيهم من قصد اغتيال رسول الله . . . وان التشرف بصحبة النبي صلى الله عليه وآله ليس أكثر امتيازا من التشرف بالزواج بالنبي صلى الله عليه وآله، فان مصاحبتهن له كانت من أعلى درجات الصحبة، وقد قال الله تعالى في شأنهن: " يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا، ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين واعتدنا لها رزقا كريما يا نساء النبي لستن كأحد من النساء... " الأحزاب / 30 - 32. وقال في اثنتين منهما: " إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وان تظاهرا عليه فان الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير " إلى قوله تعالى " ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلن يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين، وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة... ومريم ابنة عمران... " التحريم من أول السورة إلى آخرها. ومنهم من أخبر عنهم الرسول صلى الله عليه وآله في قوله عن يوم القيامة: " وانه يجاء برجال من أمتي، فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول يا رب أصيحابي، فيقال انك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: " وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم " فيقال إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم." وفي رواية: " ليردون علي ناس من أصحابي الحوض حتى عرفتهم اختلجوا دوني فأقول: أصحابي فيقول لا تدري ما أحدثوا بعدك ". وفي صحيح مسلم: " ليردن علي الحوض رجال ممن صاحبني حتى إذا رأيتهم رفعوا الي اختلجوا دوني فَلَأقولَنّ أي رب أصيحابي، فَلَيُقالّنّ لي انك لا تدري ما أحدثوا بعدك ").
وأضاف: وتحت عنوان: (ضابطة لمعرفة المؤمن والمنافق ):
( لما كان في الصحابة منافقون لا يعلمهم إلا الله، وقد أخبر نبيه بأن عليا لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق كما رواه الإمام علي عليه السلاموأم المؤمنين أم سلمة، وعبد الله بن عباس، وأبو ذر الغفاري وانس بن مالك وعمران بن حصين، وكان ذلك شائعا ومشهورا في عصر رسول الله صلى الله عليه وآله، قال أبو ذر: ما كنا نعرف المنافقين إلا بتكذيبهم الله ورسوله والتخلف عن الصلوات والبغض لعلي بن أبي طالب. وقال أبو سعيد الخدري: إنا كنا لنعرف المنافقين - نحن معاشر الأنصار - ببغضهم على بن أبي طالب.
وقال عبد الله بن عباس: إنا كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله ببغضهم علي بن أبي طالب. وقال جابر بن عبد الله الأنصاري: ما كنا نعرف المنافقين إلا ببغض علي بن أبي طالب. لهذا كله ولقول رسول الله صلى الله عليه وآله في حق الإمام علي: " اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ". فهم يحتاطون في أخذ معالم دينهم من صحابي عادى عليا ولم يواله، حذرا من أن يكون الصحابي من المنافقين الذين لا يعلمهم إلا الله)([105]).
فهذا الرأي لا يعامل أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كسائر المسلمين، وإنما يريد أن يطعن فيهم جميعا إلا القليل منهم، بأنهم منافقون، لأن المنافقين لا يعلمهم إلا الله تعالى. فهم ومن باب أخذ الحيطة لدينهم، لا يأخذون معالم دينهم من جميع الصحابة ( حذرا من أن يكون الصحابي من المنافقين الذين لا يعلمهم إلا الله).
فعلى هذا الرأي ليس عند الشيعة في حقيقة الأمر سمة، أو تمييز واضح يفرق بين من المنافقين والمؤمنين من أصحاب النبي، فالكل مشكوك في إيمانه غير علي بن أبي طالب!!
أين الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة، وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم؟
أين الأنصار الذين آووا ونصروا وجاهدوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بدر وأحد والأحزاب؟
أليس من حق أولئك العظام أن تأمنهم الأمة على نقل أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟
فيقال للشيعة:
هل تطعنون في أحاديث السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، أم في الأحاديث المروية عن مجاهيل الأعراب؟
وهل إختلط أحاديث ثقات الأصحاب بأحاديث جفاة الأعراب لو أرسلوا الأحاديث ولم يسندوها, وقطعوها ولم يصلوها؟
وكم يبلغ عدد الصحابة المجروحين، وما سبب الجرح في كل واحد منهم؛ وأين الصحابة العدول في نظرك، وأين مروياتهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كتبك؟!
ثم أن الذي يرد الحديث يبين سبب رده لكل حديث، حسب القواعد المعمولة في هذا الشأن، وقد يرد حديثاً أو عشرة، أو أكثر؛ لكنه لا يرد كتب الحديث برمتها التي تحتوي على عشرات الآلاف من الأحاديث المسندة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -!
إذن لابد من معيار صحيح وسليم متفق عليه بين الأمة في قبول أو رد الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم !
وإلاّ لزم طرح: حديث أهل الأثر, وحديث المعتزلة والزّيدية؛ والتشكيك في معرفة القرآن العظيم بما فيه من علم النّاسخ والمنسوخ, والعام والخاصّ، والتشكيك في علوم اللغة والتاريخ. . إلخ.
ربما يوافق أهل السنة والجماعة الشيعة على أن يكون حب علي بن أبي طالب هو المعيار في التفرقة بين الصحابي المؤمن والمنافق، لكن بشرط أن لا تكون لمسألة الإمامة والعصمة دخل في هذا المعيار؛ لأن أهل السنة يرون أن القول بإمامة علي من الله ورسوله، والقول بعصمته، هو من الغلو الذي نهى عنه سيدنا علي رضي الله عنه في قولته المشهورة: ( سَيَهْلِكُ فِيَّ صِنْفَانِ مُحِبٌّ مُفْرِطٌ يَذْهَبُ بِهِ الْحُبُّ إِلَى غَيْرِ الْحَقِّ وَمُبْغِضٌ مُفْرِطٌ يَذْهَبُ بِهِ الْبُغْضُ إِلَى غَيْرِ الْحَقِّ وَخَيْرُ النَّاسِ فِيَّ حَالًا النَّمَطُ الْأَوْسَطُ فَالْزَمُوهُ وَالْزَمُوا السَّوَادَ الْأَعْظَمَ فَإِنَّ يَدَ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّاذَّ مِنَ النَّاسِ لِلشَّيْطَانِ كَمَا أَنَّ الشَّاذَّ مِنَ الْغَنَمِ لِلذِّئْبِ أَلَا مَنْ دَعَا إِلَى هَذَا الشِّعَارِ فَاقْتُلُوهُ وَلَوْ كَانَ تَحْتَ عِمَامَتِي هَذِهِ . . )([106]).
إن أهل السنة والجماعة هم ـ كما قال سيدنا علي ـ النمط الأوسط في علي، وهم السواد الأعظم من المسلمين اليوم، وهم الذين يحبون عليا وأهل بيته ويعظمونهم، ولكن من دون المساس بغيرهم من أصحاب نبيهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولاسيما السابقين الأولين منهم.
إن بغض علي حتى يكون هو المعيار في التفرقة بين المؤمن والمنافق، يجب أن يكون بغض من يبغضه لأجل دين علي وإيمانه، لا لأجل خصومة حدثت بينه وبين غيره بسبب إجتهاد في حكم شرعي، أو بسبب أمر سياسي دنيوي لا علاقة له بإيمان علي وإسلامه.
لقد تقاتل الصحابة فيما بينهم بسبب مقتل عثمان وكيفية القصاص من قتلته، وهذا أمر مشهور معلوم ـ سنناقشه فيما بعد ـ وكانوا يسمون قتالهم قتال أهل القبلة، وحدث هذا على مر التاريخ، لاسيما في العهدين الأموي والعباسي؛ فالمسلمون ليسوا معصومين ولا ملائكة.
فبدلا من أن تتسم نظرة الشيعة لأصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشيء من التقدير والإحترام لما قدموه من تضحيات في سبيل نشر هذا الدين وإعزاز المسلمين، والقول بعدالتهم ـ على الأقل في ما يخص الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ لأنهم حفظة القرآن الكريم، ونقلة السنة النبوية الشريفة، بحكم معاصرتهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعايشتههم له في حله وترحاله، صاروا يطعنون بهم ليلا ونهارا.
كان المأمول من الشيعة ـ يوم أن ألغوا فضل أصحاب النبي وتمَيّزهم عمن يأتون من بعدهم ـ بمقتضى قول الله تبارك وتعالى: } لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ{ [الحديد/10]، أن يعاملوهم كما يُعامل أي مسلم في أن الأصل فيه العدالة، ما لم يرتكب ناقضا من نواقض العدالة.
إن مما لا يحتمله الوجدان الإنساني، أن لا ينصف المنتسبين إلى الإسلام أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين كانوا هم السبب في دخول هؤلاء إلى الإسلام.
ومما يبعث الأسى والحزن أن يُعامل الجيل الأول من المسلمين الذين ضحوا بأهلهم وأموالهم وأوطانهم بسبب هذا الدين كما يُعامل اليهود والنصارى. بل لا فرق عند الشيعة بين أبي بكر وعمر، وبين أبي جهل وأبي لهب. بل ربما كان ذنبهما عند الشيعة أعظم من ذنوب مشركي أهل الأرض قاطبة!!
مهما كتبنا، ومهما قلنا، ومهما صرخنا، فليس له عند التشيع مقدار جناح بعوضة، لأن التشيع تأسس وإنبنى وشيد أركانه على عقيدة الإمامة التي تخوّن الأمة الإسلامية، وتطعن في سابقيها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
المطلب الرابع
منزلة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار
إذا كانت الشيعة لا تفرق بين المؤمن والمنافق من الصحابة، عليهم أن يفرقوا بين السابقين من المهاجرين والأنصار الذين أسلموا من دون رهبة أو رغبة وبين من جاء إسلامه متأخرا، بعدما أصبحت للمسلمين دولة وقوة.
عليهم أن يفرقوا بين من حارب المرتدين ونشر الإسلام في المعمورة، وبين غيرهم ممن ليس له سابقة في الإسلام ولا قدم راسخة ولا جهاد ولا تضحية.
مَنْ قال أن الشيعة تطعن في الذين حاربوا عليا فقط؟
مَنْ قال أن الشيعة تطعن في الطلقاء، وتطعن في معاوية ويزيد وبني أمية فقط؟
لقد أخطأ من ظن أن عداء الشيعة لا ينحصر بالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ولاسيما في أبي بكر وعمر وعثمان؟
ولكن مهما قيل ويُقال في الطعن في أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، فإن شأنهم يبقى عاليا، وسيرتهم تبقى نقية طاهرة من كل شائبة، ماداموا أثبتوا بسيرتهم العملية في عهد نبيهم وبعده، أنهم أهل إخلاص ووفاء لدينهم، وللمسلمين، ولم يدنسوا جانبهم بشيء من زخارف الدنيا وملذاتها، ولم يجعلوا سلطانهم دولة بين أبنائهم، ولا سفكوا في سلطانهم دم امرئ مسلم. ويكفي العاقل المنصف ما قاله سيدنا عثمان دليلا على صحة إيمانهم، ونبذهم للدنيا وملذاتها، حينما أشاروا له بالدفاع عن نفسه وأهله، فقال: ( لا أكون أول من خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أمته بالقتل)، فصبر على البلاء، واستسلم للمحنة وفدى بنفسه الأمة([107]).
يقول العلامة محمد حسين فضل الله، وتحت عنوان: ( السابقون والمنافقون ):
( { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} الذين سبقوا إلى الإيمان والهجرة والنصرة والجهاد، ووعوا مسؤوليّة الدعوة إلى الله، في الوقت الذي لم يكن هناك للإسلام قوّةٌ، ولم يكن مع الرسول إلا القليل، فلم يستوحشوا لذلك، ولم يخافوا من نتائجه، بل أقبلوا على الساحة إقبال التضحية مستعدين ليقدّموا الحياة كلها قرباناً لله، ليكونوا الروّاد للمسيرة الطويلة، ليتعلم الناس من خلال شجاعتهم كيف يواجهون شجاعة الموقف أمام التحدّي بالقدوة الحسنة. وبذلك استطاعوا أن يدفعوا المسيرة للاستمرار، وأن يصنعوا لهم أتباعاً في الخط والموقف { وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ} فساروا على الطريق نفسه المنطلق إلى الله، وأحسنوا الإيمان والعمل من حيث أحسن الأوّلون { رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ } بما أطاعوه وعبدوه وأصلحوا نيّاتهم بين يديه وأخلصوا له العمل الصالح { وَرَضُواْ عَنْهُ } في ما أنعم عليهم من نعمه الوافرة الكثيرة المتتابعة التي لا انقطاع لها ولا أمد { وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } الذي يفتح للإنسان كل رحاب العفو والرضوان والغفران، فيحسّ معه بطمأنينة الروح، وسكينة النفس، وروحانية المشاعر، كما يُقبل ـ بكل كيانه ـ على النعيم الباقي الذي يتقلب فيه تحت ظلال رحمة الله وعفوه ورضوانه، وتلك هي الصورة المشرقة التي توحي للنفس بالإشراق والرضا والسكون، فأين الصورة الثانية؟
المنافقون من الأعراب:
{ وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النَّفَاقِ } وأصرّوا عليه، وانطلقوا في هذا الاتجاه من أجل أن يقفوا حاجزاً بين الناس وبين الإيمان، ليفتنوهم عن الدين، ويبعدوهم عن وحيه وهداه. وربما كانت خصوصية أهل المدينة أنهم يواجهون الساحة من خلال نقاط الضعف اليوميّة الموجودة فيها، ويتحركون فيها من خلال الخطوط المتشابكة التي لا تتمكن من الفصل بين لونٍ ولونٍ وموقع وموقع، ما يؤدي إلى الكثير من المرونة في الحركة واللعب على حركة الواقع في استغلالٍ للعواطف والمواقف، { لاَ تَعْلَمُهُمْ } لأنك لا تحيط بالغيب في كثيرٍ من الأجواء المحيطة بك أو البعيدة عنك، مما يحتاج إلى الاطلاع على خفايا الأشياء ودوافعها ونتائجها المستقبليّة مما لا يعلمه إلاّ الله { نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } لأننا نعلم كل خفايا الأوضاع والأسرار { سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ } ربما كان ذلك عذاب الموت وعذاب الحساب في القبر، وربما كان هناك وجهٌ آخر للمسألة غير ذلك في ما ينتظرهم من عذاب الدنيا بشكلٍ متكرّر، { ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ } في ما ينتظرهم من عذاب الآخرة)([108]).
ويضيف قائلا وتحت عنوان: ( الطليعة المؤمنة في مواجهة المشركين ):
( { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} هؤلاء هم الطليعة التي واجهت التحدي الكبير في التجربة الأولى في خط المواجهة بين المشركين والمسلمين، عندما كان المسلمون قلةً في العدد وفي العدة وكانت الظروف الاجتماعية الضاغطة تحاصرهم من كل جانب، في ما كان يملكه المشركون من مواقع القوة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وفي ما كانت الطروحات التي يطرحونها في مجال العقيدة مخالفة للواقع العقيدي والعبادي في حياة الناس الذين يعبدون الأصنام من موقع الضلال في العقيدة، والتقديس للإرث الذي توارثوه عن الآباء والأجداد، مما كان يفرض عليهم الحصار على أكثر من صعيد.
ولهذا كان ثباتهم يتميز بالعناصر المتنوعة في مجالها الروحي والفكري والعملي التي استطاعت أن تثبتهم في مواقع الاهتزاز، فقد أخرجهم المشركون من ديارهم وأموالهم، ليكون ذلك وسيلةً من وسائل الضغط عليهم ليسقطوا وينحرفوا، فلم يسقطوا ولم ينحرفوا. وقد أرادوهم أن يتركوا الرسول، ليحافظوا بذلك على حياتهم وأوضاعهم الخاصة، فكان موقفهم أن نصروا الله في دينه، ونصروا الرسول في موقفه ورسالته، من دون أن يكون لهم أيّ طمعٍ بمالٍ أو جاهٍ، بل كان كل همِّهم أن يحصلوا على فضلٍ من الله ورضوان. وذلك هو الدليل على صدقهم، ليكون عنوان الصادقين هو العنوان الذي يتميزون به، لأنهم صدقوا الله في القول والعمل، فكان موقفهم صورةً لدعوتهم في خط الإيمان.
وهذا هو الذي جعل لهم الميزة على المسلمين الآخرين، لأنهم آمنوا في المواقع الصعبة للإيمان، وتحملوا الكثير من التضحيات في سبيل الله، وكان واقعهم واقعٍ البؤس المادي، لأنهم لم يستطيعوا أن يحملوا معهم شيئاً من مواقع بلدانهم. فكان النبيصلى الله عليه وآله وسلم يوحي إلى المسلمين من الأنصار أن يجعلوا لهم بعض الميزة في العطاء، بالرغم من أن التشريع لا يميزهم عن غيرهم، ولكن المسألة تخضع للظروف الطارئة في التمييز الطارىء.
وهكذا ميّز الرسول المهاجرين على الأنصار في الأموال التي حصل عليها من بني النضير، فقد جاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بني النضير للأنصار: إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم، وتشاركونهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة، فقال الأنصار: بل نقسم لهم من ديارنا وأموالنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها.
وهكذا نرى من خلال حديث ابن عباس أن الرسول كان يريد أن يحل مشكلة هؤلاء المهاجرين، ويوحي إلى الأنصار بمسؤوليتهم عنهم، بمقاسمتهم أموالهم وديارهم، أو بالتنازل لهم عن حصتهم في الفيء، ما يوحي بمسؤولية كل جيل مسلم عن رعاية جيل الطليعة الإسلامية التي ساهمت في انطلاق الحركة وفي تثبيت القاعدة وامتداد الخط. فكان الأنصار في مستوى المسؤولية، بحيث أعلنوا عن استعدادهم للمشاركة لهم في أموالهم وديارهم وعن تنازلهم لهم عن حصتهم في الفيء، وذلك من خلال وعيهم للدور الكبير الذي قام به هؤلاء المهاجرون لمصلحة الإسلام والمسلمين، مما جعلهم يشعرون لهم بما يشبه الاعتراف بالجميل. وهذا ما أكده القرآن في حديثه عن الأنصار في مشاعرهم الروحية وفي ممارساتهم العملية تجاه المهاجرين)([109]).
ويضيف قائلا في قوله تعالى: { لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ}[ الحديد:10]:
( لأن هناك فرقاً كبيراً بين الذين يجاهدون وينفقون في الظروف الصعبة القاسية التي كان الإسلام فيها يعاني من قلة العدد والعدة، في مواجهة القوة الكافرة التي كانت تتميز بكثرة العدد والعدة، وبين الذين يجاهدون بعد الفتح الذي كانت القوة فيه للمسلمين وذلك بعد فتح الحديبية أو فتح مكة، بحيث لم تكن هناك مشكلة كبيرة في العدد والعتاد، الأمر الذي يجعل الفئة الأولى في المواقع المتقدمة في درجات القرب من الله، لأن مسألة المعاناة في مواقفهم والأثر الكبير الإيجابي في نصرتهم للإسلام في مواقعهم تحمل ميزةً كبيرةً لا تقترب منها الفئة الأخيرة).
ويقول الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، وتحت عنوان: ( موقع السّابقين ):
( في كل ثورة اجتماعية جبارة تقوم ضد أوضاع المجتمع الفاسدة، فإنّ طلائع الثورة هم أعمدتها، وعلى عاتقهم يقع حملها وثقلها، وهؤلاء في الحقيقة هم أوفى عناصر الثورة، لأنّهم نصروا قائدهم وقدوتهم في أحلك الظروف والتفوا حوله في ساعات المحنة والوحدة رغم أنّهم محاصرون وتحيط بهم أنواع الأخطار إلاّ أنّهم لم يتخلوا عن دعمهم ونصرتهم وتضحيتهم. خاصّة وإن مطالعة تاريخ صدر الإِسلام تعطي صورة واضحة عن مدى ضخامة المشاكل التي واجهها السابقون والرعيل الأوّل من المسلمين!
كيف كانوا يؤذونهم ويعذبونهم لكنّهم لم يصرخوا ولم يتأوهوا رغم شدة آلامهم، كانوا يتهمونهم، يسحبونهم بالسلاسل، وبالتالي يقتلونهم. ورغم كل ذلك، فإنّ هؤلاء قد وضعوا قدماً في هذا السبيل بإرادة حديدية، وعشق ملتهب، وعزم راسخ، وإيمان عميق، ووطنوا أنفسهم على تحمل أنواع المخاطر والمصاعب.
ومن بين هؤلاء كان سهم المهاجرين الأوّلين هو الأرجح، ومن بعدهم الأنصار الأوائل، أي الذين دعوا النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إِلى المدينة واستقبلوه برحابة وأسكنوا أصحابه واعتبروهم كإخوانهم، ودافعوا عنهم بكل وجودهم، بل قدموهم حتى على قومهم. وإذا كانت الآية أعلاه قد أولت هذين القسمين اهتماماً خاصاً، فلهذه العوامل)([110]).
وقال الشيخ الطوسي في أفضلية { السابقين الأولين }:
( والسبق كون الشئ قبل غيره. ومنه قيل في الخيل السابق، والمصلي هو الذي يجئ في اثر السابق يتبع صلاه. وإنما كان السابق إلى الخير أفضل لأنه داع إليه بسبقه - والثاني تابع - فهو إمام فيه وكذلك من سبق إلى الشر كان أسوء حالا لهذه العلة)([111]).
فمن مجموع هذه النقولات، نستطيع أن نقول وبكل إطمئنان، أن الله تعالى جعل للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ميزة على غيرهم، سواء من الصحابة أنفسهم الذين أسلموا بعدهم، أم من غيرهم من المسلمين الذين سيأتون من بعدهم إلى يوم القيامة.
هذه الميزة تتجسد بغفران ذنوبهم، ونيلهم لرضوان الله تعالى، مع ما يتعرض له بعضهم من الأخطاء والذنوب، بحكم بشريتهم غير المعصومة؛ لأن الله تعالى العليم بحالهم ومستقبلهم لم يسجل رضاءه عنهم، إلا وهو يعلم أن ما يرتكبوه من الأخطاء والمعاصي في مستقبل أيامهم، مغفورة لهم، وأنها لا تبطل إيمانهم العميق، ولا جهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
أسباب طعن الشيعة بالصحابة
عندما يعتقد الشيعي بأن عليا رضي الله عنه هو خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالنص عليه من الله تعالى ومن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأنه معصوم من كل خطأ دقه وجله، من ولادته حتى مماته؛ فلا ريب أنه يرى أن من نفى عنه الإمامة بعد رسول الله بلا فصل، ونفى عنه وعن أئمة الشيعة الآخرين العصمة، يرى ذلك إنتقاصا فيه ومنه، ومعاداة لأهل البيت عليهم السلام.
وعندما يعتقد أن جل الصحابة نكثوا العهد، واغتصبوا الخلافة منه، فلا ريب أن هذا يستوجب معاداتهم والتبرؤ منهم.
ولما كان أهل السنة على غير هذا المعتقد، كان ظن الشيعة فيهم أنهم أعداء أهل البيت. وهذا كله ناشيء عن الجهل بحقيقة مذهب أهل السنة والجماعة، في نظرتهم إلى الصحابة والعلاقة الحميمة التي كانت تربطهم بأهل البيت، والتي تتجلى بمظاهر عديدة ليس هنا محل ذكرها؛ وأنه لا أصل للعداء بينهم إلا في مخيلة من يريد أن يفرق جمع الأمة ويشتت كلمتها ويطعن في صفاء ونقاء إيمان القوم الذين عاشوا أخوة متحابين متعاونين فيما بينهم، ليس بينهم سوى ما يحدث في أي مجتمع إنساني من عتاب حينا، ومن لوم حينا آخر، ثم هم في النهاية كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا.
قبل البحث في هذه الأسباب أحببت أن أنوه إلى أن مقصود أهل السنة والجماعة من القول بعدالة الصحابة، هو ثبوت عدالتهم في رواية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وليس مقصودهم أن الصحابة معصومين من كل خطأ، أو معصية؛ لأنهم بشر كسائر بني آدم، يعتريهم السهو، والنسيان، والوهم، والخطأ. ولكن لم يثبت أنهم تعمدوا الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا هو المقصود.
ثم نقول بعد ذلك:
يمكن إجمال أسباب طعن الشيعة بعدالة الصحابة في العناوين الآتية:
1. عدم إيمان الصحابة بوجود نص من الله تعالى، أو من رسوله صلى الله عليه وآله وسلم على إمامة علي بن أبي طالب.
2. عدم إيمان الصحابة بعصمة أئمة الشيعة من الذنوب والخطأ والنسيان.
3. قتال البعض من الصحابة لعلي بن أبي طالب في أيام خلافته.
4. وسنفصل القول في هذه العناوين في المباحث التالية.
المطلب الأول
الإمامة وأثرها في عدالة الصحابة
من الأخطاء الكبيرة التي تقع فيها الشيعة هو تنسيب إسلامهم إلى أهل البيت، وتنسيب إسلام أهل السنة إلى الأئمة والفقهاء المجتهدين من أمثال الإمام أبي حنيفة النعمان، والإمام مالك، والإمام أحمد والإمام الشافعي.
ورغم إجلالنا وتقديرنا لجهود هؤلاء الأئمة وإجتهاداتهم، إلا أن أصول الدين عند أهل السنة والجماعة إنما تؤخذ من القرآن الكريم وصحيح السنة النبوية الشريفة، وقد ورد عن هؤلاء الأئمة الإجلاء أقوال صريحة بأنه إذا خالف قولهم قول الله تعالى وقول رسولهصلى الله عليه وآله وسلم، أن يضربوا قوله عرض الجدار.
وأرى هنا من الضروري الإشارة إلى أن الإستدلال على أصول الدين عند الشيعة يعتمد على العقل فقط، والنقل إنما هو للتأكيد والتعضيد ليس إلاّ.
فإذا كان عقل السني لا يدله على وجوب وجود معصوم بعد النبي يجب طاعته في كل ما يقوله ويفعله، وجب على الشيعة عدم مؤاخذته في هذا، ذلك لأن العقل لا يقضي بالضرورة على وجوب وجود إمام معصوم بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما يقضي بالتوحيد والمعاد وإثبات الرسل.
هذا على معتقد الشيعة، أما على معتقد أهل السنة الذين يستدلون من القرآن على عقائدهم، فليس في القرآن الكريم آية محكمة واحدة تدل على وجوب وجود معصوم بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وأما السنة النبوية، فكما أن لكل واحد من أهل السنة والشيعة سنة خاصة به لا يعترف بها الطرف الآخر، فليس نقلهم الذي إنفردوا به من دون أهل السنة بحجة عليهم.
وأما ما يتفقون فيه معهم فليس في شيء منه دلالة صريحة على هذه العقيدة. يقول الشريف المرتضى بأن النص على إمامة علي رضي الله عنه في حديث الغدير والمنزلة هو نص خفي وليس صريحا على الإمامة: ( والقسم الآخر: لا نقطع على أن سامعيه من الرسول صلى الله عليه وآله علموا النص بالإمامة منه اضطرارا ولا يمتنع عندنا أن يكونوا علموه استدلالا من حيث اعتبار دلالة اللفظ، وما يحسن أن يكون المراد أو لا يحسن. فأما نحن فلا نعلم ثبوته والمراد به إلا استدلالاً كقوله صلى الله عليه وآله ( أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ) و ( من كنت مولاه فعلي مولاه ) وهذا الضرب من النص هو الذي يسميه أصحابنا النص الخفي )([112]).
فإذا ثبت أن الصحابة لم يفهموا من هذا النص الخفي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نصّب عليا خليفة من بعده، فهذا يعني أن الإختلاف في مثل هذا الأمر الذي يدّعونه هو إختلاف سائغ، لا يطعن في عدالة من لم يؤمن به.
يقول آية الله محمد حسين كاشف الغطا:
( ولا أقول: إنَّ الآخرين من الصحابة ـ وهم الأكثر الَّذين لم يتسموا بتلك السمة ( يعني سمة التشيع ) ـ قد خالفوا النبي صلّى الله عليه واله ولم يأخذوا بإرشاده، كلا ومعاذ الله أنْ يُظن فيهم ذلك، وهم خيرة مَنْ على وجه الأرض يومئذٍ، ولكن لعلَّ تلك الكلمات لم يسمعها كلَّهم، ومن سمع بعضها لم يلتفت إلى المقصود منها، وصحابة النبي الكرام أسمى من أن تُحلِّق إلى أوج مقامهم بغاث الأوهام)([113]).
وأيضا فإن أهل السنة والجماعة اليوم، لا يؤمنون بهذه العقيدة حتى الآن رغم ما ألّفوا فيها من الكتب والمجلدات، وما تبثه يوميا قنواتهم الفضائية من محاضرات وتقارير وحوارات.
فلو كانت هذه العقيدة مما يخرج المسلم عن دينه، ويطعن في عدالته، لم يبق على وجه هذه اليسيطة سوى مائة مليون مسلم أو أقل هم من الشيعة فقط. أما باقي المسلمين من أهل السنة والجماعة الذين يبلغ تعدادهم حوالي المليار ونصف المليار، فليسوا من الإسلام في شيء. وأظن أن هذا هو معتقدهم، وإن لم يستطيعوا إعلانه على الملأ صريحا!
ومما يؤسف له أن الشيعة عندما تطعن في عدالة الصحابة من أمثال أبي بكر وعمر، فإنهم يحكمون بعدالة علمائهم ووكلاء أئمتهم، والنواب الأربعة الذين تعاقبوا على نيابة المهدي في الغيبة الصغرى، رغم إعترافهم الصريح بعدم عصمة هؤلاء.
يقول شيخهم الأستاذ علي أكبر الغفاري:
( فمن اشتهرت عدالته بين أهل العلم من أهل الحديث وغيرهم، وشاع الثناء عليه بها، كفى في عدالته، ولا يحتاج مع ذلك إلى معدل ينص عليها، كمشايخنا السالفين من عهد الشيخ محمد بن يعقوب الكليني - رحمه الله - وما بعده إلى زماننا هذا. فإنه لا يحتاج أحد من هؤلاء المشايخ المشهورين إلى تنصيص على تزكية ولا تنبيه على عدالة لما اشتهر في كل عصر من ثقتهم وضبطهم وورعهم زيادة على العدالة)([114]).
ونقل الغفاري عن الشيخ البهائي أنه قال:
( إن الوكالة عنهم عليهم السلام من أقوى أسباب الوثوق، لأنهم لا يجعلون الفاسق وكيلا، وقرره المولى الوحيد - رحمه الله - على ذلك، ثم اعترض على نفسه بأن في الوكلاء عنهم عليهم السلام جماعة مذمومين، فكيف تجعل الوكالة أمارة الوثاقة. ثم أجاب بأن ظاهر توكيلهم لهم هو حسن حال الوكلاء والاعتماد عليهم وجلالتهم بل وثاقتهم إلا أن يثبت خلافة وتغيير وتبديل وخيانة، والمغيرون معروفون. وبالجملة فالأصل في الوكالة عنهم الثقة بل ما فوقها، فيحتج بها عليها إلى أن يثبت الخلاف. ولقد أجاد - قدس سره - فيما أفاد)([115]).
أنظر كيف يتعامل الشيعة مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فمع علمائهم ووكلاء الأئمة يعملون بالشهرة، ولا يحتاجون إلى معدل. بينما تراهم يطعنون في أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويريدون أن يعاملوهم معاملة المتهم المرتاب، رغم آيات المدح والتوثيق لهم، ورغم أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكثيرة التي تنهى عن الوقيعة بهم، ورغم سبقهم في الإيمان والجهاد والتضحية!!!
المطلب الثاني
الذنوب والمعاصي وأثرها على عدالة الصحابة
يقول شيخ الشيعة ناصر مكارم الشيرازي في تفسيره وتحت عنوان: ( المبالغة والإِغراق في تنزيه الصحابة) :
( حاول بعض إخواننا أهل السنة أن يستنتج من ما أولاه القرآن للمهاجرين السابقين «الأوائل» من إهتمام واحترام، أنّهم لن يرتكبوا ذنباً إِلى آخر عمرهم وحياتهم. وذهبوا إِلى إكرامهم واحترامهم جميعاً دون استثناء، ودون الاعتراض على هذا وذاك، وكيف ذلك؟! ثمّ عمموا هذا القول على جميع الصحابة ـ فضلا عن المهاجرين ـ وذلك لثناء القرآن عليهم في بيعة الرضوان وغيرها، وذهبوا عملا إِلى أنّ الصحابة ـ دون النظر إِلى أعمالهم ـ أفراد متميزون. فلا يحق لأيّ شخص توجيه النقد لهم والتحقيق في سلوكهم. يجوز بأيّ وجه أن يوجه النقد إليهم.
ومن جملة هؤلاء المفسّر المعروف صاحب المنار، إذ حمل في ذيل الآيات محل البحث حملة شعواء على الشيعة، لأنّهم ينتقدون المهاجرين الأولين، ولم يلتفت إِلى أن مثل هذا الإِعتقاد لا يتضاد وروح الإِسلام وتاريخه!!
فلا ريب أنّ للصحابة ـ وعلى الخصوص المهاجرين منهم ـ حرمةً خاصّة، إلاّ أنّ هذه الحرمة كانت قائمة ما داموا في طريق الحق ويضحّون من أجل الحق، لكن من المقطوع به أن نظرة القرآن إِلى بعضهم أو حكمه قد تغير منذ انحرف عن النهج القويم والصراط المستقيم.
فمثلا، كيف يمكننا أن نبرىء طلحة والزبير من نقضهما بيعة إمامهما الذي انتخبه المسلمون «بغض النظر عن تصريح النّبي بمقامه وشأنه» وكانا من ضمن المسلمين الذين بايعوه؟ وكيف يمكن تبرئتهما من دماء سبعة عشر ألف مسلم قتلوا في حرب الجمل، مع أنّه لا عذر لمن يفسك دم إنسان واحد أمام الله مهما كان، فكيف بهذا العدد الهائل الذين سفكت دماؤهم؟
ترى هل يمكن أن نعدّ عليّاً(عليه السلام) وأصحابه في حرب الجمل على الحق كما نعدّ أعداءه فيها على الحق أيضاً؟! ونعد طلحة والزبير ومن معهما من الصحابة على الحق كذلك؟! وهل يقبل العقل والمنطق هذا التضاد الفاضح؟
وهل يمكننا أن نغض النظر من أجل عنوان «تنزيه الصحابة» ولا نلتفت إلى التأريخ وننسى كل ما حدث بعد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ونضرب عرض الجدار قاعدة ( إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم )؟
مالكم كيف تحكمون؟!
وما يمنع أن يكون الإنسان من أهل الجنّة ومؤيداً للحق يوماً، ويكون من أهل النّار ومؤيداً للباطل ومن أعداء الحق يوماً آخر؟ ... فهل الجميع معصومون؟ ألسنا نرى التغييرات في أحوال الأشخاص بأم أعيننا؟!
قصة «أصحاب الردّة» وارتداد جمع من المسلمين بعد رحلة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مذكورة في كتب أهل السُنّة والشّيعة، وأن الخليفة الأوّل تصدى لهم وقاتلهم، فهل يعقل أنّ أحداً من «أصحاب الردّة» لم ير النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يكونوا في عدّة الصحابة؟
والأعجب من ذلك أنّ بعضاً تشبث بالإِجتهاد للتخلص من الطريق المسدود والتناقض في ذلك، وقالوا: إن أمثال طلحة والزبير ومعاوية ومن لفّ لفهم قد اجتهدوا فأخطأوا وليسوا مذنبين، بل هم مثابون مأجورون بأعمالهم من قبل الله! فما أفضح هذا المنطق؟!
فهل الثورة على خليفة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونقض البيعة وهدر دماء الآلاف من الأبرياء من أجل رئاسات دنيوية وحب المال، موضوع معقد ومبهم ولا يعرف أحد ما فيه من سوء؟!
ترى هل في سفك كل تلك الدماء البرئية أجر وثواب عند الله؟!
فإذا أردنا تبرئة جماعة من الصحابة ممّا ارتكبوه من جرائم، فسوف لا نرى مجرماً أو مذنباً في الدنيا، وسنبرىء بهذا المنطق جميع القتلة والمجرمين والجبابرة.
إنّ مثل هذا الدّفاع غير المنطقي ـ عن الصحابة ـ سيسبب النظرة السيئة إِلى أصل الإِسلام.
والخلاصة، أنّنا لا سبيل لنا إلاّ احترام الجميع خاصّة أصحاب النّبي صلى الله عليه وآله وسلم ماداموا لم ينحرفوا عن مسير الحق والعدل ومناهج الإِسلام، وإلاّ فلا.)([116]).
ويقول أيضا تحت عنوان: ( الصحابة في ميزان القرآن والتاريخ ):
( يصرّ بعض المفسّرين ـ بدون الإلتفات إلى الصفات التي مرّت بنا في الآيات السابقة لكلّ من المهاجرين والأنصار والتابعين ـ على إعتبار جميع الصحابة بدون إستثناء متّصفين بجميع الصفات الإيجابية ( للمهاجرين والأنصار والتابعين) وأنّهم نموذج يقتدى بهم من حيث نزاهتهم وطهرهم والتسامح فيما بينهم، وكلّ خلاف صدر منهم أحياناً سواء في زمن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أو من بعده فإنّهم يغضّون النظر عنه، وبهذا اعتبروا كلّ مهاجر وأنصاري وتابع شخصاً محترماً ومقدّساً بصورة عامّة، دون الإلتفات إلى أعمالهم وتقييمها حسب الموازين الشرعية.
إلاّ أنّ الملاحظ أنّ في الآيات أعلاه رفض واضح إزاء هذا الفهم، حيث تحدّد الآية التقييم وفق ضوابط وموازين دقيقة للمهاجرين الحقيقيين والأنصار والتابعين.
ففي «المهاجرين»: الإخلاص والجهاد والصدق.
وفي «الأنصار»: المحبّة للمهاجرين والإيثار، والإبتعاد عن كلّ حرص وبخل.
وفي «التابعين»: بناء أنفسهم، والإحترام للسابقين في الإيمان، والإبتعاد عن كلّ بغض وحسد.
ومع كلّ هذا، كيف يمكن أن نحترم الأشخاص الذين قاتلوا الإمام علي (عليه السلام) في معركة الجمل وشهروا سيفهم عليه، ولم يراعوا اُخوته في الله، ولم يطهّروا قلوبهم من البغض والحسد تجاهه، ولا احترموا أسبقيته في الإيمان، وبعد كلّ ذلك لا يجوز لنا إنتقادهم، بل يجب علينا التسليم وبدون نقاش لأحاديث هذا وذاك دون تمحيص وتثبّت.
وبناءً على هذا فإنّنا في الوقت الذي نحترم فيه السابقين في خطّ الرسالة والإيمان، يجدر بنا أن ندقّق في سوابقهم وملفّ فعالهم، سواء على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو المخاضات المختلفة التي حدثت بعده في التأريخ الإسلامي، وعلى أساس الضوابط والمعايير الإسلامية المستلهمة من هذه الآيات المباركات نحكم لهم أو عليهم، وعندئذ نقوّي أواصرنا مع من بقي على العهد، ونقطعها أو نحدّدها ـ بما يناسب ـ مع من ضعفت روابطهم أو قطعوها مع تلك الموازين والضوابط، وهذا هو المنطق الصحيح والمنسجم مع حكم القرآن والعقل)([117]).
هذا قول نموذج شيعي معتدل بالنسبة إلى بعض المتشددين الذين يخرجون أكثر الصحابة من الإسلام، وبخاصة الخلفاء الثلاثة الذين حكموا قبل علي.
هذا القول فيه تجنٍّ كبير على أهل السنة والجماعة، وهو إما ناتج عن الجهل بالفرق بين العصمة والعدالة، أو ناتج عن الجهل بأسباب سقوط الذنوب والمعاصي عن المسلم، وأنه ليس من شرط المتقين الذين يستحقون دخول الجنة ـ بفضل الله ورحمته ـ العصمة من الذنوب والخطأ والنسيان. أو أنه ناتج عن تعصب وهوى، والهوى يُعمي ويصم.
وسنفصل القول في هذا المطلب في مسألتين مستقلتين:
المسألة الأولى: الفرق بين العدالة والعصمة.
والمسألة الثانية: في أسباب سقوط الذنوب والمعاصي عن الصحابة الذين ربما وقع بعضهم فيها.
أولا: الفرق بين العدالة والعصمة
عندما يقول أهل السنة والجماعة أن الصحابة كلهم عدول، ليس معنى عدالتهم أنهم معصومون من المعاصي أو من السهو أو الغلط فإن ذلك لم يقل به أحد من أهل العلم. وإنما أرادوا أنهم لا يتعمدون كَذِبًا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى الذين حُدُّوا فِي حَدٍّ أو اقترفوا إِثْمًا تابوا أو لابسوا الفتن والحروب ما كانوا ليتعمدوا الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومِمَّا ينبغي أن يعلم أن الذين قارفوا إِثْمًا ثم حُدُّوا هُمْ قلة نادرة جِدًّا لا ينبغي أن يغلب شأنهم وحالهم على حال الألوف المُؤَلَّفَةِ من الصحابة الذين ثبتوا على الجادة والصراط المستقيم، وجانبوا المآثم والمعاصي ما كبر منها وما صغر، وما ظهر وما بطن، والتاريخ الصادق أكبر شاهد على هذا.
وهؤلاء الذين اتخذهم الطاعنون في عدالة الصحابة ذريعة لطعنهم. بعضهم لا تعرف له رواية وبعضهم لم يعرف له إِلاَّ الحديث والحديثان والثلاثة، ومروياتهم معروفة وثابته من رواية غيرهم، فلا يتوقف على رواياتهم شيء من أصول الدين وفروعه، مِمَّا يجعل الباحث المُتَثَبِّتَ مُطْمَئِنًّا إلى ما ذهب إليه جمهور العلماء في عدالة الصحابة، وليس أدل على هذا من أنَّ بُسْرَ بْنَ أَرْطَاةَ - وهو مختلف في صحبته - الذي عرض له الشيخ المقبلي والسيد محمد رشيد رضا في كلاميهما ليس له إِلاَّ حديث في " سنن أبي داود " في عدم قطع الأيدي في السفر، وحديث آخر في الدعاء، ففي " صحيح ابن حبان " أنه سمع النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «اللَّهُمَّ أَحْسِنْ عَاقِبَتَنَا فِي الأُمُورِ كُلِّهَا وَأَجِرْنَا مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا، وَعَذَابِ الآخِرَةِ».
ونحن الذين نقول بعدالته إنما أردنا في الرواية، وأما ملابسته للحروب والفتن، وانحيازه لمعاوية فهو أمور اجتهادية، وهي لا تخل بهذه العدالة، والله يغفر لنا ولهم، ويرحم الله القائل: «إِنَّ هَذِهِ دِمَاءٌ طَهَّرَ اللهُ مِنْهَا سُيُوفَنَا، فَلْنُطَهِّرْ مِنْهَا أَلْسِنَتَنَا»([118]).
ويقول شيخ الشيعة وآيتهم كاظم الحائري في الفرق بين العصمة والعدالة:
( وبمناسبة الحديث عن ( العصمة ) و( العدالة ) نشير وبإختصار إلى الفارق بينهما بأحد نحوين فنقول:
الأول: العصمة: هي تلك الدرجة العالية من الملكة التي تمنع صدور أي ذنب أو زلة من المعصوم الشريف طيلة عمره.
وأما العدالة: فهي تلك الملكة التي لا تمنع الإنسان العادل بصورة مؤقتة عن إرتكاب أي ذنب أو زلة طيلة عمره. فقد يزل ويخطأ مع إمتلاكه لتلك الدرجة من الملكة الرادعة، ولكنه يعود فوراً وبعد صدور الذنب منه فيتوب ويستغفر، فإذا فعل ذلك وعادت له تلك الملكة مرة ثانية ـ لو كان فقدها قبل توبته ـ فقد عادت له العدالة)([119]).
ويؤكد العلامة إبن الوزير أنه ليس كل من وقعت منه معصية فهو مجروح قائلا:
( ومتى سلّم له أنّ العدالة هي: ترك جميع الذّنوب؛ فالسؤال واقع, ولكن هذا ممنوع بدليل القرآن والأثر والنّظر والنّقل. أما القرآن: فما حكى الله تعالى عن ذنوب أنبيائه وأوليائه, ونزع الغلّ من صدور أهل الجنّة, مع أنّ شهادة ذي الغلّ لا تقبل, وذكر ذلك على التفصيل يطول. . وأمّا السّنّة؛ ففي ذلك آثار كثيرة, نذكر منها: ... الأثر الرّابع: وهو أثر صحيح, ثابت في دواوين الإسلام, بل معلوم, متواتر النّقل, وهو حجّة قويّة, وذلك: أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أرسل إلى اليمن عليّاً ومعاذاً -رضي الله عنهما-, واليين قاضيين ومفتيين, ولا شكّ أنّ القضاء بين النّاس, متركّب على عدالة الشّهود, ومعرفة الحاكم عدالتهم أو عدالة معدّليهم, وهما غريبان في أرض اليمن, لا يعرفان عدالتهم, ولا يخبران أحوالهم, وهم لا يجدون شهوداً على ما يجري بينهم من الخصومات إلا منهم, فلولا أنّ الظّاهر العدالة في أهل الإسلام ذلك الزّمان؛ وإلا لما كان إلى حكمهما بين أهل اليمن على الإطلاق سبيل. وهذا يدلّ على عدالة أهل الإسلام ذلك الزمان, لا على عدالة من صحب النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم دون غيره, وهذا أوسع من مذهب المحدّثين. . ثم نقل عن الإمام الشافعي أنه قال: لو كان العدل من لا ذنب له لم نجد عدلاً, ولو كان كلّ مذنب عدلاً لم نجد مجروحاً, ولكنّ العدل من اجتنب الكبائر, وكانت محاسنه أكثر من مساويه.) ([120])
وهذا كان حال الصحابة، فإنّ من وقع منهم في شيء من المعاصي فإنه سرعان ما يتوب منها ويستغفر ربه.
يضيف إبن الوزير قائلا:
( لكنّا نظرنا في حالهم ـ أي الصحابة ـ فوجدناهم فعلوا ما لا يفعله المتأخرون إلا أهل الورع الشّحيح, والخوف العظيم, ومن يُضرب بصلاحه المثل, ويتقرّب بحبه إلى الله عزّ وجلّ, وذلك أنّهم بذلوا أرواحهم في مرضاة ربّ العالمين, وليس يفعل هذا إلا من يحقّ له منصب الإمامة في أهل التّقوى واليقين, وذلك كثير في أخبارهم, مشهور الوقوع في زمانهم.
من ذلك حديث المرأة التي زنت فجاءت النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مقرّة بذنبها, سائلة للنّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يقيم الحدّ عليها, فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستثبت في ذلك, فقالت: يا رسول! إنّي حبلى به, فأمر أن تُمهل حتّى تضع, فلمّا وضعت جاءت بالمولود وقالت: يا رسول الله هو هذا قد ولدته, فقال: ( أرضعيه حتّى يتمّ رضاعه) , فأرضعته حتّى أتمّت مدة الرّضاع, ثمّ جاءت به في يده كسرة من خبز, فقالت: يا رسول الله! هو هذا يأكل الخبز, فأمر بها فرجمت. رواه الحافظ ابن كثير في (إرشاده).
فانظر إلى عزم هذه الصّحابية - رضي الله عنها- على أصعب قتلة على النّفوس, وأوجع ميتة للقلوب, وبقاء عزمها على ذلك هذه المدّة الطّويلة, ومطالبتها في ذلك غير مكرهة ولا متوانية, وهذا - أيضاً- وهي من النّساء الموصوفات بنقصان العقول والأديان, فكيف برجالهم رضي الله عنهم!؟.
ومن ذلك حديث الرّجل الذي أتى إلى النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره أنّه سرق, فأمر بقطع يده, فلما قطعت قال: الحمد لله الذي خلّصني منك, أردت أن تدخليني النّار, أو كما قال.
وحديث المجامع في رمضان.
وحديث ماعز بطوله.
وحديث الذي قال: إنّي أتيت امرأة فلم أترك شيئاً مما يفعله الرّجال بالنّساء إلا أتيته, إلا أنّي لم أجامعها؛ وغير ذلك مما لا يحضرني الآن الإشارة إليه.
فأخبرني على الإنصاف: من في زماننا, وقبل زماننا من أهل الدّيانة قد سار إلى الموت نشيطاً, وأتى إلى ولاة الأمر مقرّاً بذنبه, مشتاقاً إلى لقاء ربّه, باذلاً في مرضاة الله لروحه, ممكّناً للولاة والقضاة من الحكم بقتله؟
وهذه الأشياء تنبّه الغافل, وتقوّي بصيرة العاقل, وإلا ففي قوله تعالى: { كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]. كفاية وغنية, مع ما عضدها من شهادة المصطفى - عليه السلام - بأنهم خير القرون, وبأنّ غيرهم لو أنفق مثل أُحد ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه, إلى أمثال ذلك من مناقبهم الشّريفة ومراتبهم المنيفة)([121]).
ثانياً: في أسباب سقوط ذنوب الصحابة
بعد أن أثبتنا أن للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ميزة وأفضلية على غيرهم، حسب ميزان الله تعالى بقوله: { لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [الحديد: 10]. وقوله: { الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [التوبة: 20]. نأتي لنرى ما هو ذنب الصحابة عند الشيعة حتى دفعهم إلى نكران سبقهم في الإسلام، ونكران إنفاقهم وجهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبعده.
إن المثالب المنقولة عن الصحابة نوعان:
أحدها: ما هو كذب، إما كله، وإما محرف قد دخله من الزيادة والنقصان ما يخرجه إلى الذم والطعن. وأكثر المنقول من المطاعن الصريحة هو من هذا الباب يرويها الكذابون المعروفون بالكذب. . .
الثاني: ما هو صدق. وأكثر هذه الأمور لهم فيها معاذير تخرجها عن أن تكون ذنوبا وتجعلها من موارد الإجتهاد التي إن أصاب المجتهد فيها فله أجران وإن أخطأ فله أجر. وعامة المنقول الثابت عن الخلفاء الراشدين من هذا الباب.
وما قدر من هذه الأمور ذنبا محققا فإن ذلك لا يقدح فيما علم من فضائلهم وسوابقهم وكونهم من أهل الجنة لأن الذنب المحقق يرتفع عقابه في الآخرة بأسباب متعددة:
منها: الإستغفار والتوبة الماحية: قال الله تعالى: { فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 39]. وقال: { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [الأنعام: 54]. وقال: { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } [آل عمران: 135، 136]. وقال: { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم: 32]. وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ( التوبة تجب ما قبلها ).
ومنها: الحسنات الماحية للذنوب، فإن الحسنات يذهبن السيئات: قال الله تعالى: { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } [هود: 114]. وقال: { إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 70].
ومنها: المصائب المكفرة: قال الله تعالى: { الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } [البقرة: 156، 157].
ومنها: دعاء المؤمنين بعضهم لبعض: ففي الكافي عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: { وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} قَالَ: ( هُوَ الْمُؤْمِنُ يَدْعُو لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ فَيَقُولُ لَهُ الْمَلَكُ آمِينَ وَيَقُولُ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ وَلَكَ مِثْلَا مَا سَأَلْتَ وَقَدْ أُعْطِيتَ مَا سَأَلْتَ بِحُبِّكَ إِيَّاهُ). وفيه عن أبي خالد القماط قال: قال أبو جعفر عليه السلام: ( أسرع الدعاء نجحا للإجابة دعاء الأخ لأخيه بظهر الغيب يبدأ بالدعاء لأخيه فيقول له ملك موكل به: آمين ولك مثلاه ). وفيه أيضا عن ثوير قال: سمعت علي بن الحسين عليهما السلام يقول: ( إن الملائكة إذا سمعوا المؤمن يدعو لأخيه المؤمن بظهر الغيب أو يذكره بخير قالوا: نعم الأخ أنت لأخيك تدعو له بالخير وهو غائب عنك وتذكره بخير، قد أعطاك الله عز وجل مثلي ما سألت له وأثنى عليك مثلي ما أثنيت عليه ولك الفضل عليه وإذا سمعوه يذكر أخاه بسوء ويدعو عليه قالوا له: بئس الأخ أنت لأخيك كف أيها المستر على ذنوبه وعورته واربع على نفسك، واحمد الله الذي ستر عليك واعلم أن الله عز وجل أعلم بعبده منك).
ومنها شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأمته : في كتاب التوحيد للقمي عن الكاظم عليه السلام عن أبيه عن آبائه عن رسول الله صلوات الله عليه وعليهم قال: ( إنما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي فأما المحسنون منهم فما عليهم من سبيل ).
ومنها: أن صغائر الذنوب تسقطها الأعمال الصالحة حتى من دون توبة: قال الله تعالى: { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31] . في تفسير العياشي، عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أحدهما (عليهما السلام) يقول: إن عليا (عليه السلام) أقبل على الناس فقال: أي آية في كتاب الله أرجى عندكم؟ فقال بعضهم: "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" قال: حسنة وليست إياها. فقال بعضهم: "يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم - لا تقنطوا من رحمة الله" قال: حسنة وليست إياها. وقال بعضهم: "والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم - ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم" قال: حسنة وليست إياها. قال: ثم أحجم الناس فقال: ما لكم يا معشر المسلمين؟ قالوا: لا والله ما عندنا شيء. قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: أرجى آية في كتاب الله: "وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل" وقرأ الآية كلها، وقال: يا علي والذي بعثني بالحق بشيرا ونذيرا إن أحدكم ليقوم إلى وضوئه فتساقط من جوارحه الذنوب فإذا استقبل بوجهه وقلبه لم ينفتل عن صلاته وعليه من ذنوبه شيء كما ولدته أمه فإذا أصاب شيئا بين الصلاتين كان له مثل ذلك حتى عد الصلوات الخمس. ثم قال: يا علي إنما منزلة الصلوات الخمس لأمتي كنهر جار على باب أحدكم فما ظن أحدكم لو كان في جسده درن ثم اغتسل في ذلك النهر خمس مرات في اليوم؟ أكان يبقى في جسده درن؟ فكذلك والله الصلوات الخمس لأمتي). وفي الحديث النبوي المشهور إن الصلاة إلى الصلاة كفارة ما بينهما ما اجتنبت الكبائر. وفي الامالي عن أمير المؤمنين عليه السلام إن الله يكفر بكل حسنة سيئة ثم تلا الآية. وفي الكافي، والعياشي: عن الصادق عليه السلام في هذه الآية صلاة المؤمن بالليل تذهب بما عمل من ذنب بالنهار([122]).وفي الهداية للصدوق: قال الصادق (عليه السلام): غسل يوم الجمعة طهور وكفارة لما بينهما من الذنوب من الجمعة إلى الجمعة. وقال الشيخ الطوسي : ( ثم قال " وان ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم " على وجه الإخبار عن نفسه بالرحمة بخلقه والتفضل عليهم بأنه يغفر للناس على كونهم ظالمين وذلك يدل على بطلان قول من قال إن أصحاب الكبائر لا يجوز أن يعفو الله عنهم إلا بالتوبة، لأنه تعالى لم يشرط في ذلك التوبة ومن شرط في الآية التوبة أو خصها بالصغائر كان تاركا للظاهر)([123]).
ومنها: عفو رب العالمين، وشفاعته: قال الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].
يقول الشيخ ناصر مكارم الشيرازي: ( إنّ النقطة الجديرة بالإِنتباه إنّ هذه الآية لا ترتبط بمسألة التوبة، لأنّ التوبة والعودة عن الذنب تغسل جميع الذنوب والمعاصي حتى الشرك، بل المراد هو إمكان شمول العفو الإِلهي لمن لم يوفق للتوبة، يعني الذين يموتون قبل الندم من ذنوبهم، وبعد الندم وقبل جبران ما بدر منهم من الأعمال الطالحة بالأعمال الصالحة)([124]).
ويقول أيضا: ( والطريف هو ما يستفاد من بعض الرّوايات من أنّ اللّه تعالى أيضاً يكون شافعاً للمذنبين في يوم القيامة، كما ورد في الحديث عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): « يشفع النّبيون والملائكة والمؤمنون فيقول الجبار بقيت شفاعتي »([125]).
هذا وقد ذكر شيخ الإسلام إبن تيمية الأسباب التي بها تندفع عذاب جهنم فقال:
( قَدْ دَلَّتْ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: عَلَى أَنَّ عُقُوبَةَ الذُّنُوبِ تَزُولُ عَنْ الْعَبْدِ بِنَحْوِ عَشَرَةِ أَسْبَابٍ:.
" أَحَدُهَا " التَّوْبَةُ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ . . .
الثَّانِي " الِاسْتِغْفَارُ . . .
السَّبَبُ الثَّالِثُ " : الْحَسَنَاتُ الْمَاحِيَةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } وَقَالَ صلى الله عليه وآله وسلم { الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إلَى الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ إذَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ } وَقَالَ : { مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ } وَقَالَ : { مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ }.
( السَّبَبُ الرَّابِعُ الدَّافِعُ لِلْعِقَابِ ) : دُعَاءُ الْمُؤْمِنِينَ لِلْمُؤْمِنِ مِثْلُ صَلَاتِهِمْ عَلَى جِنَازَتِهِ فَعَنْ عَائِشَةَ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْ مَيِّتٍ يُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَبْلُغُونَ مِائَةً كُلُّهُمْ يَشْفَعُونَ إلَّا شُفِّعُوا فِيهِ } . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ : { مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ عَلَى جِنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا لَا يُشْرِكُونَ بِاَللَّهِ شَيْئًا إلَّا شَفَّعَهُمْ اللَّهُ فِيهِ } رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ . وَهَذَا دُعَاءٌ لَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ . فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُحْمَلَ الْمَغْفِرَةُ عَلَى الْمُؤْمِنِ التَّقِيِّ الَّذِي اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ وَكُفِّرَتْ عَنْهُ الصَّغَائِرُ وَحْدَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مَغْفُورٌ لَهُ عِنْدَ الْمُتَنَازِعِينَ . فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الدُّعَاءَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَغْفِرَةِ لِلْمَيِّتِ.
( السَّبَبُ الْخَامِسُ ) : مَا يُعْمَلُ لِلْمَيِّتِ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ ؟ كَالصَّدَقَةِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّ هَذَا يَنْتَفِعُ بِهِ بِنُصُوصِ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ وَاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ وَالْحَجُّ.
( السَّبَبُ السَّادِسُ ) : شَفَاعَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وَغَيْرُهُ فِي أَهْلِ الذُّنُوبِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَدْ تَوَاتَرَتْ عَنْهُ أَحَادِيثُ الشَّفَاعَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وآله وسلم فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي } . وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وآله وسلم { خُيِّرْت بَيْنَ أَنْ يَدْخُلَ نِصْفُ أُمَّتِي الْجَنَّةَ ؛ وَبَيْنَ الشَّفَاعَةِ فَاخْتَرْت الشَّفَاعَةَ لِأَنَّهَا أَعَمُّ وَأَكْثَرُ ؛ أَتَرَوْنَهَا لِلْمُتَّقِينَ ؟ لَا . وَلَكِنَّهَا لِلْمُذْنِبِينَ المتلوثين الْخَطَّائِينَ }.
( السَّبَبُ السَّابِعُ ) : الْمَصَائِبُ الَّتِي يُكَفِّرُ اللَّهُ بِهَا الْخَطَايَا فِي الدُّنْيَا كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صلى الله عليه وآله وسلم أَنَّهُ قَالَ : { مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ ؛ وَلَا نَصَبٍ ؛ وَلَا هَمٍّ ؛ وَلَا حَزَنٍ ؛ وَلَا غَمٍّ ؛ وَلَا أَذًى - حَتَّى الشَّوْكَةُ يَشَاكُهَا - إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ }.
( السَّبَبُ الثَّامِنُ ) : مَا يَحْصُلُ فِي الْقَبْرِ مِنْ الْفِتْنَةِ وَالضَّغْطَةِ وَالرَّوْعَةِ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يُكَفَّرُ بِهِ الْخَطَايَا.
( السَّبَبُ التَّاسِعُ ) : أَهْوَالُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَكَرْبُهَا وَشَدَائِدُهَا.
( السَّبَبُ الْعَاشِرُ ) : رَحْمَةُ اللَّهِ وَعَفْوُهُ وَمَغْفِرَتُهُ بِلَا سَبَبٍ مِنْ الْعِبَادِ .
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ قَدْ يُدْفَعُ عَنْ أَهْلِ الذُّنُوبِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ الْعَشَرَةِ كَانَ دَعْوَاهُمْ أَنَّ عُقُوبَاتِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِالتَّوْبَةِ مُخَالِفٌ لِذَلِكَ)([126]).
فما من سبب يسقط به الذم والعقاب عن أحد من الأمة إلا والصحابة أحق بذلك، فهم أحق بكل مدح، ونفى كل ذم ممن بعدهم من الأمة.
وعلى هذا فلا يحق لأحد كائنا من كان أن يتكلم في الصحابة، إلا بعد علمه بإنتفاء هذه الأسباب العشرة، ودونه خرط القتاد.
وإذا تكلم فيهم أحد مع وجود هذه الأسباب التي بها تندفع عنهم العقوبة الأخروية، فقد إفترى عليهم، ودخل في حكم قوله تعالى: { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } [الأحزاب: 58]. وقال بما لا علم له به، وجاوز حده في قوله تعالى: { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].
أقول ولهذه الأسباب فـ( قَدْ تَقَرَّرَ مِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ أَنَّهُمْ لَا يُكَفِّرُونَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَنْبِ وَلَا يُخْرِجُونَهُ مِنْ الْإِسْلَامِ بِعَمَلِ إذَا كَانَ فِعْلًا مَنْهِيًّا عَنْهُ؛ مِثْلَ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ؛ مَا لَمْ يَتَضَمَّنْ تَرْكَ الْإِيمَانِ وَأَمَّا إنْ تَضَمَّنَ تَرْكَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِالْإِيمَانِ بِهِ مِثْلَ: الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ؛ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ؛ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ بِهِ وَكَذَلِكَ يَكْفُرُ بِعَدَمِ اعْتِقَادِ وُجُوبِ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَعَدَمِ تَحْرِيمِ الْحُرُمَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ. فَإِنْ قُلْت فَالذُّنُوبُ تَنْقَسِمُ إلَى تَرْكِ مَأْمُورٍ بِهِ وَفِعْلِ مَنْهِيٍّ عَنْهُ. قُلْت: لَكِنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ إذَا تَرَكَهُ الْعَبْدُ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا بِوُجُوبِهِ؛ أَوْ لَا يَكُونَ فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِوُجُوبِهِ تَارِكًا لِأَدَائِهِ فَلَمْ يَتْرُكْ الْوَاجِبَ كُلَّهُ بَلْ أَدَّى بَعْضَهُ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِهِ وَتَرَكَ بَعْضَهُ وَهُوَ الْعَمَلُ بِهِ. وَكَذَلِكَ الْمُحَرَّمُ إذَا فَعَلَهُ؛ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا بِتَحْرِيمِهِ أَوْ لَا يَكُونَ فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا بِتَحْرِيمِهِ فَاعِلًا لَهُ فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ أَدَاءِ وَاجِبٍ وَفِعْلِ مُحَرَّمٍ فَصَارَ لَهُ حَسَنَةٌ وَسَيِّئَةٌ وَالْكَلَامُ إنَّمَا هُوَ فِيمَا لَا يُعْذَرُ بِتَرْكِ الْإِيمَانِ بِوُجُوبِهِ وَتَحْرِيمِهِ مِنْ الْأُمُورِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ ذَلِكَ فِيمَا فَعَلَهُ أَوْ تَرَكَهُ بِتَأْوِيلِ أَوْ جَهْلٍ يُعْذَرُ بِهِ؛ فَالْكَلَامُ فِي تَرْكِهِ هَذَا الِاعْتِقَادَ كَالْكَلَامِ فِيمَا فَعَلَهُ أَوْ تَرَكَهُ بِتَأْوِيلِ أَوْ جَهْلٍ يُعْذَرُ بِهِ)([127]).
وقال ابن أبي العز الحنفي:
" وأما الشخص المعين، إذا قيل: هل تشهدون أنه من أهل الوعيد وأنه كافر؟ فهذا لا نشهد عليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة، فإنه من أعظم البغي أن يشهد على معيَّن أن الله لا يغفر له ولا يرحمه، بل يخلده في النار، فإن هذا حكم الكافر بعد الموت ... ولأن الشخص المعين يمكن أن يكون مجتهداً مخطئاً مغفوراً له، [ويمكن أن يكون ممن لم يبلغه ما وراء ذلك من النصوص]، ويمكن أن يكون له إيمان عظيم وحسنات أوجبت له رحمة الله "([128]).
ومن الجدير بالذكر أن ننوه هنا أنه لا منافاة بين أن يكون المسلم وليا من أولياء الله المتقين، وبين وقوعه في الأخطاء العارضة، أو الذنوب الصغيرة.
فالخطأ إما أن يكون بسبب سهو أو نسيان، أو إجتهاد؛ وهذا لا يؤاخذه به الله تعالى، وهو القائل: { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } [الأحزاب/5].
وإما أن يكون الخطأ ذنبا من اللمم، وهذا أيضا قد ضمن الله تعالى مغفرته، ومحو أثره. قال تعالى: { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ }[آل عمران/133-136].
وفي الكافي عن أبي جعفر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لأصحابه: ( وَلَوْ لَا أَنَّكُمْ تُذْنِبُونَ فَتَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَخَلَقَ اللَّهُ خَلْقاً حَتَّى يُذْنِبُوا ثُمَّ يَسْتَغْفِرُوا اللَّهَ فَيَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ الْمُؤْمِنَ مُفَتَّنٌ تَوَّابٌ أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ وَقَالَ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ})([129]).
وحتى لو إعتبرنا أن بعض هذه الذنوب قادحا في العدالة، فلا يعني أن هذه العدالة لن تعود إلى صاحبها.
يقول المجلسي: ( وإذا زالت العدالة بارتكاب ما يقدح فيها فتعود بالتوبة بغير خلاف ظاهرا، وكذلك من حد في معصية ثم تاب رجعت عدالته وقبلت شهادته، ونقل بعض الأصحاب إجماع الفرقة على ذلك)([130]).
المبحث السادس
الحروب الداخلية بين المسلمين وأثرها على عدالة من شارك فيها
أما فيما يخص الطعن بعدالة الصحابة بسبب هذه الحروب التي حدثت في عهد علي صلى الله عليه وآله وسلم فلنا أن نقول:
ليس كل الصحابة شاركوا في هذه الحروب، لاسيما الخلفاء الثلاثة الذين سبقوا عليا في الخلافة، فمنهم من مات قبل هذه الحروب، ومنهم من حضرها وأعتزلها، ومنهم من ندم على عدم المشاركة في بعضها. ومع هذا فإن الطعن من قبل الشيعة يشمل الجميع.
إن من الذين شاركوا في بعض هذه الحروب، لم يكن قصدهم فيها محاربة علي بن أبي طالب، لاسيما أهل الجمل فهؤلاء إنما خرجوا للقصاص من قتلة الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه الذي قتل مظلوما. إذ يعترف علي أنه نصره ولكن عثمان إستكفه، ففي رسالة له إلى معاوية يقول فيها:
( ثُمَّ ذَكَرْتَ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِي وَأَمْرِ عُثْمَانَ فَلَكَ أَنْ تُجَابَ عَنْ هَذِهِ لِرَحِمِكَ مِنْهُ فَأَيُّنَا كَانَ أَعْدَى لَهُ وَأَهْدَى إِلَى مَقَاتِلِهِ أَمَنْ بَذَلَ لَهُ نُصْرَتَهُ فَاسْتَقْعَدَهُ وَاسْتَكَفَّهُ أَمْ مَنِ اسْتَنْصَرَهُ فَتَرَاخَى عَنْهُ وَبَثَّ الْمَنُونَ إِلَيْهِ حَتَّى أَتَى قَدَرُهُ عَلَيْهِ )([131]).
فإن لم يكن عثمان على حق، فكيف يقول علي أنه نصره، ولكن عثمان إستقعده وأستكفه؟! في إشارة إلى قول عثمان لمن كان حارسا له في بابه، ومنهم الحسن بن علي رضي الله عنهما: ( أعزم عَلَى كُلِّ مَنْ رَأَى أَنَّ عَلَيْهِ سَمْعًا وَطَاعَةً إِلَّا كَفَّ يَدَهُ وَسِلَاحَهُ )([132]).
والكلام في الحروب التي جرت في عهد علي رضي الله عنه يطول، ولكن لابد من الإشارة إلى مسألة، وهي: هل تسقط عدالة من حارب عليا، وإن كان ذلك بتأويل بحيث لا تؤخذ مروياته عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ وهل كفّر علي محاربيه في الجمل وصفين والنهروان؟
هذه التساؤلات وغيرها، سنجيب عنها في المباحث التالية إن شاء الله تعالى.
المطلب الأول
رأي أهل السنة في الحروب التي جرت بين المسلمين في خلافة سيدنا علي رضي الله عنه
مما لا شك فيه أن الحروب التي وقعت بين المسلمين في خلافة علي بن أبي طالب، كانت قد وقعت بأثر رجعي لما حدث قبل ولايته. فمقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه بالطريقة المعروفة لمن يتابع أحداث التاريخ، وتسلم علي رضي الله عنه الخلافة من بعده قبل أن تتكشف الحقيقة في أسباب مقتله، ودوافع القتلة، والمساهمين في الأحداث التي أدت إلى مقتله؛ كل ذلك كان سببا في ظهور الفتن في عهد علي، وعدم إستقرار وإستتباب الأمور طيلة حكمه.
يقول شيخ الإسلام إبن تيمية:
( فالقتال الذي كان في زمن علي لم يكن على الإمامة فإن أهل الجمل وصفين والنهروان لم يقاتلوا على نصب إمام غير على ولا كان معاوية يقول أنا الإمام دون على ولا قال ذلك طلحة والزبير فلم يكن أحد ممن قاتل عليا قبل الحكمين نصب إماما يقاتل علي طاعته فلم يكن شىء من هذا القتال على قاعدة من قواعد الإمامة المنازع فيها لم يكن أحد من المقاتلين يقاتل طعنا في خلافة الثلاثة ولا ادعاء للنص على غيرهم ولا طعنا في جواز خلافة علي فالأمر الذي تنازع فيه الناس من أمر الإمامة كنزاع الرافضة والخوارج المعتزلة وغيرهم ولم يقاتل عليه أحد من الصحابة أصلا ولا قال أحد منهم إن الإمام المنصوص عليه هو علي ولا قال إن الثلاثة كانت إمامتهم باطلة)([133]).
ويؤكد هذا الرأي سيدنا علي حيث يقول في كتاب له عليه السلام كتبه إلى أهل الأمصار يقتص فيه ما جرى بينه وبين أهل صفين :
( وكان بدء أمرنا أنا التقينا والقوم من أهل الشام. والظاهر أن ربنا واحد ونبينا واحد، ودعوتنا في الإسلام واحدة. لا نستزيدهم في الإيمان بالله والتصديق برسوله صلى الله عليه وآله ولا يستزيدوننا. الأمر واحد إلا ما اختلفنا فيه من دم عثمان ونحن منه براء، فقلنا تعالوا نداو مالا يدرك اليوم بإطفاء النائرة وتسكين العامة، حتى يشتد الأمر ويستجمع، فنقوى على وضع الحق مواضعه، فقالوا بل نداويه بالمكابرة، فأبوا حتى جنحت الحرب وركدت ووقدت نيرانها وحمست)([134]).
وفي رسالة أخرى له إلى معاوية يقول فيها:
( ولعمري يا معاوية لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ الناس من دم عثمان، ولتعلمن أني كنت في عزلة عنه إلا أن تتجنى فتجن ما بدا لك والسلام)([135]).
ويبدو من هذه الرسالة أن معاوية كان يتهم عليا في مقتل عثمان.
نعم توجد روايات تدل على أن معاوية كان يتهم أهل المدينة من حيث الجملة، كما أن روايات الإخباريين كأبي مخنف تدل على أن عمار بن ياسر يمكن أن يكون من قتلة عثمان في مفهوم معاوية، بل تدل على أن معاوية كان يتهم عليا نفسه بعثمان! وهذه الأخبار تجري مجرى الواقع الثابت في حرب صفين وما بعدها.
وجدير بالذكر أن معاوية حتى وإن كان لا يتهم عليا مباشرة، إلا إنه كان يطالبه بتسليم قتلة عثمان؛ وكان يتهم عمار بن ياسر، ولوّح أنه يقتله بعثمان([136]).
وكان لقبول علي في جيشه لبعض المباشرين للثورة على عثمان، كمالك الأشتر، ومحمد بن أبي بكر دليلا عند معاوية على تورط علي بدم عثمان.
ومما يدل على أن هذه الحروب التي جرت كانت فتنة، وكانت عن إجتهاد، أن يعلى بن أمية شهد صفين مع علي بعد أن شهد الجمل مع عائشة، بل جزم إبن عبدالبر في ( الإستيعاب ) أنه قُتل بصفين مع علي.
ونحن لسنا بصدد الخوض في تفاصيل هذه الحروب، ولكننا نقول: ما قاله القاضي عياض بأن مذهب أهل السنة والجماعة:
( هو أن الحروب التي جرت كانت لكل طائفة شبهة اعتقدت تصويب أنفسها بسببها وكلهم عدول رضي الله عنهم ومتأولون في حروبهم وغيرها ولم يخرج شئ من ذلك أحدا منهم عن العدالة لأنهم مجتهدون اختلفوا في مسائل من محل الاجتهاد كما يختلف المجتهدون بعدهم في مسائل من الدماء وغيرها ولا يلزم من ذلك نقص احد منهم واعلم أن سبب تلك الحروب ان القضايا كانت مشتبهة فلشدة اشتباهها اختلف اجتهادهم وصاروا ثلاثة أقسام:
قسم ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في هذا الطرف وان مخالفه باغ فوجب عليهم نصرته وقتال الباغي عليه فيما اعتقدوه ففعلوا ذلك ولم يكن يحل لمن هذه صفته التأخر عن مساعدة إمام العدل في قتال البغاة في اعتقاده.
وقسم عكس هؤلاء ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في الطرف الآخر فوجب عليهم مساعدته وقتال الباغي عليه.
وقسم ثالث اشتبهت عليهم القضية وتحيروا فيها ولم يظهر لهم ترجيح احد الطرفين فاعتزلوا الفريقين وكان هذا الاعتزال هو الواجب في حقهم لأنه لا يحل الإقدام على قتال مسلم حتى يظهر انه مستحق لذلك ولو ظهر لهؤلاء رجحان احد الطرفين وان الحق معه لما جاز لهم التأخر عن نصرته في قتال البغاة عليه فكلهم معذورون رضي الله عنهم ولهذا اتفق أهل الحق ومن يعتد به في الإجماع على قبول شهاداتهم ورواياتهم وكمال عدالتهم رضي الله عنهم أجمعين)([137]).
فإذا تبين أن هذه الحروب منها ما جرت من غير قصد كحرب الجمل، ومنها ما جرت بسبب شبهة ظنت كل طرف أنه هو المحق فيها، كحرب صفين، عُلم أن ذلك لا يستلزم الطعن في عدالتهم.
ومما يؤكد على أن هذه الحروب قد جرت بينهم نتيجة لإختلاف الرأي في كيفية القصاص من قتلة عثمان، وليس على أساس عقدي، أو على الخلافة؛ هو ما قاله علي بن أبي طالب في نهج البلاغة وقد قال له قوم من الصحابة لو عاقبت قوما ممن أجلب على عثمان فقال عليه السلام:
( يَا إِخْوَتَاهْ إِنِّي لَسْتُ أَجْهَلُ مَا تَعْلَمُونَ وَلَكِنْ كَيْفَ لِي بِقُوَّةٍ وَالْقَوْمُ الْمُجْلِبُونَ عَلَى حَدِّ شَوْكَتِهِمْ يَمْلِكُونَنَا وَلَا نَمْلِكُهُمْ وَهَا هُمْ هَؤُلَاءِ قَدْ ثَارَتْ مَعَهُمْ عِبْدَانُكُمْ وَالْتَفَّتْ إِلَيْهِمْ أَعْرَابُكُمْ وَهُمْ خِلَالَكُمْ يَسُومُونَكُمْ مَا شَاءُوا وَهَلْ تَرَوْنَ مَوْضِعاً لِقُدْرَةٍ عَلَى شَيْءٍ تُرِيدُونَهُ إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ أَمْرُ جَاهِلِيَّةٍ وَإِنَّ لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ مَادَّةً إِنَّ النَّاسَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ إِذَا حُرِّكَ عَلَى أُمُورٍ فِرْقَةٌ تَرَى مَا تَرَوْنَ وَفِرْقَةٌ تَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَ فِرْقَةٌ لَا تَرَى هَذَا وَلَا ذَاكَ فَاصْبِرُوا حَتَّى يَهْدَأَ النَّاسُ وَتَقَعَ الْقُلُوبُ مَوَاقِعَهَا وَتُؤْخَذَ الْحُقُوقُ مُسْمَحَةً فَاهْدَءُوا عَنِّي وَانْظُرُوا مَا ذَا يَأْتِيكُمْ بِهِ أَمْرِي وَلَا تَفْعَلُوا فَعْلَةً تُضَعْضِعُ قُوَّةً وَتُسْقِطُ مُنَّةً وَتُورِثُ وَهْناً وَذِلَّةً وَسَأُمْسِكُ الْأَمْرَ مَا اسْتَمْسَكَ وَإِذَا لَمْ أَجِدْ بُدّاً فَآخِرُ الدَّوَاءِ الْكَيُّ)([138]).
وقال ابن فورك:
( ومن أصحابنا من قال: إن سبيل ما جرت بين الصحابة من المنازعات كسبيل ما جرى بين إخوة يوسف مع يوسف، ثم إنهم لم يخرجوا بذلك عن حد الولاية والنبوة، فكذلك الأمر فيما جرى بين الصحابة)([139]).
فهل إذا إقتتلت طائفتان من المؤمنين لشبهة، أو لمصلحة دينية، أو سياسية، فهل هذا يعني تكفير الطرف الباغي؟ وهل يعني ذلك أن أحد الطرفين قد فسق، وأنه لا يجوز الإعتماد على روايته، ولا يجوز تصديقه فيما إذا نقل حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟
المطلب الثاني
رأي الشيعة في من حارب علي بن أبي طالب
يقول شيخ الشيعة وعلامتهم المجلسي:
ذهب أصحابنا إلى كفر البغاة على عليعليه السلام والأخبار الدالة على كفرهم كثيرة:
فبعضها صريح في كفر مبغض أهل البيت عليهم السلام ولا ريب في أن الباغي مبغض.
وبعضها يدل على كفر من أنكر إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام). وأبغضه. وبعضها يدل على أن الجاحد له (عليه السلام) من أهل النار ولو عبد الله منذ خلق السماوات والارضين في أشرف
الأماكن وظاهر أن المؤمن مع تلك العبادة لا يكون من أهل النار. وبعضها يدل على كفر من لم يعرف إمام زمانه، وذلك مما اتفقت عليه كلمة الفريقين والبغي لا يجامع في الغالب معرفة الإمام ولو فرض باغ على الإمام لأمر دنيوي من غير بغض له ولا إنكار لإمامته فهو كافر أيضا لعدم القائل بالفرق. ثم إن الظاهر أن قوله تعالى: ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل واقسطوا إن الله يحب المقسطين) (8 / الحجرات: 49]، لا يتعلق بقتال البغاة بالمعنى المعروف لما عرفت من كفرهم، وإطلاق المؤمن عليهم بإعتبار ما كانوا عليه بعيد. وظاهر الآية الآتية وهي قوله تعالى: ( إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم فاتقوا الله لعلكم ترحمون) بقاء المذكورين في الآية السابقة على الإيمان ولعله السر في خلو أكثر الأخبار عن الاحتجاج بهذه الآية في هذا المقام فتكون الآية مسوقة لبيان حكم طائفتين من المؤمنين تعدى وبغت إحداهما على الأخرى لأمر دنيوي أو غيرهما مما لا يؤدي إلى الكفر. . .
ثم قال: والذي نفهم من الأخبار أنهم واقعا في حكم المشركين وغنائمهم وسبيهم. في حكم غنائم المشركين وسبيهم والقائم (عليه السلام) يجري تلك الأحكام عليهم ولما علم أمير المؤمنين (عليه السلام) استيلاء المخالفين على شيعته لم يجر هذه الأحكام عليهم لئلا يجروها على شيعته وكذا الحكم بطهارتهم وجواز مناكحتهم وحل ذبيحتهم لاضطرار معاشرة الشيعة معهم في دولة المخالفين. ويدل عليه ما رواه الكليني بإسناده عن أبي بكر الحضرمي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لسيرة علي (عليه السلام) يوم البصرة كانت خيرا لشيعته مما طلعت عليه الشمس إنه علم أن للقوم دولة فلو سباهم لسبيت شيعته. قلت: فأخبرني عن القائم (عليه السلام) أيسير بسيرته ؟
قال: لا إن عليا (عليه السلام) سار فيهم بالمن للعلم من دولتهم وإن القائم (عليه السلام) يسير فيهم بخلاف تلك السيرة لأنه لا دولة لهم. وأما ما لم يحوها العسكر من أموالهم فنقلوا الإجماع على عدم جواز تملكها وكذلك ما حواه العسكر إذا رجعوا إلى طاعة الإمام وإنما الخلاف فيما حواه العسكر مع إصرارهم. وأما مدبرهم وجريحهم وأسيرهم فذوا الفئة منهم يتبع ويجهز عليه ويقتل بخلاف غيره. قال الشيخ قدس الله روحه في تلخيص الشافي عندنا أن من حارب أمير المؤمنين (عليه السلام) وضرب وجهه ووجه أصحابه بالسيف كافر والدليل المعتمد في ذلك إجماع الفرقة المحقة الإمامية على ذلك فإنهم لا يختلفون في هذه المسألة على حال من الأحوال وقد دللنا على أن إجماعهم حجة فيما تقدم. وأيضا فنحن نعلم أن من حاربه كان منكرا لإمامته ودافعا لها ودفع الإمامة كفر كما أن دفع النبوة كفر لان الجهل بهما على حد واحد وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: " من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية " وميتة الجاهلية لا تكون إلا على كفر. وأيضا روي عنه [صلى الله عليه وآله وسلم] أنه قال: " حربك يا علي حربي وسلمك يا علي سلمي " ومعلوم أنه إنما أراد أحكام حربك تماثل أحكام حربي ولم يرد أن أحد الحربين هي الأخرى المعلوم ضرورة خلاف ذلك، فإن كان حرب النبي صلى الله عليه وآله كفرا وجب مثل ذلك في حرب أمير المؤمنين (عليه السلام) لأنه جعله مثل حربه([140]).
فأما إعتمادهم على رواية ( حربك يا علي حربي )، وقولهم: ( ولا شك في كفر من حارب النبي صلى الله عليه وآله وسلم)، فأول ما فيه أن هذه الرواية باطلة، وما بني على الباطل فهو باطل.
وقد رد شيخ الإسلام على هذه الرواية، فقال في (منهاج السنة النبوية ):
( من العجائب وأعظم المصائب على هؤلاء المخذولين أن يثبتوا مثل هذا الأصل العظيم بمثل هذا الحديث الذي لا يوجد في شئ من دواوين أهل الحديث التي يعتمدون عليها لا هو في الصحاح ولا السنن ولا المساند ولا الفوائد ولا غير ذلك مما يتناقله أهل العلم بالحديث ويتداولونه بينهم ولا هو عندهم لا صحيح ولا حسن ولا ضعيف بل هو أخس من ذلك وهو من أظهر الموضوعات كذبا فإنه خلاف المعلوم المتواتر من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم).
والذي أوقعهم في الوهم هو أن هناك من الأحاديث النبوية وصفت بعض أصحاب المعاصي بالكفر، أو نفت عنهم اسم الإيمان، أو أخبرت باستحقاقهم الخلود في النار، ففهم البعض أنها تشهد على أصحابها بالكفر، وأن هذا الكفر هو الكفر الأكبر المخرج من الملة، فكفَّروا بفهمهم المغلوط عموم المسلمين، أو من قيل في حقه مثل هذه الأحاديث، دون مراعاة المعنى المراد من اللفظ، ودون مراعاة موانع التكفير.
فالقاتل لأخيه المسلم سماه القرآن أخاً للمقتول، في قوله: { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } [البقرة/178] ، وكذا اعتبر الطائفتين المقتتلتين من المؤمنين فقال: { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } (الحجرات: 9).
وعليه فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، وقوله ( سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر ). على غير ظاهره، وينصرف فيه لفظ الكفر إلى الكفر الأصغر الذي لا يخرج من الملة.
ومثله في قوله صلى الله عليه وآله وسلم عن آتي الكاهن أو العراف غير المصدق له: ( من أتى عرافاً فسأله عن شيء، لم تقبل له صلاة أربعين يوماً )، فهو يفيد إسلام من أتى العراف - غير المصدق له -، بدليل قبول صلواته بعد الأربعين يوماً، ويحمل حديث تكفير آتي الكاهن على الكفر الأصغر جمعاً بين الحديثين.
قال المناوي في شرح هذا الحديث: "تمسك به الخوارج على أصولهم الفاسدة في التكفير بالذنوب، ومذهب أهل السنة أنه لا يكفر، فمعناه قد كفر النعمة أي سترها، فإن اعتقد صدقه [أي الكاهن أو العرّاف] في دعواه الاطلاع على الغيب كفر حقيقة".
كما أمر الله بإقامة الحدود على القاتل وغيره من أصحاب الذنوب، كل بقدره، وهو شهادة لأهلها بالإسلام، ولو كان الزاني قد خرج من الإسلام بزناه لقتل حداً على كل حال([141]).
وإلى الآن لست أدري ما العلاقة بين هذه الحروب وبين خوارم العدالة، خاصة فيما يتعلق بالعدالة في نقل أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم!!
نعم يمكن أن يكون الصحابي في موضع التهمة، إذا تفرد برواية حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فضل نفسه، أو تفرد برواية فيها طعن في خصمه.
والحمد لله لم يقع هذا من الصحابة كلهم، حتى الذين حاربوا عليا، كطلحة والزبير ومعاوية، فلا يوجد عند أهل السنة حديثا واحدا مكذوبا عن طريق هؤلاء في الطعن في علي بن أبي طالب.
بل توجد روايات فيها مدح لعلي من قبل معاوية. وقد ذكر يحيى بن سليمان الجعفي أحد شيوخ البخاري في كتاب صفين في تأليفه بسند جيد عن أبي مسلم الخولاني انه قال لمعاوية: أنت تنازع عليا في الخلافة أو أنت مثله؟
قال: لا وأني لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوما وأنا بن عمه ووليه أطلب بدمه فأتوا عليا فقولوا له يدفع لنا قتلة عثمان. فأتوه فكلموه، فقال: يدخل في البيعة ويحاكمهم إليّ. فامتنع معاوية فسار علي في الجيوش من العراق حتى نزل بصفين وسار معاوية حتى نزل هناك وذلك في ذي الحجة سنة ست وثلاثين فتراسلوا فلم يتم لهم أمر فوقع القتال([142]).
المسلمون من غير الشيعة ليست لديهم مشكلة في الحروب التي جرت وتجري بين المسلمين، لأن المسلم لا يمكنه أن ينسلخ من طبيعته البشرية التي قد تدفعه أحيانا إلى المعصية عن قصد، أو عن غير قصد. كما أن تدافع وتزاحم المصالح فيما بين المسلمين قد تدفعهم إلى الإقتتال فيما بينهم، إما بسبب مصلحة دينية، أو حتى لمصلحة دنيوية؛ وقد يكون أحد أطراف النزاع إما باغٍ بتأويل, أو مجتهد. بل ربما تدفعه أحيانا نفسه البشرية الإعتداء قصدا على حقوق الآخرين. وكل هذا لا يخرجه لا من الإسلام ولا من العدالة، لاسيما إذا تاب من ذنبه واستغفر، أو أقيم عليه الحد الشرعي.
ولهذا فإنك تجد أن أهل السنة لم يكفروا الذين خرجوا على عثمان، وقتلوه، ولم يكفروا الخوارج الذين خرجوا على علي وقتلوه. ولم يكفروا أحد طرفي النزاع والقتال الذي وقع بين الخليفة وبين من خرج عليه في عهد الأمويين والعباسيين.
إلا أن المشكلة مع الشيعة تبدو عويصة شيئا ما لاسيما مع الإعتقاد بعصمة الإمام، والنظر إلى منزلة الإمام وقياسها بالنبوة، إذ ليس من السهل إيجاد فوارق عندهم بين النبي والإمام إلا في الإسم، أو عدم الجواز للإمام بالزواج أكثر من أربعة نساء. أما عدا ذلك فليس هناك فرق يُذكر بين النبي والإمام. لهذا فهم ينظرون إلى محاربي علي بن أبي طالب، وإلى نفاة العصمة عن الأئمة بأنهم كفار، أو فساق.
المطلب الثالث
حكم الفئة الباغية
لاشك أن الإقتتال بين المؤمنين أمر وارد، ويمكن أن يكون سبب هذا الإقتتال أمرا دينيا، أو أمراً دنيويا، ويمكن أن يكون عن تأويل وإجتهاد، كما يمكن أن يكون عن عمد وظلم حينما تتغلب على النفس البشرية الجانب الحيواني والعدائي فيها على صوت الحق والعقل والمنطق.
قال الشيخ ناصر مكارم الشيرازي:
( قد يتفق أحياناً أن يكون طرفا النزاع باغيين، فهذا الطرف قتل جماعة من القبيلة الأُخرى وسلب ماله، وذلك الطرف قتل جماعة من هذه القبيلة والطائفة وسلب أموالها دون أن يقنع كلّ منهما بالمقدار اللازم من الدفاع سواءً كان الطرفان «الطائفتان» بمستوى واحد من الظلم والبغي أو بعضهما أكثر اعتداءً والآخر أقل!
وبالطبع فإنّ الحكم في شأن هذا المورد لم يرد صراحةً في القرآن، لكن يمكن أن يستفاد هذا الحكم عن طريق إلغاء الخصوصية من الآية محل البحث، وهو أنّ وظيفة المسلمين أن يصلحوا بين الطرفين، وإذا لم يوافقا على الصلح فلابدّ من قتالهم جميعاً حتى يفيء كلٌّ إلى أمر الله، ما ذكرناه آنفاً من أحكام في شأن الباغي والظالم جار في الطرفين...)([143]).
ومهما كان سبب الإقتتال، أو حتى القتل، فإنه لا يخرج صاحبه من الإسلام بالكلية، إلا في حالة واحدة فقط، وهي إذا ما وقع القتل أو الإقتتال بسبب دين المقتول وتقواه.
يقول الشيخ ناصر مكارم الشيرازي عند تفسير قوله تعالى: { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}[ النساء: 93]: وتحت عنوان: (جريمة القتل العمد والعقاب الأبدي):
يرد سؤال في هذا المجال، وهو أن الخلود في العذاب قد ورد بالنسبة إِلى من يموت كافراً، بينما قد يكون مرتكب جريمة القتل العمد مؤمناً، كما يحتمل أن يندم على ما ارتكبه من إثم ويتوب عن ذلك في الدنيا، ويسعى إِلى تعويض وتلافي ما حصل بسبب جريمته، فكيف إِذن يستحق مثل هذا الإِنسان عذاباً أبدياً وعقاباً يخلد فيه؟
إِنّ جواب هذا السؤل يشتمل على ثلاث حالات هي:
1 ـ قد يكون المراد بقتل المؤمن ـ الوارد في الآية موضوع البحث ـ هو القتل بسبب إِيمان الشخص، أي استباحة دم المؤمن، وواضح من هذا إِنّ الذي يعمد إِلى ارتكاب جريمة قتل كهذه إنما هو كافر عديم الإِيمان، وإِلا كيف يمكن لمؤمن أن يستبيح دم أخيه المؤمن، وبناء على هذا يستحق القاتل الخلود في النار ويستحق العذاب والعقاب المؤبد، وقد نقل عن الإِمام الصادق(عليه السلام) حديث بهذا الفحوى ( فقد ورد في كتاب الكافي وتفسير العياشي في تفسير هذه الآية عن الإِمام الصادق(عليه السلام) قوله: « إن من قتل مؤمناً على دينه فذلك المتعمد الذي قال الله تعالى في كتابه عنه: « وأعد له عذاباً عظيماً».). وفيه أيضا: ( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِنَانٍ وَابْنِ بُكَيْرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ: سُئِلَ عَنِ الْمُؤْمِنِ يَقْتُلُ الْمُؤْمِنَ مُتَعَمِّداً أَلَهُ تَوْبَةٌ؟ فَقَالَ: إِنْ كَانَ قَتَلَهُ لِإِيمَانِهِ فَلَا تَوْبَةَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ قَتَلَهُ لِغَضَبٍ أَوْ لِسَبَبِ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ تَوْبَتَهُ أَنْ يُقَادَ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عُلِمَ بِهِ انْطَلَقَ إِلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ فَأَقَرَّ عِنْدَهُمْ بِقَتْلِ صَاحِبِهِمْ، فَإِنْ عَفَوْا عَنْهُ فَلَمْ يَقْتُلُوهُ أَعْطَاهُمُ الدِّيَةَ وَأَعْتَقَ نَسَمَةً وَصَامَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ وَأَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِيناً تَوْبَةً إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ).
2 ـ كما يحتمل أن يموت مرتكب جريمة القتل العمد مسلوب الإِيمان بسبب تعمده قتل إِنسان مؤمن بريء، فلا يحظى بفرصة للتوبة عن جريمته، فينال في الآخرة العذاب العظيم المؤبد.
3 ـ ويمكن أيضاً ـ أن يكون المراد بعبارة (الخلود» الواردة في الآية هو العذاب الذي يستمر لآماد طويلة وليس العذاب المؤبد.
ويمكن أن يطرح سؤال آخر ـ في هذا المجال ـ وهو هل أنّ جريمة القتل العمد قابلة للتوبة؟!
لقد ردّ جمع من المفسّرين بالنفي صريحاً على هذا السؤال، وقالوا: أن هذه الجريمة التي ورد ذكرها في الآية موضوع البحث غير قابلة للتوبة مطلقاً، حيث أشارت الروايات الواردة في هذا الأمر إِلى ذلك، فقد صرحت الروايات بأنّ لا توبة لقاتل المؤمن عمداً.
ولكن الذي نستنتجه من روح التعاليم الإِسلامية، وروايات الأئمّة(عليهم السلام)، وغيرهم من علماء الدين الكبار، وكذلك من فلسفة التوبة القائمة على أساس التربية والوقاية من الوقوع في الذنوب والخطايا في مستقبل الفرد المسلم ... المستخلص من ذلك كله هو أنه لا يوجد ذنب غير قابل للتوبة، لكن التوبة من بعض الذنوب تكون مقيدة بشروط قاسية جداً يصعب بل يستحيل أحياناً على الفرد تحقيقها.
والدليل على هذا الأمر هو قول القرآن الكريم: ( إِن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء).
وقد قلنا في تفسير هذه الآية: إِنّها وردت في شأن العفو عن الذنوب بواسطة الشفاعة وما شاكل ذلك، ولكن المعروف أنّه حتى الشرك ـ ذاته ـ يعتبر من الجرائم والذنوب القابلة للتوبة، إِذا تخلى الإِنسان عنه وعاد فآمن بالله الواحد الأحد وأسلم وجهه لله، كما حصل للجاهليين الذين تخلوا عن شركهم وقبلوا الإِسلام وتابوا إِلى الله فعفا عنهم وغفر لهم ذنوبهم السابقة.
ويتبيّن من هذا العرض الموجز أنّ كل الذنوب ـ حتى الشرك ـ قابلة للتوبة، وتؤكد على ذلك الآيتان (53 و54) من سورة الزمر حيث يقول تعالى: ( إِنّ الله يغفر الذنوب جميعاً إِنّه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إِلى ربّكم وأسلموا له ) وقد ذكر بعض المفسّرين أن الآيات التي تتحدث عن غفران جميع الذنوب هي آيات عامّة قابلة للتخصيص ـ ولكن لا يمكن الحكم بصحة هذا القول، لأنه يتناقض ومنطق هذه الآية التي اعتبرت التوبة نعمة ومنة من الله على المذنبين، وأكدت ذلك بالقرائن، لذلك لا يمكن تخصيص هذه الآيات، فهي ـ كما في الإِصطلاح ـ تأبى التخصيص.
إِضافة إِلى ذلك كلّه فقد يحتمل أن يلجأ مرتكب القتل العمد إِلى التوبة، ويخلص الطاعة لله في بقية عمره، ويتجنب إرتكاب الذنوب ولا يعصي الله بعد ذلك، ولا يعمد إِلى ارتكاب جريمة قتل مشابهة، فهل يصح أن ييأس التائب ـ في مثل هذه الحالة ـ من رحمة الله وعفوه ومغفرته؟ وهل يجوز القول بأن هذا الشخص مع توبته وندمه وسيبقى مشمولا بعذاب الله المؤبد؟ إِن القول برفض توبة إِنسان كهذا يكون مخالفاً لروح التعاليم الدينية السامية التي جاء بها الأنبياء لتربية البشر وهدايتهم في جميع مراحل التاريخ.
والذي نلاحظه في تاريخنا الإِسلامي، هو أنّ النّبي ( صلى الله عليه وآله وسلم) قد عفا عن أخطر المجرمين من أمثال «وحشي» الذي قتل «حمزة بن عبد المطلب» عم النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقبل النّبي توبته، وكذلك لا يمكن القول بأن إرتكاب جريمة القتل في حال الشرك يختلف عنه في حال الإِيمان، بحيث يقال باحتمال التغاضي والعفو عن الجريمة في الحالة الأُولى، وعدم احتماله في حالة الإِيمان، وقد سبق أن علمنا أن ليس هناك ذنب أعظم من الشرك بالله، وعرفنا أنّ هذا الذنب ـ أيضاً ـ قابل للتوبة وان الله يعفو عن المشرك إِذا تاب عن شركه واعتنق الإِسلام ... فكيف ـ والحالة هذه ـ يمكن القول بأنّ جريمة القتل العمد ـ التي لم يذكر القرآن أنّها أعظم الجرائم ليست قابلة للتوبة أو العفو؟
هذا حكم قاتل العمد، فما بلك إذا كان هذا القتل أو القتال خطأً أو عن إجتهاد وتأويل؟!
أما ما قاله شيخ الشيعة ناصر مكارم الشيرازي، في ختام تفسيره لقوله تعالى: { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } من أن هذه الآية لا تشمل القيام بوجه الإمام العادل والحكم بتكفيره بقوله: ( إلاّ أنّ ما أثارته الآية الآنفة موضوع آخر، وهو النزاع الواقع بين الطائفتين المؤمنين، وليس في هذا النزاع نهوض بوجه إمام المسلمين العادل ولا نهوض بوجه الحكومة الإسلامية الصالحة. وقد أراد بعض الفقهاء أو المفسّرين أن يستفيدوا من هذه الآية «في المسألة السابقة» إلاّ أنّ هذا الإستدلال كما يقول الفاضل «المقداد» في «كنز العرفان» خطأ بيّن. لأنّ القيام والنهوض بوجه الإمام العادل موجب للكفر، في حين أنّ النزاع بيّن المؤمنين موجب للفسق فحسب لا الكفر، ولذلك فإنّ القرآن المجيد عبّر عن الطائفتين بالمؤمنين وسمّاهم أخوةً، فلا يصحّ تعميم أحكام أهل البغي على أمثال هؤلاء!...
ثم قوله: ( وفي ختام هذا الكلام نؤكّد مرّةً أُخرى أنّ حكم هؤلاء البغاة منفصل عن حكم الذين يقفون بوجه الإمام المعصوم أو الحكومة الإسلامية العادلة، فإنّ لهذه الطائفة الأخيرة أحكاماً أشدّ وأصعب واردة في كتاب الجهاد من الفقه الإسلامي)([144]).
أقول: لا دليل على هذا الإستدلال، سوى ما يعتقده بأن محاربة الإمام المعصوم هو كمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهذه خاصة الشيعة لا يشاركهم فيها غيرهم من سائر طوائف المسلمين. إذ لا إتفاق معهم في الكبرى وهي ( عصمة الإمام ) ، حتى يستقيم رأيهم في الصغرى، وهي ( قياس محاربة الإمام بمحاربة النبي).
وكفى دليلا على عدم كفر من حارب علي بن أبي طالب، سعي الحسن والحسين في العفو عن مروان بن الحكم يوم وقع أسيرا في جيش علي يوم الجمل.
فقد قال المجلسي: (أخذ مروان بن الحكم أسيرا يوم الجمل فاستشفع بالحسن والحسين إلى أمير
المؤمنين عليهما السلام فكلماه فيه فخلى سبيله)([145])، وعدم تكفير علي للخوارج وهو القائل: ( لَا تُقَاتِلُوا الْخَوَارِجَ بَعْدِي فَلَيْسَ مَنْ طَلَبَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَهُ كَمَنْ طَلَبَ الْبَاطِلَ فَأَدْرَكَهُ )([146])، وتنازل الحسن بن علي ـ وهو معصوم عند الشيعة ـ بالخلافة لمعاوية بن أبي سفيان. فكيف ترضى لنفسك أيها الشيعي أن يتنازل المعصوم بخلافة المسلمين لرجل كافر حاربه وحارب أباه من قبل؟!
المطلب الرابع
الفرق بين الباغي المتأول والمتعمد
علمنا مما سبق أن الذين حاربوا عليا كان لهم تأويل، ولم يكن أحد من الذين حاربوه قد حاربه من أجل السلطة، ولا من أجل الدنيا وزينتها.
فأما بالنسبة لعائشة وطلحة والزبير، فقد كانت حجتهم الطلب بدم عثمان، والإقتصاص من قتلته.
وأما بالنسبة لمعاوية، فكانت حجته تسليم قتلة عثمان إليه لأنه ولي دمه.
وأما بالنسبة للخوارج، فكانت حجتهم سوء فهمهم للقرآن، حين إعتقدوا أن مرتكب الكبيرة كافر، وأنه ليس ثمة منزلة بين المؤمن والكافر. وقالوا لعلي كفرت حين حكمت الرجال في دين الله، والله تعالى يقول:{ إنِ الحكم إلاّ لله }.
فلابد إذن من التفريق في أحكام البغاة بين العامد وبين المتأول، فالمتأول لا يستحق إسم الفسوق في عرف العرب؛ لأنّه في عرف أهل اللّغة: الذي يتعمّد ارتكاب الفواحش تمرّداً أو خلاعة, وليس هو من يكفّ نفسه عن كلّ ما يعلم تحريمه أو يظنّه, ولا يفعل قبيحاً إلا بتأويل([147]).
وكما قال الإمام الشافعي:
( الباغي ليس باسم ذم بل هو اسم من اجتهد فأخطأ بمنزلة من خالف الفقهاء في بعض المسائل)([148]).
وقال شيخ الإسلام إبن تيمية:
( وَكُلُّ مَنْ كَانَ بَاغِيًا، أَوْ ظَالِمًا، أَوْ مُعْتَدِيًا، أَوْ مُرْتَكِبًا مَا هُوَ ذَنْبٌ فَهُوَ " قِسْمَانِ " مُتَأَوِّلٌ، وَغَيْرُ مُتَأَوِّلٍ، فَالْمُتَأَوِّلُ الْمُجْتَهِدُ: كَأَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، الَّذِينَ اجْتَهَدُوا، وَاعْتَقَدَ بَعْضُهُمْ حِلَّ أُمُورٍ، وَاعْتَقَدَ الْآخَرُ تَحْرِيمَهَا كَمَا اسْتَحَلَّ بَعْضُهُمْ بَعْضَ أَنْوَاعِ الْأَشْرِبَةِ، وَبَعْضُهُمْ بَعْضَ الْمُعَامَلَاتِ الرِّبَوِيَّةِ وَبَعْضُهُمْ بَعْضَ عُقُودِ التَّحْلِيلِ وَالْمُتْعَةِ، وَأَمْثَالُ ذَلِك، فَقَدْ جَرَى ذَلِك وَأَمْثَالُهُ مِنْ خِيَارِ السَّلَفِ. فَهَؤُلَاءِ الْمُتَأَوِّلُونَ الْمُجْتَهِدُونَ غَايَتُهُمْ أَنَّهُمْ مُخْطِئُونَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ هَذَا الدُّعَاءَ. وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ داود وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ إنَّمَا حَكَمَا فِي الْحَرْثِ، وَخَصَّ أَحَدَهُمَا بِالْعِلْمِ وَالْحُكْمِ، مَعَ ثَنَائِهِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْعِلْمِ وَالْحُكْمِ. وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِذَا فَهِمَ أَحَدُهُمْ مِنْ الْمَسْأَلَةِ مَا لَمْ يَفْهَمْهُ الْآخَرُ لَمْ يَكُنْ بِذَلِك مَلُومًا وَلَا مَانِعًا لِمَا عُرِفَ مِنْ عِلْمِهِ وَدِينِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِك مَعَ الْعِلْمِ بِالْحُكْمِ يَكُون إثْمًا وَظُلْمًا، وَالْإِصْرَارُ عَلَيْهِ فِسْقًا، بَلْ مَتَى عُلِمَ تَحْرِيمُهُ ضَرُورَةً كَانَ تَحْلِيلُهُ كُفْرًا. فَالْبَغْيُ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ. أَمَا إذَا كَانَ الْبَاغِي مُجْتَهِدًا وَمُتَأَوِّلًا، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّهُ بَاغٍ، بَلْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا فِي اعْتِقَادِهِ: لَمْ تَكُنْ تَسْمِيَتُهُ " بَاغِيًا " مُوجِبَةً لِإِثْمِهِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ تُوجِبَ فِسْقَهُ. وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ بِقِتَالِ الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ؛ يَقُولُونَ: مَعَ الْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ قِتَالُنَا لَهُمْ لِدَفْعِ ضَرَرِ بَغْيِهِمْ؛ لَا عُقُوبَةً لَهُمْ؛ بَلْ لِلْمَنْعِ مِنْ الْعُدْوَانِ. وَيَقُولُونَ: إنَّهُمْ بَاقُونَ عَلَى الْعَدَالَةِ؛ لَا يُفَسَّقُونَ. وَيَقُولُونَ هُمْ كَغَيْرِ الْمُكَلَّفِ، كَمَا يُمْنَعُ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ وَالنَّاسِي وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّائِمُ مِنْ الْعُدْوَانِ أَنْ لَا يَصْدُرَ مِنْهُمْ؛ بَلْ تُمْنَعُ الْبَهَائِمُ مِنْ الْعُدْوَانِ. وَيَجِبُ عَلَى مَنْ قُتِلَ مُؤْمِنًا خَطَأً الدِّيَةُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ مَعَ أَنَّهُ لَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِك، وَهَكَذَا مَنْ رُفِعَ إلَى الْإِمَامِ مِنْ أَهْلِ الْحُدُودِ وَتَابَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَأَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَالتَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، وَالْبَاغِي الْمُتَأَوِّلُ يُجْلَدُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَنَظَائِرُهُ مُتَعَدِّدَةٌ. ثُمَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ " الْبَغْيُ " بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ: يَكُون ذَنْبًا، وَالذُّنُوبُ تَزُولُ عُقُوبَتُهَا بِأَسْبَابِ مُتَعَدِّدَةٍ: بِالْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ، وَالْمَصَائِبِ الْمُكَفِّرَةِ، وَغَيْرِ ذَلِك)([149]).
وقال أيضا:
( وأكثر الفقهاء يحدّون من شرب النبيذ المتنازع فيه وإن كان متأولا وكذلك يأمرون بقتال الباغي المتأول لدفع بغيه وإن كانوا مع ذلك لا يفسقونه لتأويله)([150]).
فإذا نفينا عن المتأول إسم الفسوق، خرج من حكم قوله تعالى: { إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } [الحجرات : 6]. سواء سمي فاسقا أو لم يسم، وصار حكمه حكم العدل في قبول خبره. والدليل أن الله تعالى سمى الفئة الباغية بالمؤمنة، في قوله تعالى: { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }[الحجرات : 9 ، 10].
ولا شك أن أحدى الفئتين المتقاتلتين لابد أن تكون باغية، سواء كان بغيها بإجتهاد، أو بتأويل، وإن كانت مخطئة في ذلك وتظن نفسها على الحق، فسماهما الله تعالى حتى بعد البغي، بالأخوين:{ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُم }. وفي الحديث الشريف: ( تقتل عمار الفئة الباغية )، ولم يقل تقتل عمار الفئة الكافرة. فالبغي لا يخرج المسلم من الإسلام.
ولقد أجاد العلامة إبن الوزير في رده على من جعل العلّة في قبول العدل بأنّ قبول خبره منصب تعظيم وتشريف, والفاسق المتأوّل غير أهل لذلك. فقال:
( وعندي أنّ العلّة هي ظنّ الصّدق ورجحانه, والدّليل على ذلك وجوه:
الوجه الأوّل: قوله تعالى: { واستشهدوا شهيدين من رجالكم }[البقرة/282], فلو كانت العلّة مجرّد العدالة, وكونها منصباً شريفاً, مستحقّاً للتعظيم, مانعاً من قبول الرّدّ لما فيه من الاستهانة بالمردود والتهمة له, لكفى العدل الواحد, فإن قيل: هذا ينعكس عليكم, فإنّه لو كان العلّة الظّنّ لكفى الواحد أيضاً, فالجواب من وجوه:
أحدهما: أنّ القصد في حقوق المخلوقين الظّنّ الأقوى حسب الإمكان المتيسّر, وفي حقوق الله تعالى مجرّد الظّنّ.
وثانيهما: أنّه إذا بطل بهذا تعليلنا بطل به تعليل الخصم, وذلك يضرّ الخصم ولا يضرّنا, لأنّ بطلان به تعليل يستلزم بطلان القياس وبذلك تبطل حجّة الخصم القياسية. وأمّا نحن؛ فلم نحتج إلى القياس في هذه المسألة وإنّما قصدنا بطلانه.
وثالثها: أنّ سائر أدلّتنا في استنباط التعليل بالظّنّ غير معارضة بما يساويها في القوّة.
الوجه الثّاني: قوله تعالى: { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ }[المائدة : 106]، فأباح الله تعالى قبول كافر التّصريح عند الضّرورة الدّنيوية, حين لم يوجد من يحفظ المال بالشّهادة سواه, فدلّ على أنّ قبولها ليس بمنصب تشريف لا يستحقه إلا مؤمن, فأولى وأحرى أن نقبل المتأوّل من أهل القبلة, إذا اضطررنا إلى ذلك في أمر ديننا, بأن يحفظ عن نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم حكماً ونظنّ صدقه فيه ولا نجد غيره أحداً يرويه, فإنّ الشّرع قد جعل الشّهادة في حقوق المخلوقين آكد من الخبر عن أمور الدّين, لما ورد فيها من اعتبار شاهدين اثنين, وعدم الاجتزاء بامرأة واحدة عن احد الشّاهدين ونحو ذلك, فإذا جاز في الضّرورة اعتبار كافر التّصريح في الشّهادة, مع تغليظ حكمها, فجواز اعتبار كافر التّأويل في الرّواية أولى, وفي هذه الآية أوضح دليل على جواز تخصيص العلّة, فتأمّل ذلك.
الوجه الثّالث: قوله تعالى: { ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا }[المائدة : 108] فعلّل بما يفيد قوّة الظّنّ.
الوجه الرّابع: قوله تعالى في /الكتابة: { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا } [البقرة : 282] وهذا أوضح دليل على اعتبار ما يبعد عن الرّيبة, دون اعتبار منصب العدالة الرّاجع إلى ما يستحقه المسلم من التّعظيم.
الوجه الخامس: ورود الشّرع بشاهد ويمين عند من يقول بذلك من أهل العلم, ولا شكّ أنّ شرع اليمين يدلّ على اعتبار قوّة الظّنّ ولا يناسب مقام تعظيم المؤمن, بل فيها تهمة للشّاهد والحالف, ولو صُدّقا من غير شهادة ولا يمين كان أكثر تعظيماً لهما.
الوجه السّادس: أنّه يجب ردّ حديث العدل في دينه إذا كان سيء الحفظ يترجّح خطؤه على صوابه, وهذا إجماع, وفيه أكبر دليل على أن العبرة الظّنّ, ولهذا وجب ردّ المسلم المتديّن حيث زال الظّنّ لصدقه, ولو كانت العلّة ما ذكره المعترض من استحقاقه لمنصب القبول بإسلامه وإيمانه وديانته؛ لوجب قبول سيء الحفظ, وإن كان خطؤه أكثر من صوابه, لأنّه لم يتعمّد ولا إثم عليه في ذلك ولا حرج باتفاق المسلمين.
الوجه السّابع: أنّ علماء الأصول عملوا في باب التّرجيح بتقديم خبر من قوي الظّنّ بإصابته وصدقه, ولم يقدّموا خبر من كثر ثوابه وعظمت منزلته عند الله تعالى, فاعتبروا في التّرجيح جودة الحفظ, وملازمة الفنّ, وموافقة أهل الإتقان, ولم يعتبروا أسباب عظم المنزلة عند الله من كثرة الجهاد والصّدقة والذّكر, وقد ضعّفوا جماعة لكثرة اشتغالهم بالعبادة وانقطاعهم في الذكر, حتّى غفلوا عن الحديث وساء حفظهم, وهذا أوضح دليل على تعليل القبول بالظّنّ لا باستحقاق منصب التعظيم.
الوجه الثّامن: أنّه يجب على المجتهد العمل بما يُفيده الظّنّ في المعاني القرآنية اللفظيّة ونحوها, فيجب عليه تقديم دليل المنطوق على دليل المفهوم ونحو ذلك, وليس العلّة أنّ دليل المنطوق منصب للتعظيم, ودليل المفهوم منصب للاستهانة, وإنّما العلّة وجوب قبول الرّاجح وتقديمه على المرجوح, فيجب مثل ذلك في رواة الأخبار النّبويّة, فإنّ العلّة واحدة وهي حصول الظّنّ الرّاجح)([151]).
المطلب الخامس
الفاسق وعدالته في رواية الحديث
ينبغي أولا أن نقف على معنى الفاسق حتى نستطيع أن نحكم على عدالته في رواية الحديث من عدمها.
أصل الفسق هو الخروج ومن هذا سمي الخارج عن الطاعة فاسقا ويقال فسقت الرطبة عن قشرها إذا خرجت عنه قاله الخطابي.
قال أبو جعفر: وأصلُ الفسق في كلام العرب: الخروجُ عن الشيء. يقال منه: فسقت الرُّطَبة إذا خرجت من قشرها. ومن ذلك سُمّيت الفأرةُ فُوَيْسِقة، لخروجها عن جُحرها، فكذلك المنافق والكافر سُمّيا فاسقيْن، لخروجهما عن طاعة ربهما. ولذلك قال جل ذكره في صفة إبليس:( إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) [سورة الكهف: 50]، يعني به خرج عن طاعته واتباع أمره([152]).
والفسق نوعان([153]): نوع مخرج من الدين، وهو الفسق المقتضي للخروج من الإيمان; كالمذكور في قوله تعالى: { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُون} [البقرة: 99] ، ونوع غير مخرج من الإيمان كما في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا } [الآية].
ومذهب أهل السنة أن لا يترك الحق ولو كان من كافر. ولهذا فهم يروون الحديث عن كل من ثبت عندهم صدقه ولو كان مبتدعا.
فقد رووا عن الشيعة الأوائل([154])، ورووا عن الخوارج، لأنهم يكفرون مرتكب الكبيرة، والكذب عندهم كبيرة. ورووا عمن شارك في قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه .
فعن محمد بن طلحة ثنا كنانة العدوي قال: كنت فيمن حاصر عثمان. قال: قلت محمد بن أبي بكر قتله قال: لا قتله جبلة بن الأيهم رجل من أهل مصر . . . )([155]).
فتأمل هذا الخبر: تصريح كنانة العدوي بأنه كان فيمن حاصر عثمان، ومع ذلك فإنه ثقة من رجال مسلم وأبي داوود والنسائي، ووثقه إبن سعد والعجلي كما في ترجمته عند إبن حجر في تهذيب التهذيب ( 8/403 )([156]).
وليس عندهم ما يمنع قبول الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فلقد جاء في الحديث الصحيح عن الْمُغِيرَةُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ « إِنَّ كَذِبًا عَلَىَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ فَمَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ »([157]).
فأما بالنسبة للصحابة، فلم يعرف فيهم من يتعمد الكذب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكذلك جمهور التابعين لم يعرف فيهم من يتعمد الكذب.
والكذب هو الإخبار عن الشئ بخلاف ما هو: عمدا كان أو سهوا أو غلطا، وسواء طابق الاعتقاد أم لا على المشهور([158]).
فلما كان معنى الكذب يشمل العمد والسهو والغلط، فحتى يرفع الإثم عن المخطيء والناسي، قيده صلى الله عليه وآله وسلم بالعمد.
ومما هو جدير بالبيان هنا أن إطلاق الصحابة والسلف الصالح لهذه الكلمة ( أعني الكذب )، وتكذيب أحدهم للآخر في بعض الأحيان، إنما هو من قبيل تخطئة بعضهم لبعض، وبيان ما وقع فيه بعضهم من وَهَم الكلام0
... والكذب بهذا المعنى لا يعصم منه أحد، لا من الصحابة، ولا ممن دونهم، وقد جاءت كلمة "الكذب" في أحاديث كثيرة بمعنى الخطأ، من ذلك ما يلي:
1. قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : " كَذَبَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ بَلْ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ "( أخرجه مسلم (بشرح النووي) كتاب الجهاد والسير، باب غزوة خيبر 6/404 رقم 1802، وباب غزوة ذي قرر وغيرها 6/419 رقم 1807 0 في الرد على من ظن أن عامر بن الأكوع : "قتل نفسه في غزوة خيبر حيث أصابه سيفه، وهو يبارز "مرحباً" ملك اليهود.
2. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : "كذب أبو السنابل، ليس كما قال، قد حللت فانكحي"0 وذلك في الرد على أبى السنابل الذي قال لسبيعة بنت الحارث، وقد وضعت حملها بعد وفاة زوجها بأيام: إنك لا تحلين حتى تمكثي أربعة أشهر وعشراً0 فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : " كذب أبو السنابل ، ليس كما قال "([159]).
وعلى نحو هذا الإستعمال لكلمة "كذب" جاء استعمال الصحابة لها:
1. كقول ابن عباس - رضي الله عنهما - عن نوف البكالى: "كذب نَوْف"([160]) عندما قال صاحب الخضر ليس موسى بنى إسرائيل، وإنما موسى آخر - ونوف من الصالحين العباد، ومقصود ابن عباس: اخطأ نوف.
2. ومنه قول عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - : "كذب أبو محمد([161])" حيث قال : " الوتر واجب " . قال إبن حجر في مقدمة فتح الباري: ( قال إبن حبان: أهل الحجاز يطلقون كذب في موضع أخطأ ذكر هذا في ترجمة برد من كتاب الثقات).
فهذا كله من الكذب الخطأ، ومعناه "اخطأ قائل ذلك"0 وسمى كذباً؛ لأنه يشبهه, لأنه ضد الصواب، كما أن الكذب ضد الصدق، وإن افترقا من حيث النية والقصد .
وما استدرك به بعض الصحابة بعضاً في الرواية لا يعد كذباً، كيف لا ! والصحابة يتفاوتون في روايتهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين مكثر ومقل، يحضر بعضهم مجلساً للرسول صلى الله عليه وآله وسلم يغيب عنه آخرون، فينفرد الحاضرون بما لم يسمعه المتخلفون، حتى يبلغوا به فيما بعد0 ومن هذا القبيل كتاب " الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة " للإمام بدر الدين الزركشى0 كما وقع لجماعة من الصحابة غيرها ، استدركوا على مثيلهم ، ونفوا ما رواه وخطؤوه فيه0
... ويدل على ما سبق ما رواه الحاكم عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : ليس كلنا سمع حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت لنا ضيعة وأشغال ولكن الناس كانوا لا يكذبون يومئذ فيحدث الشاهد الغائب([162]).
وعلى هذا: فإذا ورد على لسان أحد من الصحابة نفى ما رواه نظيره، أو قوله في مثيله: كذب فلان …، أو نحو هذا من العبارات، فالمراد به أنه أخطأ أو نسى؛ لأن الكذب عند أهل السنة هو الإخبار عن الشئ بخلاف ما هو عليه عمداً أو نسياناً أو خطأ، ولكن الإثم يختص بالعامد، كما جاء في الحديث: " من كذب علىَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار "([163]).
على أن أئمة الحديث وإن قالوا برفع الإثم عن المخطئ، والناسى، والغالط، فقد جعلوا ما ألحق بالحديث غلطاً، أو سهواً، أو خطأً، من قبيل الشبيه بالموضوع في كونه كذباً في نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولا تحل روايته إلا مقروناً ببيان أمره([164]).
وأما قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ }[الحجرات : 6]. فليس فيها الأمر بعدم قبول خبر الفاسق. بل أمر بالتبين والتثبت، فإن كان لخبره قرائن تدل على صدقه قبلناه، وإلا فليس في الآية وجوب قبوله أو رده. كما أن الآية لا تدل على أن خبر العدل مقبول إلا بعد التحرز من جملة أمور، منها: أن لا يكون سيّء الحفظ ولا فاحش الغلط ولا مخالفاً للثقات ولا كثير الأوهام ولا مغفّلاً، عالماً بمعنى ما يرويه وبما يحيل المعنى عن المراد إن روى المعنى.
وأيضا فإن الآية ليس فيها وصف الفاسق بالكاذب، إذ لو كان المراد بالفسق هنا هو الكذب، لأمر الله تعالى نبيه بعدم تصديقه ورد خبره، لا الأمر بالتبيين.
ثم أن تبين الخبر هو تطلّب البيان, وليس القطع على أنّه كاذب يسمّى تبيّناً في اللغة ولا في العرف ولا في الشّرع, وقد جاء الأمر بالتّبيّن في القرآن الكريم, وليس المراد به الرّدّ والتّكذيب, وذلك في قوله تعالى في سورة النّساء:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا } [النساء : 94] فروى البخاريّ ومسلم من حديث ابن عبّاس -رضي الله عنهما- أنّ المسلمين لحقوا رجلاً في غُنيمة له, فقال: السّلام عليكم, فقتلوه وأخذوا غُنيمته فنزلت, وهو حديث صحيح مرويّ من غير طريق, فثبت أنّ التّبيّن طلب البيان لا ردّ المتّهم([165]).
وعلى هذا يتنزل ما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم في طلب شاهد آخر، أو تحليف البعض منهم.
المطلب السادس
الفرق في الرواية بين حق الله تعالى، وحقوق المخلوقين
لقد إختلط على الكثير من الباحثين، قبول أو رد الخبر المتعلق بأمر الدين بالشهادة في حقوق المخلوقين، فبينهما من الفروق ما لا يتفطن إليها الكثير من الناس.
قال الشيخ الطوسي:
( فأما من كان مخطئا في بعض الأفعال أو فاسقا بأفعال الجوارح وكان ثقة في روايته، متحرزا فيها، فان ذلك لا يوجب رد خبره، ويجوز العمل به لان العدالة المطلوبة في الرواية حاصلة فيه، وإنما الفسق بأفعال الجوارح يمنع من قبول شهادته وليس بمانع من قبول خبره، ولأجل ذلك قبلت الطائفة أخبار جماعة هذه صفتهم)([166]).
وقال العلامة إبن المرتضى اليماني المعروف بإبن الوزير:
( إن حقوقَ المخلوقين لا تُقاس على حقوق الله تعالى، لأنَّه يُعتبر فيها مِن قوة الظن ما لا يُعتبر في حقوق الله تعالى، ولهذا لا يُعتبر في الإخبار عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا خبر واحد، ويجب في حقوق المخلوقين اعتبارُ شاهِدَيْنِ، وفي بعضها أربعة شهود، وفي بعضها شاهدٌ ويمينٌ، وفي بعضِها اليمينُ مع الخبر، ولا يُقبل فيها العَدُوُّ على عدوه، ولا شهادةُ الأبِ لولده عند بعضِ العلماء، وكم بينَ حقوقِ الله تعالى وحقوقِ المخلوقين من الفروق الواضحة)([167]).
ولتوضيح هذا الأمر أكثر نقول:
لقد إشترط الله تعالى في الوصية التي هي حق المخلوقين، شهادة رجلين عدلين، فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ }[المائدة : 106]. فلو كانت العدالة وحدها كافية في الشهادة، لأكتفى بشاهد عدل واحد، فدل هذا على أن إثبات حقوق المخلوقين لا تقوم على مجرد عدالة الشاهد، بل الإنسان يعتريه النسيان، أو الخطأ، أو الوهم، أو غير ذلك من الأمور، فلذلك تطلب الأمر عند عدم وجود قرائن أخرى غير الشهادة، أن تكون وسيلة إثبات الحقوق بين المخلوقين، قائمة على شهادة رجلين عدلين.
يوضحه أكثر: قوله تعالى: { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى } [البقرة : 282]. ففي هذه الآية تصريح أكثر على أن الشهادة لا تنبني على عدالة الشاهد فقط، وإنما لأمور أخرى منها كما صرح بها قول الحق تبارك وتعالى: { أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى }، والضلالة في هذه الآية تعني «النسيان» بقرينة قوله «فتذكر»([168]).
وأيضا فإن حقوق المخلوقين تتفاوت في الأهمية، وتتفاوت في الكمية والقدر، وتتفاوت أيضا في إرتباطها بالظرف المتعلق بصاحب الحق، ونتيجة لذلك تتفاوت وسائل إثباتها: فمنها ما نحتاج في إثباتها إلى شاهد ويمين، ومنها ما نحتاج في إثباتها إلى شاهدين، ومنها ما نحتاج في إثباتها إلى أربعة شهود، كما في القذف والزنا، وهذا كله، من تعظيم حرمة عرض المسلم، بحيث لا يجوز الإقدام على رميه، من دون نصاب الشهادة بالصدق.
وهذا آخر ما أردت أن أذكره في هذا البحث أسأل الله تعالى أن يجعله خالصا لوجهه الكريم.
والله تعالى يقول الحق ويهدي إلى سواء السبيل.
تم الفراغ منه بحمد الله تعالى وفضله
في
15/ شعبان / 1434هـ
الموافق 23/ 6/ 2013م
العراق / الموصل
الفهرس
ت | الموضوع | رقم الصحيفة |
1 | تمهيد | 1-3 |
2 | المقدمات | 4 |
3 | المقدمة الأولى: نشأة الأبناء على دين الآباء والأجداد | 5-8 |
4 | المقدمة الثانية: قراءة التاريخ | 9-12 |
5 | الفصل الأول:السنة النبوية الشريفة وحجيتها | 13 |
6 | المبحث الأول: السنة النبوية هي المصدر الثاني للتشريع | 14-16 |
7 | المبحث الثاني: حجية السنة النبوية توجب حفظها | 17-19 |
8 | المبحث الثالث: أسباب إختلاف تلقي السنة النبوية | 20-21 |
9 | المطلب الأول: كتاب الله والعترة | 22-34 |
10 | المطلب الثاني: كتاب الله وسنتي | 35-38 |
11 | المطلب الثالث: الفرق بين السنة والعترة | 39-42 |
12 | الفصل الثاني: شبهات الشيعة حول السنة | 43-44 |
13 | المبحث الأول: شبهة المنع من تدوين الحديث | 45-48 |
14 | المبحث الثاني: شبهة وضع الأحاديث | 49-51 |
15 | المبحث الثالث: تأخر تدوين الحديث | 52 |
16 | المطلب الأول: تدوين السنة النبوية عند أهل السنة | 52-53 |
17 | المطلب الثاني: تدوين السنة النبوية عند الشيعة | 54-59 |
18 | المبحث الرابع: طعن الشيعة بعدالة أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم | 60-61 |
19 | الفصل الثالث: الصحابة أم المهاجرون والأنصار؟ | 62-64 |
20 | المبحث الأول: أصحاب النبي قبل إسلامهم | 65-68 |
21 | المبحث الثاني: لا نفاق في مكة | 69-71 |
22 | المبحث الثالث: الصحابة والمنافقون | 72-78 |
23 | المبحث الرابع: دلائل التمييز بين الصحابة والمنافقين | 79-80 |
24 | المطلب الأول: ماذا قال القرآن في التمييز بين الصحابة والمنافقين؟ | 81-87 |
25 | المطلب الثاني: من الذي يحدد السابقين الأولين ؟ | 88-93 |
26 | المطلب الثالث: هل للصحابة خصوصية في مسألة العدالة؟ | 94-97 |
27 | المطلب الرابع: منزلة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار | 98-101 |
28 | المبحث الخامس: أسباب طعن الشيعة بالصحابة | 102 |
29 | المطلب الأول: الإمامة وأثرها على عدالة الصحابة | 103-105 |
30 | المطلب الثاني: الذنوب والمعاصي وأثرها على عدالة الصحابة | 106-108 |
31 | الفرق بين العدالة والعصمة | 109-111 |
32 | أسباب سقوط ذنوب الصحابة | 112-117 |
33 | المبحث السادس: الحروب الداخلية بين المسلمين وأثرها في العدالة | 118 |
34 | المطلب الأول: رأي أهل السنة في الحروب التي جرت بين المسلمين | 119-121 |
35 | المطلب الثاني: رأي الشيعة في من حارب علي بن أبي طالب | 122-125 |
36 | المطلب الثالث: حكم الفئة الباغية | 126-129 |
37 | المطلب الرابع: الفرق بين الباغي المتأول والمتعمد | 130-133 |
38 | المطلب الخامس: الفاسق وعدالته في رواية الحديث | 134-137 |
39 | المطلب السادس: الفرق في الرواية بين حق الله وحقوق المخلوقين | 138-139 |
40 | الفهرس | 140-141 |
[1] - يقول آيتهم نعمة الله الجزائري: ( إنا لم نجتمع معهم - أي مع أهل السنة - على إلهٍّ , ولا على نبيٍّ , ولا على إمامٍّ , وذلك أنهم يقولوا : إنَّ ربَّهُمُ هو الذي كان محمداً نبيُّه , وخليفته بعده أبو بكر, ونحن لا نقول بهذا الرَّبِّ , ولا بذلك النَّبيِّ , بل نقول: إن الرَّبَّ الذي خليفة نبيِّه أبو بكرٍ ليس ربُّنا, ولا ذلك النبيُّ نبيُّنا ) (الأنوار النعمانية ج2/ 278-279).
[2] - قلت: مع الأسف فإن بعض المنتسبين إلى الإسلام يقسمون بغير الله تعالى، في حين أن إبليس أقسم بعزة الله تعالى: ] قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ [ص : 82 ، 83]، وكذلك قوم صالح أقسموا بالله تعالى رغم كفرهم وعدم إيمانهم بنبي الله صالح عليه السلام، قال الله تعالى مخبرا عنهم ] قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ[ [النمل : 49].
[3] - رواه إبن ماجة وصححه الشيخ الألباني.
[4] - نهج البلاغة
[5] - تنزيه الأنبياء
[6] - أنظر مجموع الفتاوى لإبن تيمية
[7] - أنظر: وجوب العمل بسنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وكفر من أنكرها / الشيخ عبد العزيز بن عبدالله بن باز
[8] - أنظر جماع العلم للإمام الشافعي.
[9] - أنظر حجية السنة للدكتور عبدالغني عبدالخالق.
[10] - الطرق الحكمية في السياسة الشرعية
[11] - أنظر: إختلاف الحديث. من محاضرات السيد علي السيستاني عام 1396هـ/ بقلم العلامة السيد هاشم الهاشمي.
[12] - الصحابة بين ميزانين: ص4 للدكتور طه حامد الدليمي.
[13] - الإحكام في أصول الأحكام
[14] - الإحكام في أصول الأحكام
[15] - معرفة الإمام: (1/ 4)
[16] - أصل الشيعة وأصولها: ص165
[17] - منهج الرجال في تحقيق أحوال الرجال/ المقدمة
[18] - أصول الفقه: الباب الثاني : السنة
[19] - منهج الرجال في تحقيق أحوال الرجال/ المقدمة
[20] - معجم رجال الخوئي: المقدمة الأولى
[21] - معجم رجال الخوئي: المقدمة الأولى
[22] - معجم رجال الخوئي: المقدمة الأولى
[23] - رواه الكليني في الكافي عن أبي عبدالله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم./ باب ما امر النبي صلى الله عليه وآله بالنصيحة لائمة المسلمين واللزوم لجماعتهم ومن هم؟
[24] - ذكر إبن حزم في كتابه جوامع السيرة - (ج 1 / ص 276) أسماء الصحابة الذين رووا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ونحن ننقل عنه ليتبين القارئ الكريم أن مرويات أهل البيت لاسيما علي بن أبي طالب عند أهل السنة أكثر مما هي عند الشيعة:
أ- عبد الله بن العباس: ألف حديث وستمائة حديث وستون حديثاً.
ب- جابر بن عبد الله: ألف حديث وخمسمائة حديث وأربعون حديثاً.
ت- أبو سعيد الخدري: ألف حديث ومائة حديث وسبعون حديثاً.
ث- عمر بن الخطاب: خمسمائة حديث وسبعة وثلاثون حديثاً.
ج- علي بن أبي طالب: خمسمائة حديث وستة وثلاثون حديثاً.
ح- عثمان بن عفان: مائة حديث وستة وأربعون حديثاً.
خ- أبو بكر الصديق: مائة حديث واثنان وأربعون حديثاً.
يقول أحد الباحثين في كتب الشيعة: (من خلال بحثي وجدت أن الروايات التي نقلها سيدنا علي رضي الله عنه عن رسول الله e في كتاب الكافي (12إثنى عشر رواية) فقط، ووجدت أن الصادق ينقل رواية واحدة عن أبيه الذي عاش معه في بيت واحد، بينما جابر نقل عنه( 70000سبعون ألف رواية) ومحمد بن مسلم( 30000ثلاثون ألف رواية)، وكلاهما من سكنة الكوفة !
[25] - وسائل الشيعة 20/ 151
[26] - ( رجال الكشي، وبحار الأنوار:2/218)
[27] - الكافي: (8/ 229).
[28] - أنظر معجم رجال الخوئي: 5/187
[29] - أنظر معجم رجال الخوئي: 5/189
[30] - يقول شيخهم الطوسي في تلخيص الشافي: (3/ 87): ( فأما الرسول، فإنما لم تجز التقية عليه، لأن الشريعة لا تعرف إلا من جهته، ولا يوصل إليها إلا بقوله، فمتى جازت التقية عليه لم يكن لنا إلى العلم بما كلفناه من طريق).
[31] - الحدائق الناظرة في أحكام العترة الطاهرة: (1/ 5 - 6).
[32] - دراسات في علم الدراية- ص17/ تلخيص مقباس الهداية للعلامة المامقانى (ره) 1290 - 1351 ه تلخيص وتحقيق الاستاد على اكبر الغفاري جامعة الامام الصادق " ع "
[33] - نهج البلاغة - (2 / 49
[34] - أنظر كتاب ( أهل البيت بين الخلافة والملك ) للدكتور وميض العمري.
[35] - في الكافي - (ج 1 / ص 276): ( فَإِنْ خِفْتُمْ تَنَازُعاً فِي أَمْرٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ كَذَا نَزَلَتْ ).
[36] - أخرجه مالك مرسلا والحاكم مسندا وصححه. وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم: 2937
[37] - لست متجنيا على الشيعة بهذا الكلام، فإن من يقرأ كتاب الحسين النوري الطبرسي ـ خاتمة محدثيهم ـ ( فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب ) سيرى بوضوح أنه:
أولا: ينسب القول بتحريف القرآن إلى أئمته المعصومين عنده.
ثانيا: إنه عدّد أكثر من ( 60 ) عالما من كبار علمائهم المعتبرين كلهم يقولون بوقوع التحريف في القرآن.
وثالثا: عدم تكفيرهم لمن يقول بتحريف القرآن.
ولمزيد من البيان أنظر كتابنا ( إمامة الشيعة وأثرها على القرآن).
[38] - السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي : الدكتور مصطفى بن حسني السباعي
[39] - السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي : الدكتور مصطفى بن حسني السباعي
[40] - مقدمة كتاب: دراسات في علم الدراية:ص5
[41] - نقلا عن تفسير مجمع البيان للطبرسي وتفسير الأمثل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي.
[42] - أخرجه مسلم في صحيحه.
[43] - أنظر تفسير الأمثل
[44] - تفسير الميزان
[45] - بحار الأنوار / جزء 2 / صفحة [ 246 ]
[46] - بحار الأنوار / جزء 2 / صفحة [ 90 ]
[47] ـ هذا ما قاله الشريف المرتضى. وسيأتي بنصه.
[48] - أخرجه مسلم في كتاب الزهد 18 /129
[49] - نقل بتصرف من كتاب ( الرد على شبهات المستشرقين ومن شايعهم من المعاصرين حول السنة) إعداد: أحمد محمد بوقرين ـ قسم أصول الدين – بالجامعة الأمريكية المفتوحة
[50] - أخرجه البخاري في كتاب العلم باب كتابة العلم 1/ 309 .
[51] - رواه البخاري في كتاب العلم 1/313 .
[52] - رواه أبو داود باب كتابة العلم 10/ 79
[53] - منهاج السنة النبوية: 7/374
[54] - نقلا عن كتاب: تبرئة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه مما نسب إليه من الزور والبهتان – ص10 /عبدالله زقيل.
[55] - لمزيد من التفصيل: أنظر كتاب الأنوار الكاشفة لما في كتاب أضواء على السنة من الزلل والتضليل والمجازفة: لمؤلفه الشيخ عبدالرحمن بن يحيى المعلمي اليماني.
[56] - جامع بيان العلم لإبن عبدالبر
[57] - رواه الطبراني في الأوسط، والبزار بإسناد حسن، وأحمد وإبن ماجه وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب.
[58] - جامع بيان العلم وفضله.
[59] - أنظر: كتاب الرد على من ينكر حجية السن لمؤلفه الدكتور عبدالغني محمد عبدالخلق.
[60] - أنظر السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي : الدكتور مصطفى بن حسني السباعي
[61] - أنظر كتاب ( الرد على شبهات المستشرقين ومن شايعهم من المعاصرين حول السنة).
[62] - أسباب إختلاف الحديث: ص79
[63] - فرق الشيعة:ص84-88، المقالات والفرق:ص77-79). أهل السنة ينزهون أئمة أهل البيت عن الكذب، ولكن العلة في من نقل عنهم، وفي هذا روى المجلسي في بحار الأنوار( 25/302) نقلا عن إبي عمرو الكشي قال يحيى بن عبد الحميد الحماني في كتابه المؤلف في إثبات إمامة أمير المؤمنين عليه السلام: قلت لشريك: إن أقواما يزعمون أن جعفر بن محمد ضعيف الحديث، فقال: اخبرك القصة كان جعفر بن محمد رجلا صالحا مسلما ورعا فاكتنفه قوم جهال يدخلون عليه ويخرجون من عنده ويقولون: حدثنا جعفر بن محمد، ويحدثون بأحاديث كلها منكرات كذب موضوعة على جعفر، ليستأكلوا الناس بذلك، ويأخذون منهم الدراهم، كانوا يأتون من ذلك بكل منكر، فسمعت العوام بذلك منهم فمنهم من هلك ومنهم من أنكر).
[64] - أسباب إختلاف الحديث: ص109
[65] - أسباب إختلاف الحديث: ص110-111
[66] - تثبيت دلائل النبوة/ الجزء الأول
[67] - في وسائل الشيعة عن حفص بن البختري قال : قلت لأبي عبدالله عليه السلام نسمع الحديث منك فلا أدري منك سماعه أو من أبيك، فقال: ما سمعته منِّي فاروه عن أبي وما سمعته منِّي فاروه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
[68] - بحار الأنوار / جزء 51 / صفحة [361]
[69] - من كلام عروة بن مسعود، لما قدم مفاوضا عن قريش في صلح الحديبية، فلما فرجع عروةُ إلى أصحابه، قال: أىْ قوم؛ واللهِ لقد وفدتُ على الملوكِ: على كسرى، وقيصرَ، والنجاشىِّ، واللهِ ما رأيتُ ملكاً يُعظمه أصحابُه ما يُعظِّمُ أصحابُ محمد محمداً، واللهِ إن تنخَّم نُخامة إلا وَقَعتْ فى كفِّ رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ، كادُوا يقتتِلُون على وضوئه، وإذا تكلَّم، خفضُوا أصواتهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النظرَ تعظيماً له).
[70] - يقول الفاضل الألماني كاتاني في كتابه ( سنين الإسلام): ( لقد كان هؤلاء الصحابة الكرام ممثلين صادقين لتراث رسول الله الخلقي، ودعاة الإسلام في المستقبل، وحملة تعاليم محمد التي بلغها إلى أهل التقوى والورع، لقد رفع بهم إتصالهم المستمر برسول الله وحبهم الخالص له، إلى عالم من الفكر والعواطف لم يشهد محيط أسمى منه وأرقى مدنية وإجتماعا، والواقع أن هؤلاء الصحابة كان قد حدثت فيهم تحولات ذات قيمة كبيرة من كل زاوية، وأثبتوا فيما بعد في أصعب مناسبات الحروب أن مبادئ محمد إنما بذرت في أخصب أرض أنبتت نباتا حسنا، وذلك عن طريق أناس ذوي كفاءات عاية جدا، كانوا حفظة الصحيفة المقدسة وأمناءها، وكانوا محافظين على كل ما تلقوه من رسول الله من كلام أوامر، لقد كان هؤلاء قادة الإسلام السابقين الكرام الذين أنجبوا فقهاء المجتمع الإسلامي وعلماءه ومحدثيه الأولين)( نقلا عن كتاب ـ صورتان متضادتان لنتائج جهود الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ) للعلامة أبو الحسن الندوي.
[71] - تفسير الأمثل
[72] - تفسير مجمع البيان
[73] - تفسير ألأمثل / الجزء الثاني / صفحة -626-
[74] - تفسير الميزان
[75] - تفسير الأمثل / الجزء الخامس / صفحة -481-
[76] - تفسير القرآن العظيم لإبن كثير : ( 1 /50 )
[77] - الفتاوى الكبرى - (ج 6 / ص 258)
[78] - أنظر تفسير القرآن لعبدالله شبر
[79] - تفسير التبيان
[80] - أنظر مثلا كتب شيخهم الملقب بالفيد، وكتاب الشافي للمرتضى، فترى العجب في إخراج نصوص المدح لأصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من مدلولها اللغوي والشرعي، لئلا تشمل الصحابة، وبالأخص الخلفاء الثلاثة الذين كانوا قبل علي بن أبي طالب.
[81] - تفسير الأمثل
[82] - أنظر كتاب: منزلة الصحابة في القرآن للدكتور محمد صلاح الصاوي.
[83] - تثبيت دلائل النبوة: (2/447)
[84] - أنظر تفسير الرازي المسمى ( مفاتيح الغيب )
[85] - نهج البلاغة.
[86] - كم كنت أتمنى أن يبتعد علماؤنا عن السب واللعن، لأن ذلك ليس من أخلاق أهل السنة ولا من أخلاق سيدنا علي الذي يُنقل عنه أنه مر بجنده وسمع قوما من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حربهم بصفين فقال لهم: (نهج البلاغة - (2 / 186): ( إني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم إياهم. اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به).
فإذا كان هذا المنع من السب أيام الحرب، والقتال دائر بين الطرفين على أشده؛ فما بالك لو سمع رضي الله عنه ما يدور الآن بين المسلمين من لعن وتكفير وهم يعيشون معا جيرانا جنبا إلى جنب في مدينة واحدة؟!
[87] - تفسير الرازي.
[88] - بحث نقدي عن موضع الإمامة بين التحول والثبات
[89] - الأمثل / الجزء السادس / صفحة -198-
[91] - الأمثل / الجزء السادس عشر / صفحة -387-
[92] - تلخيص الشافي: 2/ 141
[93] - تفسير مجمع البيان، والتبيان في تفسير القرآن للطوسي.
[94] - الأمثل / الجزء السادس / صفحة -195-
[95] - تفسير الميزان
[96] - الأمثل / الجزء السادس / صفحة -125-
[97] - منهاج السنة النبوية
[98] - التبيان في تفسير القرآن
[99] - تفسير الميزان
[100] - أنظر تفسير الميزان.
[101] - المرجع السابق
[102] - الأمثل / الجزء الخامس / صفحة -505-
[103] - الشافي في الإمامة.
[104] - الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام .
[105] - أنظر معالم المدرستين:ص96-107
[106] - نهج البلاغة: ج1 ص : 185
[107] - أنظر الجامع لأحكام القرآن للإمام أبي عبدالله القرطبي.
[108] - تفسير من وحي القرآن.
[109] - تفسير من وحي القرآن.
[110] - الأمثل / الجزء السادس / صفحة -184-
[111] - التبيان في تفسير القرآن.
[112] - (الشافي في الإمامة) (2/ 67)
[113] - أصل الشيعة وأصولها: ص113
[114] - دراسات في علم الدراية تلخيص مقباس الهداية للعلامة المامقاني ـ تلخيص وتحقيق الأستاذ على أكبر الغفاري:ص91
[115] - المصدر السابق: ص126
[116] - الأمثل / الجزء الخامس / صفحة:( 510-512 )
[117] - الأمثل / الجزء الثامن عشر / صفحة -196-
[118] - أنظر كتاب: دفاع عن السُنَّة ورد شبه المُسْتَشْرِقِينَ والكتاب المعاصرين لمؤلفه: محمد بن محمد بن سويلم أبو شُهبة (المتوفى: 1403هـ).
[119] - المرجعية والقيادة: ص67 ـ 68.
[120] - الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم (ج 1 / ص 55)
[121] - الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم
[122] - أنظر تفسير الميزان وتفسير الصافي.
[123] - التبيان في تفسير القرآن:6/217
[124] - تفسير الأمثل
[125] - الأمثل / الجزء التاسع عشر / صفحة -189-
[126] - أنظر في تفصيل هذه الأسباب مجموع الفتاوى: فصل حديث سؤال النبي عن الإسلام.
[127] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام إبن تيمية: قَاعِدَةٌ فِي أَنَّ جِنْسَ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَعْظَمُ مِنْ جِنْسِ تَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ
[128] - شرح العقيدة الطحاوية (318 - 319).
[129] - الكافي : ج : 2 ص : 424
[130] - بحار الأنوار / جزء 85 / صفحة [30-31]
[131] - نهج البلاغة - (ج 1 / ص 475)
[132] - رواه ابْنِ أَبِي شَيبةَ في ( الْمُصَنَّف ) (15/24 رقم 19508) بِسَنَدٍ صَحيحٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْن عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: كُنْتُ مَعَ عُثْمَانَ فِي الدَّارِ، فَقَالَ: أَعْزِمُ . . إلخ. نقلا عن كتاب ( حقبة من التاريخ ) للشيخ عثمان الخميس.
[133] - منهاج السنة النبوية:6/327
[134] - نهج البلاغة: 3/86
[135] - المصدر السابق: 3/4
[136] -أنظر كتاب: أهل البيت بين الملك والخلافة: ص267 / للدكتور وميض العمري.
[137] - شرح النووي على صحيح مسلم.
[138] - نهج البلاغة: ص 244
[139] - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي.
[140] - أنظر بحار الانوار /جزء 32 / صفحة [329ـ 331]
[141] - أنظر للمزيد من البيان والتفصيل كتاب: (التكفير وضوابطه )للمؤلف: منقذ بن محمود السقار
[142] - فتح الباري لإبن حجر.
[143] - الأمثل / الجزء السادس عشر / صفحة -539-
[144] - الأمثل / الجزء السادس عشر / صفحة -539-
[145] - بحار الانوار /جزء 32 / صفحة [235]، وفيه أيضا: ( 33/441): ( عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عليه السلام عن مروان بن الحكم قال: لما هزمنا علي بالبصرة رد على الناس أموالهم من أقام بينة أعطاه ومن لم يقم بينة على ذلك حلفه فقال له قائلون: يا علي أقسم الفئ بيننا والسبي قال: فلما كثروا عليه قال: أيكم يأخذ أم المؤمنين في سهمه فسكتوا).
[146] - نهج البلاغة:ص94
[147] - أنظر الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم:2/494
[148] - بحار الأنوار:32/328
[149] - مجموع الفتاوى
[150] - منهاج السنة النبوية
[151] - الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم: 2/499- 502
[152] - تفسير الطبري - (ج 1 / ص 409)
[153] - أنظر تفسير السعدي
[154] - قال ابن حجر في مقدمة فتح الباري : ( والتشيع محبة على وتقديمه على الصحابة فمن قدمه على أبي بكر وعمر فهو غال في تشيعه ويطلق عليه رافضي وإلا فشيعي فإن انضاف إلى ذلك السب أو التصريح بالبغض فغال في الرفض وإن اعتقد الرجعة إلى الدنيا فأشد في الغلو). قلت: تأمل هذا القول جيدا لتعلم الفرق بين من كان يُقال له شيعي قديما، وبين واقع الشيعة اليوم. أتجدهم شيعة أم رافضة؟ ثم أعلم أن أهل الحديث من أهل السنة لم يردوا حديث الرافضة إلاّ لأنهم يتدينون بالكذب الذي هو التقية، حتى رووا عن حعفر الصادق أنه قال: ( إن تسعة أعشار الدين في التقية، ولا دين لمن لا تقية له). ثم أنهم أجازوا التقية في غير الضرورة، لمجرد إلقاء الخلاف بين الشيعة أنفسهم!!!
[155] - المستدرك على الصحيحين للحاكم مع تعليقات الذهبي في التلخيص: سكت عنه الذهبي في التلخيص.
[156] - أنظر كتاب ( أهل البيت بين الخلافة والملك: ص286 ) للدكتور وميض العمري.
[157] - رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
[158] - بحار الأنوار / جزء 69 / صفحة [233]
[159] - أخرجه سعيد بن منصور فى سننه كتاب الطلاق، باب فى عدة الحامل المتوفى عنها زوجها 1/350 رقمى 1506، 1508 .
[160] - أخرجه مسلم في باب: فضائل الخضر عليه السلام.
[161] - رواه أبو داود وصححه الألباني.
[162] - المستدرك على الصحيحين ـ كتاب العلم. قال الذهبي على شرطهما.
[163] - راجع كتاب ( عدالة الصحابة في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية ودفع الشبهات) للدكتور عماد السيد الشربيني /مدرس الحديث وعلومه بجامعة الأزهر.
[164] - أنظر كتاب: دفاع عن السنة للدكتور محمد أبو شهبة ص52
[165] - أنظر الروض الباسم لإبن الوزير.
[166] - عدة الأصول:1/153
[167] - العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم
[168] - أنظر تفسير الأمثل / الجزء العشرون / صفحة -280-
بقلم
إبن التركماني ( تركمان أوغلو )
1434 هـ / 2013م