الإمامة وأثرها في الحكم على الصحابة - تركمان أوغلو
الإمامة وأثرها في الحكم على الصحابة
إبن التركماني ( تركمان أوغلو )
1432هـ / 2011م
تحذير شديد اللهجة
قال الله تعالى:
﴿ يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68) ﴾
سورة الأحزاب
وقال أيضاً:
﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) ﴾ سورة الفرقان
طرفــــة
يحكى عن أحد أئمة السنة وكان طاف في البلاد حتى انتهى إلى النجف فرآهم إذا مات لهم الميت أدخلوه مقام أحد الأئمة ثم يخرجونه فيدفنونه.
فقال لهم: لأي شي تصنعون ما أرى؟
فقالوا: إلتماساً للمغفرة ببركة الإمام.
فقال: ويغفر له ذنبه ببركة مجاورته الإمام هذا الوقت اليسير؟
قالوا: نعم.
فقال: فسبحان الله أبو بكر وعمر منذ مئات السنين وهما مجاوران للنبي أما غفر لهما ببركة النبي؟
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
إن لعقيدة النص على الإمامة التي آمن بها الشيعة ونفاها غيرهم من الفرق الإسلامية أثر بالغ في إحداث شرخ كبير في جسم الأمة الإسلامية، بل وآثار سيئة طالت الدين الإسلامي برمته من أصول وفروع([1]). بل وشملت حتى الحياة السياسية والإجتماعية والإقتصادية والثقافية؛ بل وأكثر من هذا تشعبث هذه الآثار حتى طالت التعايش السلمي بين الشيعة وبين غيرهم من الفرق الإسلامية، بسبب الفكر التكفيري والإقصائي الذي يحمله هذا الفكر تجاه الآخرين في حال تملكه للقوة التي تمكنه من إيذاء المخالفين. وفي حال الضعف فإن في التقية المخرج.
وحتى لا أطيل كثيراً في سرد هذه الآثار، رأيت أن أذكر أخطر هذه الآثار، وهي:
الغلو في الأئمة، وإشراكهم مع الله في الدعاء والإستعانة والإستغاثة، بحجة أن هؤلاء عباد مكرمون عند الله؛ وأن الله تعالى قادر على إنجاز طلبهم بإقدار منه تعالى وإذن منه، وأنهم لا يعتقدون فيهم الربوبية أو الألوهية التي كان المشركون يعتقدون في أصنامهم.
ولا أدري أنسيَ علماء الشيعة أم تناسوا أن الأصنام التي كان المشركون يعبدونها، إنما هي تماثيل لرجال صالحين في زمانهم، فلما ماتوا صوروا على هيئاتهم تماثيل واتخذوهم شفعاء عند الله تعالى. وإلاّ فليبينوا لنا هل أن الغلو الذي وقع في الأمم السالفة كانت للأنبياء كـ ( عيسى وعزير ) وأشخاص صالحين ( يغوث ويعوق )؟ أم وقع الغلو في الطالحين من البشر من أمثال فرعون، وهامان، وثمود ؟! وتصحيح هذا الموضوع الخطير يحتاج إلى جهد مؤسسة، وليس إلى جهد أفراد مشتتين. وسأبذل جهدي المتواضع لتأليف كتاب في هذا الموضوع، إن أمد الله في عمري بعنوان: ( الإمامة وأثرها على التوحيد). أسأل الله تعالى أن يوفقني فيه إلى الصواب؛ ومنه نستمد العون.
تحريف القرآن: والسبب في ذلك خلو القرآن من أدلة صحيحة وصريحة وقطعية على النص الذي يدّعونه؛ فما كان منهم إلاّ القول: بأن الصحابة حرّفوا بعض آيات القرآن، وكتموا البعض الآخر كتلك التي فيها إسم علي بن أبي طالب، وحشروا آيات الإمامة في غير سياقها. ولما كان المسلمون لا يملكون من الأدلة والبراهين على نبوة نبيهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم كهذا القرآن الذي هو المعجزة الأبدية للرسول عليه الصلاة والسلام، والدليل الأكبر على كون الإسلام من عند الله؛ كان هذا القول من الشيعة بتحريف القرآن هو طعن في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته الخالدة الإسلام.
وهل هذا القول إلا من صنيع الملاحدة ودسائس الطاعنين؟! ولخطورة هذا الموضوع كتبت فيه كتاباً أسميته ( الإمامة وأثرها على القرآن الكريم). فليراجعه من شاء.
الطعن في صحابة النبي من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار([2])، ورميهم بالنفاق تارة، وبالردة تارة أخرى.
ومما لا شك فيه أن هذا الطعن أمر لا زم وحتمي، بل هو من اللوازم التي لا تنفك عن عقيدة النص الإلهي على الإمام.
هذا الطعن يحمل في طياته أموراً خطيرة، لعل أخطرها على الإطلاق إبطال الكتاب والسنة، من خلال تجريح الناقلين لهما والشهود على صحتهما.
ولقد تفطن إلى هذا المعنى التابعي الجليل أبو زرعة الرازي فقال: ( إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حق والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة) (الكفاية: ص49)([3])
وقال قاضي القضاة عبدالجبار المعتزلي:
( إنما ذكرنا هذا لأن اليهود والنصارى والمجوس وأعداء رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يقولون جهاراً، بحضرة المسلمين وفي دواوين السلاطين، وفي المحافل بحضرة الأمراء الأشراف: أما الإسلام فقد كفيناه ودفع بعضه بعضاً؛ وذلك إننا كنّا نقول سراً بيننا في أصحاب محمدٍ أشياء، تقولها الشيعة جهاراً وعلناً وتزيد علينا فيه من أن أصحاب هذا الرجل ما كانت لهم بصيرة في أمره ولا يقين مع طول الصحبة والمشاهدة، ولا أقاموا له وزنا, وإنما طلبوا الدنيا والنهب والغارة)([4]).
ونقل شيخ الإسلام إبن تيمية عن الشعبي قوله: ( قيل لليهود: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب موسى، وقيل للنصارى: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب عيسى، وقيل للرافضة: من شر أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب محمد!!)([5])
وهذا الكتاب الذي بين يديك هو في هذا الموضوع، في الدفاع عن أصحاب محمد وتبرئة ساحتهم مما رمتهم به الشيعة من الكفر والنفاق والردة.
تنويه:
إعلم أخي القارئ لهذا الكتاب، إني نظرت في كتب علماء كثيرين دافعوا عن أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فما وجدت دفاعاً أعظم ولا أقوى من دفاع شيخ الإسلام إبن تيمية وقاضي القضاة عبدالجبار الهمذاني المعتزلي المتوفى سنة ( 415هـ) في كتابيه ( المغني في الإمامة وتثبيت دلائل النبوة)([6]) ،ولما كانت كتب القاضي قديمة جداً ومنسية؛ لذا رأيت أن أبعث فيها الحياة من جديد بما يتلاءم مع ما إستجد في موضوعه في عصرنا الحاضر. ومن باب إرجاع الفضل إلى أهله، فإن أكثر هذا البحث مستفاد من كتبه، وقد أشرت إلى ذلك في متن البحث.
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
لقد قرأت الكثير مما سطرته أقلام الشيعة في الصحابة، فما رأيتهم أجمعوا على شيء كإجماعهم على إنتقاص الصحابة ورميهم بالكفر والردة تارة، وبالنفاق تارة أخرى، وألصقوا بهم أخس الصفات وأرذلها)[7]( ؛ كل ذلك بسبب عقيدة الإمامة التي إنفردوا بالقول بها من بين سائر الفرق المنتسبة إلى الإسلام.
وعندما أمعنت النظر مرة بعد أخرى فيما قالوه وكتبوه أيقنت أن السبب في كل ذلك لا دليل عليه من كتاب ولا سنة، ولا عقل؛ بل إنه مرتبط بعقيدة الإمامة التي خالف فيها الشيعة جميع المسلمين، بل جميع الملل والنحل منذ خلق الله آدم عليه السلام وإلى يومنا هذا؛ فليس في كل هذه الملل من قال بأئمة معصومين يكونون حجج الله على الخلق بعد الرسل بعد قوله تعالى:] رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً[(النساء:165).
وانطلقوا بهذا القول على أساس أن الوصية ثابتة لسيدنا علي من قِبَل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فمن وقف إلى جانب علي رضي الله عنه في الجمل وصفين فهو الصحابي المجتبى والمؤمن الصادق، ومن إعتزل الفتن، أو وقف إلى جانب خصومه؛ وقبل ذلك إغتصب الخلافة من علي ـ كما يقولون ـ فهو من المنافقين الذين إرتدوا على أدبارهم القهقرى؛ وبالتالي فهم كفار أو منافقون.
والكافر والمنافق لا يكون عدلاً، ولا ثقة، ولا يمكن الركون إليه في نقله للشريعة([8])، وبالتالي فالشريعة ( الكتاب والسنة ) التي نقلت عن طريقهم تكون باطلة، وقرأت الكثير أيضاً من الردود على الشيعة في هذا الموضوع، وأيقنت أن النقاش العلمي لا ينجح معهم؛ لأنك تخاطب عقولاً قد سلّمت زمام أمورها في دينها إلى معممين يسمونه ( مرجع، ويلقبونه بآية الله العظمى ) ووضعوا ثقتهم فيهم واختاروا لأنفسهم الجهل والإنقياد.
فمثل هؤلاء الناس نحتاج في نقاشهم إلى العلوم التي يستوي فيها العالم والجاهل، والكبير والصغير، ونحتاج أن نصحح فيهم الفطرة أولاً، وأن نخرجهم من دائرة الإنغلاق العاطفي ومظلومية أهل البيت التي لا أساس لها في الواقع إلى الحقيقة الساطع نورها كالشمس في رابعة النهار، وهي أن أهل البيت والصحابة كانوا إخوة متحابين؛ ولولا هذه العقيدة التي يسمونها الإمامة والتي لا أساس لها في الحقيقة لكانوا عدولاً في نظرتهم لصحابة رسول الله الذين بذلوا الغالي والنفيس من أجل إظهار دين الله في العالمين.
لذا سأركز بحثي هذا على مدى تأثير عقيدة الإمامة على الحكم بإرتداد الصحابة؛ ليتبين القارئ الكريم أن الخلاف بين السنة والشيعة ليس في عثمان ولا في معاوية ولا في يزيد، ولا في تزكية أهل السنة للصحابة ووصفهم للجميع بالعدالة، ولا حتى في الذين حاربوا علياً في معركة الجمل؛ وإنما الخلاف هو في رئاسة الأمة وخلافة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته([9]).
ولقد سبَقَنا في هذا التشخيص قاضي القضاة عبدالجبار عندما قال:
( وكثيراً تسأل الإمامية عمّا كان من عثمان في تولية أقاربه وغير ذلك، وفي سير طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة، وما ذاك إلا لضعفهم وانقطاعهم لأن عثمان لو لم يولِّ أقاربه ولم يصنع ما صنع لكان كافراً مشركاً عندهم بادعائه الإمامة لنفسه ولأبي بكر وعمر، ولو كان طلحة والزبير وعائشة في عسكر أمير المؤمنين وفي المحاربين معه ما كانوا إلاّ مشركين باعتقادهم إمامة أبي بكر وعمر وعثمان، فكلام الإمامية في هذا الكلام مسلم لو كلم اليهود في وجوب النية في الطهارة، أو كلم النصارى في استحلالهم الخمر، وإنما يكلم في هذا من قال: لا ذنب لعثمان إلا ما أتاه من الحمى وتولية الأقارب ولو لا ذلك لكان مثل عمر، ومن قال: لا ذنب لطلحة والزبير وعائشة إلا مسيرهم إلى البصرة ولو لا ذلك لكانوا مثل أبي عبيدة وعبد الرحمن وابن مسعود. فاعرف هذا ولا تكلمهم فيه البتة، وكلمهم فيما يدعونه من النص فهو الأصل.).([10])
وأيضاً قال في هذا الشأن الدكتور أحمد الكاتب ـ وهو من الشيعة المعاصرين: ( إن نشوء نظرية الإمامة الإلهية لأهل البيت وتحولها إلى عقيدة دينية أو أصل من أصول الدين لدى الشيعة أوقعهم في أزمة تاريخية وعداء نظري مع الشيخين؛ وإنفصال واقعي عن ثقافة أهل البيت، وتاريخ الشيعة الأوائل الذين كانوا يكنون حباًّ وإحتراماً كبيرين لهما. وهذا ما كان يؤدي بهم إلى الإصطدام مع ثقافة أهل البيت المعلنة والإيجابية تجاه الصحابة والشيخين، حيث يضطرون لتمرير أقوالهم تحت ستار التقية.)( [11] )
وعلى هذا الأساس جعلوا التاريخ( [12] ) أساساً ومرجعاً رغم كل ما يلفه من غموض واختلاف وعدم الدقة في النقل وحاكموا إلى أحداثه الدين الإسلامي رواية ودراية، وأعرضوا عن الأحاديث الصحيحة التي روتها الثقات من أهل السنة والجماعة، بحجة أنها من مرويات الصحابة والصحابة عندهم ليسوا عدولاً لأنهم عصوا الرسول في خليفته من بعده.
وقد أخطأ مَنْ ظن من أهل السنة والجماعة أن خلافنا مع الشيعة في وجود عدد من المنافقين بين الصحابة، وعدم تمييزهم بين المؤمن منهم والمنافق، بل خلافنا معهم في تكفيرهم للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار؛ سيما الخلفاء الذين سبقوا علي بن أبي طالب في خلافة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
وأيضاً فقد أخطأ من نسب الخوارج وحدهم إلى تكفير غيرهم؛ بل إني وجدت الشيعة الإمامية الإثنى عشرية أكثر مَنْ يكفِّرون غيرهم من جميع الطوائف المنتسبة إلى الإسلام. ومن أراد الوقوف على رواياتهم وأقوالهم التي بها يكفِّرون غيرهم، فعليه بمراجعة كتابنا( السنة والشيعة، مَنْ يكفّر مَنْ؟) فإني جمعت فيه الكثير من هذه الأقوال.
ويتضمن هذا البحث بالإضافة إلى أثر الإمامة على الصحابة، فصولاً في الرد على أدلتهم العقلية والنقلية التي إستدلوا بها على الإمامة؛ كما أن فيه إشارات إلى تناقض هذه العقيدة مع آيات القرآن الكريم وأفعال وأقوال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنهم .
الباب الأول
علاقة الإسلام بالتاريخ
وفيها الفصول التالية:
الفصل الأول:السلطة الدينية والسلطة السياسية في الإسلام
الفصل الثاني: علاقة الخليفة بالرسول
الفصل الثالث: لماذا يحاكمون الإسلام إلى التاريخ
الفصل الأول
السلطة الدينية والسلطة السياسية في الإسلام
المبحث الأول
طبيعة الحكم في الإسلام، هل هي دينية، أم مدنية ( دنيوية)؟
إتفق المسلمون على وجوب الإمامة بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنهم إختلفوا في طريق هذا الوجوب؛ فالشيعة الإمامية قالوا: ( إن الإمامة لها معنى خاص تمتاز الشيعة عن سائر فرق المسلمين بالإيمان بها، ولها معنى عام يؤمن به كل مسلم معتقد بضرورة إقامة الحكم الإسلامي على وجه الأرض. فالإمامة بمعناها الخاص تعني: منصباً إلهياً مقترناً بنوع من الإرتباط الغيبي بالله سبحانه، وبمستوى من الهيمنة التكوينية على العالم. وهذا المعنى من الإمامة تعتقد الشيعة أنها لا تكون إلاً بنص خاص على شخص معيّن، وهذه هي المشروطة بالعصمة، وتتمثل اليوم بشخص الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه)، الذي لولاه لساخت الأرض بأهلها([13])، وهو المتصل بين الأرض والسماء. وليست غيبة الإمام الحجةعليهما السلام عن الأنظار تعني عدم تأثيره في الأرض وعلى المجتمع، بل مثلَُه في الغيبة مثَل الشمس إذا غيبتها السحاب، كما ورد في التوقيع المعروف. وهذا هو إعتقاد الشيعة في إمامهم المعصوم. أما الإمامة بمعناها العام فهي تعني القيادة الظاهرية للأمة الإسلامية، وتكون لغير المعصوم ـ أيضاً ـ بعنوان النيابة عنه لدى عدم حضوره، وهذه مشروطة بأعلى درجات العدالة، وليست مشروطة بالعصمة).([14])
وغير الشيعة من المسلمين قالوا: إن الإمامة بمعناها الخاص لا وجود لها في الإسلام، إذ لا حاجة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى معصوم، فالشريعة قد إكتملت في حياة النبيصلى الله عليه وآله وسلم ، أما الإمامة بمعناها العام، فهي تعني الخلافة، أو السلطة السياسية في الإسلام فهي بالإختيار من قبل أهل الحل والعقد، أو بوصية الإمام السابق بعد مشاورة أهل الحل والعقد([15]).
ونشأ عن هذا الإختلافِ إختلافٌ في طبيعة الحكم.
فقالت الشيعة: هي دينية تستمد شرعيتها من الله، أي أن الحاكم يحكم بإسم الإله ( الحق الإلهي ) وبالتالي يكون الحاكم كالنبي في كل شيء، ومنها العصمة، حق التشريع، يكون حجة الله على خلقه، والطاعة المطلقة له من قبل الرعية.
وعلى هذا الأساس قالوا: إن دفع الإمامة كفر، كما أن دفع النبوة كفر، وأن الإمامة أصل من أصول الدين لا يتم الإيمان إلا ّبالإعتقاد بها.
ثم تطورت نظرية عصمة أئمة معدودين ومحددين ومنصوص عليهم فشملت فقهاء الشيعة أيضاً، بإعتبارهم نواب عن الإمام؛ وهذه هي ولاية الفقيه التي نادى بها الخميني وأخرجها إلى الوجود بعد أن كانت فكرةً في بطون الكتب، وبموجبها أخذ الفقيه الشيعي جميع ما للإمام من صفات. ويلاحظ أنهم وإن فرقوا بين معنيين للإمامة في حق المعصوم، إلاّ أن الولي الفقيه غير المعصوم أخذ يتمتع بكل مميزات الإمام المعصوم وبما أنه لا يجوز الرد على الإمام، والراد عليه على حد الشرك بالله؛ فأصبح الراد على الفقيه هو كالراد على الإمام، وبذلك أصبحت لديه السلطة المطلقة على الرعية، يفعل ما يشاء من دون حسيب ولا رقيب.
أما غير الشيعة من المسلمين فقالوا:
إن طبيعة الحكم في الإسلام هي طبيعة مدنية، أي أن نصب الإمام هو لتحقيق مصالح دنيوية، أكثر من تحقيقها لمصالح الدين. فهو منفذ للأحكام وقائم بأمر الحدود. وإقامة الحدود صلاح في الدنيا، قبل الدين. وإذا أخطأ الإمام فخطؤه لا يؤدي إلى فساد الدين.
وقالوا أيضاً: إن نظرية (الحق الإلهي) ليست لها مكان في الحضارة الإسلامية، لأن الإسلام لا يقر السلطة الدينية للحاكم، ولا يجعل سلطة الحاكم ذات طبيعة دينية، لأن الذي ينتقل إلى الحاكم من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو سلطته الدنيوية، لا الدينية، لأن الإمام ليس حجة في باب الديانات، وإنما الحجة قول الله تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، والدليل على ذلك قول الله تعالى: ] فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا[(النساء:59).
والإمام أو الخليفة إنما هو منفذ للأحكام القطعية الواردة في الكتاب والسنة، وله الحرية في الإجتهاد في غيرها كغيره من علماء وفقهاء الأمة، بما يتلاءم وروح الدين الإسلامي، وبما يتطابق مع مصالح المسلمين في كل وقت وعصر.
المبحث الثاني
من هو الرسول؟ وما هي رسالته؟
قال الله تعالى:﴿ رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾(النساء:165).
( إن هذه الآية تحدد دورهم بالإنذار والتبشير من أجل إقامة الحجة على الناس، في ما يريد الله للناس أن يعرفوه ويعملوا به في طاعته، من خلال القضايا التي قد يحتاجون فيها إلى الوحي، من أجل إدراك تفاصيلها، أو من خلال المواقف المتنوعة التي تواجههم، فلا يملكون التفاصيل الواضحة الهادية إلى الصراط المستقيم، أو في ظل إخراجهم من طبيعة الغفلة التي قد تطبق على أفكارهم وعقولهم، فتبعدهم عن التركيز والامتداد في الخط الصحيح، إلى غير ذلك من الأمور التي قد لا يكفي فيها العقل لإقامة الحجة، بل يحتاج فيها إلى الوحي الذي يهدي العقل).([16])
فإذا كان للإنسان أن يتوصل بعقله الذي وهبه الله تعالى له، وبدليل الأنفس والآفاق([17])، إلى معرفة وجود خالق لهذا الكون؛ ولكن من المستحيل أن يتوصل إلى معرفة واجباته تجاه هذا الخالق، أي ماذا يريد منه الخالق أن يفعل ويتقرب به إليه، وماذا يريد أن يتجنبه.
وهنا يأتي دور الرسول ورسالته.
يروى عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه سئل ذات مرة، فقيل له: أعرفت ربك بمحمدٍ، أم عرفت محمداً بربك؟
قال: لا، هذا ولا ذاك، عرفت ربي بربي ومحمدٌ بلّغني مراد ربي.
أي أنه توصل إلى معرفة وجود الخالق بنفسه عن طريق مخلوقاته. ولكن هل هذا يكفي ؟ أي هل يكفي أن يستدل المرء بعقله على وجود الخالق؟
إن لهذا الخالق أوامر ونواهي، وله حق على مخلوقاته، فمن أين يتعرف ما له وما عليه تجاه خالقه؟
هذا هو واجب رسل الله تعالى وأنبيائه، فالرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي بلغ الناس ، وبلغ المسلمين ماذا عليهم أن يفعلوا وماذا يجتنبوا؛ ما الذي يرضاه الله تعالى وماذا يسخطه؛ وهذا ما لا يُدرك بالعقل، ولاسيما في الأمور العبادية التي لا تخضع إلى مقاييس العقل والعقلاء.
يقول الدكتور طه الدليمي:
( إن العقل الإنساني مهما نظر واجتهد في التعرف على الأصول، فإنه لا يستطيع إثبات أكثر من معان عامة. بينما الشرع يلزمنا بمعان خاصة محددة.
مثلا:ً العقل يثبت النبوة، ولكن النبوة التي يثبتها العقل نبوة عامة غير محددة بشخص معين بينما الشرع يلزمنا بالإيمان بنبوة شخص معين محدد هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فلو قال إنسان: أنا أؤمن بأن لله أنبياء لكنه لم يثبت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فإيمانه هذا غير معتبر، أي باطل شرعا،ً وصاحبه كافر ما لم ينتقل من المعنى العام للنبوة إلى المعنى الخاص لها.
وإثبات المعنى الخاص لا يمكن تحقيقه بالنظر العقلي المجرد عن النص الديني، إذ لولا نصوص القرآن لما استطعنا بعقولنا أن نثبت أن محمدا نبي، ولا غيره من الأنبياء؛ وقد عاش النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أربعين سنة بين قوم عقلاء حكماء، لكن أحدا منهم لم يخطر بباله أن هذا الرجل نبي. رغم أنهم كانوا ينتظرون النبي الخاتم، ويترقبون بعثته وبعضهم خرج إلى الشام كزيد بن نفيل – وهو أحد الأحناف، وهم كثر لعله يعثر له على خبر.والنبي الموعود بينهم يرونه صباح مساء !لكن عقولهم لم تدلهم عليه. غاية ما توصلوا إليه أن أسموه بـ (الصادق الأمين) ولما بعث نبيا أنكروه!ولا شك في أن بعضا من هؤلاء المنكرين إنما أنكره لعدم اقتناعه العقلي بما يقول.وليس لأسباب أخرى، كما هو شأن البعض الآخر؛ بل إن محمد نفسه – وهو أكمل الخلق عقلا ـ حين جاءه الوحي في (حراء)، لم يعرف أنه الوحي، وأنه صار به نبياً حتى ذهب إلى ورقة بن نوفل وقص عليه الخبر!!
والإمامية يلزمون الناس بـ)إمامة) أشخاص معينين دون سواهم، فالإثنى عشرية – مثلا - يؤمنون بـ(إمامة) اثني عشر (إماماً) أولهم علي وآخرهم )المهدي( المنسوب إلى الحسن العسكري، والإسماعيلية يؤمنون بأئمة( آخرين هم غير)أئمة( الإثنى عشرية، ويكفرون الإثنى عشرية، كما أن هؤلاء يكفرونهم، لا لعدم الإيمان بـ(الإمامة) من حيث الأصل والعموم، ولكن لعدم التوافق في تحديد (الأئمة)على الخصوص..
فإثبات (إمامة)عامة دون إنزالها على ما يندرج تحتها من مخصصات محددة بأشخاص معينين مسمين بأسمائهم غير معتبر عند الإمامية. وهذه لا مجال للنظر العقلي فيها دون النص الديني. وإلا كيف يمكن للعقل البشري أن يثبت (إمامة) شخص كالحسن العسكري، دون أن يستند إلى نص ديني؟!
إذن اعتبار النص الديني في شرعنا أساسي وليس إضافيا،ً أو مجرد تابع يؤيد ما ثبت بالنظر العقلي أولاً.
والنتيجة الحتمية التي نصل إليها هي:
إما أن نعتمد النظرية الإمامية في الأصول، أي النظر العقلي. وهو لا يُثبت سوى معان عامة فتبطل جميع المذاهب الإمامية، فلا إثنى عشرية، ولا إسماعيلية، ولا غيرهما من المذاهب التي التزمت وألزمت غيرها بـ(أئمة)محددين.
وإما أن نقول بضرورة الالتزام بمذهب معين كالاثنى عشري بناء على ما جاء بالنصوص الدينية؛ فتبطل النظرية الإمامية في الأصول. ولا بد لهم من اختيار أحد الأمرين، والخروج من أحد السبيلين)([18]).
وهاهنا يأتي دور الرسول والتبليغ عن الله تعالى، فالرسول مبلغ عن الله تعالى عن طريق الوحي الذي يأتيه، سواء أكان هذا الوحي كتاباً أم سنة؛ فإن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول:( أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ)([19]).
والكتاب والسنة عبارة عن أصول وعقائد وفروع وشرائع، أوامر ونواهي ( إفعل كذا ولا تفعل كذا ) وتوجيهات تخص الجماعة المسلمة وعلاقتهم بالله عز وجل، وعلاقة بعضهم ببعض، وعلاقتهم بغيرهم من الأمم والشعوب. . إلخ.
ومما يتضمنه الكتاب والسنة، عبادات لا دخل للعقل فيها، كالصلاة والصوم والحج وغيرها من العبادات؛ لأنها خارجة عن حدود العقل، فيبقى العقل أمامها حيران، وإن إستطاع أحياناً أن يتوصل إلى وجود بعض الحِكَم فيها؛ فإن الشريعة تأتي بمحارات العقول، ولا تأتي بمحالاتها.
فالصلاة التي هي هذه الأقوال والأفعال المخصوصة من قيام وركوع وسجود، لولا التشريع الرباني لما كان للعقل البشري أن يعتبرها من العبادات التي يرضاها الخالق سبحانه وتعالى.
وعلى هذا الأساس فما بلّغه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من العبادات التي نتقرب بها لنيل مرضاة الله تعالى، هي توقيفية، ليس لمن يأتي من بعده أن يزيد فيها([20]) أو أن يطرح منها على أنها ليست عبادة.
ويقتصر دور الرسول في علاقته بالله تعالى بأنه مبلغ عنه سبحانه وتعالى، ليس له حق التصرف في المبلغ به، إلاّ وفق المخطط له والمرسوم من قبل الوحي: ﴿ وَما يَنطِقُ عَنِ الهَوَى إنْ هُوَ إلاّ وَحْيٌ يُوْحَى ﴾.
أما علاقته بأمته أو بالناس عموماً فهو نذير وبشير، ينذرهم عقاب الله تعالى وعذابه، ويبشرهم برحمة الله ورضوانه وجناته.
يقول الله تعالى: ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ ﴾( الشورى:48 ) ويقول: ﴿ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ﴾( الأنعام:19 ) وأيضاً: ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ (يونس:15) وأيضاً: ﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ (الحاقة:47).
أما في غير العبادات كالأحكام المتعلقة بالسياسة، والإقتصاد، وأحكام السلم والحرب، والأحكام المتعلقة بشكل الدولة وغيرها، فلم تشرع فيها إلاّ النزر اليسير لأنها مرتبطة بمصالح العباد، التي تتغير بتغير الأزمان والمكان والأحوال والعوائد؛ فقد ترك الشارع الحكيم للمسلمين مجالاً واسعاً يتحركون فيه، بعد أن حدّد لهم أصولاً وضوابط وأسس يجب إلتزامها والسير وفق معالمها.
وعلى هذا الأساس قسّم علماء الفقه والأصول تصرفات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والسنة الصادرة منه إلى ما هو سبيله تبليغ الرسالة، وهي العبادات المحضة، وفيه قوله تعالى:﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ ( الحشر:7 ) وما ليس من باب تبليغ الرسالة ـ أي في السياسة والقضاء ـ وفيه قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( ما كان من أمر دينكم فإليّ، وما كان من أمور دنياكم، فأنتم أعلم به)(رواه مسلم).
ولهذا كان المسلمون يراجعون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في أمور، وكانوا يقولون: أهذا وحيٌ ليس لنا أن نتقدم عنه، أو نتأخر، أم هو الرأي والحرب والمكيدة. كما حدث في نزولهم عند بدر، وفي أسارى بدر، وكما امتنع السعدان من التنازل عن ثلث ثمار المدينة لغطفان بعد أن كان قد وعدهم بذلك.
وكان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقر صحابته في كثير من هذه الأمور.
الفصل الثاني
علاقة الخليفة ( الإمام ) بالرسول
كما قلنا فيما تقدم، فإن علماء الفقه والأصول قسموا التصرفات الصادرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى تصرفات بالرسالة والفتيا، وهذه هي تبليغ وشرع يدخل في باب الدين. وقد قال الله تعالى فيها:﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾(المائدة:3).
وتصرفات تخص القضاء والسياسة ( الدنيا )، وهي مترتبة على ما ظهر للرسول من الإمارات والبينات التي حكم وقضى بناءً عليها. وهي التي كانوا يراجعون فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما أسلفنا .
والآن نتساءل:
بعد إنتقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى، ماذا إنتقل من تصرفاته إلى الإمام الذي يليه؟
مما لا شك فيه أن الرسالة والنبوة لا تنتقل بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمإلى أحد، وأن سلطانه الديني غير قابل لأن يورث، فهو خاتم الأنبياء والمرسلين، ولا نبي بعده ورسالته هي خاتمة الرسالات السماوية، وقد إكتملت بأصولها وعقائدها وحلالها وحرامها قبل وفاة النبي عليه السلام.
وعلى هذا الأساس، فالسلطات التي تنتقل بعده إلى خلفائه، هي تلك التي تتعلق بمصالح العباد الدنيوية، وإن كانت مصالح الدين في أكثر الأحيان متعلقة بمصالح الدنيا([21])، ولأن علة الرسول غير قائمة في الإمام، وطبيعة عمل الإمام هي طبيعة عمل الحاكم والأمير. فالرسول حجة، لأنه حجة فيما يؤديه عن السماء، أما الإمام فهو منفذ لما جاء به الرسول؛ وتجويز الخطأ على الرسول ينقض كونه حجة، وليس كذلك الإمام([22]).
فمثل الإمام مثل كل أمور الدنيا، غايتها جلب النفع الدنيوي، ودفع المضرة الدنيوية؛ والدليل على ذلك أنه إذا أخطأ فخطؤه لا يؤدي إلى فساد في الدين، كما أن بعض الأزمنة تخلو من الإمام وتتخلف في مجتمعاتها إقامة الحدود من قبل الإمام ومع ذلك لا يؤدي هذا الغياب، وذلك التخلف إلى فساد في الدين.
وأيضاً لا يمتنع في التعبد أن يكون النبي منفردا بأداء الشرع وبيانه فقط، والذي يقوم بالحدود والأحكام السياسية الراجعة إلى مصالح الدنيا غيره، كما روي في أخبار داود وطالوت.
وأيضًا يجوز أن يأتي على المسلمين زمان ليس لهم فيه إمام ولا جماعة ولا دولة، ولقد حدث هذا مراراً وتكراراً، ومع هذا فلم يتأثر أصول الدين ولا شرائعه تغييراً أو تبديلاً.
ثم إن الإسلام فيه جانب فردي يتعلق بكل فرد مسلم، وهو الإعتقاد الذي هو الأصل في ثبوت حكم الإسلام له؛ وهذا لا يتأثر بوجود الإمام أو عدمه.
وبناءً على ما سبق، فلا حاجة بعد النبي عليه السلام لإمام معصوم لأنه ليس هو الحجة بين الخالق والخلق، وكذلك لا يلزم وجوب كونه أفضل أهل عصره في باب التقوى، إذا كان فاقداً لغيره من الصفات اللازمة له في السياسة وشؤون الحكم، وتصريف الأمور.
وإنما الحاجة داعية إلى إمام تجتمع فيه كلمة المسلمين ويكون حكمه نافذاً فيهم، وهو يتولى شؤونهم في القضاء والسياسة والدفاع عن بيضتهم، وتنفيذ الأحكام بينهم، لأن من أولى واجبات الإمام حِرَاسَةِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا. وحراسة الدين إنما تعني الحفاظ عليه مثل ما نزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وتنفيذ أحكامه؛ فليس للإمام أن يغيّر من الدين، من حلاله وحرامه، وشرائعه وأحكامه الثابتة.
وسياسة الدنيا، تعني: سياسة أمور المسلمين بما يحفظ عليهم مصالحهم الدنيوية، كما قال سيدنا علي رضي الله عنهم :
( لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِيرٍ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ يَعْمَلُ فِي إِمْرَتِهِ الْمُؤْمِنُ وَيَسْتَمْتِعُ فِيهَا الْكَافِرُ ويُبَلِّغُ اللَّهُ فِيهَا الْأَجَلَ حَتَّى يَسْتَرِيحَ بَرٌّ وَيُسْتَرَاحَ مِنْ فَاجِرٍ َيُجْمَعُ بِهِ الْفَيْءُ وَيُقَاتَلُ بِهِ الْعَدُوُّ وَتَأْمَنُ بِهِ السُّبُلُ ويُؤْخَذُ بِهِ لِلضَّعِيفِ مِنَ الْقَوِيِّ ) ([23])
وهذا الكلام واضح في أن مهمة الأمير ـ الخليفة ـ هي متعلقة بتدبير الأمور، وحفظ البلاد، وحراسة المسلمين.
الفصل الثالث
لماذا يحاكمون الإسلام إلى التاريخ؟
علمنا مما سبق أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان نبياً وكان حاكماً وقاضياً بين الناس، فكانت تصرفاته مبنية على هذه السلطات التي جُمعت له بحكم النبوة والقيادة السياسية للأمة. ولكن الذي إنتقل إلى الخليفة من تصرفات النبي بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم هي تلك التي تتعلق بتصرفاته في القضاء والسياسة، لأنها كانت من شؤون الدنيا أولاً؛ ولأنها كانت مبنية على ما يظهر للرسول صلى الله عليه وآله وسلم من إمارات وأدلة، أي كانت مبنية على الإجتهاد وتصرفاته فيها صلى الله عليه وآله وسلم ليس وحياً يجب المصير إليها.
أما ما يتعلق منها بأمور الدين، فمن المعلوم أن الشريعة الإسلامية بأصولها وفروعها ومهماتها قد إكتملت في حياة النبي عليه الصلاة والسلام، وذلك بمقتضى قوله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ﴾(المائدة:3)}.وكذلك بمقتضى الروايات الواردة من الطرفين ( السنة والشيعة)([24] ).
فما كان من الأقوال والأعمال عبادة في زمن النبي فهي تبقى كذلك، وما لم تكن كذلك، لا يمكن إعتبارها عبادة؛ فحلال محمد صلى الله عليه وآله وسلم حلال إلى يوم القيامة؛ وما حرمه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم فهو حرام إلى يوم القيامة، وليس لأحد أن يجعل فعلاً ما عبادة بمجرد عقله وهواه؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا ﴾(الأحزاب:36)} فجميع ما يعتبر في الإسلام على أنه عبادة ـ أي يبتغي الإنسان من وراء ذلك الأجر والقربة والمثوبة عند الله تعالى ـ فهو بتوقيف من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم .
فالخليفة ليس له شأن في إضافة شيء إلى الدين، أو إزالة ما كان؛ إنما هو منفذ للأحكام وقائم بأمر الحدود. وإقامة الحدود صلاح في الدنيا، قبل الدين. وإذا أخطأ فخطؤه لا يؤدي إلى فساد الدين.
وبناءً على هذا الفهم، فليس لأحداث التأريخ التي جرت بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام من تولية الخلفاء والأمراء والقادة، أو الحروب التي جرت بين المسلمين دخل في أصول الدين وشرائعه؛ لأنه لا يمكن أن تكون للأحداث أثر رجعي يغير من أصول الدين وفروعه.
وإنما يجب النظر إليها على أنها تمثل حقبة تاريخية ترتبط بأشخاصها الذين كان لهم دور في إحداثها مجردة من كل أثر ينسحب على ما مضى من الأشخاص والحوادث؛ وبالتالي فلا ينسحب على الدين الإسلامي، إلاّ بقدر قربها أو بعدها من أحكام الإسلام وتنفيذ تعاليمه.
والذي أريد أن أقوله في هذا الأمر، أنه لا يحق للشيعة أن يحرفوا تفسير نصوص القرآن والسنة على أساس ما وقع من أحداث بعد إكمال الدين وإكتمال نزول القرآن بعشرين أو ثلاثين سنة.
وعليهم أن يراعوا في تفسير الآيات القرآنية التسلسل الزمني في نزول كل آية، وأن لا يحاكموا آيات القرآن الكريم إلى أحداث تاريخية غير صحيحة؛ إما في وقوعها، أو في كيفيتها، أو في تفسيرها. وخاصة تلك الأحداث التي وقعت في خلافة سيدنا علي رضي الله عنهم ، وهي متأخرة عن وفاة الرسول الأعظم بأكثر من ربع قرن من الزمان، بعد أن بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة.
ونحن إذ نؤكد للشيعة بأن النص على إمامة سيدنا علي لم يقع من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وأن الصحابة لم يفهموا من حديث الغدير ما تفهمه الشيعة الآن([25])؛ فما زال أكثر من مليار مسلم على الأرض لم ولن يؤمنوا بأن الإمامة أصل من أصول الدين الإسلامي ينبني عليها كفر أو إيمان، رغم مرور هذه الفترة الطويلة من الزمن، ورغم تأليف مئات المجلدات من قبل الشيعة في إثباتها؛ ليس لشيء، وإنما لعدم وجود دليل قاطع ونص صريح وواضح عليها في كتاب الله تعالى أو سنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم كتلك النصوص الصريحة الواضحة التي تثبت بقية أصول الدين كتوحيد الألوهية والربوبية، أو في إثبات نبوة سيدنا محمد، أو في إثبات الإيمان بالملائكة واليوم الآخر.([26] )
وعلى هذا لو قدّر أن يكون الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبدالرحمن بن عوف، أو أبو عبيدة عامر بن الجراح، أو سعد بن عبادة، أو الزبير بن العوام، أو علي بن أبي طالب، أو غير هؤلاء من الصحابة؛ لم يكن الدين الإسلامي ليتغير منه شيء لا في الأصول ولا في أركان الإسلام أو مهمات الشريعة. ولا ليزداد فيه شيء، أو ينقص منه شيء آخر.
وكل الذي حدث أن المسلمين إرتضوا لخلافة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنهم، فكان حارساً أميناً للمسلمين في تطبيق شرائع الإسلام وتنفيذ أحكامه، ليس له أن يزيد في أصول الدين الإسلامي ما لم يكن موجوداً في عهد الرسول أو أن ينقص منه شيئاً كان موجوداً.
ولو تولى منصب الخلافة بعد رسول الله علي بن أبي طالب مباشرة ما كان ليفعل أكثر من ما فعله أبو بكر. ولم يكن يحق له أن يقعد عن محاربة المتنبئين والمرتدين وجاحدي الزكاة، أو جاحدي أي ركن من أركان الإسلام؛ ولو قعد ـ لا سمح الله ـ لم يكن الدين الإسلامي أيضاً ليتغير لا في أصوله ولا في فروعه، بل ربما كان قد يزول من الوجود بكامله، أو ينقص عدد المعتنقين له.
قد يقول قائل: إن لأحداث التاريخ ومجريات الأمور دخل كبير في صناعة التاريخ وهداية البشرية، لو جرت على أحسن الوجوه ومن غير مساوئ أو مثالب.
قلت: هذا صحيح في الجانب الإنساني والإجتماعي، أما على صعيد الدين أصولاً وشريعة، فلا تأثير ولا تغيير ولا تبديل.
وقد يقول قائلهم: أن الخلافة لو أفضت إلى سيدنا علي مباشرة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكان الإسلام قد إنتشر بشكل أكبر ولعمّ الخير في الأرض وأصبح الناس سعداء في حياتهم.
قلت: ليس هذا إلاّ ظنّاً من قائله ﴿ وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً ﴾، فإن الخلفاء الذين حكموا قبله لم يقصّروا في نشر الإسلام وقمع المرتدين والكفار. أما علي رضي الله عنهم فلقد حكم لأكثر من أربع سنوات ولم يفعل أكثر مما فعله الخلفاء قبله؛ بل إنشغل رضي الله عنه بإخماد الفتن الداخلية ولم تسنح له الظروف المواتية ليسل سيفاً واحداً على المشركين، وبطبيعة الحال لم يكن هو السبب في جريان الأمور على هذا المجرى، بل لأن أنصاره وأتباعه لم يكونوا على مستوى المسؤولية، ولقد عوتب على هذا فقال: ( لقد كنت أمس أميراً فأصبحت اليوم مأموراً، وكنت أمس ناهياً فأصبحت منهياً، وقد أحببتم البقاء وليس لي أن أحملكم على ما تكرهون).([27])
وهب أن هذا الرأي كان صواباً، فإن مدى إنتشار الإسلام من قلة أو كثرة ليس له دخل في أصول الدين ولا في فروعه.
وهذه القضية هي بالضد من دعواهم لأنهم إن قالوا: أن ما بأيديهم من الدين ليس صحيحاً، لأن الأئمة لم يحكموا فقد حكموا على أنفسهم بالضلال منذ ما يقارب أربعة عشر قرناً من الزمان.
وإن قالوا: أن ما بأيديهم الآن هو مطابق لما كان عليه الأئمة؛ فهذا يعني أن الأئمة حكموا أو لم يحكموا ليس له تأثير في أصول الدين وأحكامه وشرائعه.
وإننا لندرك تماماً أن الشريعة الإسلامية التي بين أيدينا الآن بتمامها وكمالها كما لو أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مازال حيّاً بيننا لأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يرحل من الدنيا إلاّ بيّن كل ما يحتاج إليه المسلمون بعده. ([28] )
كما أن الحروب والمعارك التي حدثت في خلافة سيدنا علي لم تغير من أصول الدين الإسلامي ولا فروعه، ولا أيضاً تغيرت في خلافة الأمويين والعباسيين والعثمانيين، رغم كل الحروب والمعارك التي وقعت خلال هذه الفترة الطويلة من الزمن وتعاقب الحكام الذين تولوا خلافة الأمة.
فحفظ الدين شيء، والسلطة الحاكمة شيء آخر؛ وهذا واضح وجلي في سيطرة العلمانيين على مقاليد السلطة في أكثر الدول الإسلامية في زماننا هذا بعد الإحتلالات الكثيرة لهذه الدول من قبل اليهود والنصارى، فمع محاربتهم للدين الإسلامي ومعهم اليهود والنصارى بشتى الطرق والوسائل؛ إلاّ أن الإسلام بقي منيعاً حصيناً صافياً، وكأنه نزل اليوم، وهذا السر الإلهي الموجود في الدين الإسلامي لأن الله تعالى قد تكفل بحفظه إلى آخر يوم من حياة البشرية، لأنه آخر الأديان، ليس بعده دين، ولا بعد نبينا محمد عليه الصلاة والسلام نبي.
الباب الثاني
النص بين العقل والنقل والواقع
الفصل الأول: تناقض واقع الأئمة مع أصول الشيعة
الفصل الثاني: آيات القرآن الكريم تناقض عقيدة الإمامة ( النص )
الفصل الثالث: أفعال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأقواله تناقض عقيدة الإمامة ( النص )
الفصل الرابع: تصرفات أمير المؤمنين علي رضي الله عنهم تناقض عقيدة الإمامة (النص)
الفصل الأول
واقع الأئمة وغياب آخرهم يتناقض مع فلسفة الإمامة وأصولهم العقلية
تدعي الشيعة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إستخلف على أمته من بعده يوم غدير خم رجلاً بعينه ـ وهو علي بن أبي طالب رضي الله عنه ـ وذلك حينما قال: ( من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه )([29])، وإن أمته أجابته إلى ذلك وأظهرت السمع والطاعة، فلما قبض الله تعالى نبيه إليه، عطلوا تلك الوصية، وقهروا الوصي واستولوا على الخلافة([30])، إلاّ نفراً يسيراً فإنهم بقوا على إعتقادهم بالوصي؛ ولكنهم ما استطاعوا أن يظهروا ذلك لقلة عددهم وعدتهم.
وإذا أردنا أن نبحث القضية بموضوعية وعقلانية، وجدنا أن علماء الشيعة لا يثبتون أصول الدين عن طريق النصوص، بل يوجبون على كل شيعي أن يتوصل بعقله إلى هذه الأصول ومنها الإمامة.
يقول الدكتور طه الدليمي: ( يعتمد الشيعة لإثبات أصولهم على العقل وحده، وليس الوحي. الوحي هنا يقتصر دوره على التبعية والتأييد لا أكثر.
هذه نقطة أساسية، ومفصل بارز من مفاصل البحث، لا ينبغي إغفاله، والقفز مباشرة إلى دلالات النصوص أثناء الحوار مع الشيعة ومناقشتهم وجدالهم، قبل الانتهاء منه وتثبيته كمعلم بارز من معالم التعاطي مع المسائل الأصولية؛ فإن أصول الدين عند الشيعة تثبت بالعقل – كما يقولون – وليس بالوحي أو النقل).
ويضيف قائلاً :
( وهذه بعض أقوال علمائهم في ذلك:
يقول الشريف المرتضى في ( الشافي في الإمامة): ( إن المعلوم منهم اعتقاد وجوب الإمامة وأوصاف الإمام من طريق العقول والاعتماد عليها في جميع ذلك، وإن كانوا ربما استدلوا بالسمع استظهارا وتصرفا في الأدلة ).
ويقول: ( إن التواتر عندنا ليس بطريق إلى إثبات أعيان الأئمة في الجملة ووجوب وجودهم في الأعصار، بل طريق ذلك هو العقل وحجته).
ويقول: ( أما وجود الإمام وصفاته المخصوصة فليس يحتاج في العلم بها إلى خبر، بل العقل يدلنا على ذلك على ما بيناه).
ويقول: )وكل ذلك يبين أنه لا بد من نص قاطع منه عليه السلام في الإمام وصفته وما يقوم به في الجملة. فعندنا أن بيان ذلك غير محتاج إليه، لأن العقول تدل على وجوب الإمامة وعلى صفات الإمام وما يحتاج فيه إليه، ما تدل العقول عليه ليس يجب بيانه من طريق السمع).
) ويقول محمد رضا المظفر في كتابه (عقائد الشيعة):
) ذم الله المقلدين لآبائهم بقوله تعالى:﴿ قاَلوُا بلَ نتَبَّعِ ماَ ألَفْيَنْاَ علَيَهْ آباَءناَ أوَلَوَ كاَن آباَؤهُمُ لا يعَقْلِوُن شيَئاً ﴾، كما ذم من يتبع ظنونه ورجمه بالغيب فقال: ﴿ إنِ يتَبَّعِوُن إلِا الظنَّ… ﴾ فلا يصح والحال هذه أن يهمل الإنسان نفسه في الأمور الاعتقادية، أو يتكل على تقليد الآباء أو المربين بل يجب عليه بحسب الفطرة العقلية المؤيدة بالنصوص القرآنية أن يفحص ويتأمل وينظر ويتدبر في أصول اعتقاداته المسماة بأصول الدين التي أهمها التوحيد والنبوة والإمامة والمعاد..
ومن قلد آباءه أو نحوهم في هذه الأصول فقد ارتكب شططا وزاغ عن الصراط المستقيم ولا يكون معذورا حتى لو كان مصيبا في اعتقاده للواقع…(.
ثم يردف كلامه هذا مباشرة بما يبين اعتقاده في دور النصوص الدينية في معرفة الأصول الاعتقادية وأنه لا يعدو عنده التأييد والتبعية لما ثبت بالعقل ابتداء وأن هذا الثبوت العقلي هو الواجب المفروض في حق العباد، علمائهم وعامتهم أي مجتهدين ومقلدين، فيقول: )وعليه فهنا ادعاءان[ الأول] وجوب النظر والمعرفة في أصول العقائد ولا يجوز تقليد الغير فيها [ الثاني] أن هذا وجوب عقلي قبل أن يكون وجوبا شرعيا أي لا يستقى علمه من النصوص الدينية وإن كان يصح أن يكون مؤيدا بها بعد دلالة العقل).
وقال شارح الكتاب الأستاذ محسن الخرازي معلقا على النص في كتابه ( بداية المعارف الإلهية في شرح العقائد الإمامية):
( حاصله هو التفصيل بين أصول الاعتقادات بمعنى أساسها، وبين غيرها بكفاية الأدلة السمعية في الطائفة الثانية دون الأولى من التوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد ( .
ويقول الشيخ جعفر السبحاني في (العقيدة الإسلامية على ضوء مدرسة أهل البيت): ( يجب عل كل مسلم أن يحصل اليقين في المسائل التي يجب أن يعتقدها، ولا يجوز له إتباع الآخرين في هذه المسائل من دون أن يحصل له اليقين. وحيث أن أمهات الأصول وكليات المسائل الاعتقادية محدودة ومعدودة ولكل منها أدلة عقلية واضحة، فإن تحصيل اليقين للأشخاص في أصول الدين وأساسيات العقيدة قضية سهلة).([31] )
ومن خلال هذه النصوص ثبت لدينا بما لا يقبل الجدل أن الفكر الشيعي يستدل على الإمامة بالنظر العقلي دون النصوص الشرعية. عليه فلا حاجة بنا إلى مناقشة النصوص النقلية ( قرآناً وسنة ) التي يستدلون بها على الإمامة؛ ومنها النص على سيدنا علي في غدير خم.
ونحن إذا جاريناهم في العقليات، قلنا لهم:
الكلام على هذا الوجوب العقلي لا يخرج من طرق ثلاثة: فإما أن يكون الإمام من باب التمكين
أو من باب البيان
أو من باب اللطف([32])
أما المكلفين، فلا تعلق لهم بالإمامة، إذ ليس للإمام قدرة على حمل المكلفين على الإيمان به، لأنه وجوب عقلي، فمن لم يدله عقله على وجود الإمام ووجوبه، لا يستطيع أحد أن يرغمه على الإيمان به.
ولو توصل ـ على سبيل الإفتراض ـ على وجوب وجوده، فكيف السبيل إلى معرفة عين الإمام وشخصه؟
وإذا عرف شخص الإمام ولم يعرف بيانه، لم يكن كافياً في إزاحة التكليف عنه، ومعرفة بيانه عن طريق الغير لا يجوز؛ لأنه لو جاز وجب الإكتفاء ببيان النبي عن طريق النقل.
إذن فبطل أن يكون الإمام من باب تمكين المكلف لحمله على الإعتقاد به لكونه حجة.
أما كونه من باب البيان، لأنه حجة لله تعالى على خلقه، ولا يجوز أن يخلو الزمان من حجة، هو نبي أو إمام.
فينقضه جواز خلو المكلفين من النبي في بعض الأزمان، وتسمى هذه بـ (الفترة )([33])، وإذا جاز خلو بعض الأزمان من النبي؛ فخلوه من الإمام آكد.
ثم أن الإمام قد غاب منذ أكثر من ألف سنة، فما زال المكلفون الشيعة على ما كان عليه سلفهم.
وأيضاً فإن البيان الذي يأتي من جهة الإمام، قد ورد من جهة العقل ـ على قول الشيعة ـ ولا يحتاج المكلف إلى الإمام أو الرسول.
وهذا يسقط قولهم: أن الإمام حجة، لأن العلة ليس في وجود الإمام؛ وإنما الحاجة إليه في البيان.
فمجرد وجود الإمام ليس بحجة، لأن وجود الله تعالى ووجود جبريل والملائكة ثابت، ومع هذا لم يحتج علينا ربنا تبارك وتعالى على مجرد وجوده، وإنما إحتج بالأنبياء والمرسلين الذين بلّغوا ما أُمروا به، وإن كان بعضهم تعرض للقتل والتعذيب. ولم نسمع برسول لم يبلغ دعوته إلى الناس بسبب الخوف من الإيذاء أوالقتل.
ولما كانت الشيعة تقيس الإمام بالنبي فيكون بيان الإمام الذي يزيح به السهو والغلط عن المكلفين هو الحجة. وبالتالي فمع غياب الإمام شخصاً وبياناً يسقط التكليف عن المكلفين، وهو ما يعني أن يُعذر كل من لم يعرف إمامه، لأنه لم يُزح علته فيما كلف؛ وأن لا يحسن منه تعالى أن يعاقب من هذا حاله، وفي ذلك من الفساد وبطلان التكليف ما لا خفاء به.
أما كون الإمام لطفاً، فينقضه خلو بعض الأزمنة من الإمام؛ وفي حالة وجوده لا يلزم أن يكون مجرد معرفته لطفاً؛ لأن مَن علمه إماماً ولم يَعرف من قِبَله ما يؤديه كان في حكم من لا يعرفه.
واعلم أن للإمام مع المكلفين ثلاث حالات:
وجوده مع عدم تمكن المكلفين من مشاهدته.
وجوده مع التمكن من معرفة بيانه دون التمكن من مشاهدته.
وجوده إماماً وخليفة للمسلمين وقادراً على إلزام المكلفين بأوامره.
فيقال للشيعة: أي حالة أو وجه من هذه الوجوه واجب على الله فعله؟ وأيُّ من هذه الوجوه حصل مع أئمتكم؟
فالوجه الأول: مع وجوده وعدم التمكن من مشاهدته وعدم التمكن من معرفة بيانه، هو ليس بوجود، بل إلى العدم والخيال أقرب.
فما الفائدة التي يجنيها المكلف من إمام كهذا؟!
وإذا قيل أن المكلفين أخافوا الإمام حتى غاب.
قلنا: لا يجوز للإمام أن يجعل حياته أولى من القيام بالواجبات الربانية المكلف بإيصالها إلى الناس. كما أنه لا مجال للقول باستمرار حالته في التقية لأن في كثير من الأحوال والأوقات، قد ظهر من أمره ما يجوز أن يأمن على نفسه.
أما الوجه الثاني: فمع معرفة بيانه دون مشاهدته، فإن النقل يغني عن مشاهدته. والنقل عن السابق يُغني عن اللاحق، وهكذا الحال وصولاً إلى النبي الذي يغني النقل عنه عن الإمام.
ولا يصح تعلقهم بالإجماع، لأن الإجماع على طريقتهم تابع في الصحة لثبوت الإمامة، ولولا دخول الإمام في جملة المجتمعين، لما كان عندهم الإجماع حجة؛ فتعلقهم بذلك يقتضي إثبات أصل لفرعه، وذلك ما لا يعقله نظار.
وأما الوجه الثالث: فإنّا لم نجد إماماً هكذا صفته في الواقع، فحتى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وهو خليفة المسلمين لم يستطع أن يُظهر كل ما في نفسه بحجة أن الذين بايعوه كانوا من أنصار أبي بكر وعمر، وكانوا لا يعتقدون بالنص على الإمام.([34])
وأيضاً إذا كان بيان الإمام يتجدد على الأوقات، وفي أصول الدين والشريعة، فهذا يعني أن للإمام حق نسخ الشرائع والأحكام، وهذا يبطل كونه تابعاً للنبي عليه الصلاة والسلام؛ وهم قد أثبتوا لأئمتهم جميع صفات وخصائص النبي؛ وهذا لازم لهم، وإن كانوا يقولون أنه لا يوحى إليه.([35])
ولذلك إرتكب بعضهم عند هذا الإلزام القول بإبطال التواتر، وبجواز الكتمان على الخلق العظيم مع عدم إثبات التواطؤ، وأبطلوا الإجماع. كل ذلك ليثبتوا إماماً غائباً من غير أن يُعرف فيه عين أو أثر.
الفصل الثاني
آيات القرآن تناقض عقيدة الإمامة
الذي يتأمل الآيات القرآنية التي نزلت بحق السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وما تضمنته هذه الآيات من المدح والثناء لهم، وما أثبته من الرضا عنهم وعمّن يقتدي بهم، علم يقيناً أنه بين أمرين:
إما القول بصحة هذا القرآن وصحة آياته التي تمدح الصحابة؟ وبالتالي بطلان عقيدة الإمامة.
وإما القول بتحريف القرآن، أو تفسير آياته تفسيراً تعسفياً يلوي أعناق النصوص، ويخرجه من مضمونه اللغوي، والعقلي.
ومع كل هذا فإن هناك من الآيات لا يمكن تحريف تأويلها مهما أوتي أحدهم من منطق أو بلاغة، وفيما يلي نذكر قسماً منها:
أولاً: قوله تعالى:﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ (الفتح: 29)
قال شيخ الطائفة:
( وقوله " يعجب الزراع " يعني الذين زرعوا ذلك " ليغيظ بهم الكفار " قيل: معناه ليغيظ بالنبي وأصحابه الكفار المشركين. ووجه ضرب هذا المثل بالزرع الذي أخرج شطأه هو أن النبي (صلى الله عليه وآله) حين ناداهم إلى دينه كان ضعيفا فأجابه الواحد بعد الواحد حتى كثر جمعه وقوي أمره كالزرع يبدو بعد البذر ضعيفا فيقوى حالا بعد حال حتى يغلظ ساقه وفراخه، وكان هذا من أصح مثل وأوضح بيان )([36]).
وقال الإمام الطبري في تفسيره:
وقوله( مِنْهُمْ ) يعني: من الشطء الذي أخرجه الزرع، وهم الداخلون في الإسلام بعد الزرع الذي وصف ربنا تبارك وتعالى صفته. والهاء والميم في قوله( مِنْهُمْ ) عائد على معنى الشطء لا على لفظه، ولذلك جمع فقيل: "منهم"، ولم يقل "منه". وإنما جمع الشطء لأنه أريد به من يدخل في دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى يوم القيامة بعد الجماعة الذين وصف الله صفتهم بقوله ﴿ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا ﴾.
وقال إبن كثير رحمه الله في تفسيره:
ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك - رحمه الله، في رواية عنه - بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة، قال: لأنهم يغيظونهم، ومن غاظ الصحابة فهو كافر لهذه الآية. ووافقه طائفة من العلماء على ذلك. والأحاديث في فضائل الصحابة والنهي عن التعرض لهم بمساءة كثيرة، ويكفيهم ثناء الله عليهم، ورضاه عنهم.
وقال الإمام القرطبي في تفسيره: وليست " من " في قوله " منهم " مبعضة لقوم من الصحابة دون قوم، ولكنها عامة مجنسة، مثل قوله تعالى: ﴿ فاجتنبوا الرجس من الاوثان ﴾ [ الحج: 30 ]
وشاهد هذا من القرآن ﴿ وننزل من القرآن ما هو شفاء ﴾ (2) [ الاسراء: 82 ] معناه وننزل القرآن شفاء، لان كل حرف منه يشفي، وليس الشفاء مختصا به بعضه دون بعض.
قلت:
ولو كانت " من " تبعيضية لصحت معنى الآية بدونها، فأصبحت هكذا : " وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا " ولو كانت هكذا لإنقطعت الصلة بين نهاية الآية وبين بدايتها. ولأصبحت الآية عامة لا علاقة لها بالصحابة كقوله تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾( المائدة : 9) وكقوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ﴾(البروج:11).
ولكن لما كانت بداية الآية تتحدث عن محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إقتضى سياق الآية وجود كلمة ( منهم ) ليرجع نهاية الآية إلى سياقها الأول، ولتحقق وحدة الموضوع في الآية.
ثانياً: قوله تعالى: ﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ﴾( المائدة:54).
قال القاضي عبدالجبار في هذه الآية:
( فأخبرهم أن من ارتد منهم عن دينه أتى اللّه بمن يغلبه ويقهره، فلما قبض رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ارتدّت القبائل الكبيرة من العرب عامة وخاصة على وجوه من الردة كما قد تقدم شرح ذلك، فشمر أبو بكر الصديق لحربهم، وأرسل المهاجرين والأنصار على قتالهم، وقاموا على ساق، فقهروهم وأذلوهم وغلبوهم وظهرت كلمة الإسلام فكان العز للمسلمين، وهذا من الآيات العظام، فانظر كيف قال عز وجل لهم بالمواجهة: ﴿ مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ﴾ ولم يقل: من يرتد عن دينه، فكانت عدة تحتمل التسويف بل قال: ﴿ مِنْكُمْ ﴾.
وفي هذا غيوب كثيرة، فإن القبائل التي ارتدت تلك الأنواع من الردة كانت كثيرة ولها بأس وشدة كما قد تقدم ذكر ذلك، وفي هذا أيضا تأييد لإمامة أبي بكر الصديق، وأنها حق وهدى وصواب ورشاد ودين للّه، وقد وصفه اللّه ومن معه بأنهم يحبون اللّه وأن اللّه يحبهم، وأنهم يخضعون ويذلون للمؤمنين وأنهم يستعلون ويشتدون على الكافرين، وأنهم يجاهدون في سبيل اللّه ولا يخافون أحدا ولا يراقبون أحدا ولا يهابون في اللّه مخلوقا وأن هذا فضل من اللّه ساقه إليهم وخصهم به، وهذه صفات أعلى المؤمنين درجة عند اللّه، فلو لم يقف من غلط من اتهمهم ورماهم بالريب إلا من هذا الوجه لكفى وأغنى وزاد على الكفاية.
ولو كان أبو بكر رضي اللّه عنه وأصحابه ارتدّوا وكفروا كما زعم هؤلاء وادعوا لأتى اللّه بمن يقهرهم ويغلبهم، وإلا كان خبر اللّه قد كذب وأخلف وحاشا لأخبار اللّه أن تكون كذلك. وعند هؤلاء الزنادقة أن هؤلاء الصحابة قد ارتدوا، وأنهم أعداء اللّه وأعداء رسوله وأن أمير المؤمنين ونفرا كانوا معه على الإسلام مغلوبين مقهورين مقصودين بالإذلال والمكروه، وأن أبا بكر وعمر وعثمان والمهاجرين والأنصار كانوا يعزون المشركين وأعداء الدين والمرتدين والمبدلين والمغيرين ويذلون المؤمنين، وهذا ضد التنزيل وتكذيب لقول اللّه فيهم كما قد شرحه اللّه وبينه في الآية وأظهره من ضمائر هؤلاء ونياتهم. وعلى ما يقوله الخصم كان ينبغي أن يكون التنزيل:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يبغضهم ويبغضونه يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الشيطان، فهذه صفاتهم عند هؤلاء الخصوم، نعوذ باللّه من العمى) ([37]).
ثالثاً: قوله تعالى:﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾(النور:55)
قال القاضي عبدالجبار:
( من آياته صلى الله عليه وآله وسلم، وهو ما أخبر أصحابه من أنه يمكّن لهم في الأرض ويستخلفهم كما استخلف الذين من قبلهم، ويؤمن خوفهم، فيخلصون في عبادته وحده لا يشركون به شيئا، فقال عز وجل: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ إلى آخر الآية. وهذه نزلت في غزوة الأحزاب وفي الخندق، وقد تحزبت العرب واليهود عليهم، وغدر من حول المدينة بهم وهم في حومة الموت وشدة الخوف، وما كان بأيديهم إلا المدينة مع من بها من اليهود والمنافقين، فأظهر اللّه أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم واستخلفهم ومكّن لهم وبدّلهم من بعد خوفهم أمنا، وعبدوه وحده وأطاعوه، وفي هذا غيوب كثيرة لا تكون بالاتفاق ولا لحذاق المنجمين، ولا هو مما يغلب في العقل بل الغالب في العقل والظاهر في الحزم والتدبير أن يكونوا هم المغلوبون المقهورون، إلا أن يكونوا من قبل اللّه، وأن يكون صاحبهم رسولا للّه، والذي يدلك على أن هذا نزل وهم غير متمكنين وأنهم قد كانوا خائفين من قوله عز وجل: ﴿ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً﴾ فلا يجوز أن يخبرهم بما لم يكونوا عليه ويمتن عليهم بذلك والعدو والولي يسمعه وهو يعلم أنهم يعلمون أنه قد كذبهم ثم يؤكد هذا بأن يقول: هذا قول اللّه لكم، ووعد اللّه لا وعدي، وبشارة اللّه لا بشارتي، وفي هذا دلالة على صحة الخلفاء من بعده، ألا تسمعه يقول: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ﴾ ولو قال: الذين آمنوا لكانت عدة تحتمل التسويف والتأويل، فلما قال: ﴿ منكم﴾ جعلها فيهم ولهم ومنهم، فزالت الشكوك وارتفع اللبس، ولو كان الأمر على ما يقول الإمامية لكانت هذه الأخبار قد كذبت وهذه المواعيد قد أخلفت لأنهم زعموا أن المستخلف كان علي بن أبي طالب، وأنه ما كان متمكناً ولا آمناً بل كان مقهورا مغلوبا خائفا، فأين تصديق ما وعد اللّه، فنعوذ باللّه من الذهاب عن الحق)([38]).
فهل هذه الأوصاف ﴿ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ﴾ تنطبق على أئمة الشيعة الذين عاشوا في تقية وخوف حتى وهم على رأس السلطة، كما حدث مع سيدنا علي رضي الله عنهم والذي قال في حقه علماء الشيعة ما لم يقله أعداؤه من الذين حاربوه وحاربهم.
قال نعمة الله الجزائري: ( ولما جلس أمير المؤمنين على سرير خلافته، لم يتمكن من إظهار ذلك القرآن وإخفاء هذا لما فيه من إظهار الشنعة على مَنْ سبقه، كما لم يقدر على إجراء المتعتين، متعة الحج ومتعة النساء، وكما لم يقدر على عزل شريح عن القضاء، ومعاوية عن الإمارة).([39])
رابعاً: قوله تعالى ﴿ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ﴾(الأنعام:89).
قال قاضي القضاة عبدالجبار: ( يعني إن يكفر بها أبو جهل وأبو لهب وإبن أبي معيط والوليد بن مغيرة والعاص بن وائل وأشباههم وأمثالهم من أعداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فعزى الله تعالى نبيه وبشره بقوم يطيعونه ويتبعونه، فيسر له المهاجرين والأنصار كما وعده.
وقد أذكر الله نبيه بإنجاز هذا الوعد ووقوع الوفاء به فقال عز وجل: ﴿ وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾(الأنفال: 62).
ولا يجوز لعاقل أن يساوي بين هؤلاء المهاجرين والأنصار الذين أجابوه بلا دنيا ولا سيف، ويرميهم بالنفاق والردة، وبين أعداء الله من المشركين ممن ذكرنا آنفاً الذين وقفوا ضد النبي وضد دعوته.
ومَنْ قال أنه لا فرق بين أبي بكر وعمر وعثمان وتلك الجماعات من المهاجرين والأنصار وبين مَنْ ذكرنا من قريش والعرب واليهود والنصارى؛ فقد بلغ الغاية في الجهل وكذّب الله تعالى في قوله: ﴿ إن شانئك هو الأبتر ﴾ لأن أبا بكر وعمر وعثمان وتلك الجماعات من المهاجرين والأنصار، لو كانوا أعداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشانئيه لكان يكون: إن شانئك هو الأقهر والأغلب والأظهر وأنت الأبتر! وهذا تكذيب لكتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
خامساً: قوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾( آل عمران: 103). ونظير هذه الآية قوله ﴿ لَوْ أَنفَقْتَ مَا في الأرض جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ﴾ ( الأنفال : 63 ) .
قال إبن كثير: ( وهذا السياق في شأن الأوْس والخَزْرَج، فإنه كانت بينهم حُروبٌ كثيرة في الجاهلية، وعداوة شديدة وضغائن، وإحَنٌ وذُحُول طال بسببها قتالهم والوقائع بينهم، فلما جاء الله بالإسلام فدخل فيه من دخل منهم، صاروا إخوانا متحابين بجلال الله، متواصلين في ذات الله، متعاونين على البر والتقوى) .
قلت: وقوله تعالى:﴿ وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ﴾ دليل على إيمانهم الذي به أنقذهم الله تعالى من نار جهنم. ويكون الامتنان على هذا امتناناً عليهم بالإيمان بعد الكفر، فلو كان هؤلاء يرتدون بعد إيمانهم؛ لم يبقَ وجه لإمتنان الله تعالى عليهم بذلك!
سادساً: قوله تعالى: ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا﴾ (النصر: 2). في هذه الآية يخبر الله تعالى نبيه، أن الناس سيدخلون في الإسلام جماعات كثيرة، وذلك بعد الفتح.
في حين أن الشيعة يروون في كتبهم وعن أئمتهم : أن الناس أصبحوا أهل ردة إلاّ ثلاثة أو أربعة أو نفر قليل، ولكانت قراءة الآية تكون: إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يخرجون من دين الله أفواجاً.
فإنهم يزعمون أن أصحاب محمد بعد وفاته إرتدوا عن الإسلام وغيّروا القرآن وبدّلوا دين الإسلام وعطّلوا أحكامه حينما دفعوا وصيه وخليفته عن مكانه؛ فكان الوصي مقهوراً مغلوباً، والإسلام في ذلٍّ وتناقص.
سابعاً: قوله تعالى: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾( الحج: 39 ـ 41 ).
قال قاضي القضاة: ( وفي هذه الآية دلالة على صحة إمامة أبي بكر وعثمان وعليّ رضي اللّه عنهم، وشهادة بأنهم أئمة هدى، وأن طاعتهم طاعة اللّه، لأنهم من المهاجرين والمكيين والتابعين ومن الذين أخرجوا من ديارهم بغير حقّ لقولهم: ﴿ رَبُّنَا اللَّهُ﴾، وهم الذين تمكنوا وتولوا الأمر ودعوا إلى اللّه وفعلوا ما قال اللّه، كما هو مذكور في الآية.
ولو كانوا منافقين أو مشركين أو مرتدين كما تدعى ذلك عليهم طوائف الرافضة لكان هذا الخبر قد أخلف وكذب، ولكان الذي أتى به وتلاه ليس بنبي بل كذاب، لأن هؤلاء الذين تملكوا وتمكنوا وكان الأمر والسلطان والقهر والغلبة لهم؛ فزعمت الرافضة أنهم بدّلوا القرآن وأحرقوه، وغيروا النصوص، وعطلوا الدين، وغيروا الطهارة والأذان والمواقيت والصلاة والصيام والمناكح والطلاق، وأماتوا السنن، وأحيوا البدع؛ وكان خليفة رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ووصيه مغلوبا مقهورا يظهر ما يظهرون من الشرك، ويجوّز أحكامهم عليهم، فأين صدق هذه الآيات.
وقد كان ينبغي أن يكون على ما يدعيه الرافضة أن تكون التلاوة : والذين إن مكناهم في الأرض عطّلوا الصلاة والزكاة وأماتوا النصوص وقهروا الوصي المنصوص عليه، وأمروا بالمنكر ونهوا عن المعروف.
فتعلم أن هؤلاء قد ذهبوا عن القرآن وفارقوا الدين، وتعلم أن هؤلاء السلف على الحق، وان اللّه تولى نصرهم كما وعدهم.)([40])
الفصل الثالث
أفعال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وأقواله تشهد بأنه ما عهد لرجل بعينه
قال قاضي القضاة عبدالجبار:
( إن أفعال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وأقواله ووصاياه وعهوده، تشهد بأنه ما عهد في رجل بعينه، وان الأمر في الخلافة بعده إلى خواصه وأصحابه ليختاروا من يرون، وان الخلفاء بعده يجوز عليهم الخطأ والزلل؛ ألا تسمع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أنفذوا جيش أسامة» وقوله: «لا تتركوا بعدي في جزيرة العرب دينين، ولا تجمعوا فيها دينين» وقوله: «استقيموا لقريش ما استقاموا لكم، فإن لم يستقيموا لكم فخذوا سيوفكم على عواتقكم فأبيدوا خضراءهم، وإلا فكونوا أشقياء حرّاثين تمشون خلف أذناب البقر، وتأكلون كدّ أيديكم. أطيعوهم ما أطاعوا اللّه ورسوله، فإذا عصوا اللّه ورسوله فلا طاعة لهم عليكم؛ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق».
وقوله: «هذا الأمر في قريش ما إذا استرحموا رحموا، وإذا حكموا عدلوا، وإذا قسموا أقسطوا، وإذا عاهدوا وفوا؛ فإن لم يفعلوا ذلك، فعليهم لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منهم صرف ولا عدل».
ومثل هذا من أقواله كثير، ويعلم هذا من دينه، كما يعلم من دينه أن الولد للفراش وللعاهر الحجر، وان اليمين على المنكر والبينة على المدعي، والنفقة على الزوج دون المرأة، وما أشبه ذلك من شريعته. وهذه الوصايا منه إنما هي لأصحابه وخاصته، فمن أشكل عليه بعد هذا انه ما نص على رجل بعينه، وان الخلفاء بعده يجوز أن يقع منهم الخطأ والزلل، وأنه ليس فيهم من يؤمن منه ذلك، فقد أشكل عليه الواضح من شريعة رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وجلّى سيرته، والمكشوف عن شريعته ووصاياه.
فإن قيل: كيف أشكل هذا على هؤلاء القوم؟ قيل له: ليس يعرف هذا بكمال العقل وان كان واضحا، وإنما يعرف بكثرة السماع وحسن الإصغاء والتأمل، وجودة التحصيل وصحة النقل.
ألا ترى أن في هؤلاء من يقول: إن في القرآن زيادة، وفيهم من يقول:
فيه نقصان، وفيهم من يقول: للطهارة والصلاة والصيام وسائر الشريعة باطن يخالف ما عليه الفقهاء والعامة، والى ما يذهب أهل التناسخ وقوم من الصوفية. وكل من جالس العلماء وكثر سماعه وجاد تحصيله، يعلم علما يقينا أن هذا خلاف دين النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وقد عرف أصحابه من سيرته جواز الاختيار في الأئمة والأمراء، وعملوا بذلك في حياته صلى الله عليه وآله وسلم.
ألا ترى انه لما أنفذ عسكرا لغزو الروم قال لهم: أميركم زيد بن حارثة، فإن هلك فجعفر بن أبي طالب، فإن هلك فعبد اللّه بن رواحة؛ فهلك هؤلاء الأمراء الثلاثة فاستعمل الجيش بعدهم خالد بن الوليد المخزومي أميرا عليهم، فدبرهم وساسهم ولقي العدو بهم، فما أنكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك بل صوبهم، وسمى خالد بن الوليد سيف اللّه. وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنفذ عمّاً لأبي موسى الأشعري أميرا على جماعة فهلك، فاستعملوا بعده أبا موسى، فما أنكر رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ذلك بل صوبهم؛ بل إنهم إنما فعلوا هذا لأنهم قد عرفوه من سيرته.
وقد ولى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أبو العلاء بن الحضرمي([41] ) البحرين، وأنفذه في جماعة، وعهد إليه عهدا معروفا، وقال صلى الله عليه وآله وسلم في هذا العهد: وأنا اشهد الله على رجل وليته أمرا من أمور المسلمين فلم يعدل فيه قليلا كان أم كثيرا فانه لا طاعة له، وهو خليع محاولتيه، واني قد برأت المسلمين الذين معه من عهدهم وإيمانهم منه ومن ولايته، فليستخيروا عند ذلك الله ثم ليستعملوا عليهم أفضلهم في أنفسهم؛ وأشباه هذا في وصاياه وعهوده وسيره كثيرة، وأنت تجده متى طلبته، وفيما معك أتم كفاية).([42])
وقال القاضي أيضاً :
( فلو كان لهذا النص أصل لكان يعلمه كل عاقل سمع الأخبار وإن لم يقبله وإن لم يتدين به. كما علم اليهود والنصارى والمجوس انهعليهما السلام نص على انه رسول اللّه إليهم، وأن طاعتهعليهما السلام تلزمهم وتجب عليهم، وفي عدم العلم بذلك دليل على أن هذا شيء ما فعله رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ساعة قط، ولا كان منه فيه إشارة ولا إيماء بوجه من الوجوه.
ولسنا نقول: إنه لو فعله لقبلوه وعملوا به، بل نقول: كان العلم يحصل به عند كل من سمع الأخبار وإن لم يعملوا به، وإن اجمعوا على تعطيله كما اجمعوا على تعطيل إمامة سعد بن عبادة، ونبوة مسيلمة وطليحة.
فاعرف ذلك.
ومما يزيدك بياناً، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد نصّ على أشياء، فلما قبض ارتدت العرب عن ذلك بألوان الردة، فادعى مسيلمة النبوة في ربيعة بأرض اليمامة وادعى مثل ذلك طليحة في بني أسد، ورجعت قبائل كثيرة من فزارة وقضاعة وغيرهم ممن هو معلوم عن الشريعة كلها، واستثقلوا ما حرّم عليهم من الخمر والزنا والربا والسرقة والغارة وغير ذلك، وارتد من بالبحرين وبنو يربوع وغيرهم لمنع الزكاة، وقالوا لأبي بكر: نشهد الشهادتين، ونقيم الصلاة، ونجاهد معك العدو؛ فإن أبيت ذلك لحقنا بالعدو وحاربناك.
وأقام أبو بكر والمهاجرون والأنصار على الإسلام، وجاهدوا المرتدين كلهم، فحصل العلم بذلك عند كل من سمع الأخبار. فلو كان لما ادعاه هؤلاء القوم أدنى إشارة، لكان العلم بذلك مثل العلم بهذه الأمور، بل قد كان ينبغي أن يكون أقوى واقهر، وإنما هذا شيء ادعاه أبو كامل وهشام بن الحكم بعد انقراض الصحابة، والتابعين وتابعي التابعين، وتابعي تابعي التابعين.
وعلى أن قوله عليه السلام: «أنت مني بمنزلة هرون من موسى»، «ومن كنت مولاه فعلي مولاه»، وما أشبه ذلك مما يجعلونه حجة في دعاويهم، ليس من ألفاظ النصوص والاستخلاف والوصايا في لغة ولا في عقل ولا في شريعة، وإنما هي فضائل ادخلها هؤلاء في هذه الدعاوي، وانه أمر لا تقوم به حجة، ولا يجدون فيه حيلة، فلجئوا إلى التعلق بهذه الفضائل، وقالوا: هي نصوص، فلو لم يدلك على فساد قولهم إلا تعلقهم بهذه الأشياء لكفاك وأغناك.
وقد رفع اللّه قدر رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أن تكون نصوصه ووصاياه بمثل هذه الألفاظ؛ يزيدك بيانا انهعليهما السلام قد نص على خلق كثير بالولاية والإمارة، فقال في غزاة مؤتة للجيش الذي أنفذه: أميركم زيد بن حارثة، فإن هلك فجعفر بن أبي طالب، فان هلك فعبد اللّه بن رواحة. ومثل ذلك في الأمراء ولعلهم نحو ألف أمير، ما فيه نص بهذه الألفاظ التي يدعونها هؤلاء.
وقد استخلف أبو بكر عمر بن الخطاب، وعمر أهل الشورى، فليس فيهم من قال من كنت مولاه ففلان مولاه، وكذا سائر من عهد إلى احد لم يذكر هذا اللفظ، وهم عرب وفصحاء، وفي دعوة الإسلام، وينتمون إلى رسول اللّه ويؤكدون عقودهم بكل ما يقدرون عليه مما هو مستعمل في اللغة والشريعة؛ وهم لا يعرفون هذا اللفظ في العقود، وإنما هذه فضائل لا مدخل لها في النصوص والوصايا والعقود)([43]).
الفصل الرابع
تصرفات أمير المؤمنين تناقض النص
المبحث الأول
أن علياً رضي الله عنهم لم يدّعِ النص والعصمة
قال قاضي القضاة:
( وقد علم كل عاقل سمع الأخبار أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، قد ابتلى من الخلاف والتضليل والتخطئة والإكفار ما لم يبل بمثله أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، فما احتج لنفسه بأنه معصوم لا يجوز عليه الخطأ، ولا أن النبيّ نصّ عليه ووصى إليه واستخلفه، ولا بأن المعجزات ظهرت عليه مع حاجته إلى ذلك، ولا احتج له من يخاصم عنه في زمانه مثل الحسن والحسين، وعبد اللّه بن العباس، وقيس بن سعد وأبي أيوب الأنصاري، وصعصعة بن صوخان، وعديّ بن حاتم، وعثمان بن حنيف، وسهل بن حنيف، وجابر بن عبد اللّه، وعمران بن حصين، وشريح بن هاني، والأحنف بن قيس، وأبي الأسود الدؤلي، وغيرهم ممن أرسلهم إلى من خالفه من أهل البصرة، ومن أرسله إلى أهل الشام، ومن أرسله إلى الخوارج، ومن أرسله إلى أهل الكوفة يستنفرهم حين قعدوا عنه بمشورة عامله أبي موسى، وكان يجادل عنه بحضرته من كان يرد عليه من رسل معاوية، ويجادل الخوارج، لا يعرفون شيئا مما يدعيه هؤلاء بوجه من الوجوه، ولا يرجع فيما يحتج به رضي اللّه عنه إلاّ إلى الإجماع، فيقول: وجبت طاعتي كما وجبت طاعة أبي بكر وعمر وعثمان، لأنه قد بايعني من بايعهم، وإنما الأمر في الإمامة إلى السابقين والبدريين من المهاجرين والأنصار، لا إلى الطلقاء وأبناء الطلقاء، ويحتج بأنه من أهل الشورى التي وضعها عمر، ويحتج في التحكيم بالقياس، ويردّه إلى الاجتهاد، ويقول: قد أمر اللّه بإرسال الحكمين في شقاق يقع بين المرأة وزوجها وفي أرنب تصاب في الحرم قيمتها ربع درهم، فكيف بإمامة قد أشكلت على المسلمين، ويشير عليه ولده وأهله وأصحابه وخاصته الذين قدمنا ذكرهم وغيرهم، ويقولون: له: الرأي أن تفعل كذا وقد فعلت كذا ولم يكن الرأي أن تفعله، كما قال له الحسن ابنه وابن عباس حين قبل البيعة، وكما قال له قيس بن سعد في شأن مصر، وحين قال له الأحنف في شأن التحكيم، ففي آرائهم ما يأخذ به ويدع رأيه لرأيهم، ومنه ما يقيم على رأيه دون رأيهم، ويقول: هو أصوب. وإذا فعل الشيء يسأل الناس عنه، هل هو صواب أم خطأ، ويسمع منهم، ويجادلهم، ويعتذر إليهم، ويبين وجه الصواب. كما قال لبعض أصحابه لما حكّم بالشام ورجع إلى العراق فقال لخاصته: ما يقول أهل الرأي؟
فقيل له: أما أهل الرأي فيقولون: إن علياً كان له بناءً فهدمه، وكان له جمع ففرقه، فحتى متى يبنى مثل ما هدم، ويجمع مثل ما فرّق، فلو أنه إذ عصاه من عصاه مضى بمن أطاعه فإما فتح وإما قتل، فكان أعذر مما صنع؛ فقال رضي اللّه عنه: أنا هدمت أم هم؟، أنا فرقت أم هم؟ وأما قولهم: لو مضى بمن أطاعه من أصحابه إذ عصاه من عصاه ففتح أو قتل فكان أعذر، فواللّه ما غبي عليّ هذا الرأي ولا ذهب عني، ولكن كان هذان، يعني الحسن والحسين، متى حملت اتبعاني، وهذان: يعني محمد بن الحنفية وعبد اللّه ابن جعفر بن أبي طالب يقدماني فكرهت أن يهلك هذان فلا يبقى لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ذرية، وكرهت أن يهلك هذان فإنهما شابان ومن أجلي أقدما، وسترون إذا عدت إن شاء اللّه إلى الشام، لا أدع هؤلاء في عسكري.
فانظر كيف يباحث أهل الرأي ويقبل الصواب ويحمده ويبين عذره لما هو.
ولما قال له قائل بالكوفة: ذهبت إلى الشام ورجعت فلم تصنع شيئا، فيكون من جوابه، أن على الإنسان أن يجتهد رأيه، ولا لائمة عليه بعد ذلك.
ولا يحتج في شيء من ذلك بنصّ، ولا حكمة، ولا عصمة، ولا آية ولا معجزة، ولا يقول: هكذا وصاني رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وقال لي: ينبغي أن تفعل كذا، ويقول لأهل الكوفة: اخترتكم على أهل البصرة وظننت أن عندكم ما أحب من الطاعة والنصرة، فقلت لابن عباس هؤلاء أشد شوكة، وهم أزالوا كسرى عن ملكه، فلم تكونوا كما ظننت. وخطبهم مرة فقال:
ليتني لم أرَكُم ولمْ أعرفْكُم معرفةً واللّه جرّت ندماً، وملأتم قلبي غيظاً، وجرّعتموني بكأس التهمام أنفاساً.
ويقول في بعض أقواله: ندمت على كذا، ويقول: إني عثرت عثرةً لا أجتبر سوف أكيس بعدها أو أستمر وأجمع الرأي الشتيت المنتشر وقد قال في الجد بأقوال مختلفة، ورجع من قول إلى قول، وكذا في الخلية والبرية، وفي أمهات الأولاد، وفي غير ذلك، وهو في الاجتهاد وفي الرجوع من قول إلى قول أشهر من أبي بكر، وعمر، وعثمان، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وكان يستقضي ويستعمل من يخالفه في الاجتهاد والرأي، ويحكم بغير قوله، مثل ابن عباس، وشريح بن الحارث، وأبي مسعود البدري، وأبي موسى الأشعري، وغيرهم. وكان الناس في سلطانه وفي بلدان ملكه وحيث ينفذ أمره، والبلدان التي هو فيها وفيها عماله، يفتي الناس فيها بالرأي والاجتهاد، بما يخالف اجتهاده ورأيه، مثل من كان بالكوفة من أصحاب عبد اللّه بن مسعود، ومن بالمدينة من زيد بن ثابت وغيره، ومن بالبصرة، ويعلم بذلك ويجاريهم فيه، فلا ينكره ولا يردّه، بل يسوغهم، ويصوب الأحياء ويترحم على الموتى، حين حكم أهل الكوفة في إبل ابني عم، أحدهما أخ لأم، فجعلوا أهل الكوفة المال كله للأخ للأم، فقال لهم: لم فعلتم ذلك؟ قالوا: هكذا فعل ابن مسعود، فقال: يرحم اللّه أبا عبد الرحمن، وكان مذهبه غير هذا، إلى ما لا يحصى كثرة.
ولقد قالت العلماء: العلم بأن النبيعليهما السلام ما نصّ على عليّ ولا استخلفه، ولا كان علي يدّعي النصّ والوصية والعصمة، أقوى من العلم بأنه ما نصّ على عمار، ولا على بلال، ولا على أبي ذرّ، لأن عليا قد كان في زمن أبي بكر وعمر وعثمان، وبقي بعدهم خليفة وسلطانا معه مائة ألف سيف تطيعه وتنقاد لأمره، وقد خوصم وخولف ونوزع، وجادل وخاصم أصحابه وأهله عنه، فما احتج قط بنص ولا وصية ولا عصمة مع حاجته إلى ذلك، ولا احتج له أحد من أولئك.
ومن عجيب أمر هؤلاء الإمامية أنهم يقولون: إن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قد كان عرّفه عدوّه ووليّه وما يجري عليه بعده، وأنه خرج إلى صفين وهو يعلم أنه لا يظفر بمعاوية، وأن معاوية سيرفع المصاحف، وينقض تدبيره، ويفسد عليه أصحابه، ويرده كئيبا حزينا، وأن عمرو بن العاص سيغلب صاحبه أبا موسى إذا أنفذه للحكومة، ويجعل ذلك حجة لأهل الشام. وأن عبد الرحمن ابن ملجم سيقتله في تلك الساعة، وأنه خرج إليه وهو يعلم أنه ينتظره ليقتله، وأن الحسينعليهما السلام، وجه بابن عمه مسلم بن عقيل إلى أهل الكوفة ليأخذ البيعة عليهم وهو يعلم أنه لا يتم له أمر، وأن عدوه سيقتله، وأن أهل الكوفة لما كاتبوه بالمصير إليهم وضمنوا له النصرة فقبل كتبهم وقولهم وسار إليهم وهو يعلم أنهم لا يفون له، وأنه إذا صار إليهم ومن معه سيقتلونهم ويقتلون إخوته، ويحملون رأسه وذريته إلى الشام، وأن أمير المؤمنين استعمل مصقلة بن هبيرة الشيباني وائتمنه على كورة أردشير حرة وعلى مال بني ناحية، وهو يعلم أنه سيغدر به ويخونه ويصير إلى معاوية، وأنه استعمل زياد بن سمية الثقفي على كورة اصطخر، وهو يعرف عداوته له، وما يؤول إليه أمره من مصيره بعده إلى معاوية، وقتله لشيعته، وإظهاره للعنه، وقتل ابنه عبيد اللّه للحسين عليه السلام، وكذا خالد بن المعمر السدوسي وسائر من خانه من عماله، الذين استعملهم واختارهم فخانوه وغدروا به، وأنه استعمل قيس ابن سعد على مصر، ثم أظهر تهمته وتقصيره والخوف من خيانته فعزله، مع شهامته وكفايته وأمانته وثقل وطأته على عدوه معاوية، واستعمل على مصر بدلا منه محمد بن أبي بكر الصديق، وهو يعلم أنه يقصر عن منزلة قيس، وأن معاوية سيقتله ويقتل أصحابه، وأنه بعد قتل محمد أنفذ الأشتر واليا على مصر، وهو يعلم أن صاحب القلزم سيقتله، وأنه والأئمة من ولده كانوا يعلمون ضمائر الخصوم الذين يرتفعون إليهم، ومن المحق منهم ومن المبطل، ويعرفون ضمائر الشهود والذين يشهدون عندهم، ومن هو الكاذب من الصادق.
والعلم رحمك اللّه إنما يحتاج إليه لاجتلاب المنافع ودفع المضار، فهذا موضع الانتفاع بتقدمة المعرفة، ولو لا ذلك لكان طلب العلم جهلا، والرغبة في المعرفة عناء، واللّه عز وجل يقول لنبيّه: قل يا محمد: ﴿ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ﴾ ويقول له في قوم كانوا يظهرون له الحيل فيظن ذلك بهم: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ﴾ وقال له في آخرين ظن بهم هذا الظنّ: ﴿ وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾ إلى قوله: ﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ﴾ وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم : ( إنكم لتختصمون إليّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أحكم بالظاهر واللّه هو المتولي للسرائر، فمن قضيت له بشي ء بغير حق فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار) وهذا باب لا يتكلف نقضه على الخصوم، وإنما ذكرناه على طريق التعجب، فإنّ من عرف أمير المؤمنين وولده رضي اللّه عنهم، يعلم أنهم كانوا لا يعلمون ما يدعيه هؤلاء عليهم، وأنهم كانوا يعملون فيها بظنونهم.
ومما يزيدك في العجب قولهم: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأمير المؤمنين، والذين يدّعون لهم الإمامة من ولده يعرفون اللغة الفارسية والرومية والهندية والقبطية والتركية والديلمية وسائر اللغات ويتكلمون بها، ولا يجوز أن يكون في أهل هذه اللغات أحد أعلم بها منهم؛ قالوا: ويجب أن يعلموا ذلك بدليل العقل، ولو لم يعلموا ذلك لكان نقصا فيهم وهم حجج اللّه على خلقه، والإمام لا يترجم له ولا يحتاج إلى ترجمان إذا حضره الخصوم، ولا بد من أن يكون عالما بجميع اللغات؛ قالوا ويجب أن يعلم جميع الأقلام، ويكتب بها، ويقرأ ما كتب بها، ويخط بالأقلام كلها، ولا يجوز أن يكون أحد أكتب منهم فقد سبوهم وانتقصوهم، وأنهم قد كتبوا الكتب كلها، وكتبوا بالأقلام كلها بالخطوط التي لا يكون أحسن منها، ونطقوا باللغات كلها، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد كان قرأ صحف إبراهيم، وما نزل على آدم، ونوح، وموسى، وداود، وعيسى، وجميع الأنبياء، بتلك الألسن، وكتبها بتلك الأقلام.
وأنت تجده صلى الله عليه وآله وسلم يحتج في نبوته على عدوه حين تلا عليهم ما في كتبهم بأنه من قبل اللّه وعلمه، وأنه ما تلا قبله كتابا ولا خطه بيمينه إذا لارتاب المبطلون([44]) .
ويدلّ بذلك، ويستطيل على الخصوم ويقول: إن اللّه قد نعته ووصفه للأنبياء قبله بأنه النبي الأمي، وهؤلاء يقولون لم يكن الأمر كذلك، وزعموا أنهم يمدحونه بهذا القول وفيه تكذيبه. فتأمل ما يجلب هؤلاء على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وعلى دينه من المكاره وهم يتجاوزون هذا إلى أن هؤلاء القوم يعلمون ما تريده السباع بعوائها، وكذا جميع الطير والبهائم، وهذا لهم مسطور، وأنت فقد علمت بدليل عقلك أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ما قرأ كتابا قط ولا خطه بيمينه كما تقدم ذلك، وبأي شي ء تعلم أن أبا بكر وعمر وعثمان والعباس وعبد الرحمن أمثالهم ما كانوا يكتبون بهذه الأقلام ولا يحسنون هذه اللغات إلا والعلم بأن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين والحسن والحسين رضي اللّه عنهم ما كانوا يحسنون ذلك أقوى وأظهر.
وأن هؤلاء ما كانوا يكتبون إلا بالعربية، وأن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ما كان يكتب لا بالعربية ولا بغيرها من الأقلام، وهم يدّعون على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وعلى هؤلاء الذين يدعون إمامتهم أنهم كانوا يحسنون الصنائع كلها، وأنهم أعلم الناس بها، من النجارة والخياطة والصباغة، وكل صناعة في الدنيا صغرت أو كبرت، ارتفعت أو اتضعت، وأن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم كان أعلم بالشعر من كل شاعر، وقد علم أهل المعرفة بعقولهم أنه ما كان يحسن شيئا من ذلك البتة، ولا يروي لغيره شيئا منه البتة، وأنه كان لا يقيم بيتا واحدا يرويه لغيره كما يرويه العرب والعجم، والفصيح والأعجم، ولا يستقيم له، ولا يجري على لسانه، واللّه عز وجل يقول: ﴿ وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ﴾ فمن هذا الجنس مدائحهم لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته، وهو الغاية في تكذيبه والطعن في نبوته.
ومما كان ينبغي أن يقدم قبل هذا، ما كان من عهد عمر حين جرحه فيروز النصرانيّ، فإنه ورد على عليّ والمهاجرين والأنصار وجميع المسلمين من ذلك ما ذهلت له عقولهم أسفا عليه؛ فانه قد كان دوّخ ملوك الفرس والروم وأذلهم، وغلب على ممالكهم، وألجأهم إلى الهرب، وبلغت خيوله افريقية وأوائل خراسان وأوائل الهند، فذلّ الشرك كله به، وغزا الإسلام بمكانه وسلطانه. فخاف المسلمون أن تكرّ ملوك الشرك عليهم بفقده، فاجتمعوا وانفردوا عنه مفكرين، وأملوا أن يبتدئ ويستخلف عليهم. فدخل عليه أهل الأمصار فقالوا له: أوصنا يا أمير المؤمنين، قال: أوصيكم بالقرآن فتمسكوا به، فيه هدى اللّه نبيّكم وهداكم من بعده، وفيه نجاتكم، قالوا:
أوصنا، قال: أوصيكم بالمهاجرين والأنصار وذكر فضلهم، قالوا: أوصنا، قال: أوصيكم بالعرب فإنهم مادة الإسلام، قالوا: أوصنا، قال: أوصيكم بذمتكم فإنهم ذمة نبيكم وقوت عيالكم، قالوا: أوصنا، قال: قوموا عني وإلا قمت عنكم. فلما رآه اصطحاب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم لا يذكر أحدا للخلافة دخلوا عليه، وابتدأ ابن عباس يسأله الاستخلاف؛ وافتتح الكلام، فقال:
قد توليتها حياتي واجتهدت لكم رأيي ونصحت لكم جهدي ومنعت نفسي وأهلي، وأرجو أن أنجو منها كفافاً لا عليّ ولا لي؛ فأثنوا، وابتدأ علي يبشره عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالجنة، وقال له: وأشار إلى ابن عباس يشهد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمثل ما شهدت، وشيع غيرهما ذلك وسألوه الاستخلاف، فقال: ما أحب أن أتحملها حياً وميتاً، قالوا: بل تفعل، ولك في ذلك الأجر؛ انظر يا أمير المؤمنين لأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: دلوني على من أستخلف، فقال له المغيرة: أنا أدلك عليه: عبد الله بن عمر، فقال له عمر: والله ما أردت بذلك اللّه، فقال له ابن عباس: يا أمير المؤمنين، وما يمنعك من إخوانك، وأشار إلى عليّ وعثمان وعبد الرحمن وتلك الجماعة، فقال عمر:
إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني- يعني أن رسول اللّه ما استخلف وأن أبا بكر استخلف- ثم قال:
هي في واحد من هؤلاء الستة الذين شهد لهم رسول اللّه بالجنة وقبض وهو عنهم راض: علي وعثمان ابنا عبد مناف، وسعد وعبد الرحمن خالا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، والزبير حواريّ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، وطلحة وقاية رسول اللّه. ثم اقبل على عمار ومقداد في أن يكونا في ثلاثين من المهاجرين، وقال لأبي طلحة الأنصاري: إن اللّه لم يزل يعزّ هذا الإسلام بقومك فكن في خمسين منهم، فإذا متّ فليصلّ عليّ صهيب، وليصلّ بالناس إلى أن يقيموا خليفة، وكونوا عليهم رقباء لئلا يستبدّ مستبد، وقال: لا يأتي اليوم الثالث إلا وقد أقمتم أحدا من هؤلاء الستة خليفة، وجدّوا في أمركم، وجاهدوا عدوكم.
فلما قبض أنفذوا وصيته كما رسم، فكم في هذا من شاهد على بطلان دعاوي هؤلاء القوم، وما حاجة الصحابة أن يختار لهم عمر خليفة وقد فرغ لهم من ذلك رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وهو قائم العين نصب أعينهم. وأعجب من هذا قول عمر وهم يسمعون أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ما استخلف، وأعجب منه أن الذي يدّعون أن رسول اللّه استخلفه معهم في أن رسول اللّه ما استخلف، وأن الخلافة بالاختيار لا بالنص، وأنها في واحد منهم وفيهم الهاشمي والأموي والزهري والتيمي والاسديّ، ففيمن كانت منهم كان صوابا، لا ينكر ذلك احد من المسلمين. وأعجب من هذا قوله لعلي: إن ولوك فاعدل ولا تحمل بني هاشم على رقاب الناس، فكيف لم يقل له: ما أحتاج إلى توليتهم لي؛ ولانّي رسول اللّه واختارني وشهد بعصمتي، وكيف تقول هذا لي؛ وكيف تقول إن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ما استخلف؟)([45])
المبحث الثاني
علي بن أبي طالب لم يحتج على مخالفيه إلاّ بالإختيار
قال قاضي القضاة عبدالجبار الهمذاني المعتزلي:
( وقد دعا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وفرض على الناس طاعته، وابتلى بمن خالفه، وبمن قعد عنه، وبمن ضلله، وبمن إرتد عنه من أصحابه؛ فما إحتج على مخالفيه إلاّ بالإختيار، وإن طاعته قد وجبت لأنه قد بايعه الذين بايعوا أبا بكر، وعمر، وعثمان. وقد إحتج لنفسه واحتج عنه ولده وشيعته وأهل بيته، وكاتب معاوية وراسله، ثم صار إلى الشام، واحتج على أهل الشام وأهل البصرة ,أهل النهروان هو وأصحابه، فما إحتجوا في مكاتبة ولا في مراسلة ولا في مشافهة، إلاّ بأنه بايع الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان، وأنه لا تحل مخالفته كما لم يحل مخالفتهم، ولا يذكرون في إحتجاجهم كما يذكر هؤلاء من الآيات ولا من الأخبار؛ ولا قوله :( من كنت مولاه)، ولا : ( أنت مني بمنزلة هارون من موسى)، مما يحتجون به. فلو كانوا هؤلاء شيعته رضي الله عنهم لسلكوا سبيله، واقتفوا أثره؛ فقد بلي من هذا الأمر، ومن خلاف الناس عليه، ومن رجوع أصحابه عنه، ومن إكفارهم له، ما لم يبتل به أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا أحد من أهل الشورى والبدريين. وقد بالغ في إقامة الحجة عليهم، وكلهم من أهل القبلة وأهل الصلاة، وإلى القرآن يرجعون، وبأحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحتجون، والحجة من قبله يطلبون؛ فما قال قط ولا ولده ولا من يحتج عنه من أهل بيته: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قال فيّ : ( من كنت مولاه فعلي مولاه ) ولا ( أنت مني بمنزلة هارون من موسى)، وهذا نص منه على إستخلافي، وهذا شيء تأويله النص وباطنه الإستخلاف.
ولا قال هو ولا أحد من أصحابه ومن يحتج له: لمَ تكفرونني وتضللوني والنبي قد إستخلفني ونصّ عليَّ وشهد بعصمتي، وإني لا أخطئ ولا أزل ولا أضل، ولا يقم منّي معصية لله. وهو رضي الله عنهم أعلم بدين الله وبالحجة، وأفقه وأبصر وأشجع، فلو كان لذلك أدنى إشارة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأحتج بها وبيّنها قبلوا منه أو لم يقبلوا. وفي هذا أتم بيان وأوضح حجة).([46] )
المبحث الثالث
رفض علي رضي الله عنهم ما عرض عليه من المبايعة بالإمارة بعد وفاة رسول الله
قال القاضي عبدالجبار:
( من هذا أن العباس وبني هاشم بلغهم قول الأنصار وما عزموا عليه، فما أنكروا قولهم أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قبض ولم يستخلف، وان الإمامة تجب بالاختيار، بل مدحهم العباس وأثنى عليهم وأقبل على عليّ وقال له: قد كنت قلت لك ورسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم حيّ عليل انطلق بنا إليه نسأله فيمن يكون هذا الأمر فان كان فينا لم تنازع فلم تفعل، والآن فامدد يدك أبايعك فيقال: هذا عم رسول اللّه بايع ابن عم رسول اللّه فلا يختلف عليك اثنان.
فتأمل رحمك اللّه هذا البيان وهذا الإفصاح من الجميع، أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ما نص ولا استخلف، فكيف لم يقل علي لعمه: كيف تقول إنك لو بايعتني ما اختلف عليّ اثنان ورسول اللّه قد عقد لي وجعلني الحجة وقد خالفوني.
وإنما كان قوله صلى الله عليه وآله وسلم للعباس لما قال له أمدد يدك: هذا أمر المسلمين، وما كنت لأفتات عليهم بأمر، فإن أرادوني فقد عرفوا مكاني.
فقيل له: أقبل فإنهم لا يخالفونك ولا يكرهونك، وقال له أبو سفيان:
اقبل يا أبا الحسن ما يقول أبو الفضل وأنا أبايعك، فقال له العباس: اقبل فهذا شيخ بني عبد مناف يبايعك أيضا، فقال أبو سفيان عليّ بنو عبد مناف كلها، بل عليّ قريش أن تبايع ولا تخالف، فقال له العباس: افعل، فقال: لا يا عم إلا عن ملأ من المسلمين.
فانظر كيف بين رضي الله عنهم أمر الإمامة للمسلمين وباختيارهم، وانه لا يبادر إلى القبول لئلا يظن به الحرص على الإمارة، فقال له قائل من بني هاشم: فأخبر الناس أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم جعلها في بني هاشم، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: واللّه لئن كنت أول من آمن به فلا أكون أول من كذب عليه.
ومقام آخر، وهو أن العباس خرج إلى أبي بكر وهو في المسجد فأخبره بما بلغه عن الأنصار، وسأله أن يمضي إليهم ويبين لهم، لعلم العباس بعظم قدر أبي بكر في المهاجرين والأنصار. فنهض أبو بكر وتبعه عمرو وأبو عبيدة، وصاروا إلى الأنصار، فأنكر عليهم أبو بكر ما عزموا عليه، فعجبوا من إنكاره وقالوا: لم تنكر أن تكون الإمارة فينا، فقد مضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما استخلف، وقد قال فينا كذا، ومدحنا بكذا، فقال أبو بكر:
صدقتم، وقد قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: ولو سلك الناس شعبا وواديا وسلكت الأنصار شعبا وواديا لسلكت شعب الأنصار وواديهم؛ ثم قال أبو بكر ولكن هذا الأمر ينبغي أن يكون في الحيّ من المهاجرين من قريش، فلا تنفسوا عليهم الإمارة: أسلمنا قبلكم، وقدمنا الله في القرآن عليكم، وما كان في قريش نفاق.
فقال الحباب بن المنذر بن الجموح: فإن أبيتم فمنا أمير، ومنكم أمير. ثم اقبل على قومه من الأنصار فقال لهم: البلاد بلادكم، والبادية باديتكم، وأنتم شعب الإسلام الذي لجأ إليه، وإنما عزّ الإسلام بأسيافكم، فإن أبى هؤلاء أن يكون منا أمير ومنهم أمير فأخرجوهم من بلادكم، ثم اقبل على المهاجرين وقال: إن شئتم أعدناها جذعة، أنا عذيقها المرجّب وجذيلها المحكك([47] ) فقال أبو عبيدة: اللّه اللّه معشر الأنصار، إنكم أول من نصر وآزر فلا تكونوا أول من بدل وغير، وقال أبو بكر لسعد بن عبادة: قد علمت يا سعد إن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الناس تبع لقريش، فخيار الناس تبع لخيارهم، وشرارهم تبع لشرارهم»([48] ) قال: صدقت، فقال بشير بن سعد الأنصاري: واللّه لئن كنّا أولي فضيلة في جهاد عدونا فما أردنا بذلك إلا رضاء ربنا والكدح لأنفسنا، وما ينبغي أن نستطيل على الناس، فالمنة للّه ورسوله علينا. ورجع الأنصار عما كانوا عليه، وأقبلوا على أبي بكر وقالوا: من ترضى لنا يا أبا بكر، فقال: رضيت لكم عمر أو أبا عبيدة، إن رسول اللّه أتاه قوم فقالوا: ابعث معنا أمينا حق أمين فبعث معهم أبا عبيدة، وقد قال في عمر كذا وكذا، فقال عمر: أما أنا فلأن أضجع فأذبح في غير مأثم أحب إليّ أن أتقدم قوما فيهم أبو بكر، ولكن أنت يا أبا عبيدة إن شئت بايعتك، فقال أبو عبيدة لعمر: ما سمعت منك فهة([49] ) في الإسلام قبلها، أتقول هذا لي وفيكم الصديق وثاني اثنين إذ هما في الغار، وقد أمّنا حياة رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم.
فقال عمر: معشر الأنصار، قد علمتم أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قدم أبا بكر وأقامه مقامه في الصلاة بالناس، فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم على من قدمه رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، قالوا: معاذ اللّه أن نتقدم أبا بكر، فقال بشير بن سعد الأنصاري ثم الخزرجي: قوموا إلى خليفة رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فبايعوه، فانثالوا على أبي بكر ومدّوا يده فقبضها وقال: بايعوا عمر أو أبا عبيدة، ودفعهم عن نفسه بجهده، وقبض يده فمدها عمر، فقال له أبو بكر: أنت أنت يا عمر، أنت أقوى وأشد، فقال عمر: شدتي لك أنت أحق، أنت خليفة رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، رضيك لنا؛ فما زالوا به حتى بايعوه.
فانظر إلى طول هذه المراجعة بين المهاجرين والأنصار وهم يطلبون ويفتشون ما يجوز في دين رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، ويرجعون إلى أفعاله ووصاياه، ويبتغون مرضاته، هل تجد أحدا منهم يذكر عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم نصا على رجل بعينه أو ما يشبه النصّ أو ما تأويله النص من كتاب اللّه أو من حديث عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، والعهد قريب وهو يوم موته، ولم يدفن بعد، وهذا موضع الحاجة إلى ذكر ذلك؛ والمناظرة والمباحثة تذكّر بالأمور البعيدة وتخرج الغوامض فكيف بالأمر الواضح مع العهد القريب؟ وما أراد الأنصار بالبدار إلى إقامة أمير يكون على الناس إلا اللّه، وإلا إحياء الإسلام وقمع أعداء رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، لينضبط الأمر ولا ينشر([50] )؛ فقد كان معهم وحولهم اليهود وقبائل العرب من النصارى، وقد كانوا راسلوا ملوك الروم وأطمعوهم في الإسلام، ومسيلمة مقيم على حربهم وكذا طليحة، وقد ارتد من ارتدّ، فكان الصواب في المبادرة إلى إقامة أمير، فلما قيل لهم: إن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قد قال: الأئمة من قريش سمعوا وأطاعوا، وقصدوا إلى أفضل قريش في أنفسهم فعقدوا له وقاتلوا بين يديه كما كانوا يقاتلون بين يدي رسول اللّه، وتفانوا في طاعته؛ ولو أرادوا الملك والدنيا لما أطاعهم المهاجرون ولا غيرهم، فإن البلاد بلادهم، والبادية باديتهم، والبأس والنجدة والكثرة لهم وفيهم، وإنما المهاجرون ضيفانهم ونزال عليهم، وبهم عزّوا، وبهم صار رسول اللّه صلّى صلى الله عليه وآله وسلم في عساكر وجماعات، وبهم غزا العدو وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم وهو مقيم بمكة منذ دعا إلى النبوة خمسة عشر سنة يعرض نفسه في المواسم على قبائل العرب، ويتلو القرآن، ويدعو إلى اللّه؛ فسمعته قبائل الأوس والخزرج، وأصغوا إلى دعوته، وأجابوه إلى معاداة ملوك الأمم وجبابرة الأرض في طاعته، وأن ينفقوا أموالهم، ويسفكوا دماءهم في نصرة دينه، وأن يطيعوه حيا وميتا. فلما أجابوه إلى ذلك، أمر أصحابه بالهجرة إليهم، فقبلوهم وأظهروا الإسلام في المدينة وفي قبائلهم وبواديهم، فهاجروا إليهم فوفوا بجميع ذلك، وكان باطنهم في الإيمان كظاهرهم، فلهذا أسماهم اللّه الأنصار وكذا المهاجرون، ولهذا قال اللّه: ﴿ لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ، يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً، وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ فأخبر عزّ وجل عن صحة نياتهم وصدق ضمائرهم، وشهد لهم بالصدق، ثم ذكر الأنصار وقال: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا، وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ، وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، لأن الأنصار كانوا بالمدينة قبل المهاجرين، فلما جاءهم المهاجرون أحباب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم آثروهم على أنفسهم بمنازلهم، وشاطروهم أموالهم بطيب من أنفسهم، فشهد لهم بالفلاح، وفرض على من جاء من بعدهم مولاتهم والاستغفار لهم فقال: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ (الحشر: 10) ، وأمرهم بالتعوذ من بغضهم وعداوتهم، فهؤلاء الذين قاموا بدين رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بعده، وهم الذين اختاروا أبا بكر، والقرآن مملوء بمدحهم والثناء عليهم، وأنت تحفظه؛ فارجع إلى ما في سورة بعد سورة من ذلك وتدبره، فذكر جميعه يطول ولا يحتمله هذا الموضع.
فهم لما بايعوا أبا بكر سكنت نفوسهم، وباتوا وكأن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يمت ولم يفقد من بينهم، فهذا الذي قصدوا بالبدار، وهم كانوا أعلم بما يباشرونه ويقولونه، وقد علموا أنهم قد وتروا الأمم كلها في طاعة رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم؛ فقد خلفهم ولا أمير عليهم، فخافوا أن يبيتوا وقد فقدوا نبيهم وليس عليهم أمير فينشر أمرهم، فلشدة اهتمام هؤلاء بحراسة الإسلام بادروا إلى من يعقدون له، وإنما ذكرت لك هذا لتعرف الحال فإن من لا يعلم ومن همه الطعن في الإسلام يدعي عليهم أنهم إنما فعلوا ذلك حبا للدنيا ولسرورهم بموت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، ولاغتباطهم بالراحة.
وأنت تجدهم وقد شهدت أفعالهم بأنهم بعد موته اشد حبا له، وأشد بصيرة في دينه.
ثم إن أبا بكر عاد من السقيفة وقام خطيبا، وأخبر المهاجرين بما كان وقال: واللّه ما أردت الإمارة، ولا نويتها، ولا تمنينها في يوم ولا ليلة، ولا رغبت فيها، ولقد حرصت أن اجعلها في عمر فما تركت، وإنما قبلتها خشية الفتنة، ولأنه لم يكن عليّ أمير، وقد رجعت أموركم إليكم فأقيلوني وولوا من شئتم.
فان قال: إنهم لم يعارضوا أبا بكر خوفا وتقية، فقد بيّنا غير مرة إن سلطان هؤلاء الخلفاء الأربعة لم يكن سلطانا يتقيه محق.
وقيل: إن أبا سفيان لقي علي بن أبي طالب بعد البيعة لأبي بكر فقال له: يا أبا الحسن، ما بال هذا الأمر في اقل حيّ من قريش، إنما هي بنو عبد مناف، إن شئت ملأتها على أبي بكر خيلا ورجلا، فقال له علي: ما أريد ذلك، إنا رأينا أبا بكر لها أهلا، واني لأعد بيعتي له من جهادي مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم. ثم أتى أبو سفيان العباس وبني هاشم فقال: ما لنا ولأبي بكر، إنما هي بنو عبد مناف، يا بني عبد مناف ذبوا عن مجدكم وانصحوا عن سؤددكم، ولا تخلعوا تاج الكرامة إذ ألبسكم اللّه فضلها، إنها عقب نبوة، من قصر عنها اتبع، ومن ذبّ عنها اُتبع؛ فقال العباس: إن الإسلام قيد الفتك، فأمهل نراجع الفكر، فإن يكن لنا من الأمر مخرج نبسط أكفا للجد لا نقبضها أو نبلغ المدى، وإن تكن الأخرى فلا لقلة في العدد ولا وهن في الأيد. فأنكر علي قول أبي سفيان، ونهى بني هاشم عن الخلاف، وقال لهم: عرجوا عن طريق المنافرة وحطوا تيجان المفاخرة. وقال لأبي سفيان: يا أبا سفيان، إن المسلمين قوم نصحة وإن تباعدت أنسابهم، وان المنافقين قوم غششة وان تقاربت أنسابهم، يا أبا سفيان، طالما عاديت الإسلام وأهله فلم يضره ذلك شيئا، إنا وجدنا أبا بكر لها أهلا، ولو لم نره أهلا لما وليناه.
وقد ذكر من هذا أمير المؤمنين علي رضي الله عنهم بعد مضي عثمان في رسالته إلى معاوية إذ يقول له في فصل منها: وقد كان أبوك أتاني حين وليّ أبو بكر رحمه اللّه الناس، فقال أنت أحق بهذا الأمر بعد محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهلم أبايعك وأنا بذلك على من خالفك، فكرهنا ذلك مخافة الفرقة، فكان أبوك اعرف بحقنا منك، فإن تعرف منه ما كان يعرف تصب رشدك، وإلا فسيغنى اللّه عنك.
وقد ذكر معاوية هذا المعنى لابن عباس وبني هاشم حين اخذ الأمر من الحسن، فقالوا له: اغتصبت وأخذت ما ليس لك، فقال لهم: إن كان أمر الخلافة يستحق بالقرابة دون الرضا والإجماع فما منع العباس منها وهو عم رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وقد ضمن له أبو سفيان بني عبد مناف؟ فكان جوابهم إن ذاك أمر رضيه المهاجرون والأنصار واجمع عليه المسلمون، وأنت فما رضيناك.
وما كنّا في صحة إمامة أبي بكر، وإنما كنّا في أن الصحابة في كل زمان وأوان يخوضون فيمن يصلح للإمامة ولا يذكرون عهدا من رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في إنسان بعينه مع حاجتهم إلى ذلك، بل يجمعون على العمل بالاختيار، فعرض لنا ما كان بين بني عبد مناف، فذكرنا قول بني هاشم، وان أبا سفيان أحب أن تكون الخلافة في بني هاشم لأنهم أهله وأقاربه من بني عبد مناف، ولأن السؤدد والرئاسة كانت فيهم قبل الإسلام.
ولهذا قال خالد بن سعيد بن العاص عامل رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم على اليمن وقد قدم بعد وفاته وقد بايع الناس أبا بكر، فعجب من كون الخلافة في أبي بكر دون العباس أو علي أو عثمان فهؤلاء أعمام رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وبنو أعمامه، فقال لعثمان وعلي وقد أتياه ليسلما عليه حين قدم من سفره: أرضيتم بني عبد مناف أن يلي أمركم بنو تيم، فقال علي: رضينا، فقال خالد: انتم الشجر الطوال ذوات الظلال فإذا رضيتم رضيناه.
فولاية أبي بكر، وتقدمه على أهل رسول اللّه وأعمامه وبني أعمامه وهم كثرة وفي عزة ومنعة وفيهم اليسار وليس لأبي بكر شيء من ذلك من العجائب، ولهذا قال أبو قحافة وقد جال الناس جولة وهو بمكة: ما هذا؟
قالوا: مات رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فما صنع الناس بعده قالوا: أقاموا ابنك مقامه، قال: أفرضيت بنو عبد مناف؟ قالوا: نعم، قال: أفرضيت بنو المغيرة؟ فقالوا: نعم، قال: ودانت لرجل من تيم؟ قالوا: نعم، قال: فلا مانع لما أعطى اللّه. فعجب أبو قحافة من تقدم ابنه والسيّادة والرئاسة إنما كانت في بني عبد مناف وبني المغيرة من بني مخزوم دون بني تيم، فلما قدّم المهاجرون والأنصار ومن كان على دين رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ابنه أبا بكر، علم أن ذلك الإسلام ومن قبل اللّه، وان ابنه قد كان أولى بالحسد والإبعاد، ولكن القوم رجعوا في توليته إلى الدين والإسلام دون الأحساب والأنساب.
ولما بلغ أهل اليمن والبحرين وعمان قالوا لعمال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: هذا الذي بايعه الناس بعد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ابنه أو أخوه؟ فقيل لهم: لا، قالوا: فأقرب الناس منه؟ قيل: لا، قالوا: فما شأنهم؟ قيل: اختاروا أخيرهم فأمّروه عليهم، قالوا: لن يزالوا بخير ما صنعوا هذا.
فتأمل رحمك اللّه حال القوم لتعرف حقيقتها وتعلم أنها بالضد مما قاله هؤلاء، فقد طال العهد وقل التأمل(.([51])
وأضاف القاضي قائلاً:
( قال أبو القاسم البلخي في كتابه الذي نقض به اعتراض ابن الراوندي على كلام أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ في أن القرآن سليم من الزيادة والنقصان: إن قول أمير المؤمنين: ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر قد جاء مجيئاً لا ينكره من له في العلم نصيب، وذكر جماعة ممن رووا فضلهم ونبلهم وكثرتهم وجلالتهم . .
ثم ذكر أبو القاسم رحمة اللّه عليه أن شريك بن عبد اللّه( توفي سنة 177هـ) كان من كبار الشيعة، وكان يقول: خير هذه الأمة أبو بكر وعمر وهما خير من عليّ، ولو قلت غير هذا ما كنت من شيعة علي، لأنه قد قام على هذه الأعواد فقال:
ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر، فنكذبه، واللّه ما كان كذابا)([52]).
المبحث الرابع
لم يكن سلطان أبي بكر وعمر سلطانا يخاف فيه محق، وقد عارضهما المسلمون في أمور كثيرة
لم يكن سلطان الخلفاء الراشدين سلطاناً ديكتاتورياً، مصادراً لحريات المسلمين، ولا مكمماً لأفواههم، فكان العبد والمرأة والطفل يقول الحق في وجه الخليفة، ولا يخافه. ولو أردنا أن نحصي قصصاً من ذلك لطال المقام بنا، لأنها كثيرة خارجة عن الحصر.
ولكن الشيعة يصورونهم للناس أكثر بطشاً من فرعون الذي طغى وتجبر.
والذي يحصي ما في كتبهم من طعن ولعن على الخلفاء وعلى الصحابة، يدرك أنهم يحقدون على الصحابة أكثر من حقدهم على المشركين والكفار. كل ذلك بسبب الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ويا ليتهم جنوا شيئاً منها لهم أولأولادهم.
ومهما يكن الأمر، فإننا سنذكر من حالهم مع الرعية ما فيها معتبر لمن كان له ذرة من العدل والإنصاف:
المسلمون يعارضون أبا بكر: لم يكن سلطان أبي بكر وعمر وعثمان وعلي سلطاناً يخاف فيه محق ولو كانت إمرأة ذمية فضلاً عن غيرها، ألا ترى أن الأنصار قد تكلموا مع سعد بن عبادة والعباس وبني هاشم وأبي سفيان وبني عبد مناف في الإمامة بما أرادوا، وكلموا أبا بكر ونابذوه إلى أن أقام الحجة، وعارضوه في إنفاذ جيش أسامة بن زيد، وقالوا له: ليس علينا في هذا الوقت من الروم خوف، ولا حاجة بنا إلى غزوهم في هذا الوقت والعرب قد إرتدت وأحاطت بنا؛ فدع هذا الجيش يكون لنا، فقال لهم أبو بكر رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول والوحي ينزل عليه : إنفذوا جيش أسامة، ونقول نحن لا نرى ذلك برأينا! فقال له قوم: فأقم على جيشه أميراً مكانه أحسن منه، فإنه حدث وفي جيشه المشيخة والكهول. فقال: أيوليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنزعه أنا، لا يحل هذا. . وعارضوه حين شاروهم في استخلاف عمر، فقال له قوم: هو الخيرة بعدك غير أن فيه شدة وهو مهيب، وفي الناس الأرملة والضعيف وذو الحاجة، فاستعمل علينا من هو ألين منه كنفا؛ وكانت لهم معه في ذلك مطالبات ومراجعات وعمر يسمعها ويعلمها، إلى أن قال لهم أبو بكر: إنما أستعمله عليكم لأنه أقواكم عليكم وأنفعكم لكم وأردّكم عليكم، شهيدي اللّه: ما أردت إلا ذلك، وقد خاب من تزوّد من أعمالكم بظلم، إن عمر ليس ولدي ولا من أهلي، وإنما أردت الخير لكم؛ وإني قد رمقته فكنت إذا لنت في الشيء أراني فيه الشدة، وإذا أشددت أراني فيه اللين، و لو قد وليكم للان واشتد.
ثم قال: إن عمر لا يأنف من التعلم، فحين أقام الحجة سلموا ورضوا.
المسلمون يعارضون عمر: ومعارضتهم لعمر رضي الله عنهم في أمر السواد، وفي فتوح الشام، وفي تأمير الأمراء، وفي الفتوى والقضاء؛ حتى كان يعارضه في ذلك المرأة والبدوي فضلا عن المهاجرين مما هو معروف إلى أن يقيم الحجة أو يرجع إلى قول من معه الحجة.
المسلمون يعارضون عثمان: وعثمان رضي الله عنهم، فقد عارضوه في إتمام الصلاة بمنى، وفي الحمى، وفي الحكم بن أبي العاص، وفيمن ولاه من أهله، وأخذوه بإقامة الحدود عليهم، وبإقامة الحجة فيما يأتيه بما هو معلوم .
المسلمون يعارضون علي: وعليّ رضي الله عنهم قد عارضوه في تولية أقاربه وفي الحكم الذي أنفذه بما هو معلوم؛ حتى كان يجري على هؤلاء الخلفاء الأربعة من صغار رعيتهم في الفروع وفي صغار الأمور ما هو معروف.
فكيف يجوز أن يتوهم عاقل تدبر أمورهم وعرف سيرهم. أنه قد كان اقل من الناس فخافهم أن يذكر لهم الحق، أو ينطق بحضرتهم، أو يتوقى أن يذكر أن يذكر لهم عهدا من رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أو وصية لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ؛ هذا لا يظنه إلا أجهل الناس بهم وبأحوالهم، أو عاقل بقيس أحوالهم بأحوال من رأى وسمع من الجبابرة وولاة الجور.( فاعرف هذا. وإنما ألقى هذا إلى الإمامية فيما صنفوه لهم قوم من أعداء الأنبياء ادعوا التشيع وتستروا بالرفض، لينفروا الناس عمن شيد الإسلام وبناه ونصر الرسول في حياته وبعد موته، ليخرجهم من الإسلام من حيث لا يشعرون)([53] ).
وقد شهد أحد مراجعهم المعاصرـ أبو القاسم الخوئي، بأنه لا وجود للخوف في زمن الخلفاء، وهذا نص كلامه:
( إن الخوف في زمن الخلفاء، وسيطرة المسلمين، لم يمنع الكافر من أن يُظهر كفره، وإنكاره لدين الإسلام، وقد كان أهل الكتاب يعيشون بين المسلمين في جزيرة العرب وغيرها بأهنأ عيش وأكرم نعمة، وكان لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم).([54])
المبحث الخامس
علي بن أبي طالب كان عزيزاً في خلافة من تقدمه من الخلفاء
قال القاضي عبدالجبار:
( وعندنا أنه رضي الله عنهم كان في زمن أبي بكر والخلفاء قبله ممكنا غالبا قاهرا آمنا عزيزاً نافذ الأمر مسموع القول كما قد تقدم شرح ذلك لك، وبه وبإخوانه من المهاجرين والأنصار كانت خلافة من قبله وعزّ سلطانهم، فالعدة فيه وفي أبي عبيدة بن الجراح وفي سعد ومعاذ وعبد الرحمن وغيرهم من المهاجرين والأنصار، واللّه عز وجل لا يستخلف إلا المتقين ولا يمكن إلا لأوليائه وأحبائه وأهل طاعته، وليس لمن أسلم في عام الفتح، وفي هذا خبط، لأن هذه نزلت في عام الخندق وفي غزوة الأحزاب قبل فتح مكة، وأولئك من الطلقاء لا من المهاجرين ولا من الأنصار، وليس هذا بنصّ جليّ مكشوف في خلافة هؤلاء رضي اللّه عنهم، ولكنه شيء يعرف بالاستنباط والاستدلال والتدبر في هذه التلاوة، فلا يسوغ في تأويلها وتفسيرها إلا هذا.
وقد كان أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم حين ارتدت العرب بعد وفاته وكثر من خالفهم يستبشرون بظهور الإسلام وغلبة المسلمين بهذه الآية وقد تلاها أبو بكر الصديق عليهم في ذلك الزمان وقال لهم ما لعله قد تقدم لك شيء من ذكره، هذا شيء قد تقدم به الإجماع وسبق به الاتفاق قبل أن يخلق هشام بن الحكم الذي هو الأصل في الطعن على خلفاء رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار. ومع هذا فقد ذكر هشام بن الحكم أنه أدرك الشيعة وكلهم يتوالى أبا بكر وعمر وعثمان، ويقولون هؤلاء ما أنكروا فضل الوصيّ عليّ بن أبي طالب ولا دفعوه عن حقه، وأن الذين دفعوه عن حقه وأنكروا فضله هم المنافقون الذين كان القرآن يهتف بهم. قال هشام وهذا كله تلزيق وتلفيق دعاهم إليه هيبة أولئك القوم فما أقدموا على تهمتهم ولو عرفوهم لإتهموهم، ثم أخذ يذكر ما عنده من تهمتهم، فقد أقر بلسانه أنه لم يسبقه أحد إلى شتمهم ولعنهم، ولو لم يقر لكان العقل يشهد به ويدل عليه .
فتأمل رحمك اللّه الأمور، وأطل الفكر والتأمل وأصرّ على ذلك، لتعلم حقائق الأمور، فقد بليت في زمانك بمن يقول في الصحابة المكيين والمهاجرين والذين بنوا الإسلام وشيدوه أنهم ما اعتقدوا الإسلام قط ولا اتبعوا رسول صلى الله عليه وآله وسلم لبصيرة ولا لحجة ولا اعتقدوا نبوته ولا أضمروا محبته وتعظيمه وما اعتقدوا إلا تكذيبه ولا أضمروا إلا سقوطه واحتياله.
وهؤلاء قوم اتبعوه وهو وحيد فقير ذليل خائف مقهور مغلوب وأهل الأرض يد واحدة في عداوته وعداوة أتباعه، فخرجوا بإتباعه من الأمن إلى الخوف، ومن الغنى إلى الفقر، ومن العزّ إلى الذل ومن الكرامة إلى الهوان ومن الراحة إلى النصب، ومن الأوطان إلى الغربة. وزعم ملحدة زمانك أنهم فعلوا نفاقاً وأنهم كانوا منافقين فمن ينكر بعد هذا أعجوبة، أو ينفي عن الناس حماقة أو يحسن يأخذ ظنّا، وهل هذا إلا كقائل قال: إن محمدا نبيّ المسلمين كان ينافق قريشا والعرب تدافعهم وإن كان قد خرج معهم إلى تلك الأمور، وأنّ السحرة قد نافقوا فرعون وداهنوه في إتباعهم موسى وانصرافهم عنه ومكاشفتهم له حين قال لهم: ﴿ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ﴾ و﴿ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى . قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا. إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى ﴾.والأعجب من هذا، أنه صلى الله عليه وآله وسلم قد أوجب على العباد موالاة هؤلاء المهاجرين السابقين وفرض محبتهم وتعظيمهم وإجلالهم، وحرّم سوء الظن بهم إلا أن يظهر منهم كبيرة، كما أوجب معاداة اليهود والنصارى والمجوس وأمثالهم ومن سلك سبيلهم وفرض بغضهم إلا أن يظهر منهم الإيمان.
هذا معلوم من دينه صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته غير ما قد ضمنه اللّه كتابه من مدح المهاجرين والأنصار وملأ القرآن به، وهذا كله خلاف ما يدعيه هؤلاء الذين غرّهم من لقنهم هذا، فإنه كاد بهذا الصنيع للإسلام والمسلمين من حيث لا يشعرون.)([55])
وأضاف القاضي عبدالجبار في سياق آخر:
( والذي عند العلماء، أن علياً رضي الله عنهم كان في أيام هؤلاء أعز المؤمنين وأجلهم وأعلاهم، نافذ الأمر مسموع الغلب، مثلهم في سلطانه؛ وبه قام سلطان أبي بكر وبأمثاله من المؤمنين، وقد تولى لأبي بكر أتعاب المدينة، وتولى له أموال رسول اللّه، وسار معه إلى الربذة وإلى ذي القصة، وغزا معه، وأشار عليه بتلك الآراء، وردّه إلى المدينة وأطاعه حياته وبعد موته، ونفذ وصيته في عمر.
وكان رضي الله عنهم يضرب المثل لأصحابه، وأنه كان في سلطان أبي بكر وعمر أنفذ قولا، وأن أولئك كانوا أعرف بحقي منكم، وأني لو كنت الخليفة في زمانهم لكانت طاعتهم إلي أحسن، وكان يقول لعدوه مثل ذلك، ولقد كتب إلى معاوية يتمنى أولئك الذين مضوا من المهاجرين والأنصار فقال:
لو أن عندي يا ابن حرب جعفرا أو حمزة الليث الهمام الأزهرا
أو أن لي صدّيقها أو عمرا أو من أولاك السابقين معشرا
رأت قريش نجم ليلي ظهرا
والخصم في زمانك هذا يقول: ما أسلموا قط ولا لهم إسلام، وأنهم ما زالوا أعداء المسلمين، والذي يعرف أهل العلم والتحصيل أنهم كانوا خاصة رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وبطانته، وأمناءه وثقاته على نفسه وأهله ودينه، وأنه كان يحبهم ويودهم ويجلهم ويعزهم ويواليهم. وأنه قد فرض محبتهم وموالاتهم وأوجبها على الخلق أجمعين إلى يوم القيامة. والعلم بهذا قبل العلم بنبوته، وهو كالعلم بأن عقبة بن أبي معيط، والعاص بن وائل، والوليد بن المغيرة، والنضر ابن الحارث بن كلدة، وأبي بن خلف، وأمية بن خلف، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأمثالهم، كانوا أعداء رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ، وأنه قد فرض بغضهم والبراءة منهم إلى يوم القيامة. فما يحتاج في هذا إلى تلاوة آية ولا إلى رواية خبر، وإن كان القرآن مملوءا بذلك، والحديث مستفيضا به. فإن فعلت ذلك فمن طريق الزيادة في الحجة والمظاهرة بالبينة)([56]).
المبحث السادس
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كان مكاشفاً بالحق
قال القاضي عبدالجبار رحمه الله تعالى:
( قد وجدنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنهم مكاشفا بالحق في جميع أحواله، لا يخاف من احد من المخلوقين وان كان وحده والناس عليه؛ فإن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم خلّفه بمكة وهي إذ ذاك دار كفر فما خافهم ولا فارقهم مع وحدته وتفرده، وقد كاشف معاوية وهو في مائة ألف سيف، ولعنه بلسانه، وقنت عليه في صلاته، وضربه بسيفه، وبيّن له وإن علم انه لا يقبل، وقد كاشف الخوارج وبريء منهم وان علم أنهم لا يقبلون وهم كانوا أصحابه وبهم صال على عدوه واستطال، وأقام على مخالفتهم وإن فرقوا عنه أصحابه وإن قتلوه، فما قاربهم في كلمة، لأنهم قالوا له: إن تُبْتَ من الحكومة رجعنا لك كما كنّا وقاتلنا عدوك، وإن أبيت أقمنا على حربك وقاتلناك حتى نقتلك أو تقتلنا، فقال لهم: انتم دعوتموني إلى الحكومة، قالوا: صدقت فقد تبنا وما كان لنا أن ندعوك وما كان لك أن تجيبنا ولا تحكم الرجال في دين اللّه، فقال: بل كان لي أن احكم، فلو كان ذلك معصية لما أجبتكم إليه، ومن زعم أن الحكومة ضلال فهو أضل، ومن زعم أني ارجع عنها فقد كذب. فصبر رضي الله عنهم على ذلك ولم يقاربهم في لفظة تحتمل التأويل، لأنه لو قال أنا تائب إلى اللّه من كل ذنب وخطيئة وهو يعني غير الحكومة، لكان اللفظ يحتمل، ويتلافاهم ويردّهم ويكون بهم في عسكر عظيم كما كان قبل رجوعهم عنه، ويصول بهم على عدوه. فلم يفعل، وأقام على حربهم، إلى أن قتلهم وقتلوه رضي الله عنهم؛ فما لان في كلمة تحتمل التأويل، ليبيّن للأولين والآخرين أمر الدين، فما داراهم ولا قاربهم مع حاجته إليهم وخوفه من أسيافهم؛ فهو ما كان يخاف الجبابرة والأحياء الذين هم في عساكر ويخافهم الناس فكيف يخاف من أبي بكر وعمر وعثمان في حياتهم وبعد مماتهم، وهم في حياتهم وسلطانهم ما خافهم محق قط وإن كان عبدا أو امرأة أرملة ذمية. وإنما يقول هذا من لا يعرف علياً ولا أبا بكر ولا عمر ولا عثمان؛ فعليك بالمعرفة فإنها حياة، والذهاب عن طلبها موت، وقد علم أهل المعرفة والعناية أن عليا كان في زمن أبي بكر وعمر وعثمان في علو الكلمة ونفاذ الأمر مثله في سلطانه، وأنه كان في سلطان هؤلاء أنفذ أمراً وأعلا قولا وأبسط لسانا منه في زمن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وفي حياته.
ولقد أنكر عليّ على عثمان إتمامه للصلاة في منى، وأنكر عليه تولية أقاربه، وأموراً أخرى ليس فيها تعطيل نص ولا تبديل قرآن ولا تغيير شريعة، وإنما هي أمور من طريق الرأي والاجتهاد كان له أن يفعلها فجرى عليه. هذا كله في شيء هذه سبيله، وهو الخليفة والسلطان والملك، وإليه السوط والعصا وبيده الضر والنفع، مع شرف رهطه وقرب قرابته وظهور ثروته وكثرة عدوه وأعوانه ومن تعصب له، فكيف يتوهم عاقل تدبر، أن النصوص كانت تعطل والقرآن يغير والشريعة تبدل وهم سكوت(.([57] )
وقال القاضي أيضاً:
( قال قائل من الإمامية: أنتم تزعمون أن عليّا كان يرضى سيرة أبي بكر وعمر وقد قال له عبد الرحمن بن عوف في الشورى: أوليك هذا الأمر على أن تقضي بكتاب اللّه وبسنة رسول اللّه وسيرة أبي بكر وعمر قال: أما بكتاب اللّه وسنة رسول اللّه فنعم، وأما سنة أبي بكر وعمر فلا، فما الذي يبقى بعد هذا؟
قيل له: هذا يبطل من وجوه منها: أنكم تقولون أن علياً رضي الله عنهم ، كان في زمن هؤلاء في تقية وخيفة، يمتثل أمرهم ولا يجسر يردّ عليهم ولا يظهر خلافهم، وكذا كان بعد موتهم، وفي سلطانه وخلافته ومعه مائة ألف سيف، يقولون: ما جسر أن يظهر مخالفتهم ولا عيبهم ولا الرد عليهم، لأن أعوانه ومن كانوا معه كانوا يتدينون بخلافة أبي بكر وعمر وعثمان، فلو عابهم أو اتهموه بعيبهم لقتلوه.
قلتم: إنه خرج من الدنيا وما أظهر ما في نفسه، وإنه سار في أموال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في خلافته بسيرتهم، وقرأ هذا القرآن، وصلى التراويح، وحيا الأرض كما حيوها، ومدحهم على منابره بالمدح العظيم الذي قد امتلأت الكتب به، وإذا سألناكم قلتم: هذا كله صحيح قد فعله عليّ وقاله، إلاّ أن باطنه فيه خلاف ظاهره، وإنما قاله تقرباً إلى أنصاره وأعوانه لأن ذلك كان يعجبهم، ويرون إمامة هؤلاء فقاله خوفاً منهم وتقرباً إليهم، فكتب أسلافكم مملوءة بأنه قد فعله تقيةً وخيفةً، والآن تذكرون بأنه قد كاشف في البراءة منهم ومن أفعالهم في زمن عثمان وقبل أن تصير الخلافة إليه، فأنتم لا تعملون على تحصيل، ولقلة حيلتكم وأنه ليس معكم حجة في مذهبكم ما تأتون بالشيء تظنونه حجة لكم فتنقضون به على أنفسكم من حيث لا تشعرون، ففي هذا كفاية.
وأيضا فقد كان في الصحابة من يخالف أبا بكر وعمر في مسائل الاجتهاد. ولا يحتشم ذلك، ولا ينكر أبو بكر وعمر ذلك، وقد خالفهما ابن مسعود، وأبي، ومعاذ، وزيد بن ثابت، وابن عباس، وغيرهم. فتعلم أن ما يتعلق به هؤلاء باطل.
ومن عجيب ما يدعونه أن عمر احتال على عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم حتى أدخله في الشورى، وقال: إنه يصلح للخلافة، وأنه قال إذا صار أهل الشورى ثلاثة وثلاثة فاقتلوا الثلاثة الذين ليس فيهم عبد الرحمن، وأن عبد الرحمن كان عدوا لعليّ وصرفها عنه إلى عثمان، وأن عمر إنما قال هذا حرصا على أن ينصرف عن عليّ ويصير إلى عثمان.
وليس معهم في هذا دلالة ولا برهان، إنما هو البهت والفرية وظنون كاذبة كغيرها من أقاويلهم، وقد تقدم لك الدلالة على أنه لم يكن بين عليّ وأبي بكر وعثمان وعبد الرحمن وتلك الجماعة عداوة، بل كان بينهم من الموالاة والمودة في الدين والإسلام ما فيه كفاية.
ثم يقال لهم: لو أرادها عمر لعثمان وحده أو لعبد الرحمن أو لأحد يريده لنص عليه كما تقدم النص من أبي بكر أو كما نص هو على صهيب في الصلاة، فكان الناس يمتثلون ذلك وقد استراح مما ادعيتموه، ولم يكن عليه خوف، كما لم يكن على أبي بكر خوف.
والعجب أنكم تقولون: إن أبا بكر وثب بمقام رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فقام فيه في حياته وفي بيته وبحضرته وبحضرة جميع بني هاشم والمهاجرين والأنصار، اغتصابا وقهرا، وتم له ذلك، واغتصبهم بعد موته، وساعده الناس، ونصّ على عمر فقبلوا منه فأنفذوا وصيته، ولم يقبلوا من رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ولم ينفذوا وصيته، وقبلوا من عمر في الشورى وفي كل ما وصى به، ولم يقبلوا من رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وصيته ونصه على وصيّة علي رضي الله عنهم، وقد بين لهم الفرض في ذلك، وهو من فرض الكافة.
وها هنا يقولون: إن عمر خاف ولم يكشف ما أراده وأخفاه ودلّسه، كصنيع المغلوب المقهور الخائف المترقب، فأقاويلكم يكذب بعضها بعضا، وأنتم تنقضون مذاهبكم وأصولكم بأيديكم، وتبعثون خصومكم على النقض عليكم، فلستم ممن يستقر له قول ولا يتقرر له مذهب.
وقد علمت رحمك اللّه في الجملة أنه ما كان يجري في ذلك الزمان وبحضرة أولئك السابقين ولا يقبل ولا يمتثل إلا الصواب، وإن من أتى بغيره ردّوه و أنكروه، وقد تقدم لك بيان ذلك وبرهانه، فكلما بلغك عنهم مما له ظاهر تنكره، فأما أن لا يكون له أصل البتة، وأما أن يكون إن كان حقا المراد به والنية فيه والقصد غير الظاهر الذي أنكره الخصم وأوّله، فقد علمت حالهم في تمسكهم بدين رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ووصاياه والقيام على نصوصه وعهوده، وأن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا لو أرادوا في سلطانهم أن يغيروا نصاً لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في امرأة أرملة ذمية لما تمكنوا منه، وإن سلطان هؤلاء لم يكن كسلطان معاوية ومن بعده من الملوك.
فاحفظ هذا الأصل وارجع إليه فيما ذكروه عن عمر في قتل أهل الشورى، وفي ادعائهم على أبي بكر أنه أمر خالد بن الوليد بقتل عليّ بن أبي طالب ثم بدا له فقال لا تفعل، بحضرة المهاجرين والأنصار، وأنه وجّه بالنعمان بن بشير، والمغيرة بن شعبة فقاتلا سعد بن عبادة الأنصاري، وأن أبا سفيان وبني أمية كانوا في زمن عثمان يظهرون بين الناس بتكذيب النبيّ، وأنه ما ها هنا معاد ولا جنة ولا نار، ولهم في هذا روايات كثيرة عن الصحابة من الرجال والنساء، وذكرها يطول، غير أنك تعلم كذبهم فيها بالدليل الذي تقدم من تمسك المهاجرين والأنصار بدين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأن الغلبة في زمانهم كانت للمقيمين على دينه وللمعتقدين على تصديقه.
على أن هذا الإنكار والتكذيب له وبالبعث والنشور والحساب والجنة والنار وما أشبه ذلك، ما كان أحد يجسر على إظهاره في زمن معاوية وأئمة الجور من بني أمية، ولا في زمن ملوك بني العباس وحيث كان الملوك منهم، فإن الملوك من بني أمية وبني العباس ما كانوا ملحدة ولا زنادقة ولا أعداء لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بل كانوا على ملة الإسلام ويحبون رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ودينه، ويبرؤون من أعدائه وإن شابوا ذلك بحب الدنيا وبإيثار العاجلة وقتل من يأمرهم بالقسط من الناس، وغير ذلك من الكبائر والمناكير التي ارتكبوها.
فقل كان لهم تعظيم القرآن وجهاد العدو وعمارة الثغور، وقد كانوا كلهم يعيبون المسرفين منهم، وقد كانوا في مجالسهم يتذاكرون أعلام رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وآياته، وكانت أظهر وأقهر من أن يعتقدوا خلافها، وقد كانوا يوصون أولادهم بالإسلام.
ولم نقل هذا فيهم من طريق حسن الظن بهم، ولكن إذا اعتقدوا عداوته أو تكذيبه أو عيبه أو عيب شيء من طرائقه وأخلاقه ومذاهبه صلى الله عليه وآله وسلم لظهر ذلك ولبدا في أخلاقهم وطرائقهم وفلتات ألسنتهم وفي سقطات أعمالهم، فبهذا جرت العبرة والعادة سيما وهم ملوك.
ولقد تفاءل الوليد بن يزيد بن عبد الملك وهو خليفة وملك جبار، وهو أغنى بني مروان فخرج له في المصحف ما يكرهه فرمى بالمصحف من يده وتسخط ما خرج له، فقام إليه ابن عمه فضرب عنقه في هذا المقدار، وجعله حجة في قتله، وأنت تتبين ذلك وأن مثله لا يخفى بمثل ابن العميد وزير ركن الدولة، وبأبي جعفر بن بانو السجزي ملك سجستان، وأبي علي بن إلياس ملك كرمان، وأمثالهم، فإن هؤلاء وقعت عليهم الباطنية فما زالوا بهم حتى خرجوا من الإسلام، وما أمكنهم المجاهرة والمكاشفة بعداوة رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، غير أن ذلك بدا في فلتات ألسنتهم وسقطات أعمالهم وإن اجتهدوا في كتمانه.)([58])
المبحث السابع
( بين علي وطلحة )
قال قاضي القضاة :
( وأما طلحة والزبير وعائشة فإنهم إنما سلموا علينا لأنهم سلموا على أمير المؤمنين، وتوليناهم وزكيناهم لأنه زكاهم وتولاهم ومدحهم وترحم عليهم بعد ما كان منهم بالبصرة وبعد موتهم، فلو عاديناهم لكنا قد خالفناه وسرنا بغير سيرته وسلكنا غير سبيله، ونحن لا نرى خلافه، بل هو إمامنا وسيدنا والقدوة عندنا، وهو الذي ظاهره كباطنه وسريرته كعلانيته.
وهذا كلام مع الخوارج فيقال لهم: علي بن أبي طالب إمام هدي، وإنما برئتم منه وادعيتم انه كفر بالتحكم وقبل ذلك كان مرضيا، وقد زكى هؤلاء قبل التحكيم، وقد وجب عليكم الاقتداء به.
فإن قالوا: ومتى كان هذا منه؟
قلنا: قد كان يتصفح القتلى بعد انقضاء الحرب، فمر بطلحة وهو صريع فنزل إليه واخذ رأسه في حجره ومسح التراب عنه وقال: يرحمك اللّه يا أبا محمد، يعزّ عليّ أن أراك قتيلا تحت نجوم السماء وفي أودية الأرض، ثم انشد:
فتى كان يدنيه الغنى من صديقه إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر
وأمر بجمع القتلى وصلى عليهم وأمر بدفنهم، ودخل عليه ولد طلحة فأدناه وقربه وقال له:
يا ابن أخي، خذ كتابي إلى قرظة بن كعب الأنصاري ليرد عليكم أموالكم وما اخذ منها، فما إمرته بإدخال يده فيها، إنما أردت قبضها لئلا تمتد إليها أيدي السفهاء وليحفظها عليكم، انبسط يا ابن أخي في الحاجة تكون لكم فاني أرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير من الذين قال اللّه: ﴿ وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ﴾ .)([59])
المبحث الثامن
( بين علي والزبير )
قال قاضي القضاة :
(ولما قيل له رضي الله عنهم: قاتِل الزبير بالباب يستأذن، انزعج هو وأولاده حزنا عليه وإنكارا لقتله، وصار عندهم مأتم ومصيبة عظيمة، وقال: كيف قتله وليس من أقرانه؟ قالوا اغتاله ومعه سيفه، فقال:
خذوا السيف منه وبشروه بالنار، فأخذ السيف منه؛ فما زال أمير المؤمنين يقلب السيف ويقول كم كربة كشفها صاحب هذا السيف عن وجه رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يأذن له في الدخول عليه. ثم دخل عليه بعد ذلك مع الناس فقال: نحن أهل البلاء فلم نجفا؟ قال: من تكون؟ قال: قاتل الزبير، قال أمير المؤمنين: بفيك الحجر، بفيك الحجر، ليلج قاتل الزبير النار، سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لكل نبي حواريّ، وحواري الزبير. وسمعته يقول: الزبير في الجنة وطلحة في الجنة، فقال ابن جرموز: إنما قتلته أبتغي بقتله عند عليّ الزلفة فبشرني بالنار، وندم على قتله، وصار ينكر أن يكون قتله.
فإن قالوا: لمَ لمْ يقتل قاتل الزبير؟ قلنا: لم يكن ذلك له وإنما هو لولد الزبير، فان شاءوا قتلوا وإن شاءوا عفوا.
ومن عجيب الأمور أن عبد اللّه بن الزبير قام بعد معاوية ودعا إلى نفسه لإمرة المؤمنين، وغلب على الأرض بسبع سنين إلا كورة فلسطين، وانبثّ عماله في الأمصار، وعمرو بن جرموز حيّ بالبصرة فما تعرضوا له، ولقد قرئت جريدة أهل البصرة على مصعب بن الزبير بالبصرة، فقرأ الكاتب عمرو بن جرموز، فقال قائل لمصعب: أصلح اللّه الأمير وعمرو بن جرموز وقد ساح في الأرض وسار في البلاد فقال مصعب: أو ظن ابن جرموز أني أقيده بأبي عبد اللّه، ليظهر ابن جرموز آمنا وليأخذ عطاءنا مسلما فظهر وأخذ وأمن وترفع ولد الزبير عن قتله وقد كان لهم ذلك، وهو إليهم، فكيف يتعجب عاقل من عفو أمير المؤمنين عنه وليس القود له.
وكان عمرو بن جرموز بعد الذي سمعه من أمير المؤمنين شديد الندم على قتله، كثير الاستغفار، شديد الإشفاق، وقد بقي بعد زوال آخر آل الزبير ومصير الملك إلى عبد الملك، فكان الحجاج يقول له: أنت قتلت الزبير؟- لشدة عداوة الحجاج وبني أمية لآل الزبير- فيقول ابن جرموز: ما قتلت أحدا، فيقول له الحجاج: وما عليك في قتله، وقتله خير لك من جزاء وتدبير حسنات؛ يشجعه الحجاج لينصرف عن الغم والندم بما قاله أمير المؤمنين له في دخول النار بقتل الزبير، لتعلم رحمك اللّه شهرة إنكار أمير المؤمنين على من اعترف بقتل الزبير.([60])ولكن طال الأمر وقل الطالب المتأمل.)([61])
المبحث التاسع
( بين علي وعائشة )
لما نزل طلحة والزبير وعائشة ومن كان معهم حين ساروا إلى البصرة الجفير أرسل عثمان ابن حنيف الأنصاري عمران بن حصين وأبا الاسود الدؤليّ إلى عائشة فقال:
( انطلقا فاعلما علمها وعلم من معها، فقالا: يا أم المؤمنين، أخبرينا عن مسيرك هذا أعهد عهده رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أم رأي رأيتيه، فإن أميرنا بعثنا اليك، فهل أنت مخبرتنا؟ قالت: بلى هو رأي رأيته واللّه ما مثلي يسير بالأمر المكتوم، ولا يعطى لبنيه الخمر، إن الغوغاء من أهل الأمصار ونزاع القبائل غزوا حرم رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فأحدثوا فيه الأحداث وآووا فيه المحدثين، واستوجبوا لعنة اللّه ولعنة الرسول، مع ما نالوا من قتل إمام المسلمين بلا تره، ولا عذر أنا نقمنا عليه ضربة السوط، وموقع النحاية المحماة، وإمرة الوليد وسعيد، فعدوا عليه فاستحلوا منه الحرم الثلاث: حرمة البلد، وحرمة الخلافة، وحرمة الشهر الحرام، بعد أن مصناه كما يماص الإناء([62] ) فركبوا هذه منه ظالمين، ومزقوا الأعراض والجلود، وأقاموا بدار قوم كارهين لمقامهم، ضارين غير نافعين ولا مبقين، لا يقدرون على الامتناع ولا يأمنون، فخرجت في المسلمين أعلمهم ما أتى هؤلاء القوم، وما فيه الناس وراءنا، وما ينبغي لهم أن يأتوا، وقرأت:
﴿ لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ ﴾ إلى آخرها، ثم قالت: غضبنا لكم من سوط عثمان فما أنصفنا عثمان إذ لم نغضب له من سيفكم، فهذا شأننا، معروف نأمركم به ونحضكم عليه، ومنكر نحثكم على تغييره وننهاكم عنه.
فخرجا من عندها فأتيا طلحة فقالا له: ما أقدمك؟ قال: الطلب بدم عثمان، قال: أو لم تبايع عليا؟ قال: بلى، وذكر شغب المصريين- الذين غزوا عثمان- في البيعة، وقولهم للناس: من لم يبايع قتلناه، ثم قال: وما أستقيل عليا إن هو لم يحل بيننا وبين قتلة عثمان. ثم أتيا الزبير فسألاه، فقال مثل ما قال طلحة سواء. فهذا الذي أخرجهما لا طلب الإمارة والمنافسة فيها. ثم أقاما بالبصرة وترددت الرسل بينهم وبين أمير المؤمنين، وتقرر الأمر بينهم على أن يقدم أمير المؤمنين عليهم البصرة، ويكون الأمر له، ويستقبلون النظر فيمن غزا المدينة، فأفسد الأمر عليهم ابن السوداء وأمثاله من أعداء عثمان كرهوا ذلك وخافوا أن تتفرغ الجماعة لهم، وقالوا: لنشغلهم عنا بنفوسهم، فدبروا في إلقاء الحرب بينهم ما هو مذكور فتم لهم ذلك، وما بك حاجة هاهنا إلى ذكره، وأفعال أمير المؤمنين تغنيك، فإن أردته وجدته في كتب العلماء.
وبعد أن إنتهت الحرب إلى ما إنتهت إليها جهز أمير المؤمنين عائشة بكل ما تحتاج إليه، وشيعها هو وأولاده وقال لأخيها ومن خرج معها: بلغوها، ووصّى بإكرامها، وكان يقول لها: يا أمّه، وأمّ المؤمنين سائرة، فمن أراد المسير معها ممن قدم بقدومها فليسر، وقال: أيها الناس، إنها أمكم وزوجة نبيكم في الدنيا وزوجته في الجنة، وردها إلى سدانة قبر رسول اللّه وإلى بيتها، وأعطاها ما كان يعطيها من قبله من الخلفاء.
ولا يحل لامرأة زعم هؤلاء إنها كافرة، يردها أمير المؤمنين إلى قبر رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وتعطى ما يعطى أمهات المؤمنين، سيما والمدينة في ملكه وسلطانه، وفيها عماله، وليس به في أمرها حاجة إلى المداراة والمداهنة بعد مقاتلتها كما كان بزعمهم يفعل مع من تقدم من الخلفاء.
وكم كان يركب إليها هو وأولاده وابن عباس وعبد اللّه بن جعفر، ويجلسون إليها ويعظمونها، وقد استغفرت واستغفر لها أمير المؤمنين، وقد سمع عمار ابن ياسر رجلا ينال منها والحرب قائمة فقال له: اسكت مقبوحا منبوحا، واللّه إنا لنقاتلها وإنا لنعلم إنها زوجة نبيكم ومعه في الجنة، ولكن الله ابتلانا بها ليعلم إياه نطيع أم إياها؛ وشرح إكرامه لها وإكرام أولاده وهم بالبصرة يطول.
وكانت هي تلعن أصحابه الذين ارتدوا عنه ولعنوه وصاروا خوارج وتبرأ منهم، وتروي عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم تصويبه وتضليلهم، وتقول: أمروا بالاستغفار لأصحاب محمد فسبّوهم، وتسميهم كلاب النار، ولما بلغها موته استرجعت وقالت: ذهب واللّه من لم يسفهه الملك ولا أطغته الدنيا، لتصنع العرب ما شاءت فما بقي بعد ابن أبي طالب من يكفّها ولا يردعها، ثم أنشدت:
فألقت عصاها واستقر بها النوى كما قر عينا بالإياب المسافر
والإمامية تقول: قد فعل هذا ولكن على طريق حسن العشرة وعلى سبيل التكرم والتفضل، قيل لهم: هو صلى الله عليه وآله وسلم أجل قدرا وأشد ورعا من أن يرد امرأة كافرة أو فاسقة إلى قبر رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ويمكنها منه، ويعطيها ما يعطي أمهات المؤمنين ويسميها أم المؤمنين، ويشهد لها بما قلنا، ويترحم على كافرين، ويرد الأموال ويشهد لهما بالجنة، هذا لا يحل في دين اللّه ولا يفعله مثله صلى الله عليه وآله وسلم بوجه من الوجوه، وإنما قوله بشّر قاتل ابن صفية بالنار، وقوله: ليلج قاتل الزبير النار على طريق التزكية له كقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «تقتل عمار الفئة الباغية» على طريق التزكية لعمار.)([63])
وأضاف قاضي القضاة :
( فإن قيل: فكيف سبيل تلك الدماء التي كانت بينهم يوم الجمل؟ قيل له: إن أمير المؤمنين رضي الله عنهم اعلم بذلك وأفقه في الدين وأشد في الورع، ولم يكن ليقول في هؤلاء وفي غيرهم ما لا يحل ولا يجوز في الدين، فقد كفانا حكمه عن البحث والطلب).([64])
المبحث العاشر
إعتقاد الإمامة في علي تنقيص من شأنه وطعن فيه وفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
قال القاضي عبدالجبار:
( ولا فرق بين من ادّعى أن علياً كان يخاف من هؤلاء الخلفاء أو أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يخافهم أيضاً، وأنه من خوفهم كان يشهد لهم بالجنة ويزكيهم.
وهذا لازم لهم، بل هو قول الرافضة لأنهم قالوا: إن عليّ بن أبي طالب حجة اللّه على خلقه كما كان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه معصوم كعصمة الأنبياء.
وقالوا مع هذا: قد زكى أبا بكر وعمر وعثمان، وصاهر بعضهم، وصلى خلفهم، وحج معهم، ودخل الشورى وعمل بالاختيار، وصلى خلف صهيب كما وصّى عمر، وأطاع عمر كما وصّى أبو بكر، وعمل لهم أعمالاً كثيرة، وأظهر تزكيتهم، ومدحهم بإيمانهم وإن كانوا كفارا، كل هذا خوفا منهم وممن بعدهم من شيعتهم فما تبين الحق إلى أن خرج من الدنيا.
قلنا: فإذا كان هذا هو الحجة والمعصوم والقائم مقام الرسول فعل هذا بغير حق، لم نأمن أن يكون كل من صاهر النبي ومدحه ونص عليه وشهد له بالجنة وأمر الناس بطاعته أن لا يكون هذا حاله، وأنه فعل مثل فعل هذا الحجة، وهذا ما لا حيلة لهم فيه، وفيه فساد الديانات كلها، وإلى هذا قصد هشام ابن الحكم حين وضع هذه البدعة فاعرف ذلك). ([65] )
وأضاف قائلاً : ( ومن نعمة اللّه على المسلمين أن بقاءه رضي الله عنهم بعد الخلفاء خليفة وإماما وسلطانا ومعه مائة الف سيف تطيعه، فما سار في تركات رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم إلا سيرة أبي بكر وعمر وعثمان، ولا حبا السواد ومصر وفارس وأرمينية وأذربيجان وخراسان إلا ما حباه الخلفاء قبله، ولا قرأ إلا المصحف، ولا أقرأ أولاده والناس إلا هذا المصحف، وملك الأرض كان كله بيده إلا كرة فلسطين، وأقام التراويح بنفسه وأقامه عماله في ممالكه كلها، وكان يقيم إماما للنساء في التراويح، وأثنى على الخلفاء قبله بما يطول شرحه وقد ماتوا وبلوا، وهو يلعن معاوية ويبرأ منه وهو حي ومعه أكثر من مائة ألف سيف، وكذا صنع بالخوارج. فهو لا يخاف الجبابرة الأحياء، وعند الإمامية انه قد خاف الموتى وهو سلطان عظيم الشأن، وقد بيّنا أن هؤلاء في حياتهم وسلطانهم ما كان يخافهم محق .
فإن قيل: ومن سلم لكم انه كان يقيم التراويح، بل يقول انه قد نهاهم عنها، فقالوا: واعمراه، فلما قالوا ذلك، أقامها لهم.
قيل له: لا فرق بين من ادعى هذا، أو ادعى انه قد كان نهاهم عن هذا المصحف فقالوا وامحمداه، أو قال: قد كان نهاهم عن هذه الصلاة وقال لهم:
لها باطن وهي شخص، ألا تسمعونه يقول: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولا ينهى إلا الشخص كما يدعيه عليه الإسماعيلية فصاحوا وامحمداه، أو كمن ادعى انه كان يعيد في آخر ذي الحجة ويقول: هذا اليوم الذي نص عليّ فيه رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم واستخلفني وانه كان يقيم المناحات بالشعر على فاطمة وابنها المحسن الذي زعم الامامية أن عمر قتله، كما يفعل الإمامية ذلك ببغداد والكوفة. وبأي شيء يعلم العاقل المتأمل أن العباس وولده وبنو هاشم كانوا يقيمون التراويح إلا والعلم الذي يعلم به أن عليا كان يقيمها بنفسه وعامله قرظه بن كعب بالكوفة وعامله بالبصرة وبمكة والمدينة وسائر بلدان الإسلام التي في ملكه وسلطانه أقوى واقهر.
ولو ادّعى مدّع أن ابن مسعود بالكوفة وأبا عبيدة ومعاذ بن جبل بالشام كانوا لا يرونها ولا يقيمونها، هل كانت الدلالة على بطلان دعواه إلا ظاهرة، والدلالة على بطلان من ادّعى ذلك على أمير المؤمنين أقوى واقهر. والعجب أن رؤساءهم والذين لقنوهم هذا المذهب قد قالوا: انه أقام التراويح.
وإذا قيل لهم: هبكم أنكم ادعيتم انه كان في زمن أبي بكر وعمر وعثمان كان مغلوباً مقهوراً، فما باله حين مات هؤلاء وصارت الخلافة إليه وصار السلطان بيده والفيء يجبى إليه فيعطيه من يرى وهو في العساكر والجيوش، لم يدّع النص وتعطيل التراويح ويظهر المصحف الذي تدعون ويسير في أموال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ما تدعون ويظهر البراءة من أبي بكر وعمر وعثمان سيما وقد ماتوا، كما أظهرها في معاوية والخوارج وهم أحياء وفي عساكر؟
قالوا: ما فعل ذلك ولا قدر عليه لأن جنده وأعوانه من المهاجرين والأنصار والتابعين بعدهم كانوا أولياء أبي بكر وعمر، فلو اتهموه ببغضهم لقتلوه، فما زال مظهرا لنصرتهم وموالاتهم إلى أن خرج من الدنيا.
قالوا: وكذا فعل الحسن والحسين رضي اللّه عنهم أجمعين. والآن يدعي هذا المدعي في هذا الزمان انه كان قد نهى عن التراويح، فلما صاحوا واعمراه خافهم فتقدم وأقامها لهم، فما يجري كلامهم على تحصيل ولكن كما يسنح لهم)([66])
وقال شيخ الإسلام إبن تيمية:
( وهؤلاء الرافضة يجمعون بين النقيضين لفرط جهلهم وظلمهم يجعلون علياً أكمل الناس قدرة وشجاعة حتى يجعلوه هو الذي أقام دين الرسول وأن الرسول كان محتاجا إليه . . . ثم يصفونه بغاية العجز والضعف والجزع والتقية بعد ظهور الإسلام وقوته ودخول الناس فيه أفواجا).([67])
المبحث الحادي عشر
تناقض دعوى الشيعة في سكوت علي بن أبي طالب رضي الله عنهم وعدم إظهاره للنص ([68])
إن مَنْ يقرأ كتب الشيعة وإحتجاجهم عن سكوت علي بن أبي طالب عن حقه في الخلافة في زمن الخلفاء الثلاثة الذين قبله، يرى تناقضاً واضحاً بينهم، ولا يخفى أن التناقض يهدم الدعوى ويبطلها.
يقول شيخ الشيعة ومرجعهم الأكبر محمد رضا المظفر: ( إن مولانا أمير المؤمنين لما إنتهى الأمر بالناس إلى مبايعة أبي بكر خليفة، فهو قد أمسى بين أمرين لا ثالث لهما: إما أن يستسلم للأمر الواقع فيترك كل مطالبة علنية صريحة إبقاءً لكلمة الإسلام، وإما أن يجاهد حتى يثبت حقه، وهو نفسه قال: ( وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء، أو أصبر على طخية عمياء ). ولما إختار الأمر الأول وهو أعرف بما إختار، إذ يقول: ( فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى ). فلم يبق وجه لمطالبته العلنية بالخلافة).([69])
وأيضاً نقل عن سيدنا علي قوله: ( لو وجدت أربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم).([70])
ثم يضيف: ( فهو إذن بين أمرين لا ثالث لهما: إما المغامرة بما عنده من أهل بيته، وإما الرضوخ للأمر الواقع. أما الحالة الأولى، ففيها خطر على الإسلام لا يتدارك، فإنه إذا قتل هو وآل بيته إرتفع الثقل الثاني من الأرض ـ عترة الرسول).([71])
ولكن شيخهم علي كاشف الغطا يقول إن أسماء شيعة علي من الصحابة لا يحويهم كتاب ضخم، فيقول: ( ولكنّا نريد أنْ نسأل من ذلك الكاتب: أي طبقات الشِّيعة أراد هدم الإسلام؟ الطبقة الأولى وهم أعيان صحابة النَّبي صلّى الله عليه وآله وأبرارهم: كسلمان المحمَّدي ـ أو الفارسي ـ وأبي ذر، والمقداد، وعمّار، وخُزيمة ذي الشَّهادتين، وأبي التيهان، وحذيفة [ بن ] اليمان، والزُّبير، والفضل بن العبَّاس، وأخيه الحبر عبد الله، وهاشم بن عتبة المرقال، وأبي أيوب الأنصاري، وأبان، وأخيه خالد ابني سعيد العاص الأمويين، وأُبي بن كعب سيِّد ألقرّاء، وأنس بن الحرث . . ولو أردتُ أنْ أعدَ عليك الشِّيعة من الصحابة، وإثبات تشيّعهم من نفس كتب السنَّة لأحوجني ذلك إلى إفراد كتاب ضخم، وقد كفاني مؤونة ذلك علماء الشَيعة)([72]) .
وروى المجلسي عن :[الإختصاص] عن عمرو بن ثابت قال سمعت أبا عبد اللهعليهما السلام يقول إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قبض ارتد الناس على أعقابهم كفارا إلا ثلاثة سلمان([73]) والمقداد وأبو ذر الغفاري إنه لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاء أربعون رجلا إلى علي بن أبي طالبعليهما السلام فقالوا: لا والله لا نعطي أحدا طاعة بعدك أبدا قال: ولمَ؟ قالوا: إنا سمعنا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيك يوم غدير، قال: وتفعلون؟ قالوا: نعم، قال: فأتوني غدا محلقين قال: فما أتاه إلا هؤلاء الثلاثة قال: وجاءه عمار بن ياسر بعد الظهر فضرب يده على صدره ثم قال له: ما آن لك أن تستيقظ من نومة الغفلة، ارجعوا فلا حاجة لي فيكم أنتم لم تطيعوني في حلق الرأس فكيف تطيعوني في قتال جبال الحديد ارجعوا فلا حاجة لي فيكم]([74])
وروى المجلسي أيضاً : ( عن محمد بن عبد اللَّه بن مهران قال أردت زيارة أبي عبد اللَّه الحسينعليهما السلام مع أبي عبد اللَّهعليهما السلام فلمّا صرنا في الطريق إذا شيخ قد عارضنا عليه ثياب حسان. فقال لمَ لمْ يقاتل أمير المؤمنين.. فلانا وفلانا فقال له عليه السلام: لمكان آية في كتاب اللَّه، قال: وما هي؟ قال: قوله: { لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا... الآية} كان أمير المؤمنينعليهما السلام قد علم أنّ في أصلاب المنافقين قوما من المؤمنين فعند ذلك لم يقتلهم ولم يستسبهم. قال ثم التفت فلم أر أحدا)[75]).
وفي الكافي: ( عن زرارة عن أبي جعفرعليهما السلام قال إن الناس لما صنعوا ما صنعوا إذ بايعوا أبا بكر لم يمنع أمير المؤمنينعليهما السلام من أن يدعو إلى نفسه إلا نظرا للناس وتخوفا عليهم أن يرتدوا عن الإسلام فيعبدوا الأوثان ولا يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وكان الأحب إليه أن يقرهم على ما صنعوا من أن يرتدوا عن الإسلام وإنما هلك الذين ركبوا ما ركبوا فأما من لم يصنع ذلك ودخل فيما دخل فيه الناس على غير علم ولا عداوة أمير المؤمنينعليهما السلام فإن ذلك لا يكفره ولا يخرجه من الإسلام فلذلك كتم علي عليه السلام أمره وبايع مكرها حيث لم يجد أعوانا)([76])
الباب الثالث
النص والصحابة
الفصل الأول: الصحابة في زمن الرسول
الفصل الثاني: الصحابة بعد وفاة الرسول
الفصل الثالث: الأثر الرجعي للنص على الصحابة
الفصل الأول: الصحابة في زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
المبحث الأول
المسلمون الأوائل كانوا في ضلال مبين ثم اهتدوا
ليس خافياً على أحد أن المجتمع المكي قبل بعثة رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان مجتمعاً مشركاً يعبدون الأصنام والتماثيل، خلا بعض الحنفاء الذين كانوا على دين إبراهيم عليه السلام.
ولما بُعث فيهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجهر بدعوته، قابله شيوخ مكة بالصد والإعراض والسخرية والتكذيب، سوى السابقين الأوائل الذين أسلموا قبل جهر النبي بدعوته في مكة، نخص منهم بالذكر: خديجة وبناتها، علي، زيد، أبو بكر، عثمان، الزبير، عبدالرحمن، طلحة، أبو عبيدة، أبو سلمة، الأرقم، صهيب، بلال، عثمان بن مظعون، سعيد بن زيد، أبو ذر، عبدالله بن جحش، خباب، جعفر بن أبي طالب، عامر بن فُهيرة، سعد بن أبي وقاص، عمار بن ياسر، فاطمة بنت الخطاب، عمر، وغيرهم رضي الله عنهم.([77])
ثم أسلم آخرون وتابعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا قوا من المشركين شتى أنواع الأذى وصنوف العذاب.
يقول المولى عز وجل في كتابه الكريم: ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [الجمعة: 2]([78]).
هذه الآية تدل على أن المسلمين الأوائل الذين آمنوا برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم قد تحولوا من الضلالة إلى الهدى حينما آمنوا بالنبي الذي بُعث فيهم، فامتنّ الله تعالى عليهم بذلك.
ولا يمكن حمل هذه الآية على علي رضي الله عنهم لسببين:
الأول: من وجهة نظر أهل السنة؛ لأن علياً كان طفلاً صغيراً لم يتجاوز التاسعة من عمره، وهو بهذا العمر غير مكلف؛ وبالتالي لا يمكن وصفه إنه كان في ضلال مبين.
الثاني: من وجهة نظر الشيعة؛ لأن علياً ولد معصوماً وبالتالي لا يمكن أن يكون ضالاً في يوم من الأيام.
إذن لم يبق أمامنا إلاّ أن نحمل الآية على جماعة من الصحابة ليس فيهم علي.
ولكن هل يمكن أن يكون أبو بكر وعمر وعثمان منهم؟
الأصل: نعم ؛ يجب حملها على كل مَنْ آمن بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ولو ظاهراً، لأن حكم الإسلام يثبت على الظاهر، والمظاهر الدالة على الإسلام كثيرة، منها:
النطق بالشهادتين، الصلاة منفرداً أو في جماعة، الإعتراف . . إلخ
ومَنْ ثبت إسلامه بيقين، لا يزول عنه إلاّ بيقين.
فما الذي أزال صفة الإيمان عن الصحابة في أول أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العهد المكي؟
فإن قالوا: عدم إعترافهم بإمامة علي بن أبي طالب؟
قلنا: وهل كانت هناك وصية، أو شيء إسمه الإمامة أو الخلافة في العهد المكي!
ولو قلنا بنفاق المهاجرين والأنصار ـ كما هو رأي الشيعة فيهم ـ فمن هم الذين عناهم الله تعالى بالمدح والثناء في آيات كثيرة تتلى في كل وقت وحين.
وهنا إذن نتساءل: لماذا حكم الشيعة على أبي بكر وعمر وعثمان والسابقين الآخرين من المهاجرين والأنصار بالنفاق، في العهد المكي؛ قبل أن تظهر مسألة الخلافة على الوجود؟ أي قبل إستيلائهم على الخلافة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟
المبحث الثاني
لا نفاق في مكة
مما لا شك فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن آمن معه في بداية الدعوة كانوا يعانون من الإضطهاد والأذى ما لا يعلمه إلاّ الله تعالى.
وكان النبي وحيداً فريداً طريداً، لاسيما بعد وفاة عمه أبي طالب؛ فيا ترى ما هي الأسباب التي دعت نفراً من أهل مكة إلى إعلان إسلامهم وإيمانهم بما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو في تلك الحالة من الخوف والهوان على الناس؟
ما الذي حمل رجلاً مثل أبي بكر على إشهار إسلامه بين الملأ من قريش ـ وعلى سبيل النفاق ـ كما تقول بذلك الشيعة؟!
الإنسان العاقل يتوصل بفكره وعقله الذي به فضّله الله تعالى على سائر مخلوقاته، إلى أن المرء يسعى دائماً: إما إلى السعادة الدنيوية، حيث سعادة الملذات والراحة الجسدية؛ أو إلى السعادة الآخروية، حيث سعادة النفس والضمير.
فالأولى منتفية في حق المسلمين الأوائل لأنهم كانوا على علم ودراية تامة أن محمداً لم يكن يملك من الدنيا وسعادتها شيئاً لاسيما في بداية دعوته في مكة.
فلم يبق أمامنا إلاّ أن نقول أن المسلمين الأوائل الذين آمنوا في تلك الظروف القاسية مع علمهم بأنهم سيكونون معرضين لأشد وأقسى أنواع الأذى من المشركين؛ ما دفعهم إلى الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم سوى الإيمان الخالص من كل ما يشوبه من مرض القلب أو النفاق، فتركوا المال والأهل وما ألفوا عليه من دين آبائهم وأجدادهم، وآثروا على أن يتحملوا صنوف الهوان والعذاب والتنكيل على العيش الرغيد والتمتع بالدنيا وملذاتها من الخمور والنساء وسائر المتعة.
يقول قاضي القضاة عبد الجبار:
( فإن هؤلاء قد أجابوه بلا دنيا ولا سيف، وبمصيرهم إلى طاعته صحت نبوته فظهرت دلائل رسالته، لأنه ما خلق قوما حملوا السلاح معه، وإنما أجابه المهاجرون والأنصار الذين هم من قريش وغيرهم من العرب وقد أتاهم بإكفارهم وإكفار آبائهم على ما شرحنا وبينا، وهو من الوحدة والفقر على ما ذكرنا، فمكث بمكة بعد ادعائه النبوة خمسة عشر سنة يدعو إلى دينه، فيجيبه النفر بعد النفر على خوف شديد، وقد تجردت قريش وغيرهم من أعدائه له صلى الله عليه وآله وسلم ولمن اتبعه وأطاعه، فيقصدونهم بالضرب والتعذيب الشديد، ويمنعونهم الأقوات، ويتعاهدون على أن لا يبايعوهم ولا يشاروهم ولا يناكحوهم، وقد كتبوا في ذلك الصحف، وقد قتلوا منهم قبل الهجرة رجالا ونساء).([79] )
ويقول السيد محمد حسين فضل الله، وهو يتحدث عن مبررات النفاق:
( وقد لا تكون هذه العقدة، أو هذا المرض، من الأشياء الأصيلة في ذات الإنسان، بل قد ينشأ ذلك من حالة الخوف من مواجهة المجتمع بما يخالف تفكيره وأوضاعه.. وقد تنشأ من حالة الطمع الذي يمنع الإنسان من الوقوف في المواقع الحاسمة التي لا تنسجم مع مصادر الطمع وموارده. وقد تنشأ من حالة نفسية قلقة يعيش الإنسان معها طبيعة الحَيْرة والتردّد في كلّ موقف من مواقف الحياة ).([80])
إذن فلماذا ترمي الشيعة أوائل الذين أسلموا بمكة بالنفاق ومرض القلب؟!
والنفاق: هو أن يطهر الإنسان غير ما يُبطن؛ وهذا أمر لا يحتاج إليه الإنسان إلاّ في حالتين:
الأولى: أن يرى نعيماً وملكاً كبيراً لا يمكنه الوصول إليه إلاّ بأن يتظاهر أنه من أنصار وأتباع أصحاب الملك والجاه والسلطان لينال شيئاً مما عندهم. أي طمعاً بما يراه من المال والسلطان.
الثانية: أن يكون صاحب ثروة وأملاك فيظهر غير ما يبطن لئلا تزول النعمة التي هو فيها.
وفي مكة لم يكن الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أصحاب الملك والنعيم حتى يطمع الناس إلى ما عنده فيؤمنوا به، ولو نفاقاً.
وأيضاً لم يكن يملك من القوة والسلطة ما خاف الناس منه على أموالهم وممتلكاتهم، فآمنوا به ليحافظوا على أموالهم وممتلكاتهم.
وعلى هذا الأساس فلم يكن هناك ما يبرر وجود المنافقين في العهد المكي من عمر دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
أما في المدينة المنورة بعد الهجرة وتأسيس دولة الإسلام فقد قوي المسلمون وأصبحت لديهم شوكة وسلطة؛ مما برر بوجود بعض المنافقين الذين أعلنوا إسلامهم إما خوفاً على حياتهم، أو حفاظاً على ممتلكاتهم والجاه الذي كانوا يتمتعون به قبل الإسلام، كعبد الله بن أُبَيْ بن سلول الذي فقد مركزه الإجتماعي بهجرة المسلمين إلى يثرب وإقامتهم لدولة الإسلام فيها.
وحتى بعد الهجرة وتأسيس دولة الإسلام فإن هؤلاء المنافقين كانوا أذلة لا تأثير لهم على عامة المجتمع الإسلامي، وقد هددهم الله تعالى بقوله: ﴿ لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً* مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً* سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً﴾.
يقول السيد محمد حسين فضل الله:
( فقد كان الله يمهل الكافرين والمنافقين والمرجفين مدةً من الزمن ليتوبوا وليرجعوا إليه، وليتركوا ما هم فيه من الضلال والإضلال، ثم يقضي عليهم بكل قوّة لينقذ المجتمع منهم، بطريقة العذاب النازل من السماء، أو البلاء الذي يحيط بهم من كل جانب، أو التشريع الذي تنفذه السلطة الشرعية القادرة فيهم). ([81] )
كما أن المنافقين ورد ذكرهم في سورة الحشر بعد أن ذكر الله تعالى المهاجرين ووصفهم بالصادقين وذكر الأنصار ووصفهم بالمفلحين، وذكر الذين جاءوا من بعدهم، وأن من صفاتهم أنهم يستغفرون للمهاجرين والأنصار؛ ثم ذكر المنافقين وذكر أن من صفاتهم الجبن والهلع وتسترهم باليهود والمشركين. في حين أن الذين يصفهم الشيعة بالمنافقين من أمثال أبي بكر وعمر وعثمان والزبير وسعد وآخرون، كانوا أقوياء وأعزة حتى خافهم المنافقون أكثر من خوفهم من الله تعالى.
يقول السيد محمد حسين فضل الله في قول الله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾( الحشر:11 ). وتحت عنوان: المنافقون في صورة قرآنية:
( كانت الصورة الوضيئة هي صورة المؤمنين من المهاجرين والأنصار والذين جاؤوا من بعدهم، في ما تتميز به من الروح المخلصة المتحركة في خط الإيمان الصادق، والتضحية الصادقة، والموقف الثابت على الحق.
وهذه هي صورة المنافقين الذين تتجلى صورتهم القلقة المخادعة المظلمة في انتهازيتهم التي تتحرك في دائرة منافعهم الذاتية بعيداً عن علاقتهم بالآخرين في نطاق القرب والبعد، فهم لا يخلصون للمؤمنين ولا للكافرين، وإن كانت مصلحتهم تلتقي غالباً بالكافرين دون المؤمنين، فإذا كانت مصلحتهم في سقوط الكافرين أسقطوهم. وهذا ما نلاحظه في الصورة النفاقية المتحركة في قصة بني النضير الذين تحالفوا مع المنافقين في المدينة، ولكن المنافقين خذلوهم عندما خافوا على أنفسهم من سيطرة المسلمين، ورأوا أن المطلوب منهم من قبل اليهود أن يدخلوا معهم في قتالٍ ضد المسلمين، وهم لا يطيقون الدخول مع أحدٍ في مسألة القتال، لأن سياستهم أن يكونوا من الجالسين على التل، الذين يتربصون بالجميع الدوائر، لتكون النتائج النهائية لحسابهم مع حسابات هذا الفريق أو ذاك أو ضد حسابات الجميع).([82])
ثم يضيف قائلاً: (﴿لأنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِّنَ اللَّهِ﴾ فتلك هي الحقيقة النفسية للمنافقين ولإخوانهم من الذين كفروا من أهل الكتاب، فهم لا يعيشون في أعماقهم الشعور بعظمة الله المطلقة التي يشعر بها المؤمنون بالله، ولا يتحسسون الخوف منه لتكون مواقع حركتهم متجهةً إلى الابتعاد عن مواقع غضب الله وسخطه، فيكونون الأقوياء بالله في مواجهة أعدائه، بل يعيشون الشعور بمواقع القوة المادية من حولهم، في ما يملكه الناس من قوة البطش والقهر، ما يجعل قلوبهم فارغةً من خوف الله، مملوءةً بخوف الناس.
ولمّا كان المسلمون في الموقع المميّز للقوة آنذاك، كانت مشاعر الخوف من المسلمين لدى المنافقين واليهود أقوى من مشاعر خوفهم من الله الذي لا يستشعرون الإيمان به، ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾ لأنهم لا يعرفون مدى عظمة الله، وأن القوة بيده، وأن العزة له جميعاً، وأن الكون لا يملك أية قوة إلا منه، فلا قيمة لأي قوة كونيةٍ أو بشرية ليخافها الإنسان أمام قوته. ولهذا فإن المسألة هي مسألة وعيٍ للحقيقة الإلهية في حركة القوة الكونية، مما لا يفهمه إلا المؤمنون)([83] ).
وجاءت آيات القرآن الكريم موجهاً النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه من المؤمنين بأن يجاهدوا الكفار والمنافقين حتى يقطع الطريق أمام كل التقولات التي قيلت وستقال من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ربما كان يخاف المنافقين ويتحاشى الإصطدام بهم خشية منهم، وحتى نعلم أن المنافقين لم يكونوا أصحاب قرار وليست لديهم أدنى نفوذ مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فجاء قوله تعالى: ﴿ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾([84]).
( أمّا كيف يكون أسلوب الجهاد، فهو أمرٌ أطلقه القرآن ولم يحدّده، ليكون للنبي اختيار الوجه الأفضل، في نطاق الظروف الموضوعية المحيطة بالساحة، في آفاق الزمان والمكان والأشخاص )([85])
المبحث الثالث
شبهة والرد عليها
الذي يقرأ آيات القرآن الكريم بإمعان يجد أن جميع الآيات التي إشتملت على ذكر المنافقين أو الذين في قلوبهم مرض مدنية، أي إنها نزلت بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنورة؛ لأن النفاق لم يظهر على مسرح الأحداث إلاّ بعد أن قوي المسلمون وصارت لهم شوكة وأصبحت لديهم دولة وقوة ومنعة؛ بحيث وجد من يخاف منهم إما على كفره، وإما على مصالحه الدنيوية. كقوله تعالى: ﴿ وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النَّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ﴾ فلهذا لم يأت القرآن الكريم ذكر المنافقين أو الذين في قلوبهم مرض في الآيات المكية، إلاّ قي موضع واحد وهو قوله عز وجل: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا . .﴾(المدثر:31). فهذه الآية مكية بالإتفاق، وقد ورد فيها ذكرٌ للذين في قلوبهم مرض؛ فمن هم هؤلاء وما تفسير هذه الآية؟
تقول الشيعة وبحسب عقيدة الإمامة التي تفرض عليهم سوء الظن بالصحابة: إن هؤلاء هم بعض أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذين أعلنوا إسلامهم في مكة نفاقاً؛ وبما أننا لا نعلم أعيانهم بالتحديد، فالشك يتطرق إليهم جميعاً لإمكان أن يكون كل فرد منهم هو المقصود؛ وبالتالي يسقط إسلام الجميع، وتسقط عدالتهم.
في حين أن الآية الكريمة تتكلم عن المستقبل وعن الغيب الذي يبينه الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أنه سيظهر مَنْ في قلبه مرض يقول هذا القول الذي بينه الله تعالى في هذه الآية.
فتأويل الآية أو تفسيرها أنه سيأتي اليوم الذي يتواجد فيه هذا الصنف من الناس في قلوبهم مرض يقولون ماذا أراد الله بهذا.([86] )
يقول شيخ الطائفة الطوسي: ( وقوله ﴿ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ﴾ ومعناه لئلا يقول الذين في قلوبهم شك ونفاق ﴿ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا﴾ أي أيّ شيء أراد الله بهذا مثلا، وقيل اللام في قوله ﴿ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ لام العاقبة كما قال ﴿ فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾.([87] )
فموسى عليه السلام كان طفلاً صغيراً رضيعاً عندما إلتقطه آل فرعون، فلم يكن عدواً وحزناً لهم في هذا العمر، أي في الحال؛ إنما لما كبر صار عدواً وحزناً لهم لأنه نجّى بني إسرائيل من ظلم فرعون وأهلك الله تعالى فرعون بسببه.
وأيضاً فقد أثبتنا بما لا يقبل الشك أن الذين أسلموا بمكة لم يكونوا بحاجة إلى النفاق لإنتفاء أسبابه ودواعيه.
وإذا كان الأمر دائراً بين أن نشك في إيمان المهاجرين من الصحابة بمثل هذا الدليل الواهي، وبين أن نظن فيهم ظناً حسناً كان الأولى حملهم على المحمل الحسن لما قدّموا للإسلام من تضحيات في سبيل إعزاز هذا الدين ونشره، لا أن نختلق الأدلة على الطعن فيهم. وكثيراً ما يُلجئ الشنآنُ الإنسانَ على أن يُظهر عورات الآخر وسيئاته، ويخفي متستراً على محاسنه وحسناته.
وقديماً قال الشاعر:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا
بيد أن خطورة بغضهم وشنآنهم للصحابة لم تقف عند هذا الحد، بل تجاوزته إلى درجة أنهم قلبوا محاسنهم إلى سيئات، واختلقوا عليهم من الأكاذيب التي لا تنفق على أحد. وتأولوا الآيات التي نزلت تمدحهم؛ والأحاديث التي قيلت في حقهم، بما لا تحتمله لغة ولا منطق ولا عقل. وهذا ما حذرنا منه القرآن بقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾(المائدة:8)
وهذه الآية كما يقول شيخ الإسلام نزلت في الكفار، أمرنا الله تعالى أن نعدل معهم فما بالك بأصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟
يقول الشيخ محمد حسين فضل الله وتحت عنوان: (حسن الظن قاعدة إيمانية: . . فلا يكفي للإنسان أن يخوض في شؤون الناس، وأن يحرك الإشاعات التي تتحدث عنهم بالسوء، بل لا بد له من إثبات ذلك بالبيّنة الشرعية)([88]).
وفي مصباح الشريعة :الباب 29 في معرفة الصحابة قال الصادقعليهما السلام: ( لا تدع اليقين بالشك والمكشوف بالخفي ولا تحكم ما لم تره بما تروى عنه قد عظم الله أمر الغيبة وسوء الظن بإخوانك من المؤمنين فكيف بالجرأة على إطلاق قول واعتقاد زور وبهتان في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال الله عز وجل: ﴿ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ﴾ وما دمت تجد إلى تحسين القول والفعل في غيبتك وحضرتك سبيلا فلا تتخذ غيره قال الله: ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً ﴾ واعلم أن الله تعالى اختار لنبيه عن أصحابه طائفة أكرمهم بأجل الكرامة وحلاهم بحلية التأييد والنصر والاستقامة لصحبته على المحبوب والمكروه وأنطق لسان نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم بفضائلهم ومناقبهم وكراماتهم واعتقد محبتهم واذكر فضلهم واحذر مجالسة أهل البدع فإنها تنبت في القلب كفرا وضلالا مبينا وإن اشتبه عليك فضيلة بعضهم فكلهم إلى عالم الغيب وقل اللهم إني محب لمن أحببته أنت ورسولك ومبغض لمن أبغضته أنت ورسولك فإنه لم يكلف فوق ذلك ).([89] )
هذا وقد أمر الله تعالى المسلمين الذين يأتون بعد المهاجرين والأنصار أن يستغفروا لهم وأن لا يجعل في قلوبهم غلاًّ للذين آمنوا، وهذه الآية نزلت قبل مسألة الإمامة والوصية، فكان الصحابة كلهم مؤمنين، لم يصدر منهم ما يدل على إرتكابهم ناقضاً من نواقض الإيمان الذي يخرجهم من ملة الإسلام إلى ملة الكفر.
المبحث الرابع
هل كل الصحابة كانوا منافقين؟ وما دليل نفاقهم؟
قال القاضي عبدالجبار:
( ولا يشك في زهد هؤلاء ( أي الصحابة ) إلا من شك في زهد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يبلغ ذلك إلا الجاهل القليل النظر البطيء التأمل. فأما من نظر واعتبر وكان قصده التعرف والتبيين، فان ذلك يفضي به إلى العلم بأنه ما صحب نبيا قط قوم أزهد ولا أورع ولا أعلم من هؤلاء قبل أن يرجع إلى قوله عز وجل: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ». فلو كان غرض أصحابه الدنيا والملك لكانوا وإن ابتدءوا بذكر الزهد في أول أمرهم إذا ملكوا وقدروا عليها قد ساروا فيها سيرة طلاب الدنيا وملوكها وخطّابها، وما لبثوا أن تظهر سرائرهم وضمائرهم عند القدرة. بهذا جرت العادة، وهكذا أخرجت العبرة، فان من تخلّق للناس وتصبّر خوفاً منهم واتقاءً لهم ومداراةً لهم، إذا قدر وتمكن تغير وزال عما كان، وظهر مكنونه، فلما دام أمر رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وهؤلاء واتصل على طريقة واحدة، علم العالم المتأمل أن سريرتهم كعلانيتهم، وظاهرهم كباطنهم . فإن هؤلاء قد أجابوه بلا دنيا ولا سيف، وبمصيرهم إلى طاعته صحت نبوته فظهرت دلائل رسالته، لأنه ما خلق قوماً حملوا السلاح معه، وإنما أجابه المهاجرون والأنصار الذين هم من قريش وغيرهم من العرب.
وقبض صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة والغلبة فيها لمن يعتقد صدقه ونبوته من المهاجرين والأنصار وأتباعهم وأمثالهم، وهم الذين أحاطوا بأبي بكر وأقاموه خليفة وغزوا من ارتد عن دين رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم حتى غلبوهم وأذلوهم وقتلوهم، وغزوا فارس والروم وأمم الشرك وجميع أعداء رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وأذلوهم وادخلوا بلدانهم في بلدان الإسلام، ولم يكن لهم شغل إلا إعزاز دينه، وإقامة نصوصه، وإحياء شريعته وبثها ونشرها وإظهارها، وإعزاز من أقام بدينه وإذلال من تعرض لإماتة شيء منه.
وكانوا بعد وفاته اشد بصيرةً منهم في حياته، لأنهم كانوا في حياته يتكلمون على تدبيره، فلما مات، وصار الأمر إليهم، زاد تيقظهم، فرفضوا كل راحةٍ، وهجروا كل لذةٍ، وقصدوا لإقامة نصوصه وإحياء شريعته إلى أن يلقوا الأرض كلها بذلك؛ وما عندهم عمل أزكى من هذا.
وإنما يظن أن نصوصه كانت تبدل وان كتابه كان يغير وان بنته كانت تظلم، الذي لم ينظر ولم يتدبر، وهو كمن قال انه صلى الله عليه وآله وسلم كان بالمدينة يضرب ويشتم ويداس بحضرة المهاجرين كما كان بمكة، وهذا لا يظنه إلا الغاية في الجهل بشأن المهاجرين والانصار)([90] ).
الفصل الثاني: الصحابة بعد وفاة الرسول
المبحث الأول
من تأمل حال الصحابة حين قبض رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم علم بعدم وقوع النص
قال القاضي عبدالجبار:
( وتأمل حالهم حين قبض رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، وقد خاضوا فيمن الخليفة بعده كما قد تقدم لك فيما كان من بني هاشم والعباس وأبي سفيان مع أمير المؤمنين، وما كان من السقيفة، وقد جرت تلك الخطوب التي قد تقدم لك ذكرها يوم موت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم على وجه الأرض لم يدفن بعد، وقد تذاكروا وخاضوا وأدلى كل قوم بما لهم من الفضائل وبما قاله رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم في كل فريق، وقد تجاذبوا الإمارة وفيمن تكون الرئاسة، فانظر كيف أجمعوا كلهم على تزكية رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، والتسليم لأوامره، والاقتفاء بأثره، والطلب لوصاياه فما هناك أحد منهم أظهر معتبة أو شك في شيء من أمره وأفعاله صلى الله عليه وآله وسلم ولا سأل على طريق الاستفهام عن شيء من أموره بوجه من الوجوه، هذا والعهد قريب، وفيهم من يريد شرف الرئاسة في قومه، فما رجعوا إلا إلى وصاياه في أن يكون في الأخيار من قريش، وهذا موضع يخرج في الأضغان ويظهر الشحناء.
ثم انظر كيف جعلوها فيمن كان يجله ويعظمه ويقدمه، وفي أهل السابقة، وهناك من سادات العرب وذوي الشرف والنخوة والعدد والعدة وكثرة العشيرة وظهور الثروة ما لا يحصى كثرة، ثم هناك من الأقارب من سادات بني هاشم خلق كثير، ولو لم يكن إلا العباس مع فضله وعقله الذي كان يدعى حليم قريش، وإذا كان حليم قريش وقريش أحلم العرب إذ ذاك وأعقل العرب فهو حليم العرب كلها، فجعلوها في أبي بكر وهو أضعف حيّ في قريش وأقله عددا وأظهر فقرا، فقد كان له مال فأنفقه على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وفي نوائب الإسلام، حتى لم يكن له ثوب يكفن فيه حين مات فوصّى أن يكفن في أطماره الرثة، فلما قيل له: ألا تشتري لك ثوبا جديدا يكفيك فيه، فقال: الحيّ أحوج إلى الجديد.
ولما استخلف، غدا إلى السوق وعلى عاتقه أثواب يبيع ويشتري، فاجتمع أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا: هذا خليفة رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أصبح غاديا يبايع الناس في الأسواق، وله بشأن المسلمين شغل، ولن يبلغ أحداً خبره من سادات العرب وملوك العجم إلا احتقروا أمركم، فأتوه وكلموه في ذلك، وقالوا له قولا غليظا شديدا، فقال: إنما أنا كاسب أهلي، فإن أنا أضعتهم فأنا لمن وراءهم أضيع، وقد كرهت أمركم وحرصت أن أكون وزيرا فأبيتم إلا بيعتي وأكرهتموني. وكان من أمرهم معه ما هو مذكور.
فإن قيل: أو ليس الرافضة تدّعي أن أبا بكر غلبهم وقهرهم، وأنهم في السقيفة اتزروا بالأزر الصنعانية واقتتلوا على الملك والخلافة؟
قلنا: قد فرغنا من هذا، وبينّا بطلان هذه الدعوى، وأن القوم الذين اعتقدوا نبوة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وتدينوا بصدقه واتبعوه بتلك الشرائط التي قدمنا ذكرها، هم الذين اجتمعوا على خلافة أبي بكر واستخلفوه واعتقدوا إمامته، وتقربوا إلى اللّه بطاعته وامتثال وصاياه وأوامره، فلا فرق بين من ادّعى هذا وأن أبا بكر غلبهم وقهرهم وخدعهم وسحرهم، وبين من ادّعى ذلك في رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وادعى ذلك في أمير المؤمنين، ومن أطاعه واعتقد إمامته. ولا فرق بين من ادعى أنهم لبسوا الأزر الصنعانية أو ادعى أنهم تقاتلوا عليها بالسيوف والرماح على الخيول، فإن الملك بمثل هذا يؤخذ لا بالأزر، وإنما هذه دعاوى من يريد تشكيك المسلمين في دينهم لتستوي له المطاعن في نبوة نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم.
وأهل المعرفة يعلمون أن أبا بكر مضى إلى الأنصار وهم أهل العدد والعدة والبأس والنجدة، وهم أكثر من جميع المهاجرين وجميع قريش الذين بالمدينة وتبعه عمر وأبو عبيدة وسالم مولى أبي حذيفة، فكيف كان يغلب الأنصار بهؤلاء الثلاثة؟ ولو أراد أن يغلبهم بكل من بالمدينة من قريش لما أطاقوا ذلك، ولكن الأنصار رحمهم اللّه طلبوا في بدء الأمر الخلافة فلما بيّن لهم أبو بكر أنه لا ينبغي ذلك رجعوا عنه للّه وابتغاء وجه اللّه.
قال متكلم الشيع: خدع أبو بكر الأنصار بأن قال: منكم الوزراء ومنا الأمراء، فأطمعهم ثم غدر بهم، فما استوزر أحدا منهم لا هو ولا من بعده من الخلفاء، فلهذا أجابوه واتبعوه.
قلنا: هذا من دعاويكم التي لا دليل عليها، والوزارة التي ذكرها أبو بكر لهم إنما هي المعونة والمؤازرة في طاعة اللّه لمن يلي الأمر من قريش، فهذا زيادة في كلفة الأنصار في شدة الوطأة عليهم والمشقة الشديدة فيما ألزمهم من معونة الخلفاء، فأين الإطماع الذي ادعيتم عليهم؟ وهذا الذي شرطه أبو بكر عليهم إلى النفور عنه وإلى الايحاش منه أقرب، فهذه الوزارة التي شرطها عليهم.
وهذا مثل قوله لهم في السقيفة حين قالوا له: اقبل البيعة فأبى، وقال:
ولّوا الإمارة عمر أو أبا عبيدة ودعوني أكون لهم وزيرا، وكذا قال عند وفاته: ليتني يوم سقيفة بني ساعدة لم أقبل البيعة وجعلتها في عمر أو في أبي عبيدة، وكنت وزيرا لا أميرا يريد معينا، وكذا قال أمير المؤمنين حين مشوا إليه بعد عثمان وقالوا له: نوليك أميرا فابسط يدك نبايعك، فقال: انظروا غيري تبايعوه وأبايعه معكم، ودعوني أكون لكم وزيرا، فلأن أكون لكم وزيرا خيرا من أن أكون أميرا، يريد معينا.
ولكن هؤلاء القوم نظروا إلى من يقال له الوزير في زمن ملوكنا ممن يريد سلطان الزمان منه جباية الأموال، وترتيب أصحاب الضرائب والمواصير في ظلم الناس، وإقامة المستخرجين والمصادرين للناس في ديوان الاستدراك، وتمدحه الشعراء، ويجلس وحوله القيان وأصحاب الملاهي، وله القصور على الأنهار والبحار، كابن كلّس بمصر، وابن بقية ببغداد، وفلان وفلان بالعراق وفارس، فظنوا أن الوزارة التي ذكرها أبو بكر هكذا ينبغي أن تكون، أوَما علموا أن موسى سأل ربه فقال: «وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي» وقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: وزيراي من أهل السماء جبريل وميكائيل، ومن أهل الأرض أبو بكر وعمر، ولو لا فساد الزمان وغلبة الجهل لما كان يجاب عن مثل هذا الكلام.
وهذا مثل دعوى من ادعى أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم خدع المهاجرين والأنصار بغير ما ادعى هؤلاء عليهم، فقال عز وجل: ﴿ لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ فأخبر عن نياتهم وشهد بصدقهم، وقال في الأنصار: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ فأخبر أنهم يؤثرون الفقر في طاعة اللّه، ويواسون المحتاجين في ذات اللّه، مع ما بهم من الخصاصة، وشهد لهم بالفلاح، وقال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: لو سلك الناس شعبا وواديا وسلكت الأنصار شعبا وواديا لسلكت شعب الأنصار وواديهم، وقال لهم: إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع، إلى غير ذلك مما قاله فيهم رضي اللّه عنهم. وبعد فإن العاقل يعلم بطلانه من كل وجه، فإن الأنصار لو كان غرضهم الدنيا لقالوا لأبي بكر: ولم ندع الأمارة ونصير تبعا لك والدار دارنا والبلاد بلادنا والبادية باديتنا والعدد والعدة فينا والبأس والنجدة لنا، وأنت وصاحبك وجميع قريش جئتمونا هرابا إلينا مستجيرين بنا، فما بنا حاجة إليك أن تكون من أتباعنا وحاشيتنا فكيف تكون أميرا علينا، وما حاجتنا والدنيا طلبتنا ونيتنا والعاجلة بغيتنا أن نتكلف هذه التكاليف الشديدة التي أتانا بها صاحبك، من الصلاة والصيام والزكاة والحج والمواساة والحدود ومعاداة الأمم والمجاهدة للملوك حتى يقيموا دينه ويتملكوا بشريعته، ونسفك دمانا في ذلك، ونكفر أسلافنا الذين خالفوا دينه وشريعته.
فهذه الشيع تقول فيهم بخلاف ما دل عليه العقل وبخلاف ما قال اللّه وبخلاف ما قال رسوله، ولكن الأنصار رحمهم اللّه لما علموا أن الإمامة لا تكون فيهم جعلوها في الفاضلين من مهاجرة قريش، ولو أرادوا الدنيا والملك لكذبوا أبا بكر حين قال لهم إن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الأئمة من قريش» أو كانوا يقولون: وإن قال هذا فإنا لا نقبل، فقد كانوا على ذلك قادرين والغلبة والعز لهم وفيهم، ولو أرادوا الدنيا والملك لقدحوا في رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ولكذبوا عليه ولقالوا فيه كما يقول هؤلاء، فتعلم بهذا صحة النبوة وسلامة رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم من كل عيب، وطهارة أبي بكر والمهاجرين وبراءتهم في صغير القبيح وكبيره، وإن الأنصار ما أرادوا إلا اللّه والدار الآخرة في تصييرهم الخلافة في أبي بكر وأمثاله من قريش، وأنهم قدموه لأن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قدمه، ولقولهصلى الله عليه وآله وسلم:( ليليني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم).
فكان أبو بكر وعمر هما اللذان يليانه إذا قام لصلاته، وإذا استوى في مجالسه، ولهذا قالوا وهم يصفون مجالس رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ومنازل أصحابه عنده، قالوا: إن كانت حلقة رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم لتشتبك حتى تكون كالأسوار، وإن مجلس أبي بكر منها لفارغ ما يطمع فيه أحد، فإذا جاء أبو بكر جلس ذلك المجلس، وأقبل إليه رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بوجهه وألقى إليه حديثه، وسمع الناس ولقد أقبل العباس يوما فتنحى له أبو بكر وأجلسه معه، فعرف السرور في وجه رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بتعظيم أبي بكر للعباس، فاعرف هذا فإن الإمامية اليوم يروون عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يلعن أبا بكر وعمر وعثمان وأمثالهم من المهاجرين والأنصار، وأنه كان يتلو في ذلك القرآن كما كان يتلوه في لعن فرعون وهامان وقارون وإبليس وأبي لهب وأبي جهل، وهذا باب ينبغي أن تراعيه، فإن الأدلة تشهد ببراءة هؤلاء من كل عيب، كما تشهد ببراءة رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم).([91])
المبحث الثاني
كيف خاض الصحابة في أمر الإمارة ولم يذكروا النص
وهو أن الصحابة قد خاضوا في باب الإمارة في مرض رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وقبل ذلك في أزمان مختلفة، وجرى لهم من الخوض في ذلك أكثر مما جرى لهم من كل شيء في كبار الأمور وصغارها، فأقوالهم وأفعالهم أفعال من لا عهد عنده في رجل بعينه؛ وان الأئمة بعد رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يجوز أن تقع منهم المعاصي والخطايا.
فمن ذلك، أن الصحابة سألوا عليا في مرض رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: كيف أصبح رسول اللّه يا أبا الحسن؟ فقال: أصبح رسول اللّه بحمد اللّه بارئا، فقال له العباس: أحلف باللّه لقد عرفت الموت في وجه رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم كما أعرفه في وجوه بني عبد مناف، وإني لأرى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم سيتوفى في وجعه هذا، فانطلق بنا إلى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم نسأله فإن كان هذا الأمر فينا علمنا، وإن كان في غيرنا أمرناه فوصى الناس بنا. فقال له علي: ما كنت لأسألها رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، فإنا إن سألناه فقال ليست فيكم منعناها الناس وقالوا: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ليست فيكم، والله لا سألتها أبدا.
فانظرْ كمْ في هذا من بيان على صحة ما قلنا؛ فهذا العباس، وهذا علي، وهؤلاء الصحابة، فلو كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد نص لما جاز أن يذهب علمه عنهم، أو لو قال قولا يحتمل تأويله هذا المعنى لما ذهب عنهم، فإن البحث والنظر والخوض يخرج خفيات الأمور ويذكر بغوامضها وبما قد تقدم عهده وزمانه، فكيف بالشيء الواضح القريب العهد، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حي بينهم، فكيف لم يقل علي للعباس: يا عم، أما تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد نص عليّ وجعلني حجة على العالم واستخلفني وولديّ على أمته إلى يوم القيامة، وكيف نسيت مع قرب العهد، أو ليس قد قال: «من كنت مولاه فعليّ مولاه»، و« أنت مني بمنزلة هرون من موسى»، وهذا نص واستخلاف. فإن كان أمير المؤمنين علي رضي الله عنهم نسي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استخلفه كما نسي العباس فكيف لم يذكرهما الصحابة وهم يسمعون ما يجري، وهذا لا يخفى على متأمل، فقد وجدت رحمك الله علياً والعباس والصحابة قد أطبقوا على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما نص ولا استخلف رجلا بعينه، ولا قال قولا قصد به هذا المعنى.
فان قيل: ومن سلم لكم أن هذا قد جرى بين علي والعباس رضي الله عنهما؟ قيل له: إن هذا كالذي جرى في السقيفة وفي الشورى، لا يرتاب بذلك أهل العلم، والعجب أنكم تقولون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من كنت مولاه فعلي مولاه» وتنكرون مثل هذا وهو أصح، والعلم به أقوى، وما زال ولد العباس وولد علي من قديم الدهر يتذاكرون هذا الذي جرى من آبائهما في أنهما أصوب رأيا، ويخوض أهل العلم في ذلك، كالشعبيّ وعبد الرزاق، وإنما يذهب مثل هذا على معاند أو من لا نصيب له في العلم.
المبحث الثالث
صلاة أبي بكر رضي الله عنهم بالمسلمين في مرض النبيصلى الله عليه وآله وسلم
قال قاضي القضاة:
( وفي هذا الباب، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما مرض جزع أصحابه لمرضه، فكانوا معه وحوله ومسجده بهم مثل الرمانة، وعنده في بيته أزواجه وعماته وبناته، فكان إذا وجد خفّا خرج فصلى بهم، فاشتد به يوما مرضه فقالوا:
الصلاة يا رسول اللّه، فقال: ما أستطيع الخروج، صلوا، قالوا: يا رسول اللّه من يصلي قال: يؤذّن بلال ويصلّي أبو بكر.
ففي قولهم: من يصلّي، دليل على انه ما استخلف رجلاً بعينه، لأنه لو كان فعل ذلك لما قالوا من يصلي ولا خفي عليهم مكانه، كما لا تخفى عليهم القبلة وقد فرغ لهم منها، فلا يقولون إلى أين نصلي. وأكد ذلك أيضا بقوله: يصلي بكم أبو بكر، ولو كان قد استخلف رجلاً بعينه لقال:
أوليس قد استخلفت عليكم عليا، فكيف نسيتم مع قرب العهد، ولأمّر عليا بالصلاة.
فان قيل: ومن سلم لكم هذا، وإنما عائشة قالت له: لا، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أحس به خرج وصرفه.
قيل لهم: انه ليس لرسول الله عهد أوثق ولا عهد أوضح من عهده إلى أبي بكر في الصلاة بالناس في مرضه، فانه عقد كان منه في بيته وبحضرة أصحابه، الذين صفتهم على المحافظة على دينه الصفة التي قدمنا، والعلم بذلك يجري مجرى مرضه في بيت عائشة ودفنه فيه، ومجرى العلم بأن أبا بكر وعمر دفنا عنده؛ والعجيب ممن يقول: قد علمنا أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: من كنت مولاه فعلّي مولاه وعليّ مني بمنزلة هرون من موسى، وقال: أنفذوا جيش أسامة، وينكر أمر أبي بكر في الصلاة بالناس، وهذا من العناد الشديد والجهل الفائض، وهو كمن قال: إن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ما اختار أبا بكر للهجرة معه ولا كان معه في الغار، ولا اختصه بأن يكون معه في العريش يوم بدر دون الناس كلهم، ولا كان معه في بيعة الرضوان، ولا أقامه مقام نفسه في الحج بالناس في سنة تسع ولم يقدم غيره في ذلك، وهو أول أمير حج بعده صلى الله عليه وآله وسلم في حياته من المدينة.
ولقد أمر أبو بكر بالصلاة، فصلى بجميع أصحابه وأهل بيته كالعباس وعليّ وجميع بني هاشم ومواليه، وهو ينظر إليهم من بيته وفي مسجده وهم يصلون خلف أبي بكر، فصلى بهم أبو بكر عدة أيام. ففي بعض تلك الأيام يخرج رسول الله ويصلي معهم، وفي بعضها يخرج وقد فرغ أبو بكر فيجلس معهم، وفي بعضها يحس به أبو بكر فيتنحى ويقدمه ويصلي بهم. لا يتدافع أهل العلم من الصحابة والتابعين والذين يلونهم والذين يلونهم في ذلك. ولقد صلى بهم أبو بكر الظهر في اليوم الذي مات فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل دفنه وقبل البيعة له بذلك العهد الذي كان من رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم لا ينازعه في ذلك احد.
وقد روى هذا الحديث وأمر رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم لأبي بكر بالصلاة علي بن أبي طالب، ذكر ذلك في خلافته وعلى منبره مرات كثيرة، ورواه العباس وابنه عبد الله، وذكره عمر على منبره في خلافته، ورواه أبو عبيدة، وعبد الله بن مسعود، وأنس بن مالك، والبراء بن عازب، وسالم بن عبد الله، وعبد الله بن زمعة، ومن لا يحصى كثرة من المهاجرين والأنصار. وإنما كان سبب ذكرهم له، لأنهم كانوا يذكرون مرض رسول اللّه وكيف صنع، وإنما يظن أن أبا بكر تقدم فصلى بالمهاجرين والأنصار بغير عهد من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، من لا يعرف المهاجرين والأنصار، وشدة بصائرهم، وإعظامهم لمقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقوم فيه احد مقامه سيما في خاصته بغير أمره.
وبعد فان مسجده في بيته ونصب عينيه، يسمع وهو في بيته صوت من في مسجده ويراهم، وأمره لأبي بكر بالصلاة بحضرة أصحابه، ويسمع ذلك جميع أزواجه وبناته وعماته، فقد كنّ في مرضه هذا اجتمعن كلهنّ عنده في بيت عائشة. وكان أمره له بذلك مرة بعد مرة، فان الصحابة كانوا يدخلون في أوقات الصلاة فان وجد خفّا خرج معهم، وإلا قال لهم:
يصلي بكم أبو بكر. وكان في أول أمره أمر بذلك، قالت عائشة: يا رسول الله، إن أبي رجل أسيف([92]) لا يستطيع أن يسمع الناس، فلو أمرت غيره، فأبى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك ولم يجبها إليه، فاستعانت ببعض أزواجه عليه ليشفعها ويأمر غير أبي بكر بالصلاة، فردّهن رسول الله وغضب وقال:
يأبى الله والمؤمنون غير أبي بكر، إليكنّ عني صويحبات يوسف. فهذا الذي كان من عائشة فادعوا عليها ما لم يكن، وهذا شأنهم. ولقد قيل لعائشة لم كرهت أن يصلي أبوك بالناس في مرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وراجعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك حتى غضب؟ قالت: ظننت بحداثة سني انه لا يطيق ذلك، وأن المسلمين يتشاءمون به.
وقد قال بعض العلماء في قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إليكن عنى صويحبات يوسف، أن أولئك النساء ظنن أن يوسفعليهما السلام إذا دفع إلى شدة يضعف ويجيب إلى المعصية فلم يكن كما ظنن، فأراد رسول الله أن أبا بكر سيدفع إلى شدائد فيصبر ويحتمل.
ثم يقال لهم: وكيف طمع أبو بكر أن يتقدم بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد علم أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قد استخلف عليا وعرفهم انه حجة اللّه عليهم وعلى رسول اللّه وجميع الصحابة حضور شهود، كيف يتوهم عاقل هذا؟
وبعد فكيف اقرّ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم عائشة في أزواجه وأقام عليها وقد ارتدت بهذا الصنيع، وقد قال اللّه عز وجل: ﴿ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ﴾ ؟
فادعيتم أن أبا بكر اغتصب هذا المقام، وان ذلك بلغ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ، وانه غضب من ذلك وأنكره، وخرج وعزل أبا بكر، وأنكر على الصحابة طاعتهم لأبي بكر في الصلاة خلفه؛ هذا أمر عظيم، ومراجعات كثيرة، إذ لو كانت لكان العلم بها أقوى من العلم بما كان من المراجعة لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم من المراجعة والمناقلة يوم الحديبية مع سهيل بن عمرو([93] ) وما أشبه ذلك، ولكن مذاهبكم مقصورة على دعاويكم.
ومن العجب كونكم ما ادعيتم أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وسلم لما غضب وخرج وعزل أبا بكر أن يكون قد قدم عليا فصلى بالناس ليتم بهتكم، بل لو كنتم صادقين في دعوى النص عليه لكان هذا وقت تقديمه والغضب لأجله لو ادعيتم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يختر بيت عائشة لمرضه ودفنه والموت فيه وإنما اختار بيت ابنته فاطمة ولكن أبا بكر مضى واغتصبه وحمله وجاء به إلى بيت عائشة، فهذا رحمك الله من الأدلة التي تشهد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما استخلف عليا ولا نص عليه كما يدعي هؤلاء وإنما ينكرون الأخبار.
فان قالوا: لو كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما استخلفه لعلمنا باضطرار انه لم يستخلفه.
قيل لهم: ما لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يعلم بالاضطرار، إنما يعلم بالاستدلال، فمن استدل علم ومن لم يستدل جاز أن يظن انه قد فعل.
ولو كان فعل شيئا أو فرض شيئا على الأمة من سائر أحكام الشريعة لجاء مجيء العلم كما جاء غيره، وهذا هو الأصل كما شرحنا وقدمنا).([94])
المبحث الرابع
كيف فكر الأنصار بالإمارة ثم عدلوا عن ذلك بعد تبين الحق
من هذا، أن الأنصار لما قبض رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وسلم حزنوا لفراقه، فاشتد حزنهم وعظمت مصيبتهم، فقالوا هدانا اللّه به، وجمع إلفتنا بدعوته، وعظمت علينا بركاته. فرجع بعضهم على بعض فقالوا: احمدوا اللّه فقد قبض وهو عنكم راض، فقالوا: الحمد للّه، ولكن قد وترنا الأمم، وقد قبض رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ولم يستخلف، ولا بد لنا من أمير نقيمه فنغزوا معه ونجاهد، فقال قائل منهم: لا بد لكم من هذا، فأقيموا رجلا منكم.
فانظر كيف أفصحوا بأنه لم يستخلف، ولو كان كما يدّعون هؤلاء لقيل لهم ذلك ورد عليهم هذا القول والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يدفن بعد، وكيف لم يستدل عليهم بالآيات والأحاديث التي تروونها وتستدلون انتم بها فلو لم يكن إلا هذا لكفى في الدلالة على بطلان ما يدعونه هؤلاء، وما يدعيه العباسية والبكرية فإن قيل: فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قال: «الأئمة من قريش» في الجماعات الكثيرة وقد ذهب هذا على الانصار، فما تنكرون أن يكون قد نص على علي والعباس وأبي بكر وذهب عنهم؟
قلنا: لا ندعي أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الأئمة من قريش» في الجماعات الكثيرة، ولا قام فيهم خطيبا كما تقولون في دعواكم لعلي، ولا أخذه على الناس، ولا هو أيضا من فرض الكافة، وإنما هو من فرض الفقهاء والخاصة، فيعقده أربعة نفر أو خمسة لواحد، وهو يجري مجرى قوله عليه السلام:
«لا وصية لوارث» ، و«أهل ملتين لا يتوارثون» ، و«الخراج بالضمان»، وليس كذلك ما يدّعونه من انه نص على رجل بعينه وفرض طاعته على جميع أمته وجعله الحجة عليهم بعده، فأوجب على الرجال والنساء والأحرار والعبيد والمقيمين والمسافرين طاعته، وأعلمهم هذا الغرض وأداه إليهم بحسب وجوبه وشمول عمومه، فجرى في الغرض مجرى قوله: (أنا رسول اللّه إليكم وحجة اللّه عليكم)، فهذا لا يذهب على النفر اليسير ممن هو دون الأنصار في الرتبة والاختصاص برسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يقول:
«الانصار كرشي وعيبتي» ، يريد بذلك إنهم موضع سرّي وخاصتي، فأين فرض هذا من قوله: «الأئمة من قريش» ، ومع كون هذا من فرض الخاصة، فعند الحاجة ذكر وقَبِلَه الأنصار كلهم وعملوا به، فلو كان دعواكم انتم أيضا كذلك لكان قيل وعمل به مثل هذا.
المبحث الخامس
( بين فاطمة وأبي بكر )
لقد أكثر الشيعة من ذكر فدك حتى وكأنها كانت تُنبت ذهباً وفضةً، وكأن أبا بكر أخذها لنفسه وأولاده، ولم ينقلوا عن فاطمة رضي الله عنها حديثاً غير فدك؛ وكأنها كانت شغلها الشاغل، بحيث إذا ذكرت فاطمة ذكرت معها أرض فدك، فقالوا وأكثروا من القول، وألفوا فيها الكتب والمجلدات، وما دروا أنهم أساؤوا إلى فاطمة وعلي بهذا.
يروي المجلسي: (عن زينب بنت عليّ بن أبي طالبعليهما السلام قالت لمّا اجتمع رأي أبي بكر على منع فاطمة عليها السلام فدك والعوالي، وآيست من إجابته لها، عدلت إلى قبر أبيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، فألقت نفسها عليه، وشكت إليه ما فعله القوم بها، وبكت حتّى بلّت تربته صلّى اللّه عليه وآله بدموعها عليها السلام، وندبته). ([95])
وجاء في تلخيص الشافي: ( فلما وصل الأمر إلى علي بن أبي طالب كلّم في رد ( فدك ) فقال: إني لأستحي من الله أن أرد شيئاً منع منه أبو بكر وأمضاه عمر)([96]).
وذكر المجلسي أيضاً : (عن جعفر بن محمد عليهما السلام قال لمّا انصرفت فاطمة عليها السلام من عند أبي بكر أقبلت على أمير المؤمنينعليهما السلام. فقالت له: يا ابن أبي طالب اشتملت مشيمة الجنين، وقعدت حجرة الظنين، نقضت قادمة الأجدل، فخانك ريش الأعزل، هذا ابن أبي قحافة قد ابتزّني نحيلة أبي وبليغة ابني، واللّه لقد أجدّ في ظلامتي، وألدّ في خصامي، حتّى منعتني قيلة نصرها، والمهاجرة وصلها، وغضّت الجماعة دوني طرفها، فلا مانع ولا دافع، خرجت واللّه كاظمة، وعدت راغمة، وليتني لا خيار لي، ليتني متّ قبل ذلك متّ قبل ذلّتي وتوفّيت قبل منيّتي عذيري فيك اللّه حاميا، ومنك عاديا، ويلاه في كلّ شارق ويلاه مات المعتمد ووهن العضد شكواي إلى ربّي، وعدواي إلى أبي، اللّهمّ أنت أشدّ قوّة. فأجابها أمير المؤمنين عليه السلام لا ويل لك، بل الويل لشانئك، نهنهي من غربك يا بنت الصفوة وبقيّة النبوة، فو اللّه ما ونيت في ديني، ولا أخطأت مقدوري، فإن كنت ترزءين البلغة فرزقك مضمون، ولعيلتك مأمون، وما أعدّ لك خير ممّا قطع عنك، فاحتسبي. فقالت: حسبي اللّه وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.)([97])
فهل يعقل أن تفعل فاطمة هذا وتخاطب زوجها هكذا؟
قال قاضي القضاة عبدالجبار:
( وأيضا فإن أبا بكر ما قبض الأموال لنفسه ولا لولده ولا لأصهاره ولا لأهل بيته، ولا أقطعها القواد والجند فنوجه في ذلك تهمة، وإنما جعلها لأبناء السبيل الذين لا يعرفهم ولا يدري من هم، وإنما هم غرباء فقراء يطرقون و يجتازون.
وقد قال أبو علي محمد بن عبد اللّه العلوي المصري الفاطمي الحسيني أفقه أهل بيته في زمانه، وأرواهم لأحاديثهم وأخبارهم، وكان رحمة اللّه عليه من الزهد والنزاهة والعبادة بالمنزلة التي لم يكن في أهل بيته وزمانه مثله، فقال رحمه اللّه:
من الدلالة على براءة ساحة أبي بكر الصديق مما رمته الرافضة به أنه منع العباس وفاطمة وأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أموال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وجعلها في سبيل اللّه، فإنه إنما فعل هذا وتم له وأقدم عليه مدلّا بالحق الذي كان عليه، ولو كان مبطلا لأعطاهم إياها وأكثر منها([98])، لأنه برسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم عزّ، وبه تقدم، وبه كانت له الرئاسة، وبه صار صدّيقا، وأصحابه وأنصاره جعلوه خليفة، فلو كان مبطلا وطالب دنيا لأعطاهم ذلك وأرضاهم بكل ما يقدر عليه ليتم له ما يطلبه من الملك، فليس من الحزم أن يمنعهم هذا المقدار وينفرهم ويوحشهم لأجل شيء هذا قدره، وقد كان عاقلا حازما بالأمور عارفاً بالأمور لا يدفعه عن هذا من عرفه، فإنما منعهم ذلك لأن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم منعهموه.
يزيدك بذلك علماً، أن معاوية بعد أن قاتل بني هاشم وقتل منهم ومن شيعهم، وملك الأرض، واستتب له الأمر، حتى ما بقي أحد يقاومه أو يدفعه، جعل لأعدائه من بني هاشم ومن كان يخافه من قريش العطاء الجزيل، استكفافا لهم، وليتم له ملكه، وليستقيم له أمره وسلطانه. فكان يعطي الحسن والحسين وعبد اللّه بن جعفر رضي اللّه عنهم لكل واحد منهم في كل سنة ألف ألف درهم، ويقضي حوائجهم، ويتبع ذلك بغيره من الألطاف والهدايا. وأبو بكر رضي الله عنهم لم يعطهم شيئا من ذلك، بل كان يعطيهم على قدر الحاجة، ويسوي بين الناس كلهم في العطاء.
ولما اتسعت الأموال في زمن عمر، ودوّن الدواوين، وأعطى من شهد بدرا، وسوّى بين الموالي والعرب ممن شهدها في ذلك، سألوه الصحابة في أن يجعل للحسن والحسين مثل ذلك، وكان مقدار خمس مائة دينار، تقرباً إلى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، وبراً به صلى الله عليه وآله وسلم فقد كان يحبهما، فأشاروا عليه بذلك، وأذنوا له فيه، فجرى أمر عمر على ذلك، وعليه عمل عثمان، وعليه عمل أمير المؤمنين حين صارت الخلافة إليه.
ولقد سأل خالد بن المعمر السدوسي أمير المؤمنين في أن يزيدهما رضي اللّه عنهما في عطائهما فلم يفعل، وراجعه، فغضب أمير المؤمنين فقال: ما كنت لأزيدهما على ما فرض لهما عمر، وسأله عبد اللّه بن جعفر في أن يزيد عائشة وهي بالبصرة فقال: ما كنت لأزيدها عما فرض لها عمر. وسأله أخوه عقيل ليزيده على ما فرض له عمر فلم يفعل، وراجعه فلم يفعل. وسأله جعدة بن هبيرة المخزومي وهو ابن أخته أن يعطيه فما زاده على ما فرض له عمر، وقال له أتريد أن يكون خالك سرّاقا. وكان رضي اللّه عنه لا يأخذ في خلافته وسلطانه إلا ما فرض له عمر، ومثل هذا كثير.
فإن قيل: ولم لا عرف رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أئمته وأزواجه أنهم لا يرثونه فكانوا لا يحتاجون أن يسألوا أبا بكر؟ قيل لهم: الذي يلزم رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أن يقيم الحجة، ويقول، وقد فعل، وعند حاجة أهله إلى ذلك عرفوه ووجدوه قد قاله وعلموا ذلك، ومن كان الحق طلبته ففي أقل قليل مما ذكرنا كفاية، ولو لم يكن إلا فعل أمير المؤمنين رضي الله عنهم وشبهه.
وقد علم أهل التحصيل أن فاطمة وأهل بيت رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أحبّ إلى أبي بكر وعمر وعثمان وأولئك السابقين من أولادهم وأسماعهم وأبصارهم، وهم فتحوا الدنيا ودعوا أهلها إلى حب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وبني هاشم، وسلموها إليهم. ولم نقل هذا من طريق حسن الظن بهم، ولكن بدلائل العقول التي قد تقدم ذكرها في غير موضع من هذا الكتاب.
وقد سأل موسى أخاه هارون عليهما السلام وأخذ برأسه يجره إليه، ثم رجع إليه حين عرف الجواب عند حاجته إليه. فغير منكر أن تعرف فاطمة وأهل رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ما احتاجوا إليه من أبي بكر.
ولم يكن لقائل أن يقول: فلم لا عرّف اللّه موسى الحال قبل مصيره إلى أخيه فكان لا يحتاج أن يجر برأس أخيه ويعاتبه ذلك العتاب، ولم لا عرّفه وجه الصواب في خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار، فكان لا يحتاج إلى أن يلقى العبد الصالح الذي كان يتعلم منه بذلك الجفاء ثم يعتذر إليه بأنه نسي. ولم لا عرّف سليمانعليهما السلام حال المرأة الملكة، ولم لا أغناه عن تعريف الهدهد ومساءلته وطول مراجعته؟ ولكن من وضع هذا غرضه ما قدمنا، وعنده أن أبا بكر وعمر وعثمان وأمثالهم وأشباههم من المهاجرين والأنصار، ما صحبوا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم للإعلام التي كانت معه، ولا لبصيرة في دينه، وما اعتقدوا قط نبوته ولا صدقه، ولا انطووا على تعظيمه وإجلاله، ولا عرفوا له قدرا ولا أقاموا له وزنا، وإنما كانوا يراؤونه ويرائيهم، وينافقونه وينافقهم، وإنما كان غرضهم الدنيا والعاجلة، وكانوا يتربصون به وينتظرون موته ليكونوا ملوكا بعده، وأنهم قد اغتصبوا مصلاه ومقامه في حياته وفي جوف بيته، ونحّوا خليفته ووصيّه في حياته وبعد موته، وضربوا بنته وقتلوا جنينها في بطنها.
وقد علمت رحمك اللّه على أي وجه كانت إجابتهم لرسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ومتى أجابوه وما لقوه في إجابته، وقد علمت بما تقدم لك في دلائل العقول أنهم قد اعتقدوا نبوته وصدقه، وأن المتأمل يعلم ذلك قبل العلم بنبوته، ويعلم أنه كان يحبهم، وأنه قد فرض موالاتهم ومحبتهم كما فرض بغض أولئك الذين قدمنا ذكرهم، وعلمنا أنه لم يكن له حرص في الإمارة إلا بمقدار القيام بحدود اللّه، وأن كل واحد منهم قد تمنع وود أن غيره قد كفاه، فقد امتنع أبو بكر منها واجتهد أن يكون في غيره فأكرهوه عليها، ولم يكن لعمر فيها رغبة ولا منه لها طلب فاختاره أبو بكر وأدخله فيها، وعاتبه طلحة وغيره على ذلك وقالوا له: عمر رجل مهيب فاستعمل علينا أحمد طريقة في حسن الخلق منه، فقال:
لا، هو خير لكم وأقواكم عليكم. وقال: اللهم إني وليتهم ولم أرد بذلك إلا صلاحهم، وخفت عليهم الفتنة، وقد حضرني من أمرك ما حضر، اللهم عملت فيهم بالعدل جهدي، وآثرت محبتك على محبتي، واجتهدت لهم الرأي، فوليت عليهم خيرهم لهم، وأقواهم عليهم، وأحرصهم على رشدهم، ولم أرد به صحابة عمر وأنا خارج من الدنيا داخل في الآخرة، فاخلفني فيهم فهم عبادك، ونواصيهم بيدك، أصلح لهم ولاتهم، واجعله من خلفائك الراشدين، يتبع هدى نبيه نبيّ الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم، وهدى الصالحين بعده، وأصلح له رعيته، وأسلم لعمر أن لا يكون تلبس من هذا الأمر بشيء، وذلك أن الفارغ من أمر الناس يقبل على شغل نفسه، وأن والي الناس يتعرض فيما لا يدري ما يختم له به في آخر عمره، فإن هذه الدنيا قد غرّت من كان قبلكم وتنافسوا فيها فأوردتهم موارد الهلكة، فندموا حيت لا تنفعهم الندامة، قد انقطعت الآمال، وعاينوا أعمالهم، فلا يقبل من محسن عمل ولا من مسيء نزوع عن خطيئة، فمن استطاع أن يقدم عملا يعيذه اللّه به من مساوئ يوم القيامة فليفعل.
فما حقد عمر على طلحة ما قاله ولا تنكر له ساعة قط، ولقد جعلها عمر شورى في ستة من غير رغبة كانت من واحد منهم إليه في ذلك ولا مسألة، ولم يقل أحد من أولئك السابقين الذين لم يدخلهم في الشورى لم لا أدخلتنا فيها، ولا قالوا هذا بعد موته، ولا عيب أحد عليه، وقد جعلهم كلهم لصهيب رعية وهو مولى، فصلى بهم ثلاثة أيام إلى أن استخلفوا عثمان، فما أنكروا ذلك.
لتعلم زهدهم فيها، وأنهم كانوا يرونها مع الكلف الثقيلة، فإذا وجدوا من يقوم بحقوقها ويحمل أثقالها استراحوا إليه وتمنوا مكانه.
ولما دفن عمر، وأخذ أهل الشورى في الانصراف، ناداهم المهاجرون والأنصار إلى أين أيها الرهط، أما سمعتم عهد أمير المؤمنين، اجلسوا واختاروا واحدا منكم، فجلسوا ناحية يتشاورون . . فردوا الأمر إلى عبد الرحمن ليختار واحدا منهم، فأخرج نفسه وابن عمه منها، وأخرج الجماعة واختار عثمان وقال: قد شاورت ونظرت، فما رأيت الناس يعدلون بعثمان أحدا، فبايعه الناس وعبد الرحمن وبايعه عليّ بعده، فما أنكر ذلك أمير المؤمنين ولا طلحة ولا الزبير ولا سعد بن أبي وقاص ولا تعتّبوا، ولهذا كان يقول عثمان للذين تنكروا له في آخر عمره: أدخلت في الشورى من غير طلب مني ولا رغبة، ثم اجتمع الناس عليّ من بين أهل الشورى من غير طلب ولا رغبة فبايعوني، فعملت فيهم بما يعرفون ولا ينكرون متبعا غير مبتدع.
وأما أمير المؤمنين رضي الله عنهم فقد عرضت عليه، وعرضها عليه العباس وبنو هاشم وبنو عبد مناف يوم وفاة النبيّ وبعد عثمان فأباها وردها، واختلفوا إليه أياما كثيرة فامتنع منها، ومد يده فقبضها وقال: اختاروا غيري أبايعه وتبايعونه وما كان من طلحة والزبير من المصير إلى البصرة فلم يكن للرغبة في الإمارة ولكن للطلب بدم عثمان، فقد كان حرقوص بن زهير وتلك الجماعة أفحشوا فيما أتوه.
المبحث السادس
لِمَ لَمْ يطعن المرتدون في خلافة الصديق؟
قال القاضي عبدالجبار:
( إن أبا بكر غزا اليمامة، ومسيلمة، وربيعة، وطلحة، وبني اسد، وتلك القبائل المرتدة، ومانعي الزكاة، مع إذعانهم بإقامة الصلاة، وأنكر رضي اللّه عنه تغير دين رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم ، وأنه لا يقرهم على ترك خصلة واحدة من دينه ولا تعطيل شيء منه، وقد غزاهم بالمهاجرين والأنصار ونكل بهم كل التنكيل، وقتلهم ألوان القتل، وصنع بالرجال والنساء منهم من النكال ما يطول شرحه لأنهم غيروا دين رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، وعطلوا حدوده، فما استطاعوا أن يقولوا لأمراء أبي بكر لم تنكرون علينا هذا وأنتم قد عطلتم نصوص صاحبكم، وغيرتم دينه، وبدلتم كتابه، وانصرفتم عن وصيه وعمّن استخلفه، وضربتم ابنته، وقتلتم جنينها في بطنها، وهذا موضع حاجة هؤلاء إليه، ولو كان لذلك أدنى إشارة لعوّلوا عليه واستراحوا إليه، فعلمت أن ما يدّعيه هؤلاء لا أصل له.
ولو كان بدا منهم شيء لكان العلم به أقوى مما كان بين أمير المؤمنين وأهل النهر، وبينه وبين أهل الشام وغيرهم
ثم إن أبا بكر لما قتل مسيلمة، وأسر طلحة، ورد أهل الردة، واستولى على جزيرة العرب الإسلام وأنفذ جيوشه إلى العراق واستظهر المسلمون، قام في المسلمين خطيبا فقال: إن أموركم قد عادت إليكم وبحمد اللّه استظهرتم على عدوكم فأقيلوني فقد تقلدت أمرا ما لي فيه راحة ولا يدان إلا بمعونة اللّه، فقال له عليّ رضي الله عنهم: ما يقيلونك ولا يستقيلونك، وما منك بدل ولا بدل عنك حول، ومشى في الناس ثلاثا يستقيل فما أقالوه(.([99])
ومما قاله قاضي القضاة أيضاً في شأن عثمان بن عفان رضي الله عنهم:
(ثم انظر في باب آخر في أمر عثمان وما لحقه في آخر أمره من الإعراض والخصومة، حتى تجرأ عليه العبيد والنساء والصغير والكبير، هل قرّعه احد من خصومه وأعدائه بأنه جلس في غير مجلسه؟ وقد بالغوا في التشنيع عليه، وهو كان يسمى الخليفة المستضعف، فكيف لم يتقدم الخليفة المنصوص عليه فيأخذ الأمر من هذا الذي قد قهر وحصر.).([100])
الفصل الثالث: الأثر الرجعي للإمامة
المبحث الأول
هل يرضى الله تعالى عن أحد ويثبت رضاه عنه في القرآن ثم يسخط عليه بعد ذلك؟
المسلمون جميعاً يؤمنون بأن الله تعالى يرضى ويسخط، يرضى الإيمان والعمل الصالح من عباده، ويسخط الكفر منهم والمعصية.
قال تعالى:﴿ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ﴾( الزمر: 7 ) وقال:﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾(الفتح:19)، وقال أيضاً:﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾(التوبة:100).
وإذ أثبت الله تعالى رضاه عن شخص في آيات تتلى إلى يوم القيامة، أو أثبت سخطه؛ فمحال أن يتبدل الرضا إلى سخط، أو سخطه إلى رضا.
فقوله تعالى : ﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ﴾(المسد: 3). هل يستطيع أحد أن يثبت أن هذا السخط إنقلب إلى رضا من دون أن يخبرنا الله تعالى بذلك؟([101]) وكذلك قوله تعالى:
﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ﴾. فهل يستطيع أحد أن يثبت أن الله تعالى بعد أن أنزل آية يثبت فيها رضاه عن تلك المجموعة التي بايعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد سخط عليهم، أو أبطل مفعول هذه الآية؟
وقد يقول قائل: إن الله تعالى ربما يرضى عن الشخص حال قيامه بالفعل، ثم يكون قد سخط عليه بعد ذلك.
فيقال له: هب أن ما قلته صحيحاً، ولكن لماذا أنزل الله تعالى آية أثبت فيها رضاه عنه، ثم لم يُنزل آية تنسخ رضاه عنه؟
كما فعل الله تعالى مع بلعم بن باعوراء الذي قال فيه: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ([102]) مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾(الأعراف: 175).
فكيف السبيل إلى إثبات عكس ما مثبت في القرآن الكريم؟!
إن الله تعالى عالم غيب السموات والأرض، يعلم ما يكون وما لا يكون؛ لا يثبت أمراً في كتابه ثم يكون الأمر على غير ما أثبته.
خذ مثالاً على ذلك:
يذكر سيدنا علي في نهج البلاغة، أن إبليس كان قد عبد الله تعالى ستة آلاف سنة قبل أن يخلق الله آدم عليه السلام؛ فلما كان منه ما كان من إباء السجود لآدم ومعصية الخالق، مقته الله وغضب عليه ولعنه.
فمع طول عبادته وتبتله بحيث كان في مصاف الملائكة؛ ولكن لمّا كان الله يعلم عاقبة أمره ويعلم ما يكون منه من عصيان؛ لم يمدحه ولا في ربع آية، وهذا القرآن الكريم من أوله إلى آخره لا يوجد فيه شيء من ذلك.
وهكذا الحال مع أصحاب نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المهاجرين والأنصار، فقد علم الله ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم وما يكون عليه أمرهم بعد النبي عليه السلام، فرضي عنهم ووعدهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، وأثبت رضاه عنهم في آيات كثيرة خالدة تتلى إلى يوم القيامة.
بل لم يكتفِ المولى عز وجل برضاه عنهم، بل رضي عن التابعين لهم بإحسان ومن مشى على نهجهم وسلك طريقهم؛ مع علمه سبحانه وتعالى عمّا يؤول إليه أمرهم بعد وفاة نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم.
وأيضاً فقد وصف الله تعالى المهاجرين بالصادقين، ثم أمر المسلمين بأن يكونوا مع الصادقين، أي مع المهاجرين الذين هم أصدق الناس مع الله ومع رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال تعالى: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾(الحشر:8).
ثم أمر المؤمنين بأن يكونوا مع الصادقين في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾(التوبة:119)
فهل يُلام أهل السنة بعد هذه الآيات أن يتولوا الصحابة من المهاجرين والأنصار، ويتبعوا نهجهم، وقد رضي الله عنهم وعمّن سار في طريقهم واتبع سبيلهم ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾(التوبة:100).
كما أن الله تعالى وصفهم بأنهم هم المؤمنون حقاً في قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾(الأنفال:74) وحذّرنا من مخالفتهم في قوله: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ (النساء:115).
وأود الإشارة هنا إلى أمرين:
الأول: نحن معشر أهل السنة والجماعة، لا نفرق بين أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين أهل بيته، لاسيما علي بن أبي طالب صلى الله عليه وآله وسلم ، فهو من خيرة أصحاب النبي ومن السابقين الأولين من المهاجرين، ومن العشرة المبشرين بالجنة.
الثاني: نعتقد إعتقاداً جازماً بأن ما يُقال من العداوة والبغضاء بين أهل البيت والصحابة، إنما هي من تلفيقات أعداء هذا الدين الذين أرادوا كيد الإسلام والمسلمين، وكما يقول القاضي عبدالجبار: ( إن أكثر من نصر هذا المذهب كان قصده الطعن في الدين والإسلام، فتسلق بذلك إلى القدح فيهما؛ لأنه لو قدح فيهما بإظهار كفره، فإذن يقل القبول منه، فجعل هذه الطريقة سلماً إلى مراده).
وإلاّ فإن الأدلة على العلاقة الأخوية الحسنة التي كانت تربط أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصحابة أشهر من نار على علم، وهي كثيرة في الكتاب والسنة والواقع؛ لعل أبسطها دلالة هي زواج النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من عائشة وحفصة، وعمر من أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب من فاطمة.
وتسمية الأئمة من أهل البيت أسماء أولادهم بأسماء الصحابة خير دليل على ذلك؛ لأننا لم نجد الشيعة في أيامنا هذا يسمون أولادهم بأسماء الصحابة، لاسيما أبي بكر وعمر وعثمان، حتى لو أُعطي الواحد منهم كنزاً ثمينا.
المبحث الثاني
أبو بكر رضي الله عنهم والهجرة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم
تقول كتب الشيعة : إن الناس( أي الصحابة ) إرتدوا([103]) بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ نفراً قليلاً، حينما بايعوا علياً في غدير خم، ثم بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم أنكروا إمامةَ وصيّهِ واغتصبوه حقه في الخلافة.
فيقال لهم: هل هذا يعني أنهم كانوا مسلمين قبل ذلك، وعرفتم ردتهم وانقلابهم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ؟
أم أنهم لم يسلموا قط؛ لا في حياة النبي ولا بعد وفاته؟
الظاهر من أخبارهم أنهم كانوا مسلمين ولو في الظاهر، لأنه لا ردة إلا بعد ثبوت حكم الإسلام.
ومن المعلوم لكل عاقل منصف أن ولاية علي رضي الله عنه وتنصيبه خليفة للمسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ـ حسب دعوى الشيعة ـ نزلت في غدير خم في آخر حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
أما قبل ذلك فلم يكن المسلمون يعرفون شيئاً إسمه خليفة رسول الله؛ وإن كانت الشيعة تدعي أن النبي عليه السلام أعلن ذلك مراراً وتكراراً في مناسبات عديدة قبل هذا التاريخ، ولكن المتسالم بينهم أنها لم تكن ترقى إلى مستوى التنصيب الرسمي والإعلان النهائي، ولهذا لم يكن هذا الإعلان مشهوراً بين المسلمين قبل ذلك؛ كما لم يحدث رفض لهذا التنصيب من أحد من الصحابة قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
ونحن نتساءل:
هل كان أبو بكر الصديق رضي الله عنهم قد أنكر يوم الهجرة تنصيب النبي لعلي خليفة من بعده؟!
وهل كان مشهوراً بين المسلمين قبل الهجرة من مكة إلى المدينة أن علياً رضي الله عنه سيصبح خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أمته من بعده؟!
الجواب قطعاً، لا؛ فإذا لم يكن أبو بكر ولا عمر ولا غيرهما قد أنكروا معلوماً من الدين بالضرورة، فلماذا يكفرون من قبل الشيعة في ذلك التاريخ وقبله؟
ولماذا لا تنظر الشيعة إلى أبي بكر الصديق على أنه كان مؤمناً بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الهجرة، وعلى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنما إختاره لصحبته يوم الهجرة لعلمه بإيمانه وبشجاعته وبصفاته التي تجعله الرجل المناسب للمهمات الصعبة لما يحمله ذلك اليوم من مخاطر وشدائد تحيط بحياة النبي وبدعوته من خروجه من بيته حتى وصوله إلى مستقره في المدينة المنورة.
من كان يعلم في ذلك اليوم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيصيّر علياً خليفةً من بعده، فيرفضه أبو بكر وعمر وبقية المسلمين من المهاجرين والأنصار؟
هبْ أنه لا وجود لعقيدة الإمامة في الإسلام من أساسها، فكيف ينظر المسلم إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنهم في ذلك اليوم العصيب ؟!
بين الهجرة وبين إغتصاب الخلافة ما يقارب من إحدى عشرة سنة، فلماذا حكمتم على الرجل بالجبن والكفر والنفاق؛ ولم يظهر منه ما يدل على علامة واحدة من علامات الكفر والنفاق، حتى قال خاتمة محدثيكم علاّمتكم النوري الطبرسي في كتابه المسمى ( فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب ) : ( إن آية الغار تدل على عدم إيمان الصاحب!)([104] )
قال القاضي:
( ولقد قال العلماء من السلف: إن اللّه أفرد أبا بكر الصديق بفضل الصبر على جميع المؤمنين من غير تأثيم لهم، كأنه يقول: لو صبرتم مثل صبره ولم تترخصوا لكان ذلك أفضل، فإن أبا بكر يفضل صبره عليهم. وقوله: ﴿ لا تحزن ﴾ ليس بنهي، وإنما هو بشرى، كقوله لموسى وهرون: ﴿ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى ﴾ وكقوله لأم موسى: ﴿ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ ﴾ وقوله: إن اللّه معنا، بالنصر والتأييد، كما قال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾. وأبو بكر في هذا الحزن ممدوح لأنه خاف على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم الأذى والعنف من المشركين، فجازاه اللّه بأن بشره أنه معهما بالنصر والتأييد. قال أهل العلم في قوله: ﴿ فأنزل اللّه سكينته عليه﴾، يعني على أبي بكر، فأما النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسلم فقد كانت السكينة عليه قبل ذلك.
ومن حديث عبد الملك بن عمير، عن أسيد بن صفوان، أن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم قال وهو يثني على أبي بكر حين توفى: كنت ثاني اثنين، وصاحبه، والمنزل عليه السكينة، ورفيقه في الهجرة والمواطن الكريمة. وقالوا في قوله: ﴿ وأيده بجنود لم تروها﴾: إنه أيد أبا بكر كما يؤيد المؤمنين من غير أن يروهم، وبشره رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بذلك فعلمه وتيقنه بتعريفه إياه. وإنما ذكرنا حال أبي بكر عند ذكر الآية التي هو مذكور فيها، ولأن الخصوم يسألون عن ذلك، ولحاجتك إليه، ولأن الطاعنين على أبي بكر بمثل هذا هم الطاعنون على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بما قدمنا وبأمثاله من الآيات التي يسألون عنها، وجعلوا الطعن على أبي بكر وأمثاله من المهاجرين والأنصار وآكد الطرق إلى تكذيبه، والطعن عليه، والإيحاش منه، والتنفير عنه، وأيسرها التشكيك في صدقه ونبوته، وهم: أبو شاكر الديصاني، وأصحابه: الحداد، وأبو عيسى، وابن الراوندي، والحصري ولكلهم كتب في الطعن على رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، وفي نصرة الإمامية وطبقات الرافضة، ولأن الطريق في العلم ببراءة أبي بكر والمهاجرين والأنصار مما رموهم به، كالطريق في العلم ببراءة رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم مما رموه به.)([105])
وبذلك يتبين أن الشيعة إنما تحاكم جهاد الصحابة مع رسول الله ومآثرهم البطولية وفتوحاتهم طيلة ثلاث وعشرين سنة إلى شيء وقع بعد هذا التاريخ إسمه غدير خم، وإلى عقيدة الإمامة التي لا نص عليها لا صراحة ولا تلميحاً لا في كتاب الله تعالى ولا في سنة المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه؛ ولذلك لم يؤمن بها الصحابة في ذلك اليوم، ولا يزال أكثر من مليار مسلم على وجه هذه البسيطة لا يؤمنون بها رغم أن الشيعة ألفت في إثباتها عشرات بل مئات المجلدات والكتب؛ لأنها كلها لا تقوم مقام آية واحدة صريحة لو وردت في كتاب الله تعالى.
ومع كل هذا فالعدل والإنصاف يقتضي من الشيعي أن يقول: أن الصحابة كانوا مؤمنين وملتزمين بأوامر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنهم كانوا على العهد باقين حتى وقع الإنكار منهم لوصيه بعد وفاته، وعند ذاك فلا داعي لتكفيرهم قبل ذلك التاريخ ولا تحريف تأويل الآيات التي نزلت تمدح إيمانهم وصدقهم؛ ومن ذلك هجرة أبي بكر الصديق رضي الله عنهم مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقتالهم المشركين وجهادهم مع رسول الله طيلة ثلاث وعشرين سنة.
المبحث الثالث
للصحبة ميزات وخصائص من دون سائر البشر
قبل أن نتكلم في خصائص الصحابة، نود أن نذكر الفرق بين مصطلح الصحابة ومدلوله اللغوي ومدلوله الإصطلاحي الشرعي.
فمفهوم الصحبة عند الإطلاق يراد به المعنى الشرعي لا اللغوي، والصحابي بالمعنى الشرعي هو: من لقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته مؤمناً به ومات على الإسلام([106]).
فبناءً على هذا التعريف نعلم أن لفظ الصحابة لا يراد به المنافقون؛ لعدم إيمانهم أصلاً، وكذا لا يراد به من ارتد ومات على الكفر([107])، كما لا يراد به من آمن بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو آمن في حياته ولكنه لم يلتق به.. إلخ.
وهؤلاء الصحابة عند أهل السنة كلهم عدول، والمراد بعدالتهم أنهم لا يتعمدون الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم البتة.
وليس معنى عدالتهم أنهم معصومون من المعاصي أو السهو أو الغلط، بل هم بشر كغيرهم، قد تحصل منهم الذنوب والمعاصي، ولكنهم يتوبون منها، ولهم من الحسنات ما يربو بكثير على ما قد يحصل منهم من سيئات. ([108])
ولقد ذكر الله المتقين وأثنى عليهم ووعدهم الجنة، وأخبر بعدم عصمتهم، وأنهم قد تحصل منهم الذنوب والمعاصي، كما قال سبحانه: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ . الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ . وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران:133-135].
فمع وعدهم بهذا الجزاء العظيم، ووصفهم بالتقوى، بيَّن سبحانه أنهم غير معصومين، وأنه قد يحصل من بعضهم الوقوع في بعض الذنوب أو الفواحش، ولكنهم يتوبون منها ولا يصرون على فعلها، فهم يوافون الله سبحانه وتعالى مع وصفهم بالمتقين، فهذا هو المراد من عدالة الصحابة عند الإطلاق... فتأمل([109]).
وخلاصة القول: أنهم قد يقعون في بعض المعاصي، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، فقد يغفر لهم بسابقتهم، أو بما لهم من الحسنات التي تمحو السيئات، أو بحبِّهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو بالمصائب، أو بظلمِ وسبِّ من يأتي بعدهم، أو بتوبةٍ صادقة منهم، أو بشفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم -وهم أحق الناس بها- ونحو ذلك، والتوبة تَجُبُّ ما قبلها.
ثم القَدْرُ الذي يُنكر من فعل بعضهم قليلٌ نزرٌ مغمورٌ في جنب فضائلهم ومحاسنهم، من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله والهجرة والنصرة والعلم النافع والعمل الصالح.
وقد زنى بعض الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورجمه، ومع ذلك شهد له بتوبة عظيمة لو قسمت بين أُمّةٍ لوسعتهم([110]).
وشَرِبَ الخمرَ أحدُ الصحابة فجلده النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدة مرات، فلما لعنه أحد الصحابة لكثرة ما يؤتى به، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تلعنوه فإنه يحب الله ورسوله)([111]).
والمراد بعدالتهم عند أهل الحديث قبول روايتهم مطلقاً([112])، مع جواز ورود النسيان والغلط عليهم، ولكن هذا يندفع بعدم معارضة أحد من الصحابة رضي الله عنهم له، مما يدل على قبول حديثه مطلقاً، ولو نسي أو غلط لهيّأ الله من يرد عليه خطأه، وبهذا يتحقق حفظ الله لدينه، والأمة معصومة بمجموعها كما هو مقرر في الأصول([113])..
وعدالة الصحابة أمر لازم لحفظ هذا الدين، فهم نقلة الكتاب والسنة، وليست مجرد شرف شخصي لهم، ولهذا نقلوا إلينا الكتاب والسنة على أتم وجه.
فمن طعن في عدالتهم فقد طعن في القرآن والسنة، كيف لا! والأخبار لا تؤخذ من الفاسق، فكيف بالقرآن؟!
ويؤيد هذا ما جاء في (الكافي) عن منصور بن حازم، قال: قلت لأبي عبد الله: «.. فَأَخْبِرْنِي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صدقوا على محمد أم كذبوا؟ قال: بل صدقوا..»([114])، فالرواية تثبت عدالة الصحابة رضي الله عنهم في روايتهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
أما المنافقون فلم ينقلوا شيئاً البتة، فهم لا يتجرءون على الرواية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يستطيعون الكذب في هذا الشأن؛ ولهذا فإن الآيات التي تفضح المنافقين وتعريهم كثيرة جداً، وليس فيها آية واحدة تدل على أنهم استطاعوا الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وهنا ملاحظة لطيفة، وهي: أن جميع روايات أهل السنة ينتهي سندها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبما أن روايات رسول الله دين، يحتاج إليها الأمة كما يحتاج إلى القرآن الكريم، فقد قيّض الله تعالى مَنْ يحفظها.
أما روايات الشيعة فأغلب أسانيدها ينتهي إلى أحد الأئمة، وهم بشر دون رسول الله، وبالتالي فليس حفظها ضرورياً لحفظ الدين؛ وهذا ما حدث فقد كثر الكذابون على الأئمة، وليس هذا محل الإحصاء والحصر.([115])
وتأمل قوله سبحانه عن نبيه صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ . لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ . ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ . فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ [الحاقة:44-47]. فإذا كان هذا في شأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لو تقول على الله سبحانه، فكيف بغيره لو حاول أن يكذب أو يحرف؟!
والحماية ربانية لا بشرية، والبشر إنما هم من الأسباب المُسَخَّرة لهذه الحماية.
وهذه حقيقةٌ ناصعة، فلا الصحابة يكذبون لعدالتهم، ولا المنافقون يقدرون على الكذب في هذا الميدان تحديداً([116]).
أما مسلمة الفتح فهم كغيرهم من الصحابة، لا يمكن أن يتعمدوا الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومع ذلك فلم يتحملوا من السنة ما تحمله الصحابة الملازمون للرسول صلى الله عليه وآله وسلم من قبل، مع ما اشتهروا به من الصدق والديانة وغاية الأمانة، وأما من أُخِذَ عليه بعضُ المآخذ منهم -كوقوعه في بعض المعاصي- فقد تتبع أئمة الحديث أحاديثهم، فلم يجدوا في ذلك ما يوجب التهمة، بل وجدوا عامة ما رووه قد رواه غيرهم من الصحابة ممن لا تتجه إليه تهمة، أو جاء في الشريعة ما في معناه أو يشهد له، فلم يبقَ بعد ذلك حجة لأحد([117])..)([118])
ولهذا فقد أثبت الله تعالى في كتابه المنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن للصحبة والسابقة إلى الإسلام ميزة وخصائص ليست لغيرهم.
يقول شيخ الطائفة الطوسي: ( وإنما كان السابق إلى الخير أفضل لأنه داع إليه بسبقه - والثاني تابع - فهو إمام فيه وكذلك من سبق إلى الشر كان أسوء حالا لهذه العلة. والإتباع طلب الثاني لحال الأول أن يكون على مثلها على ما يصح ويجوز، ومثله الاقتداء).([119] )
ومن هذه الخصائص التي لا تشمل غير الصحابة:
أولاً: العفو عن الفرار من الزحف:
حكم الله تعالى أنه لا يجوز للمسلمين أن يفروا من أرض المعركة، وتوعد الفارين منهم بأشد أنواع العقاب؛ فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ (الأنفال:16) .
ولكن الله تعالى لما علم أن مهمة الجيل الأول من المسلمين شاقة جداً وأنهم يتحملون من أعباء نشر هذا الدين ما لا يتحمله غيرهم ممن سيأتون من بعدهم، أخرجهم من حكم الفرار من الزحف فقال في حقهم بعد ما وقع الفرار من بعضهم في معركة أُحد : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾(آل عمران:155)
وهذه خصيصة لصحابة النبي من دون سائر المسلمين من بعدهم.
ومع أن الله تعالى قد عفا عنهم؛ ولكن الشيعة أبوا أن يعفوا عنهم، ولسان حالهم يقول: لماذا يا رب عفوت عنهم ونحن نبغضهم ونتمنى لهم أسوأ من ذلك. وتراهم يقولونها على كل لسان، ويثبتونها في كل كتاب.([120])
ثانياً : عدم إستواء غيرهم معهم في الأجر:
إذا ميّز الله تعالى أحداً من عباده على غيره، فهو الحكم العدل الذي لا يٌخاف منه هضماً ولا ظلماً؛ فمعنى هذا أنه إستحق هذا التكريم عن جدارة وإستحقاق، وإلاّ فإن الله تعالى لا يحابي أحداً على حساب أحد. وهو القائل في حق السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار: ﴿ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾(الحديد:10).
وهذا كقوله تعالى: ﴿ لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ (20الحشر: ).
فإذا كان من المستحيل أن يستوي أصحاب النار مع أصحاب الجنة، فكذلك لا يستوي السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار مع مَنْ جاء من بعدهم كائناً من كان.
وليس ذلك إلاّ لعلمه سبحانه وتعالى بأن لهؤلاء الدور الأكبر والفضل الأعظم لمن سيأتون من بعدهم لما يتحملونه من المهام الجسام في ظروف عصيبة قد لا يتحمله غيرهم ممّن يولدون على الإسلام، ولأن هؤلاء لهم أجر من إهتدى من بعدهم، لأنهم كانوا السبب في هدايتهم([121]).
يقول محمد حسين فضل الله: ( لأن هناك فرقاً كبيراً بين الذين يجاهدون وينفقون في الظروف الصعبة القاسية التي كان الإسلام فيها يعاني من قلة العدد والعدة، في مواجهة القوة الكافرة التي كانت تتميز بكثرة العدد والعدة، وبين الذين يجاهدون بعد الفتح الذي كانت القوة فيه للمسلمين وذلك بعد فتح الحديبية أو فتح مكة، بحيث لم تكن هناك مشكلة كبيرة في العدد والعتاد، الأمر الذي يجعل الفئة الأولى في المواقع المتقدمة في درجات القرب من الله، لأن مسألة المعاناة في مواقفهم والأثر الكبير الإيجابي في نصرتهم للإسلام في مواقعهم تحمل ميزةً كبيرةً لا تقترب منها الفئة الأخيرة).([122] )
وهذه خصيصة أثبتها الله تعالى لصحابة النبي، فلا يجوز لأحد كائناً من كان أن يعترض عليها؛ وكذلك لا يجوز لأحد أن يدّعي أنه يستحق من الأجر والثواب أكثر منهم.
ثالثاً: توبة الله للصحابة:
كان الصحابة رضي الله عنهم بشراً مثل سائر البشر، ولكن الله تعالى أعدهم لمهمة لم تتح لغيرهم من البشر. فبهم نصر نبيه الكريم صلى الله عليه وآله وسلم على أعدائه، وبهم إنتشر الإسلام في أرجاء المعمورة بعد أن كان الكفر والشرك ديناً للناس.
وبهم حفظ الله تعالى كتابه الكريم ليصل إلى الأجيال اللاحقة محفوظاً سالماً من كل تحريف أو تبديل أو زيادة أو نقصان.
وبهم حفظ الله تعالى سنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم قولاً وتقريراً وعملاً. وبهم . . وبهم . . إلخ.
ومع كل الذي ذكرناه، فهم بشرُ كغيرهم من البشر؛ يصيبون ويخطأون، تنتابهم الغفلة والنسيان، مُعرّضين لأن يرتكبوا المعاصي والآثام، فهم ليسوا معصومين وليسوا بأنبياء. ولكن لعظم المسؤوليات الملقاة على عاتقهم؛ ولكونهم جيل التأسيس والنشأة الجديدة، فقد كان الله تعالى يعفو عنهم ويتوب عليهم وينزل عليهم السكينة والإطمئنان، ليعلم الذين من بعدهم أنّ أخطاء هؤلاء القليلة مغمورة في بحار حسناتهم وجزيل ثوابهم.
ولهذا فبعد آخر معاركهم مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتي هي معركة تبوك، أنزل الله تعالى توبته عليهم وأثبتها في كتابه الخالد؛ يتلوها المسلمون جيلاً بعد جيل، وليعلموا أن الجيل الأول من المسلمين ما فارقوا نبيهم الكريم إلاّ بعد أن تاب الله عليهم من كل ذنب صغيراً كان أم كبيرا.
فقال تعالى في حقهم: ﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾(التوبة: 117)
وحتى على قراءة الشيعة كما وردت في كتبهم: { لقد تاب الله بالنبي على المهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة قال الصادقعليهما السلام هكذا نزلت}([123])فإن المعنى لا يختلف بالنسبة للمهاجرين والأنصار، فسواء أتاب الله عليهم بالنبي، أو بغير النبي، فالمهم أن الله تعالى أثبت توبته عليهم من كل ذنوبهم السابقة.
رابعاً : تزكية الله تعالى لهم والرضا عنهم وعمّن يسلك سبيلهم ويقتدي بهم:
وهذه أيضاً لا يمكن أن تكون لغيرهم، لأن الوحي قد إنقطع، ولا يجوز لأحد مهما أوتي من التقوى والعمل الصالح أن يدّعي أن الله تعالى قد رضي عنه، أو عن غيره من البشر إلاّ بوحي من الله.
قال تعالى في حق السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾(التوبة:100) فليس في هذه الآية إسثناء، ومَنْ ذا الذي يستطيع أن يزعم أنّ أبا بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من المهاجرين والأنصار ليسوا من السابقين الأولين، إلاّ مَنْ أعمى الله بصره وبصيرته عن قبول الحق؟!
قال السيد محمد حسين فضل الله في تفسيره: ( الذين سبقوا إلى الإيمان والهجرة والنصرة والجهاد، ووعوا مسؤوليّة الدعوة إلى الله، في الوقت الذي لم يكن هناك للإسلام قوّةٌ، ولم يكن مع الرسول إلا القليل، فلم يستوحشوا لذلك، ولم يخافوا من نتائجه، بل أقبلوا على الساحة إقبال التضحية مستعدين ليقدّموا الحياة كلها قرباناً لله، ليكونوا الروّاد للمسيرة الطويلة، ليتعلم الناس من خلال شجاعتهم كيف يواجهون شجاعة الموقف أمام التحدّي بالقدوة الحسنة. وبذلك استطاعوا أن يدفعوا المسيرة للاستمرار، وأن يصنعوا لهم أتباعاً في الخط والموقف ﴿ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ ﴾ فساروا على الطريق نفسه المنطلق إلى الله، وأحسنوا الإيمان والعمل من حيث أحسن الأوّلون)([124])
وأيضاً قال جل شأنه : ﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: 110] فإن لم تكن تلك الأمة التي عاصرت نزول القرآن من المهاجرين والأنصار هم المخاطبون بهذه الآية، فمن هم إذن؟ وهذه هي تاريخ أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فليأت شاهد من أهل السنة أو الشيعة وليدّعِ أو ليزعم أن أحداً بعد جيل الصحابة وصل إلى ما وصل إليه أولئك العظام من المهاجرين والأنصار من التقوى والورع والتضحية؟!([125])
والقرآن فيه شواهد كثيرة على رضاء الله تعالى عن المهاجرين والأنصار، ولكن الشيعة حصروا المهاجرين والأنصار بعلي بن أبي طالب وأربعة أو خمسة من الصحابة. أما أين مئات الصحابة الذين قاتلوا المشركين والكفار مع نبيهم وبعده، فهؤلاء إلى جهنم وبئس المهاد.
الخاتمة
وفي ختام هذا البحث أشير وبإيجاز إلى أهم الأفكار والحقائق التي وردت فيه:
ـ الخلاف بين السنة والشيعة هو خلاف أصولي عقائدي، ويُخطئ من يظن أن هذا الخلاف هو من جنس الخلاف بين مذاهب أهل السنة، ذلك لأن الخلاف بين المذاهب السنية، هو خلاف فقهي؛ وبحمد الله تعالى لا يوجد بينهم خلاف في أصل واحد من أصول الدين.
ـ تعتمد الشيعة في إثبات أصولهم، ومنها ( الإمامة ) على العقل، بحيث أوجبوا على كل شيعي أن يستدل بعقله المجرد على هذا الأصل؛ ولا ضير بعد ذلك إذا توصل إلى أدلة نقلية من الكتاب والسنة، تعضد أدلته العقلية، لأن أدلة الكتاب والسنة عندهم أدلة تكميلية؛ لأنهم يعتقدون ثم يستدلون. وعلى هذا الأساس فالتقليد لا يجوز عندهم في أصول الإعتقاد. والسؤال الذي يطرح نفسه: ما حكم من لم يتمكن من الإستدلال بعقله إلى وجود أصل عقيدة الإمامة؟
ـ جميع الأدلة النقلية التي تسوقها الشيعة في معرض الإستدلال بها على عقيدة ( الإمامة ) من الكتاب والسنة، هي أدلة محتملة متشابهة ـ أي غير قطعية في دلالتها على الإمامة ـ بل تحتاج إما إلى التفسير أو إلى رأي عالم؛ والقاعدة تقول: ( الدليل إذا تطرق إليه الإحتمال بطل به الإستدلال ). كما إن الإستدلال بالمتشابه في الأمور المهمة التي يتعلق بها إيمان أو كفر؛ هي من صنيع أهل الزيغ إبتغاء الفتنة وابتغاء تأويله([126])، في حين أن أصول الدين المتفق عليها ( التوحيد، والنبوة، والمعاد ) قد ثبتت بكتاب الله الحكيم بأدلة قطعية وواضحة وصريحة، يفهمها العالم والأمي على حدٍّ سواء.
ـ بما أن أدلة الإمامة لدى الشيعة غير مبنية على أدلة قطعية صحيحة، لهذا تراهم متناقضون فيها: فتارة يقولون لا ندعي علم الضرورة فيها، وتارة أخرى يقولون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد بينها في مناسبات عديدة، بحث لم يدع لأحد من الناس أدنى شك أو لبس فيها، وتارة أخرى يقولون: أن عمر بن الخطاب منع النبي من النص على علي حينما قال: حسبنا كتاب الله. وهذا طعن في الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يكون طعناً في عمر؛ لأنه وقع عدة معارضات للرسول من قبل بعض المنافقين([127])، بل وحتى من قبل بعض الصحابة([128])؛ ومع ذلك فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم مضى في قول الحق وبيانه، ولم يلتفت إلى المعارضة. فلماذا حين عارضه عمر في أمر كتابة الكتاب سكت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولم يبينه شفاهاً أو كتابةً رغم أنه عاش بعده أربعة أيام؟
ـ لقد وردت في القرآن الكريم آيات كثيرة خارجة عن الحصر في إثبات إيمان الصحابة وبراءتهم من النفاق، لاسيما في الآيات التي نزلت في مكة والمدينة قبل يوم الغدير ـ الذي هو بزعم الشيعة يوم إعلان رسمي لخلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنهم . ولكن القوم لمّا إعتقدوا ـ بحسب عقولهم ـ أنه لابد أن يكون هنالك نص من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على الخليفة من بعده، صاروا يحرّفون الكلم من بعد مواضعه؛ فتارة يقولون بوجود نقص أو تحريف في آيات القرآن، وأن الصحابة غيروا وحرفوا الآيات الدالة على إمامة علي رضي الله عنهم ، وتارة يحرّفون تفسير الآيات الدالة على فضل الصحابة تفسيراً تعسفياً خارجا عن حدود المنطق واللغة والعقل، أو يجعلوها في أربعة أو خمسة من الصحابة الذين لم يرتدوا، لأنهم قالوا بإمامة علي.
ـ لا يمكن للشيعة إثبات تواطؤ أكثر من ( 100 ألف) مسلم كانوا موجودين في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على إنكار أو إخفاء نص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على علي بن أبي طالب بالإمامة. وهم نقلة الكتاب الكريم والسنة النبوية الشريفة، وهم قد نقلوا أشياء وأحداث كثيرة غير قابلة للحصر، ونقلوا ما لهم وما عليهم. أما الآيات والروايات التي تستدل بها الشيعة اليوم والتي بلغت ـ حسب زعمهم ـ أكثر من ألفي دليل، فهي جميعها غير قادرة على إقناع أكثر من مليار وربع المليار من المسلمين من أهل السنة والجماعة على وجه هذه البسيطة للقبول بعقيدة الإمامة.
هل إن الصحابة تواطؤا على إنكارها حقداً لأهل بيت النبيصلى الله عليه وآله وسلم ؟ أم لأنهم لا يريدون رضاء الله تعالى وجنته، ولا يخافون عذابه؟ أم لأن جميع إستدلالات الشيعة لا تقوم مقام آية واحدة صريحة لو جاءت في القرآن الكريم للدلالة عليها ؟
ـ توصلت من خلال هذا البحث أن الشيعة تحاكم الكتاب والسنة إلى أحداث التاريخ التي حصلت بعد وفاة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم . هذا الصنيع أدى إلى إصدار حكم مسبق ومستقل عن أدلة القرآن والسنة على جميع الصحابة الذين لم يقفوا مع علي رضي الله عنهم في المطالبة بحقه في الخلافة، سواء في زمن الخلفاء الذين سبقوه، أو الذين حاربهم وحاربوه في خلافته، أو الذين وقفوا موقفاً محايداً منه. مما إضطرهم إلى إنكار فضائل الصحابة في جهادهم وفتوحاتهم في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعده. رغم أن أغلب الآيات التي نزلت تمدحهم نزلت قبل وجود عقيدة الإمامة.
ـ إن إعتقاد الإمامة الإلهية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم طعن في علي قبل أن يكون طعناً في الصحابة من المهاجرين والأنصار، ذلك أن الحرية السياسية والدينية في زمن الخلفاء الذين سبقوا علي بن أبي طالب كانت متاحة لكل أحد؛ بل حتى لغير المسلمين. والشجاعة المعهودة لعلي بن أبي طالب لم تكن تسمح له بأن يرى حقاًّ مسلوباً، أو يرى باطلاً يٌعمل به، ثم يبقى ساكتاً. بل إن الشيعة وصفوا علياًّ بأوصاف من الجبن والضعف، بحيث كان يرى إبنته تُغتصب، وزوجته تُضرب، ويَسقط جنينها، ويُسلب حقه في الخلافة؛ ومع ذلك فهو ساكت لا يفعل شيئا. وأكثر من هذا قالوا عنه: أنه في زمن حكمه وخلافته لم يستطع إظهار القرآن الصحيح، وإرجاع فدك إلى أهل البيت، بل إنه كان يأمر ولاته وقضاته أن يحكموا بما كان عليه الأمر في زمن الخلفاء الذين سبقوه؛ فهل ياترى هنالك ذم وتنقيص أكثر من هذا، حتى أن هذه الأوصاف لا يقبله العامي من الشيعة لنفسه!
ـ وأخيراً، أود الإشارة إلى نقطة مهمة ربما تطرقت إليها في البحث بصورة موجزة، وهي عدم صحة إنتساب الشيعة إلى أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ذلك أن الشيعة يعتقدون أنهم يأخذون دينهم عن المعصومين من أهل البيت بقولهم: ( أهل البيت أدرى بما فيه )، أو إستدلالهم بقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ( تركت فيكم كتاب الله وعترتي أهل بيتي). وأهل السنة والجماعة لا ينازعونهم في صحة الحديث من عدمه؛ وإنما ينازعونهم في صحة الأقوال المنسوبة إلى أهل بيت النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، وطرق وصول وتدوين رواياتهم، ويتبين ذلك من خلال الأمور التالية:
الأمر الأول: الشيعة أنكروا على أهل السنة إستدلالهم بالسنة النبوية الشريفة، على أساس أن نقلتها هم الصحابة، وهم غير معصومين. في حين أنهم وقعوا في شرٍّ من ذلك، فجميع رواياتهم منقولة عن أناس مجروحين على لسان الأئمة من أمثال زرارة بن الأعين وهشام بن الحكم، وجابر بن يزيد الجعفي، والأحول، وآخرون غيرهم، وهم بالإتفاق غير معصومين. بل إنهم عمدوا إلى الروايات التي في سندها أحد من أهل البيت من أمثال محمد بن الحنفية، وزيد بن علي، وعبدالله بن العباس إبن عم الرسول؛ فجعلوها ضعيفة، أو غير موثقة بسبب هؤلاء الذين ذكرناهم.
الأمر الثاني: إذا كانت رواياتهم تنتهي في سندها إلى أحد أئمة أهل البيت، فروايات أهل السنة تنهي في سندها إلى صاحب الشريعة الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الأمر الثالث: قالوا بوجوب وجود معصوم بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأن الأمة غير مؤتمنة في نقلها للشريعة، ولكنهم خرقوا هذه القاعدة حينما قالوا: بغياب الإمام الثاني عشر.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: من الذي قام بإيصال الشريعة إلى الشيعة بعد وقوع الغيبة الكبرى؟
فإن إعتمدوا على النقل، واكتفوا بالروايات المنقولة عمّن سبق الغائب، فالنقل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أولى بالإعتماد.
الأمر الرابع: الشيعة قالوا: إن الإمام إنما وجد ليزيل الخلاف بين المسلمين، ومع هذا فالخلاف بينهم أكثر وأكبر من الخلاف بين أهل السنة فيما بينهم، وقد أشرت إلى أقوال بعض علمائهم في ذلك في متن البحث.
وهناك إلزامات أخرى كثيرة، تُطلب من مضانّها، تركتها خشية الإطالة.
والله تعالى أسأل أن يجعل هذا البحث الذي تحريت فيه بيان الحق من الباطل، عوناً يستفيد منه الباحث عن الحقيقة ليهتدي إلى الحق
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
في الثاني عشر من ربيع الأول عام 1432هـ
الموافق للخامس عشر من شباط عام 2011م
الفهرس
ت | الموضوع | رقم الصفحة |
1 | تمهيد | 3-5 |
2 | المقدمة | 6-8 |
3 | الباب الأول: علاقة الإسلام بالتاريخ | 9 |
4 | الفصل الأول: السلطة الدينية والسلطة السياسية في الإسلام | 10-15 |
5 | الفصل الثاني: علاقة الخليفة بالرسول | 16-17 |
6 | الفصل الثالث: لماذا يحاكمون الإسلام إلى التاريخ | 18-23 |
7 | الباب الثاني: النص بين العقل والنقل والواقع | 24 |
8 | الفصل الأول: واقع الأئمة وغياب آخرهم يتناقض مع فلسفة الإمامة وأصلهم العقلية | 25-29 |
9 | الفصل الثاني: آيات القرآن الكريم تناقض عقيدة الإمامة | 30-34 |
10 | الفصل الثالث: أفعال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأقواله تشهد بأنه ما عهد لرجل بعينه | 35-37 |
11 | الفصل الرابع: تصرفات أمير المؤمنين تناقض العصمة والنص | 38 |
12 | المبحث الأول: أن علياً رضي الله عنهم لم يدّع النص والعصمة | 38-42 |
13 | المبحث الثاني: علي بن أبي طالب لم يحتج على مخالفيه إلاّ بالإختيار | 43 |
14 | المبحث الثالث: رفض علي رضي الله عنهم ما عرض عليه من المبايعة بالإمارة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم | 44-48 |
15 | المبحث الرابع: لم يكن سلطان أبي بكر وعمر سلطانا يخاف فيه محق، وقد عارضهما المسلمون في أمور كثيرة | 49-50 |
16 | المبحث الخامس: علي بن أبي طالب كان عزيزاً في خلافة من تقدمه من الخلفاء | 51-52 |
17 | المبحث السادس: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كان مكاشفاً بالحق | 53-56 |
18 | المبحث السابع: ( بين علي وطلحة ) | 56 |
19 | المبحث الثامن: ( بين علي والزبير ) | 57 |
20 | المبحث التاسع: ( بين علي وعائشة ) | 58-59 |
21 | المبحث العاشر: إعتقاد الإمامة في علي تنقيص من شأنه وطعن فيه وفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم | 60-61 |
22 | المبحث الحادي عشر: تناقض دعوى الشيعة في سكوت علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعدم إظهاره للنص | 62-64 |
23 | الباب الثالث: النص والصحابة | 65 |
24 | الفصل الأول: الصحابة في زمن الرسول | 66 |
25 | المبحث الأول: المسلمون الأوائل كانوا في ضلال مبين ثم اهتدوا | 66-67 |
26 | المبحث الثاني: لا نفاق في مكة | 68-71 |
27 | المبحث الثالث: شبهة والرد عليها | 71-73 |
28 | المبحث الرابع: هل كل الصحابة كانوا منافقين؟ وما دليل نفاقهم؟ | 74 |
29 | الفصل الثاني: الصحابة بعد وفاة الرسول | 75 |
30 | المبحث الأول: من تأمل حال الصحابة حين قبض رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم علم بعدم وقوع النص | 75-77 |
31 | المبحث الثاني: كيف خاض الصحابة في أمر الإمارة ولم يذكروا النص | 78 |
32 | المبحث الثالث: صلاة أبي بكر رضي الله عنهم بالمسلمين في مرض النبيصلى الله عليه وآله وسلم | 79-81 |
33 | المبحث الرابع: كيف فكر الأنصار بالإمارة ثم عدلوا عن ذلك بعد تبين الحق | 81-82 |
34 | المبحث الخامس: ( بين فاطمة وأبي بكر ) | 82-86 |
35 | المبحث السادس: لِمَ لَمْ يطعن المرتدون في خلافة الصديق؟ | 86 |
36 | الفصل الثالث: الأثر الرجعي للنص على الصحابة | 87 |
37 | المبحث الأول: هل يرضى الله تعالى عن أحد ويثبت رضاه عنه في القرآن ثم يسخط عليه بعد ذلك؟ | 87-89 |
38 | المبحث الثاني: أبو بكر والهجرة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم | 90-95 |
39 | المبحث الثالث: للصحبة ميزات وخصائص من دون سائر البشر | 95-103 |
40 | الخاتمة | 104-106 |
41 | الفهرس | 107-108 |
[1] - قال الجاحظ: ( إن الروافض ليست منا بسبيل، لأن من كان آذانه غير آذاننا، وصلاته غير صلاتنا، وطلاقه غير طلاقنا، وعتقه غير عتقنا، وحجته غير حجتنا، وفقهاؤه غير فقهائنا، وإمامه غير إمامنا، وقراءته غير قراءتنا، وحلاله غير حلالنا، وحرامه غير حرامنا، فلا نحن منه ولا هو منا ) [رسائل الجاحظ، رسالة حجج النبوة: 3/233–234.].نقلاً عن أصول مذهب الشيعة للدكتور ناصر القفاري.
[2] - يظن البعض من أهل السنة، ممّن ليس لهم إطلاع على الفكر الشيعي وفلسفة الإمامة عندهم، أنهم يطعنون في يزيد بن معاوية، أو في معاوية نفسه، أو في الذين قاتلوا علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وهذا غير صحيح، فعداوتهم الكبيرة تنصب على الخلفاء الثلاثة الذين سبقوا عليا رضي الله عنهم في الحكم، ومن وقف إلى جانبهم، أو ساندهم؛ وهذا واضح من خلال الطعونات الكثيرة التي تحويها كتبهم القديمة منها والحديثة. إعلم هذا ولا تخاطبهم في غير السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار.
[3] - أصول مذهب الشعية الإمامية الإثني عشرية ص376
قال القاضي عبدالجبار: ( قال شيخنا أبو علي رحمه الله: إن أكثر من نصر هذا المذهب كان قصده الطعن في الدين والإسلام، فتسلق بذلك إلى القدح فيهما؛ لأنه لو قدح فيهما بإظهار كفره، فإذن يقل القبول منه، فجعل هذه الطريقة سلماً إلى مراده، نحو هشام بن الحكم وطبقته، ونحو أبي عيسى الوراق، وأبي حفص الحداد، وإبن الراوندي وسائر من نحا هذا النحو؛ لأن المتعالم من حالهم ما ذكرنا، حتى شهر ذلك وتصبح من طريقتهم بأفعالهم وأقوالهم، وعلى هذا الوجه أظهروا ما يكون نقضاً للدين والإسلام، لأن مرادهم إبطال الكتاب والسنة، وأجازوا في الكتاب ـ أو كثير منهم ـ الزيادة والنقصان. وبعضهم أخرجه من أن يكون معجزاً، وأبطلوا طريقة التواتر الذي لولاه، لما ثبت الكتاب والسنة، وقدحوا في الإجماع. وبيّن شيخنا أبو علي رحمه الله، أنهم تجاوزوا ذلك إلى إبطال التوحيد والعدل، وأن هشام بن الحكم قال بالتجسيم، وبحدوث العلم، وبجواز البداء، إلى غير ذلك مما لا يصح معه التوحيد، وقال بالجبر، وما يتصل بتكليف ما لا يطاق، ولا يصح معه التمسك بالعدل)( المغني في أبواب التوحيد والعدل/ الإمامة/1).
وقال شيخ الإسلام إبن تيمية: ( فإنهم ـ أي الرافضة ـ عمدوا إلى خيار أهل الأرض من الأولين والآخرين بعد النبيين والمرسلين وإلى خير أمة أخرجت للناس فجعلوهم شرار الناس وافتروا عليهم العظائم وجعلوا حسناتهم سيئات...)( المنهاج 5/160)
[4] - تثبيت دلائل النبوة
[5] - منهاج السنة 1/70
[6] - من هو القاضي عبدالجبار؟ هو: عبدالجبار بن أحمد بن عبدالجبار بن أحمد بن الخليل بن عبدالله أبو الحسن الهمذاني الأسد أبادي، ويلقب بعماد الدين حيفا، وبقاضي القضاه أكثر الأحيان، ولد 325هـ/936م و توفي بالري سنة 415هـ/1025م. وكانَ أشعريَّاً بادئ الأمر، ثُم تحوَّل إلى مذهبِ الاعتزال، ويقال: إن له أربعمائة ألف ورقة مما صنف في كل فن، له كتاب المغني الذي استغرق العمل في إنشاء أجزائه العشرين مده عشرين عاماً ابتداء من سنة 360هـ وانتهى في وضع آخر أجزائه سنة 380هـ في مدينة الري. وقد أثار الجزء الأخير ( الإمامة) من ( المغني) استياء الشيعة، أما بقية كتبه فتتناول قضايا متنوعة، وله كتب عديدة في التفسير والدفاع عن القرآن ككتابُ "تنزيه القرآن عن المطاعن". وكتاب "تثبيت دلائل النبوة" موضوعه الجدل مع الشيعة، وهو محور بحثنا.
[7] - قال القاضي عبدالجبار الهمذاني ألمعتزلي: ( وعند الإمامية وطبقات الرافضة أن أبا بكر وعمر وعثمان والبدريين والمهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم وأعانوهم على وراثة الأرض حتى أبادوا الأمم وغلبوا ملوك الفرس والروم والترك وغيرهم من أمم الشرك كانوا كفارا مشركين طلاب دنيا لا طلاب دين وأنهم غيروا القرآن، وعطّلوا النصوص، وبدلوا الشريعة من الطهارة والأذان والصلاة والمواقيت والصوم والمواريث والنكاح والطلاق، ورفعوا ما كان ووضعوا ما لم يكن، وشهادة اللّه لهم بخلاف قول هؤلاء فيهم.
وأنت وإن كنت قد عرفك اللّه بعقلك بطلان دعاويهم عليهم فاعرفه أيضا بالسمع، فقد أتاك اللّه به في غير موضع من القرآن ومن غير القرآن. وفي قوله عز وجل: «لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ» دلالة أيضا على طهارتهم وعمق إيمانهم وبراءة ساحتهم، فهم أظهروا الدين، وأخذوا الممالك والأمصار ممن قبلهم، والذين من بعدهم إلى طاعتهم رجعوا، وبأمرهم سفكوا الدماء، وبقولهم أخذوا وأعطوا، فلو كانوا مبطلين لما كان الظاهر هو دين رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم على الدين كله، بل كان ما ذهب إليه هؤلاء الصحابة ظاهرا، ودين رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم الذي تدعيه الرافضة خاملا خفيا ميتا، فإن الذي يقول الإمامية أنه الحجة وأن الحق معه قد كان مغلوبا مقهورا، قد أسكته بزعمهم الخوف عن النطق بالحق والدعاء إلى دين النبي، وألجأه إلى تصديق الكاذبين وتكذيب الصادقين، وموالاة المشركين. والذي قرّره هؤلاء الصحابة من الدين والشريعة والقرآن هو الظاهر على الأديان، القائم به الحجة إلى الآن.) تثبيت دلائل النبوة ـ الجزء الثاني.
[8] - قال محمد حسين كاشف الغطا: ( أما ما يرويه مثل : أبي هريرة ، وسمرة بن جندب ، ومروان بن الحكم ، وعمران بن حطان الخارجي ، وعمرو بن العاص ، ونظائرهم ، فليس لهم عند الإمامية من الاعتبار مقدار بعوضة ، وأمرهم أشهر من أن يذكر )( أصل الشيعة وأصولها ص165). وإذا سألناهم وقلنا لهم: إذا كان أكثر الصحابة مطعون عندكم في عدالتهم، فأين أحاديث النبيعليهما السلام المنقولة من قبل الصحابة الذين لم يرتدوا بعد وفاتهصلى الله عليه وآله وسلم ، من أمثال أبي ذر وسلمان والمقداد وعمار؟
أم أن نقل الرواية عندكم لا يجوز إلاّ من قبل المعصوم؟
وعندئذٍ يقال لكم: فهل الذين نقلوا روايات الأئمة من أمثال زرارة وهشام بن الحكم، والجواليقي، والأحول، وجابر الجعفي، وإبي بصير، من أصحاب الإمام الصادق كانوا معصومين؛ فقبلتم رواياتهم؟ وأين هو مقياسكم الصحيح في قبول أو رد الروايات؟
[9] - قال السيد محسن الأمين: ( لم نزل نتنازع على شرعية الخليفة حتى صار المندوب السامي هو خليفتنا)( نقلاً عن كتاب: حول الوحدة والتقريب).قلت: يصدق هذا القول على من بدأ النزاع، والبادئ أظلم كما يُقال.
[10] - تثبيت دلائل النبوة/ الجزء الأول
[11] - (السنة والشيعة وحدة الدين خلاف السياسة والتاريخ ص164).
[12] - لا يعرفون من التاريخ الإسلامي الذي إمتد قروناً عديدة سوى معركتي الجمل وصفين ومعركة الطف، أما ما عداها من الفتوحات ونشر الإسلام في أرجاء المعمورة فليس لها عندهم أدنى إعتبار.
[13] - لقد غاب إمام الشيعة منذ أكثر من ألف سنة، ومع هذا فلم يؤثر غيابه على دين الشيعة، وهذا له لوازم كثيرة. نذكر بعضاً منها مما قاله القاضي عبدالجبار: ( وقد سألهم أصحابنا في الغيبة وأن سببها إن كان الخوف من الظهور، فقد كان يجب أن تحصل غيبة الأئمة في أيام بني أمية؛ لأن خوفهم كان أكثر، وكذلك في كثير من أيام بني العباس، ثم لم يمنع ذلك من ظهورهم، فكيف وجبت الغيبة في هذه الأيام؟ والخوف لا يزيد فيها على ما كان من قبل، فكيف تصح الغيبة مع شدة الحاجة إلى إمام فيما يتصل بالتكليف . . وهلا وجب على مذهبهم حراسة إمام الزمان من جهة الله تعالى، وأن يعصمه من كل مخافة، لما يتعلق به من صحة الشريعة؛ وذلك يقتضي بطلان الغيبة. وقد ألزمهم واصل بن عطاء على قولهم هذا أن يكون قبل بعثة النبي عليه السلام في الزمان حجة ورسول وإمام، ولو كان كذلك لما صح قوله تعالى: ] يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[ ( المائدة:19). لأن على قولهم لم يخل الزمان من بشير ونذير.)( المغني في أبواب العدل والتوحيد/ الإمامة/1).
[14] - المرجعية والقيادة ص14- 15 لآية الله كاظم اليزدي.
[15] - يؤكد هذا الرأي سيدنا علي رضي الله عنهم في نهج البلاغة في رسالة بعث بها إلى معاوية يقول فيها: ( أما بعد فإن بيعتي بالمدينة لزمتك وأنت بالشام لأنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بويعوا عليه فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار إذا اجتمعوا على رجل فسموه إماما كان ذلك لله رضا فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو رغبة ردوه إلى ما خرج منه فإن أبى قاتلوه على إتباعه غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى ويصليه جهنم وساءت مصيرا). كما يؤكد رضي الله عنهم أن البيعة لا تتم من قبل العامة، ولا يضر فيها تخلف الواحد والاثنين والطائفة القليلة فإنه لو اعتبر ذلك لم يكد ينعقد إجماع على إمامة، ولكنها لأهلها وهم أهل الحل والعقد: ( وَلَعَمْرِي لَئِنْ كَانَتِ الْإِمَامَةُ لَا تَنْعَقِدُ حَتَّى تَحْضُرَهَا عَامَّةُ النَّاسِ مَا إِلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ وَلَكِنْ أَهْلُهَا يَحْكُمُونَ عَلَى مَنْ غَابَ عَنْهَا ثُمَّ لَيْسَ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَرْجِعَ وَلَا لِلْغَائِبِ أَنْ يَخْتَارَ).
[16] - تفسير من وحي القرآن.
[17] - قال تعالى: ﴿ سَنُرِيهِمْ آياتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾( فصلت:53).
[18] - المنهج الأمثل
[19] - حديث صحيح رواه أبو داود وأحمد عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ الكندي.
[20] - من العبادات التي إخترعها فقهاء الشيعة، تلك العبادات التي تتعلق بتربة الحسين، وزيارة قبره وغيره من الأئمة، واللطم والتطبير في عاشوراء، وبناء الحسينيات، وزيادة ( أشهد أن علياً وأولاده المعصومين حجج الله ) ورتبوا على هذه الأمور من الأجر والثواب، ما يفوق ثواب الحج والجهاد! وكلنا نعلم أن هذه العبادات هي مخترعة لم تكن موجودة في زمن النبي ولا في زمن أمير المؤمنين ولا الحسن ولا الحسين. فمن الذي صيّرها عبادات؟ وهل كان ذلك بوحي من الله؟ أم هي مجرد عواطف وإستحسان إستحسنتها عقول البعض منهم فصيّرها عبادة وأعطى لها من عند نفسه ثواباً يفوق ثواب الصلاة والصوم والزكاة والحج!
[21] - يقول الإمام الغزالي رحمه الله في ( الإقتصاد في الإعتقاد/ص135): ( إن نظام الدين لا يحصل إلاّ بنظام الدنيا . . فنظام الدين، بالمعرفة والعبادة، لا يتوصل إليهما إلاّ بصحة البدن، وبقاء الحياة، وسلامة قدر الحاجات، من الكسوة والمسكن والأقوات والأمن . . فلا ينتظم الدين إلاّ بتحقيق الأمن على هذه المهمات الضرورية. وإلاّ فمن كان جميع أوقاته مستغرقاً بحراسة نفسه من سيوف الظلمة، وطلب قوته من وجوه الغلبة، متى يتفرغ للعلم والعمل؟ وهما وسيلتاه إلى سعادة الآخرة. فإذن: إن نظام الدنيا، أعني مقادير الحاجة شرط لنظام الدين).
[22] - المغني: كتاب الإمامة ـ ج/2 للقاضي عبدالجبار.
[23] - نهج البلاغة
[24] - نذكر بعض روايات الشيعة فقط، لأن المسألة عند أهل السنة والجماعة مجمع عليها:
عن أَبِي عَبْدِ اللَّهِعليهما السلام قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم : ( إِنَّ عَلَى كُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةً وَعَلَى كُلِّ صَوَابٍ نُوراً فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ فَخُذُوهُ وَمَا خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ فَدَعُوهُ ) ( وسائل الشيعة ج : 27 ص : 110)
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَعْفُورٍ قَالَ وَحَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ أَبِي الْعَلَاءِ أَنَّهُ حَضَرَ ابْنُ أَبِي يَعْفُورٍ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِعليهما السلام عَنِ اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ يَرْوِيهِ مَنْ نَثِقُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا نَثِقُ بِهِ قَالَ إِذَا وَرَدَ عَلَيْكُمْ حَدِيثٌ فَوَجَدْتُمْ لَهُ شَاهِداً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَإِلَّا فَالَّذِي جَاءَكُمْ بِهِ أَوْلَى بِهِ ) ( وسائل الشيعة ج : 27 ص : 110)
وَعَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ يَحْيَى الْحَلَبِيِّ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ الْحُرِّ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِعليهما السلام يَقُولُ كُلُّ شَيْءٍ مَرْدُودٌ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكُلُّ حَدِيثٍ لَا يُوَافِقُ كِتَابَ اللَّهِ فَهُوَ زُخْرُفٌ (وسائل الشيعة ج : 27 ص : 111)
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِعليهما السلام قَالَ خَطَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم بِمِنًى فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ مَا جَاءَكُمْ عَنِّي يُوَافِقُ كِتَابَ اللَّهِ فَأَنَا قُلْتُهُ وَمَا جَاءَكُمْ يُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ فَلَمْ أَقُلْهُ (وسائل الشيعة ج : 27 ص : 111)
وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِعليهما السلام يَقُولُ مَنْ خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَدْ كَفَرَ (وسائل الشيعة ج : 27 ص : 111)
مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الرَّضِيُّ فِي نَهْجِ الْبَلَاغَةِ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَعليهما السلام فِي كِتَابِهِ إِلَى مَالِكٍ الْأَشْتَرِ قَالَ: وَارْدُدْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَا يَضْلَعُكَ مِنَ الْخُطُوبِ وَيَشْتَبِهُ عَلَيْكَ مِنَ الْأُمُورِ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِقَوْمٍ أَحَبَّ إِرْشَادَهُمْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ فَالرَّادُّ إِلَى اللَّهِ الْآخِذُ بِمُحْكَمِ كِتَابِهِ وَالرَّادُّ إِلَى الرَّسُولِ الْآخِذُ بِسُنَّتِهِ الْجَامِعَةِ غَيْرِ الْمُتَفَرِّقَةِ ( وسائل الشيعة ج : 27 ص : 121 ) قلت: فهذا أمير المؤمنين يوصي أمراءه بالرجوع إلى الكتاب والسنة وهو حي موجود بينهم، ولا أدري لِمَ لَمْ يقل : أردده إليَّ فأنا المعصوم الذي لا أخطأ، وعندي كل علوم القرآن والسنة؟!
مُحَمَّدُ بْنُ مَسْعُودٍ الْعَيَّاشِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ سَدِيرٍ قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِعليهما السلام لَا تُصَدِّقْ عَلَيْنَا إِلَّا مَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وآله وسلم
أما قول بعض الشيعة من أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد إستودع بعض ما يحتاجه المسلمون لدى الأئمة، يظهره كل واحد منهم في زمانه، فهذا رغم مخالفته للكتاب والسنة والروايات الصادرة عن الأئمة التي أوردنا قسماً منها أعلاه؛ كذلك يصطدم مع واقع الشيعة والأئمة؛ وإلاّ فليبينوا لنا ما هو العلم الذي إستودعه النبي عليه الصلاة والسلام لدى الأئمة فأخرجه الأئمة للشيعة، وهو غير موجود لدى غيرهم من المسلمين. بل إختلاف الشيعة فيما بينها دليل قاطع على أن الأئمة ليس لديهم علم يحتاج إليهم المسلمون بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، بل المنقول عن الأئمة أنهم قالوا: ( عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِعليهما السلام قَالَ إِنَّمَا عَلَيْنَا أَنْ نُلْقِيَ إِلَيْكُمُ الْأُصُولَ وعَلَيْكُمْ أَنْ تُفَرِّعُوا )( وسائلالشيعة ج : 27 ص : 62 ) وأصول الدين واضحة معلومة لكل مسلم. أما الفروع فالإجتهاد من قبل علماء الأمة كفيل بحل جميع إشكالاتها وبيان حكمها. وعلى فرض خطأ الإجتهاد في الفروع ؛ فإنه أمر لا يتعلق به أيمان أو كفر؛ بل المجتهد من العلماء مأجور على إجتهاده أصاب أم أخطأ. ولا تزال الشيعة تعمل بالإجتهاد بعد غياب الإمام الثاني عشر دون نكير من أحد.
ثم هنا نسأل الشيعة ونقول: إن لم تكن نصوص كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم واضحة بيّنة لدى علماء المسلمين ومتفق عليها فكيف يأمر الإمام بعرض أقواله على كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ؟! أليس في هذا دليل على أن علماء الأمة هم الحكام على ما جاء عن الأئمة؟ وإلا كيف تتبين الأمة ما يوافق الكتاب والسنة من أقوال الأئمة؟
وإذا كان الإمام عنده من الرسول ما تحتاجه الأمة بعده فلماذا هذا التناقض الواضح بين علماء الشيعة، بل كما قال شيخ الطائفة الطوسي : ( ذَاكَرَنِي بَعْضُ الْأَصْدِقَاءِ أَيَّدَهُ اللَّهُ مِمَّنْ أُوجِبَ حَقُّهُ عَلَيْنَا بِأَحَادِيثِ أَصْحَابِنَا أَيَّدَهُمُ اللَّهُ وَرَحِمَ السَّلَفَ مِنْهُمْ وَمَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالتَّبَايُنِ وَالْمُنَافَاةِ وَالتَّضَادِّ حَتَّى لَا يَكَادُ يَتَّفِقُ خَبَرٌ إِلَّا وَبِإِزَائِهِ مَا يُضَادُّهُ وَلَا يَسْلَمُ حَدِيثٌ إِلَّا وَفِي مُقَابَلَتِهِ مَا يُنَافِيهِ حَتَّى جَعَلَ مُخَالِفُونَا ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الطُّعُونِ عَلَى مَذْهَبِنَا وَتَطَرَّقُوا بِذَلِكَ إِلَى إِبْطَالِ مُعْتَقَدِنَا وَذَكَرُوا أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ شُيُوخُكُمُ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ يَطْعُنُونَ عَلَى مُخَالِفِيهِمْ بِالِاخْتِلَافِ الَّذِي يَدِينُونَ اللَّهَ تَعَالَى بِهِ وَيُشَنِّعُونَ عَلَيْهِمْ بِافْتِرَاقِ كَلِمَتِهِمْ فِي الْفُرُوعِ وَيَذْكُرُونَ أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَبَّدَ بِهِ الْحَكِيمُ وَلَا أَنْ يُبِيحَ الْعَمَلَ بِهِ الْعَلِيمُ وَقَدْ وَجَدْنَاكُمْ أَشَدَّ اخْتِلَافاً مِنْ مُخَالِفِيكُمْ وَأَكْثَرَ تَبَايُناً مِنْ مُبَايِنِيكُمْ وَوُجُودُ هَذَا الِاخْتِلَافِ مِنْكُمْ مَعَ اعْتِقَادِكُمْ بُطْلَانَ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ الْأَصْلِ حَتَّى دَخَلَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُمْ قُوَّةٌ فِي الْعِلْمِ وَلَا بَصِيرَةٌ بِوُجُوهِ النَّظَرِ وَمَعَانِي الْأَلْفَاظِ شُبْهَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ رَجَعَ عَنِ اعْتِقَادِ الْحَقِّ لِمَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْوَجْهُ فِي ذَلِكَ وَعَجَزَ عَنْ حَلِّ الشُّبْهَةِ فِيهِ سَمِعْتُ شَيْخَنَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَيَّدَهُ اللَّهُ يَذْكُرُ أَنَّ أَبَا الْحُسَيْنِ الْهَارُونِيَّ الْعَلَوِيَّ كَانَ يَعْتَقِدُ الْحَقَّ ويَدِينُ بِالْإِمَامَةِ فَرَجَعَ عَنْهَا لِمَا الْتَبَسَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي اخْتِلَافِ الْأَحَادِيثِ وَتَرَكَ الْمَذْهَبَ وَدَانَ بِغَيْرِهِ لِمَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ وُجُوهُ الْمَعَانِي فِيهَا) (تهذيبالأحكام ج : 1 ص :2و 3).
هذا ولم يقتصر الخلاف بينهم لدى القدماء فقط، بل لا زال المعاصرون منهم مختلفين في كل شيء؛ حيث يقول جعفر الشاخوري البحراني:( ومن مسائل الفقه إلى تفاصيل مسائل العقيدة نجد أن جذور الخلاف بين أعاظم علمائنا من عمق عصور الأئمة عليهم السلام إلى الوقت الحاضر)( حركية العقل الإجتهادي لدى فقهاء الشيعة).
[25] - قال آية الله محمد حسين كاشف الغطا: في كتابه أصل الشيعة وأصولها ص113: ( ولا أقول : إنَّ الآخرين من الصحابة ـ وهم الأكثر الَّذين لم يتسموا بتلك السمة ـ قد خالفوا النبي صلّى الله عليه واله ولم يأخذوا بإرشاده، كلا ومعاذ الله أنْ يُظن فيهم ذلك، وهم خيرة مَنْ على وجه الأرض يومئذٍ، ولكن لعلَّ تلك الكلمات لم يسمعها كلَّهم، ومن سمع بعضها لم يلتفت إلى المقصود منها، وصحابة النبي الكرام أسمى من أن تُحلِّق إلى أوج مقامهم بغاث الأوهام) . وقد يُقال أن هذا الكلام قد قاله تقية وإرضاءً لأهل السنة، أو السلطة الحاكمة. وهذه مشكلة حقيقية بين أهل السنة والشيعة، إذ لا ضابط لهم في موارد التقية، بحيث إنعدمت ثقة المسلمين بكل ما يقوله أئمة وفقهاء الشيعة. ولأنهم إتخذوا مخالفة أهل السنة ( العامة ) قاعدة في تصحيح مروياتهم.
[26] - يقال للشيعة : لو كانت الإمامة أصلا من أصول الدين الإسلامي كما تزعمون؛ لَما بخل الله تعالى ـ حاشاه سبحانه وتعالى ـ أن يضمن القرآن الكريم الذي هو مصدر الأحكام والمرجع الأساسي للمسلمين، آية واحدة تنص على الإمامة بشكل جلي واضح يفهمها كل من يقرأ القرآن كقوله تعالى في داود عليه السلام : ] يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض . . [.
ويؤكد شيخ الشيعة المفيد أن القرآن لم يتضمن نصاًّ صريحاً في النص بقوله:( إن ذلك ثابث في مجمله دون التفصيل منه والظاهر الذي يخرج عن الإحتمال. ولو كان ظاهراً في القرآن على التفصيل والبيان، لما وقع فيه تنازع واختلاف)( أجوبة المسائل الحاجبية أو العكبرية/ المسالة الثانية عشرة).
ويقول ً المرتضى بأن النص على إمامة علي رضي الله عنه في حديث الغدير والمنزلة هو نص خفي وليس صريح على الإمامة حيث قال في كتابه (الشافي في الإمامة) (2/67):[ والقسم الآخر : لا نقطع على أن سامعيه من الرسول صلى الله عليه وآله علموا النص بالإمامة منه اضطرارا ولا يمتنع عندنا أن يكونوا علموه استدلالا من حيث اعتبار دلالة اللفظ ، وما يحسن أن يكون المراد أو لا يحسن . فأما نحن فلا نعلم ثبوته والمراد به إلا استدلالاً كقوله صلى الله عليه وآله ( أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ) و ( من كنت مولاه فعلي مولاه ) وهذا الضرب من النص هو الذي يسميه أصحابنا النص الخفي ]
وأيضاً : ما بال القرآن قد نص على أمورٍ فرعية كثيرة تتعلق بالحلال والحرام، نظم العلاقة بين الخادم وسيده في الدخول والخروج؛ ويترك أصلاً من أصول الدين ينبني عليه كفر أو إيمان، ولا يبينه؟! أهذا هو ظنكم برب العالمين؟! ولمزيد من المعلومات في هذا الموضوع أنظر( رسالة القواعد السديدة للدكتور طه الدليمي).
[27] - نهج البلاغة: الخطبة 199
[28] - روى المجلسي: (بصائر الدرجات) عبد الله بن جعفر عن محمد بن عيسى عن الأهوازي عن جعفر بن بشير عن حماد عن أبي أسامة قال كنت عند أبي عبد اللهعليهما السلام وعنده رجل من المغيرية فسأله عن شيء من السنن فقال: ما من شيء يحتاج إليه ولد آدم إلا وقد خرجت فيه السنة من الله ومن رسوله ولو لا ذلك ما احتج علينا بما احتج فقال المغيري وبما احتج فقال أبو عبد اللهعليهما السلام :قوله الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي حتى فرغ من الآية فلو لم يكمل سنته وفرائضه وما يحتاج إليه الناس ما احتج به .
(المحاسن) بعض أصحابنا عن علي بن إسماعيل الميثمي عن محمد بن حكيم عن أبي الحسن موسىعليهما السلام قال: أتاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما اكتفوا به في عهده واستغنوا به من بعده.
(المحاسن) إسماعيل الميثمي عن محمد بن حكيم عن أبي الحسنعليهما السلام قال: أتاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما يستغنون به في عهده وما يكتفون به من بعده كتاب الله وسنة نبيه.
[تفسير العياشي] عن سدير قال: قال أبو جعفر وأبو عبد اللهعليهما السلام :لا تصدق علينا إلا بما يوافق كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم
(المحاسن) محمد بن عبد الحميد عن ابن حميد عن أبي حمزة عن أبي جعفرعليهما السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في خطبته في حجة الوداع أيها الناس اتقوا الله ما من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد نهيتكم عنه وأمرتكم به.( نقلا عن بحار الأنوار ج : 2)
[29] - يقول علاّمة الشيعة جعفر مرتضى العاملي: ( إن مَنْ من يراجع كتب الحديث والتاريخ، يجدها طافحة بالنصوص والآثار الثابتة والصحيحة، الدالة على إمامة أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام، ولسوف يجد أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأل جهداً، ولم يدخر وسعاً في تأكيد هذا الأمر، وتثبيته، وقطع دابر مختلف التعللات والمعاذير فيه، في كل زمان ومكان، وفي مختلف الظروف والأحوال، على مرّ العصور والدهور. وقد إستخدم في سبيل تحقيق هذا الهدف مختلف الطرق والأساليب التعبيرية وشتى المضامين: فعلاً وقولاً، تصريحاً وتلويحاً، إثباتاً ونفياً، وترغيباً وترهيباً، إلى غير ذلك مما يكاد لا يمكن حصره، في تنوعه، وفي مناسباته. وقد توجت جميع تلك الجهود المضنية، والمتواصلة بإحتفال جماهيري عام نُصب فيه رسمياً عليعليهما السلام في آخر حجة حجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وأخذت البيعة له فعلاً من عشرات الألوف من المسلمين، الذين يرون نبيهم للمرة الأخيرة. وقد كان ذلك في منطقة يقال لها( غدير خم) واشتهرت هذه الحادثة بإسم هذا المكان)( الغدير والمعارضون:ص61-17).
قلت: ليس في كل النصوص التي تستشهد بها الشيعة في إمامة علي رضي الله عنهم نصّاً واحداً صريحاً، لا في الكتاب ولا في السنة.
[30] ـ من أغرب ما قرأته في كتب الشيعة في تفسير عبدالله شبر في قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ﴾(التحريم:3)} ما نصه: (تحريم مارية، أو العسل، أو إستيلاء الشيخين بعده). فقلت في نفسي: إذن الرسول كان يعلم أن الشيخين ـ أبو بكر وعمرـ سيستوليان على الحكم بعده ظلما وعدواناً، ومع هذا تزوج بنتيهما وعاشرهما وصاحبهما ومدحهما.
[31] - المنهج الأمثل في مواجهة التشيع
[32] - قال شيخ الإسلام إبن تيمية: ( ثم إنكم تدعون أن الإمام المعصوم لطفٌ من الله لعباده! فأي لطف حصل بهم، فإن الذين خالفوه صاروا مرتدين؛ والذين وافقوه مقهورين منافقين أذلاء، فأي مصلحة في ذلك؟ وأنتم تقولون: أن الله يجب عليه أن يفعل الأصلح للعباد؛ وهو تعالى يمكّن الخوارج حتى كفّروه وقاتلوه، ويجعل الأئمة المعصومين تحت القهر والخوف والتقية، فأين اللطف والمصلحة التي أوجبْتَها على الله تعالى؟ ثم تزعم أنهم حجج الله على عباده، وأن لا هدى إلاّ منهم، ولا نجاة إلاّ بمتابعتهم، وخاتمهم قد غاب من دهور، لم ينتفع به أحد في دينه ولا دنياه، فصح أن الرفض ما وضعه إلاّ زنديق ).
( المنتقى من مناج الإعتدال للإمام الذهبي).
[33] - قال الله تعالى:﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (المائدة:19).
[34] - قال شيخ الطائفة الطوسي في كتابه ( تلخيص الشافي ـ 3/86): ( وليس لأحد أن يقول: إنه ( أي علي بن أبي طالب ) كان بعيداً عن التقية لما إنتهت إليه الإمامة، وحين ناضل أهل البصرة وصفين، وكان واجد الأنصار، فكان يجب أن يظهر النكير، وذلك إن كثيراً من التقية ـ وإن كان زال في أيامه ـ فقد بقي كثير منها؛ لأن أكثر من كان معه يعتقد إمامة المتقدمين، وإن إمامته ـ كما ثبت إمامة من تقدمه ـ بالإختيار، فلأجل ذلك لم يتمكن من إظهار جميع ما نفسه، ولم ينقض أحكام القوم، وأمر قضاته أن يحكموا بما كانوا يحكمون)أهـ.
قلت: والله إني لأستحي أن يوصف سيدنا علي بهذا الوصف، من أناس يدّعون أنهم يحبونه؛ فللمرء أن يتساءل: إذا كان هو الخليفة، وأعلى سلطة في البلد، ومع هذا يعمل بالتقية، ويحرف الدين والأحكام! فمتى يظهر صحيح هذا الدين إذن؟! ولماذا يدّعون أن أئمتهم قد ظلموا من حكام زمانهم إذا كانوا هم في السلطة ويخافون من المحكومين؟!
[35] - يقول الشيخ المفيد ( إن العقل لا يمنع من نزول الوحي إليهم، وإن كانوا أئمة غير أنبياء . . وإنما منعت من نزول الوحي عليهم والإيحاء بالأشياء إليهم للإجماع على المنع من ذلك والإتفاق على أنه مَنْ يزعم أن أحداً بعد نبينا صلى الله عليه وآله يوحى إليه فقد أخطأ وكفر، ولحصول العلم بذلك من دين النبي ).أوائل المقالات: ص 80/81
[36] - التبيان في تفسير القرآن
[37] - تثبيت دلائل النبوة
[38] - تثبيت دلائل النبوة
[39] - الأنوار النعمانية(2/362). قلت : لا يليق بعلي رضي الله عنهم أن ُيقال مثل هذا الكلام في حقه وهو القائل من كلام له فيما رده على المسلمين من قطائع عثمان: ( والله لو وجدته قد تزوج به النساء وملك به الإماء لرددته، فإن في العدل سَعة، ومن ضاق عليه العدل الجور عليه أضيق)(نهج البلاغة). أتراه يعدل بين الناس في أمورهم الإجتماعية، ثم يترك دين الله محرفاً ولا يصححه؟! أين عقولكم يا قوم؟ وهل هناك طعن في علي أكثر من هذا؟
[40] - تثبيت دلائل النبوة
[41] - أرسل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم العلاء بن الحضرمي إلى المنذر الساوي بالبحرين بالكتاب التالي: بسم اللّه الرحمن الرحيم. من محمد رسول اللّه إلى المنذر ساوي. سلام عليك فاني احمد اللّه إليك الذي لا إله إلا هو، واشهد أن لا اله إلا الله وان محمدا عبده ورسوله. أما بعد، فإني أذكرك اللّه عز وجل فان من ينصح فإنما ينصح لنفسه وان من يطع رسلي ويتبع أمرهم فقد أطاعني ومن نصح لهم فقد نصح لي، وان رسلي قد اثنوا عليك خيرا، واني قد شفعتك في قومك، فاترك للمسلمين ما اسلموا عليه، وعفوت عن أهل الذنوب فاقبل منهم، وانك مهما تصلح يغفر لك عن عملك، ومن أقام على يهوديته أو مجوسيته فعليه الجزية». السيرة الحلبية 3: 252.
[42] - تثبيت دلائل النبوة
[43] - تثبيت دلائل النبوة
[44] - إشارة إلى قوله تعالى: ﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾(العنكبوت: 48)
[45] - تثبيت دلائل النبوة
[46] - تثبيت دلائل النبوة/ الجزء الأول
[47] - الجذيل: تصغير جذل، وهو عود يكون في وسط مبرك الإبل تحتك به وتستريح إليه، ويضرب به المثل في الرجل يشتفي برأيه. والعذيق تصغير عذق وهو النخلة نفسها، والمرجب: الذين تبنى إلى جانبه دعامة ترفده لكثرة حمله ولعزه على أهله، فضرب به المثل في الرجل الشريف الذي يعظمه أهله.(أنظر لمناقشة الحباب بن المنذر الطبري 3: 220)
[48] - في شرح الجامع الصغير للمناوي 2: 462. وقد ورد في مسند ابن حنبل ومسلم عن جابر. بلفظ آخر.
[49] - الفهة من العي والغلط
[50] - يقصد: كي لا يتفرق المسلمون
[51] - تثبيت دلائل النبوة
[52] - تثبيت دلائل النبوة
[53] - تثبيت دلائل النبوة
[54] - تفسير البيان: ص102
[55] - تثبيت دلائل النبوة
[56] - تثبيت دلائل النبوة
[57] - تثبيت دلائل النبوة
[58] - تثبيت دلائل النبوة
[59] - تثبيت دلائل النبوة
[60] - قال إبن أبي حديد في شرح نهج البلاغة: ( ثم خرج ابن جرموز على عليعليهما السلام مع أهل النهر فقتله معهم فيمن قتل) فتأمل ما في الخبرين من تناقض! وهذا هو التاريخ الذي يقدمه الشيعة على الكتاب والسنة، ويحاكمونهما إليه. على أنّ هذا ليس طعناً في التاريخ؛ ولكنه بحاجة إلى تمحيص وتدقيق وتصحيح، سنداً ومتناً.
[61] - تثبيت دلائل النبوة
[62] - ماص الإناء: غسله، وفي حديث عائشة رضي اللّه عنها في عثمان رضي اللّه عنه، مصتموه كما يماص الثوب ثم عدوتم عليه فقتلتموه. اللسان، مادة ماص
[63] - تثبيت دلائل النبوة
[64] - تثبيت دلائل النبوة
[65] - تثبيت دلائل النبوة
[66] - تثبت دلائل النبوة
[67] - منهاج السنة النبوية
[68] - قال شيخ الإسلام إبن تيمية: (ثم الرافضة يتناقضون فإنهم يصفون عليا بأنه كان هو الناصر لرسول الله الذي لولا هو لما قام دينه ثم يصفونه بالعجز والذل المنافي لذلك) (المنهاج 4/485).
ومن تناقضهم أيضاً ما ورد في نهج البلاغة من مدح لعمر بن الخطاب من كلام علي بن أبي طالب: (لِلَّهِ بِلَادُ فُلَانٍ فَلَقَدْ قَوَّمَ الْأَوَدَ وَدَاوَى الْعَمَدَ وَأَقَامَ السُّنَّةَ وَخَلَّفَ الْفِتْنَةَ ذَهَبَ نَقِيُّ الثَّوْبِ قَلِيلَ الْعَيْبِ أَصَابَ خَيْرَهَا وَ سَبَقَ شَرَّهَا. أَدَّى إِلَى اللَّهِ طَاعَتَهُ وَاتَّقَاهُ بِحَقِّهِ رَحَلَ وَتَرَكَهُمْ فِي طُرُقِ مُتَشَعِّبَةٍ لَا يَهْتَدِي بِهَا الضَّالُّ وَلَا يَسْتَيْقِنُ الْمُهْتَدِي).
قال الميثم البحراني في الشرح ما نصه: ( إن الشيعة قد أوردوا هنا سؤالاً فقالوا: إن هذه الممادح التي ذكرها عليه السلام في حق أحد الرجلين ـ أبي بكر، أو عمر ـ تنافي ما أجمعنا عليه من تخطئتهم وأخذهما لمنصب الخلافة. فإما أن لا يكون هذا الكلام من كلامه عليه السلام. أو أن يكون إجماعنا خطأ.
ثم أجابو من وجهين: أحدهما: لا نسلم التنافي المذكور، فإنه جاز أن يكون ذلك المدح منه عليه السلام على وجه إستصلاح من يعتقد صحة خلافة الشيخين وإستجلاب قلوبهم بمثل هذا الكلام.
الثاني: أنه جاز أن يكون مدحه لأحدهما في معرض توبيخ عثمان بوقوع الفتنة في خلافته . . )
ولكن تناقض الشيعة لا ينتهي؛ فاسمع إلى شيخهم المسمى أبو علي السوداني ـ سليط اللسان، قليل الحياء، عديم الدين والإيمان ـ الذي قال في كتابه المسمى: ( الشهاب الثاقب المحتج بكتاب الله على الناصب) ماذا قال؟ قال: ( أقول: أما أنا فعجبي من الناس كلهم أنهم لم يفهموا هذه النصوص، ولم يصيبوا المراد منها، بما في ذلك ميثم البحراني؛ أحد شراح النهج من الشيعة، حيث تحير فيها، فيا للعجب!) ثم قال فيه: ( إنهم علماء علم مسموع وليس عندهم ذرة من العلم المطبوع، بل طبع على قلوبهم فهم لا يفقهون).هذا لسانه مع بني جلدته، فكيف يكون مع مخالفيه؟
[69] - كتاب السقيفة: ص69/70
[70] - كتاب السقيفة: ص154
[71] - كتاب السقيفة: ص155/ قلت: فلماذا إذن خرج الحسين عليه السلام بجميع أهل بيته، ولم يكن له أنصار ولا قوة؟ حتى قتلوا عن آخرهم! والشيعة تقول الآن: لو لا ما فعله الحسين لما بقي إسم الإسلام.
[72] - أصل الشيعة وأصولها ص94/ لاحظ التناقض بين القولين: فأحدهما يقول: لم يبلغ أنصار علي أربعين رجلا، والآخر يقول: أسماؤهم لا يحويها كتاب ضخم! فتأمل.
[73] - قلت حتى هؤلاء الثلاثة لم يسلموا من لسان الشيعة فاستمع إلى هذه الرواية من المجلسي: ([الإختصاص] جعفر بن الحسين المؤمن عن ابن الوليد عن الصفار عن ابن عيسى يرفعه عن أبي عبد اللهعليهما السلام قال إن سلمان كان منه إلى ارتفاع النهار فعاقبه الله أن وجئ في عنقه حتى صيرت كهيئة السلعة حمراء وأبو ذر كان منه إلى وقت الظهر فعاقبه الله إلى أن سلط عليه عثمان حتى حمله على قتب وأكل لحم أليتيه وطرده عن جوار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأما الذي لم يتغير منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى فارق الدنيا طرفة عين فالمقداد بن الأسود لم يزل قائما قابضا على قائم السيف عيناه في عيني أمير المؤمنينعليهما السلام ينتظر متى يأمره فيمضي)( بحار الأنوار ج : 28 ص : 260/261)
[74] - بحار الأنوار ج : 28
[75] - بحار الأنوار ج 29: ص : 463
[76] - علق المجلسي على هذه الرواية قائلاً: (بيان قولهعليهما السلام من أن يرتدوا عن الإسلام أي عن ظاهره والتكلم بالشهادتين فإبقاؤهم على ظاهر الإسلام كان صلاحا للأمة ليكون لهم ولأولادهم طريق إلى قبول الحق وإلى الدخول في الإيمان في كرور الأزمان وهذا لا ينافي ما مر وسيأتي أن الناس ارتدوا إلا ثلاثة لأن المراد فيها ارتدادهم عن الدين واقعا وهذا محمول على بقائهم على صورة الإسلام وظاهره وإن كانوا في أكثر الأحكام الواقعية في حكم الكفار وخصعليهما السلام هذا بمن لم يسمع النص على أمير المؤمنينعليهما السلام ولم يبغضه ولم يعاده فإن من فعل شيئا من ذلك فقد أنكر قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكفر ظاهرا أيضا ولم يبق له شيء من أحكام الإسلام ووجب قتله)( بحار الأنوار ج : 28 ص : 255).
[77] - عدهم إبن هشام أكثر من أربعين نفراً.
[78] - روى المجلسي عن علي رضي الله عنهم في خطبة طويلة يذكر فيها بعثة الأنبياء عليهم السلام قالعليهما السلام : ( إِلَى أَنْ بَعَثَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُحَمَّداً صلى الله عليه وآله وسلم لِإِنْجَازِ عِدَتِهِ وَإِتْمَامِ نُبُوَّتِهِ مَأْخُوذاً عَلَى النَّبِيِّينَ مِيثَاقُهُ مَشْهُورَةً سِمَاتُهُ كَرِيماً مِيلَادُهُ وَأَهْلُ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ مِلَلٌ مُتَفَرِّقَةٌ وَأَهْوَاءٌ مُنْتَشِرَةٌ وَطَرَائِقُ مُتَشَتِّتَةٌ بَيْنَ مُشَبِّهٍ لِلَّهِ بِخَلْقِهِ أَوْ مُلْحِدٍ فِي اسْمِهِ أَوْ مُشِيرٍ إِلَى غَيْرِهِ فَهَدَاهُمْ بِهِ مِنَ الضَّلَالَةِ وَأَنْقَذَهُمْ بِمَكَانِهِ مِنَ الْجَهَالَةِ ثُمَّ اخْتَارَ سُبْحَانَهُ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم لِقَاءَهُ وَرَضِيَ لَهُ مَا عِنْدَهُ وَأَكْرَمَهُ عَنْ دَارِ الدُّنْيَا وَرَغِبَ بِهِ عَنْ مَقَامِ الْبَلْوَى فَقَبَضَهُ إِلَيْهِ كَرِيماً وَخَلَّفَ فِيكُمْ مَا خَلَّفَتِ الْأَنْبِيَاءُ فِي أُمَمِهَا إِذْ لَمْ يَتْرُكُوهُمْ هَمَلًا بِغَيْرِ طَرِيقٍ وَاضِحٍ وَلَا عَلَمٍ قَائِمٍ كِتَابَ رَبِّكُمْ مُبَيِّناً حَلَالَهُ وَحَرَامَهُ وَفَرَائِضَهُ وَفَضَائِلَهُ وَنَاسِخَهُ وَمَنْسُوخَهُ وَرُخَصَهُ وَعَزَائِمَهُ وَخَاصَّهُ وَعَامَّهُ وَعِبَرَهُ وَأَمْثَالَهُ وَمُرْسَلَهُ وَمَحْدُودَهُ وَمُحْكَمَهُ وَمُتَشَابِهَهُ مُفَسِّراً جُمَلَهُ وَمُبَيِّناً غَوَامِضَهُ بَيْنَ مَأْخُوذٍ مِيثَاقُ عِلْمِهِ وَمُوَسَّعٍ عَلَى الْعِبَادِ فِي جَهْلِهِ وَبَيْنَ مُثْبَتٍ فِي الْكِتَابِ فَرْضُهُ وَمَعْلُومٍ فِي السُّنَّةِ نَسْخُهُ وَوَاجِبٍ فِي السُّنَّةِ أَخْذُهُ وَمُرَخَّصٍ فِي الْكِتَابِ تَرْكُهُ وَبَيْنَ وَاجِبٍ لِوَقْتِهِ وَزَائِلٍ فِي مُسْتَقْبَلِهِ وَمُبَايَنٌ بَيْنَ مَحَارِمِهِ مِنْ كَبِيرٍ أَوْعَدَ عَلَيْهِ نِيرَانَهُ أَوْ صَغِيرٍ أَرْصَدَ لَهُ غُفْرَانَهُ وَبَيْنَ مَقْبُولٍ فِي أَدْنَاهُ وَمُوَسَّعٍ فِي أَقْصَاهُ ) ( بحار الأنوار ج : 89 ص : 34) (شرح نهج البلاغة ج : 1 ص : 117)
فهو رضي الله عنهم يذكر أن الهدى من الضلالة قد حصل على يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم . ولكن هؤلاء يدعون أن أصحاب محمد لم يؤمنوا به، ولم يهتدوا، وأن كل الذين آمنوا به لم يتجاوز عددهم سبعة أو عشرة، أو عشرين.
ويذكر أمراً آخر ينسف عقيدة الإمامة من أساسها، ليقول للمسلمين؛ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يترك أمته هملاً حيارى لا يدرون من أين يأخذون أمور دينهم، بل ترك فيهم كتاب ربهم فيه كل ما تحتاجه الأمة من بعده. ولست أدري لمَ لمْ يقل لهم أن كتاب الله غامض لا يعلمه إلاّ المعصوم الذي هو أنا وأحد عشر من أولادي؟
[79] - تثبيت دلائل النبوة
[80] - من وحي القرآن
[81] - من وحي القرآن
[82]- من وحي القرآن
[83] - من وحي القرآن
[84] - قال شيخ الطائفة الطوسي: ( وليس يمكن أن يٌقال: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يعرف المنافقين بأعيانهم، لأن القرآن يشهد بأنهعليهما السلام كان يعرفهم. قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ (التوبة:84). وليس يصح أن تتوجه إليه صلى الله عليه وآله وسلم هذه العبارة فيهم إلاّ مع المعرفة والتمييز، قال عز وجل: ﴿ وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (محمد:30)﴾. وفي هذا تصريح بأنهعليهما السلام كان يعرفهم)( تلخيص الشافي: 2/141).
[85] - من وحي القرآن
[86] - أنظر تفسير القرآن لعبدالله شبر
[87] - تفسير التبيان
[88] - تفسير من وحي القرآن
[89] - مصباحالشريعة ص : 68
[90] - تثبيت دلائل النبوة
[91] - تثبت دلائل النبوة
[92] - الرجل الأسيف: الشيخ الفاني والسريع الحزن والرقيق القلب، انظر قاموس المحيط.
[93] - كان سهيل بن عمرو سفير قريش إلى الرسول يوم الحديبية، وقد عرض على الرسول الانصراف عن مكة ذلك العام على أن يأتيها في العام الذي يليه وعلى أن يقوم بينه صلى الله عليه وآله وسلم وبين قريش صلح متصل عشرة أعوام. وقد حدثت أتناء المفاوضات مراجعات من المسلمين وأحداث تجدها في كتب السيرة.
[94] - تثبيت دلائل النبوة
[95] - بحار الأنوار ج : 29 ص : 108 /
[96] - جاء في بحار الأنوار: باب / العلة التي من أجلها ترك أمير المؤمنين فدك: (عن عليّ بن الحسن بن فضال، عن أبيه، عن أبي الحسن عليه السلام قال سألته عن أمير المؤمنين عليه السلام لمَ لمْ يسترجع فدك لمّا ولي الناس فقال: لأنّا أهل بيت وليّنا اللّه عزّ وجلّ لا يأخذ لنا حقوقنا ممّن يظلمنا إلّا هو، ونحن أولياء المؤمنين، إنّما نحكم لهم ونأخذ حقوقهم ممّن يظلمهم، ولا نأخذ لأنفسنا.)( بحار الأنوار ج : 29 ص : 397 ) ولا يخفى على الناظر سماجة هذا التعليل.
[97] - بحار الأنوار ج : 29 ص : 324
[98] - قال شيخ الإسلام إبن تيمية: ( والرافضة بزعمهم الكاذب يقولون: إن الصحابة بايعوا أبا بكر طلباً للدنيا! وأي دنيا حصل لهم بتولية أبي بكر، لاسيما وهو يسوّي بين كبار السابقين، وبين آحاد المسلمين في العطاء؛ ويقول: إنما أسلموا لله وأجورهم على الله، وإنما هذا المتاع بلاغ. وهذه أيضاً سيرة علي رضي الله عنهم فيهم، فلمَ عدلوا عن علي إلى أبي بكر.
وعجباً كيف يسوغ للرافضة القول أن أبا بكر ومبايعيه طلبوا الدنيا والرياسة، مع كونه بويع بإختيارهم بلا سيف ولا عصا، فلما إنتظم له الأمر، لم يولِّ أحداً من أقاربه، ولا خلف لورثته مالاً؛ وأوصى إلى بيت مالهم ما كان عنده ـ وهو جرد قطيفة وأمَة وبَكر ـ حتى قيل: يرحمك الله أبا بكر لقد أتعبت الأمراء بعدك. وما قُتل مسلم على إمارته)( المنتقى من منهاج الإعتدال للإمام الذهبي).
[99] - تثبيت دلائل النبوة
[100] - تثبيت دلائل النبوة
[101] - يقول ابن عباس رضي الله عنها كما ترويه عنه كتب الشيعة: »(الإرشاد: (13)، روضة الواعظين: (75)، بحار الأنوار: (38/243). «أخبرنا الله أنه رضي عن أصحاب الشجرة، فعلم ما في قلوبهم، هل حدثنا أحد أنه سخط عليهم بعد )( الصحابة والمنافقون).
[102] - قال السيد محمد حسين فضل الله: ( وهذا حديثٌ عن شخصٍ من بني إسرائيل، قيل إن اسمه بلعم بن باعورا كان يملك الاسم الأعظم، وقيل إنه شخصٌ معاصرٌ للدعوة الإسلامية، كان يعرف الكثير من آيات الله وتعاليمه، ولكن هذا الشخص انحرف عن الخط المستقيم، فلم ينتفع بما يملك من المعرفة، ولم ينفتح على الآفاق الرحبة العالية التي ترفعه إلى الله في عملية سموٍّ وطهرٍ وإيمانٍ، بل هوى إلى الأرض في حالة انحطاط روحيٍّ وفكريّ، فلم يتطلّع إلا إلى الأجواء السفلى التي تربط مطامحه بالتراب ولا شيء إلا التراب)( من وحي القرآن).
[103] - ( يستدل بعض الشيعة على ارتداد الصحابة أو بعضهم بحديث الحوض حيث قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «يَرِدُ عَلَيَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَهْطٌ مِنْ أَصْحَابِي، فَيُجلونَ عَن الْحَوْضِ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أَصْحَابِي! فَيَقُولُ: إِنَّكَ لَا عِلْمَ لَكَ بِمَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، إِنَّهُمُ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمُ الْقَهْقَرَى».
وفي رواية أخرى ذكر أنه يعرض عليه زمرة منهم ثم زمرة أخرى، ثم قَالَ: «فَلَا أُرَاهُ يَخْلُصُ مِنْهُمْ إِلا مِثْلُ هَمَلِ النَّعَمِ»
وهذا الحديث لا دلالة فيه على رِدَّةِ المهاجرين والأنصار، بل هو دال على فضلهم، وبيان ذلك من وجوه:
الوجه الأول: أن يقال للذين يكفرون أبا بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وغيرهم، يقال لهم: أنتم بين أمرين:
[1] إما أن تجعلوا حديث الحوض يشمل الخلفاء الثلاثة، ولفظ الحديث يدل على أن التغيير محصور فيما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بدليل قوله: «إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك».
فيلزم من هذا: أنهم كانوا قبل وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أهل الإيمان، ولذلك ظن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهم استمروا على ذلك، وأنهم سَيَرِدُونَ على الحوض، فَأُخبر أنهم أحدثوا بعده، وبالتالي يلزم بطلان ما نُسب إليهم من كُفر أو نِفاق أو استحقاق لِلَّعن ونحو ذلك؛ لقوله: «لا تدري ما أحدثوا بعدك».
[2] وإما أن لا تدخلوهم ضمن المذادين عن الحوض، وأنهم سيردون حوضه صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا هو المطلوب.
وهذا الوجه كافٍ في بيان بطلان استدلال الشيعة بهذا الحديث، ولكن تتميماً للفائدة أذكر أوجهاً أخرى، ومنها:
الوجه الثاني: أن المراد بهم أناس ممن أسلموا ولم يحسن إسلامهم، كأولئك الذين في أطراف الجزيرة وحصلت الردة منهم بعد ذلك، أو الذين منعوا الزكاة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قاتل الصحابة رضي الله عنهم هؤلاء، ونحن نعلم أنه قَدِمَ على النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم بعد فتح مكة عشراتُ الوفود بالإسلام من قومهم، وأن الذين شهدوا حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتجاوز عددهم مائة ألف..، وهذا القول من أعدل الأقوال وأحسنها.
وأما المهاجرون والأنصار فقد ثبتوا على إيمانهم، وقاتلوا المرتدين، ونشروا الإسلام في أصقاع الأرض، ولذا يقول الإمام جعفر الصادق رضي الله عنهم: «كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اثني عشر ألفا، ثمانية آلاف من المدينة، وألفان من مكة، وألفان من الطلقاء، ولم ير فيهم قدري ولا مرجئ ولا حروري ولا معتزلي ولا صاحب رأي، كانوا يبكون الليل والنهار، ويقولون: اقبض أرواحنا من قبل أن نأكل خبز الخمير»( الخصال: (640)، البحار: (22/305)، حدائق الأنس: (200).
فالمهاجرون والأنصار لم يغيروا ولم يبدلوا، بل ثبتوا على الإيمان والجهاد، تحقيقاً لوعد الله لهم بالجنات والخلود فيها.
وقد ارتد سائر العرب بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم كأتباع مسيلمة الكذاب، وطليحة بن خويلد، وسجاح، وغيرهم، فمن مات منهم على ردته ممن رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو جدير بأن يذاد عن الحوض ويرد عنه.)( الصحابة والمنافقون).
ويستدلون أيضاً بردة الصحابة بقوله تعالى: { {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144] الآية.
قال قاضي القضاة عبدالجبار: (وكذا نقول لمن قال: إن أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم ارتدوا بعده، فقيل له: من أين لك هذا؟ قال من نصّ القرآن لأنه قال: «أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ»، فيقال له: أنت أسوأ حالا في هذا من أولئك، لأن هذا ليس بخبر ولا ظاهره الخبر، وإنما ظاهره الاستفهام، واللّه لا يستفهم لأنه بكل شيء عليم، وإنما المراد به التثبيت والتنبيه كما قال : وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ» أي لا يخلدون ولا ينبغي لهم الخلود، وكذلك أولئك لا يرتدون ولا ينبغي لهم أن يرتدوا.)( تثبيت دلائل النبوة).
بل والأكثر من هذا كله ما جاء عن علي رضي الله عنهم في نهج البلاغة من نصرته للإسلام وأهله في حروب الردة، حيث يقول: ( أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً صلى الله عليه وآله وسلم نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ وَمُهَيْمِناً عَلَى الْمُرْسَلِينَ فَلَمَّا مَضَىعليهما السلام تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ فَوَاللَّهِ مَا كَانَ يُلْقَى فِي رُوعِي وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِي أَنَّ الْعَرَبَ تُزْعِجُ هَذَا الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ صلى الله عليه وآله وسلم عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَلَا أَنَّهُمْ مُنَحُّوهُ عَنِّي مِنْ بَعْدِهِ فَمَا رَاعَنِي إِلَّا انْثِيَالُ النَّاسِ عَلَى فُلَانٍ يُبَايِعُونَهُ فَأَمْسَكْتُ يَدِي حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الْإِسْلَامِ يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دَيْنِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلَايَتِكُمُ الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّامٍ قَلَائِلَ يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ كَمَا يَزُولُ السَّرَابُ أَوْ كَمَا يَتَقَشَّعُ السَّحَابُ فَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ الْأَحْدَاثِ حَتَّى زَاحَ الْبَاطِلُ وَزَهَقَ وَاطْمَأَنَّ الدِّينُ وَتَنَهْنَهَ).
[104] - قرأت في تفسير عبدالله الشبر في تفسير قوله تعالى: { ثاني اثنين } قال: قد يصاحب المؤمن الكافر
لا تحزن : لا تخف، لأنه كان خائفاً على نفسه
إن الله معنا : أي معية رؤية وإحاطة.أ . هـ
قلت: أما أولاً : فهجرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبه من مكة إلى المدينة قد وقعت قبل ثلاث عشرة سنة من وفاة الرسول. أي قبل أحداث سقيفة بني ساعدة التي كانت السبب ـ عند الشيعة ـ في إغتصاب الخلافة من صاحبها الشرعي. فلماذا يا تُرى هذا التحامل على أبي بكر قبل وقوع الحدث.
أليس من الأجدر أن تفسر الآية يوم نزولها أو وقوع حدثها ؟!
ثانياً: نعم صحيح أن المؤمن قد يصاحب الكافر؛ ولكن لم يقل صاحب التفسير المكرم أي نوع من المصاحبة يقع بين المؤمن والكافر. هل هي صحبة سفر عارض ، أم صحبة جار لجاره ، أم صحبة صداقة ومحبة وإيمان بحيث يفدي كل واحد الآخر بماله ونفسه!
ثالثاً : لم يقل المكرم من الذي إختار الثاني لصحبته يوم الهجرة؟ الرسول عليه الصلاة والسلام ، أم صاحبه الذي أراد أن يهاجر يوم هاجر المسلمون قبل هجرة الرسول؟
رابعاً : لماذا إختار الرسول عليه الصلاة والسلام أبا بكر الصديق لصحبته من بين سائر الأنام ؟ فإن قالوا: خشي أن يدلي عليه الكفار! قيل : أليس عبدالله إبنه كان يبيت عندهما ثم يدلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت؟ أليس عامر بن فهيرة مولى أبي بكر كان يرعى عليهما، ويتبع بغنمه أثر عبدالله بن أبي بكر بعد ذهابه إلى مكة ليعفّي عليه؟ أليس قد وصل إلى سمعكم أن الذين حاصروا بيت رسول الله لما علموا بإفلاته منهم قد جاءوا إلى بيت أبي بكر وقرعوا بابه، فخرجت إليهم أسماء بنت أبي بكر ( ذات النطاقين ) ، فقالوا لها : أين أبوك ؟ فقالت: لا أدري والله أين أبي؟ فرفع أبو جهل يده، فلطم خدها لطمة طرح منها فرطها.
خامساً : تصور أن أكابر مجرمي قريش أعدوا خطة سرية لقتل الرسول عليه الصلاة والسلام وأن الوحي جاءه ليقول له: إن الله قد أذن لك في الخروج، فلا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه. تصور هذا الموقف العصيب، ثم تصور أن رجلاً مثل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يطلب من يصاحبه في هذه الهجرة المحفوفة بالمخاطر ، فهل يختار من يثق في دينه وشجاعته؟ أم يختار رجلاً منافقاً جباناً يخاف على نفسه ويضعف أمام أدنى التحديات؟!
وأيضاً: فلو كان علي رضي الله عنهم هو المستخلف بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأخذه النبي صلى الله عليه وآله وسلم معه في الهجرة، حتى لا يتعرض للقتل. هذا من جهة، ومن جهة أخرى؛ فإن أهل يثرب لما رأوا أبا بكر قد قدم مع النبي في هجرته علموا أن له خصوصية في قلب النبي وقد علقت شخصيته في أذهانهم ليعتبروه الشخصية الثانية بعد شخصية النبيصلى الله عليه وآله وسلم ، لأن العادة جرت أن العظماء لا يصحبون معهم إلاّ كبراء القوم ووجهاءهم.
سادساً : نحن نسأل الشيعة : أليس هناك فرق كبير بين كلمتي الحزن والخوف؟ أليس الحزن على الحسين وأهل بيته من شعار الشيعة لما له من أجر وثواب عندهم؟ أليس الله تعالى قد ذكر في القرآن حزن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ثم نهاه عنه :] قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ[ ]وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ولا تك في ضيق مما يمكرون [ أترى أن الله تعالى عندما نهى رسوله عن الحزن كان ذلك له ذماً، أو إن الله تعالى لا ينهى إلاّ عن القبيح، كما تقول الشيعة ؟!
سابعاً: أليس الأنبياء ومن إختارهم الله تعالى لرسالته كانوا يخافون الخوف الطبيعي الذي هو من جبلة البشر. قال تعالى عن لسان موسى: ﴿ ولهم عليّ ذنب فأخاف أن يقتلون﴾ وعنه وعن أخيه هارون قال: ﴿ قَالاَ رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يَطْغَى* قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَى﴾.وقال عن إبراهيم عليه السلام: ﴿ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ﴾.
يقول السيد محمد حسين فضل الله في قصة إبراهيم عليه السلام في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ﴾: (وليس الخوف حالة سلبيّةً في ذاته، بل قد يكون حالةً إيجابيّةً بما يشكله من حمايةٍ للإنسان من الأخطار المهلكة التي تحيط به. ولذا كان إبراهيم خاضعاً لتأثير هذه الحالة الطبيعية من الإحساس بالخوف أمام ظاهرةٍ، غامضةٍ فاجأته بما يشبه الصدمة).
فهل على فرض أن أبا بكر كان قد خاف على نفسه ـ كما تقول الشيعة ـ أو حزن على صاحبه صاحب الرسالة ـ ينقص من قدره ، أو يوهم فيه خلاف طبيعة الأنبياء؟ ساء ما يحكمون.
ثامناً : أما قولهم أن المعية هي معية رؤية وإحاطة فهو من التعصب الذي يعمي ويصم. لأن الله تعالى لو كانت معيته مع النبي وصاحبه معية علم وإحاطة، فكذلك مع أبي جهل وأصحابه الذين كانوا واقفين على باب الغار؛ بحيث لم يفصل بينهم إلاّ خيط العنكبوت الذي على فم الغار، مما جعل الصديق يقول: لو نظر أحدهم إلى أسفل قدمه لرآنا. فأي فرق إذن بين معية الله بينهما؟! وهل عندما قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ﴿لا تحزن إن الله معنا﴾ عني بذلك العلم والإحاطة! ولو كان الأمر على ما قالوا: لكان لأبي بكر أن يقول : وأي فرق بين كون الله معنا وبين كونه مع المشركين الواقفين على باب الغار؟!
دلّ هذا الذي قلناه أن معية الله تعالى لرسوله وصاحبه الصديق هي معية نصرة وتأييد تماماً كما في قوله تعالى: ﴿ وإن الله لمع المحسنين ﴾﴿ إن الله مع المتقين ﴾.
تاسعاً : دل قول الرسول عليه الصلاة والسلام : ﴿ إن الله معنا ﴾ أي معه ومع أبي بكر بالنصرة والتأييد. ولم يقل كما قال موسى عليه السلام: ﴿ كلا أن معي ربي سيهدين ﴾ فأفرد نفسه بالمعية من دون بني إسرائيل. ولم يقل: كلا إن معنا ربي سيهدينا؟
عاشراً : فإن هذه المعية لما ثبتت في آية من القرآن الكريم، كان معناها أنه كلما تلاها القارئ وسمعها السامعون كان الله تعالى مع رسوله وصاحبه بالنصرة والتأييد إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ وليس في الغار فقط.
وأما قولهم بأن الله تعالى أنزل السكينة على رسوله ولم يذكر صاحبه؛ وهو قول الحسين النوري الطبرسي في كتابه المسمى بـ ( فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب: "روى الكليني والعياشي عن أبي الحسن الرضا أن الحسين بن الجهم قال له: إنهم يحتجون علينا بقول الله: ﴿ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ﴾ قال: وما لهم في ذلك، لقد قال الله: ﴿ فأنزل الله سكينته على رسوله﴾.. وما ذكر فيها بخير قال: قلت له: وهكذا قراءتها؟ قال: هكذا قراءتها، وعن أبي جعفر مثله، ألا ترى أن السكينة إنما نزلت على رسوله وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وهو الكلام الذي تكلم به عتيق (يعني أبا بكر)". قال الملحد: "والآية تدل على عدم إيمان الصاحب" [فصل الخطاب: ص 266.].( نقلاً عن أصول مذهب الشيعة للدكتور الغفاري ).
فيقال لهم: أما أن المخاطب بنزول السكينة عليه فهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وذلك لأن الآية بدأت بخطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم واستمرت إلى نهاية الآية بخطاب الإفراد ( تنصروه / فقد نصره / أخرجه / سكينته عليه / أيده ) . أما قوله تعالى: ﴿ لا تحزن إن الله معنا ﴾ فهذا من كلام النبي عليه الصلاة والسلام حكاه الله تعالى عن لسانه؛ فهي جملة إعتراضية ليس من كلام الباري عز وجل ، ولذلك لم يأت قوله تعالى ] فأنزل الله سكينته عليه وأيده . . [ بصيغة التثنية لتتسق نظام الآية .
[105] - تثبيت دلائل النبوة
[106]- الإصابة في تمييز الصحابة
[107] - قال العلامة إبن الوزير، وهو يذكر وَهْم ـ أي طعون ـ الشيعة على الصحابة فقال: (الوهم الثّامن: وهم أنّه يمكنه تخصيص المحدّثين بالقدح عليهم في حديثهم بالحديث الذي فيه: ((يؤتى بقوم يوم القيامة فيذهب بهم ذات الشمال فأقول: أصحابي أصحابي)) وبقوله تعالى: ]وَمِمَّن حَولَكُم مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُم نَحْنُ نَعْلَمُهُم[ [التوبة:101], قال المعترض: دلّت الآية على أنّ فيمن يعدّونه صحابيّاً عدلاً من هو كافر مجروح. انتهى كلامه.
وهو يصلح من شبه الزّنادقة القادحة على أهل الإسلام, لا من شبه الشّيعة القادحة على أهل الحديث, ولكنّ المعترض لا يدري ما يخرج من رأسه.
والجواب: أنّ الإجماع منعقد على الاعتبار بالظّاهر دون الباطن, ومن نجم نفاقه وظهر كفره ترك حديثه, ومن ظهر إسلامه وأمانته وصدقه قبل وإن كان في الباطن خلاف ما ظهر منه, فقد علمنا لما وجب علينا وبذلنا في طلب الحق جهدنا, وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعمل بالظّاهر ويتبرأ من علم الباطن. وإلى ذلك الإشارة بقوله في هذه الآية: ]لاَ تَعْلَمُهُم نَحْنُ نَعْلَمُهُم[ [التوبة:101], فلو كان في هذا قدح على المحدّثين لتوجّه مثله على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.) ( الروض الباسم)
[108] - يقول شيخ الشيعة وآيتهم كاظم الحائري:( وبمناسبة الحديث عن ( العصمة ) و( العدالة ) نشير وبإختصار إلى الفارق بينهما بأحد نحوين فنقول:
الأول: العصمة: هي تلك الدرجة العالية من الملكة التي تمنع صدور أي ذنب أو زلة من المعصوم الشريف طيلة عمره.
وأما العدالة: فهي تلك الملكة التي لا تمنع الإنسان العادل بصورة مؤقتة عن إرتكاب أي ذنب أو زلة طيلة عمره. فقد يزل ويخطأ مع إمتلاكه لتلك الدرجة من الملكة الرادعة، ولكنه يعود فوراً وبعد صدور الذنب منه فيتوب ويستغفر، فإذا فعل ذلك وعادت له تلك الملكة مرة ثانية ـ لو كان فقدها وقبل توبته ـ فقد عادت له العدالة.)( المرجعية والقيادة: ص67 ـ 68).
[109] - ليس كل من وقعت منه معصية فهو مجروح، يقول العلامة إبن الوزير الزيدي اليماني: (ومتى سلّم له أنّ العدالة هي: ترك جميع الذّنوب؛ فالسؤال واقع, ولكن هذا ممنوع بدليل القرآن والأثر والنّظر والنّقل. أما القرآن: فما حكى الله تعالى عن ذنوب أنبيائه وأوليائه, ونزع الغلّ من صدور أهل الجنّة, مع أنّ شهادة ذي الغلّ لا تقبل, وذكر ذلك على التفصيل يطول. . وأمّا السّنّة؛ ففي ذلك آثار كثيرة, نذكر منها: … الأثر الرّابع: وهو أثر صحيح, ثابت في دواوين الإسلام, بل معلوم, متواتر النّقل, وهو حجّة قويّة, وذلك: أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أرسل إلى اليمن عليّاً ومعاذاً –رضي الله عنهما-, واليين قاضيين ومفتيين, ولا شكّ أنّ القضاء بين النّاس, متركّب على عدالة الشّهود, ومعرفة الحاكم عدالتهم أو عدالة معدّليهم, وهما غريبان في أرض اليمن, لا يعرفان عدالتهم, ولا يخبران أحوالهم, وهم لا يجدون شهوداً على ما يجري بينهم من الخصومات إلا منهم, فلولا أنّ الظّاهر العدالة في أهل الإسلام ذلك الزّمان؛ وإلا لما كان إلى حكمهما بين أهل اليمن على الإطلاق سبيل. وهذا يدلّ على عدالة أهل الإسلام ذلك الزمان, لا على عدالة من صحب النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم دون غيره, وهذا أوسع من مذهب المحدّثين. . ثم نقل عن الإمام الشافعي أنه قال: لو كان العدل من لا ذنب له لم نجد عدلاً, ولو كان كلّ مذنب عدلاً لم نجد مجروحاً, ولكنّ العدل من اجتنب الكبائر, وكانت محاسنه أكثر من مساويه.) نقلا عن الروض الباسم.
قلت: يلزم منْ يطعن في عدالة الصحابة، وبالتالي يطعن في نقلهم لحديث النبي عليه السلام أمرين:
الأول: طرح : حديث أهل الأثر, وحديث المعتزلة والزّيدية؛ والتشكيك في معرفة القرآن العظيم بما فيه من علم النّاسخ والمنسوخ, والعام والخاصّ، والتشكيك في علوم اللغة والتاريخ . . إلخ.
الثاني: أن لا يعتمد هو في نقل الآثار على هذه الطريقة، لأن من أكبر العيب أن ينتقد غيره على أمر ثم يأتي بما هو أدنى منه. أي عليه أن يعتمد على أناس معصومين بدءاً من الإمام أو الرسول، وإنتهاءً بآخر سلسلة في الرواة؛ حتى تدوين الآثار. وأنى لهم هذا؟! ثم نقول له: هل عندك حديث صحيح يمكن معرفته؟ فدلّنا عليه واهدنا إليه, فإنّما غرضنا اتّباع السّنّة المرويّة عن الثّقات بطريق صحيحة.
فإن قال من ذلك شيئاً أجرينا مقارنة بين سند الرواية التي دلّنا عليها، وبين الروايات المسندة للصحابة، لنعلم صدقه من كذبه. وكل من يقول بهم فالصحابة أشرف قدراً منهم, وأعلى أمراً, وأرفع ذكراً من أن تكون آراؤهم ضعيفة, أو موازينهم في الشّرف والدّين خفيفة. فلو كان ذلك, لما اتّبعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, ومالوا عن إلف دين الآباء والأتراب إلى أمر لم يسبق لهم به أُنس.
ويقال أيضاً: هل تطعن في أحاديث السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، أم في الأحاديث المروية عن مجاهيل الأعراب ؟ وهل إختلط أحاديث ثقات الأصحاب بأحاديث جفاة الأعراب لو أرسلوا الأحاديث ولم يسندوها, وقطعوها ولم يصلوها؟ وكم يبلغ عدد الصحابة المجروحين، وما سبب الجرح في كل واحد منهم؛ وأين الصحابة العدول في نظرك، وأين مروياتهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كتبك؟!
ثم أن الذي يرد الحديث يبين سبب رده لكل حديث، حسب القواعد المعمولة في هذا الشأن، وقد يرد حديثاً أو عشرة، أو أكثر؛ لكنه لا يرد كتب الحديث برمتها التي تحتوي على عشرات الآلاف من الأحاديث المسندة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم !
[110] - هذا اللفظ لمسلم: (1695)، وهو وارد في حق ماعز الأسلمي رضي الله عنهم. يقول العلامة إبن الوزير: ( لكنّا نظرنا في حالهم فوجدناهم فعلوا ما لا يفعله المتأخرين إلا أهل الورع الشّحيح, والخوف العظيم, ومن يُضرب بصلاحه المثل, ويتقرّب بحبه إلى الله عزّ وجلّ, وذلك أنّهم بذلوا أرواحهم في مرضاة ربّ العالمين, وليس يفعل هذا إلا من يحقّ له منصب الإمامة في أهل التّقوى واليقين, وذلك كثير في أخبارهم, مشهور الوقوع في زمانهم.
من ذلك حديث المرأة التي زنت فجاءت النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مقرّة بذنبها, سائلة للنّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يقيم الحدّ عليها, فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستثبت في ذلك, فقالت: يا رسول! إنّي حبلى به, فأمر أن تُمهل حتّى تضع, فلمّا وضعت جاءت بالمولود وقالت: يا رسول الله هو هذا قد ولدته, فقال: (أرضعيه حتّى يتمّ رضاعه), فأرضعته حتّى أتمّت مدة الرّضاع, ثمّ جاءت به في يده كسرة من خبز, فقالت: يا رسول الله! هو هذا يأكل الخبز, فأمر بها فرجمت. رواه الحافظ ابن كثير في (إرشاده) .
فانظر إلى عزم هذه الصّحابية –رضي الله عنها- على أصعب قتلة على النّفوس, وأوجع ميتة للقلوب, وبقاء عزمها على ذلك هذه المدّة الطّويلة, ومطالبتها في ذلك غير مكرهة ولا متوانية, وهذا –أيضاً- وهي من النّساء الموصوفات بنقصان العقول والأديان, فكيف برجالهم رضي الله عنهم!؟.
ومن ذلك حديث الرّجل الذي أتى إلى النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره أنّه سرق, فأمر بقطع يده, فلما قطعت قال: الحمد لله الذي خلّصني منك, أردت أن تدخليني النّار, أو كما قال.
وحديث المجامع في رمضان.
وحديث ماعز بطوله .
وحديث الذي قال: إنّي أتيت امرأة فلم أترك شيئاً مما يفعله الرّجال بالنّساء إلا أتيته, إلا أنّي لم أجامعها ؛ وغير ذلك مما لا يحضرني الآن الإشارة إليه.
فأخبرني على الإنصاف: من في زماننا, وقبل زماننا من أهل الدّيانة قد سار إلى الموت نشيطاً, وأتى إلى ولاة الأمر مقرّاً بذنبه, مشتاقاً إلى لقاء ربّه, باذلاً في مرضاة الله لروحه, ممكّناً للولاة والقضاة من الحكم بقتله؟
وهذه الأشياء تنبّه الغافل, وتقوّي بصيرة العاقل, وإلا ففي قوله تعالى: ]كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ[ [آل عمران:110]. كفاية وغنية, مع ما عضدها من شهادة المصطفى -u- بأنهم خير القرون, وبأنّ غيرهم لو أنفق مثل أُحد ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه, إلى أمثال ذلك من مناقبهم الشّريفة ومراتبهم المنيفة.) ( الروض الباسم).
[111] - البخاري: (6780).
[112] - انظر: الإصابة في تمييز الصحابة: (11).
[113] - انظر: منهاج السنة: (2/456-458).
[114] - الكافي: (1/65)، وسائل الشيعة: (27/208)، البحار: (2/228).
[115] - عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّه ِu إِنَّ مِمَّنْ يَنْتَحِلُ هَذَا الْأَمْرَ لَيَكْذِبُ حَتَّى إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَحْتَاجُ إِلَى كَذِبِهِ (الكافي ج : 8 ص : 253) .
وفي تنقيح المقال: 1/174-175:عن جعفر الصادق قال: "إن لكل رجل منا، رجل يكذب عليه، وقال: إن المغيرة بن سعيد دس في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدث بها، فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا وسنة نبينا".( أصول مذهب الشيعة).
[116] - انظر كتاب: (براءة الصحابة من النفاق) لمنذر الأسعد: (36 – 37).
[117] - الأنوار الكاشفة: (262) بتصرف.
[118] - الصحابة والمنافقون. يقول إبن الوزير رحمه الله تعالى: (العدل من ظهر عليه من القرائن ما يدلّ على الدّيانة والأمانة دلالة ظنّية. إذ لا طريق إلى العلم بالبواطن؛ وهذا ظاهر في الصّحابة, فإنهم كما قال المنصور بالله: لولا ثقل موازينهم في الشّرف والدّين ما تبعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, ومالوا عن إلف دين الآباء, والأتراب والقرباء إلى أمرٍ شاقّ على القلوب, ثقيل على النّفوس, لاسيّما وهم في ذلك الزّمان أهل الأنفة العظيمة والحميّة الكبيرة, يرون أن يقتل جميعهم وتستأصل شأفتهم حذراً من أيسر عار يلم بساحتهم أو ينسب إلى قرابتهم, ولا أعظم عاراً عليهم من الاعتراف بضلال الآباء, وكفرهم, وتفضيل الأنعام السّائمة عليهم, فلولا صدقهم في الإسلام ومعرفتهم لصدق الرّسولعليهما السلام, ما لانت عرائكهم لذلك ولا سلكوا في مذلّلات المسالك.) ( الروض الباسم).
[119] - تفسير التبيان
[120] - قال القاضي عبد الجبار: ( ولقد اجتهد أعداء عثمان في أن يجدوا له عيبا فما قدروا عليه مع طول المخاطبة، فقال له قائل منهم: أنت ممن تولى يوم أحد فقال له عثمان: فلم تعيرني بذنب قد غفره اللّه، أما سمعت قوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾(آل عمران:155) » ( تثبيت دلائل النبوة).
[121] - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: ( مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا) رواه مسلم في صحيحه.
[122] - من وحي القرآن
[123] - بحار الأنوار ج : 22 ص : 362 /من عجيب أمر الشيعة أنهم تارة يحرفون القرآن وتفسيره حسب عقولهم القاصرة وهم أثبتوا الباء في قوله تعالى: { لقد تاب الله بالنبي . . } في رواية طويلة عن جعفر الصادق أنه قال: ( ويلهم وأي ذنب كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى تاب الله عليه منه إنما تاب الله به على أمته).
وتارة أخرى يقولون أن المعصية الواردة في حق الأنبياء هي مخالفتهم للأولى، كما في قوله تعالى: { وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى}.
قال الشريف المرتضى: ( أما المعصية فهي مخالفة الأمر والأمر من الحكيم تعالى قد يكون بالواجب وبالندب معا فلا يمتنع على هذا أن يكون آدمعليهما السلام مندوبا إلى ترك التناول من الشجرة ويكون بمواقعتها تاركا نفلا وفضلا وغير فاعل قبيحا وليس يمتنع أن يسمى تارك النفل عاصيا. . .
وأما قوله فَغَوى فمعناه أنه خاب لأنا نعلم أنه لو فعل ما ندب إليه من ترك التناول من الشجرة لاستحق الثواب العظيم فإذا خالف الأمر ولم يصر إلى ما ندب إليه فقد خاب لا محالة من حيث إنه لم يصر إلى الثواب الذي كان يستحق بالامتناع )(تنزيه الأنبياء).
ولست أدري ماذا يكون جوابهم لإبليس إذا قال لهم: أنا أيضاً تركت الأولى في قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآِدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ﴾. فيجب على هذا أن لا أستحق العقوبة على فعلي هذا.
وقد يقول فرعون أيضاً ما يقوله إبليس في قوله تعالى : ﴿ فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً ﴾. وهذا باب إذا إنفتح دخل منه جميع العصاة والكفرة ومن جميع الملل.
والعاقل يرى أنهم أطلقوا على الأخطاء ترك الأولى لفظاً فقط مع ظهور المعنى أظهر وأبين على أنها أخطاء ولذلك قال الإمام الرازي: ( إن ظاهر القرآن يدل على أن العاصي يستحق العقاب، وذلك يقتضي تخصيص إسم العاصي بترك الواجب فقط، وبيّنا أنه أيضاً إسم ذم، فوجب أن لا يتناول إلاّ تارك الواجب)( عصمة الأنبياء: ص20).
وفي شرح نهج البلاغة لإبن أبي حديد: ( وإذا كان لفظ العصيان في الاصطلاح الشرعي موضوعا لمخالفة الأمر الإيجابي لم يجز العدول عنه وحمله على مخالفة الندب. ومعلوم أن لفظ العصيان في العرف الشرعي لا يطلق إلا على مخالفة الأمر المقتضي للوجوب فالقول بجواز حملها على مخالفة الأمر الندبي قول تبطله وتدفعه تلك القاعدة المقررة التي ثبتت بالاتفاق وبالدليل على أننا قبل أن نجيب بهذا الوجه نمنع أصلا أنه يجوز أن يقال لتارك النفل إنه عاص لا في أصل اللغة ولا في العرف ولا في الشرع وذلك لأن حقيقة النفل هو ما يقال فيه للمكلف الأولى أن تفعل هذا ولك ألا تفعله ومعلوم أن تارك مثل ذلك لا يطلق عليه أنه عاص ويبين ذلك أن لفظ العصيان في اللغة موضوع للامتناع ولذلك سميت العصا عصا لأنه يمتنع بها ومنه قولهم قد شق العصا أي خرج عن الربقة المانعة من الاختلاف والتفرق وتارك الندب لا يمتنع من أمر لأن الأمر الندبي لا يقتضي شيئا اقتضاء اللزوم بل معناه إن فعلت فهو أولى ويجوز ألا تفعل فأي امتناع حدث إذا خولف أمر الندب سمي المخالف له عاصيا .)( شرح نهج البلاغة ج : 7 ص : 15).
[124] - من وحي القرآن
[125] - من مطاعن الشيعة على الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه لم يساوِ في العطاء بين المسلمين، وإنما أعطى كل إنسان على قدر سابقته في الإسلام. وهاهم الشيعة يحكمون اليوم في إيران وفي العراق بعد الإحتلال الأميركي، ولم يساووا في العطاء بين الرعية! بل لقد أثْروا ثراءً فاحشاً هم وأقرباؤهم على حساب فقراء المسلمين من السنة والشيعة. ولقد بلغ راتب الواحد منهم ملايين الدنانير في حين أن عامة الشعب لا يجد ما يسد رمقه، دع عنك حالة إنعدام أبسط وسائل العيش الكريم لجمهور الشعب!!
[126] - قال تعالى في محكم التنزيل: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾(آل عمران:7)
[127] - عارضه أحد المنافقين حينما قال للرسول صلى الله عليه وآله وسلم : هذه قسمة ما أريد بها وجه الله. وكان ذلك في قسمة غنائم حنين؛ ومع ذلك فالرسول عليه الصلاة والسلام لم يلتفت إليه.
[128] - حين عارضه بعض الصحابة في تأمير الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأسامة بن زيد في بعثه إلى الروم لصغر سنه. ولكن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أصر عليه. ولهذا لما تولى الخلافة أبو بكر عارضوه أيضاً في أسامة، ولكنه قال: ما كنت لأغير شيئاً صنعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.