في رحاب سورة الأنفال
في رحاب سورة الأنفال
د. سامي عطا حسن
إهداء
إلى روح والديَّ الكريمين - طيَّبَ الله ثراهُما –
وَفاءً وخَفْضَ جَناحْ..أُهدي ثَواب هذا العَمَل
) رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (
( الإسراء: 24)
يَقُولُ العِمادُ الأَصْفَهانِيّ :
إني رأيتُ أَنَّهُ لا يكتبُ إنسانٌ كتاباً في يَومِهِ إلا قال في غَدِهِ: لو غُيِّرَ هذا لكانَ أَحسن، ولو زِيدَ لكانَ يُسْتَحسَنْ، ولو قُدِّمَ هذا لكان أَفْضَل، ولو تُرِكَ هذا لكان أَجْمَلْ، وهذا من أعظم العِبَرْ، وهو دليلٌ على استيلاءِ النَّقْصِ على جُملَةَ البَشَرْ، وأَبَى الكمالُ أن يكونَ إلا لكتابِ الله...
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، - صلى الله عليه وسلم - اللهم صل على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
ثم أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وبهذين الأصلين اهتدت الأمة قديماً، وهما سبيل نجاتها في سائر الأزمان والأحوال. من تمسك بهما رَشد واستقام، ومن ضل عنهما غوى وهوى. ويزداد يقيني يوما بعد يوم، أنه لا خلاص لهذه الأمة من هذا الواقع الذي تعيشه، والبؤس الذي تحياه، لتعود كما كانت خير أمة أخرجت للناس، إلاّ بأن تجعل القرآن الكريم ربيع قلوبها، وسبيل نجاتها، وحبل خلاصها، وهاديها من حيرتها، ومنقذها من رقدتها، به تحيا، وفي ضوء منهاجه تسير..
ولما كان القرآن معجزةً عقليةً خالدة، ظلَّ على امتداد الأزمان بِكراً في معانيه، وألفاظه، وتراكيبه، ووسائله، وأهدافه، يحوم حوله طلاب العلم في كل عصر، فيأخذون بعض الفرائد من جواهره، ويرتشفون قطرات من جليل هديه وتوجيهه، كما ظل محلَّ التدبر، ومناط التأمل، وغاية الغايات
لذلك كان أهم ما يتاح لطالب العلم، والباحث فيه، أن يوظف ما حصله من مسائل العلم في خدمة هذا الكتاب العزيز إظهاراً لمقاصده، وتوضيحاً لمراميه، وتجليةً لبعض أسراره الُمسْتكِنَّة وراء ألفاظه وجُمَلِه.فالقرآن على مدى الدهر موضع لنظرٍ يطول، وفكرٍ يجول، وتأمُّلٍ يتبصَّر، وغَوصٍ وراء الأستار والأسرار..
والقرآن ليس فيه فاضل وأفضل، وبليغٌ وأبلغ، بل القرآن كله على حدٍّ سواء من أوله إلى آخرِه، هديا ً، وبلاغةً، وفضلاً، وإعجازاً، فحيثما وجَّهت بصيرتك وجدت نوراُ يهدي، وهدياً يدل، ودلالةً تقود، وتوصل إلى خيري الدنيا والآخرة..
وقد قمت بتدريس سورة الأنفال فصولاً عديدة، فاجتهدت في إعدادها، وتسجيل خواطري حولها، مع ما أفدته من كتب التفسير، فكان هذا المختصر لتفسير" سورة الأنفال " أقدمه لك أخي القاريء،، راجيا أن ييسر الله لك قراءته وتدبره، سائلاً المولى – عز وجل - أن ينفع به مُعِدَّه، وقارئه في الدنيا والآخرة … إنه سميع مجيب.
والله أسأل أن يبارك في هذا العمل، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم. ( رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ. رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) .( إبراهيم: 40-41 ) وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين .
مفاتيح سورة الأنفال
مدخل لدرا سة سورة الأنفال:
لا شك أن القرآن الكریم مصدر كل خیر، وینبوع كل حكمة، لذلك فإن النظر فیه وتأمله وتدبر معانیه ودلالاته، وبیان المراد من ألفاظه وتراكیبه، أمر بالغ الأهمیة وعظیم القیمة، ویهدف هذا المدخل إلى التعریف بسورة الأنفال من حیث وقت نزولها، والتناسب بینها وبین ما قبلها وما بعدها، والتناسب بین بدایتها وخاتمتها، والأغراض العامة لسورة الأنفال ومقاصدها.
اسمها، ووقت نزولها:
سمیت سورة الأنفال لأنه ورد لفظ "الأنفال" في أول السورة ) يسْأَلوُنكَ عَنِ الأَنفاَل ) ) الأنفال: 1 ) .
وسورة الأنفال مدنیة ، قال ابن عباس " هي مدنیة إلا سبع آیات من قوله تعالى( وَإذْ یمكُر بكِ الذَّینَ كَفرَوا....إلى آخر السبع آیات( [1] ) ، وهي بدریة، أي أنها نزلت في بدر، وقد أجمع الكثیر من المفسرین أنّ وقت نزولها كان في بدر ". قال عبادة بن الصّامت-رضي الله عنه - نزلت فینا معشر أصحاب بدر حین اختلفنا في النفل، وساءت فیه أخلاقنا فنزعه الله من أیدینا، فجعله لرسول الله - صلى الله علیه وسلم- فقسمه بین المسلمین على السّواء)( [2] )
سبب نزول السورة:
قال فى القرطبى( [3] ): روى عبادة بن الصامت قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر، فلقوا العدو. فلما هزمهم الله..!! اتبعتهم طائفة من المسلمين يقتلونهم. وأحدقت طائفة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - . واستولت طائفة من العسكر على النهب.
فلما نفى الله العدو ورجع الذين طلبوهم، قالوا: لنا النفل، نحن الذين طلبنا العدو، وبنا نفاهم الله، وهزمهم. وقال الذين أحدقوا برسول الله -صلى الله عليه وسلم -: ما أنتم بأحق منا بل هو لنا، نحن أحطنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لئلا ينال العدو منا غِرَّة. وقال الذين استولوا على النهب: ما أنتم بأحق منا، هو لنا، نحن حويناه، واستولينا عليه ، فأنزل الله عز وجل :( يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين ). فقسمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهم.
أسامي السور بين التوقيف والاجتهاد:
لقد تقرر لدى الباحثين في أسماء القران الكريم أنها قرآنية أي أنها أسماء وردت في القرآن الكريم نفسه. أما أسماءالسور، ففيها خلا ف بين قائلين بأن أسماءها توقيفية، وقائلون بأئها اجتهادية.
القائلون بالتوقيف :
يذهب القاثلود بالتوقيف، وهم جمهور العلماء، إلى أن أسماء السور واردة بالوحي من الله تعالى، أو من النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقرّه الوحي عليها، وقد جزم السيوطي في " الإتقان بتوقيف أسماء جميع سور القران، وقال:( وقد ثبت أن جميع أسماء السور بالتوقيف من الأحاديث والآثار، ولولا خشية الإطالة لبينت ذلك( .( [4] )
ومن الأحاديث والآثار التي يستند إليها القائلون بالتوقيف : ما ورد في صحيح البخاري في قول عائشة - رضي الله عنه " - لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا، قرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الناس ثم حرم التجارة في الخمر( [5] ) ومنها حديث حذيفة حين بات عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة فتهجد معه، قال: " صليت مع البي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فافتتح القراءة فقرأ حتى انتهى إلى المائة ثم مضى حتى بلغ المائتين ، تم قرأ حتى ختمها،ثم افتتح النساء فقرأ، ثم ركع فكان ركوعه مثل قيامه ..... الحديث .([6] )( وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبين للصحابة مواضع الآي إنا لزلت ويقول: " ضعوها في السورة التي يذكر فيها كذا"، وغير ذلك من الأحاديث التي نص فيها على أسماء سور معينة كالنساء، والعنكبوت، وق، والنجم، والفيل وغيرها.
ب - القائلون بالتوفيق والاجنهاد:
يرى مجموعة من العلماء أن أسماء سور القران موضوعة من لدن المسلمين في الصدر الأؤل، بناء على كثرة الاستعمال والشيوع فيما بينهم. والظاهر في مواقفهم أن ذلك لا يمتنع ، وكون بعض الأسماء توقيفبة من وضع النبي - صلى الله عليه وسلم - وإقراره، خلافا لما جزم به السيوطي بأن جميع أسماء السور قد ثبتت توقيفا بالأحاديث والاثار النبوية.. عن ابن عاشور قال: والظاهر أن الصحابة سموا بما حفظوه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أخذوا لها أشهر الأسماء التي كان الناس يعرفونها، ولو كانت التسمية غير مأثورة، فقد سمى ابن مسعود القنوت "سورة الخلع ، فتعين أن تكون التسمية من وضعه، وقد اشتهرت تسمية بعض السور في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وسمعها وأقزها وذلك يكفي في تصحيح التسمية([7] ) فهو ,وإن كان يميل إلى القول بالتوقيف، لا يستبعد كون بعض الأسماء من وضع الصحابة.
ومن حجح هذا الفريق: أن ما ثبت في الصحاح من أسماء السور، إنما هو سور معدودة، لا أسماء سور القرآن كلها، من ذلك تسمية النبي - صلى الله عليه وسلم - لمجموعات سور كالطوال، والمتاني، والمئين، والمفصل ، والطواسين ، والحواميم، كما في حديث واثلة بن الأسقع المشهور،( [8] ) ونحو ذلك. كدلك يذهبون إلى أن في إحجام الصحابة عن إثبات أسماء السور في المصاحف الأولى، واكتفائهم بإئبات البسملة في مبدأ كل سورة، دلالة قوية أيضا على أن أسماء السور ليست توقيفية أو قرآنية.
والأرجح لديهم: أن الشارع وضع نماذج معدودة من أسماء السور، وترك البقية لاجتهاد المجتهدين، وآية ذلك أن أسماء السور لو كالت جميعها توقيفا لما وسع المسلمين الأوائل الجهل بها، ولما وسع الصحابة - رضوان الله عليهم- إلا أن يثبتوها في المصاحف الأولى متل إثباتهم البسملة في أوائل السور، لكنهم لما وجدوا أن بعضها منصوص عليها، وبعضها الآخر غير منصوص عليها، أدركوا أد ذلك ليس توقيفا ولا ملزوما، قال المازري في شرح البرهان عن القاضي أبي بكر الباقلاني : إن أسماء السور لما كتبت المصاحف، كتبت بخط آخر لتتميز عن القرآن، وإن البسملة كانت مكتوبة في أوائل السور بخط لا يتمير عن الخط الذي كتب به القرآن.( [9] ) هذا، ويجمع المسلمون كافة على عدم جواز وضع أسماء للسور بعد ثبوت الأسماء المعروفة وإجماع المسلمين عليها، وتلقي الأمة لها بالقبول.. لذلك نجد ابن عاشور يذكر أن بعض السلف دعا سورة( يس) سورة) قلب القرآن(، وأنها تسمية غير مشهورة، ثم يشجب على بعض المتأخرين ممن خالف في التسمية، فقال: ورأيت مصحفا مشرقيا نسخ سنة 1078 أحسبه في بلاد العجم عنون سورة ( يس ) باسم ( حبيب النجار ) "،وهو صاحب القصة )وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى) . وهده تسمية غريبة لا نعرف لها سندا، ولم يخالف ناسخ ذلك المصحف في أسماء السور ما هو معروف إلا في هذه السورة وفي "(سورة التين ) عنونها " (سورة الزيتون(( [10] )
اسمها التوقيفي: الأنفال: جمع نفل، وهي الغنيمة والهبة، يقال: نفلت فلانا تنفيلا، أعطيته نفلا وغنما( [11] ) واشتهرت سورة الأنفال بهذا الاسم في عهد الرسول – صلى الله عليه وسلم –، فعن سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه – قال:( لما كان يوم بدر، قتل أخي عمير، وقتلت سعيد بن العاص، فأخذت سيفه، فأتيت به النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: ليس هذا لي ولا لك، اذهب فاطرحه في القبض( بفتحتين )( وهو الموضع الذي تجمع فيه الغنائم )، فطرحته وبي ما يعلمه إلا الله تعالى من قتل أخي، وأخذ سلبي، فما جاوزت إلا قليلا حتى جاءني رسول الله وقد أنزلت سورة الأنفال فقال: يا سعد إنك سألتني السيف وليس لي، وأنه قد صار لي فاذهب وخذه..([12] )
فالأنفال: هو الاسم الذي عرفت به بين المسلمين، وبه كتبت في المصاحف حين كتبت أسماء السور، وكتبت في كتب التفسير والحديث.
وجه التسمية:
سميت سورة الأنفال لأنها افتتحت بآية ورد فيها اسم الأنفال ـ وكررت فيها، ومن أجل أنها ذكر فيها حكم الأنفال في قوله تعالى:( يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول )( الأنفال: 1)، ولم يرد لفظ الأنفال في غيرها من سور القرآن الكريم..
أسماؤها الاجتهادية:.
لهذه السورة عدة أسماء:فهي تسمى:
الاسم الأول: سورة بدر: سميت هذه السورة( سورة بدر )، وقد ذكرها السيوطي في الاتقان( [13]) واستدل بما رواه سعيد بن جبير،( عن ابن عباس أنه قال له: سورة الأنفال ؟ قال: تلك سورة بدر )( [14] ) وذكر هذا الاسم : الفيروزآبادي( [15] ) .. وعلل وجه التسمية بقوله: لحديثها المستفيض عن غزوة "بدر"، وما جرى فيها. كما أنها نزلت – كذلك – عقيبها، وبسببها. فقد أخرج سعيد بن منصور، والبخاري، وابن المنذر، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس: سورة "الأنفال".. ؟ قال: نزلت فى بدر – وفى لفظ – تلك "سورة بدر"( [16] )
الاسم الثاني: سورة الجهاد: كما سماها البقاعي ( [17]) (سورة الجهاد )، ولم يذكر سنده، ولعله سماها بذلك، لأن معظم ما في هذه السورة هو الجهاد واحكامه. وهذان الاسمان اجتهاديان من السلف، حيث لم يثبت عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – أنه سماها بهذين الاسمين
الاسم الثالث: - القرينتين)[18](. ذكر الإمام السخاوي.. أنهم كانوا يسمونها مع سورة التَّوبة: بــــــالقرينتين.. لأن بعض العلماء ؛ اعتبرها مع التوبة سورة واحدة، وجعلوها السورة "السابعة" من السبع الطوال، إذ أنهما تكملان بعضها البعض، ومن ثَمَّ : لم يفصِل بينهما الصحابة بــ(بسم لله الرحمن الرحيم) .. وبالطبع هذا جواب غير مقنع..؟! أما لماذا لم تبدأ سورة براءة( التوبة ) بالبسملة...؟؟
فنقول: اخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: سألت علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – لمَ لم تُكتَب في براءة( بسم الله الرحمن الرحيم ) قال: لأن بسم الله الرحمن الرحيم أمان ورحمة، وبراءة( التوبة ) نزلت بالسيف.. فنزلت على ما جرت به عادة العرب ومعهودهم في الخطاب، فقد كان من شأن العرب إذا كان بينهم وبين قوم عهد، وأرادوا التوقف عنه وإبطاله، كتبوا إليهم كتابا في ذلك ولم يكتبوا فيه بسملة، فلما نزلت براءة بنقض العهد الذي كان بين النبي – صلى الله عليه وسلم – والمشركين، بعث بها النبي – صلى الله عليه وسلم – علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – فقرأها عليهم، ولم يبسمل في ذلك..
وفي تاريخنا: حادثة تؤيد ذلك.. فقد كانت البصرة معقلاً للخارجين على الخلافة الأموية ، وكانت الفتن والثورات على بني أمية تنبع منها، فاختار معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه – زيادً بن أبيه – رضي الله عنه- واليًا عليها ، فلما وصل زياد إلى البصرة صعد المنبر وألقى خطبتة المشهورة التي سميت بالبتراء، لأنه لم يبدأها بالبسملة، ولا بحمد الله أوالثناء عليه، وهو الأسلوب الدارج في استهلال الخطب العادية، فقال في خطبة عصماء طويلة، منها قوله :
[[ إن الجهالة الجهلاء، والضلالة العمياء، والغَيَّ المُوفي بأهله على النار ما فيه سفهاؤكم، ويشتمل عليه حلماؤكم من الأمور العظام ، التي ينبت فيها الصغير، ولا يتحاشى عنها الكبير، كأنكم لم تقرأوا كتاب الله ولم تسمعوا ما أعد الله فيه من الثواب الكبير لأهل طاعته، والعذاب الأليم لأهل معصيته في الزمن السرمدي الذي لا يزول، لقد أحدثتم أحداثا لم تكن، وأحدثنا لكل ذنب عقوبة، فمن قتل قوما قتلناه، ومن أغرق قوما أغرقناه، ومن هدم بيتا هدمنا بيته فوق رأسه، ومن نبش قبرا دفناه فيه حياًّ........ألم يكن منكم نُهاة تمنع الغواة عن دَلَجِ الليل وغارة النهار؟! قربتم القرابة، وباعدتم الدين، تعتذرون بغير العذر، وتُغضُون على المختلس، كل امرئ منكم يذب عن سفيهه، صنيع من لا يخاف عاقبة ولا يرجو معاداً، ما أنتم بالحلماء ولقد اتبعتم السفهاء، حرام عليَّ الطعام والشراب حتى أسويها بالأرض هدما وإحراقا......
إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله: ِلينٌ في غير ضَعف، وشدةٌ في غير عُنف. وإني أقسم بالله لآخذن الوليَّ بالمولى، والمقيم بالظاعن، والمُقبل بالمُدبر، والمطيع بالعاصي، والصحيح منكم في نفسه بالسقيم، حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول:انجُ سعد فقد هلك سعيد، أو تستقيم لي قناتكم..... الخ باختصار. ]]. فهذا الموقف لا تنفع فيه الرحمة... وكذلك سورة براءة... فنزلت على معهود العرب في الخطاب فلم تكن في بدايتها بسملة والله أعلم ؟!( [19] )
قال الإمام النووي - رحمه الله: - (وينبغي أن يحافظ على قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في أول كل سورة، سوى براءة، فإن أكثر العلماء قالوا إنها آية حيث تكتب في المصحف ؛ وقد كتبت في أوائل السور سوى براءة. فإذا قرأها كان متيقنا قراءة الختمة أو السورة، فإذا أخل بالبسملة كان تاركا لبعض القرآن عند الأكثرين..) وأما إذا قرأ من أثناء السورة: فتكفيه الاستعاذة، وإن أتى بالبسملة فلا بأس.([20])
ترتيب آيات القرآن وسوره
ترتيب آيات القرآن :
ترتيب الآيات في سورها توقيفي ثابت بالوحي، وبأمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وكانت الآيات تتنزل عليه، ويأمر كتاب الوحي بوضعها في مكانها من السور، بتبليغ من جبريل -عليه السلام -. وقد ترادفت النصوص على كون ترتيب الآيات توقيفياً، ووقع الإجماع على ذلك، وقد نقل الإجماع غير واحد من العلماء منهم: الزركشي، حيث قال: - " فأما الآيات في كل سورة، ووضع البسملة في أوائلها، فترتيبها توقيفي بلا شك، ولا خلاف فيه.." ([21]).
ومن النصوص التي تدل على أن ترتيب الآيات توقيفي: -
روى البخاري أن ابن الزبير قال: " قلت لعثمان بن عفان:(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا...... )( البقرة: 234) قال: قد نسختها الآية الأخرى َفَلِمَ تكتبها أو تدعها..؟ قال: يا ابن أخي لا أغير شيئا من مكانه " يعني: لِمَ تكتبها وقد علمت أنها منسوخة، أو قال:تدعها مكتوبة، شك من الراوي أيّ اللفظين قال، ثم نقل رواية أخرى عن الإسماعيلي بصيغة: لم تكتبها وقد نسختها الآية الأخرى..؟ "( [22] ) ..وفي جواب عثمان هذا دليل على أن ترتيب الآي توقيفي، وكان عبد الله بن الزبير ظن أن الذي ينسخ حكمه لا يكتب، فأجابه عثمان بأن ذلك ليس بلازم، والمُتَّبَعُ فيه التوقيف..)([23]) .
2 - روى الترمذي، والحاكم، وابن حبان، وأبو داود، وأحمد من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما- قال: " كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء، دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا." ([24]).
3- قال الحافظ في الفتح: " لا خلاف أن ترتيب آيات كل سورة على ما هي عليه الآن في المصحف، توقيف من الله تعالى.. "([25])
والحاصل:" أن الصحابة – رضوان الله عليهم أجمعين – جمعوا القرآن كما هو عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من غير زيادة ولا نقص، ولا تقديم، ولا تأخير، بتوقيف عن جبريل، عن رب العزة سبحانه "([26])
لماذا لم ترتب الآيات على حسب النزول..؟
من المجمع عليه أن ترتيب الآيات ليس بحسب نزولها، وإنما يرجع إلى المناسبات والروابط البلاغية، فقد تنزل الآية بعد الآية بسنين، وتكون في ترتيب الكتاب قبلها، وليس أدل على ذلك من تقدم بعض الآيات الناسخة على الآيات المنسوخة، مع أن الناسخ متأخر عن المنسوخ في النزول قطعا..وذلك مثل قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا )(البقرة: 234) فإنها ناسخة لآية " (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ.....)( البقرة: 240 )، فالأولى متأخرة في النزول، متقدمة في الترتيب، كما أن بعض الآيات التي نزلت قبل الهجرة قد ألحقت بسور نزلت بعدها، كقوله تعالى: -( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) ( الأنفال: 64 ) فقد صح النقل بأنها نزلت عقب إسلام عمر، وذلك بمكة قبل الهجرة([27])، ومع ذلك فقد ألحقت بسورة الأنفال التي نزلت بالمدينة بعد الهجرة، وهناك آيات نزلت بعد الهجرة وألحقت بسورة نزلت بعد الهجرة أيضا، ولكنها وضعت في السورة التي ألحقت بها قبل آيات نزلت هي بعدها، وذلك كقوله تعالى:( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا )( المائدة: 3 ) فمن المعلوم أن هذه الآية نزلت في حجة الوداع، وقد ألحقت بسورة المائدة التي نزلت بعد الهجرة، في حين أن كثيراً من الآيات التي جاءت بعدها في السورة، قد نزلت قبلها، كما يعرف ذلك من الرجوع إلى أسباب نزول هذه الآيات.
وفي الأثر عن محمد بن سيرين قال: " قلت لعكرمة: ألفوه – أي القرآن – كما أنزل، الأول فالأول ، قال: لو اجتمعت الأنس والجن على أن يؤلفوه هذا التأليف ما استطاعوا، وصدق عكرمة، فإن تأليفه على حسب النزول غير مستطاع لأحد من البشر، لأن الله لم يرد أن يكون تأليف كتابه المعجز على حسب النزول، وإنما اقتضت حكمته أن يكون على حسب المناسبات البلاغية، وأسرار الاعجاز.."([28])
ولعل تعليل فضيلة الشيخ محمد محمد المدني – رحمه الله – كان أقرب إلى الحكمة 0حين قال: - " لو أنه جُمع على حسب ترتيب نزوله، لفهم بعض الناس أن آياته خاصة بحوادثها، أو أنه حُلول وقتية للمشكلات التي كانت على عهد الرسول فحسب([29] ) ، والله تعالى يريد كتابه عاماً خالداً لا يختص بعصر دون عصر، ولا بقومٍ دون قوم، لذلك اقتضت الحكمة أن يرتب ترتيباً يحقق هذا العموم، وهذا الخلود، ويبتعد عن الترتيب الزمني الذي نزل به لحكمة كانت مناسبة حين نزوله.."([30]).
ترتيب سور القرآن :
اختلف العلماء حول وضع السور وترتيبها في المصحف العثماني على أقوال ثلاثة … وهي: -
القول الأول: إن ترتيب السور على ما هو عليه الآن في المصحف كان باجتهاد من الصحابة -رضوان الله عليهم -، قال ابن فارس:( جمع القرآن على ضربين: أحدهما: تأليف السور كتقديم السبع الطوال، وتعقيبها بالمئين، فهذا الضرب الذي تولته الصحابة. وأما الجمع الآخر: فضم الآي بعضها إلى بعض، وتعقيب القصة بالقصة، فذلك شيء تولاه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عن أمر ربه – عز وجل – )([31] ).
واستدل أصحاب هذا القول بما يلي: -
1- بحديث رواه أحمد، والنسائي، ومسلم، عن حذيفة قال: " صليت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم – ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة ، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها مترسلا، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذٍ تَعَوَّذ ….الحديث ).قال الإمام النووي في شرح الحديث: - ( قال القاضي عياض: فيه دليل لمن يقول إن ترتيب السور اجتهاد من المسلمين حين كتبوا المصحف، وأنه لم يكن ذلك من ترتيب النبي – صلى الله عليه وسلم -، بل وَكَلَهُ إلى أمته بعده.."([32]).
2 – اختلاف مصاحف الصحابة في ترتيب السور، فمنهم من رتبها على ترتيب النزول كمصحف علي، وكان أول مصحف ابن مسعود: البقرة، ثم النساء، ثم آل عمران، وكذا مصحف _ أُبَيّْ _ فكان بينها اختلاف شديد في الترتيب. وفي المصاحف لابن أشته:- " أن عثمان أمرهم أن يتابعوا الطوال، فجعلت الأنفال والتوبة في السبع ولم يفصل بينهما بالبسملة،فهذا الاختلاف الشديد بين مصاحف الصحابة دليل على أنه لم ينقل عن النبي – صلى الله عليه وسلم – شيء في هذا الباب وإلا لما ساغ لهم أن يهملوا ترتيب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بعمل آخرمن اجتهادهم" ([33])
ويمكننا مناقشة هذه الأدلة : - بأن حديث حذيفة يبين أن سورة النساء كانت في ذلك الوقت مقدمة على سورة آل عمران، ثم حصل الترتيب بعد ذلك بالتوقيف..
أو: أن الترتيب في الصلاة ليس بواجب، وفعله – صلى الله عليه وسلم – كذلك لبيان الجواز([34])..
أما استدلالهم باختلاف مصاحف الصحابة فيمكن رده : بأن مصحف عثمان – رضي الله عنه – لو كان اجتهادياً لما وافقوه على ذلك، لأنه ليس لمجتهد أن يقلد مجتهداً آخر، كما هو مقرر عند الأصوليين. ثم إن مصاحف الصحابة كانت خاصة بهم، جمعت إلى القرآن بعض مسائل العلم، وبعض المأثورات،والتفسيرات، فهي إلى كتب العلم أقرب منها إلى المصاحف المجردة، ومن هنا وجدنا الذين استنسخوا المصاحف العثمانية لم يعتمدوا عليها، بل اعتمدوا على جمع أبي بكر، وجمعُ أبي بكر – كما هو معروف –، اعتمد على ما جُمع بين يدي النبي – صلى الله عليه وسلم -، ومن هنا فقد عَدَلوا جميعا عن هذه المصاحف، وساروا على ما سار عليه الصحابة جميعاً، وهو جمع عثمان - رضي الله عنه –، ووافقوا على مصاحف عثمان وما فيها من لفظ وترتيب ، وترك ما سواها، فلو كان الترتيب بالاجتهاد لظلوا على اجتهادهم، وبهذا ظهر بطلان هذا القول. وأكد ذلك الآلوسي في مقدمة تفسيره.([35])
القول الثاني: إن ترتيب السور بعضه بالتوقيف، وبعضه الآخر باجتهاد من الصحابة. وقد مال القاضي أبو محمد بن عطية إلى هذا القول، فقال: "وظاهر الآثار أن السبع الطوال، والحواميم، والمفصل، كان مرتبا في زمن النبي – صلى الله عليه وسلم -، وكان في السور ما لم يرتب، فذاك هو الذي رتب وقت الكَتْبْ. )([36]).أي: فوض إلى الأمة أمر ترتيبه.
ومن جانب آخر: ذهب البيهقي في المدخل إلى أن القرآن كان على عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – توقيفي إلا الأنفال، وبراءة، فإن ترتيبهما باجتهاد من عثمان – رضي الله عنه -، ووافقه عليه الصحابة، وقد استدل على استثناء هاتين السورتين بما أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، وابن حبان، والحاكم، وغيرهم، عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: " قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وبراءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر– بسم الله الرحمن الرحيم – ووضعتموها في السبع الطوال..؟ ما حملكم على ذلك..؟ قال عثمان: إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان مما يأتي عليه من الزمان، ينزل عليه من السور ذوات العدد، وكان إذا أنزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده ويقول: ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وتنزل عليه الآية فيقول: ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وبراءة من آخر القرآن، فكانت قصتها شبيهة بقصتها، فقبض رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولم يبين لنا أنها منها، وظننت أنها منها، فمن ثم قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر- بسم الله الرحمن الرحيم – ووضعتها في السبع الطوال … "([37]) ويعلق ابن حجر على هذا الحديث بقوله: - " فهذا يدل على أن ترتيب الآيات في كل سورة كان توقيفياً، ولماّ لم يفصح النبي – صلى الله عليه وسلم – بأمر براءة، أضافها عثمان إلى الأنفال اجتهادا منه.." ([38]).وقال السيوطي:" والمختار عندي أن كل السور توقيفية سوى الأنفال وبراءة "([39])
ويمكننا مناقشة دليل أصحاب هذا القول من وجهين:
أولا: إن هذا الحديث غير صحيح.. لقول الترمذي فيه: " حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عوف، عن يزيد الفارسي، عن ابن عباس، ويزيد هذا مجهول الحال.. "([40]). وقال الذهبي: " عوف الأعرابي: قيل: كان يتشيع، وقد وثقه جماعة، وجَرَّحَهُ آخرون ، وكان داود بن أبي هند يضربه ويقول: ويلك ياقدري..وقال بندار: والله لقد كان عوف قدريا، رافضيا شيطانا "([41]) . وقال مسلم في مقدمة صحيحه: - " وإذا وازنت بينه وبين الأقران رأيت البون بينهم بعيداً، في كمال الفضل، وصحة النقل." ([42]).
وأما يزيد فقد اختلفوا فيه، هل هو ابن هرمز أو غيره.؟ وقد ذكره البخاري في كتاب الضعفاء باسم يزيد الفارسي لاشتباهه فيه، وحيث أنه قد انفرد بهذا الحديث، فلا يحتج به في شأن القرآن الذي يطلب فيه التواتر([43]).. وقال الذهبي: " قال فيه النسائي وغيره: متروك، وقال الدارقطني وغيره: ضعيف، وقال أحمد: كان منكر الحديث." ([44]) فإذا كان الحديث بهذه المكانة من الضعف، ولم يرتضيه إلا القليل الذين قوموه ، ولم يخرجوه عن أقل درجات القبول، فكيف نقبله.؟ وأمر القرآن الذي هو في أعلى درجات القمة نقلا ونظما وترتيبا..؟([45]) كما أن في متن الحديث اضطراباً، إذ أن ابن عباس يعجب كيف جعل عثمان براءة وهي من المئين، والأنفال وهي من المثاني بين الطوال، وهذا العجب يستقيم لو كانت يونس من الطوال، وأخَّرها عثمان عن براءة والأنفال، مع أن يونس أقصر من براءة وحدها، وإن كانت أطول من الأنفال، إذ أن سورة يونس( 109 آيات ) وسورة براءة( 129 آية ) فكيف يصح عجب ابن عباس..؟ وهذا كله مما يجعل الناظر في المسألة لا يعتمد صحة هذه الرواية. وثانيا: بقي علينا الكلام في حديث ابن عباس في اقتران براءة والأنفال – على فرض صحة هذه الرواية – لقد استدل ابن كثير في فضائل القرآن، والبيهقي، والسيوطي، وغيرهم، بهذا الحديث على أن ترتيب سور القرآن ثابت بالتوقيف إلا الأنفال وبراءة،حتى لقد قال القرطبي: ( إن سور القرآن انتظمت ببيان منه – صلى الله عليه وسلم – وبراءة ضمت إلى الأنفال من غير عهد منه لما عالجه من الحِمام قبل تبيينه ذلك، وتضم إحداهما إلى الأخرى للوصف الذي لزمهما من الاقتران. ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – حي )( [46] ).. وهذا غير مُسَلَّم، إذ كيف نثبت في المصحف أمراً قائماً على الظن، ومن عثمان وحده..؟
قال الخطيب في الكفاية:( لا يقبل خبر الواحد في منافاة حكم العقل، وحكم القرآن الثبت المحكم، والسنة المعلومة، والفعل الجاري مجرى السنة، وكل دليل مقطوع به. )( [47] ). وقوله:( فقبض رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولم يبين لنا أنها منها ) بعيد، إذ الأنفال نزلت في السنة الثانية عقب غزوة بدر، والتوبة نزلت في أواخر السنة التاسعة بعد تبوك، وبعد خروج أبي بكر للحج على رأس المسلمين، فكيف يُعقل أن يظل الرسول – صلى الله عليه وسلم – زهاء خمسة عشر شهراً ولا يبين للناس أنها منها أو غيرها..؟ إنه يكون بذلك قد تأخر عن البيان وقت الحاجة إليه، بل مات قبل البيان، وحاشاه – صلى الله عليه وسلم –أن يفعل ذلك، مع ورود الأحاديث الصحاح بأنه كان يعرض القرآن كله في رمضان من كل عام على جبريل – عليه السلام -، وعرضه في العام الذي توفي فيه مرتين، وحينئذ فأين كان يضع هاتين السورتين في قراءته حينما كان يعرضهما على حبريل..؟([48]) ثم إن إطلاق الاسم على كل منهما، واختلافه فيهما، مما يعين أن هذه غير تلك، وقد سمَّى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كلا منهما.( [49] )
أما قوله " فمن ثم قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر- بسم الله الرحمن الرحيم – " فإن البسملة لا تخضع لهوى الكتاب إثباتا وحذفا، أخرج أبو داود والحاكم، وصححاه عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: " كان النبي – صلى الله عليه وسلم – لا يعلم ختم السورة حتى ينزل: بسم الله الرحمن الرحيم .. وفي رواية: " فإذا نزلت – بسم الله الرحمن الرحيم – علم أن السورة قد انقضت "، قال الحافظ أبو شامة: هذا حديث حسن.([50]) وإنما لم تذكر البسملة في أول سورة براءة " ليعلم أنه يخص من يشاء وما يشاء بما يشاء، ويفرد من يشاء وما يشاء بما يشاء، ليس لصُنعِهِ سبب، وليس له في أفعاله غَرضٌ ولا أَرَب "([51]).. وأما ما قاله المفسرون في أسباب عدم ذكرها هنا فهو التماس للحكمة. هذا وقد قام الإجماع على أن سورة الأنفال سورة برأسها غير سورة التوبة... ولذا قال الزركشي: " إن سور القرآن مائة وأربع عشرة سورة بإجماع أهل الحل والعقد "([52]) . فوضع السورة هذه بعد تلك، كان بوحي من الله تعالى، وأن حذف البسملة من أولها كان بوحي منه جل شأنه، إن القرآن الكريم كله آية آية، وسورة سورة، مرتب من الله تعالى، وقد بلغه عنه رسوله الأمين – صلى الله عليه وسلم – لصحابته الكرام، فرتبوه كما سمعوه.
القول الثالث:- وهو القول المختار -: إن ترتيب السور تمَّ بتوقيف من النبي – صلى الله عليه وسلم – على ما استقر في العَرضة الأخيرة، وقال الألوسي عن هذا القول:إنه لجمهور العلماء([53])
وقال أبو بكر الأنباري: " كان جبريل يوقف رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على موضع السورة والآية، فاتساق السور كاتساق الآيات والحروف، فكله عن محمد خاتم النبيين – عليه الصلاة والسلام – عن رب العالمين، فمن أخَّرَ سورةً مُقَدمة، أو قدم أخرى مؤخرة، فهو كمن أفسد نظم الآيات، وغَيَّرَ الحروف والكلمات، ولا حجة على أهل الحق في تقديم البقرة على الأنعام، والأنعام نزلت قبل البقرة، لأن رسول الله أخذ عنه هذا الترتيب "([54])
ومما يُستأنس به أيضا على أن ترتيب السور توقيفي، هو: أن الحواميم رتبت وِلاءً، وكذا الطواسين، ولم ترتب المسبِّحات تباعاً، بل فصل بينهما بالمجادلة، والممتحنة، والمنافقون، وأفردت الإسراء في النصف الأول، وفصل بين الشعراء والقصص وهما يبدءان بـ " طسم " بـ " طس النمل " مع أنهما أقصر منها، ولو كان الترتيب اجتهاديا لذكرت المسبحات وَلاءً، وأُخِّرَت " طس" عن " القصص "، أما وأنه قد حصل الفصل بين المتماثلات والمتقاربات من السور مع عدم التناسب في الطول والقصر، فهذا يدل على أن الترتيب توقيفي([55]).. يقول القرطبي: " وقال قوم من أهل العلم: إن تأليف سور القرآن على ما هو عليه في مصحفنا، كان عن توقيف من النبي – صلى الله عليه وسلم – "([56])
ومهما يكن من أمر، وسواء أكان هذا الترتيب الذي نجده في المصاحف بطريق التوقيف أم بطريق الاجتهاد، فقد أجمعت الصحابةُ عليه، ومضت الأمة على قبوله، فيجب التمسكُ به، والإعراضُ عن الدعواتِ المشبوهة، لإعادة ترتيب المصحف حسب النـزول أو الموضوع، أو غير ذلك مما يلهج به المستشرقون ومن يقلدهم ، ولأن في ترتيب سُوَرهِ معانيَ لا تقل عن معاني الترتيب في آياته، جَدَّ كثير من العلماء في استنباطها وتحصيلها، فالعدول عن هذا الترتيب مخالف للإجماع، وفي ذلك مفاسد عظيمة، ويكفينا أنه ترتيب أجمع عليه الصحابة، والإخلال به يخالف هذا الإجماع.([57]).
عدد آيات السورة و كلماتها و حروفها([58]):
سورة الأنفال مدنية([59]) إلا آيتين… قال ابن عباس " هي مدنیة إلا سبع آیات من قوله تعالى( وَإذْ یمكُر بكِ الذَّینَ كَفرَوا....إلى آخر السبع آیات.. ليس بمدني.([60])
قوله تعالى:(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ )( الأنفال:1 ) نزلت ببدر، وقوله تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(الأنفال: 64) نزلت بمكة في عمر – رضي الله عنه - وأصحابه – رضي الله عنهم - .
وحروفها: خمسة آلاف ومائتان وأربعة وتسعون حرفا( 5294).
وكلماتها: ألف ومائتان وإحدى وثلاثون.(1231)
وآياتها: خمس أو ست أو سبع وسبعون آية([61])
ترتيب السورة فى المصحف وفي النزول:
ولهذه السورة – شأن جميع السور – ترتيبان:
الأول: فى المصحف الشريف.
والثانى: ترتيبها فى النزول.
أما بالنسبة لترتيبها فى المصحف الشريف: فهى – كما هو معروف – السورة الثامنة... حيث قد سبقتها سور: الفاتحة، البقرة، آل عمران، النساء، المائدة، الأنعام، الأعراف.
وأما بالنسبة لترتيبها فى النزول: فقد تعددت فيها الأقوال.
فمن قائل: أنها نزلت بعد آل عمران، وقبل الأحزاب.. وقد نسب هذا القول إلى عكرمة والحسن بن أبى الحسن، كما فى كتاب "دلائل النبوة للبيهقى". ومن قائل: أنها نزلت بعد المائدة، وقبل التوبة، كما في كتاب "فضائل القرآن" لأبى عبيد. إلى غير ذلك من الأقوال.
سبب نزول السورة:
قال فى القرطبى([62] ): روى عبادة بن الصامت قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم – والمسلمون إلى بدر، فلقوا العدو. فلما هزمهم الله..!! اتبعتهم طائفة من المسلمين يقتلونهم. وأحدقت طائفة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - . واستولت طائفة على العسكر والنهب.
فلما نفى الله العدو ورجع الذين طلبوهم، قالوا: لنا النفل، نحن الذين طلبنا العدو، وبنا نفاهم الله، وهزمهم.
وقال الذين أحدقوا برسول الله -صلى الله عليه وسلم -: ما أنتم بأحق منا بل هو لنا، نحن أحدقنا برسول الله -صلى الله عليه وسلم -، لئلا ينال العدو منا غِرَّة. وقال الذين استولوا على العسكر والنهب: ما أنتم بأحق منا، هو لنا، نحن حويناه، واستولينا عليه.
فأنزل الله عز وجل:( يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين ).
فقسمه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينهم.
فضل السورة:
يشير إلى هذا الفضل ما كان يفعله - صلى الله عليه وسلم -.
حيث أخرج الطبرانى أنه كان يقرأ بها فى صلاة المغرب، وذلك: بسند صحيح عن أبى أيوب.
وأخرج – أيضاً – عن زيد بن ثابت عن النبى - صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقرأ فى الركعتين من المغرب بسورة الأنفال "( [63] ).
التناسب بین بدایة السورة وخاتمتها:
یقول الإمام الزركشي :
إن ترتیب السور توقیفي، وإنك إذا اعتبرت افتتاح كل سورة وجدته في غایة المناسبة لما ختم به السورة قبلها [64] ) " [65])
وعندما نتأمل سورة الأنفال وننعم النظر في بدایتها ونهایتها، نجد أنها تبدأ بإصلاح ذات البین( وَأَصْلحِوا ذَاتَ بینكِم )( الأنفال: 1) وذات البین أي ما بین القوم أو الناس من قرابة وصلة ومودة، أو عدواة وبغضاء.
وختام السورة هو): " وَأُولوُ الْأَرَحامِ بْعضُهمْ أولىَ بَبْعضٍ في كِتاَبِ اللهَّ )(الأنفال: ٧٥ (، ولا یخفى ما بین أولي الأرحام من قرابة وصلة فالخاتمة جیدة متسقة مع سیاق الآیات، كما هو الشأن في كل القرآن الكریم. وفي أوائل السورة نجد الله – عز وجل – یمدح المؤمنین الصادقین الذین أقاموا الصلاة، وینفقون مما رزقهم الله، والذین ازدادوا إیمانا بتلاوة آیاته البینات، بقوله :( أولئك هم المؤمنون حقا )( الأنفال: 4)
وفي ختام السورة نجده سبحانه وتعالى یقول عن المؤمنین الذین صدقوا إیمانهم ، فهاجروا في سبیله، وفارقوا الأهل وتركوا الدنیا لأجل الدین، یقول عنهم: " ( أولئك هم المؤمنون حقا )( الأنفال: 74)
فخواتیم السور هي مثل فواتحها في الحُسن " لأنها آخر ما یقرع الأسماع، فلهذا جاءت متضمنة للمعاني البدیعة، مع إیذان السامع بانتهاء الكلام حتى یرتفع معه تشوُّق النفس إلى ما یذكر بعد ( [66] )
التناسب الترتيبي بين سورة الأنفال وسورة( التوبة ) التي تليها:
التناسب الترتیبي بين سورة الأنفال وسورة التوبة شديد الوضوح، فقد تحدثت سورة الأنفال عن غزوة بدر، وهي فاتحة الغزوات، وتناولتْ سورة التوبة غزوةَ تبوكَ، وهي خاتمة الغزوات، وكما جاء ذكر المنافقين ودورهم في الإرجاف في قوله تعالى:( إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) [الأنفال: 49]، فإن سورة التوبة فضحت المنافقين وكشفت أسرارهم؛ ولهذا سمِّيت "الفاضحة"( [67] )، ومن هنا، فإن هناك وجهَ مناسبةٍ ورابطة عضوية وموضوعية بين السورتين الكريمتين، فموضوعهما واحد، وهو القتال، إلا أن سورة الأنفال تُمَثِّل أول مراحل تشريع القتال، وسورة التوبة تُمَثِّل آخر مرحلة من مراحل تشريع القتال، فقد جاء فيها آية السيف، وهي قوله تعالى: ( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) [التوبة: 5].. قال القرطبي: "نسخت هذه الآية كل آية في القرآن فيها ذِكْرُ الإعراض والصبر على أذى الأعداء( [68] )....
والحق أن وجه الصلة والترابط بین سورتي الأنفال والتوبة جعل بعض الصحابة یظنون أنهما سورة واحدة، فقد تناولتا الجهاد والغزوات والمنافقین، لذلك یقول السید محمد رشید رضا:( فهي كالمتممة لسورة الأنفال في معظم ما فیها من أصول الدین وفروعه والسنن الإلهیة والتشریع)( [69])
صلة السورة بما قبلها:
هناك مناسبتان عامة وخاصة. أ- فمناسبتها العامة لسورة الأعراف: أن سورة الأعراف: كانت لبيان أحوال أشهر الرسل الكرام مع أقوامهم.أما هذه: فجاءت لبيان حال خاتم المرسلين - صلى الله عليه وسلم - مع قومه.( [70] )
ب- أما مناسبتها الخاصة: فتتمثل فيما يلي :
ورد فى الأعراف قوله تعالى[ وأمر بالعرف ] [الآية 199]. أى: المعروف ، وفى سورة الأنفال : كثير من صور هذا المعروف المأمور به، من مثل قوله تعالى(فاتقوا الله)(وأصلحوا ذات بينكم)(وأطيعوا الله ورسوله).. إلخ [الآية 1].
فصَّل فى الأعراف سبحانه وتعالى فيما ذكر من القصص عن آل فرعون وأضرابهم وما حل بهم !! وأجمل فى الأنفال ذلك: بقوله تعالى : { كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوى شديد العقاب } [الأنفال 52].
3- أشار فى الأعراف إلى سوء زعم الكفرة فى القرآن بقوله تعالى: [ وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها ] [الأعراف 203]. فقد صرح سبحانه وتعالى فى الأنفال: بقوله{ وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين } [ الأنفال: 31].
4- أمر فى الأعراف بالاستماع والإنصات إلى القرآن الكريم إذا قرئ فى قوله: [ وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا...] !!.
ونهى فى الأنفال: عن التولى عنه حال الاستماع إليه فى قوله تعالى: ( يا آيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون ) [الأنفال 20].. إلى غير ذلك من المناسبات( [71] ) .
هدف السورة:
1- إبراز جانب العقيدة، وهيمنتها على كل أمور المسلمين: وفي تنظيم العلاقات فى المجتمع المسلم، وبينه وبين غيره من المجتمعات الأخرى: تبرز العقيدة قاعدة للتجمُّع والتمييز، وتجعل القيم العقدية هي التي تُقَدِّم في الصف أو تُؤَخِّر:( إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا وإن استنصروكم فى الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير * والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة فى الأرض وفساد كبير * والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة ورزق كريم * والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض فى كتاب الله إن الله بكل شيء عليم) [الآيات 72-75].
2- إبراز خط الجهاد: وبيان قيمته الإيمانية والحركية،
فى مثل قوله تعالى{ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار..}[الآية 15].
وفى مثل قوله تعالى{ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيــل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم }[الآية 60]. وفى مثل قوله تعالى{ يا أيها النبى حرض المؤمنين على القتال... } [الآية 65].
3- تربية الجماعة المسلمة وإعدادها لقيادة البشرية.
فى مثل قوله تعالى { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون * الذين يقيمون الصلاة ومما رزقنانهم ينفقون * أولئك هم المؤمنون حقاً لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم } [الآيات 2-4].
تقسيم آيات السورة موضوعيا:
تتكون السورة من قسمين اثنين:
القسم الأول: يتكون من مقدمة، وفقرتين.
والقسم الثانى: يتكون من فقرتين، وخاتمة.
ففى القسم الأول:
تأتى مقدمة السورة.. وهى عبارة عن أربع آيات. من الآية الأولى، حتى نهاية الآية(4). وفيها الحديث عن: أن المرجع فى الغنائم وتقسيمها هو الله سبحانه، وتحديد صفات المؤمنين الحقيقيين.
ثم الفقرة الأولى: وهى عبارة عن(10) آيات. من الآية(5) حتى نهاية الآية(14).
وفيها: يعرض المولى سبحانه وتعالى صفحة من غزوة بدر.
ثم الفقرة الثانية: وهى عبارة عن(15) آية. من الآية(15) حتى نهاية الآية(29).
وفيها: نداءات لأهل الإيمان(يا آيها الذين آمنوا) يضع المولى من خلالها دستور الحركة الجهادية المفروضة على المسلمين، ودستور النجاح فى هذه المعركة. وفيها كذلك: تحديد الأساسيات التى تحتاجها إقامة فريضة الجهاد، من الثبات فى المعركة، والطاعة، والاستجابة المباشرة للأمر، والتقوى، والحذر من الخيانة.
وفى القسم الثانى:
تأتى الفقرة الأولى.. وهى عبارة عن(15) آية. من الآية(30) حتى نهاية الآية(44).
وفيها الحديث عن: موضوع الصراع مع الكفر وأهله، والقتال وضرورته، وأسبابه، ومبرراته، وآثاره، وفضل الله على المؤمنين فيه.
ثم الفقرة الثانية.. وهى عبارة عن(27) آية. من الآية(45) حتى نهاية الآية(71). وفيها: الحديث عن القتال وآثاره، ومستلزماته، وبيان الأحوال التى يمكن أن تمر على الأمة المسلمة.
وهى تحتوي على أربع نداءات بصيغة( يا آيها الذين آمنوا ) وثلاثة نداءات بصيغة( يا أيها النبي )
فهي إذا: فقرة تتوجه بالنداء إلى الجند، وإلى القيادة، ليعرف كل منهم واجبه فى تحقيق فريضة القتال.
وأخيراً: تكون الخاتمة..
وهى عبارة: عن أربع آيات، من الآية(72) حتى نهاية السورة بالآية(75). وفيها: الوصف الكامل لحقيقة الإيمان.
أبرز موضوعات السورة : فقد اشتملت على الأمور التالية:
1- التعرض لأحكام الغنائم.. ببيان تحليلها للنبي- صلى الله عليه وسلم- بعد أن كانت محرمة على من كان قبله، بقوله - صلى الله عليه وسلم-( أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلى: نصرت بالرعب مسيرة شهر. وجعلت لى الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتى أدركته الصلاة، فليصل. وأحلت لى الغنائم، ولم تحل لأحد قبلى. وأعطيت الشفاعة. وكان النبى يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة ) ( [72] ) وذلك فى قوله تعالى: [ يسألونك عن الأنفال.. [الآية 1].
ثم قوله تعالى: [ واعلموا أنما غنمتم من شئ فإن لله خمسه وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله...] [الآية 41].
2- بيان صفات المؤمنين: وذلك فى قوله تعالى{ إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون * الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * أولئك هم المؤمنون حقاً } [الآيات 2-4].
3 - الحديث المستفيض عن غزوة بدر. يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان، مؤكدة فيه أن: هذه الغزوة بملابساتها، وبما ترتب عليها في تاريخ الحركة الإسلامية، بل فى التاريخ البشرى كله: تقوم معلماً ضخماً فى طريق تلك الحركة، وفى طريق هذا التاريخ ([73]).
4- التهوين من شأن الكافرين، وقوتهم. فى مثل قوله تعالى{ إذ يريكهم الله فى منامك قليلاً ولو أراكهم كثيراً لفشلتم ولتنازعتم فى الأمر ولكن الله سلم }[الآية 43]. وفى مثله قوله تعالى [ ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون ] [الآية 59]. وفى مثل قوله تعالى: { ذلكم وأن الله مؤهن كيد الكافرين }[الآية 18].
5- الأمر بامتلاك القوة التى تصل حد الإرهاب لأعداء الله تعالى وأعداء المسلمين. فى مثل قوله تعالى{ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم }[الآية 60].
6- بيان حكم الأسرى: فى مثل قوله تعالى{ ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض... }[الآيات 67-70].
تخصيص الأقارب وذوى الأرحام بالميراث.فى قوله تعالى: [ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض... ] إلى آخر السورة.
بعض الدروس المستفادة :
1- أن النصر من عند الله تعالى وحده. قال تعالى{ وما النصر إلا من عند الله }[الآية 102].
2- عدم إقرار المنكر بين أفراد المجتمع، حتى لا يعمهم العذاب، قال تعالى{ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة }[الآية 25].
3- التنازع، والخلاف، وعدم الصبر : طريق الفشل والضعف. قال تعالى{ ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين }[الآية 46].
4- السلام مع العدو، لا يكون سلاماً حقيقياً، ولا جائزاً شرعاً، إلا لمن امتلك القوة، وأجاد استعمالها، وأرهب الأعداء بها.
إذ أن الله تعالى لم يقل{ وإن جنحوا للسلم فاجنح لها } [الآية 61].
إلا بعد أن أمرنا بامتلاك كل أنواع القوة، وفى أفضل صورها وأوضاعها فى السلم والحرب.. في قوله { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم }[الآية 60].
5- أن إنفاق الأموال من أعداء الإسلام: لا يهدفون من ورائه إلا لتدمير الإسلام وإبادة أهله.. ظهر هذا الهدف بوضوح، أو خفي إلا على الواعين الفاهمين الراصدين حركة أعداء الإسلام وأهله.
يستوي فى ذلك: سيول القروض الربوية، أو المنح الإذلالية.
وكذلك: الهبات السخية لتحديد نسل المسلمين. أو الإنفاقات الهائلة لاستمرار التفوق عليهم في جميع ميادين الحرب والسلم. .
والدليل على ذلك: في قوله تعالى{ إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون }[الآية 36].
بين يدي السورة ، أغراضها ومقاصدها:
سورة الأنفال هي السورة الثامنة في ترتيب المصحف، وعدد آياتها خمس وسبعون آية ، وسميت سورة الأنفال بهذا الاسم لحديثها عن الأنفال، أي: الغنائم، في أكثر من موضع. وقد أطلق عليها ابن عباس – رضي الله عنهما -: سورة بدر( [74] )، وهي مدنية... وقد تضمنت سورة( الأنفال( الحدیث عن یوم الفرقان یوم التقى الجمعان، یوم بدر، الیوم الذي عز فیه الإسلام وذل فیه الشرك والطغیان، إنه یوم انتصار الحق على الباطل، وتضمنت كثيرا من التشريعات في السلم والحرب، والإرشادات الإلهية التي يجب على المؤمنين اتباعها في قتالهم لأعداء الله، وبينت أحكام الغنائم، والأسرى، والجهاد، والعهود، وكیفیة التعامل مع أعداء الدّین من مشركین ومنافقین، كما اشتملت السورة على توجیهات وإرشادات إلهیة عظیمة للمسلمین، تجمع ما بین الأوامر والنواهي، وللتشریعات الحربیة مكانة واضحة في سورة ( الأنفال)، لأنها تتناول أحداثا جلیلة في تاریخ الأمة، وبخاصة القتال مع أعداء الدین الذي لم یتوقف بعد غزوة بدر.
كل ذلك بأرقى أسالیب التوجیه والتربیة التي ترتكز على العقیدة الإسلامیة السمحة،.كما تناولت السورة موضوعات أكثر تفصیلا على الوجه
التالي:
إعداد العدة قبل الخروج للقتال أمر واجب، وعندما یلتقي الجمعان، ينبغي على كل مسلم ألا یفّر من المعركة إلا لتنفیذ خطة عسكریة..
تأمر السورة المسلمين إلى الإتحاد واجتماع الكلمة، والنهي عن التنازع، وترشدهم إلى أبرز عوامل النصر، وأن التنازع هو أول عوامل الهزیمة.
تناولت السورة تذكير النبي – صلى الله عليه وسلم – بنعمة الله عليه، إذ أنجاه من مكر المشركين به بمكة، وخلصه من عنادهم، وأن مقامه بمكة كان أمانا لأهلها، فلما فارقهم حق عليهم عذاب الدنيا بما اقترفوا من الصد عن المسجد الحرام.
كما تعرضت لدعوة المشركين للإنتهاء من مناوأة الإسلام وإيذاء المسلمين بالقتال، والتحذير من المنافقين، وضرب المثل بالأمم الماضية التي حاربت رسل الله ، ولم يشكروا نعمة الله.
كما تناولت السورة أحكام المسلمین الذین تخلفوا في مكة بعد الهجرة، وأحكام العهد بین المسلمين والكفار.
6 - وقد ختمت السورة الكريمة ببيان الولاية الكاملة بين المؤمنين، وإنه مهما تناءت ديارهم، واختلفت أجناسهم فهم أمة واحدة، كما أن ملة الكفر أيضا واحدة، وبين الكافرين ولاية قائمة على أسس البغي والضلال، وأنه لا ولاية بين المؤمنين والكافرين.( [75] )
7- وكانت قد افتتحت السورة بمادة السؤال، وهي ثاني سورتين ابتدأتا بذلك، والسورة الأخرى هي سورة المعارج، وبالحديث عن الغنائم التي سيغنمها المسلمون في غزوة بدر، قبل الحدبث عن الغزوة، ليشعر المخاطبون أن النصر سيكون للمسلمين، وهذا اللون من الإفتتاح هو ما يعبر عنه البلغاء بـ: براعة الإستهلال([76] ). وبين أن قسمة الغنائم راجع لله والرسول، وأن على المؤمنين أن يذعنوا لما يفعله فيها رسولهم – صلى الله عليه وسلم -، ثم وصفت المؤمنين الصادقين أكمل وصف، وبشرتهم بأعلى الدرجات، وأسمى المنازل.
8- ثم تحدثت السورة عن حال بعض الذين اشتركوا في غزوة بدر، وكيف أنهم كرهوا القتال في أول الأمر، لأنهم لم يخرجوا من أجله، وإنما خرجوا من أجل الحصول على( العير ) التجارة التي قدم بها المشركون من قريش من بلاد الشام، لكن الله أراد أن يعلمهم أن الخير فيما قدره، لافيما يقدرون.
9- ثم تسوق السورة بعد ذلك ألوانا من البشارات التي تشعر المؤمنين بأن الله سبحانه قد استجاب لدعائهم، وأنه سيجعل النصر في هذه المعركة حليفهم. ومن مظاهر هذه البشارات أنه سبحانه أمدهم بألف من الملائكة مردفين، وأمدهم بالنعاس ليكون مصدر طمأنينة لقلوبهم، وأمدهم بالأمطار ليتطهروا بمائها، ولتثبت الأرض من تحت أقدامهم، وأمدهم بعونه ليقبلوا على قتال أعدائهم بقلوب ملؤها الشجاعة والإقدام
10- ثم وجهت السورة الكريمة نداءات إلى المؤمنين، أرشدتهم في كل واحد منها إلى ما فيه خيرهم وفلاحهم.
وقد حذرتهم في النداء الأول: من الفرار من المعركة والوعيد للمنهزمين أمام الأعداء بالعذاب الشديد(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ) ( الأنفال: 15). وأمرتهم بالثبات في وجوه أعدائهم، وهددت من يوليهم دبره بسوء المصير.
وأمرتهم في الثاني: ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ )( الأنفال: 20). بطاعة الله ورسوله، وحذرتهم من المعصية.
وأمرتهم في الثالث:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ )(الأنفال: 24). بالمسارعة إلى أداء ما كلفوا به من تكاليف فيها سعادتهم وفلاحهم. وخوفتهم من ارتكاب ذنوب لا يحيق شرها بالذين ارتكبوها وحدهم، وإنما يعمهم وغيرهم ممن رأوا المنكر فلم يعملوا على تغييره.
ونهتهم في الرابع:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)( الأنفال: 27). عن إفشاء سر الأمة للأعداء وأن ذلك خيانة الله ورسوله، ونهتهم عن ترك فرائض الله، وهجر سنة رسوله، وحذرتهم من أن تشغلهم أموالهم وأولادهم عن طاعة الله .
ثم بشرتهم في النداء الخامس:( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ )( الأنفال: 64) بأنهم إذا ما اتقوا الله حق تقاته، فإنه سبحانه سيمنحهم الهداية والنصر، والنجاة من كل مكروه.
ثم يأتي بعد ذلك النداء السادس:( . يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ)(الأنفال: 65) فيأمر الله النبي بأن يبالغ في حث المؤمنين على القتال بصبر وجلد، من أجل إحقاق الحق،
11- ثم أخذت السورة بعد ذلك في تذكير المؤمنين بنعم الله عليهم ليزدادوا له شكرا، وفي تصوير ما عليه الكافرون من جهل وعناد وخسران. فحكت ما قالوه في شأن القرآن من كذب ومكابرة، وحكت استهزاءهم بالدين، وإمعانهم في الجحود، واستعجالهم للعذاب، وحكت ما كانوا يقومون به من تصفيق ولغو وشغب عند قراءة القرآن، ليشغلوا الناس عن سماعه. وحكت مسارعتهم إلى إنفاق أموالهم في وجوه الشر، التي ستكون عاقبتها الخسران وسوء المصير.
12- وبعد أن حكت السورة كل هذه الرذائل عن الكافرين، أمرت الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغهم أنهم إذا ما انتهوا عن كفرهم وعنادهم، فإن الله سيغفر لهم ما سلف من ذنوبهم.
13- ثم عادت السورة للحديث عن الغنائم، ففصلت ما أجملته في مطلعها، وذكَّرت المؤمنين بنعم أخرى منحهم الله إياها في بدر، بأن هيأ الله لهم المكان المناسب للقتال، وجعل اللقاء الحاسم بين الفريقين دون موعد سابق، وقلل كل فريق في عيني الأخر، ليقضي الله سبحانه أمرا كان مفعولا.
14- ثم انتقلت السورة إلى الحديث عن أسرى بدر من المشركين، فبينت ما كان على الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين في شأنهم، وعاتبهم لإيثاره أخذ الفداء على ما عند الله من ثواب عظيم، وأباحت لهم أن يأكلوا مما غنموه، وأمرت النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو الأسرى إلى الدين الحق، وأن يخبرهم بأنهم متى آمنوا ظفروا بخيري الدنيا والآخرة.
15- ثم تحدثت السورة في ختامها عن أصناف المؤمنين، فمدحت المهاجرين السابقين، ومدحت الأنصار الذين آووا ونصروا، ثم بينت ما يجب عليهم نحو غيرهم من المؤمنين الذين لم يهاجروا، بل ظلوا في أرض الشرك، ثم مدحت المؤمنين الذين تأخرت هجرتهم عن صلح الحديبية، وإن كانوا أقل في الدرجات من المهاجرين السابقين.
ومن خلال هذا العرض للسورة الكريمة ، نجد أنها قد اهتمت بأمور، من أبرزها ما يلي:
أ- تربية المؤمنين على العقيدة السليمة، وعلى الطاعة لله ورسوله، وإصلاح ذات البين، والثبات في وجه أعدائهم، والإكثار من التقرب إلى الله، والمداومة على مراقبته ، وخشيته، وشكره، فهو الذي هداهم للإيمان بعد أن كانوا ضالين، وهو الذي آواهم وأيدهم بنصره بعد أن كانوا مستضعفين.
ب - تذكبر المؤمنين بما عليه أعداؤهم من جحود وعناد، ومكر بالرسول، واستهزاء بالدين والقرآن، وعداوة شديدة للحق وأهله، وقد تكرر هذا التذكير كثيرا في السورة، لكي يستمر المؤمنون على حسن استعدادهم، ولكي لا تنسيهم نشوة النصر في بدر ما يضمره لهم أعداؤهم من كراهية وبغضاء، وما يبيتونه لهم من سوء وشر. وترشد المؤمنين إلى المنهاج الذي يجب أن يسيروا عليه في حالتي السلم والحرب، ليحالفهم النصر، ويصاحبهم التوفيق.
ت – بينت أن جماعة المؤمنين بعضهم أولياء بعض، وما يجب أن ينتج عنه - فيما بينهم - من ولاية ونصرة.([77] )
تفسير السورة
قال الله تعالى:
( يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ(1). إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إيماناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(2).الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ( 3).أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ( 4). )
الشرح والتفسير
تفسير البسملة: قوله:( بسم الله الرحمن الرحيم ) :
البسملة: كلمة منحوتة من:( بسم الله الرحمن الرحيم )، كالحوقلة المنحوتة من:(لا حول ولا قوة إلا بالله).والدَّمعزة من( أدام الله عزك )
وقد أجمع المسلمون على أن البسملة جزء آية في سورة النمل في قوله تعالى:( إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ( النمل: 30 )، وأجمعوا أيضا على أنها ليست آية من أول سورة التوبة، واختلفوا فيما وراء ذلك على أقوال:
أولا: مذهب المالكية:
لم يعدوا البسملة في أوائل السور من القرآن أصلا، بل زعموا أنها كتبت في المصحف في أوائل السور لمجرد التبرك بها في ابتداء كل سورة، وللفصل بين السور، لا على أنها من القرآن. فالبسملة ليست من القرآن في غير سورة النمل( [78] ).
ثانيا: مذهب الحنفية: لم ينقل عن أبي حنيفة شيء في كون البسملة آية من القرآن أم لا، وإنما نقل عنه أنه يُسِرُّ بها في الصلاة، وسئل محمد بن الحسن – أحد تلاميذ أبي حنيفة - عنها فقال: ما بين الدفتين كلام الله تعالى( [79]). والمختار عند علماء الحنفية أنها آية تامة مستقلة أنزلت للفصل بين السور، فهي من القرآن، وليست من الفاتحة ولا من غيرها( [80] ) أي أنها آية مستقلة قائمة برأسها حيث وقعت في أوائل السور، لا هي جزء من الفاتحة ولا من غيرها من سور القرآن الكريم. وإنما الغاية من تنزيله تعالى لها، ومن كتابتها بين دفتي المصحف في أوائل سوره هي: للفصل بين السور، ومما ينبغي التنبيه إليه هنا: أن هذا الخلاف كله هو في غير ما في وسط سورة النمل من قوله تعالى ( إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم )(النمل: ٣٠ )، وأما هذه فجزء آية باتفاق الكل.
ثالثا: مذهب الحنابلة:
قال ابن قدامة: واختلفت الرواية عن أحمد هل هي آية من الفاتحة يجب قراءتها في الصلاة أو لا ؟ فعنه أنها من الفاتحة وذهب إليه أبو عبد الله ابن بطة وأبو حفص، وروي عن أحمد أنها ليست من الفاتحة ولا آية من غيرها، ولا يجب قراءتها في الصلاة. قال ابن قدامة:واختلف عن أحمد فيها – أي في هذه الرواية – فقيل عنه هي آية مفردة كانت تنـزل بين سورتين فصلا بين السور، وعنه هي آية من سورة النمل([81]). وليست من غيرها.
وقال ابن تيمية معلقا على هذه الرواية عن أحمد:" ويحكى هذا رواية عن أحمد ولا يصح عنه وإن كان قولا في مذهبه"( [82] ). وقد نصر ابن تيمية القول بأنها من القرآن حيث كتبت من أول كل سورة، وليست من السورة، وقال: وهذا أعدل الأقوال( [83] ).
رابعا: مذهب الشافعية: ( [84] )
البسملة آية كاملة في أول الفاتحة بلا خلاف في المذهب الشافعي، أما في باقي السور عدا براءة ففي المذهب ثلاثة أقوال:
الأول: أنها آية كاملة في أول كل سورة.
الثاني:أنها بعض آية في أول كل سورة.
الثالث: أنها ليست بقرآن في أوائل السور عدا الفاتحة.
وقد ذكر النووي أن الراجح في المذهب هو الأول( [85] ).
فالشافعية: يعدونها آية من الفاتحة، ومن كل سورة ذُكرت في أولها، وهو الصحيح الذي ينبغي أن يكون عليه المعول والاعتماد، بدليل كتابتها في المصحف الإمام في جميع تلك المواقع من أوائل السور، مع إجماع جميع المسلمين سلفاً وخلفاً على تجريد المصحف من كل ما ليس قرآناً. حتى لقد جردوه من الاستعاذة مع طلبها عند قراءة القرآن، ووقوع الأمر بذلك صراحة في كتاب الله، حيث يقول سبحانه:( فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ) ( النحل: 98 ).كما جردوه من التأمين، أعني قوله( آمين ) في آخر الفاتحة، مع وقوع الطلب له صراحة كذلك عند الفراغ من قراءة الفاتحة، في حديثه- صلى الله عليه وسلم - عند البخاري وغيره.( [86] ) بل لقد جرد الصحابة المصحف من بعض ما هو مكتوب فيه الآن من أسماء السور، بل من النقط والشكل، وعلامات الوقف والابتداء، وترقيم الآيات وغير ذلك. وما كتب هذا كله إلا في مرحلة متأخرة بعد عصر الصحابة، لشدة الحاجة إليه.
وهناك أدلة أخرى متكاثرة من سنته- صلى الله عليه وسلم - ، على صحة ما ذهب إليه أصحاب هذا القول السويّ الذي لا عدول عنه لسليم الاعتقاد إن شاء الله.
فأما من زعم أنها إنما كتبت في المصحف لمجرد التبرك، أو زعم أن كتابتها فيه لقصد الفصل بين السور، فلعمري لو كان قصد التبرك هو الباعث لهم على كتابتها، لكان ما سوى هذا القصد مما قد ذكرنا لك طرفا منه، وما هو أحرى من هذا القصد بدرجات أبعث لهم على كتابته. ولو كان قصد الفصل هو الباعث على الكتابة: ما كتبت في أول الفاتحة، إذ لا سورة قبلها حتى تفصل الفاتحة عنها. على أن استيفاء الأدلة في هذه المسألة وأمثالها، يطلب من المبسوطات من كتب التفسير، والفقه، والأصول، فليطلبها في مظانها هنالك من يشاء.
وهذه المذاهب تدور بين النفي والإثبات، فهناك من نفاها مطلقا كالمالكية ورواية عن أحمد، وهناك من أثبتها في كل المواضع، أو أثبتها في موضع دون آخر.
وقد استدل من أثبتها بأدلة منها:
1- أن الصحابة قد أثبتوها في المصاحف مع حرصهم الشديد على تجريد القرآن وعدم كتابة شيء معه( [87] ).
2- روى مسلم عن أنس- رضي الله عنه - أنه قال: بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما فقلنا ما أضحكك يا رسول الله ؟ قال:" أنزلت علي آنفا سورة " فقرأ:( بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ) "( [88] )
3 - سئل أنس كيف كانت قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال كانت مدّاً ، ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم ، يمد ببسم الله ، ويمد بالرحمن، ويمد بالرحيم( [89] )
4- عن ابن عباس قال كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفتتح صلاته ببسم الله الرحمن الرحيم( [90])
5-عن أبي هريرة - رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: إذا قرأتم الحمد لله، فاقرءوا بسم الله الرحمن الرحيم فإنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني وبسم الله الرحمن الرحيم أحد آياتها([91] ).
أما من نفاها فقد استدل بما يلي([92] ):
1- حصول الاختلاف فيها ولو كانت قرآنا لما اختلف فيها.
2- قوله تعالى في الحديث القدسي:" قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال الله تعالى حمدني عبدي،وإذا قال الرحمن الرحيم قال الله تعالى أثنى علي عبدي، وإذا قال مالك يوم الدين قال مجدني عبدي، وقال مرة فوض إلي عبدي، فإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل"( [93] ).
قال القرطبي بعد أن ذكر الحديث: "قسمت الصلاة" يريد الفاتحة وسماها صلاة، لأن الصلاة لا تصح إلا بها، فجعل الثلاث الآيات الأول لنفسه واختص بها تبارك اسمه، ولم يختلف المسلمون فيها، ثم الآية الرابعة جعلها بينه وبين عبده، لأنها تضمنت تذلل العبد وطلب الاستعانة منه وذلك يتضمن تعظيم الله تعالى، ثم ثلاث آيات تتمة سبع آيات، ومما يدل على أنها ثلاث قوله "هؤلاء لعبدي"، أخرجه مالك( [94] )، ولم يقل هاتان فهذا يدل على أن أنعمت عليهم آية، قال ابن بكير قال مالك: أنعمت عليهم آية ثم الآية السابعة إلى آخرها "([95]).
3- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - لأُبيّ:" كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة ؟ قال فقرأت الحمد لله رب العالمين حتى أتيت على آخرها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-:هي هذه السورة وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيت"( [96] ).
4- عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة "بالحمد لله رب العالمين" ([97] )
5- عن أنس قال صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم( [98] )
6- عن ابن عبد الله بن مغفل قال: سمعني أبي وأنا في الصلاة أقول بسم الله الرحمن الرحيم فقال لي: وقد صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ومع أبي بكر ومع عمر ومع عثمان فلم أسمع أحدا منهم يقولها فلا تقلها، إذا أنت صليت فقل الحمد لله رب العالمين"( [99] )
7- الاستدلال بعمل أهل المدينة، قال القرطبي: " ثم إن مذهبنا يترجح في ذلك بوجه عظيم وهو المعقول، وذلك أن مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة انقضت عليه العصور ومرت عليه الأزمنة والدهور من لدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى زمان مالك ولم يقرأ أحد فيه قط بسم الله الرحمن الرحيم اتباعا للسنة وهذا يرد أحاديثكم"([100] ) هذه هي أدلة الطرفين فيما ذهبوا إليه من الإثبات والنفي، وأقوى هذه الأدلة فيما أرى هو ما استدل به أصحاب القول الأول من كتابة الصحابة لها في المصاحف مع حرصهم الشديد على تجريد المصاحف، والأدلة الأخرى معظمها في مسألة قراءة البسملة في الصلاة،والذي أراه أن هناك انفصالا تاما بين ثبوت قرآنية البسملة وقراءتها في الصلاة، وذلك لأن القرآنية لا تثبت إلا بالتواتر أما قراءة شيء في الصلاة سواء أكان قرآنا أو غيره فلا يحتاج لأكثر من صحة النقل فيه، أي إن الظن يكفي فيه. نجد - مثلا -أن المسلمين اتفقوا على مشروعية قراءة التشهد في الصلاة – على خلاف بينهم في وجوبه – مع إجماعهم على أن التشهد ليس من القرآن، وكذلك الحال في الاستعاذة، حيث ذهب الجمهور إلى سنيتها مع اتفاقهم على أنها ليست من القرآن.
وإذا غضضنا النظر عن كون معظم هذه الأدلة في قراءة البسملة في الصلاة، وأن هناك انفصالا بين قراءة شيء في الصلاة وثبوت قرآنيته، فإن هذه الأدلة أخبار آحاد لا ترقى إلى مستوى إثبات قرآنية شيء أو نفيها لأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر.
ومن جهة أخرى: فإننا نجد أن القراء اختلفوا في قرآنية البسملة في أوائل السور، فقراء مكة والكوفة على أنها قرآن، وقراء المدينة والشام والبصرة على أنها ليست من القرآن( [101] ). ومن المعلوم أن هذه القراءات متواترة، لذلك يمكن القول بأن البسملة من القرآن يقينا في قراءة متواترة وليست منه يقينا في قراءة أخرى متواترة أيضا.
ومن المعلوم أن التواتر قد يثبت عند قوم، ولا يثبت عند آخرين وخاصة المتقدمين منهم، فيحمل عليه اختلافهم في البسملة الذي سيزول عند اطلاعهم على تواترها في قراءة، وعدم تواترها في أخرى.
فإذا كان ذلك كذلك فلا يبعد أن يكون الإمام مالك لم تصله البسملة بطريق متواتر والذي ثبت عنده متواترا عدم قرآنيتها، وكذلك الحال بالنسبة للأئمة المتقدمين، من أثبتها منهم وَصَلته متواترة، ومن نفاها لم تصله كذلك.
وهذا الذي أشرت إليه هو ما فهمه ابن الجزري من صنيع الشافعي حيث يقول: "ومما يحقق لك أن قراءة أهل كل بلد متواترة بالنسبة إليهم، أن الشافعي - رضي الله عنه - جعل البسملة من القرآن مع أن روايته عن شيخه مالك تقتضي عدم كونها من القرآن، لأنه من أهل مكة وهم يثبتون البسملة بين السورتين، ويعدونها من أول الفاتحة آية، وهو قرأ قراءة ابن كثير على إسماعيل القسط عن ابن كثير، فلم يعتمد في روايته عن مالك في عدم البسملة لأنها آحاد، واعتمد قراءة ابن كثير لأنها متواترة "( [102] ).
وقد بين ابن حزم - رحمه الله تعالى - مسألة قراءة البسملة في الصلاة أحسن بيان، حيث يقول:"مسألة: ومن كان يقرأ برواية من عد من القراء بسم الله الرحمن الرحيم آية من القرآن لم تجزه الصلاة إلا بالبسملة وهم:عاصم بن أبي النجود، وحمزة، والكسائي وعبد الله بن كثير، وغيرهم من الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم - ومن كان يقرأ برواية من لا يعدها آية من أم القرآن، فهو مخير بين أن يبسمل وبين أن لا يبسمل، وهم: ابن عامر، وأبو عمرو، ويعقوب ، وفي بعض الروايات عن نافع. وقال مالك: لا يبسمل المصلي إلا في صلاة التراويح في أول ليلة من الشهر، وقال الشافعي:لا تجزيء صلاة إلا ببسم الله الرحمن الرحيم.
قال علي بن أحمد - يعني ابن حزم نفسه - وأكثروا من الاحتجاج بما لا يصح من الآثار مما لا حجة لأي الطائفتين فيه. مثل الرواية عن أنس كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر وعثمان يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين، لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم لا قبلها ولا بعدها. وعن أبي هريرة مثل هذا.
قال علي بن أحمد : وهذا كله لا حجة فيه لأنه ليس في شيء من هذه الأخبار نهي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -عن قراءة بسم الله الرحمن الرحيم، وإنما فيها أنه -عليه السلام - كان لا يقرؤها، وقد عارضت هذه الأخبار أخبار أخر، منها: ما روينا من طريق أحمد بن حنبل حدثنا وكيع، ثنا شعبة عن قتادة عن أنس قال: صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم. وروينا أيضا: " فلم يجهروا ببسم الله الرحمن الرحيم" فهذا يوجب أنهم كانوا يقرءونها ويسرون بها، وهذا أيضا لا إيجاب فيه لقراءتها، وكذلك سائر الأخبار.
قال علي بن أحمد : والحق من هذا أن النص قد صح بوجوب قراءة أم القرآن فرضا، ولا يختلف اثنان من أهل الإسلام في أن هذه القراءات حق كلها مقطوع به، مبلغة كلها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن جبريل - عليه السلام - عن الله -عز وجل - فقد وجب - إذ كلها حق - أن يفعل الإنسان في قراءته أي ذلك شاء، وصارت بسم الله الرحمن الرحيم في قراءة صحيحة آية من أم القرآن، وفي قراءة صحيحة ليست آية من أم القرآن، مثل لفظة "هو" في قوله تعالى في سورة الحديد "( هو الغني الحميد ) وكلفظة " من" في قوله تعالى( من تحتها الأنهار ) في سورة براءة على رأس المائة آية، هما من السورتين في قراءة من قرأ بهما، وليستا من السورتين في قراءة من لم يقرأ بهما، ومثل هذا في القرآن وارد في ثمانية مواضع ذكرناها في كتاب القراءات، وآيات كثيرة، وسائر ذلك من الحروف يطول ذكرها ". ثم قال: والقرآن أنزل على سبعة أحرف كلها حق وهذا كله حق، وهذا كله من تلك الأحرف بصحة الإجماع المتيقن على ذلك ، وبالله تعالى التوفيق"( [103] ).
والباء هنا: للاستعانة، أي:أنني أشرع في عملي مستمداً القوة والتأييد من مصدر جميع القوى، ومدبر كل الأمور، فهذه البداءة تشد من عزم صاحبها، لذا طلب الشارع البدء بها في كل أمر خطير ذي بال.
لم قال باسم الله، ولم يقل بالله..؟
والجواب : إن الغرض من ذكر الاسم، هو: الرجوع بالذهن إلى ما وقر في نفوس السامعين من تمجيد، واحترام، وقوة، ورهبةٍ لصاحب هذا الاسم،وكأن لفظ الاسم الغرض منه: تحضير المسمى في نفس السامع، بكل ما يتصل به من معاني التبجيل والتعظيم.
ولفظ الجلالة ( الله ): اسم للذات الأقدس، الجامع لكل صفات الكمال، فلا غرو أن اختير من بين أسمائه الحسنى للبدء به ، استمدادا للقوة والتأييد.
واختيار اسمي:( الرحمن الرحيم )بعده، لأن المستعين يطلب العون من القوي المتين استرحاما لا استحقاقا. أي: كأنه يقول: إني أطلب العون وأستمد القوة من باب الاسترحام ، من الرحمن الرحيم ، الذي لا يضن على من استرحمه برحمته.
وهاتان الصيغتان :( الرحمن الرحيم ): على وزن( فعلان وفعيل )، من صيغ الصفة المشبهة .وصيغة( فعلان... ): تدل على الصفات المتجددة، نحو:( عطشان، غضبان ) فإن العطش في عطشان ليس صفة ثابتة، بل يزول ويتحول، وكذلك الغضب في غضبان .بخلاف ( فعيل..): فإنه يدل على الثبوت وذلك نحو: ( كريم ، طويل ) ، فإن هذه صفات ثابتة .
فصيغة فعلان تفيد الحدوث والتجدد، وصيغة( فعيل ) تفيد الثبوت ، فجمع الله سبحانه لذاته الوصفيين .. إذ لو أقتصر على( رحمن ) : لظن ظان أن هذه صفة طارئة قد تزول كعطشان، وغضبان، ولو اقتصر على( رحيم ): لظن ظان أن هذه صفة ثابتة، ولكن ليس معناها استمرار الرحمة وتجددها، إذ قد تمر على الكريم أوقات لا يكرم فيها، وقد تمر على الرحيم أوقات كذلك، والله سبحانه متصف بأوصاف الكمال، فجمع بينهما حتى يعلم العبد أن صفته الثابتة هي الرحمة ، وأن رحمته مستمرة متجددة لا تنقطع.
سبب النزول:
قال ابن كثير في سبب نزولها - ما ملخصه -: روى الإمام أحمد قال: حدثنا معاوية عن عمر، وأخبرنا أبو اسحق الفزاري، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة، عن سليمان بن موسى، عن أبي سلام، عن أبي أمامة، عن عبادة بن الصامت، قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فشهدت معه بدرا، فالتقى الناس، فهزم الله العدو، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون، وأقبلت طائفة على العسكر يحوزونه ، ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لكي لايصيب العدو منه غرة، حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض، قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها وجمعناها، فليس لأحد فيها نصيب. وقال الذين خرجوا في طلب العدو : لستم بأحق بها منا، نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم، وقال الذين أحدقوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لستم بأحق بها منا، نحن أحدقنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - مخافة أن يصيب العدو منه غرة، فاشتغلنا به، فنزلت:( يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول ) فقسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المسلمين.([104]) ولا يطمئن القلب إلى هذه الرواية، إذ فيها عبد الرحمن بن الحارث، وقال فيه ابن حجر ما ذكرناه في الهامش، وهناك روايات يخلو سندها من كل مطعن، وأرجحها ما أورده الحاكم في مستدركه، عن ابن عباس قال:( لما كان يوم بدر، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – من صنع كذا وكذا فله كذا وكذا، فتسارع في ذلك شبان القوم، وبقي الشيوخ تحت الرايات، فلما كانت المغانم، جاءوا يطلبون الذي جعل لهم، فقال الشيوخ: لا تستأثروا علينا ، فإنا كنا ردءا لكم، لو انكشفتم لفئتُم إلينا، فتنازعوا، فأنزل الله تعالى:( يسألونك عن الأنفال.. إلى قوله: وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين )([105]) . ومن هذا السبب يتبين لنا أن نزاعا حدث بين الصحابة الذين اشتركوا في غزوة بدر، حول الغنائم التي ظفروا بها من هذه الغزوة، فأنزل الله تعالى في هذه الآيات، لبيان حكمه فيها. وليس من شك أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – قد أنهى النزاع حين قسم الغنائم بأسرع وقت، ورضي كل واحد بنصيبه، وخرج المسلمون من هذه المعركة إخوانا متحابين.
قوله تعالى:( يسألونك عن الأنفال..)( الانفال: 1): منسوخة بقوله تعالى: ( واعلموا أنما غنمتم من شئ … الآية ) ( الأنفال: 41) وقيل: لا نسخ([106]) ..
والضمير في قوله:( يسألونك ): يعود إلى بعض الصحابة الذين اشتركوا في غزوة بدر، وصح عود الضمير إليهم مع أنهم لم يسبق لهم ذكر، لأن السورة نزلت في هذه الغزوة، ولأن هؤلاء الذين اشتركوا فيها هم الذين يهمهم حكمها، ويعنيهم العلم بكيفية قسمتها.
وقوله في افتتاح السورة بـ ) یَسأَلوُنكَ عَنِ الْأَنفالِ ) ما یؤذن بأن المسلمین لم یعلموا ماذا یكون في شأن المسمى عندهم " الأنفال " وكان ذلك یوم بدر وأنهم حاوروا رسول الله- صلى الله علیه وسلم - في ذلك، فمنهم من یتكلم بصریح السؤال ومنهم من یخاصم، أو یجادل غیره بما یؤذن حاله بأنه یتطلب فهما في هذا الشأن. ومجيء الفعل بصیغة المضارع " یسألونك " دال على تكرر السؤال إما بإعادته المرة بعد الأخرى من سائلین متعددین، وإما بكثرة السائلین عن ذلك حین المحاورة في موقف واحد. ثم یأتي قوله تعالى:) قلِ الْأَنفاَلُ للِهَّ والرَّسُولِ ) بمثابة الإجابة الشافیة الكافیة عن سؤالهم. والملحوظ هنا وضع للمظهر موضع المضمر، إذ مقتضى الظاهر مثلاً – لو كان في غیر القرآن الكریم –أن یقُال: یسألونك عن الأنفال قل هي لله ورسوله، فیضع الضمیر موضع كلمة الأنفال، ولكن التعبیر جاء على خلاف مقتضى الظاهر، ولعل في ذلك – والله أعلم – إشارة إلى أهمیة هذا الأمر لدى المسلمین، علاوة على ما فیه من لفت للذهن وشحذ للانتباه حتى تعي القلوب وتهدأ النفوس، فلا یكون في القلب بعد ذلك شيء من شك أو ریب في مسألة الأنفال.
وقد جرت العادة في القرآن: أن الله إذا قال لنبیه- صلىّ الله علیه وسلمّ "- یسألونك " قال له " قل " بغیر فاء ، إلا في موضع واحد في سورة طه ورد فیه بالفاء، وهو قوله تعالى: " وَیْسأَلوُنكَ عَنِ الْجَبالِ فقَلُ یْنسِفهُاَ ربِّي نْسفاً )(طه: ١٠٣)
فقد یسأل سائل ویقول: لم ذلك ؟ أجاب عن ذلك القرطبي – رحمه الله – حیث ورد في تفسیره ) وكل سؤال في القرآن " قل " بغیر الفاء إلا هنا في الجبال فقل، فتضمن الكلام معنى الشرط، وقد علم الله أنهم یسألونه عنها، فأجابهم قبل السؤال، تلك أسئلة تقدّمت سألوا عنها فأجابهم عقب السؤال. فلذلك كان بغیر فاء، من قبیل ): وَیْسأَلوُنكَ عَنِ الّروحِ قلُ الرُّوح )(الإسراء: ٨٥ )(یَسأَلوُنكَ عَنِ الْخَمرِ والْمْیسِرِ قلُ فیهاَ إثِم كَبیِر وَمَناِفع للناس )(البقرة: ٢١٩ )( وَیْسأَلوُنكَ ماذَا ینُفقوُنَ قلُ ما أْنفقَتمْ مِّنْ خَیر((البقرة:٢١٥ ) ) و یْسأَلوُنكَ عَنِ الأَهِلةَ قلُ هِي مَواِقیت((البقرة: ١٨٩) (یْسأَلوُنكَ عَنِ الأَنفاَلِ قلُ الأَنفاَل)"(الأنفال: ١(، أما في سورة طه فهو سؤال لم یسألوه عنه بعد فلیفهم ذلك "(( [107] )
ثم أخذت السورة بعد هذا الإفتتاح المشتمل على أروع استهلال وأبلغه، في الحديث عن الغزوة التي كان من ثمارها تلك الأنفال..
والأنفال: جمع نفل،( بفتح النون والفاء )، وهو في أصل اللغة من النقل( بفتح فسكون، والنفل بسكون الفاء مثله ) أي: الزيادة، فالأنفال هي في الأصل: الزيادات، وهذا هو معناها اللغوي، وهو المعنى الذي عرفت به في الشعر الجاهلي، وهذا يظهر من قول لبيد بن ربيعة العامري:
إِنَّ تَقوى رَبِّنا خَيرُ نَفَل...... وَبِإِذنِ اللَهِ رَيثي وَالعَجَل
وقوله:
: وكثيرة غرباؤها مجهولة.... ترجى نوافلها ويُخشى ذامها.( [108])
ولكن الأنفال في القرآن اتخذت معنى أخص من هذا المعنى اللغوي العام فالأنفال هي: هبة الله عز وجل للمقاتلين الذين حققوا بخروجهم الهدف الأول من القتال، وهو إعلاء كلمة الله، فإذا ما حققوا الهدف، زادهم الله خيرا وكافأهم بأن وهبهم هذه الغنائم التي حصلوا عليها، والتي لم ينظروا إليها حتى أثخنوا في الأرض، وألغوا كل مقاومة للأعداء.
ويؤكد معنى الأنفال في القرآن، أن الله عز وجل بعد أن ذكر سؤال الصحابة عن الأنفال في أول آية من هذه السورة الكريمة، أخذ يعدد للمسلمين وسائل النصر، والحكمة من الخروج، وإمداد الله لهم بجند من عنده، وكشف لهم عن خدع الشيطان، وصور أحداث المعركة كما حدثت بين الفريقين، والمنن التي امتن الله بها على المسلمين، وبعد ذلك كله، وبعد أربعين آية من هذه السورة، ذكر الله تعالى الآية التي يشرع فيها كيفية توزيع الغنائم، ليؤكد للمسلمين أن الهدف ليس هو الغنائم، وإنما هو الجهاد، ولذا أعرض سبحانه عن سؤالهم، وبين لهم ما ينبغي أن يفهموه، ثم شرع لهم في النهاية كيفية توزيع الغنائم إذا حصلوا عليها، وهذه الغنائم عندهم أنفالا - بالمعنى القرآني لهذه الكلمة - لا غنائم بالمعنى الجاهلي الذي يفهمه الناس.([109])
أما الفيئ: فهو: ما يرده الله تعالى على أهل دينه من أموال من خالف دينه بلا قتال. إما أن يجلوا عن أوطانهم ويخلوها للمسلمين، أو يصالحوا على جزية يؤدونها عن رؤوسهم، أو مال غير الجزية يفتدون به من سَفك دِمائِهم.قال في اللسان: ( والفيئ: الغنيمة والخراج، والفيئ: ما حصل للمسلمين من أموال الكفار من غير حرب ولا جهاد. ..)([110]) ومن هنا يظهر الفرق بين الفيئ والغنائم ، فالفيئ في كلام صاحب اللسان، مصطلح جديد لم يكن معروفا عند الجاهليين، فهم لم يعرفوا غير الغنيمة التي تكون إثر الغارات والغزوات، والفيئ مأخوذ من معنى الرجوع، سواء بمعنى الظل أو بمعنى الغنيمة.. وقد فرق علماء اللغة بين الظل والفيئ، فقالوا: الظل: هو في أول النهار، فإذا نسخته الشمس ثم رجع فهو فيئ حينئذ. أي: أنه الظل الذي يكون بعد الزوال، وقت العصر أو الأصيل. ويمكن تفسير معنى الفيئ في القرآن على هذا الأصل، فالأموال التي كانت للأعداء رجعت للمسلمين لأنهم رفضوا الدخول في دين الله، أو قاموا بعمل عدواني ضد المسلمين، فعوقبوا بالإجلاء، ومصادرة الأموال.
وقد وردت آيات القرآن الكريم بالمعنى الأساسي لكلمة فيئ، وبالمعنى الاصطلاحي أيضا. ففي معنى رجع قال الله تعالى:( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيئ إلى أمر الله )(الحجرات: 9.). وفي معنى الغنائم قال الله تعالى: ( وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك ) (الأحزاب: 50 ) فالفيئ والأنفال من المصطلحات الجديدة التي صنع معناها القرآن الكريم.([111])
وجمهور العلماء: على أن المقصود من سؤال بعض الصحابة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأنفال،: إنما هو عن حكمها، وبيان المستحق لها .
فيكون المعنى: يسألك بعض أصحابك يا محمد عن غنائم بدر كيف تقسم..؟ ومن المستحق لها..؟ قل لهم: الأنفال لله، يحكم فيها بحكمه، وللرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو الذي يقسمها على حسب حكم الله وأمره فيها.
ويرى بعض العلماء أن السؤال للاستعطاء، وأن المراد بالأنفال: ما شرط للغازي زيادة على سهمه، وأن حرف( عن ) زائد، فيكون المعنى: يسألك بعض أصحابك يا محمد إعطاءهم الأنفال التي وعدتهم بها زيادة على سهامهم فيها، قل لهم: الأنفال لله ورسوله.
والرأي الأول أرجح، لأن الآية بمنطوقها الواضح، وبتركيبها البليغ، تفيد أن السؤال إنما هو عن حكم الأنفال، وعن المستحق لها، ولأن قوله تعالى بعد ذلك( فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ) ، يؤيد أن السؤال عن حكم الأنفال ومصرفها، بعد أن تنازعوا في شأنها، فهو سبحانه ينهاهم عن هذا التنازع، ويأمرهم بأن يصونوا أنفسهم عن كل ما يغضب الله، أما القول بأن السؤال سؤال استعطاء، وأن(عن )زائدة، أو بمعنى( من )، فهو تكلف لاضرورة إليه. وقوله يسألونك فعل مضارع، والواو فاعل، والكاف مفعول به.
وقوله تعالى:( فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين ): حض لهم على تقوى الله، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، وإصلاح ذات بينهم، وتحذير لهم من الوقوع في المعاصي، والتنازع، والاختلاف. وقوله: اتقوا: فعل أمر، ولفظ الجلالة مفعول به.
وكلمة( ذات ): تعني: حقيقة الشيء ونفسه .
وكلمة( بينكم ): من البين، وهي مصدر ( بان، يبين، بينا ) متى بعد، وهي من الأضداد، تطلق على الاتصال، والفراق. والمراد به في الآية: الاتصال. أي: فاتقوا الله أيها المؤمنون، وأصلحوا نفس ما بينكم، وهي الحال والصفة التي بينكم، والتي تربط بعضكم ببعض، وهي رابطة الإسلام، وإصلاحها : يكون بما يقتضيه كمال الإيمان من الموادة، والمصافاة، وترك الاختلاف والتنازع. والتمسك بفضيلة الإيثار. أو: أصلحوا ما بينكم من الأحوال، حتى تكون أحوال ألفة ومحبة واتفاق. فالبين هنا بمعنى الاتصال. وقوله: ذات بينكم: مفعول به للفعل اتقوا، والواو: فاعل.
وقوله:( وأطيعوا الله ورسوله ): معطوف على ما قبله، والمعنى: أطيعوا الله ورسوله في حكمه الذي قضاه في الأنفال وغيرها.
وقد كرر الاسم الجليل( الله ) في هذه الآية ثلاث مرات: لتربية المهابة في القلوب، وتعليل الحكم : حتى تقبله النفوس بإذعان وتسليم.
وذكر سبحانه رسوله مرتين في هذه الآية : لتعظيم شأنه، وإظهار شرفه والإيذان بأن طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، طاعة لله سبحانه، ومخالفته مخالفة لأمر الله تعالى.
وقوله تعالى:( إن كنتم مؤمنين ): تذييل متعلق بالأوامر الثلاثة السابقة وهي: التقوى، وإصلاح ذات البين، وطاعة الله ورسوله . وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله، أي: إن كنتم مؤمنين إيمانا حقا، فامتثلوا الأوامر الثلاثة السابقة. وفي هذا التذييل تنشيط للمخاطبين، وحث لهم على الامتثال والطاعة. و( إن ) في النص الكریم من مسائل الخلاف بین البصریین والكوفیین، فعلماء الكوفة یقولون إن( إنْ(هنا بمعني ) إذا( التعلیلیة، أي ) اتقوا الله إن كنتم مؤمنین) أي لأجل كونكم مؤمنین فاتقوا الله ، لأن إیمانكم سبب یجعلكم على تقوى الله. والبصریون یقولون إن( إ ن) يراد بها التهییج والحض على الفعل، وأن ذلك أسلوب عربي معروف كما تقول للرجل الكریم:( إن كنت ابن الكرام فاقض حاجتي) وأنك تعلم أنه ابن الكرام، إلا أنك تهیجه بهذا الكلام وتستثیره وتحمله على الامتثال ، والإستثارة بأداة الشرط في هذا المعنى ىأسلوب عربي معروف، فعلى هذا فالمراد بقوله:( إن كنتم مؤمنین) تهیجهم وتحرضهم إلى امتثال أمر الله - جل وعلا - ( [112] )
والأمر بطاعة الله وطاعة رسوله ورد في العديد من الآيات القرآنية، وورد بألفاظ متعددة، من ذلك ما جاء في قوله تعالى : ( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين)(المائدة:92). وجاء في آية أخرى قول الحق تعالى ): وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين)(التغابن:12). وحديثنا في هذه السطور ينطلق من سؤالين اثنين:
الأول: أن الآية الأولى وردت فيها زيادة قوله سبحانه:( واحذروا) وزيادة قوله تعالى:(فاعلموا) في حين أن الآية الثانية خلت من هاتين الزيادتين مع اتحاد ما تضمنته الآيتان من الأمر بطاعة الله تعالى، وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم-، والتحذير من الإعراض عن ذلك والتولي، فما وجه هذه الزيادة؟
الثاني: أن الأمر بطاعة الله ورسوله ورد في القرآن الكريم بصور متعددة؛ فمرة نجده سبحانه يقول ) : وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول)(المائدة:92) ونحو هذه الآية في سور: النساء، والنور، ومحمد، والتغابن. ومرة يقول تعالى ) : وأطيعوا الله والرسول)(آل عمران:132) ونحو هذا في سورتي الأنفال والمجادلة. ومرة يقول سبحانه: ( وأطيعوا الرسول}(النور:56) ومرة واحدة فقط يعطف على ذلك )أولي الأمر( فيقول جل وعلا ) : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)(النساء:59) فلم يقل وأطيعوا أولي الأمر لأن طاعتهم مقبدة بطاعتهم لله والرسول.. فما وجه تعدد صيغ الأمر بطاعة الله ورسوله على النحو الذي أسلفنا؟
أجاب ابن الزبير الغرناطي عن السؤال الأول بما حاصله: إن آية سورة المائدة جاءت عقيب آية الأمر باجتناب الخمر، وما ذكر معها، ثم أتبع سبحانه بعد ذلك بذكر العلة في تحريمها، فقال عز من قائل ) : إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون) )المائدة:91) فلما خُتمت من التهديد بما يُشْعِر بشديد الوعيد، ناسب ذلك قوله سبحانه )فاحذروا( ، وقوله تعالى:(فإن توليتم فاعلموا( تأكيداً لما تقدم من الإشعار بمخوف الجزاء. أما آية سورة التغابن فلم يرد قبلها ما يستدعي هذا التأكيد؛ إذ تقدمها قوله عز وجل:(ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم)(التغابن:11) فليس هنا نَهْيٌ عن محرم، ولا تهديد ولا وعيد، فلما لم يرد هنا نهي عن محرم متأكد التحريم، وما يستتبع النهي من التهديد والتأكيد، لم يرد هنا من الزيادة المفيدة لمعنى التأكيد ما ورد هناك، فجاء كل على ما يجب ويناسب، وليس عكس الوارد بمناسب. وقد ذكر ابن عاشور عند تفسيره لآية سورة التغابن، أنه سبحانه جاء في آية المائدة بقوله ) : فاعلموا ( للتنبيه على أهمية الخبر، كما في قوله تعالى ) :واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه)(البقرة:223) فقد أمر سبحانه عباده المؤمنين أن يعلموا أنهم )ملاقوه( مع أن المسلمين يعلمون ذلك؛ تنزيلاً لعلمهم منزلة العدم في هذا الشأن؛ ليُزاد من تعليمهم اهتماماً بهذا المعلوم، وتنافساً فيه. على أن(التحذير) في قوله سبحانه ) :واحذروا( الغرض منه - كما قال الشيخ الشعرواي- أن يعلم العبد أن الشيطان لن يدعه يدخل في مجال طاعة الله وطاعة الرسول، وسيحاول جاهداً أن يُلَبِّس عليه الأمر. فعندما يعلم الشيطان ميلاً في نفس إنسان إلى لون من الشهوات، يدخل إليه من باب المعاصي. وإن كان الإنسان قد أوصد بعض السبل أمام الشيطان، فلا يستطيع مثلاً إغراءه بالسرقة، أو شرب الخمر، أو الزنى، لا يتركه وشأنه، بل يدخل إليه من باب الطاعة، فمثلاً، يأتي الشيطان إلى الإنسان لحظة الوضوء، وينسيه هل غسل هذه اليد، أو تلك، وهل أسبغ الوضوء، أم لا؟ أو يأتي الشيطان إلى المؤمن لحظة الصلاة، فينسيه عدد الركعات، أو عدد السجدات، وهكذا يدخل الشيطان على العبد من ناحية الطاعة. إذن، فمعنى قوله سبحانه :( واحذروا) أي: احذر أيها العبد أن يحتال الشيطان عليك؛ لأنه سيحاول أن يدخل عليك من كل مدخل، يدخل على المسرف على نفسه بالمعصية، وأشد أعمال الشيطان على المؤمنين هي أن يدخل عليهم من باب الطاعة؛ ولذلك قال الحق:( واحذروا) وكثيراً ما نجد الإنسان منا ينسى موضوعاً ما، وحين يأتي إلى الصلاة، فهو يتذكر هذا الموضوع. والشيطان لا يترك الإنسان في مثل هذه الحالة، فقد أقسم كما أخبر سبحانه عنه بقوله:(فبعزتك لأغوينهم أجمعين}(ص:82). وقال عز وجل:(لأقعدن لهم صراطك المستقيم)(الأعراف:16) إنه أقسم أن يقف على الطريق المستقيم لا على الطريق المعوج. ومثال ذلك عندما يتصدق إنسان بصدقة، قد يعلنها ويقول: لقد تصدقت أكثر من فلان. وهكذا يضيع منه الأجر. الشيطان يحاول -إذن- أن يدخل علينا من باب لا نفطن إليه وهو باب الطاعة. أما الجواب عن السؤال الثاني فقد أجاب عنه الشيخ الشعراوي بما حاصله: إن الحق سبحانه إذا قال:(وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول( تكون طاعة الله في الحكم العام، وطاعة الرسول في تفصيل الحكم، والمثال على هذا قول الحق سبحانه ) : ولله على الناس حج البيت)(آل عمران:97)، هنا نطيع الله في الحكم العام، وهو فَرْض الحج على المستطيع، ونطيع الرسول في تفصيل أعمال الحج؛ لأن التفصيل لم يأت في القرآن، والرسول - صلى الله عليه وسلم - قال :( خذوا عني مناسككم) رواه البيهقي في "السنن الكبرى". وعندما يقول سبحانه:(وأطيعوا الله والرسول) فهذا يعني أن هناك أمراً واحداً قد صدر من الله، وصدور الفعل وحصوله من الرسول - صلى الله عليه وسلم - يكون للقدوة والأسوة، وتوكيداً للحكم.
وإذا كان الأمر للرسول- صلى الله عليه وسلم - فحسب، ولم يرد فيه شيء من الله، فهو أمر صدر بتفويض من الله بناء على قول الحق تعالى:(ومآ آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}(الحشر:7). وهكذا نجد أنه لا تلتبس طاعة بطاعة، ولا تتناقض طاعة مع طاعة. .
ما الفرق بين( أطيعوا الله ورسوله) و(أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ) ؟؟
الفرق بين(وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ )( الأنفال: 1) وبين(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)(النساء: 59) في الآية الأولى طاعة واحدة، في الثانية طاعتين: طاعة لله وطاعة لرسوله وهناك طاعة خاصة للرسول(وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) وحده.(وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) فيما كان النبي - عليه الصلاة والسلام - مبلِّغاً عن ربه ليس له دور إلا أنه كان مُبَلِّغاً، قال: قال الله تعالى فكل شيء يُبَلِّغه النبي عن ربه بطاعة واحدة(وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) لأنها طاعة واحدة إذاً تطيع الله. أما(أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فهما طاعتان، طاعة لله وطاعة للرسول، طاعة الرسول ما بيّن وما شرح، قال لك: الصلاة كذا، الزكاة مقاديرها كذا، كل شيء لم يأتِ في القرآن الكريم فهذا من السنن، فعليك أن تطيعه طاعة خاصة. أطيعوا الله فيما بلغ، وأطيعوا الرسول فيما قال، وفيما فعل، كما في الحديث(أوتيت القرآن ومثله معه)(ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ )( القيامة: 19).(وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) وحده باعتباره رئيس دولة، لما كان - عليه الصلاة والسلام - في المدينة كرئيس دولة، كحاكم، فحينئذٍ عليك أن تطيعه في كل شيءٍ ، وقال:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ )(النساء: 59) دون أن يقول وأطيعوا أولي الأمر منكم لأن طاعتهم مشروطة بطاعة الله والرسول، فإذا لم يطيعوا الله والرسول فلا طاعة لهم... والنبي -صلى الله عليه وسلم -كان مُطاعاً منذ أن بعث إلى هذا اليوم بل إلى يوم القيامة في كل شيء حتى فيما لا نفهمه، كان عبد الله بن عمر يطبق أشياء لا يفهمها ويقول(لكني رأيت الرسول يفعلها ففعلتها). ثم وصف سبحانه المؤمنين الصادقين بخمس صفات، وبشرهم بأعلى الدرجات.. فقال في بيان صفتهم الأولى:( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم..) فالجملة الكريمة مستأنفة، وهي مسوقة لبيان أحوال المؤمنين الذين هم أهل لرضا الله وحسن ثوابه، حتى يتأسى بهم غيرهم. وقوله:( وجلت ): من الوجل، وهو استشعار الخوف . وجلت: وجَلَ بكسر الجيم في الماضي، ويَوْجَل بفتح الجيم في المضارع، فتحذف الواو، كوعد، َيِعدُ.
والمراد بذكر الله: ذكر صفاته الجليلة، وقدرته النافذة، ورحمته الواسعة، وعلمه المحيط بكل شيئ، وما يستتبع ذلك من حساب وثواب وعقاب.
والمعنى: إنما المؤمنون الصادقون الذين إذا ذكر اسم الله خافت قلوبهم ، وفزعت، استعظاما لجلاله ، وتهيبا من عظيم سلطانه، حذرا من عقابه، ورغبة في ثوابه، وذلك لقوة إيمانهم، وشدة مراقبتهم لله عز وجل، ووقوفهم عند أمره ونهيه. وقد يستشكل اجتماع الوجل عند ذكر الله كما جاء في النص الكریم، وحدوث الطمأنینة في الموقف نفسه كما ورد في قوله تعالى ) ألاَ بذِكْرِ اللهَّ تطمئن الْقلوُبُ }(الرعد، الآیة ٢٨(، على اعتقاد أن الوجل خلاف الطمأنینة، وهذا غفلة عن المرا د، لأن الطمأنینة تكون عن ثلج القلب وشرح الصدر بمعرفة التوحید والعلم، وما یتبع ذلك من الدرجة الرفیعة والثواب الجزیل، والوجل إنما یكون عند خوف الزیغ والذهاب عن الهدى، وما یستحق به الوعید بتوجیل القلوب كذلك( [113](
)وإذا تلیت علیهم آیاته زادتهم إیمانا) أي: إذا تلیت علیهم آیاته المنزلة على خاتم أنبیائه - صلى الله علیه وسلم - زادتهم إیماناً، أي یقینا في الإذعان وقوة في الإیمان، وسعة في العرفان، ونشاطا في الأعمال، ویطلق الإیمان في عرف الشرع على مجموع العلم والاعتقاد والعمل بموجبه وعلى كل منهما، والقرائن تعین المرا د( [114] )
وزیادة الإیمان على وجوه منها: - أن المؤمن إذا كان لم یسمع حكما من أحكام الله في القرآن فنزل على النبي - صلى الله علیه وسلم- فسمعه فآمن به،. زاد إیماناً إلى سائر ما قد آمن به، إذ لكل حكم تصدیق خاص، وتترتب زیادة الإیمان بزیادة الدلائل، ولهذا قال مالك: الإیمان یزید ولا ینقص، وتترتب بزیادة الأعمال الخیرة على قول من یرى لفظة الإیمان واقعة على التصدیق والطاعات، وهؤلاء یقولون یزید وینقص.( [115] )
وجاء التعبير عن صفاتهم بصيغة من صيغ القصر( إنما ): للإشعار بأن مَن هذه صفاتهم ، هم : المؤمنون الصادقون في إيمانهم وإخلاصهم.
یقول ابن عطیة في تفسیر هذه الآیة الكریمة ): إنما( لفظ لا
تفارقه المبالغة والتأكید حیث وقع، ویصلح مع ذلك للحصر، وقوله هاهنا: ( إنما المؤمنون) ظاهرها أنها للمبالغة والتأكید فقط أي الكاملون( [116] )
والصفة الثانية من صفات هؤلاء المؤمنين: ما عبر عنه سبحانه بقوله:( وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا ): أي: إذا قرئت عليهم آيات الله ازدادوا قوة في التصديق، وشدة في الإذعان، ورسوخا في اليقين. ونشاطا في الأعمال الصالحة.
وجاء التعبير بصيغة الفعل المبني للمجهول في قوله:( ُذكر ) و( تُليت ) للإيذان بأن هؤلاء المؤمنين الصادقين إذا كانوا يخافون عندما يسمعون من غيرهم آيات الله، فإنهم يكونون أشد خوفا وفزعا عند ذكرهم هم أنفسهم لله، وعند تلاوتهم لآياته بألسنتهم وقلوبهم.
والصفة الثالثة من صفاتهم : قوله تعالى:( وعلى ربهم يتوكلون ): أي : أنهم يعتمدون على ربهم ، لا على أحد سواه. ومن الواضح أن التوكل على الله لا ينافي الأخذ بالأسباب. وتقديم الجار والمجرور( على ربهم ): يفيد الحصر، وقصر توكلهم على الله سبحانه. والتعبير بلفظ( الرب ) مضافا لضمير المؤمنين: إشعار بأن دافع توكلهم عليه، إنما هو شعورهم بأنه المالك القادر الذي يصح التوكل عليه.
أما الصفتان الرابعة والخامسة: فهما قوله سبحانه:( الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ). والمراد بإقامة الصلاة: أداؤها في مواقيتها مستوفية لأركانها وشروطها وآدابها، من أقام الشيئ: إذا قومه وأزال اعوجاجه. وتأمل التعبیر ب " یقیمون " دون " یؤدون " مثلا، فإقامة الشيء أي أداؤه كما ینبغي له أن یؤدى، بخلاف " یؤدي " فقد " یؤدي " بلا اهتمام أو اكتراث وبلا خضوع أو خشوع.
وذكر الصلاة، لأنها رأس الطاعات وعماد الدین، ومن أقامها أقام الدین، لذلك كان وصف المؤمنین بإقامة الصلاة ومدحهم بها هو حض علیها، وقد ابتدأ بذكر صفتهم بالاسم الموصول( الذَّین )تحفيزا وتشجیعا لهم، ولا سیما أنه جاء موصولا بما یصدر عنهم من فعل على سبیل التوكید، وللموصول إیحاء آخر، وهو إرادة العموم لكل من كانت هذه صفته. والتعبیر بالمضارع في قوله تعالى:( یقیمون الصلاة( یفید المداومة علیها في أوقاتها من غیر تخلف، لأن التعبیر بالمضارع یفید التجدد المستمر الدائم والمحافظة علیها من غیر انقطاع..( [117](
وجاءت إقامة الصلاة( یقیمون ) بصیغة الجمع بالضمیر، وجاءت(الصلاة) معرفة ولیست نكره ، وفي إظهار الضمیر زیادة في تأكید أهمیة الصلاة وتعظیم مكانتها، وشرف عملها وحُسنه، وقیمتها في رفع درجاتهم وكثرة حسناتهم. ( ومما رزقناهم ینفقون) قال جماعة من المفسرین هي الزكاة وتفسیرهم قائم لاقتران الكلام بإقامة الصلاة، ولعله لفظ عام في الزكاة ونوافل الخیر وصلات المستحقین.( [118] ). وقد خص إقامة الصلاة والصدقة لكونهما أصل الخیر وأساسه... و( من ) في ( مِمَّا ) للتبعیض( [119] ) ویدل على أن ما ینفق هو من رزق الله تعالى، وجاء تقدیم الجار والمجرور)مما ( لبیان الاختصاص أو القصر، أي إن الإنفاق مما أعطاه الله دون غیره، وفیه من الاهتمام بأنه من رزق الله الذي رزقه للأغنیاء لیعطوا منه الفقراء، فالمال مال الله والجمیع عباد الله ، فهو یأخذ من مال الله ویعطي عباد الله.( [120] ) ویتجلى التناسب بین هذه الآیة التي توضح بعض صفات المؤمنین كإقامة الصلاة والانفاق وما قبلها، ذلك أن الخوف عند ذكر الله وزیادة الإیمان والخشیة عند تلاوة القرآن الكریم مرتبط أشد الارتباط بالصلاة، فالصلاة لله والإنفاق للخلق ولكنه ارضاء لله والتزام بأوامره، ، فالذي یؤدي الصلاة الحقة یعظم أمر الله، ولابد أن تترك أثرها في قلبه وعمله، لذلك تجده يراعي جانب الشفقة على خلق الله ، فیمد العون لعبادة وینفق من مال الله ، وهذا هو محك العبادة الصادقة التي یستحق بها المؤمن رحمة الله ، ویستحق أن یكون مؤمنا حقا.0. سئل شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى([121])، عمن يؤمر بالصلاة فيمتنع، ماذا يجب علبه، وماذا يجب على الأمراء، وولاة الأمر في حق من تحت أيديهم إذا تركوا الصلاة..؟ فأجاب: الحمد لله، من يمتنع عن الصلاة المفروضة، فإنه يستحق العقوبة الغليظة باتفاق أئمة المسلمين، بل يجب عند جمهور الأئمة كمالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، ثم يقول: ومن كان عنده صغير أو يتيم فلم يأمره بالصلاة فإنه يعاقب الكبير إذا لم يامر الصغير، ويعزر على ذلك الكبير تعزيرا بليغا ، لأنه عصى الله ورسوله، وكذلك من عنده خدم، أو زوجة ، فعليه أن يأمر جميع هؤلاء بالصلاة، فإن لم يفعل كان عاصيا لله ورسوله، ولم يستحق هذا أن يكون من جند المسلمين.. وقال صاحب المغني ابن قدامة الجماعيلي الحنبلي: اختلفت الرواية هل يقتل لكفره، أو حدًّا.. فروي: أنه يقتل لكفره كالمرتد، فلا يغسل، ولا يكفن، ولا يدفن بين المسلمين، ولا يرثه أحد، ولا يرث أحداً. وقال عمر – رضي الله عنه -: لا حَظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة. وقال علي - كرم الله وجهه -: من لم يصل فهو كافر.
وقال ابن مسعود: من لم يصل فلا دين له …
وقال أبو حنيفة: لا يقتل، ولكنه يضرب ويسجن ..([122])
والمراد بقوله:( ينفقون ): من الإنفاق، وهو إخراج المال، وبذله وصرفه في وجوهه المشروعة. والمعنى: إن من صفات هؤلاء المؤمنين أنهم يقيمون صلاتهم في مواقيتها، مستوفية لأركانها وشروطها، وأنهم يبذلون أموالهم للفقراء والمحتاجين بسماحة نفس ، وسخاء يد، استجابة لتعاليم دينهم. والإتيان بـ( من ) التبعيضية: توجيه لهم بأن يعتدلوا في إنفاقهم. وعبر بالفعل المضارع في قوله:( يتوكلون ، يقيمون، ينفقون ) : للدلالة على استمرارهم في ذلك، فالفعل المضارع يدل على التجدد والاستمرار. ثم بين سبحانه ما أعده الله من ثواب جزيل لأصحاب هذه الصفات ، فقال:( أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم ) أي: أولئك المتصفون بتلك الصفات الكريمة ، هم المؤمنون إيمانا حقا، لهم درجات عالية، ومكانة سامية، ومغفرة شاملة لما فرط منهم من ذنوب، ولهم رزق كريم في الجنة، يحيون فيها حياة طيبة.
وجاء باسم الإشارة( أولئك ) الذي يشار به للبعيد : للدلالة على بُعد مكانتهم، وعلو مرتبتهم.وقوله:( أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) اسم الاشارة مبتدأ، "هم" ضمير فصل أو مبتدأ ثان، والمؤمنون خبر، والجملة خبر اسم الإشارة.. وحقا": صفة لمصدر محذوف، أي هم المؤمنون إيمانا حقا، ويجوز أن يكون مصدرا مؤكدا لمضمون الجملة، كقولك: هو عبد الله حقا . "عند ربهم" الظرف متعلق بنعت لدرجات"، وجملة "لهم درجات" حال من الضمير المستتر في "المؤمنون" في محل نصب..والتنوين في قوله( درجات ): للتعظيم والتهويل، ولإفادة كثرتها وعظمتها، أي: لهم درجات رفيعة، ومنازل عظيمة.
وفي وصف هذه الدرجات بأنها( عند ربهم ): مزيد تشريف لهم، وإيذان بأن ما وعدهم به متيقن الوقوع، لأنه وعد من كريم لا يخلف وعده... والعندية عندية مكانة لا مكان.. ووصف الرزق الذي أعده لهم بـ( الكريم ): زيادة في إدخال السرور على قلوبهم، والعرب يصفون كل شيئ حسن في بابه بالكريم ، بحيث يكون لا قبح فيه، ولا شكوى معه. و معنى كون الرزق كریما أن رازقه كریم، ومن هنا وصفوه بالكثرة وعدم الانقطاع، إذ من عادة الكریم أن یجزل العطاء ولا یقطعه فكیف بأكرم الأكرمین تبارك وتعالى.. ثم أخذت السورة بعد هذا الإفتتاح المشتمل على أروع استهلال وأبلغه، في الحديث عن الغزوة التي كان من ثمارها تلك الأنفال..
فقال الله تعالى:
( كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ( 5). يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ( 6). وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ( 7). لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ( 8).)
الشرح والتفسير
لعل أّول مشهد یطالع القارئ لأحداث غزوة بدر من خلال السورة الكریمة، هو مقام الاستعداد للخروج وتجهیز الجیش وما كان بین الصحابة - رضي الله عنهم أجمعین- وبین النبي – صلى الله علیه وسلم – من حوار وصل إلى حد الجدال من جانب الصحابة - رضي الله عنهم - للنبي - صلى الله علیه وسلم - ، لذلك نلاحظ أن الجدال منسوب إلى الصحابة - رضي الله عنهم - ولم یقل " تتجادلون " لأن هذه الصیغة تفید المشاركة في الفعل ، والّنبي – صلىّ الله علیه وسلم – قد عصمه الله من ذلك ونزهه عن ذلك الجدل، وقد صور القرآن الكریم هذا الجدال في أسلوب بلاغي یجعل الحدیث متصلا بما قبله من سؤال الصحابة عن قسمة الغنائم وانشغال بعضهم بطریقة قسمتها وتوزیعها.
قد اختلف العلماء في متعلق هذه " الكاف " وأوصلها بعض
المفسّرین إلى ما یقرب من عشرین قولاً..( [123] )
بینما نجد الإمام ابن الجوزي یذكر فیها خمسة أقوال، ویمكن الاكتفاء بقول واحد من تلك الأقوال، وهو أنها متعلقة بالأنفال، أي: امض لأمر الله في الغنائم وإن كرهوا، كما مضیت في خروجك من بیتك وهم كارهون ..
فالكاف إذا في قوله تعالى( كما أخرجك ربك ) بمعنى: مثل. ومحلها الرفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هذه الحال كحال إخراجك... وما بعدها هو المشبه به، ووجه الشبه: مطلق الكراهة. والمعنى: حال أهل بدر في كراهيتهم تقسيمك الغنائم بالسوية، مثل حال بعضهم في كراهة الخروج للقتال، مع ما في هذه القسمة والقتال من خير وبركة.
وفي قوله " بالحق " احتراس، بأنه -علیه الصلاة والسلام- لم یخرج من تلقاء نفسه، وفي ذلك تأكید فوق تأكید على أن ما یقوم به
صلى الله علیه وسلم - إنما هو استجابة لأوامره سبحانه.
ثم جاء التذییل في قوله عز وجل " وإن فریقا من المؤمنین لكارهون " لیؤكد به سبحانه ما اعتملت علیه نفوس القوم من بغض وكراهة ما هم فیه، وقد ناسبت هذه الكراهة المتناهیة تعدد أدوات التأكید في القول الكریم، حیث أتى التأكید ب " إن " واسمیة الجملة ، ولام التأكید.وتأكید خبر كراهية فریق من المؤمنین بإن ولام الابتداء مستعمل في التعجب من شأنهم بتنزیل السامع غیر المنكر لوقوع الخبر منزلة المنكر لأن وقوع ذلك مما شأنه أن لا یقع، إذ كان الشأن اتباع ما یحبه الرسول- صلى الله علیه وسلم- أو التفویض إلیه، وما كان ینبغي لهم أن یكرهوا لقاء العدو.ویستلزم هذا التنزیل التعجب من حال المخبر عنهم بهذه الكراهية فیكون تأكید " الخبر كنایة عن التعجب من المخبر عنهم( [124] )
والمراد بالبيت في قوله( من بيتك ): مسكنه بالمدينة، أو المدينة نفسها، لأنها مستقره ومثواه. أنَّ التشَّبیه وقع بین إخراجين ، أي: إخراج ربك إیَّاك من بیتك، وهو مكَّة وأنت كاره لخروجك، وكان عاقبة ذلك الإخراج النَّصر والظفر كإخراجه إیَّاك من المدینة، وبعضُ المؤمنین كاره، یكون عقیب ذلك الخروج الظفُر والنصُر والخیُر، كما كان عقیب ذلك الخروج الأول.والتعبیر " بأخرجك " بصیغة الماضي یؤكد ویثبت هذا الخروج، وإسناد الإخراج إلیه سبحانه تجد فیه التأكید على أن ما یفعله رسول الله – صلى الله علیه وسلم – لیس من بنات أفكاره، بل هو وحى یوحى.وتأمل التعبیر بالربوبیة في قوله " أخرجك ربك " وكیف أضفى ما أضفى من مشاعر الحرص والرعایة لنبیه - صلى الله علیه وسلم - .وإضافة كاف الخطاب المشار بها للنبي – علیه السلام – للرب تؤكد وتقوي هذه المعاني.. وفي قوله " بالحق " احتراس-( [125] ) كما أسلفنا - ، بأنه – علیه الصلاة والسلام لم یخرج من تلقاء نفسه، وفي ذلك تأكید فوق تأكید على أن ما یقوم به - صلى الله علیه وسلم- إنما هو استجابة لأوامره سبحانه.والباء للسببية، أي: أخرجك بسبب نصرة الحق. وإعلاء كلمة الدين، وإزهاق الباطل.
وقوله:( كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ) "كما": الكاف نائب مفعول مطلق أي: الأنفال ثابتة لله ثبوتا مثل ثبوت إخراجك، و"ما" مصدرية، "بالحق" متعلق بمحذوف حال من مفعول "أخرجك"، وجملة( وإن فريقًا من المؤمنين لكارهون) حال من الكاف في "أخرجك" في محل نصب. وقوله تعالى:( يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ): حكاية لما حدث من هذا الفريق الكاره للقتال، وتصوير معجز لما استبد به من خوف وفزع.
والمراد بقوله( يجادلونك ): مجادلتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - في شأن القتال، وقولهم له: ما كان خروجنا إلا للعير، ولو أخبرتنا بالقتال لأعددنا العدة له. والضمير يعود للفريق الكاره للقتال.
والمراد بالحق الذي جادلوا فيه: أمر القتال الذي حضهم عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والمراد بتبيينه: إعلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهم بأنهم سينصرون على أعدائهم. أو: بعد أن تبين أن العير قد أفلتت، ولم يبق إلا النفير والقتال.
وقوله :( كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ): والجملة حالية من الضمير في( لكارهون ). أي: يكرهون القتال كراهة من يساق إلى القتل ، وهو مشاهد لأسبابه، ناظر إليه بعينه التي لا يشك فيها. وفي هذه الجملة الكريمة تصوير معجز لما استولى على هذا الفريق من خوف وفزع من القتال بسبب قلة عدَدَهم وعُدَدهم. ويساقون: فعل مضارع مبني للمجهول، والواو نائب فاعل.
وقوله( بعدما تبيَّن): "ما" مصدرية، والمصدر المؤول مضاف إليه، وجملة "يجادلونك" حال من الضمير المستتر في "كارهون"، وجملة "كأنما يساقون" حال ثانية من الضمير المستتر في "كارهون"، و كأنما" كافة ومكفوفة لا عمل لها، وجملة "وهم ينظرون" حال من نائب الفاعل من الواو في "يُساقون". أي: يجادلونك مشبهين من يساق إلى الموت وهو ناظر لأسبابه، ومتحقق منه.
ثم حكى سبحانه جانبا من مظاهر فضله على المؤمنين، فقال: ( وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ): وإذ: ظرف متعلق بفعل محذوف، أي:( واذكر إذ ).. والمراد بإحدى الطائفتين: العير، أو: النفير، والخطاب للمؤمنين
والمراد بغير ذات الشوكة: العير، وبذات الشوكة: النفير. والشوكة في الأصل: واحدة الشوك، وهو النبات الذي له حد، أي شوك، ثم استعيرت للشدة والحدة، ومنه قولهم: رجل شائك السلاح: أي شديد قوي.
وعبر سبحانه عن وعده لهم بصيغة المضارع( يعدكم )، مما یوحي بتجدد وثبوت وعده – سبحانه – لهم، ولا یخفى ما في ذلك من استحضار الصورة لیتیقنوا من وعد الله سبحانه وتعالى لهم، وقد وعدهم سبحانه إحدى الطائفتين على الإبهام، مع أنه كان يريد إحداهما، وهي: النفير، ليستدرجهم في الخروج إلى لقاء العدو حتى ينتصروا عليه، وبذلك تزول هيبة المشركين من قلوب المؤمنين.
ثم بين لهم سبحانه أنهم وإن كانوا يريدون العير، إلا أنه سبحانه يريد لهم النفير، ليعلوا شأن الحق، ويزهق الباطل، فقال:( ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ): أي: أن يظهر الحق على الباطل، بقضائه الذي لا يتخلف، وأن يستأصل الكافرين ويذلهم.
والدابر: هو التابع من الخلف. يقال: دبر فلان القوم يدبرهم، إذا كان آخرهم في المجيئ، والمراد: أنه سبحانه يريد أن يستأصلهم استئصالا.
ثم بين سبحانه الحكمة في اختيار ذات الشوكة لهم، ونصرتهم عليهم …
فقال:( ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون )، أي: فعل ما فعل من النصرة على الأعداء، ليثبت الدين الحق، دين الإسلام،ويمحق الدين الباطل، وهو ما عليه المشركون من كفر وطغيان. وقوله "ليحق": اللام للتعليل، والفعل منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد اللام، والمصدر المؤول مجرور باللام متعلق بـ "يقطع"، و "الحق" مفعول به. قوله "ولو كره": الواو حالية، عطفت هذه الحال على حال مقدرة والتقدير: في كل حال ولو في هذه الحال، وهذا لاستقصاء الأحوال. وجواب الشرط محذوف دَلَّ عليه ما قبله، والجملة حالية من الإحقاق المفهوم من قوله "ليحق..
ولا تكرار في الآية لكلمة( يحق الحق )، ففي الآية الأولى: أراد بها: إعلاء شأن دين الإسلام عن طريق قتال المؤمنين للمشركين.. وفي الثانية: أراد تثبيت دين الإسلام، وإظهار شريعته، فكان ما اشتملت عليه الآية الأولى هو: الوسيلة، والسبب. وما اشتملت عليه الثانية: هو المقصد والغاية. ".
وبعد هذا نستطیع أن نستخلص المعنى الإجمالي لهذه الوحدة القرآنیة، حیث إن الله تعالى یخبر رسوله بأن هذه الحال المتعلقة بالغنائم وكیفیة قسمتها وكراهة البعض منهم ذلك، تشبه حالهم عند خروجك من بیتك من المدینة بأمر الله لك لمواجهة النفیر وهم كفار قریش الذین نفروا لاستئصال الإسلام والمسلمین، لقد أخرجك ربك، وأنت ملتبس بالحق وسداد الرأي، في الوقت الذي كان فریق من أصحابك المؤمنین كارهین للخروج،
لأنهم لم یكونوا مستعدین للقاء العدو ومواجهته ولأنهم آثروا لقاء العیر لما فیها من المال فقد حاولوا مجادلتك في الأمر الحق الواضح الجلي، وهذا كله بعد أن ظهر الحق واستبان، لأنَّ الذي لا ینطق عن الهوى قد أخبرهم أنَّ العاقبة للمتقین وأنَّ النصر للمؤمنین، فالله قد وعد بالظفر بإحدى الطائفتین، ولا یمكن أنْ یتخلف وعد الله .
ثم ساق سبحانه بعض مظاهر تدبيره المحكم في هذه الغزوة، وبعض النعم التي أنعم الله بها على المؤمنين، وبعض البشارات التي تقدمت تلك الغزوة أو صاحبتها، والتي كانت تدل على أن النصر سيكون حليف المسلمين
فقال الله تعالى : [ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ( 9). وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(10). إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ( 11). إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ( 12). ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ(13).ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ(14). ]
الشرح والتفسير
قال القرطبي: قوله تعالى :( إذ تستغيثون ربكم ): الاستغاثة: طلب الغوث. وقوله:( ممدكم ): من الإمداد، بمعنى الزيادة والإغاثة، وقد جرت عادة القرآن أن يستعمل الإمداد في الخير، وأن يستعمل المد في الشر والذم.( [126] ) إذ" اسم ظرفي مفعول به لاذكر مقدرا، وجملة "تستغيثون" مضاف إليه، والجار "من الملائكة" متعلق بنعت لألف، وقوله:( مردفين ): من الإرداف بمعنى التتابع.( [127] ) وهو " " نعت ثانٍ لألف،.
قال الفخر الرازي: قرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم ( مردفين ) بفتح الدال، وقرأ الباقون بكسرها. والمعنى على الكسر: أي: متتابعين، يأتي بعضهم في إثر بعض،كالقوم الذين أردفوا على الدواب. والمعنى على قراءة الفتح: أي فعل بهم ذلك، أي أردف بهم المسلمين، وأمدهم بهم، أي:جعلهم خلف المسلمين لتقويتهم.([128])
والمعنى: اذكروا أيها المسلمون وأنتم على أبواب بدر تطلبون منه الغوث والنصر على عدوكم، فاستجاب الله دعاءكم، وكان من مظاهر ذلك: أن أخبركم على لسان نبيكم بأن الله معينكم وناصركم بألف من الملائكة متتابعين، بعضهم في إثر بعض، أو أن الله جعلهم خلف المسلمين لتقويتهم وتثبيتهم.
يروي الإمام مسلم عن ابن عباس قال: حدثني عمر بن الخطاب قال: كان يوم بدر، نظر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، فاستقبل نبي الله - صلى الله عليه وسلم – القبلة، ثم مد يديه فجعل يهتف بربه ويقول: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض، فما زال يهتف بربه مادا يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأناه أبو بكر، فأخذ رداءه، فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم .. الآية ) فأمده الله بالملائكة.([129] )
فإن قيل: إن هذا الحديث يؤخذ منه أن الاستغاثة كانت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلماذا أسندها الله إلى المؤمنين..؟
فالجواب: أن المؤمنين كانوا يُؤَمنون على دعائه - صلى الله عليه وسلم - ويتأسون به في الدعاء، وقيل: إن الضمير في قوله( تستغيثون ): للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وجيئ به مجموعا على سبيل التعظيم. ويضعف هذا القول أن السياق بعده لا يلتئم معه، لأنه خطاب للمؤمنين بالنعم التي أنعم بها سبحانه عليهم.
وعبر سبحانه بالمضارع( تستغيثون ): مع أن استغاثتهم كانت قبل نزول الآية: استحضارا للحال الماضية، حتى يستمروا على شكرهم لله، ولذلك عطف عليه( فاستجاب لكم ) بصيغة الماضي مسايرة للواقع.
وكان العطف بحرف العطف( الفاء ): للإشعار بأن إجابة دعائهم كانت في أعقاب تضرعهم واستغاثتهم. والسين والتاء في قوله( تستغيثون ): للطلب ، أي: تطلبون منه الغوث والنصر
فإن قيل: إن الله تعالى ذكر هنا أنه أمدهم بألف من الملائكة، وذكر في سورة آل عمران أنه أمدهم بأكثر من ذلك، فكيف الجمع بينهما..؟ فالجواب: أن الله تعالى أمد المؤمنين بألف من الملائكة في يوم بدر، ثم زاد عددهم إلى ثلاثة آلاف، ثم زاد عددهم مرة أخرى إلى خمسة آلاف.
ثم بين الله سبحانه بعض مظاهر فصله عليهم ورحمته بهم في هذا الإمداد ، فقال:( وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم ) . فالآية الكريمة كلام مستأنف، ساقه سبحانه لبيان بعض مظاهر فضله على المؤمنين، ولبيان أن المؤثر الحقيقي هو الله وحده، حتى يزدادوا ثقة به، وحتى لا يقنطوا من النصر عند قلة أسبابه. أي: وما جعل الله تعالى هذا الإمداد بالملائكة إلا بشارة لكم أيها المؤمنون بالنصر على أعدائكم في هذه الغزوة الحاسمة.
وقوله:( لتطمئن قلوبكم ): معطوف عليه، أي: ولتسكن بهذا الإمداد قلوبكم، ويزول عنكم الخوف، وتهاجموا أعداءكم بنفوس لا يداخلها التردد
ما الفرق بين(ولتطمئن به قلوبكم )( الأنفال: 10 ) و(لتطمئن قلوبكم به)( آل عمران:126)، من حيث التقديم والتأخير ؟ وذكر(لكم) وحذفها؟
يجب أن نعلم أولاً أن كلمة به: المقصود بها الحديث عن الإمداد السماوي وما أمدهم الله به في الغزوة من الملائكة والجند.
سياق الأيات في آل عمران:
بدأ بذكر غزوة بدر، ثم ذكر غزوة أحد وما أصابهم فيها من قرح.
فقبل هذه الأية أشار الله إلى غزوة أحد بقوله:
( إِذ هَمَّت طائِفَتانِ مِنكُم أَن تَفشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَليَتَوَكَّلِ المُؤمِنونَ)( آل عمران: ١٢٢) لذلك قدم القلوب في آل عمران: لأنهم محتاجون إلى طمأنة القلوب وإلى البشرى، لأن حالتهم النفسية الآن ليست كما كانت بعد النصر في بدر، لأنهم هزموا في أحد فاحتاجوا إلى المواساة والتصبير.فجاءت الأية: ( وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلّا بُشرى لَكُم وَلِتَطمَئِنَّ قُلوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصرُ إِلّا مِن عِندِ اللَّهِ العَزيزِ الحَكيمِ) ) آل عمران: ١٢٦(
وقدم(به ) في الأنفال:
لأنه في سورة الأنفال فصل في الحديث عن الإمداد الإلهي أكثر من سورة آل عمران فقال: ) إِذ تَستَغيثونَ رَبَّكُم فَاستَجابَ لَكُم أَنّي مُمِدُّكُم بِأَلفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُردِفينَ. وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلّا بُشرى وَلِتَطمَئِنَّ بِهِ قُلوبُكُم وَمَا النَّصرُ إِلّا مِن عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزيزٌ حَكيمٌ.إِذ يُغَشّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيكُم مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذهِبَ عَنكُم رِجزَ الشَّيطانِ وَلِيَربِطَ عَلى قُلوبِكُم وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقدامَ. إِذ يوحي رَبُّكَ إِلَى المَلائِكَةِ أَنّي مَعَكُم فَثَبِّتُوا الَّذينَ آمَنوا سَأُلقي في قُلوبِ الَّذينَ كَفَرُوا الرُّعبَ فَاضرِبوا فَوقَ الأَعناقِ وَاضرِبوا مِنهُم كُلَّ بَنانٍ)(الأنفال: ٩،١٠،١١،١٢ )وهذا كله لم يأت في آل عمران.
فالخلاصة:
لما أراد أن يصبرهم قدم(قلوبكم)على(به).
ولما فصل في الحديث عن الإمداد السماوي قدم(به)على(قلوبكم).
في سورة الأنفال: :قال( بشرى) فقط من دون(لكم).لأنه تقدم ما يدل على البشرى بقوله( فاستجاب لكم ) فلم يكرر(لكم )مرة أخرى لأنه ذكرها سابقاً.( إِذ تَستَغيثونَ رَبَّكُم فَاستَجابَ لَكُم أَنّي مُمِدُّكُم بِأَلفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُردِفينَ) ( الأنفال: ٩)
في سورة آل عمران:
قال بشرى لكم: خصص البشرى، لأنه لم يرد ذكرها سابقاً.
وقوله:( وما النصر إلا من عند الله ): أي: ليس النصر من عند أحد غير الله وحده، فهو الناصر الحقيقي، وليست الملائكة إلا سببا من الأسباب التي أمدكم الله بها ، فهو سبحانه الخالق لكل شيئ، والقادر على كل شيئ. وأن الوسائل مهما عظمت، والأسباب مهما كثرت، لا تؤدي إلى النتيجة المطلوبة، والغاية المرجوة، إلا إذا أيدتها إرادة الله، وقدرته، ورعايته. وقوله:(إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ): أي: غالب لا يقهره شيئ، ولا ينازعه منازع ، في تدبيره وأفعاله، وهو يضع كل شيئ في موضعه الموافق له بحكمته.
والجملة الكريمة: تذييل([130])، قصد به التعليل لما قبله، وفيه إشعار بأن النصر الواقع على الوجه المذكور ، من مقتضيات حكمته البالغة.
المعنى اللغوي للأسماء الجليله الواردة في الفاصلة: معنى لفظ الجلالة: (الله ): اسم للموجود الحق، الجامع لصفات الإلهية المنعوت بنعوت الربوبية )([131]) وقيل:( أصله:إله، فحذفت همزته، وأدخل عليها الألف واللام، فالإله: الله تعالى، وسمي بذلك لأنه معبود، ويقال: تأله الرجل إذا تعبد)([132]). وهذا الاسم أعظم الاسماء التسعة والتسعين، لأنه دال على الذات الجامعة لصفات الإلهية كلها..([133])
معنى العزيز:
قال ابن فارس:( العين والزاء أصل يدل على شدة وقوة، وما ضاهاهما من غلبة وقهر. قال الخليل: يقال: عز الشيء حتى لا يكاد يوجد..)([134]) وقال الأصفهاني:( إنه الذي يقهر ولا يقهر..)([135]) وعرفه أبو حامدالغزالي بقوله:( هو الخطير الذي يقل وجود مثله، وتشتد الحاجة إليه، ويصعب الوصول إليه)([136]).
معنى الحكيم:
ذكر ابن منظور عن ابن الأثير قوله:( في أسماء الله تعالى: الحكم، والحكيم، وهُما بمعنى الحاكم، وهو القاضي، وهو الذي يحكم الأشياء ويتقنها )([137]) وقال أبو حامد الغزالي:( يقال لمن يحسن دقائق الصناعات، ويحكمها، ويتقن صُنْعَها: حكيم. وكمال ذلك ليس إلا لله تعالى، فهو الحكيم الحق. )([138])
المناسبة بين الفاصلة والآيات:
ختمت هذه الآية بهذين الاسمين الجليلين(عزيز حكيم )، والصحابة- رضي الله عنهم - قد رغبوا في لقاء غير ذات الشوكة، أي العير، والتمكن مما فيها، لما فيهم من التوجس والإحجام عن ملاقاة قريش، ذات القوة والبأس، وهي التي أذاقتهم من البطش والذلة والهوان، ما ضاقت عنه رحاب مكة وبطاحها. وهم القلة الضعفاء، ولا يدرون أتكون لهم الغلبة أم لها، فيعودون للأسر والتعذيب من جديد، والعير فيها عوضهم عما سلب منهم، وتركوه في مكة بعد هجرتهم منها، لكن له سبحانه أمر يدبره، وقدر يُهيؤه، يريد الله أن يمكن لدينه، ويعز أهله، ويخزي الشرك، ويكسر شوكته، ويذل أهله، فهيأ لهم لقاء عدوهم، وساق لهم أسباب النصر الذي بشرهم به، فمن قتل منهم كانت الجنة مثواه، ومن عاش منهم كان النصر والغنيمة سلواه، تشوفت نفوسهم إلى العير فساقهم ربهم إلى النفير.. وأخذوا بعده من الأموال والأسرى والغنائم، ما عوضهم به عن العير أضعاف أضعاف ما يتمنون، فبانت حكمته البالغة في اختيار الأولى لهم، وصرف الثانية عنهم. وبانت حكمته وعزته في قهر أعدائه وتمكين أوليائه، ونصر المؤمنين وإعزازهم، وهزيمة الكافرين وإذلالهم.
اللمسات البيانية في الفاصلة(إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ):
فُصِلَت الفاصلة(إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) عن الجملة قبلها،(وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ) لكمال الاتصال بينهما، فإن الفاصلة نزلت منزلة التأكيد لاتحاد المعنى، فإن قوله(إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) تأكيد لعزته وحكمته، في إنزاله النَّصْرَ على من يشاء.
وسر الفصل بينهما: أنه حين تتحقق النفس المؤمنة، من مدبر النصر الحق، وترد إلى الإيمان بتوحيده في ذلك، وتجريده من شركة الأسباب، ثم يأتيها بعدها مباشرة هذان الاسمان الجليلان(إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) يوقع في جنباتها جلالاً ورهبة، وإخباتاً ومحبة، لإلاهها الذي رضيت به ربّاً.
وأكدت الجملة بـ( إن، واسمية الجملة ): لأنه لما خفيت عليهم حكمة الله في اختيار ذات الشوكة، ولما بَيَّنَ لهم أن النصر من توقيفه – وإن مكنهم من أسبابه -، وخفي عليهم بعيد قهره وعزته.
وذكر المسند إليه(الله ) بالعلمية،ولم يقل إنه، على الرغم من سبق ذكره في مقطع الآية قبله، لإعظام شأنه في التفوس، ولتستحضر عظيم جلاله وكبريائه..
وجاء المسند(عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) نكرة،:مجرداً عن التعريف، ليفيد تفخيماً وتعظيماً لعزته وحكمته، ما يجعل النفوس تَذِلُّ صاغرةً منكسرةً لعزته القاهرة. وتُسَلِّم راضيةً منبهرةً لحكمته المعجزة.
وجاءت الجملة إسمية: لإفادة الدَّوام والثبوت المطلق لهاتين الصفتين الجليلين. ثم حكى سبحانه بعد ذلك بعض المنن التي منحها الله للمؤمنين قبل أن يلتحموا مع أعدائهم في بدر، فقال:( إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام ).
وقوله:( يغشيكم ): بتشديد الشين، من التغشية بمعنى: التغطية.
والنعاس: أول النوم قبل أن يثقل ([139]). والأمنة: مصدر بمعنى الأمن، وهو طمأنينة القلب وزوال الخوف ، فالنوم لا يجيئ مع الخوف. و "أمنة" مفعول لأجله. وفي امتنان الله عليهم بالنوم في هذه الليلية وجهان:
أحدهما: أن قواهم بالاستراحة على القتال من الغد.
والثاني: أن أمنهم بزوال الرعب من قلوبهم. كما يقال: الأمن مُنيم، والخوف مُسهر.([140] ) والمعنى: واذكروا أيها المؤمنون وقت أن كنتم متعبين ، وقلقين على مصيركم في هذه المعركة، فألقى الله عليكم النعاس، قبل التحامكم بأعدائكم، ليكون أمانا لقلوبكم، وراحة لأبدانكم، وبشارة خير لكم.
قال الشيخ محمد عبده:( لقد مضت سنة الله في الخلق، بأن من يتوقع في صبيحة ليلته هولا كبيرا، ومصابا عظيما، فإنه يتجافى جنبه عن مضجعه، فيصبح خاملا ضعيفا، وقد كان المسلمون يتوقعون مثل ذلك ، إذ بلغهم أن جيشا يزيد على عددهم على ثلاثة أضعاف سيحاربهم غدا، فكان من مقتضى العادة أن يناموا على بساط الأرق والسهاد، ولكن الله رحمهم بما أنزل عليهم من النعاس: غشيهم فناموا واثقين بالله، مطمئنين لوعده، وأصبحوا على همة ونشاط في لقاء عدوهم وعدوه، فالنعاس لم يكن يوم بدر وقت الحرب بل قبلها.)([141] )
وقوله تعالى:( وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ): أي:وينزل الله تعالى عليكم ماء من السماء، وإنزال الماء من السماء نعمة عظمى تحمل في طياتها نِعَما وسُنَنا ..
أولها: أنه سبحانه أنزل على المؤمنين الماء من السماء ليطهرهم به من الحدث الأكبر والأصغر،فقد احتلم بعضهم، فوسوس لهم الشيطان فائلا: كيف تنصرون وقد أصبحتم محدثين ، وتزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله..؟ وهذه وسوسة من الشيطان، يريد بها أن يضعف من عزيمة المؤمنين. والمؤمن كما يقول الفخر الرازي:( يكاد يستقذر نفسه إذا كان جنبا، ويغتم إذا لم يتمكن من الإغتسال، ويضطرب قلبه لأجل هذا السبب. )( [142] )
وثانيها: قوله تعالى:( ويذهب عنكم رجز الشيطان ). وأصل الرجز: الإضطراب والقلق، ويطلق على ما تشتد مشقته على النفوس. والمراد برجز الشيطان: وسوسته للمؤمنين، وتخويفه إياهم من العطش وغيره عند فقدهم الماء، وإلقاؤه الظنون السيئة في قلوبهم.
أي: أنه سبحانه أنزل عليكم الماء أيها المؤمنون ليطهركم به تطهيرا حسيا، وليدفع عنكم وسوسة الشيطان التي يحاول بها إضعاف نفوسكم ومعنوياتكم، وهذا هو التطهير الباطني.
وثالثها: قوله تعالى:( وليربط على قلوبكم ): أي: ليقويها بالثقة في نصر الله .
وأصل الربط: الشد، ويقال لكل من صبر على أمر: ربط على قلبه، أي: حبس قلبه عن أن يضطرب أو يتزعزع.
ورابع هذه النعم: التي تولدت عن نزول الماء من السماء على المؤمنين، يتجلى في قوله تعالى:( ويثبت به الأقدام ): أي: أنه سبحانه أنزل عليهم الماء قبل المعركة لتطهيرهم حسيا ومعنويا، ولتقويتهم وطمأنينتهم، وليثبت به أقدامكم، لأنه ينزل على الأرض فيجعل الرمال متماسكة ، لا تسوخ فيها الأقدام ، حتى يسهل المشي عليها . هذا على أن الضمير في( به ) يعود على الماء المنزل من السماء..
قال الزمخشري:( ويجوز أن يعود للربط في قوله :( وليربط على قلوبكم ): لأن القلب إذا تمكن فيه الصبر والجراءة، تبتت القدم في مواطن القتال )( [143] ).
ثم ذكرهم بنعمة أخرى كان لها أثرها العظيم في نصرهم على المشركين فقال سبحانه:( إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان. )(12).
قوله تعالى:(إذ يوحي ربك): المحسن إليك بأفضاله عليك وعلى المؤمنين، وكان من أفضاله عليك، أن أوحى إلى الملائكة بمعيته لهم فقال:(فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ) بقذف الثقة في قلوبهم بنصر الله، وتقوية عزائمهم، والقتال معهم، وتحقير شأن الكفار في نفوسهم.
( وقد قيل: كان المَلَكُ يأتي الرجل من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: سمعت هؤلاء القوم – يعني المشركين – يقولون: والله لو حملوا علينا لننكشفنّ، فيحدث المسلمون بعضهم بعضا بذلك فتقوى أنفسهم )( [144] )
والبنان: الأصابع، وقيل: أطراف الأصابع من اليدين والرجلين . فإذا ضربت البنان تعطل من المضروب القتال بخلاف سائر الأعضاء.
والخطاب في قوله:( فاضربوا ):للمؤمنين، وقيل: للملائكة.والمراد بما فوق الأعناق: الرءوس، أو المراد بها: الأعناق ذاتها، فتكون فوق بمعنى: على.
وقوله تعالى:( سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب ): بشارة عظيمة للمؤمنين، أي: سأملأ قلوب الكافرين بالخوف والفزع منكم أيها المؤمنون، حتى يجبنوا فتتمكنوا منهم.
والرعب: خوف النفس من توقع مكروه، وأصله: التقطيع، من قولهم: رعبت السنام ترعيبا، إذا قطعته مستطيلا، كأن الخوف يقطع الفؤاد. وورد في الحديث الشريف قوله:( أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة. ) متفق عليه.( [145] )
ثم بين سبحانه السبب في تكليفه المؤمنين بمجاهدة الكافرين فقال تعالى: ( ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب. )( 13 ) . فاسم الإشارة:( ذلك ): اسم الاشارة مبتدأ، والاشارة إلى العذاب الذي نزل بهم، ووقع عليهم. وبأنهم: خبر المبتدأ، وجملة شاقوا الله ورسوله: خبر إن. ولفظ الجلالة مفعول به.
وقوله:( شاقوا ): من المشاقة بمعنى المخالفة والمعاداة، مشتقة من الشق، أي: الجانب، فكل واحد من المتعادين أو المتخالفين صار في شق غير شق صاحبه.أو فسطاط غير فسطاط صاحبه، فسطاط كفر، وفسطاط إيمان. والمعنى: ذلك الذي ذكره سبحانه فيما سبق، من تأييده للمؤمنين، وأمره إياهم بضرب الكافرين، سببه: أن هؤلاء الكافرين ( شاقوا الله ورسوله )، أي: عادوهما ، وخالفوا شرعهما،( ومن يشاقق الله ورسوله )( [146] ) أي: ومن يخالف الله ورسوله، ويخرج على طاعته وطاعة رسوله..
وأتت الفاصلة( فإن الله شديد العقاب ) لهذا المعادي والمخالف. مؤكدةً بإن، واسمية الجملة، لإفادة الثبوت والاستمرار، فعقاب الله لاحقٌ بكل من تقع منه المُشَاَّقة من كفار مكة، أو من يأتي بعدهم من الكافرين.
وخُتِمت الآية بصفة لله تعالى، قوامها التهديد والوعيد، لأولئك الذين وقفوا يجابهون الله القوي القهار، ونازعوه- سبحانه –جلاله وكبرياءه، فلا تراهم إلا في عذاب، عذاب أرواحهم ونفوسهم في الدنيا، وفي الآخرة عذاب لا يخطر لهم على بال. وكل من يشاق الله مشاقتهم، فله من التهديد والوعيد ما لهم.
وذكر لفظ الجلالة(الله ) بلفظه دون نيابة الضمير،( أي لم يقل فإنه شديد العقاب ) لأن السابق ليس لفظ الجلالة وحده، بل جاء معه( ورسوله )، فصرح بلفظ الجلالة لتفرد له الصفة الواردة(شديد العقاب)، فإن محاسبة العباد على ذنوبهم يتولاه الله، وما على الرسول إلا البلاغ.
ثم يوجه سبحانه الخطاب على سبيل الالتفات ([147]) لأولئك الذين شاقوا الله ورسوله متوعدا إياهم بسوء المصير فيقول:( ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار (14) ) أسم الاشارة( ذلكم ) مبتدأ، والخبر محذوف تقديره: العقاب. ولد أن تعرب اسم الاشارة خبرا لمبتدأ محذوف، أي: العقاب ذلكم.
فاسم الإشارة( ذلكم ): يعود إلى ما سبق بيانه من تأييد المؤمنين، وخذلان الكافرين . أي: ذلكم الذي نزل بكم أيها الكافرون من القتل والأسر في بدر، هو العقاب المناسب لطغيانكم وعنادكم، فذوقوا آلامه، وتجرعوا غصصه في الدنيا، أما في الآخرة: فلكم عذاب النار ، الذي هو أشد من عذاب الدنيا، فاتركوا الكفر وادخلوا في الإيمان لتنجوا من العذاب، وتنالوا الثواب.
قال سليمان الجمل في حاشيته على الجلالين:( فوضع الظاهر موضع المضمر بأن قال :( فذوقوه وأن للكافرين ) ولم يقل: فذوقوه وأن لكم: للدلالة على أن الكفر سبب للعذاب الآجل، أو للجمع بينهما )([148] )
وبعد أن بين سبحانه بعض البشارات والنعم ، التي ساقها لمؤمنين الذين اشتركوا في بدر، وجه نداء إليهم بالثبات في وجوه أعدائهم ..
قال الله تعالى:
[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ( 15). وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ( 16). فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاَءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ( 17).ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ( 18). إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ( 19) ].
الشرح والتفسير
قوله سبحانه( زحفا ): مصدر زحف، في موضع الحال، وأصله للصبي ، وهو أن يزحف على إسته قبل أن يمشي، ثم أطلق على الجيش الكثيف المتوجه لعدوه، لأنه لكثرته وتكاتفه يرى كأنه جسم واحد يزحف ببطء، وإن كان سريع السير.
و( الأدبار ): جمع دبر – بضمتين – وهوالخلف، ومقابله _ القُبُل – وهو الأمام، ويطلق لفظ( الدبر ) على الظهر، وهو المراد هنا.
والمراد من: تولية الأدبار: الإنهزام، لأن المنهزم يولي ظهره وقفاه لمن انهزم منه. وعدل من لفظ( الظهور ) إلى الأدبار، تقبيحا للإنهزام، وتنفيرا منه، لأن القبل والدبر: يكنى بهما عن السوأتين.
والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بالله حقا ،( إذا لقيتم الذين كفروا زحفا ) أي: زاحفين نحوكم لقتالكم،( فلا تولوهم الأدبار ) أي: فلا تفروا منهم، ولا تولوهم ظهوركم منهزمين، بل قابلوهم بقوة وغلظة وشجاعة، فإن من شأن المؤمن أن يكون شجاعا لا جبانا، ومقبلا غير مدبر.
ثم بين سبحانه أن تولية الأدبار محرمة إلا في حالتين: فقال تعالى:( ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله، ومأواه جهنم وبئس المصير).
* ما الفرق بين إدبار وأدبار.. ؟
قال تعالى في سورة ق(وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ(40)) وقال في سورة الطور(وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ(49)).
الأدبار جمع دُبّر بمعنى خلف كما يكون التسبيح دُبُر كل صلاة أي بعد انقضائها، وجاء في قوله تعالى في سورة الأنفال(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ(15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(16)). أما الإدبار فهو مصدر فعل أدبر مثل أقبل إقبال والنجوم ليس لها أدبار، ولكنها تُدبر أي تغرُب عكس إقبال.
وقوله:( متحرفا ): من التحرف بمعنى الميل والإنحراف من جهة إلى جهة ، بقصد المخادعة في القتال، وهو منصوب على الحالية .
وقوله:( أو متحيزا إلى فئة ): من التحيز بمعنى الانضمام، تقول: حزت الشيئ أحوزه: إذا ضممته إليك . وأصل متحيز: متحيوز، فاجتمعت الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء بالياء..
والفئة: الجماعة من الناس،سميت بذلك: لرجوع بعضهم إلى بعض في التعاضد والتناصر. والخطاب لجميع المؤمنين، وليس خاصا بأهل بدر. والمعنى: أن تولية الأدبار محرمة إلا في حالتين:
الحالة الأولى: أن يكون المؤمن عند توليته الأدبار مائلا من مكانه إلى مكان آخر أصلح للقتال فيه، أو أن يوهم عدوه بأنه منهزم أمامه استدراجا له، ثم يكر عليه فيقتله.
الحالة الثانية: أن يكون في توليه منحازا إلى جماعة أخرى من الجيش ، ومنضما إليها للتعاون معها على القتال، وهذا كله من أبواب خدع الحرب ومكايدها. وقد توعد سبحانه الذي ينهزم أمام الأعداء في غير هاتين الحالتين، بقوله:( فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير )، أي: ومن يول الكافرين يوم لقائهم دبره، غير متحرف ولا متحيز، فقد رجع متلبسا بغضب من الله، لأن التولي يوم الزحف من الكبائر التي وردت في الحديث الشريف، ومأواه الذي سيأوي إليه في الآخرة: هو دار العقاب المعدة للعصاة والكفار، جهنم وبئس المصير.
وقوله:( فقد باء بغضب من الله ): جواب الشرط لقوله: ومن يولهم.
* ما دلالة كلمة باء فى الآية..؟
التبوء هو الاتخاذ، باء بمعنى رجع إلى مكانه وكأنما الإنسان لما يخرج من بيته يرجع إليه دائماً، يعني يبوء إلى داره،(وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(16) رجع من عمله بغضب من الله سبحانه وتعالى،(إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ(29: المائدة) ترجع من هذا العمل حاملاً إثمي..ثم بين سبحانه بعض مظاهر فضله عليهم ليزدادو شكرا له، وطاعة لأمره.. فقال تعالى:( فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ولبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم ) والمعنى: إنكم أيها المؤمنون لم تقتلوا المشركين في بدر بقوتكم وشجاعتكم، ولكن الله تعالى هو الذي أظفركم عليه بحوله وقوته، بأن خذلهم، وقذف في قلوبهم الرعب، وقوى قلوبكم، وأمدكم بالملائكة، ومنحكم من معونته ورعايته ما بلغكم هذا النصر.
والفاء في قوله( فلم تقتلوهم ): جواب شرط محذوف تقديره: إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم بقوتكم وفعلكم،( ولكن الله قتلهم ) بنصره لكم وتأييدكم، لأنه هو الذي أنزل الملائكة، وألقى الرعب في قلوبهم، وشاء لكم النصر والظفر، وأذهب عن قلوبكم الفزع والجزع.
وقوله:( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ): أي: ما أوصلت الحصباء إلى أعينهم إذ رميتهم، ولكن الله هو الذي أوصلها إليها. لأنك لو رميتها ما بلغ أثرها إلا ما يبلغه أثر رمي البشر، ولكنها كانت رمية الله ، حيث أثرت ذلك الأثر العظيم( [149] ).
وقوله سبحانه:( وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا ): بيان لبعض وجوه حكمته سبحانه في خذلان الكافرين، ونصر المؤمنين.
وقوله:( ليبلي ): من البلاء بمعنى الإختبار، وهويكون بالنعمة لإظهار الشكر، كما يكون بالمحنة لإظهار الصبر. والمراد به هنا: الإحسان والنعمة والعطاء ، ليزداد المؤمنون شكرا لربهم على ما وهبهم من نعم. واللام: للتعليل.
وقوله:( إن الله سميع عليم ): تذييل قصد به الحض على طاعة الله والتحذير من معصيته. أي: إن الله سميع لأقوالكم ودعائكم، عليم بضمائركم وقلوبكم، فاستبقوا الخيرات لتنالوا المزيد من رعايته ونصره.
والسميع:
هو الذي لا يعزب عن إدراكه مسموع وإن خَفِي، فهو سميع بغير جارحة وهو الذي وسع سمعه كل شيء.( [150] ) والعليم:
هو العالم بما كان وبما يكون قبل كونه،وبما يكون ولما يكن بعد قبل أن يكون([151])
المناسبة بين هذه الفاصلة والآيات السابقة:
أي أن الله سميع عليم بما يجول في خواطركم من خوف ورجاء، ومجابهة القوم لأول مرة، مع ضعفكم وقلة عددكم، سميع لدعواتكم الحارة، عليم بما وَقَرَ في نفوسكم وقلوبكم.
وفصلت الفاصلة:(إن الله سميع عليم )عن المقطع الذي قبلها( وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا ) لكمال الاتصال بينهما، فإن مضمونهما متلازمان. وأكدت الفاصلة بمؤكدين:( إن، واسمية الجملة.. )..
وذكر المسند إليه( الله ) بلفظه دون نيابة ضمير، ليذكرهم بمعيته لهم، فيركنوا إلى جانبه، ويخرجوا من حولهم وقوتهم إلى حَوْلِهِ وقوته.
وجاء المسند( سميع عليم ): مجرداً عن التعريف،وبصيغة المبالغة،( [152] ) لإفادة الإحاطة، والسعة والشمول. ما يجعلهم يديمون مراقبة أعمالهم، ومراجعة أنفسهم، لإحاطته – سبحانه – بخفايا صدورهم.
ثم يقرر سبحانه سنة من سننه التي لا تتخلف، وهي: تقوية الحق، وتوهين الباطل …. فيقول:( ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين ).
قال الإمام الرازي:( قرأ حفص عن عاصم ( موهن ) بالإضافة، وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، بفتح الواو وتشديد الهاء والتنوين وقرأ الباقون بالتخفيف، من أوهنته: فأنا موهنه: بمعنى أضعفته. وتوهين كيدهم يكون بأشياء منها: إطلاع المؤمنين على عوراتهم، وإلقاء الرعب في قلوبهم،وتفريق كلمتهم. )([153] )
واسم الإشارة( ذلكم ): مبتدأ، وخبره محذوف أي: الأمر، ويعود إلى ما تقدم من إبلاء المؤمنين، وإبطال كيد الكافرين.. قال ابن كثير:( وهذه إشارة أخرى مع ما حصل من النصر، فإنه أعلمهم بأنه مضعف كيد الكافرين فيما يستقبل، مصغر أمرهم، وأنهم في تبار ودمار. )([154] )
وعبر بـ(موهن ) دون( مضعف أو مبطل ) لأن فيها معنى الضعف مع التدرج والاستمرار، وكذلك كيد الله بالكافرين، فيه تَدَرُّجٌ مَع َاستمرار، حتى يأتي عليهم من كل جانب..ومنه قوله تعالى: على لسان زكريا - عليه السلام- لما كَبر ووهنَ عظمه وضعف، ولم يكنّ له قدرة على الإنجاب، فدعا الله –تعالى بهذا الدعاء ليرزقه الذرية الصالحة( قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي... الآيات )( مريم: 4-5) " ونستفيد من هذه الآية أن الإنسان مهما تبين له الأمر صعبًا ومستحيلًا عليه أن يدعو الله بإلحاح وتذلل، فقد استجاب الله -تعالى- لزكريا -عليه السلام- وبشره بأنه سيكون له غلام وهذا من نعم الله عليه، قال تعالى: ) يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً( ) مريم: 7 ) وأسند الوهن إلى العظم وهو عماد البدن وعماد الجسم، فإذا أصابه الضعف أصاب البدن كله، وإذا كان العظم واهنا كان ما وراءه أوهن.
أما لو قال( وهن عظمي مني ) لما أفاد ما أفاده التعبير الأول، بل يفيد أن عظمه فيه وهن، ولكن بقية أعضاء جسمه لا وهن فيها، ووحد( العظم )لإرادة الجنس، أي أن عظام جسمه كلها قد وهنت لا بعضها.
.ومن تمام وعد الله لهم وفضله عليهم، أنه جاء مؤكداً بأداتي التوكيد( أَن، والإسمية )، وجاء المسند إليه( الله ) معرفاً بالعلمية دون نيابة الضمير، ليأنس المؤمنون ويفرحوا بتكرار وقوع نعمه عليهم، وبترديد اسمه الجليل.
ففي الآية: بشارة أكيدة للمؤمنين.. بتوهين عزائم أعدائهم، ومَحْقِ كيدهم ومكرهم، لتقوى عزائمهم على قتاله، وليثقوا بنصر الله، فَيُبْلُونَ البلاء الحسن، ويبذلون جهدهم لتحقيق وعد الله في الكافرين.
وبعد أن ذكر سبحانه عباده المؤمنين بما حباهم من منن في غزوة بدر، أتبع ذلك بتوجيه الخطاب إلى الكافرين الذين حملهم الرسوخ في الكفر ، على أن يدعوا الله أن يجعل الدائرة في بدر تدور على أضَل الفريقين، فقال تعالى:( إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح، وإن تنتهوا فهو خير لكم ، وإن تعودوا نَعُد، ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت، وأن الله مع المؤمنين ) روى الإمام أحمد والنسائي والحاكم وصححه، عن ثعلبة، أن أبا جهل قال حين التقى القوم في بدر: اللهم أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا نعرفه، فأَحِنْهُ أي أهلكه - الغداة ، فكان المستفتح )( [155] ) .
وعن السدي: أن المشركين حين خرجوا من مكة إلى بدر، أخذوا بأستار الكعبة، وقالوا: اللهم انصر أهدى الجندين، وأكرم الفئتين، وخير القبيلين، فقال تعالى – إن تستفتحوا - . )([156] ). وقوله:( إن تستفتحوا ) أي: إن طلبتم الظفر والاستنصار، أو الحكم، أو القضاء والفصل. والفتح: إزالة الإغلاق والإشكال.([157] )
والمعنى: أن تطلبوا الفتح: أي: القضاء والفصل بينكم وبين أعدائكم المؤمنين :( فقد جاءكم الفتح ) أي: فقد جاءكم الفصل والقضاء فيما طلبنم، حيث حكم الله وقضى بينكم وبين المؤمنين، بأن أعزهم ونصرهم لأنهم على الحق، وخذلكم وأذلكم لأنكم على الباطل. فالخطاب مسوق للكافرين على سبيل التهكم بهم، والتوبيخ لهم. حيث طلبوا من الله تعالى: القضاء بينهم وبين المؤمنين، والنصر عليهم، فكان الأمر على عكس ما أرادوا، حيث حكم الله فيهم بحكمه العادل، وهو: خذلانهم لكفرهم وجحودهم، وإعلاء كلمة المؤمنين، لأنهم على الطريق القويم.
وقوله:( وإن تنتهوا فهو خير لكم ): أي: وإن تنتهوا عن الكفر، وعداوة الله ورسوله ، ففي ذلك سلامة من الحرب والهزيمة، ونجاة من العقاب .
وقوله:( وإن تعودوا نعد، ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت ): تحذير لهم من التمادي في الباطل، بعد ترغيبهم في الانقياد للحق. أي: ( وإن تعودوا ) إلى محاربة الرسول – صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين وعداوتهم( نعد )عليكم بالهزيمة والذلة، وعلى المؤمنين بالنصر والعزة، ولن تستطيع فئتكم وجماعتكم( ولو كثرت ) أن تدفع عنكم شيئا من تلك الهزيمة، وهذه الذلة ، فإن الكثرة والقوة لا وزن لها ولا قيمة ، إذا لم يكن الله مع أصحابها بعونه وتأييده.
وقوله:( وأن الله مع المؤمنين ): تذييل قصد به تثبيت المؤمنين، أي: فإن الله مع المؤمنين بعونه وتأييده. ومن كان الله معه، فلن يغلبه غالب مهما بلغت قوته.
ومن المفسرين من يرى أن الخطاب في الآية الكريمة للمؤمنين، وعليه يكون المعنى:( إن تستفتحوا ) أي: تطلبوا أيها المؤمنون النصر على أعدائكم( فقد جاءكم الفتح ) أي: فقد حاءكم النصر من عند الله كما طلبتم،( وإن تعودوا ) إلى المنازعات والتكاسل( نعد ) عليكم بالإنكار وتهييج الأعداء ،( ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت )، أي : ولن تفيدكم كثرتكم شيئا مهما كثرت ، إن لم يكن الله معكم بنصره، وأن الله تعالى مع المؤمنين الصادقين في إيمانهم وطاعتهم له.
وكون الخطاب للكافرين: أرجح، لأن أسباب النزول تؤيده. فقد ذكرت أن أبا جهل حين التقى القوم قال:( اللهم أينا أقطع للرحم فأحِنهُ الغداة ) قال ابن جرير: فكان ذلك استفتاحه، فأنزل الله في ذلك:( إن تستفتحوا..).([158] ) ومما يرجح أن الخطاب في قوله :( إن تستفتحوا ) للكافرين، أن بعض المفسرين - كابن جرير، وابن كثير – ساروا في تفسيرهم للآية على ذلك، وأهملوا الرأي القائل: بأن الخطاب للمؤمنين، كما أن صاحب الكشاف ذكره بصيغة:( وقيل ) وصدر كلامه بكون الخطاب للكافرين( [159] )
ثم وجهت السورة الكريمة نداء ثانيا إلى المؤمنين، أمرتهم بطاعة الله ورسوله، ونهتهم عن التشبه بالكافرين، وأمثالهم من المنافقين …
فقال الله تعالى:
[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ( 20). وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ( 21). إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ( 22). وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرضُونَ( 23). ]
الشرح والتفسير
والمعنى: يا أيها الذين آمنوا حق الإيمان، أطيعوا الله ورسوله في كل أحوالكم،( ولا تولوا عنه ) ، أي: ولا تعرضوا عنه، فإن في إعراضكم خسارة لكم في الدنيا والآخرة.
قال الآلوسي:( وأعيد الضمير إليه - صلى الله عليه وسلم - لأن المقصود طاعته، وذكر طاعة الله توطئة لطاعنه، وهي مستلزمة لطاعة الله تعالى، لأنه مبلغ عنه. )([160] )
وقوله :( وأنتم تسمعون ): جملة حالية من الواو في "تَوَلَّوا". مسوقة لتأكيد وجوب الإنتهاء عن التولي مطلقا، لا لتقييد النهي عنه بحال السماع. أي: أطيعوا الله ورسوله أيها المؤمنون، ولا تتولوا عنه والحال أنكم تسمعون القرآن الناطق بوجوب طاعته.
والمنفي في قوله تعالى:( وهم لا يسمعون ) : سماع خاص، وهو سماع التدبر والاتعاظ، لكنه جيئ به على سبيل الاطلاق، للإشعار بأنهم قد نزلوا منزلة من لم يسمع أصلا،أو لا يسمعون سماع قبول وتنفيذ يُنتفع به، فكان سماعهم كعدمه ، حيث إنه سماع لا وزن له، ولا فائدة من ورائه. جملة "وهم لا يسمعون" حالية من الضمير في "نا" من " سمعنا ".
ثم وصف سبحانه الكفار والمنافقين وصفا يحمل العقلاء على النفرة منهم، فقال:( إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ). والدواب: جمع دابة، وهي: كل ما يدب على الأرض .
قال سليمان الجمل:( وإطلاق الدابة على الإنسان لما ذكروه في كتب اللغة من أنها تطلق على كل حيوان ولو آدميا، وفي المصباح المنير: الدابة: كل حيوان في الأرض مميزا أو غير مميز. )([161] ). والمعنى: إن شر ما يدب على الأرض( عند الله ) أي: في حكمه وقضائه، هم أولئك( الصم ) عن سماع الحق، فلا يسمعون له سماع قبول، ( البكم ) الذين لا ينطقون بالحق ولا يتكلمون به ،( الذين لا يعقلون ) أي: الذين لا ينتفعون بعقولهم في سماع الحق وقبوله، والتمييز بينه وبين الباطل.
ووصفهم سبحانه بذلك مع أنهم يسمعون وينطقون: لأنهم لم ينتفعوا بهذه الحواس، بل استعملوها فيما يضر ويؤذي، فكان وجودها فيهم كعدمه.
وقدم الصم على البكم: لأن صممهم عن سماع الحق متقدم على بكمهم، فإن السكوت عن النطق بالحق من فروع عدم سماعهم له ، كما أن النطق به من فروع سماعه.
وقوله:( الذين لا يعقلون ): تحقيق لكمال سوء حالهم، لأن الأصم الأبكم إذا كان له عقل ربما فهم بعض الأمور، أما إذا كان فاقد العقل: فإنه في هذه الحالة يكون قد بلغ الغاية في سوء الحال
وقوله:( ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ): بيان لما جبلوا عليه من إيثار الغي على الرشد، والضلالة على الهداية. أي: ولو علم الله تعالى في هؤلاء الصم البكم،( خيرا ) ، أي: استعدادا للإيمان، ( لأسمعهم ) سماع تفهم وتدبر ، ولكنه سبحانه لم يعلم فيهم شيئا من ذلك، فحجب خيره عنهم بسبب سوء استعدادهم. لذا قال سبحانه:( ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ): أي: عن قبوله جحودا وعنادا. وجملة "وهم معرضون" حالية من الواو في "تولَّوا" في محل نصب.
ثم وجه سبحانه إلى المؤمنين نداء ثالثا، أمرهم فيه بالاستجابة لتعاليمه، وحذرهم من الأقوال والأعمال التي تكون سببا في عذابهم، وذكرهم بجانب من مننه عليهم ..
فقال الله تعالى:
[ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ( 24). وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ( 26) ].
الشرح والتفسير
السبن والتاء: للطلب. والاستجابة: هي الاجابة بنشاط وحسن استعداد والمراد بقوله:( لما يحييكم ): القرآن، أو الجهاد لأنه سبب الحياة في الظاهر، قال تعالى:( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء … الآية )، أو العلم.
والمعنى: يا أيها المؤمنون بالله حق الإيمان استجيبوا لله والرسول - - صلى الله عليه وسلم - عن طواعية واختيار وحسن استعداد ، إذا دعاكم لما يصلح أحوالكم، ويرفع درجاتكم، من الأقوال النافعة، والأعمال الحسنة، فتظفرون بالسعادتين: الدنيوية، والأخروية. والضمير في قوله:( إذا دعاكم ): يعود للرسول، لأن دعوة الله تعالى تسمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله:( واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه ): تحذير لهم من الغفلة عن ذكر الله. و( يحول ): من الحول بين الشيئ والشيئ، بمعنى الحجز والفصل بينهما.
والمعنى:( إن الله تعالى يحول بين المرء وبين ما يتمناه ويريده بقلبه، فإن الأجل يحول دون الأمل.فكأنه قال: بادروا إلى الأعمال الصالحة، ولا تعتمدوا على ما يقع في قلوبكم من توقع طول البقاء، فإن ذلك غير موثوق به . وإنما حسن إطلاق لفظ القلب على الأماني الحاصلة في القلب،لأن تسمية الشيئ باسم ظرفه جائزة، كقولهم: سال الوادي..)( [162] )
وقوله:( وأنه إليه تحشرون ): تذييل قصد به تذكيرهم بأهوال يوم القيامة
والضمير في قوله( وأنه ): يعود إلى الله تعالى، أو: هو ضمير الشأن أي: وأنه سبحانه إليه وحده ترجعون إليه لا إلى غيره، فيحاسبكم على ما قدمتم وما أخرتم، ويجازي كل إنسان بما يستحقه من خير أو شر.
ثم يؤكد سبحانه بعد ذلك ترهيبه لهم من التراخي في تغيير المنكر،
فيقول:( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب ).
والفتنة: من الفَتْن، وهو إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته،واستعمل في إدخال الإنسان النار.
والمراد بالفتنة هنا: العذاب الدنيوي : كالأمراض، والقحط، واضطراب الأحوال، وتسلط الظلمة، وعدم الأمان ، وغير ذلك من المحن والمصائب. والخطاب لجميع المؤمنين في كل زمان ومكان. والمعنى: داوموا أيها المؤمنون على طاعة الله بقوة ونشاط، واحذروا من أن ينزل بكم عذاب سيعم عند نزوله الأخيار والفجار، والمحسنين والمسيئين.. وقوله " لا تصيبن": "لا" ناهية، والفعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد، في محل جزم، والنون لا محل لها، والفاعل ضمير هي، والموصول مفعول به، والنهي في الصورة للمصيبة، وفي المعنى للمخاطبين، والجملة معمولة لقول محذوف، ذلك القول هو الصفة أي: فتنة مقولا فيها: "لا تصيبن" أي: لا تتعاطوا أسبابا تصيبكم فيها مصيبة لا تخص ظالمكم. وجملة "لا تصيبن" مقول القول في محل نصب. والتقدير: فتنة مقولا فيها كذا. والجار "منكم" متعلق بحال من الواو أي: ظلموا كائنين منكم، "خاصة" حال من المفعول، وهو الموصول أي: لا تصيبن الظالمين خاصة، بل تعمهم وتعُمُّ غيرهم.
وقوله:( واعلموا أن الله شديد العقاب ): المراد منه: الحث على لزوم الاستقامة خوفا من عقاب الله. أي: واعلموا أن الله شديد العقاب لمن خالف أمره، وانتهك حرماته.
وقد دلت الآية الكريمة على وجوب الإقلاع عن المعاصي، ووجوب محاربة مرتكبيها، فإن الأمة التي تشيع فيها المعاصي والمظالم والمنكرات، ثم لا تجد من يحاربها،ويعمل على إزالتها، تستحق العقوبة جزاء سكوتها.
وبعد أن أمر سبحانه المؤمنين بالاستجابة له، ونهاهم عن الوقوع في المعاصي، أخذ في تذكيرهم بجانب من فضله عليهم، فقال:( واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس..). أي: اذكروا وقت أن كنتم قلة مستضعفة تخشى أن يأخذها أعداؤها أخذا سريعا، فرفع الله عنكم بفضله هذه الحال، وأبدلكم خيرا منها،بأن( آواكم ) إلى المدينة، وألف بين قلوبكم يا معشر المهاجرين والأنصار(وأيدكم بنصره ) في بدر،( ورزقكم من الطيبات ) ، أي: من الغنائم، التي أحلها لكم بعد أن كانت محرمة على الذين من قبلكم. وقوله:( لعلكم تشكرون ): تذييل قصد به حضهم على مداومة الشكر والطاعة لله عز وجل. ثم وجه سبحانه بعد ذلك نداء رابعا وخامسا إلى المؤمنين ..
فقال الله تعالى :
[ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ( 27). وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ( 28). يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ( 29).]
الشرح والتفسير
روى المفسرون في سبب نزول قوله تعالى:( يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا ) عدة روايات منها: ما جاء عن ابن عباس ، من أنها نزلت في أبي لبابة حين بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم – إلى بني قريظة ، فقالوا له: يا أبا لبابة ما ترى..؟ أننزل على حكم سعد بن معاذ فينا..؟ فأشار إلى حلقه، أي: أن حكم سعد فيكم سيكون الذبح فلا تنزلوا.. قال أبو لبابة: والله ما زالت قدماي عن مكانهما، حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله.وقيل غير ذلك.( [163] ) وقال ابن كثير:( والصحيح أن الآية عامة، وإن صح أنها وردت على سبب خاص، فإن الأخذ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب هو المعتمد عند الجماهير من العلماء )( [164] )
وقوله:( لا تخونوا ): من الخون بمعنى النقص. قال في الكشاف:( معنى الخون: النقص، كما أن معنى الوفاء: التمام. )([165] )
والمقصود بخيانة الله: ترك فرائضه وأوامره التي كلف العباد بها. وانتهاك حرماته التي نهى عن الاقتراب منها.
والمقصود بخيانة الرسول: إهمال سنته.
والمقصود بالأمانات: الأسرار والعهود والودائع وغير ذلك من الشئون التي تكون بينهم وبين غيرهم، مما يجب أن يحفظ ويصان.
وأعاد النهي: للإشعار بأن كل واحد من المنهي عنه مقصود بذاته، اهتماما به. وقوله:( وأنتم تعلمون ): جملة حالية من الواو في "تخونوا، والمفعول: محذوف. أي: والحال أنكم تعلمون سوء عاقبة الخيانة في جميع صورها، لتنالوا رضى الله ومثوبته. ولما كان حب الأموال والأولاد والاشتغال بهم من أهم دواعي الإقدام على الخيانة، نبه سبحانه إلى ذلك، فقال:( واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم ). أي: واعلموا أيها المؤمنون أنما أولادكم وأولادكم فتنة، أي: امتحان واختبار لكم من الله تعالى، ليتبين قوي الإيمان من ضعيفه. أما قوي الإيمان: فلا يشغله ماله ولا ولده عن طاعة الله، وأما ضعيف الإيمان فيشغله ذلك عن طاعة الله، ويجعله يعيش عبدا لأمواله ، وأولاده، حتى ولو كانت هذه الطاعة متنافية مع تعاليم دينه. وقوله:( وأن الله عنده أجر عظيم ): تذييل قصد به: ترغيب المؤمنين في طاعة الله، بعد أن حذرهم من فتنة المال والولد.
ووصلت ا لفاصلة(وأن الله عنده أجر عظيم) بالآية قبلها(واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة ) وأكدت بـ(أن، واسمية الجملة )، لأن خلوص النفس من حب الأموال والأولاد أمرٌ عَسيرٌ يكلفها صبراً ومجاهدة، ولا يُطَمئنها إلا وعد الله الأكيد بالأجر والمثوبة.
وذكر المسند إليه(الله) معرفا بالعلمية، لمناسبة الوعد بالثناء الحميد، إذ لفظ الجلالة(الله) له من معاني الجلال والقدرة والرحمة، ما يناسب الوَعد، إنْ وَفَّى العبدُ بالعهد.
وجاء المسند(أجر) نكرة، للتكثير والتعظيم، لِيَتَشَوَّفَ العبد إلى كثرة صنوفه وأشكاله، وتتسع أفكارهم للتأمل في سعته وعظمته.
ولتقدم الظرف على المسند، إفادة معنى العندية والقرب من الله تعالى، فمن تمام النعيم الذي أعطاهم، أن جعله في قُربِهِ ورِحابِهِ، فنعمت الدار، ونعم الجار.
وجاءت الجملة اسمية، لدوام ثبوت أجرالله للمجاهدين المخلصين، الذين آثروا الله ومثوبته على علائق الدنيا الفانية. وقيد المسند(أجرٌ) بالنعت(عظيم)، لزيادة تقريبه بهذا الوصف إلى الأذهان، فإلى كونه نكرة أفاد الكَثْرَةَ والسَّعَة، وجاء موصوفا بالعِظَم والفخامة، ليزدادوا تَشَوُّفاً إليه، وطمعاً فيه.
ثم ختم الله سبحانه نداءاته للمؤمنين بهذا النداء الذي يهديهم إلى سبل الخير والفلاح فقال:( يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم ). والفرقان في كلام العرب: مصدر من قولهم: فرقت بين الشيئ والشيئ، أفرق بينهما فرقا وفرقانا، أي: أفرق وأفصل بينهما.
ومعنى( يجعل لكم فرقانا ): أي مخرجا، أو نجاة، وقال بعضهم: فصلا وفرقا بين حقكم ، وباطل من يبغيكم السوء من أعدائكم.([166] )
وقال الآلوسي:( ويجعل لكم فرقانا ):( أي: هداية ونورا في قلوبكم تفرقون به بين الحق والباطل. )([167] ) ويمكننا الجمع بين هذه المعاني، فنقول: يا أيها الذين آمنوا إن تصونوا أنفسكم عن كل ما يغضب الله، وتطيعوه في السر والعلن، يجعل لكم في قلوبكم هداية ونورا تفرقون بهما بين الحق والباطل، ومخرجا من الشبهات التي تقلق النفوس، ونجاة مما تخافون، وفضلا عن ذلك: فإنه يكفر عنكم سيئاتكم، بأن يستر عليكم في الدنيا، ويغفر لكم يوم القيامة .
وقوله تعالى: ( والله ذو الفضل العظيم ): تذييل قصد به التعليل لما قبله، والتنبيه على أن ما وعد به سبحانه المؤمنين على تقواهم، إنما هو تفضل منه لهم، فهو سبحانه صاحب العطاء الجزيل، والخير العميم لمن أطاعه واتقاه، وصان نفسه عما يسخطه ويغضبه.
ووصلت الفاصلة(والله ذو الفضل العظيم ) بالآية قبلها : ( وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) لاتحادها في المعنى، فالهدى، والفرقان، وتكفير السيئات، كلها من الفضل العظيم.
وجاء لفظ الجلالة(والله) بلفظه دون الضمير، لتزداد القلوب تعلقا وتشوفا لفضل إلهها...وأتى المسند(ذو الفضل العظيم ) مقيداً بالنعت، ليزداد الوصف وضوحاً وقرباً للأذهان، فتزداد معرفة وبصيرةً بهذه الصفة لربها، فهو صاحب الفضل، والفضل منه وإليه....وزاد فضله فضلاً أن جعله عظيماً كثرةً وسعة، لو أعطى كل سائل مسألته، ما نقص ذلك من ملكه إلا كما ينقص المخيط من ماء البحر.( [168] ) وجاء الفضل ووصفه معرفا بأل التعريف التي تكون للجنس، ليعلم خلقه أن أبواب فضله لا تُحيط بها عقولهم، ولا تأتي عليها مسائلهم. وتكون للاستغراق، ليعلموا أن فضله لا يحده حدّ، ولا تبلغه غاية، تقصر ُعنه المسائل، وتعجز دونه الآمال. وجاءت الجملة اسمية، ليكون للصفة الجليلة من الدوام والاستمرار ما يجعل عباد الله يديمون التوجه إليه، والاعتماد عليه..
ما دلالة استعمال وصف العظيم مع الفضل في الآية..؟
قال تعالى في سورة الأنفال( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ(29) تعدد الفضل وذكر منه: يجعل لكم فرقاناً، ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم ، إذن فهذا فضل متعدد وأُسند مباشرة إلى الله تعالى فاستعمل كلمة العظيم.
لماذا ذكر التكفير مع السيئات ولم يذكر شيئاً مع المغفرة في آية سورة الأنفال(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ(29))...؟
الذنب كبير، والسيئة هي الشيء الذي يسيئك ويسيء إليك، وقد يكون طارئاً ، أما الذنب ففيه معنى الالتصاق، ومنه أُخِذ ذَنَب الحيوان لالتصاقه به، فالسيئة سريعة المحو، أما الذنب فيلتصق، ولذلك الغفران فيه معنى القطع. وإذا رجعنا الى حيث ما وردت كلمة الغفران بكل صيغها(يغفر، نغفر،وغيرها) والتكفير(يكفّر عنكم) وجدنا أن التكفير خاص بالسئيات، والغفران خاص بالذنوب في كل القرآن. كلمة كفر وغفر تختلفان فقط في أن الغين أقوى من الكاف، فالغفران أقوى من التكفير، والذنب أشد من السيئة، فالسيئات هي التي تُكفّر إذا اجتنبت الكبائر وفي الكلمتين(كفر وغفر) معنى التغطية والقطع. ولننظر في استعمال كفّر وغفر نجد أنه قد شُدّدت كلمة(كفّر) ولم تشدد كلمة غفر مع أنه جائز لغة وتشديد كلمة(كفّر) لأن السيئات أو صغائر الأمور هي كثيرة عند الناس وكثيراً ما يقع الإنسان في الصغائر، لكن عليه الانتباه ، وأن لا يستهين بالسيئات، لأن الإنسان لا يدري ما الذي يُدخله النار، لكن الوقوع في الكبائر نادر عند المؤمن، أما اللمم فكثيرة ، لذا استعمل صيغة التكفير مع السيئات(نكفر عنكم سيئاتكم)..
ثم تفتح السورة الكريمة الباب في وجوه الجاحدين المعاندين، وتأمر المؤمنين أن ينصحوهم بالدخول في دين الله، فإذا لم يستجيبوا لنصحهم، فعليهم أن يقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله ..
فتقول : [ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ( 30). وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْن+َا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ( 31). وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ( 32). وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ( 33). وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ( 34). وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ( 35). إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ( 36). لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ( 37). قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّت الأَوَّلِينَ( 38). وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ( 39). وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ( 40).
الشرح والتفسير
بعد أن عدد الله ما أنعم به على المؤمنين عامة، ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - بما أنعم عليه خاصة، فذكره - صلى الله عليه وسلم - بأنه نجاه من مكر الكافرين وكيدهم، ورد كيدهم إلى نحورهم، وبين ما كان يحصل منهم من جحود وإنكار، واستهزاء، وإصرار على الكفر، وغير ذلك من الأمور التي تقتضي أن يعذبهم الله تعالى،والظرف( إذ ) مفعول به لأذكر مقدرة، والمعنى: واذكر يا محمد إذ يمكر بك الذين كفروا.. ثم بين أنه سبحانه لم ينزل بهم عذابه المستأصل لأمرين:
الأول منهما: وجود النبي - صلى الله عليه وسلم - بين ظهرانيهم، وقد جرت سنة الله تعالى أن لا يعذب أمة بالاستئصال ما دام نبيهم بينهم، وفي هذا تكريم للنبي - صلى الله عليه وسلم -.
الأمر الثاني: أنه كان فيهم جماعة من المؤمنين المستضعفين، فكانوا يستغفرون الله تعالى، فاستجاب لهم بالإمهال، والحلم، ولم يعجل بعقوبتهم وتعذيبهم.
قال ابن كثير في سبب النزول: عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أته قال:( تشاورت قريش ليلة بمكة في شأن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك بعد أن رأوا أمره قد اشتهر، وأن غيرهم قد آمن به، فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق. وقال بعضهم: بل اقتلوه. وقال بعضهم: بل أخرجوه. ثم اتفقوا أخيرا على قتله. فأطلع الله نبيه على ذلك، وأمره أن لا يبيت في مضجعه، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - علياً أن يبيت مكانه، ففعل ، وخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما أصبح ثاروا إليه، فلما رأوا عليا قالوا له: أين صاحبك..؟ قال: لا أدري، فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا في الجبل فمروا بالغار، فرأو على بابه نسج العنكبوت، فقالوا : لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال... وقد ذكر ابن كثير روايات أخرى( [169] ) ، إلا أننا نكتفي بما أوردناه لدلالته على المقصود.
وقوله:(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا): تذكير من الله تعالى لنبيه وللمؤمنين ببعض نعمه عليهم، حيث نجّى نبيه - صلى الله عليه وسلم - من مكر المشركين حين تآمروا علي قتله وهو بينهم بمكة.
والمكر: هو صرف الغير عما يقصده بحيلة، أو: هو الاحتيال في إيصال الضرر للآ خرين.. وذلك ضربان: مكر محمود، وذلك أن يتحرى بمكره فعلا جميلا. ومكر مذموم: وهو أن يتحرى بمكره فعلا قبيحا( [170] ).
وقوله:( ليثبتوك)، أي: يحبسوك في دارك، فلا تتمكن من دعوة الناس إلى الدين الحق،( أو يقتلوك ): بواسطة مجموعة من الرجال الذين اختلفت قبائلهم، حتى يتفرق دمك في القبائل، فلا تقدر عشيرتك على الأخذ بثأرك،( أو يخرجوك ): أي: من مكة، حتى يحولوا بينك وبين لقاء قومك وأتباعك.
وقوله :( ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ): بيان لموضع النعمة والمنة، أي: والحال أن هؤلاء المشركين يمكرون بك وبأتباعك المكر السيئ، والله سبحانه يرد مكرهم في نحورهم، ويخيب مسعاهم، ويحفظكم من شرورهم. والله سبحانه لا يمكر، ولا يجوز ذلك في حقه – سبحانه -، إذ لا يمكر إلا الضعيف، ولكنه عبر عن فعل الله بالمكر مشاكلة ( [171]) لقوله يمكرون ومن هذه الآية أخذ العلماء جواز نسبة المكر لله تعالى على طريق المشاكلة ([172] ) ، والتعبير بها عن إحكام تدبيره في مقابلة مكرهم، والأخذ للعدو من حيث لا يشعر.
وخُتمت الآية بقوله:(والله خير الماكرين): طَمأنةً للرسول – صلى الله عليه وسلم – والمؤمنين، ولتثبت الثقة والفرح في قلوبهم بانتقام الله لهم من أعدائهم، ووصلت الفاصلة(والله خير الماكرين) بالجملة قبلها(ويمكر الله ) لما بينهما من تناسب في المعنى، إذ جاءت الجملة الأولى بالإخبار عن مَكْرِ الله...
وجاءت الثانية تصف الله تبارك وتعالى بأنه خير الماكرين...
وقرن المكر الإلهي بكلمة(خير)، لأن المكرَ في أذهان الناس شرٌّ كله، وهو ما يتنافى مع معنى هذه الكلمة حين تكون لله، فالرسول – صلى الله عليه وسلم – يقول في دعائه:( الخير كله بيديك، والشر ليس إليك)( [173] )، فما يأتي من ربنا كله خير في خير، وما يأتي عنه من شرٍّ فليس كله شراً محضاً، بل هو شر لإرادة الخير، إذ يبتلي به المؤمنين، ويرفع درجاتهم، ويتخذهم شهداء، ويعمر بالأحياء منهم الأرض، ويمحق الكافرين فتطَّهر الأرض من رجسهم وبغيهم، بل يسعد من بقي منهم في ظل عدالة دولة الإسلام.
وجاءت الجملة اسمية: لتفيد أن مكرَ الله بالكافرين دائم، كلما تصدوا لدينه ولدعوة رسله، ومكره خير دائم للناس أجمعين.. والألف واللام في(الماكرين) للاستغراق، أي: كل الماكرين.
والذي يلفت النظر أن الله تعالى قال عن نفسه(ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) والشائع أن المكر فيه نوع من الدهاء. المكر هو التدبير وفيه نوع من الخفية والسرّية. المكر فِعل من الإنسان، المكر تدبير تستعمله العرب في الغالب للسوء والخداع، كما أن اللغو هو تحريك اللسان بالكلام والألفاظ المصطلح على معانيها ، لغا يلغو لغواً، لكن صار له خصوصية أن اللغو هو الكلام في الموضوعات التي لا فائدة من ورائها، هنا تخصيص دلالي للاستعمال، وهو غير المعنى المعجمي. المكر هو التدبير في الأصل، لكن الاستعمال اللغوي جعله لما فيه إساءة للمقابل، يمكر أي يدبر شيئاً مسيئاً لآخر، يقول تعالى:(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) هذا المكر هو بسببك يا محمد،هم جعلوك سبباً لمكرهم(لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) لديهم ثلاثة خيارات يفكرون فيها، كان الرسول – صلى الله عليه وسلم -. في مكة، والإثبات بمعنى الإقامة لكن العرب تستعملها لضربه بالسيف أو بغيره وإثخان جراحاته بحيث لا يتحرك وهو ليس موتاً(ليثبتوك) معناه ليثخنوك بالجِراح حتى لا تستطيع أن تتحرك، وبعض العلماء قال ليس بهذا المعنى، وإنما ليحصروك في مكان واحد. هم يريدونه أن يضربوه بسيوفهم من غير قتله، يؤذوه في الجراحات فيلزم بيته، ويبقى مدة في بيته، يستقر وننجو من دورانه على القبائل ودعوته مع الناس، وقسم قال نقتله، وقسم قال ننفيه من أرضنا، فهم يمكرون ويدبرون هذا التدبير والله تعالى له تدبير آخر(والله خير الماكرين) أي خير المدبرين، أحسن من يدبر التدبير، هم تدبيرهم فاشل، والتدبير الجيد من الله تعالى، فأي التدبيرين أحكم وأفضل..؟ تدبير الله عز وجل.إذا أخذنا الكلمة على المعنى اللغوي الأساسي أنها للتدبير، وإذا أردنا فيها معنى تدبير السوء فما يلقيه الله تعالى من سوء عليهم، لأن إنجاء الرسول – صلى الله عليه وسلم -.
سوء لهم، ومكر عليهم،وإيذاء لهم، وخسارة لما هم فيه من مناصب وجاه وسلطة لما أقيمت دولة المدينة. مع ذلك يقول بعض العلماء أن الاستعمال هنا يسمى المشاكلة، أي تستعمل اللفظة التي استعملها عدوّك بالمعنى المقارب، وإن كنت لا تعنيه.(ويمكر الله) هذا المكر من الله ليس تدبيراً سيئاً في ذاته، وإنما هو سوء لهم أوسوء عليهم، والأصل في غير القرآن: ويدبر الله لهم العقاب.كما في قوله(فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) صحيح أن اللفظة في دلالتها الأساسية عدوان، لكنها في الحقيقة ردٌ لعدوان وإنما استعملت للمشاكلة. والعرب قديماً فهموا معنى مكر الله تعالى. وإذا رجعنا إلى الأصل اللغوي ليس فيه شيء، وإنما المكر التدبير، وهناك تدبير حسن، وتدبير سيء ونحن يجب أن ننظر للكلمة كما كانت تستعمل عند نزول القرآن،.
دلالة استعمال صيغة المضارع في(ويمكرون) لأنهم مستمرون بعملهم لم يتوقفوا عن ذلك، عندما كان الرسول – صلى الله عليه وسلم -. في مكة كانوا يشتغلون بهذا، وعندما إنتقل إلى المدينة لم يتوقف مكرهم، والتحالف مع القبائل ومضايقة المسلمين، لذا صيغة المضارع إشارة إلى الاستمرار، كلّه استعمله في الحال دليل الاستمرار(ليثبتوك، يقتلوك، يخرجوك).
ثم حكى القرآن بعد ذلك جانبا من الدعاوى الكاذبة التي تفوه بها المشركون فقال تعالى:( وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين ). وقد ذكر كثير من المفسرين أن القائل هو: النَّضِر بن الحارث، فإنه كان قد ذهب إلى بلاد فارس فأحضر منها قصصا عن ملوكهم، ولما قدم مكة، ووجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتلو القرآن، قال للمشركين: لو شئت لقلت مثل هذا، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم – إذا قام من مجلس، جاء بعده النضر فجلس فيه، وحدث المشركين بأخبار ملوك الفرس والروم، وغيرهم، ثم قال: أينا أحسن قصصا..؟ أنا أو محمد..؟ وقد أمكن الله منه يوم بدر، فقد أسره المقداد بن عمرو، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بضرب عنقه، وقال فيه:( إنه كان بقول في كتاب الله – عز وجل – ما يقول ).( [174] )
وأسند سبحانه قول النضر إلى جميع المشركين: لأنهم كانوا راضين بقوله، ولأنه من زعمائهم الذين يقودونهم إلى طريق الغواية.
والأساطير: جمع أسطر، وهو جمع الجمع، والمراد بها: تلك القصص والحكايات التي كتبها الكاتبون عن القدامى، والتي يغلب عليها طابع الحرافة والتخيلات التي لا حقيقة لها.
ولا شك أن قولهم هذا: يدل على تعمدهم الكذب على أنفسهم، وعلى الناس، فإن هذا القرآن قد تحداهم في نهاية المطاف أن يأتوا بسورة من مثله،فعجزوا وانقلبوا خاسرين. وقولهم هذا ما هو إلا من قبيل الحرب النفسية التي كانوا يشنونها على الدعوة الإسلامية، بقصد تضليل البسطاء، والوقوف في وجه تأثير القرآن في القلوب، ومحاولة طمس معالم الحق ولو إلى حين، ولكنهم لم يفلحوا، فإن نور الحق لا تحجبه الشبهات الزائفة.
ثم تمضي السورة في حديثها عن رذائل مشركي قريش، فتحكي لونا عجيبا من ألوان عنادهم، وجحودهم للحق، فتقول:( وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ). أخرج البخاري عن أنس بن مالك أن قائل هذا القول هو: أبو جهل بن هشام. وأخرجه ابن جرير عن ابن رومان ومحمد بن قيس : أن قريشا قال بعضها لبعض: أأكرم الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - من بيننا، اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك، فأمطر علينا حجارة من السماء.([175])
والمعنى: إن هؤلاء المشركين قد بلغ بهم العناد والجحود أنهم لم يكتفوا بإنكار أن القرآن من عند الله، وأن محمدا قد جاءهم بالحق، بل أضافوا إلى ذلك قولهم: اللهم إن كان هذا الذي جاءنا به محمد من قرآن وغيره، هو الحق المنزل من عندك، فعاقبنا على إنكاره والكفر به، بأن تنزل علينا حجارة من السماء تهلكنا، أو تنزل علينا عذابا أليما يقضي علينا.
وفي إطلاقهم( الحق ) على ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وجعله من عند الله، تهكم بمن يقول ذلك.
و( أل ) فيه: للعهد، أي: الحق الذي ادعى محمد أنه جاء به من عند الله. وقوله: من السماء: متعلق بمحذوف صفة لقوله: حجارة
وفائدة هذا الوصف: الدلالة على أن المراد بها حجارة معينة مخصوصة لتعذيب الظالمين. قال صاحب الكشاف:( وهذا أسلوب من الجحود بليغ، يعني: إن كان القرآن هو الحق فعاقبنا على إنكاره بالسجيل، كما فعلت بأصحاب الفيل. ومرادهم: نفي كونه حقا. فإن قلت: ما فائدة قوله( من السماء ): والأمطار لا تكون إلا منها..؟ قلت: كأنهم يريدون أن يقولوا: فأمطر( [176] ) علينا السجيل، وهي
الحجارة المسومة للعذاب، فوضع حجارة من السماء موضع السجيل.)( [177])
ثم تعقب السورة على هذا الدعاء الغريب الذي حكته عن مشركي مكة، فتبين الموجب لإمهالهم، وعدم إجابة دعائهم، فتقول:( وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ). الآية منسوخة ( [178] ) بقوله تعالى:( قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ)(التوبه، 14). واللام في قوله( ليعذبهم ): اللام في "ليعذبهم" للجحود، وهي لتأكيد النفي، وللدلالة على أن تعذيبهم والرسول - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرهم غير مستقيم في الحكمة. والفعل منصوب بأن مضمرة، والمصدر المؤول مجرور متعلق بخبر كان، والتقدير: مريدا للتعذيب. وجملة "وأنت فيهم" حالية من الهاء في "يعذبهم"، وجملة "وهم يستغفرون" حالية من الهاء في "معذبهم" في محل نصب.
والمراد بالاستغفار في قوله :( وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ): استغفار من بقي بينهم من المؤمنين المستضعفين ، الذين لم يستطيعوا مغادرة مكة ، بعد أن هاجر منها النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون.
أي: ما كان الله مريدا لتعذيبهم وأنت فيهم يا محمد، وما كان مريدا تعذيبهم وبين أظهرهم بمكة من المؤمنين المستضعفين من يستغفر الله، وهم الذين لم يستطيعوا مغادرتها، واللحاق بك في المدينة.
ثم بين الله سبحانه بعض الجرائم التي ارتكبها المشركون، والتي تجعلهم مستحقين لعذاب الله، فقال:( وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون ). فالاستفهام في قوله:(وما لهم ): إنكاري بمعنى النفي، أي: لا مانع من تعذيب الله لهم.
وقوله تعالى:( وهم يصدون عن المسجد الحرام ): جملة حالية مبينة لجريمة من جرائمهم الشنيعة، أي: كيف لا يعذبون وحالهم أنهم يمنعون المؤمنين عن الطواف بالمسجد الحرام، ومن زيارته، ومن مباشرة عباداتهم عنده.
وقوله:( وما كانوا أولياءه ):رد على ما كانوا يقولونه بالباطل: نحن ولاة البيت الحرام، فلنا أن نصد من نشاء عن دخوله.
وقوله:( إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون ): بيان للمستحقين لولاية البيت الحرام، بعد نفيها عن المشركين.
أي: إن هؤلاء المشركين ليسوا أهلا لولاية البيت الحرام، وليسوا أهلا لأن يكونوا أولياء لله تعالى بسبب كفرهم وجحودهم، وإنما المستحقون لذلك هم المتقون ، الذين صانوا أنفسهم عن الكفر، وعن الشرك، وعن كل ما يغضب الله، ولكن أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون ذلك بسبب جهلهم، وتماديهم في الجحود والضلال.
وقد جاءت ( إن أولياؤه إلا المتقون ): مؤكدة بأقوى ألوان التأكيد، لنفي كل ولاية على البيت الحرام سوى ولايتهم هم.
ونفى سبحانه العلم عن أكثر المشركين، لأن قلة منهم كانت تعلم أنه لا ولاية لها على المسجد الحرام، ولكنها كانت تجحد ذلك عنادا وغرورا.
ثم حكى سبحانه لونا آخر من ألوان ضلال المشركين وجحودهم، فقال:( وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ).
قال القرطبي:( قال ابن عباس: كانت قريش تطوف بالبيت عراة، يصفقون ويصفرون، فكان ذلك عبادة في ظنهم. والمكاء: الصفير. والتصدية: التصفيق..)([179] )
والمعنى: أن هؤلاء المشركين لم تكن صلاتهم عند البيت الحرام إلا تصفيقا وتصفيرا، وهرجا ومرجا لا وقار فيه، ولا استشعار لحرمة البيت، ولا خشوع لجلال الله تعالى، وذلك لجهلهم بما يجب عليهم نحو خالقهم، ولحرصهم على أن يسيئوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -وهو يقرأ القرآن، أو وهو يطوف بالبيت، أو وهو يؤدي شيئا من شعائر الإسلام وعباداته. وقوله:( فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ): وعيد لهم على كفرهم وجحودهم، واستهزائهم بشعائر الله.وعبر هنا بالإذاقة: لأن المراد: إصابتهم وابتلاؤهم بآلام العذاب ابتلاء بلغ حد الإحساس به، كالشئ الذي يذاق.( [180] )
أي: فذوقوا أيها الضالون العذاب الشديد بسبب كفركم وعنادكم، واستهزائكم بالحق الذي جاءكم به محمد - صلى الله عليه وسلم - من عند الله.
ثم حكى سبحانه ما كانوا يفعلونه من إنفاق أموالهم لا في الخير، ولكن في الشرور والآثام، وتوعدهم على ذلك بسوء المصير فقال:( إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون . )
روى ابن جرير عن سعيد بن جبير، قال :( نزلت في أبي سفيان بن حرب، استأجر يوم غزوة أحد ألفين من الأحابيش من بني كنانة، فقاتل بهم النبي - صلى الله عليه وسلم -
وروى عن الكلبي والضحاك ومقاتل أنها نزلت في المطعمين يوم بدر، وكانوا اثني عشر رجلا من قريش، كان كل واحد منهم يطعم الناس كل يوم عشر جزر )([181] ).
والآية تتناول بوعيدها كل من يبذل أمواله في الصد عن سبيل الله، وفي تأييد الباطل، ومعارضة الحق.
واللام في قوله( ليصدوا..) لام الصيرورة، ويصح أن تكون للتعليل، لأن غرضهم منع الناس عن الدخول في دين الله الذي جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله:( فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون ): بيان لما سيئول إليه أمرهم في الدنيا من الخيبة والهزيمة والندامة. أي: فسينفقون هذه الأموال في الشرور والعدوان، ثم تكون عاقبة ذلك حسرة وندامة عليهم. لأنهم لن يصلوا من وراء إنفاقها إلى ما يبغون ويؤملون، وفضلا عن كل هذا فستكون نهايتهم الهزيمة والإذلال في الدنيا، لأن سنة الله قد اقتضت أن يجعل النصر في النهاية لأتباع الحق، لا لأتباع الباطل.
وتنوين لفظ(حسرة ) ، خبرا عن أموالهم التي أنفقوها، للتهويل والبشاعة
وجاء العطف بحرف العطف( ثم ): للدلالة على البون الشاسع بين ما قصدوه من نفقتهم وبين ما آل ويئول إليه أمرهم. فهم قد قصدوا بنفقتهم الوقوف في وجه الحق، والانتصار على المؤمنين، ولكن هذا القصد ذهب أدراج الرياح، فقد ذهبت أموالهم سدى، وغلبوا المرة بعد المرة، وعاد المؤمنون إلى مكة فاتحين ظافرين، بعد أن خرجوا منها مهاجرين.
وقوله( والذين كفروا إلى جهنم يحشرون ): بيان لسوء مصيرهم في الآخرة، بعد بيان حسرتهم وهزيمتهم في الدنيا. أي: أن هؤلاء الكافرين ستكون عاقبة إنفاقهم لأموالهم الحسرة والهزيمة في الدنيا، أما في الآخرة فسيكون مصيرهم الحشر والسوق إلى نار جهنم لا إلى غيرها. وجاء بالاسم الظاهر الموصول بدل الضمير: للإشعار بأن الذين ثبتوا على الكفر، وأصروا عليه، هم الذين يحشرون إلى جهنم ، وفيه تلويح بأن من لم يصر على كفره، بل أقلع عنه، فله حكم آخر. وتقديم الجار والمجرور على ( يحشرون ): لإفادة الحصر، فهم لا يحشرون لغير جهنم.
وقوله:( ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم..) قوله: ليميز: أي: ليفصل، ويفرق الله الخبيث عن الطيب. وفيها بيان لحكمته سبحانه في هزيمة الكافرين ، و حشرهم إلى جهنم.
وقوله:( فيركمه ): أي: يضم بعضه إلى بعض.
واسم الإشارة في قوله( أولئك هم الخاسرون ): يعود إلى هذا الفريق الخبيث، أي: أولئك الكافرون الذين أنفقوا أموالهم في الصد عن سبيل الله ، هم الخاسرون لدنياهم وآخرتهم. واستعمل اسم الإشارة( أولئك ): الذي يشار به للبعيد، للدلالة على بعد منزلتهم في الضلال والخسران ، وبعدهم عن الخير.
واسمية الجملة: للدلالة على الإستمرار والثبات.
وبعد هذا التهديد والوعيد للكافرين ، يوجه سبحانه خطابه إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - يأمره فيه أن يبلغهم حكم الله إذا ما انتهوا عن كفرهم، كما يأمر المؤمنين أن يقاتلوهم حتى تكون كلمة الله هي العليا، فيقول سبحانه:( قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف، وإن يعودوا فقد مضت سنت الأولين. وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير. وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير ).
أي: قل يا محمد لهؤلاء الذين كفروا بالحق لما جاءهم، إن ينتهوا عن كفرهم وعداوتهم للمؤمنين، يغفر لهم ما قد سلف من كفرهم، وإن يعودوا إلى قتالك، ويستمروا في ضلالهم وكفرهم انتقمنا منهم. فقد مضت سنة الله تعالى في الأولين، في أنه سبحانه يعذب المكذبين بعد إنذارهم، وتبليغهم دعوته، وينصر عباده المؤمنين، وينجيهم ويمكن لهم في الأرض وجواب الشرط لقوله( وإن يعودوا ) محذوف ، والتقدير: وإن يعودوا ننتقم منهم.
وقوله:( فقد مضت سنت الأولين ): تعليل للجواب المحذوف.
والآية حث على الإيمان وترغيب فيه.
لم كتبت كلمة( سنة )بالتاء المفتوحة، وأخرى بالتاء المربوطة ؟؟
سنة، سنت: ذكرت كلمة “سنة” في القرأن الكريم ست مرات في الآيات التالية:( لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين )(الحجر: 13 )
( سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا )( الإسراء: 77)(وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدىٰ ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين )(الكهف: )55 )( ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل )( الأحزاب: 38 )( سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا )( الأحزاب: 62)( سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا)( الفتح: 23 ) أما كلمة “سنت” فقد ذكرت ثلاث مرات في الآيات التالية: { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنت الأولين )(الأنفال: 38)( فهل ينظرون إلا سنت الأولين )( فاطر: 43 )( سنت الله التي قد خلت في عباده )(غافر:85 )
وقد كتبت “سنة” بالتاء المربوطة عندما يكون الحديث في الآيات عن طريقة أو كيفية التعامل الإلهي التي لا تتغير ولا تتبدل مع الأمور، أو القضايا الدنيوية، التي تدل على أن الأمر مغلق ومحدد، أو بالأحرى مخصص.
( ولا تجد لسنتنا تحويلا )( ولن تجد لسنة الله تبديلا ). وكتبت “سنت” بالتاء المفتوحة أو المبسوطة عندما يكون الحديث في الآيات عن طريقة أو كيفية التعامل الإلهي مع الأمور، أو القضايا الأخروية، التي تدل على أن الأمر مفتوح ولم يحدد، أي أن الأمر عام ومفتوح، ومن ثم تكون “سنت” هنا ضمن السنة المفتوحة كَتائِها.( [182] )
وقوله:( وقاتلوهم … ) أمر من الله للمؤمنين بقتال الكافرين، إذا ما استمروا في كفرهم وطغيانهم. وقوله:(بما يعملون بصير): البصير: هو الذي يشاهد الأشياء كلها، ظاهرها وخافيها بغير جارحة..
(والبصر في حقه سبحانه: الصفة التي ينكشف بها كمال نعوت المُبْصَرات)( [183] ) ويقول أبو حامد الغزالي:( البصير: هو الذي يشاهد ويرى، حتى لا يعزب عنه ما تحت الثرى، وإبصاره أيضا منزه عن أن يكون بحَدَقة وأجفان..)([184])
والفاصلة وهي قوله:(فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) جواب للشرط(فإن انتهوا )، وقد أكدت بـ( إن، والإسمية)لإقرار مراقبة الله لأعمالهم بعد إظهارهم الانتهاء عن أذى المؤمنين.
وجاء المسند(بصير ) نكرة، لإفادة معنى السعة، والتمكن المطلق، فإنه سبحانه بصير بالمخلوقات كلها باطنها وظاهرها.
وقوله:(وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير):
والمولى:( المعتق، والصاحب، والحليف، والناصر، والجار، كل هؤلاء من المولى، وهو القرب، وكل من ولي أمر آخر فهو وليه..)( [185] )
والنصير: والنصر، والنصرة: بمعنى العَون.( [186] )
فالله مطلع على أعمال الكافرين، ودقيق تخطيطهم، وخفي مكرهم، وليُطئن المؤمنون إلى كفاية الله لهم، في كشف مؤامرات عدوهم، وتبصيرهم بها.
والآية بشارة منه سبحانه للمؤمنين بالنصر والتأييد. فالله لا يضيع من تولاه، ولا يهزم من نصره. وفيها تهديد وتخويف للكافرين، بمحاربة الله لهم، وانتقامه للمؤمنين منهم.
ما هو إعراب كلمة نِعْمَ...؟
نِعْمَ فعل ماضي جامد وهذا أشهر إعراب، وإن كان هناك خلاف بين الكوفيين والبصريين هل هي إسم أو فعل لكن على أشهر الأقوال أنه فعل ماضي جامد. ويضرب في باب النحو نِعم وبئس(نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ(40) الأنفال)،(وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ(98) هود) بعدها فاعل لأنه يأتي بعدها المقصود بالمدح والذم.
عندما تقول: نِعْمَ الرجل محمود، نعربها على أشهر الأوجه: نِعْمَ فعل ماضي على أشهر الأوجه، الرجل فاعل، محمود فيها أوجه متعددة منها أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف أي الممدوح محمود أو مبتدأ والخبر محذوف مع محمود الممدوح، ورأي آخر يترجح في ظني أن محمود مبتدأ مؤخر وجملة(نعم الرجل) خبر مقدم يعني محمود نِعم الرجل وهو الذي يترجح في ظني.
(نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) المخصوص محذوف، نتكلم عن داوود – عليه السلام - تقول محمود نِعْم الرجل، هذا جائز لكن هو على الإعراب الذي رجحناه، يجوز التقديم والتأخير، وعلى الإعراب الآخر يكون خبراً مقدماً والمبتدأ محذوف، لكن لماذا يرجح هذا أو هذا، هذا أمر يتعلق بالنحو. أنا يترجح عندي أن فيها خمسة أوجه، قسم يقول بدل وقسم يقول عطف بيان، وفيها أوجه كثيرة، وأنا يترجح عندي أنه مبتدأ، لأنه يمكن أن ندخل عليه(كان) نِعَم الرجل كان محمود و(كان) تدخل على المبتدأ والجملة قبلها خبر، لأنه لو كان خبراً لنُصِب لكنه ورد مرفوعاً نعم الرجل محمودٌ.( [187] )
وفصلت الفاصلة(نعم المولى ونعم النصير) عن الجملة قبلها( فاعلموا أن الله مولاكم) لكمال الاتصال بينهما، فكانت الفاصلة مؤكدةً للجملة السابقة لها.
وجاء المسند إليه(المولى ) معرفا بأل التعريف، للعهد، إذ ولايته ونصرته معهودة عندهم، ولهم سابق طمأنينة بمعرفتها والسكون إليها.
وأتت الجملة فعلية، لتلفت الأذهان إلى تكرُّر وتجدد المدح والثناء على الله الكريم في ولايته ونصرته للمؤمنين، كلما مرت بهم الإحَن، وتكررت بهم الضوائق والمحن..
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد فتحت الباب للكافرين حتى يفيئوا إلى رشدهم، وينتهوا عن كفرهم، وبشرتهم بأنهم إن فعلوا ذلك، غفر الله لهم ما سلف من ذنوبهم، أما إذا استمروا في كفرهم ومعاداتهم للحق، فقد أمر الله عباده المؤمنين بقتالهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله. أي: أن القتال في الإسلام شرعه الله تعالى من أجل إعلاء كلمته، ومن أجل رفع الأذى والفتنة والعدوان، عمن يعتنقون دينه وشريعته.
وبعد هذا الحديث المتنوع عن مكر الكافرين، وعن دعاويهم الكاذبة، وعن وجوب مقاتلتهم إذا ما استمروا في طغيانهم وعداوتهم، بعد كل ذلك بين سبحانه للمؤمنين كيفية قسمة الغنائم التي كثيرا ما تترتب على قتال أعدائهم
فقال تعالى :
[ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( 41).
الشرح والتفسير
وقوله:( غنمتم ): من الغنم، بمعنى الفوز والربح. قال القرطبي: ( الغنيمة في اللغة: ما يناله الرجل أو الجماعة بسعي . واعلم أن الإتفاق حاصل على أن المراد بقوله تعالى( غنمتم من شيء ): مال الكفار إذا ظفر به المسلمون على وجه الغلبة والقهر. والفيئ: مأخوذ من فاء يفيئ إذا رجع، وهو كل مال دخل على المسلمين من غير حرب، كخراج الأرضين، وجزية الجماجم )( [188] ). و( من ): للبيان، وتنكير( شيء ): يفيد العموم والتقليل.
والمعنى الإجمالي للآية: واعلموا أيها المسلمون أن ما أخذتموه من الكفار قهرا، قل أو كثر، فإن لله خمس ما غنمتموه، شكرا له على نعمة النصر، وللرسول الذي هو سبب هدايتكم، ولأصحاب القرابة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والمراد بهم على الراجح: بنو هاشم، وبنو عبد المطلب..واليتامى: وهم أطفال المسلمين الذين مات آباؤهم قبل أن يبلغوا. والمساكين: وهم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين. وابن السبيل: وهو المسافر سفر طاعة، الذي نفذ ماله قبل أن يصل إلى بلده.
وأعيدت اللام في قوله( ولذي القربى ): دون غيرهم من الأصناف الثمانية: لدفع توهم اشتراكهم في سهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، لمزيد اتصالهم به. وقوله(إن كنتم آمنتم بالله ): أي: حق الإيمان، وآمنتم بما أنزلنا على عبدنا محمد( يوم الفرقان ): أي: يوم بدر،( يوم التقى الجمعان ): أي: جمع المؤمنين وجمع الكافرين، إن كنتم آمنتم بذلك، فاعملوا بما علمتم، وارضوا بهذه القسمة عن إذعان وتسليم.
وما أنزله الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، يوم بدر: يتناول ما نزل من آيات قرآنية، كما يتناول نزول الملائكة لتثبيت المؤمنين، وتبشيرهم بالنصر. وسمي يوم بدر بيوم الفرقان: لأنه اليوم الذي فرق الله به بين الحق والباطل. وقوله( والله على كل شيئ قدير ): تذييل قصد به بيان أن ما أصابه المؤمنون يوم بدر من غتيمة ونصر، إنما هو بقدرة الله التي لا يعجزها شيئ، فعليهم أن يداوموا على طاعته وشكره، ليزيدهم من عطائه وفضله. وهذه الآية( واعلموا أنما غنمتم.. الآية )، جاءت مفصلة لقوله تعالى في مطلع السورة : ( يسألونك عن الأنفال ). إذ أن الآية التي في مطلع السورة بينت أن قسمة الأنفال مفوض إلى الله ورسوله، ثم جاءت هذه الآية ففصلت كيفية قسمة الغنائم.
ثم حكى سبحانه بعض مظاهر فضله وحكمه في غزوة بدر، فبين الأماكن التي نزل فيها كل فريق، كما بين الحكمة في لقاء المؤمنين والكافرين على غير ميعاد، والحكمة في تقليل كل فريق منهما في عين الآخر..
فقال الله تعالى:
[ إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ( 42). إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ( 43). وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ( 44). ]
الشرح والتفسير
العدوة:بضم العين، ويجوز كسرها وفتحها، جانب الوادي وحافته.وهي من العدو، بمعنى: التجاوز، سميت بذلك لأنها عدت، أي: منعت ما في الوادي من ماء ونحوه أن يتجاوزها... والدنيا: تأنيث الأدنى، بمعنى الأقرب. والقصوى: تأنيث الأقصى بمعنى: الأبعد. و ( الدنيا( من الدنو، و( القصوى( من القصو، وهو البعد، وكان القياس أن تكون القصيا لكنه من الشاذ، وقال الخليل في العين: شذت لفظتان وهما القصوى والفتوى، وكان القياس فيهما بالياء كالدنيا والعليا. والمراد بالعدوة الدنيا، ما يلي جانب المدينة، وبالقصوى، ما يلي جانب مكة وكان الماء في العدوة التي نزل بها المشركون
( والركب أَسْفَلَ مِنكُمْ) إلى ساحل البحر كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلى الوادي والمشركين بأسفله والعير قد انهرم به أبو سفيان على الساحل حتّى قدم مكّة. قال أبو حاتم: نصب )أسفلَ(على الظرف ويجوز
) الركب أسفل) على معنى وموضع الركب أسفل، أو الركب مستقرًا أسفل. وفي العدوة قراءتان: كسر العين وهو قراءة أهل مكّة والبصرة...وضم العين وهو قرأ الباقين واختيار أبي عبيد وأبي حاتم، وهما لغتان مشهورتان كالكُسوة والكَسوة. والرُشوة والرَشوة.
والركب:ركبان الإبل، وهو اسم جمع لراكب، وهم العشرة فصاعدا من راكبي الإبل. ولا تقول العرب ركب: إلا لراكبي الإبل. والمراد بهذا الركب: أبو سفيان ومن معه من رجال قريش الذين كانوا قادمين بتجارتهم من بلاد الشام، ومتجهين بها إلى مكة، فلما بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها، أشار على أصحابه بالخروج لملاقاته.
: واذكروا أيها المؤمنون وقت أن خرجتم إلى بدر، فسرتم إلى أن كنتم(بالعدوة الدنيا) بجانب الوادي وحافتها الأقرب إلى المدينة، وكان أعداؤكم الذين قدموا لنجدة العير( بالعدوة القصوى )، أي: بالجانب الآخر الأبعد من المدينة، وكان أبوسفيان ومن معه من حراس العير( أسفل منكم )، أي: في مكان أسفل من المكان الذي أنتم فيه، بالقرب من ساحل البحر الأحمر، على بعد ثلاثة أميال منكم.
وقوله:( ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ): بيان لتدبير الله الحكيم، وإرادته النافذة. أي: لو تواعدتم وأهل مكة على موعد تلتقون فيه لقتال، لتخلفتم عن الميعاد المضروب بينكم، لأن كل فرد منكم كان سيتهيب الإقدام على صاحبه، ولكن الله بتدبيره الخفي، شاء أن يجمعكم للقتال على غير ميعاد، ليقضي سبحانه أمرا ثابتا في علمه وحكمته، وهو: إعزاز الإسلام وأهله، وخذلان الشرك وحزبه.
وقوله:( ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ): أي: ليموت من يموت عن حجة عاينها، ويعيش من يعيش عن حجة شاهدها، فلا يبقى محل للتعلل بالأعذار.
وقوله:( وإن الله لسميع عليم ): تذييل قصد به الترغيب في الإيمان، والترهيب من الكفر، أي: وإن الله لسميع لأقوال أهل الإيمان والكفر، عليم بما تنطوي عليه قلوبهم وضمائرهم، وسيجازي سبحانه كل إنسان بما يستحقه من ثواب أو عقاب.
وأكدت الفاصلة(وإن الله لسميع عليم) بـ( إن، واللام، واسمية الجملة ) لأن ما مَرَّ به القوم من تقلب الأحوال، وتَشَعُّب الخواطر، واضطراب الأفئدة، لم يحصل لهم مثله قط، إذ هذه أول معركة بينهم وبين الكفر، وحدث لهم من الخوف ما احتاجوا معه إلى تأكيدٍ ويقينٍ من سماع الله لدعائهم، واستغاثتهم، وعلمه بحالهم، وشدة حاجتهم وفاقتهم.
وجاء المسند إليه(الله) دون نيابة ضمير ليكون لهم عند سماعِ اسمه رضىً وطمأنينة. وجاء المسند(لسميع عليم)منكراً، لإفادة السَّعة والشمول ليزدادوا سكينة وطمأنينة بأن الله سميع لخفايا نفوسهم، وبواطن قلوبهم.
واسمية الجملة، تجعلهم في شعور دائم بالمراقبة، لدوام سمعه وعلمه بهم.
وهنا لا بد لنا من وقفة للرد على شبهات مكذوبة...
افتراها اليهودي مردخاي كيدار حول المسجد الأقصى
ورددها بعض ذيوله مثل الروائي: بوسف زيدان ؟
أشاع اليهودي مردخاي كيدار، المحاضر في القسم العربي في جامعة بار إيلان، والباحث في مركز بيجن- السادات للأبحاث الاستراتيجية، في مقال كتبه في موقع "ميدا" العبري، تحت عنوان "الأكاذيب الإسلامية حول القدس والأقصى"، معتمدا على ما ذكره الواقدي في كتابه المغازي، قال الواقدي في المغازي:( وانتهى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى الجِعِرّانة ليلة الخميس لخمس خلون من ذي القعدة، فأقام بالجعرانة ثلااث عشرة، فلما أراد الإنصراف إلى المدينة خرج من الجعرنة ليلة الأربعاء لثنتي عشرة بقيت من ذي القعدة ليلا، فأحرم من المسجد الأقصى الذي تحت الوادي، بالعدوة القصوى، وكان مصلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا كان بالجعرانة، فأما هذا المسجد الأدنى، فبناه رجل من قريش واتخذ ذلك الحائط عنده( [189] ) ولم يَجُز رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلا مُحرما، فلم يزل يلبي حتى استلم الركن... )( [190] ) فكل ما فعله هذا اليهودي هو نزوير وخلخلة رواية تاريخية حول حادث وموضع معينين، ونقلهما من سياقهما إلى سياق آخر لتحقيق أهدافه الخبيثة ؟! أو أنه لم يفهم ما قاله الوااقدي ؟؟ وما قاله الواقدي هو: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحرم من المسجد الأقصى، الذي تحت الوادي بالعدوة القصوى من الجعرانة، وكان مصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان بالجعرانة، فأما المسجد الأدنى،بالعدوة الدنيا فبناه رجل من قريش...
فكلمة( الأقصى ) هنا وَصفية... وليست عَلَمِيَّة ؟! ولا علاقة لها بالأقصى الموجود في بيت المقدس. هذا أولاً....
وثانيا: إن الواقدي الذي يحتج مردخاي كيدار وذيوله كيوسف زيدان بكتابه «المغازي» روى حديثاً نبوياً مهماً في هذا الكتاب يؤكد قدسية المسجد الأقصى الحقيقي في القدس ، بقول الحديث:( وقالت ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، إني جعلت على نفسي، إن فتح الله عليك مكة، أن أصلي في بيت المقدس. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تقدرين على ذلك، يحول بينك وبينه الروم. فقالت: آتي بخفيرٍ يُقبل ويدبر. فقال: لا تقدرين على ذلك، ولكن ابعثي بزيتٍ يستصبح لك به فيه، فكأنك أتيته. فكانت ميمونة تبعث إلى بيت المقدس كل سنة بمالٍ يُشْتَرى به زيتٌ يستصبح به في بيت المقدس، حتى ماتت فأوصت بذلك)( [191] ) ويرد الحديث بألفاظ أخرى قريبة في عدد من المصادر الإسلامية القديمة .
وثالثا: يمكن لنا أن نتبين تهافت هذه الخرافة أو الفرية المفبركة عن أن الرواية الدينية الإسلامية عن الإسراء إنما وقعت من مكة إلى الجعرانة التي لا تبعد عن الحرم المكي سوى 25 كيلومتراً، فهل تستحق هذه المسافة إسراء إليها بواسطة ما تسميها الرواية الإسلامية( دابة -اسمها البراق )، وهي خارقة السرعة بدليل اشتقاق اسمها من البرق؟هذه المسافة التي يستطيع قطعها الشاب سيرا على الأقدام في بضع ساعات ؟؟ والتنعيم يحد الحرم المكي من الشمال مع مَيل قليل الى الغرب وهو من أدنى الحِلّ للحرم المكي وتشترك معه في حدود الحرم الجعرانة والحديبية، والغآية من وجود هذه الحدود، هي مواضع وعلامات ونقاط ليعرف بها حدود الحرم المكي الشريف، وكذلك أيضاً هي مواضع للإحرام لمن يريد إتيان العمرة أثناء وجوده في مكة المكرمة من الحجاج أو أهل مكة... وكل مرة كنت أذهب للعمرة كنت أخرج إلى الجعرانة وأحرم منها لأداء عمرة جديدة، حتى أن والدتي المسنة – رحمها الله رحمة واسعة – كانت كل يوم نقيم فيه في مكة تخرج للجعرانة وتحرم من جديد.. حتى أنها اعتمرت عن كل أقاربها.
ورابعا:
لقد انقسم الناس في مكة تجاه معجزة الإسراء إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: هم الكفار؛ الذين ازدادوا كفرًا بعد هذه الآية العظيمة، فزادت من حقدهم وحسدهم، فقلبوا الأوضاع دون حياء؛ فاستخدموا الآية العظيمة في تنفير الناس وإبعادهم عن دين الله، وكان على رأس هؤلاء أبو جهل؟؟
القسم الثاني: فهم قلَّة؛ ولكنها قلَّة مؤسفة! إنها مجموعة من المسلمين الذين لم يستوعبوا المعجزة، فارتدوا بعد إيمانهم كفارًا ؟؟
القسم الثالث: فهو قسم المؤمنين الذين ازدادوا إيمانًا بعد حديث الرسول – صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية الباهرة، وكان على رأسهم أبو بكر الصديق- رضي الله عنه - بموقفه الشهير، الذي سمي بعده بالصديق.إن رحلة الإسراء والمعراج كانت كما لخَّصها الله تعالى في كلمات معدودات! قال تعالى: ( وَمَاجَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) ( الإسراء: 60). كانت فتنةً واختبارًا، فمِن الناس مَنْ نجح وسبق، ومنهم مَنْ فشل وانتكس، والـمُوَفَّق مَنْ وَفَّقَه الله تعالى... ولو كانت للجعرانة.. أكان فيها فتنة واختبار ؟؟
وخامسا:
إن [ المسجد الأقصى ] الذي ورَدَ ذكْره في القرآن الكريم، هـو ذاته [ المسجد الأقصىى ] المعروف في القدْس الشريف، و ذلك للأسباب التالية:
1- قال تعالى عن إبراهيم و ابن أخيه لوط - عليهمـا السلام - : ( و نجّيـناه ولـوطـاً إلى الأرضِ التي باركـنا فيهـا للعـالمين )( الأنبياء: 76) وإبراهيم سكنَ مدينة [الخليل ] في فلسطين، بينمـا سكن لـوط في قرية [ سدوم ] عند البحر الميّت في فلسطين.
2 - قال تعالى عن سليمان - عليه السلام:( ولسليْمانَ الريحَ عاصفةً تجري بأمره إلى الأرضِ التي باركنـا فيهـا )( الأنبياء: )81، وسليمان سكن القدْس الشريف، ولم يسكن في الجعرانة قُرْب [ مكة المكرّمة ].
3 - إنّ الصراع النهـائيّ مع الصهـاينة سيكون لتحرير [المسـجد الأقصى ] وكل فلسطين حصـراً، والصراعُ نراه حاليّاً بشكْلٍ جليّ وواضح:( ليسـوؤوا وُجوهَكُم، و ليدخـلوا المسـجد )( الإسراء:7) ، والمسجد المقصود هو الأقصى الموجودٌ في القدس، و ليْس في الجعرانة( قُرْب مكّة المكرّمة ). أن الإسراء إنما وقع إلى بيت المقدس،( قبلة اليهود ) لأن اليهود سيُعزَلون عن منصب قيادة الأمة الإنسانية، لما ارتكبوا من الجرائم التي لا مجال بعدها لبقائهم على هذا المنصب، وإن الله سينقل هذا المنصب فعلًا إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، فقد آن أوان انتقال القيادة الروحية من أمة إلى أمة، من أمة ملأت تاريخها بالغدر والخيانة والإثم والعدوان، إلى أمة تتدفق بالبر والخيرات، وجمع الله للرسول – صلى الله عليه وسلم – الرسل جميعا، - عليهم الصلاة والسلام – وصلى بهم، كناية عن انتقال السيادة في القدس من أمة إلى أمة، ولا يزال رسولها يتمتع بوحي القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم، لذا لا بد أن يكون الإسراء للمسجد الأقصى في القدس لتحقيق هذه الغاية..وليس لمسجد في السماء كما يقول بعض المتخلفين من الشيعة الإمامية، أو أي مكان آخر في الأرض( [192] )
4 - وسوفَ ينتصر الفلسطينيّون في كلّ صراعاتهم مع الصهاينة، فقد سيطرَ الفلسطينيّون على كامل البحر الأبيض المتوسّط في القديم، فقد كُتِبَ في معبد [ آمون ] في مصر منذ عام 1191 قبل الميلاد، العبارة التالية: [ إنّ الفلسطينيين مُحاربون أشـدّاء، اشتهروا بالقتال واستولوا على أطـراف العالَم ]، وحتى في [ التوراة الحالية ] نجد في [ سِـفْر صموئيل 31 / 1] مـا يلي: [ وحاربَ الفلسطينيّونَ إسرائيل، فهرَبَ رجـال إسرائيل أمـامَ الفلسطينيين ]، وهـذا مـا سوفَ يحصل بفضل الله ونصره القريب في غزّة وسائر فلسطين الحبيبة، وسيدخُل المسلمون [ المسجد الأقصى ] ظـافرين، مصداقاً لقوله تعالى:( وليدخـلوا المسجد كمـا دخلوه أوّل مـرّة )(الإسراء: 7 )
وقال مردخاي كيدار - كاذبا -: بعد 50 عاماً على وفاة محمد، في عام 682 هـ ، تمرد عبد الله ابن الزبير الذي كان فتوة مكة على حكم بني أمية الذين حكموا في دمشق، وأغلق الطرق ومنع أبناء دمشق من الحج في مكة..([193]) فاختاروا القدس مرغمين كمكان بديل للحج، الذي يعد أحد أركان الإسلام الخمسة، ولترسيخ اختيارهم للقدس تحديداً، اخترعوا أكذوبة أن المسجد الأقصى المذكور في القرآن ليس موجوداً بالجعرانة بل في القدس. هكذا ربطوها بالأسطورة القرآنية عن رحلة محمد ليلاً لـ"المسجد الأقصى" المذكورة في القرآن، ومن هنا جاء المفهوم لدى الإسلام السني بأن القدس هي ثالث أقدس موقع في الإسلام السني....؟؟ !!
هلوسات د. يوسف زيدان..عن المسجد الأقصى
روّج الروائي المصري د. يوسف زيدان، لمزاعم مردخاي كيدار خلال حلقة في برنامج( هنا القاهرة ) مع الإعلامي المصري عمرو أديب. وردد يوسف زيدان افتراءات الصهيوني مردخاي كيدار، حرفًا بحرف ،) [194] ) ، حيث يدّعي زيدان أنه بعد الفتح الإسلامي للقدس الشريف، ومع ظهور الثورة الزبيرية، التي حرمت بني أميّة الحج، اضطر بنو أمية لبدء تشييد صرح ديني لإضفاء صبغة دينية على حكمهم وقاموا 'بتركيب' قصّة الإسراء والمعراج على القدس، حيث ذكر الإسراء في القرآن الكريم، أما المعراج 'فمعرفش جابوه منين'. ؟! وقد تصدى لافتراءات د. زيدان مجموعة من المفكرين المصريين.. منها ):رد أستاذ الأدب العبري بجامعة عين شمس د. إبراهيم البحراوي ) : قال فيه: " يا د. يوسف زيدان.. أتبيع لنا حجج مردخاي لتنكر حقوقنا بالقدس″ ؟ ثم قال: ” كنت أتمنى أن تؤدى مساهمة د. يوسف زيدان في مجال اختصاصي العلمي، وهو الدراسات الإسرائيلية والعبرية، إلى تقديم إضافات نافعة علمياً وقومياً ووطنياً، تثري معارفنا وتعمّق التزاماتنا الوطنية والقومية. غير أن النتائج - للأسف- لم تكن كذلك، بل جاءت بأضرار عديدة، وقد ظهرت هذه الأضرار فى حواره مع الأستاذ خيري رمضان على قناة( سى. بى. سى)، وقنوات فضائية أخرى، وهو الحوار الذي نفى فيه حقوقنا العربية في القدس، وتبنَّى حججاً إسرائيلية المنشأ تدَّعي أن الإسراء للمسجد الأقصى لم يكن بالقدس، لينكر حقنا فى الحرم القدسي الشريف، وتابع البحراوي: سأضع الآن أمام الدكتور زيدان الأفكار التي يواصل الدكتور مردخاي كيدار، أستاذ الدراسات العربية والإسلامية بجامعة بار إيلان، طرحها منذ سنوات بهدف واضح، هو نفي وإنكار أي حق للعرب والمسلمين في القدس والمسجد الأقصى، وإثبات حق منفرد لإسرائيل فيهما، وسيدهش د. زيدان عندما
سيلاحظ درجة التطابق المذهلة بين كلامه مع خيري رمضان وأقوال مردخاي كيدار.( ليس تطابقا فقط.. بل يردد نفس كلام كيدار ؟؟) وإني لأرجو أن ينتبه الدكتور زيدان إلى خطورة تقليد ومحاكاة وتكرار أفكار الإسرائيليين النافية للحقوق العربية، وهي خطورة تتضاعف عندما يتبناها متحدث من وزن د. زيدان مع إخفاء مصدرها عن المتلقي العربي. يدَّعي مردخاي، دون أي سند- تماماً كما نقلت أنت عنه يا د. زيدان- أن المسجد الأقصى المقصود في سورة الإسراء كان بين مكة والطائف وليس فىي القدس. ولاحظ عزيزي د. يوسف أن كلامه أسبق من كلامك زمنياً، وهذا يجعلنا أمام أحد احتمالين ؛ الأول: أنك اطلعت على كلامه فأعجبك لسبب في نفسك فرحت تبيعه لنا وتكرره من شاشة فضائية لأخرى.. والثاني: أنك لم تطلع عليه ووصلك منه عن طريق الإلهام.؟!! ومع ذلك أقول لك وله إن هذا كلام فارغ يعتمد على مغالطة تاريخية مفضوحة، وتفسير معتل لسورة الإسراء، ولا يقوم عليه أي دليل. هل تلاحظ يا د. زيدان أي فرق بين كلامك عن اللعبة السياسية وكلام كيدار عن السبب السياسي. إنك حتى يا عزيزي لم تحاول إجهاد نفسك في تغيير ألفاظه وأنت تنقل عنه. ولكي أكون منصفاً معك أعترف لك بأنك بذلت مجهوداً في تزيين كلام كيدار، بل أبدعت في الإضافة إليه بما لم يقله هو، هنا أرجعك إلى النقوش السامية لتعلم أن هذا الاسم أقدم من العبريين. إنني أقدم لك ولمردخاي كيدار درساً في التاريخ يفيد أن لنا حقوقاً عربية تاريخية ورثناها عن قبيلة يبوس العربية التي خرجت من شبه الجزيرة العربية حوالي القرن الثلاثين قبل الميلاد إلى فلسطين، وكانت أول من أسس مدينة في موقع القدس، وهو ما يعني أن العرب اليبوسيين هم أصحاب المدينة الأصليون وليس بني إسرائيل أو العبريين. ولعلمك فإن العرب اليبوسيين أنشأوا القدس قبل ظهور قبائل بني إسرائيل على وجه الحياة، وفي أرض فلسطين بقرون، وقبل ميلاد يعقوب، ولكي تتأكد من هذا عليك أنت ومردخاي كيدار أن تراجعا سفر التكوين بالتوراة( الإصحاح رقم ١٤ االفقرات من رقم ١٧ إلى رقم ٢٠ ) لتعلما أن التوراة نفسها تعترف بأن القدس كانت قائمة قبل ظهور العبريين منذ أيام سيدنا إبراهيم، بل قبل وصول إبراهيم نفسه مهاجراً من أور كلدان بالعراق إلى فلسطين والشام في القرن العشرين قبل الميلاد. لقد زار إبراهيم القدس قبل عشرة قرون من احتلال داوود للقدس بحد السيف، وفرض سيطرته على العرب اليبوسيين حيث احتل داوود المدينة في القرن العاشر قبل الميلاد، وهذا يعني أن القدس ليست مدينة داوود بل مدينة الله العلي. عندما تقرأ هذه الفقرات في التوراة، ستعلم يا د. زيدان بنصوص الكلمات العبرية أن ملك القدس في القرن العشرين قبل الميلاد كان عربياً يبوسياً اسمه ملكي صادق، ولاحظ اسمه العربي الوارد بالتوراة، وأنه استقبل إبراهيم وباركه. ستعلم أيضاً أن ذلك الملك كان بنص التوراة( كاهناً لله العلي، مالك السماوات والأرض)، وأنه بارك إبراهيم باسمه. لا يا زيدان.. القدس عربية إسلامية: الحقيقة منذ نشرنا مقالنا تخاريف يوسف زيدان حول الأقصى والإسراء والمعراج والاتصالات لم تنقطع سواء من مصر أو خارجها مستنكرة هذه الهجمة الشرسة على الإسلام بهدم ركن إسلامي مؤكد ؛ رواه القرآن والمصطفى - عليه أفضل الصلوات والسلام - عن رحلة الإسراء والمعراج ؛ واليوم نقدم لقارئنا الكريم باختصار تاريخ القدس العربي والإسلامي، ودور مصر في أمنها وأمانها. فقد بناها اليبوسيون وهم من أصل عربي كنعاني، نزحوا إليها من الجزيرة العربية 3000 عام ق.م، ويشهد بذلك ألواح تل العمارنة ؛ وكانت تسمى يبوس وتغير اسمها فيما بعد الى سالم أو أورشالم نسبة الى أحد الملوك المؤسسين ويدعى سالم. وظلت تحت حكمهم 1500 عام الى 1100عام ق.م ؛ حتى تمكن داوود - عليه السلام - من تحقيق رغبة موسى- عليه السلام - واليهود باحتلالها ؛ وأقام داوود وابنه سليمان - عليهما السلام- مملكة القدس ؛ وبوفاة سليمان 975 ق.م انهارت المملكة ؛ واستطاع فرعون مصر آنذاك من احتلالها وإعادة الكنعانين العرب إليها ؛ وأمر اليهود بدفع الجزية، وتعدد الغزاة من آشوريين ورومان عليها حتى ميلاد السيد المسيح - عليه السلام - وظل الرومان والبيزنطيون بالقدس لأكثر من 1500 عام ؛ حتى جاء الفتح الإسلامي وفتحت القدس عام 636 م(15هجرية) وظلت تحت الحكم الإسلامي حتى الانتداب البريطاني 1917 ؛ واختتم البحراوي مقاله بالقول: الخلاصة يا د. مردخاى كيدار ويا د. يوسف زيدان: إن القدس كانت عربية قبل ظهور بني إسرائيل والديانة اليهودية بعشرة قرون، وبالطبع قبل ظهور المسيحية والإسلام بأكثر من هذا، وأنها كانت مدينة عربية لله العلي، قبل داوود وسليمان، ولن يستطيع مردخاى كيدار ولا من ينقل عنه ويسوق لنا حججه الواهية أن يغير هذه الحقيقة.؟! ( [195] ) . والتاريخ لن يرحم يوسف زيدان، فهو ينقل أفكاره، كما ينقل رواياته( [196] )
ثم يبين سبحانه بعض وجوه نعمه على المؤمنين، وتدبيره الخفي لنصرهم وفوزهم فيقول:( إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور ). أي: اذكر يا محمد فضل الله عليك وعلى أصحابك، حيث أراك في منامك الكافرين قليلا عددهم، ضئيلا وزنهم، فأخبرت بذلك أتباعك، فازدادوا ثباتا وجرأة على عدوهم،( ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ) لتهيبتم الإقدام عليهم، والفشل: ضعف مع جبن،( ولتنازعتم في الأمر ) أي: في أمر الإقدام عليهم، والإحجام عنهم.( ولكن الله سلم ) بيان لمحل النعمة، أي: ولكن الله تعالى بفضله وإحسانه أنعم عليكم بالسلامة من الفشل والتنازع، وتفرق الآراء في شأن القتال، حيث ربط على قلوبكم، ورزقكم الجرأة على أعدائكم. ومفعول ( سلم ): محذوف، أي: سلمكم من الهزيمة، أو: من الفرقة والفشل.
وقوله:( إنه عليم بذات الصدور ): تذييل يدل على شمول علمه سبحانه، أ ي: إنه سبحانه عليم بكل ما يحصل في القلوب، وما يخطر فيها من شجاعة وجبن، ولذلك دبر ما دبر.
وقوله تعالى:( وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم..) أي: واذكروا أيها المؤمنون وقت أن التقيتم مع أعدائكم وجها لوجه في بدر، فكان من فضل الله عليكم قبل أن تلتحموا معهم، أن جعل عددهم قليلا في أعينكم، وجعل عددكم قليلا في أعينهم، وذلك لإغرائهم على خوض المعركة.
وقوله سبحانه:( ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور ): بيان لحكمة تدبيره، ونفاذ قدرته، وشمول إرادته.
وفي تقديم الجار والمجرور في قوله:( وإلى الله ترجع الأمور ): قصر حقيقي، وفي إظهار لفظ الجلالة في مقام الإضمار( أي: قال: إلى الله بدلا من إليه ) تقوية للمهابة في النفس. أي: فعل ما فعل من تقليل كل فريق في عين الآخر، ليقضي أمرا كان ثابتا في علمه وحكمته، وهو: نشوب القتال المفضي إلى انتصار المؤمنين، واندحار الكافرين، وإلى الله ترجع الأمور، لا إلى أحد سواه ، فإن كل شيئ عنده بمقدار.
ووصلت الفاصلة(وإلى الله ترجع الأمور) بالجملة قبلها(ليقضي الله أمرا كان مفعولا)لأن بين الجملتين تلازماً في المعنى، إذ الأمر المفعول الذي قضاه الله، من مجموع الأمور التي ترجع إليه، وإذا كانت الواو حالية فلا وصل.
وخَلَتْ من المؤكدات، لأنهم مؤمنون برجوع الأمور إلى الله،وتَقَلُّبِها بين يديه. وأعيد لفظ الجلالة( الله ) لينفذ إلى القلوب جلال الله في أحكامه وأقضيته في تصريف الأمور وتدبيرها.
وقدم الجار والمجرور(وإلى الله )على الفعل ونائب الفاعل(ترجع الأمور ) لإفادة القَصر، فالأمور تُرجع إليه وحده لا إلى أحد غيره. إضافة إلى اسمية الجملة، وما يفيده ذلك الدوام والاستمرار.
وبعد هذا التذكير النافع، والتصوير المؤثر لأحداث غزوة بدر، وجه سبحانه إلى المؤمنين النداء السادس، حيث أمرهم بالثبات في وجه أعدائهم، وبالمداومة على ذكره وطاعته، ونهاهم عن التنازع والاختلاف..
فقال الله تعالى:
[ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ( 45). وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ( 46). ]
الشرح والتفسير
قوله:( لقيتم ): من اللقاء بمعنى المقابلة والمواجهة، ويغلب استعماله في لقاء القتال، وهو المراد هنا. وقوله( فئة ): أي: جماعة، مشتقة من الرجوع، لأن بعضهم يرجع إلى بعض، والمراد بها هنا: جماعة المقاتلين من الكافرين وأشباههم. والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بالله حق الإيمان( إذا لقيتم فئة ) أي: جماعة من أعدائكم، فاثبتوا لقتالهم، ولا تولوهم الأدبار( واذكروا الله كثيرا ) لا سيما في مواطن الحرب، فإن ذكر الله من أعظم وسائل النصر، لأن المؤمن إذا استحضر في قلبه عظمة الله لا تهوله قوة عدوه، ولا تخيفه كثرته. وقوله:( لعلكم تفلحون ): أي: لعلكم تظفرون بمرادكم من النصر وحسن الثواب. وقوله:( وأطيعوا الله ورسوله ): أي: أطيعوا الله ورسوله في كل أقوالكم وأعمالكم، وفي سركم وجهركم
وقوله:( ولا تنازعوا فتفشلوا ونذهب ريحكم ): نهي لهم عن الإختلاف المؤدي إلى الفشل، وضياع القوة، بعد أمرهم بالثبات والمداومة على ذكر الله وطاعته.
وقوله:( تنازعوا ): من النزع بمعنى الجذب وأخذ الشيئ، والتنازع والمنازعة: المجاذبة، كأن كل واحد من المتنازعين : يريد أن ينزع ما عند الآخر ويلقي به. والمراد بالتنازع هنا: الخصام والجدال المفضي إلى الفشل، أي: الضعف.
وقوله:( وتذهب ريحكم ): قال الأخفش: الريح مستعارة للدولة، أي: إن الخصام والخلاف سيؤدي إلى ذهاب دولتكم، وظهور عدوكم عليكم. ويفال: إذاهبت رياحك فاغتنمها... وفي القاموس والمختار: إن الريح يطلق ويراد به: القوة، والغلبة، والرحمة، والنصرة، والدولة. وقوله:( واصبروا إن الله مع الصابرين )، أي: على ىشدائد الحرب، وعلى مخالفة أهوائكم التي تحملكم على التنازع، فالله مع الصابرين بتأييده ومعونته ونصره.
وأكدت الجملة بـ( إن، والاسمية) ليلتفت العبد إلى الجزاء، ومعية الرب
وجاء المسند إليه لفظ الجلالة(الله )دون كلمة( ربكم) مثلا، للأعانة على تجرع الصبر، وإتمام التلذُّذْ بالمعية. والألف واللام في(الصابرين) للاستغراق، أي: كل الصابرين المحتسبين. .
والمتأمل في هاتين الآيتين يراهما قد رسمتا للمؤمنين في كل زمان ومكان الطريق التي توصلهم إلى الفلاح والنصر.
وبعد هذه التوجيهات السامية التي رسمت للمؤمنين طريق النصر، نهاهم سبحانه عن التشبه بالكافرين الذين صدهم الشيطان عن السبيل الحق..
فقال الله تعالى:
[ وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ( 47). وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ( 48). إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاَءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ( 49). ]
الشرح والتفسير
قال الفخر الرازي عند تفسير قوله تعالى: ( ولا تكونوا كالذين خرجوا…): المراد قريش حين خرجوا من مكة لحفظ العير، خرجوا بالقيان والمغنيات والمعازف، فلما وردوا الجحفة بعث( خفاف الكناني ) وكان صديقا لأبي جهل، بهدايا إليه مع ابن له، فلما أتاه قال: إن أبي ينعمك صباحا ، ويقول لك: إن شئت أمدك بالرجال أمددتك، وإن شئت أن أزخف إليك مع قرابتي فعلت. فقال أيو جهل: قل لأبيك جزاك الله والرحم خيرا ؟!، إن كنا نقاتل الله كما يزعم محمدا ، فوالله ما لنا بالله طاقة، وإن كنا إنما نقاتل الناس، فوالله إن بنا على الناس قوة. والله ما نرجع عن قتال محمد حتى نرد بدرا، فنشرب فيها الخمور، وتعزف فيها القيان، وحتى تسمع العرب بمخرجنا ، فتهابنا إلى الأبد..!
قال المفسرون: فوردوا بدرا، وشربوا كؤوس المنايا مكان الخمر، وناحت عليهم النوائح مكان القيان.( [197] )
وقوله:( بطرا ): معناه: دهشة تعتري الإنسان من سوء احتمال النعمة، وقلة القيام بحقها، وصرفها إلى غير وجهها.( [198] ) أي: أن البطر ضرب من التكبر والغرور، واتخاذ نعم الله وسيلة إلى ما لا يرضيه. أو: هو الطغيان في النعمة بترك شكرها، وجعلها وسيلة إلى ما لايرضاه الله. وقيل: معناها الفخر بالنعمة، ومقابلتها بالتكبر والخيلاء بها.
وقوله( ورئاء ): مصدر رآءى، ومعناه: القول والفعل الذي لا يقصد معه الإخلاص، وإنما يقصد به التظاهر وحب الثناء. والمعنى: كونوا أيها المؤمنون ثابتين عند لقاء الأعداء، ومكثرين من ذكر الله وطاعته، وصابرين في كل المواطن، واحذروا أن تتشبهوا بأولئك المشركين الذين خرجوا من مكة ( بطرا ورئاء الناس ) ، أي: غرورا وفخرا، وتظاهرا بالشجاعة والحمية.
وقوله( ويصدون عن سبيل الله ): والسبيل: الطريق فيه سهولة. والمراد بسبيل الله: دينه، لأنه يوصل الناس إلى الفلاح والخير. ومن دقائق القرآن في اختيار الكلمات: إيثاره إفراد لفظ( السبيل ) مع الحق، وجمعه مع الباطل،وورد بهذا التنزيل، فقال:( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله )( [199] ) فدلالة لفظ( السبيل ): على اليسر، والسهولة، والوضوح. وكونها أغلب وقوعها في الخير([200] ) .
الفروق البيانية في استعمال القرآن
لـ( الصراط..والسبيل..والطريق )
ورد الصراط في القران الكريم للدلالة على أنه الطريق الواضح، او طريق الحق الذي لا اعوجاج فيه([201]). وسمي الصراط بذلك؛ لأنه مأخوذ من الاستراط – اذ أصله بالسين-، تقول سَرَط الشيء اذا ابتلعه؛ لأنه يسترط السابلة إذا سلكوه، كما سمي لقما، لانه يلتقمهم([202])، وقد نسب الصراط الى الحق سبحانه فقال: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم: 1]،(ومثلها: الحج/24، وسبأ/6. ) ويقترن الصراط بالاستقامة التي هي ضد الاعوجاج، وهو الغالب في القران الكريم، قال تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]. وقال: { قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142]. وغيرهما من الايات الكريمة فهي كثر، ومنه قول جرير([203]): أميرُ المؤمنينَ على صراطٍ........ إذا اعوجَّ المواردُ مستقيمُ ب – وفي سورة الأنعام جاء التعبير عن ملة الإسلام بإفراد(الصراط والسبيل):( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)( الأنعام: 153 ) وجاء التعبير عن طرق أهل الزيغ والضلال بالجمع(وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ). وهذا هو الملائم، لأن الطريق الموصل إلى مرضاة الله واحد لا ثاني له، وهو دينه الحق، ولذا أمر –رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سورة يوسف أن يقول للناس: إنه ماض على هذا الطريق الواضح، يدعو إلى الله على بصيرة من نور الله وهديه، ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(يوسف: 108)- أفرد السبيل عندما أريد به دين الله وملة الإسلام، لأنها واحدة وواضحة، لا لبس فيها ولا اعوجاج، قال تعالى: ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ.....الآية )(آل عمران: 19) . وقال عز وجل:(إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)(الأنبياء:92) وجمع عندما أريد طرق أهل الزيغ والضلال، لأنها متعددة معوجة لا تؤدي إلى خير، ( وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) ومما يلاحظ في آية سورة الأنبياء، انه عندما أخبر عن الملة بأنها واحدة، كان أهلها حاضرين يخاطبون(أمتكم، أنا ربكم فاعبدون) فلما تفرقوا وتقطعوا، وصاروا شيعا، التفت عنهم لأنهم غابوا عن الحق والدين والحق، ولنمعن النظر في الآيتين: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ. وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ)(الأنبياء/92-93) . لقد غيبوا إذ لم يعودوا أهلا للخطاب، عندما تركوا الملة الواحدة، وأزاغهم الشيطان، فتقطعوا أمرهم بينهم. ولذا أخرج الأمام أحمد عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: خط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطا بيده ثم قال: _(هذا سبيل الله تعالى مستقيما، ثم خط خطوطا عن يمين ذلك الخط وعن شماله، ثم قال: وهذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعوا إليه، ثم قرأ - صلى الله عليه وسلم - ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)( الأنعام: 153))( [204] ) وقد وردت(السبيل) في آيات الذكر الحكيم مفردة مرادا بها سبيل الغي والطاغوت، والإفساد والإجرام، كما وردت جمعاً مرادا بها سبل الله، وسبل السلام، والهدى والحق، وراء ذلك أسرار دقيقة ومعاني جليلة. قال تعالى:( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (المائدة : 15-19). وقال تعالى : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)(العنكبوت:69) – وهذا الجمع يشعر بوضوح طرق الحق وجلائها أمام طرق الباطل المعوجة، فما من سبيل من سبل الباطل والفساد والشر، إلا ونرى سبيل الحق أمامها مشرقة واضحة. فهذه السبل – سبل الحق والهداية والسلام الواضحة المنيرة- كلها روافد تصب في بئر واحد، هو صراط الله المستقيم: (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا )(المزمل:19). أي: سبيلا من سبل الخير والفلاح التي هدى الله إليها المتقين من عباده. كما وردت(السبيل ) مفردة مراداً بها سبيل الغي والطاغوت والفساد والإجرام، قال تعالى : (...وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا... )(الأعراف: 146) وقال عز وجل: ( ....... وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ)(الأعراف: 142). وقال عز وجل:( وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ) (الأنعام: 55 ) . وقال عز من قائل :(الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ) (النساء: 76) وهذا الإفراد ورائه سر دقيق، ومغزى جليل، إنه ينبىء بوضوح هذه السبل، سبل الغي والطاغوت، والفساد والإجرام، ويشير إلى جلائها واستبانتها، وأنها لا تخفى على أحد، وعلى الرغم من ذلك فإن الكفار يقاتلون فيها ويتبعونها، ويتخذونها سبيلا، فحق عليهم غضب الله وعقابه، ووجب على المسلمين مناهضتهم والتصدي لهم( ... فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا)(النساء: 76). وأكثر أقوال السلف أن الصراط المستقيم تعبير مجازي عن الإسلام، أو القران، أو طريق العبودية([205]). أما السبيل فالطريق الذي فيه سهولة، والسبيل الطريق المسلوكة، تقول: سبيل سابلة، أي: مسلوكة؛ لذا يقترن لفظ(السلوك) مع السبيل كثيرا([206])، قال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} [طه: 53] وقال: { ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا} [النحل: 69] وقال: {لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} [نوح: 20] وانما اقترن السلوك مع السبيل لسهولته، اذ هو مشتق من الجريان، تقول: اسبل السحاب مطره، والستر: ارسله، وسمي السبيل كذلك لكثرة الجريان فيه بالمشي([207]). ولما كان السبيل هي الطريق السهلة السلوك وقعت في بضع وخمسين موضعا من القران الكريم إشارة الى سبيل الله الذي يُسلَك لنيل الخير([208])، فجاء في الانفاق، فقال تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195]. وقال: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261]. ومثلهما( الايات: البقرة/262، والانفال/ 34، ومحمد /38، والحديد /10. ) وقال في الجهاد: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} [البقرة:154]. وقال: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [آل عمران:157]. وغيرهما كثير، " وكلُّ سبيل أُريدَ به الله عز وجل، وهو بَرٌّ فهو داخل في سبيل الله"([209])، كالدعوة الى الدين([210])، قال عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125]. او طريق الهدى: قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77]. أو هي المحجة وطريق الجنة([211])، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108]. وقال سبحانه: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 16]. وقد يكون السبيل تبعا لمن يقصده فيضاف الى القاصد([212])؛ لسهولته وتوطُّئِه للسالك، كقوله تعالى: { وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 146]، وقوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3]. والاية الأخيرة تدل على أن الله سبحانه سهَّل السبيل لكل القاصدين، وبقي بيد القاصد اتخاذ السبيل الذي يرتضيه، ويزيد ذلك وضوحا قوله تعالى: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} [عبس:20]. أما الطريق فماخوذ من السبيل التي تطرق بالأرجل، ثم استعير لكل مسلك يسلكه الإنسان، وهو لا يقتضي السهولة كالسبيل([213])، ولا يكاد اسم الطريق يراد به الخير الا مقرونا بوصف أو إضافة تخلصه لذلك([214])، كقوله تعالى: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف: 30]. وقال سبحانه في طريق أهل الضلال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا. إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا } [النساء: 168 - 169]. وقد يأتي الطريق بدلالته الحسية، كقوله سبحانه: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} [طه: 77]. وايات الطريق تقتضي العموم لمجيئها منكَّرة، الا قوله: {إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء: 169] فهذا تخصيص بعد تنكير
وعبر عن بطرهم وريائهم بصيغة الاسم الدال على التمكن والثبوت، وعن صدهم بصيغة الفعل الدال على التجدد والحدوث : للإشعار بأنهم كانوا مجبولين على البطر ، والمفاخرة والرياء.
وقوله :( والله بما يعملون محيط ): تذييل قصد به التحذير من الإتصاف بهذه الصفات الذميمة، لأنه سبحانه محيط بكل صغيرة وكبيرة، وسيجازي الذين أساءوا بما عملوا، وسجازي الذين أحسنوا بالحسنى.
معنى المحيط: الإحاطة تقال على وجهين:
أحدهما: في الأجسام، نحو: أحطت بمكان كذا، أو تُستعمل في الحفظ، نحو: ( أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ)(فصلت:54) أي: حافظ له من جميع جهاته.
والثاني: في العلم، نحو قوله:( إن الله بما يعملون محيط )
( آل عمران: 120)
والإحاطة بالشيْ علماً، هي: أن تعلم وجوده، وجنسه، وقدره، وكيفيته، وغرضه المقصود به، وبإيجاده، وما يكون به ومنه، وليس ذلك إلا لله تعالى..)([215] )
ووصلت الفاصلة(والله بما يعملون محيط) بالجملة قبلها(ويصدون عن سبيل الله) لأن بين الجملتين جهة جامعة في المعنى، وهي: أن صدهم عن سبيل الله ودينه،لا يغيب عن علم الله المحيط بفضله وكماله.
وخلت من المؤكدات، لأنهم مؤمنون ومصدقون أن الله محيطٌ بأعمال الكافرين.
وعرف المسند إليه(والله ) بالعلمية، لتعظيم وتهويل قوته وقدرته على الإحاطة بأعمالهم. فمهما يكن هذا العمل من الخفاء والصغر، فإن الله به محيط.
وتقديم الجار والمجرور(بما يعملون( على الصفة(محيط ) لأن فيه اهتماما بالعمل، فمهما يكن هذا العمل من الخفاء أو الصِّغَر، فإن الله به محيط.
وأتى المسند(محيط) دون تعريف، لإفادة الشمول، فإن الله يحيط بهم وبأعمالهم بعلمه الواسع العميم.
واختيرت هذه الصفة(محيط ) دون( عليم، أو بصير، أو خبير ): لأن معناها جامع لكل معاني هذه الصفات، واسمية الجملة أفادت الدوام والاستمرار.
وقوله: ( وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم ): تذكير للمؤمنين بما خدع به الشيطان الكافرين من وعود كاذبة، وأماني باطلة. والمراد بهذا التذكير: حضهم على المداومة على طاعة الله وشكره، حيث إنه سبحانه لم يجعلهم كأولئك الين استحوذ عليهم الشيطان.
والمعنى: احذروا أيها المؤمنون أن تتشبهوا بأولئك الذين خرجوا من ديارهم بطرا ، ومفاخرة، واذكروا وقت أن( زين لهم الشيطان أعمالهم ) في معاداتكم، بأن وسوس لهم بأنهم على الحق وأنتم على الباطل، بأن قال لهم( لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم ) أي: لن يغلبكم أحد من الناس، كمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ولا غيرهم من قبائل العرب، وإني مجير وناصر لكم.
والمراد بالجار هنا: الذي يجير غيره أي: يؤمنه مما يخاف.
وقوله:( فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريئ منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب ): بيان لما فعله الشيطان وقاله ، بعد أن رأى ما رأى من قوة لا طاقة له بها.
وقوله:( تراءت ): أي: تقاربتا بحيث صارت كل فئة ترى الأخرى رؤية واضحة... وقيل: التقت.
وقوله( نكص على عقبيه ) أي: ولى هاربا ورجع القهقرى. والعقب: مؤخر القدمين. والمعنى: لقد حرض الشيطان جنوده من الكافرين على حربكم أيها المؤمنون، ومناهم بالنصر، ولكنه حين تراءت الفئتان: فئتكم، وفئته، ورأى ما أمدكم الله به من الملائكة، ولى مدبرا، وقال للكافرين ( إني بريئ منكم ) أي: من عهدكم ونصرتكم،( إني أرى ) من الملائكة النازلة لتأييد المؤمنين ما لا ترونه( إني أخاف الله ) أن يعذبني قبل يوم القيامة، أو: إني أخاف الله أن يصيبني بمكروه من قبل ملائكته.
وقوله( والله شديد العقاب ): يحتمل أن يكون من كلام إبليس الذي حكاه الله تعالى عنه، ويحتمل أنه جملة مستأنفة من كلامه عز وجل. أي: والله شديد العقاب لمن عصاه، وخالف أمره، أو أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وهناك قولان في كيفية تزيين الشيطان للمشركين:
أحدهما أن هذا التزيين لم يكن حسيا، وإنما كان معنويا عن طريق الوسوسة، دون أن يتحول الشيطان إلى صورة إنسان. وعليه يكون قوله( لا غالب لكم اليوم ) مجازا عن الوسوسة، وقوله( نكص على عقبيه ) استعارة لبطلان كيده، شبه بطلان كيده بعد وسوسته ، بمن رجع القهقرى عما يخافه. والمعنى: رجع القهقرى، يمشي إلى ظهره ، ةالعقب: مؤخر القدم، واللد، وولد الولد، والجمع: أعقاب. وأعقاب الأمور: أواخرها.
وثانيهما: أن هذا التزيين كان حسيا، بمعنى: أن الشيطان ثمثل لهم في صورة إنسان، في صورة( سراقة بن مالك ، سيد بني مدلج ) وقال لهم ما قال مما حكاه الله عنه. وقد اختلفت أقوال المفسرين في كيفية تزيين الشيطان، فانقسموا إلى ثلاثة أقسام:
- قسم منهم ذكر القولين السابقين دون أن يرجح أحدهما على الآخر، وممن فعل ذلك: الزمخشري، والفخر الرازي، والآلوسي.
- وقسم منهم سار في تفسيره على أن التزيين كان حسيا، بمعنى: أن الشيطان تمثل للمشركين في صورة إنسان، وممن فعل ذلك: ابن جرير الطبري، وابن كثير، والقرطبي.
- وقسم منهم رجح أن التزيين لم يكن حسيا، بل كان عن طرق الوسوسة، وقد سار في هذا الإتجاه صاحب المنار، مشككا في صحة ما سواه... والذي أراه: أن الآية صريحة في أن الشيطان قد زين للمشركين أعمالهم، وأنه قد قال لهم ما حكاه القرآن عنهم، وأنه حين تراءى الجمعان كذب فعلُه قولَه، ومن العسير بعد ذلك تحديد كيفية هذا التزيين، والقول، والنكوص، أهو حسي، أم غير حسي..!
وَوُصِلت الفاصلة(والله شديد العقاب) بالجملة قبلها(إني أخاف الله)لأن بين الجملتين تناسُب في المعنى، إذ خوفُ إبليس من رَبِّهِ لأن الله شديد العقاب
وخلت من المُؤَكِّدات: لأن إبليس لا يريد أن يؤكد للكافرين أن الله شديد العقاب، فيحذروا منه. وجاءت الجملة اسمية، لأن عهد إبليس بربه أنه دائم الشدة في عقاب الكافرين والمتكبرين من عباده.
وقوله تعالى بعد ذلك:( إذ يقول المنافقون والذين في قلوبه مرض غر هؤلاء دينهم ): بيان لصنفين آخرين من أعداء المسلمين، بعد بيان العدو الرئيس: وهم المشركون.
قال الفخر الرازي: أما المنافقون: فهم قوم من الأوس والخزرج، كانوا يظهرون الإسلام ويخفون الكفر. وأما الذين في قلوبهم مرض: قوم من قريش أسلموا ولم يهاجروا.( [216] )
والمعنى: اذكروا أيها المؤمنون وقت أن قال المنافقون والذين في قلوبهم مرض:( غَرَّ هؤلاء دينهم ) أي: خدعهم، لأنكم أقدمتم على قتال قوم يفوقونكم عدة وعددا، وهذا القتال في زعمهم لون من إلقاء النفس إلى التهلكة، لأنهم قوم لا يدركون حقيقة أسباب النصر، وأسباب الهزيمة. فهم لخراب بواطنهم من العقيدة السليمة، لا يعرفون أثرها في الإقدام من أجل نصرة الخق، ولا يقدرون ما عليه أصحابها من صلة طيبة بالله عز وجل الذي بيده النصر والهزيمة. وما داموا قد فقدوا تلك المعرفة، وهذا التقدير، فلا تستبعدوا منهم أيها المؤمنون أن يقولوا هذا القول عنكم، ذلك مبلغهم من العلم، وتلك موازينهم في قياس الأمور. وعندما يتدبر الإنسان ذلك يرى: أن هذا القول دأب كل المنافقين والذين في قلوبهم مرض في كل زمان ومكان. وبعد هذا البيان لأحوال الكافرين في حياتهم، انتقل القرآن لبيان أحوالهم عند مماتهم..
فقال الله تعالى:
[ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ( 50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ( 51). ]
الشرح والتفسير
كثر التعبير في القرآن الكريم بـ( ترى )، وليس المراد بها الخطاب لواحد مخصوص معين دون غيره، بل يقصد بها: تعميم الخطاب ، وكون الشيئ على تلك الصفة، إذا رآه أي راء، رآه عليها، فلا تختص براء معين. فالمقصود من الخطاب بها: أي مخاطب، وكل مخاطب يتأتى منه الخطاب. وذلك للإشارة إلى أن الأمر – موضوع الخطاب – من الوضوح بمكان، وقد بلغ من وضوحه أنه يراه الناس جميعا، فلا يختص به راء دون راء، فكل من يتأتى منه الخطاب له مدخل في الرؤية. وكأن المراد بكلمة( ترى ) في مشاهد القيامة: التشهير بحال المشركين يوم المحشر، وأن حالتهم المزرية، وغير ذلك من سمات الخزي والخذلان، قد بلغت من الظهور لأهل الجمع كلهم إلى درجة يمتنع خفاؤها.
وأما التعبير بها في مشاهد الدنيا، ومظاهر الحياة ، فالمراد: أن هذه النعم السابغة، والمشاهد المبثوثة في الكون، كأنها في شهرتها، وظهورها للناس أكثر من نار على علم، وقد ظهرت لأهل الرؤية عامة، وبلغت درجة من الوضوح لا يمتنع خفاؤها على أحد.
و( لو ): شرطية، وجوابها محذوف، لتفظيع الأمر وتهويله.
والمراد بالذين كفروا: كل كافر، وقيل: المراد بهم: قتلى غزوة بدر من المشركين.
والفعل المضارع هنا وهو( ترى ) بمعنى الماضي، لأن لو الامتناعية ترد الفعل المضارع ماضيا.
والفعل( يتوفى ): فاعله محذوف للعلم به، وهو الله عز وجل. وقوله ( الذين كفروا ) هو المفعول، وعليه يكون:( الملائكة ) مبتدأ، وجملة( يضربون وجوههم ): خبر
والمعنى: ولو عاينت أيها العاقل حال الذين كفروا حين يتوفى الله أرواحهم، لعاينت وشاهدت منظرا مخيفا، وأمرا فظيعا تقشعر من هوله الأبدان. ثم فصل الله سبحانه هذا المنظر المخيف بجملة مستأنفة، فقال ( الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ): المراد بوجوههم: ما أقبل منهم، وبأدبارهم: ما أدبر وهو كل الظهر. ومن المفسرين من يرى أن الفعل ( يتوفى ) فاعله( الملائكة )، وأن قوله( الذين كفروا ) هو المفعول، وقدم على الفاعل للاهتمام به. وعليه تكون جملة( يضربون وجوههم ):حال من الفاعل وهو الملائكة. فيكون المعنى: ولو رأيت أيها العاقل حال الكافرين عندما تتوفى الملائكة أرواحهم، فتضرب منهم الوجوه والأدبار، لرأيت عندئذ ما يؤلم النفس، ويخيف الفؤاد.
والتفسير الأول أبلغ، لأن توضيح وتفصيل الرؤية بالجملة الاسمية المستأنفة، أبلغ منه بجملة الحال. ولأن إسناد التوفي إلى الله أكثر مناسبة هنا، إذ أن الله تعال قد ى بين وظيفة الملائكة هنا فقال( يضربون وجوههم وأدبارهم ).وخص سبحانه الضرب للوجوه والأدبار بالذكر: لأن الوجوه أكرم الأعضاء، ولأن الأدبار: هي الأماكن التي يكره الناس التحدث عنها فضلا عن الضرب عليها. أو: لأن الخزي في ضربهما أشد وأعظم.
ترد كلمة الملائكة في القرآن الكريم ومعها الفعل بالتذكير مرة وبالتأنيث مرة أخرى..فما أسباب هذا الاختلاف وهل هو جائز أصلا؟ أما من حيث الجواز فهو جائز طبعا، لأن الملائكة ليست جمعا مذكر سالما فيجوز تذكير الفعل ويجوز التأنيث وهذا تلخيص سريع لمواضع تأنيث الفعل من حيث الوجوب والجواز
إذا كان الفاعل مؤنثاً أنث فعله بتاء ساكنة في آخر الماضي، وبتاء المضارعة في أول المضارع، نحو: قامت هند، وتقوم هند. وهذا قد يجب وقد يجوز.. فيجب: ـ إذا كان الفاعل ضميراً مستتراً عائداً على مؤنث حقيقي التأنيث، نحو: هند قامت أو هند تقوم. ـ أو مجازيِّ التأنيث، نحو: الشمس طلعت أو الشمس تطلع. ـ إذا كان الفاعل اسماً ظاهراً متصلاً بعامله مباشرة، حقيقي التانيث، كقوله، تعالى( إذ قالت امرأة عمران ) ( آل عمران: 35)
ويجوز تأنيث الفعل في ثلاثة مواضع:
ـ إذا كان الفاعل أو شبهه( نائب الفاعل، اسم الفعل الناسخ ) اسما ظاهرا حقيقي التأنيث مفصول عن الفعل مثل سعى بين الصفا والمروة المؤمنة ويجوز سعت.. ـ إذا كان الفاعل أو شبهه جمع تكسير: ذبلت الأوراق ويجوز ذبل الأوراق ـ إذا كان الفاعل أو شبهه اسما ظاهرا مجازي التأنيث اندلعت الحرب. ويجوز اندلع الحرب ولكن السؤال: هل هناك خطة معينة سار عليها القرآن في ترتيب هذه الأفعال؟ ولماذا اختار الله عز وجل بعض المواضع ليكون الفعل معها مذكرا ومواضع أخرى جاء الفعل مؤنثا؟ بعد استقراء الآيات القرآنية التي تحدثت عن الملائكة تم التوصل إلى الملحوظات التالية، التي تبين خطا تعبيريا مميزا سار عليه القرآن في استعمال الفعل مع(الملائكة)، ولها حِكم وأسرار تخص هذا الترتيب البديع في الاستعمال، قد يدرك العلماء بعضها ويغيب عنهم بعضها الآخر، ولكنه لا ينقص من قدر هذا التميز، بل يدفع للتفكير فيه ومحاولة النسج على منواله: ـ كل فعل أمر يصدر للملائكة يكون بالتذكير: اسجدوا، أنبئوني، فثبتوا كل فعل للعبادة يأتي بالتذكير: "فسجد الملائكة كلهم أجمعون"، " فقعوا له ساجدين"، "لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون" وقد يكون ذلك لما تتطلبه العبادة من قوة، ولأن المذكر في العبادة أكمل، وقد قال عز وجل: [ وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم]( يوسف: 109) وقال عن مريم - عليها السلام -:[ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ] ( التحريم:12 )
ـ كل فعل يقع بعد ذكر الملائكة يكون بالتذكير، أي الفعل الذي يتأخر عن الملائكة يكون بالتذكير:( والملائكة يدخلون عليهم من كل باب)( الرعد: 23) ،( وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُون)( النساء: 166)،(وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ)( الشورى: 5)،( لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين)( الاسراء: 95) ـ كل وصف اسمي للملائكة يكون بالتذكير:
* [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ ]( آل عمران:124 ) * [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ]( آل عمران125 ) * [وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُون ]( النساء: 172) * [ والْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ ]( الأنعام: 93) * [ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ ]( الأنفال:9) * [وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين ]( الزمر:75) * [ فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِين ](الزخرف:53 )
ـ العقوبات تأتي بالتذكير، ولو كانت عقوبة جاءت في موضعين فالأشد منهما بالتذكير. * [ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ]( الأنفال:50) *[ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ](محمد:27 ) من الآية نفسها نلاحظ الشدة في الثانية بذكر عذاب الحريق، وتتبع بقية آيات السورة يرينا أنه تم تشبيههم بآل فرعون، فالسياق جاء بالشدة فذكر الفعل، أما الآية الثانية فكان السياق أخف فجاء بالتأنيث * [وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً ](الفرقان:25) * [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ]( فصلت:30 ) الفعل واحد هو النزول، ولكن حالة الشدة جاء الفعل فيها مذكرا، أما جو الطمأنينة فقد استدعى التأنيث وفي المقابل لم تأت بشرى من الملائكة بصيغة التذكير، بل كل البشارات بالتأنيث . ولعل ذلك لما في البشارة من رقة وما يتناسب معها من لطف وخفة وذلك من خصائص الإناث * [ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ] ـ( البقرة:248 ) * [إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ ](آل عمران:42 ) * [ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ](ـ آل عمران:42 ) * [فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً] (آل عمران: 39 ) * [ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ] (فصلت:30)
وقوله( وذوقوا عذاب الحريق ): الذوق: إدراك المطعومات، والتعبير به هنا عن ذوق العذاب، هو لون من ألوان التهكم عليهم، والإستهزاء بهم. وهو يشعر بأن ما وقع عليهم من عذاب، إنما هم بمنزلة المقدمة لما هو أشد منه، كما أن الذوق عادة يكون كالمقدمة للمطعوم. وقوله:( ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد ): بيان للأسباب التي أدت بهم إلى هذا المصير السيئ، وأنهم هم الذين جنوا على أنفسهم بشؤم صنيعهم، وانقيادهم للهوى والشيطان.فاسم الإشارة( ذلك ): يعود إلى الضرب وعذاب الحريق. والمراد بالأيدي: الأنفس والذوات . والتعبير بالأيدي عن ذلك: من قبيل التعبير بالجزء عن الكل. وخصت الأيدي بالذكر: لأن أكثر الأعمال يكون عن طريقها.
ما اللمسة البيانية في عدم ذكر جواب الشرط فى قوله تعالى(وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ..)( الانفال:50).. ؟
قد يُحذف للتعظيم وهذا ورد كثيراً في القرآن كما حذف جواب القسم في أوائل سورة ق(ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ(1)). جواب الشرط يُحذف في القرآن كثيراُ كما في قوله تعالى(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآَنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ(31: سبأ) وقوله تعالى(إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ(1) الانشقاق)(وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ(50: الأنفال) وذلك حتى يذهب الذهن كل مذهب وهذا أمر عظيم، فهناك من يستدعي العقوبات..
* ما الفرق بين بما قدمت أيديكم وبما كسبت أيديكم...؟
التقديم أن تعطي وتقدم مما عندك أما الكسب فأن تجمع وتأخذ بنفسك. ننظر كيف يستعمل القرآن قدمت وكسبت:(ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) (الروم: 41) قبلها ذكر كسباً غير مشروع(وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ)( الروم: 39) هذا كسب فقال بما كسبت أيديكم كسب وليس تقديم. آية الشورى(وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ( الشورى: 30 ) قبلها ذكر كسب وسوء تصرف(وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ( الشورى: 27 ) هذا كسب فقال كسبت. آيات التقديم ليست في سياق الكسب مثال(وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ(36: الروم) قبلها قال(وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ(الروم: 33) ليس فيها كسب.(اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ(47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ ( الشورى: 48 ) ليس فيها كسب،(لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ(181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) ( آل عمران: 181-183) كأن هذا الكلام مقدم من قِبَلهم،(وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ(50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ(الأنفال: 50-51) التقديم لما فعلتم وقدمتم لآخراكم لكن الكسب يكون في نطاق الكسب والاستحواذ.
وقوله:( وأن الله ليس بظلام للعبيد )( [217] )
: أي: أن ذلك الذي نزل بكم، سببه: ما قدمته أيديكم، والله تعالى ليس بمعذب لعبيده من غير ذنب جنوه.
ثم بين سبحانه أن هؤلاء الكافرين عادتهم في كفرهم وطغيانهم، كعادة من سبقهم من الأمم الظالمة، وإن من سنة الله تعالى في خلقه أن لا يعاقب إلا بذنب، وأن لا يغير النعمة إلا لسبب..
فقال الله تعالى:
[ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ( 52). ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ( 53). كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ( 54). ]
الشرح والتفسير
الدأب: أصله الدوام والإستمرار. يقال: دأب فلان على كذا: إذا داوم عليه وجد فيه. ثم غلب استعماله في الحال والشأن والعادة.
والآل: مقلوب عن الأهل. وخص بالإضافة إلى أعلام الناطقين دون النكرات، ودون الأزمنة والأمكنة، فلا يقال: آل رجل، ولا آل الحجام، بل يضاف إلى الأشرف والأفضل. والمقصود بآل فرعون: أعوانه وبطانته. لأن الآل يطلق على أشد الناس التصاقا واختصاصا بالمضاف إليه. والمعنى: شأن هؤلاء الكافرين الذين حاربوك يا محمد، والذين هلك منهم من هلك في بدر، شأنهم وحالهم فيما اقترفوه من الكفر والعصيان، وفيما فعل بهم من عذاب وخذلان، كشأن آل فرعون الذين استحبوا العمى على الهدى، والذين زينوا له الكفر والطغيان، حتى صار عادة له ولهم، وقد أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر بسبب كفرهم. وقد خص سبحانه فرعون وآله بالذكر من بين الأمم الكافرة: لأن فرعون كان أشد الطغاة طغيانا، وأكثرهم غرورا وبطرا. أما آله وبطانته: فهم الذين زينوا له السوء، وحرضوه على البطش بموسى - عليه السلام - لأنه جاءهم بالحق.
وقوله:( كفروا بآيات الله ): تفسير لصنيعه الباطل، ودأبهم على الفساد والضلال.
والمراد بآيات الله: ما يعم الآيات المتلوة في كتب الله، والبراهين والمعجزات الدالة على صدق الأنبياء. وفي إضافتها إلى الله: تعظيم لها وتشريف.
وقوله:( فأخذهم الله بذنوبهم ): بيان لما ترتب على كفرهم من عقوبات أليمة. وفي التعبير بالأخذ: إشارة إلى شدة العذاب، فسبحانه قد أخذهم كما يؤخذ الأسير الذي لا يستطيع الفكاك من آسره.
والباء في قوله( بذنوبهم ): للسببية، أي: بسبب كفرهم وفسوقهم عن أمره، ويجوز أن تكون للملابسة: أي: أخذهم وهم متلبسون بذنوبهم دون أن يقلعوا عنها. والمراد بذنوبهم: كفرهم، وما ترتب عليه من فسوق وعصيان، وأصل الذنب: الأخذ بذنب الشيئ، أي: بمؤخرته، ثم أطلق على الجريمة، لأن مرتكبها يعاقب بعدها. وقوله:( إن الله شديد العقاب ): تذييل مقرر لمضمون ما قبله من الأخذ الشديد، بسبب الكفر والمعاصي. أي: إن الله تعالى قوي لا يغالبه غالب، شديد عقابه لمن كفر بآياته، وفسق عن أمره.
ما الفرق بين الآيات(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( آل عمران:11) و(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ )( الأنفال: 52) و(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ)(الأنفال : 54 )؟ ما الفرق بين كذبوا بآياتنا وكفروا بآياتنا...؟
لا شك أن الكفر أعمّ من التكذيب لأن التكذيب حالة من حالات الكفر. ننظر كيف يكون التعبير مع كذبوا وكيف يكون التعبير مع كفروا... ولماذا اختار هنا كذبوا وهنا كفروا؟ في آل عمران قال تعالى: (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) (آل عمران: 11) وفي الأنفال قال(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ)(الأنفال : 52) أكّد بـ(إنّ) وأضاف كلمة(قوي) لأنه لما كان الكفر أعمّ وأشدّ، شدد وأكّد(إن الله قوي شديد العقاب) وهناك قال(والله شديد العقاب) فإن أولاً لما قال كفروا، وكفروا أعمّ من كذبوا ، فعمم(إن الله قوي شديد العقاب) أكّد قوته وشدد عقابه ، ولو قال شديد العقاب في الآية الثانية لا تدل على أنه قوي فقد يكون شديد العقاب ولكن غير قوي.
في سورة الأنقال نفسها آية أخرى(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ )(الأنفال : 54) عرفنا كيف ختم الآية(والله شديد العقاب)(إن الله قوي شديد العقاب) لم اختار هنالك كذبوا وهنا كفروا وهنا في الأنفال كذبوا؟ نلاحظ قلنا أن الكفر أعمّ من التكذيب، ننظر في الآيات: ذكر في آل عمران حالة جزئية(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا ) (آل عمران: 10) ذكر أمرين: الأموال والأولاد ولكن هل عدم الإغناء هذا فقط؟ هناك الأتباع، الآلهة، السلطان والله تعالى ذكر كثيراً من حالات الاستغناء(وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ )(21) إبراهيم) هذا غير الأولاد،(مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ. هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ(29: الحاقة) السلطان،(وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ )(101: هود) الآلهة،(لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا )(26:النجم) الشفعاء. إذن ذكر حالة جزئية فلما ذكر حالة جزئية ذكر حالة جزئية من الكفر وهي التكذيب.
(وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ(50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ(51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ )(52: الأنفال) حالة عامة ليس فيها ذكر حالة جزئية. لما ذكر حالة جزئية وصفهم بحالة جزئية وهو التكذيب ولما ذكر حالة عامة ذكر بأمر عام وختم كل آية بما يناسبها. التكذيب جزء من الكفر بآيات الله. رب العالمين قال(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ)(33: الأنعام) إذن الجحود غير التكذيب، هناك جحود وتكذيب وكفر. لا يكذب لكن يرى أن لله ولداً! هناك فرق.(وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا(14: النمل) حالة جزئية لأن حالات الكفر ليست محددة بهذه الجزئية. التكذيب من الكفر وهو حالة جزئية من الكفر. هل يستقيم المعنى اللغوي السليم أن يأتي بجالة عامة ثم يأتي بالتكذيب؟ هذا ليس من اللغة وإنما من البلاغة. الأحمق العربي يتكلم كلاماً صحيحاً لكن ليست بليغاً. أي جملة على السياق النحوي صحيحة لكن هل هي بليغة؟ فرق أن يأتي بالكلام صحيحاً وبين هل هو بلاغة؟ هل هذا ما يقتضيه السياق والمقام؟ وجمال القرآن يكمن في هذه الأشياء وليس في النحو.( [218] )
وقوله:( ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم..): بيان لسنة من سنن الله تعالى في خلقه، وتعليل لتعذيب أولئك الكفار.
والمعنى: ذلك الذي نزل بأولئك الكفرة من التعذيب والخذلان عدل إلهي، فقد جرت سنته في خلقه، أن لا يبدل نعمة بنقمة ، إلا بسبب ارتكاب الذنوب، فإذا لم يتلق الناس نعمه عز وجل بالشكر والطاعة، وقابلوها بالكفر والعصيان، بدل نعمتهم بنقمة جزاء وفاقا. وقوله:( وأن الله سميع عليم ): أي: ذلك التعذيب بسبب جحودهم النعم، وبسبب أنه سبحانه سميع لما نطقوا به من سوء، وعليم بما ارتكبوه من قبائح ومنكرات.
ثم ذكر سبحانه ما عليه المشركون من جحود، وغرور، وعناد ، على سبيل التأكيد والتوبيخ ، فقال:( كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين ) أي: شأن هؤلاء المشركين الذين حاربوك يا محمد، كشأن آل فرعون ومن تقدمهم من الأقوام السابقة، كقوم نوح و قوم هود ، كذب أولئك جميعا بآيات ربهم، فأهلكهم الله سبحانه بسبب ما ارتكبوه من ذنوب، وبسبب استعمالهم النعم في غير ما خلقت له.
( وأغرقنا آل فرعون ): الذين زينوا له الكفر والطغيان.( وكل كانوا ظالمين ): أي: وكل من الأقوام المذكورين كانوا ظالمين لأنفسهم بكفرهم، ولأنبيائهم بسبب محاربتهم لهم وإعراضهم عنهم.
وبعد أن شرح سبحانه أحوال المهلكين من شرار الكفرة، شرع في بيان أحوال الباقين منهم، وتفصيل أحكامهم..
فقال الله تعالى:
[ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ( 55). الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ( 56). فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ( 57). وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ( 58). وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ( 59). ]
الشرح والتفسير
قال الفخر الرازي: ( اعلم أن الله تعالى لما وصف كل الكفار بقوله: ( وكل كانوا ظالمين ) ، أفرد بعضهم بمزية في الشر والعناد، فقال:( إن شر الدواب عند الله ) أي: في حكمه وعلمه من حصلت له صفتان:
الأولى: الكافر الذي يكون مستمرا على كفره مصرا عليه.
الثانية: أن يكون ناقضا للعهد على الدوام.
قال ابن عباس:( هم بنو قريظة، فإنهم نقضوا عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأعانوا عليه المشركين بالسلاح في يوم بدر، ثم قالوا: أخطأنا، فعاهدهم مرة أخرى، فنقضوه يوم الخندق. )( [219] )
وقد كثر اللغط حول من نزلت بهم عقوبة الإعدام، وهم المقاتلة فقط، وهو اللفظ الذي اختاره البخاري ومسلم لوصف العقوبة، والراجح في المقاتلة أنهم الذين باشروا القتال والتحريض على الخيانة والغدر، وأن الراجح في عدد من وقعت عليهم عقوبة الإعدام هو أربعون رجلا كما ثبت عن الزهري بإسناد قوي، وأن باقي الأرقام وردت في روايات مرسلة عن التابعين ضعيفة وغير مقبولة لدى غلماء الحديث، وذكرت الروايات أنهم جمعوا في دار واحدة لامرأة من بني النجار وثيل: دار أسامة بن زيد، وهذا الجمع بافتراض صحته، إنما يصح إن كان العدد أربعين أو خمسين رجلا، أما ما ورد في بعض الروايات المؤفوضة بأنهم اربعمائة أو تسعمائة فلا تكفي دار واحدة لاستيعابهم. وعقوبة الخيانة العظمى في كثير من الدول معمول بها وهي الإعدام.. زماذا نسمي ما يقوم به اليهود حاليا في فلسطين.. ففي غملية واحدة تقتل اضغاف هذا العدد ولا يرف للعالم جفن؟؟
والدواب: جمع دابة، وكل ما يدب على الأرض. والمعنى: إن شر ما يدب على الأرض - في حكم الله وقضائه - الذين أصروا على الكفر ، ولجوا فيه. وقد وصفهم الله بأنهم شر الدواب لا شر الناس : للإشعار بأنهم بمعزل عما يتحلى به الناس من تعقل وتدبر الأمور، ولزيادة توبيخهم. وقوله( فهم لا يؤمنون ): تذييل قصد به أنهم مستمرون في الضلال والعناد. وقوله:( الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة..) كان العطف ب(ثم ): المفيدة للتراخي، للإيذان بالتفاوت الشديد بين ما أخذ عليهم من عهود، وبين ما تردوا فيه من نقض لها، واستهانة بها.
وجيئ بصيغة المضارع( ينقضون ): المفيدة للحال والاستقبال، للدلالة على تعدد النقض وتجدده، واستحضار الصورة بدل الماضي أي عدل به عن الماضي إلى المضارع . وأما عطف المضارع الذي یفید المستقبل( ثم ینقضون ) على الماضي( عاهدت(للدلالة على استمرار النقض منهم. ثم ختم الآیة الكریمة بقوله تعالى:( وهم لا یتقون ) أي:
لا یتقون النقض ولا یخافون عاقبته ولا یتجنبون أسبابه.
والآیة عامة في وصف كل من نقض العهد بعد توكیده، وخان المواثیق بعد عقدها، فهي تنطبق على الیهود، والأعراب الذین كانوا یمكرون ویخونون العهود مع النبي - صلى الله علیه وسلم - وكذلك على المنافقین وأمثالهم في كل زمان..
ثم بين سبحانه ما يجب على المؤمنين نحو هؤلاء الناقضين لعهودهم في كل مرة ، دون حياء أو تدبر للعواقب، فقال:( فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون ).
وقوله( تثقفنهم ): من الثقف، بمعنى الحذق في إدراك الشيئ وفعله. وقيل: تصادفهم، وتظفر بهم. وفي المصباح: ثقفت الشيء ثقفا، ظفرت به، وثقفت الحديث: فهمته بسرعة، والفاعل: ثقيف.
وقوله:( فشرد بهم ): التشريد عبارة عن التفريق مع الإضطراب.
والمعنى: إنك يا محمد إذا ما أدركت في الحرب هؤلاء الكافرين الناقضين لعهودهم، وظفرت بهم، فافعل بهم فعلا من القتل ، والتنكيل، يتفرق معه جمع كل ناقض للعهد، ويفزع من هوله كل من كان على شاكلتهم في الكفر ونقض العهود. والباء في قوله( فشرد بهم خلفهم ) للسببية، والمراد بمن خلفهم: كفار مكة وغيرهم من الضالين. وقوله( لعلهم يذكرون ): أي: يتعظون بهذا القتل والتنكيل، فيمنعهم ذلك عن نقض العهد. هذا هو حكم المصرين على كفرهم، الناقضين لعهودهم، أما الذين تخشى منهم الخيانة : فقد بين سبحانه حكمهم بقوله:( وإما تخافن من قوم خيانى فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين ). وقوله:( تخافن ): من الخوف، والمراد به هنا: العلم. وقوله( فانبذ ): من النبذ، بمعنى: الطرح. وهو مجاز عن إعلامهم بأنهم لا عهد لهم بعد اليوم. فشبه سبحانه العهد بالشيئ الذي يرمى لعدم الرغبة فيه. وقوله:( على سواء ): أي: حال كونكم مستوين في العلم بطرح العهد، فعلمك به لأنه فعل نفسك، وعلمهم به: بإعلامك إياهم: فكأنه قيل في الآية: فانبذ عهدهم وأعلمهم بنبذه،ولا تقاتلهم بغتة لئلا يتهموك بالغدر( [220] )
ثم بين سبحانه بعد ذلك أن الكافرين لن ينجوا من عقابه، وبشر المؤمنين بالنصر، فقال:( ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون ). وقوله( يحسبن ): من الحسبان بمعنى الظن. وقوله( يعجزون ): من العجز،( وأصله: التأخر عن الشيئ، ثم صار في التعارف اسما للقصور عن فعل الشيئ، وهوضد القدرة..والعجوز سميت بذلك: لعجزها في كثير من الأمور )( [221] ) . أي: ولا تحسبن أيها الرسول أن هؤلاء الكافرين قد سبقونا بخيانتهم لك، أو أفلتوا من عقابنا، وصاروا في مأمن منا ، إنهم لايعجزوننا عن إدراكهم، وإنزال العقوبة بهم. والمقصود من الآية الكريمة: قطع أطماع الكافرين في النجاة، وإقناطهم في الخلاص. فكأنه يقول لهم: من لم يصبه عذاب الدنيا، فسيصبه عذاب الآخرة. أما المؤمنون فلهم النصر وحسن العاقبة.
فصلت الفاصلة(إن الله لا يحب الخائنين ) عن جملة(فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ) لأن جملة(فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ)جواب الشرط، ولا يراد أن تكون الفاصلة جواب شرط.
وأكدت بمؤكدين( إن، واسمية الجملة ) لتنبيه العباد إلى إطلاق بغضه سبحانه لهذا الخلق الذميم، لأنه قد يهون في نفوسهم بغض الله لصغائره ودقائقه، فينزلقون في شعبه الصغيرة، وهي من شُعَب النفاق المشابهة لشُعَب الكُفْر، فأكد سبحانه بغضه له، ليحذروه كله، كبيره وصغيره، قليله وكثيره.
وعرف المسند إليه بالعلمية، ليزداد عندهم كمال اسمه العظيم(الله ).
والألف واللام في(الخائنين ) للاستغراق، لتشمل الخائنين من الكافرين والمؤمنين،، لشناعة هذا الخلق الذميم.. واسمية الجملة تفيد دواما في ثبوت هذه الصفة لله سبحانه، في كل وقت ثم أمر سبحانه المؤمنين بإعداد وسائل القوة التي يصلون بها إلى النصر، وإلى بعث الرعب في قلوب أعدائهم …
فقال عز وجل:
[ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ( 60). ]
الشرح والتفسير
قوله( وأعدوا ): من الإعداد بمعنى تهيئة الشيئ للمستقبل، والخطاب لكافة المؤمنين. و( الرباط ): في الأصل، مصدر ربط، ويطلق بمعنى المربوط مطلقا، وكثر استعماله في الخيل التي تربط في سبيل الله.
والمعنى: عليكم أيها المؤمنون أن تعدوا لقتال أعدائكم ، ما تستطيعون إعداده من وسائل القوة ، على اختلاف صنوفها وألوانها. وجاء سبحانه بلفظ( قوة ) منكرا، ليشمل كل ما يتقوى به في الحرب.
وخص رباط الخيل بالذكر: لمزيد فضلها وغنائها في الحرب، ولأن الخيل كانت الأداة الرئيسة في القتال في العهد النبوي ..( والحصان في عصرنا وحدة لقياس القدرة في علم الميكانيكا.!!؟ وهل الخيول ذوات الأربع ترهب أحدا الآن ؟؟ ألا يوجد في الآية إشارة إلى وسائل القتال الحديثة التي على المسلمين أن يقوموا بإعدادها ؟؟ ) ورباط الخيل: هي ما يربط منها. ورباط الخيل: حبسها واقتناؤها. قال الشاعر: فينا رباطُ جيادِ الخيل معلمة......وفي كليب رباط اللؤم والعار.
وقوله:( ترهبون به عدو الله وعدوكم ): بيان للمقصود من الأمر بإعداد ما يمكنهم إعداده من قوة. وقوله :( ترهبون ): من الرهبة، وهي مخافة مع تحرز واضطراب.وجملة( ترهبون ): حال من فاعل أعدوا، أي: حال كونكم مرهبين.. أي: أعدوا ما استطعتم من قوة،حالة كونكم مرهبين بهذا الإعداد عدو الله وعدوكم، من كل كافر، ومشرك ، ومنحرف عن طريق الحق. ولو أن المسلمين أخذوا بتعاليم القرآن الكريم، فأعدوا ما استطاعوا من قوة، ولم يعتمدوا على غيرهم في هذا الشأن، وبذلوا في سبيل الله ما استطاعوا من جهد مادي، وعلمي، وأدبي، لكان اليوم لهم شأن كبير كأسلافهم، ولما اجترأ عدوهم على أن يطأ ديارهم غازيا، ويستبيح مقدساتهم عاديا، فاللهم خذ بأيدينا إلى الحق، واجمع كلمتنا على الحق، ودبر لنا فإننا لا نحسن التدبير. وقوله :( وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ): كمشركي مكة، ويهود المدينة ، وترهبون به أيضا أعداء آخرين غيرهم لا تعرفونهم، لكن الله يعلمهم، وسيحبط أعمالهم. ورجح الفخر الرازي: أنهم المنافقون.( [222] )
ثم ختم سبحانه الآية الكريمة بالدعوة إلى الإنفاق في سبيله، وبشر المنفقين بحسن الجزاء، فقال:( وما تنفقوا من شيئ في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ): أي: وما تنفقوا أيها المؤمنون من شيئ قل أو كثر في وجوه الخيرات ، التي من أجلها الجهاد لإعلاء كلمة الله، ( يوف إليكم ) يصل إليكم عوضه في الدنيا، وأجره في الاخرة( وأنتم لا تظلمون ) أي: لا تنقصون شيئا من العوض أو الأجر.
ثم أمر الله رسوله بقبول السلم والمصالحة ، إذا ما رغب أعداؤه في ذلك، وكانت ظواهرهم وأفعالهم تدل على صدق نواياهم ..
فقال الله تعالى:
[ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 61). وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ( 62). وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ( 63). ]
قوله( جنحوا ): من الجنوح بمعنى الميل. وجنحت الإبل: أمالت أعناقها.. ويقال: جنح الليل: أقبل.. ومنه الجوانح للأضلاع: لميلها على حشوة الشخص.. والجناح من ذلك: لميلانه على الطائر.. والسلم: بفتح السين وكسرها: الصلح.. ويذكر ويؤنث.. والمعنى: عليك أيها الرسول الكريم أن تنكل في الحرب بأولئك الكافرين الناقصين لعهودهم في كل مرة، وان تهيئ ما استطعت من قوة لإرهابهم، فإن مالوا بعد ذلك إلى( السلم ): أي: المسالمة والمصالحة، فوافقهم، ومل إليها ما دامت المصلحة في هذه المسالمة. والآية منسوخة عند جماعة بآية السيف([223])..
وقوله:( وتوكل على الله إنه هو السميع العليم ): أي: اقبل المسالمة ما دام فيها مصلحتك، وفوض أمرك إلى الله تعالى، ولا تخش مكرهم وكيدهم، إنه سبحانه( هو السميع ) لأقوالهم، ( العليم ) بأحوالهم، فيجازيهم بما يستحقون. ويرد كيدهم إلى نحورهم. وعبر سبحانه عن جنوحهم إلى السلم بحرف( إن ) ، الذي يعبر به عن الشيئ المشكوك في وقوعه : للإشارة إلى أنهم ليسوا أهلا لاختيار المسالمة أو المصالحة لذاتها، وإنما هم جنحوا إليها لحاجة في نفوسهم، فعلى المؤمنين أن يكونوا دائما على حذر منهم، وأن لا يأمنوا مكرهم...
وأُكِّدت الفاصلة بـ( إن، والإسمية، وضمير الفصل ): لأن خبايا قلوبهم، ودواخل نفوسهم خفية لا يعلمها إلا الله، إذ يسمع خفيض أصواتهم، إن نووا شَرّاً، أو أضمروا حرباً، وحين يعلم الرسول – صلى الله عليه وسلم – والمؤمنون ثبوت هاتين الصفتين لربهم بهذا التأكيد، تزداد قلوبهم طمأنينة، ويأمنون من مكر عدوهم، لكفاية ربهم لهم.
ومجيىء ضمير الفصل لإفادة الحصر، إذ هو السميع غاية السمع لا غيره، والعليم غاية العلم لا غيره، فهو الذي يتولى كفايتك لا غيره.
ومجيئ أل التعريف في(السميع العليم) للاستغراق، فهو سميع للاصوات العالية والخفيضة، السرية والجهرية، وعلمه أحاط بخلقه، وبلغ خفاياهم، وعلانيتهم، وظاهر أمورهم وبواطنها.
وتكون( أل ) للجنس، فسمعه وعلمه – سبحانه -، أحاط بكل مخلوق في الأرض والسماء، من إنس وجن، ووحش وطير، والملائكة في السماء، والحوت في الماء، بل ما تسقط من ورقة إلا يعلمها.
وصيغة المبالغة في هذين الاسمين يزداد بها المؤمنون توكلا عليه سبحانه، فإن سمعه وعلمه يبلغان ما دق وخفي من تدابيرهم.
ثم أمن الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم – من خداع أعدائه، إن هم أرادوا خيانته، وبيتوا له الغدر من وراء الجنوح إلى السلم، فقال تعالى:( وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين ) ، فالآية تشجع النبي - صلى الله عليه وسلم - على السير في طريق الصلح ما دام فيه مصلحة للإسلام وأهله، وتبشره بأن النصر سيكون له، حتى ولو أراد الأعداء بإظهار الميل إلى السلم المخادعة ، والمراوغة.
فإن قيل: لما قال( هو الذي أيدك بنصره ) : فأي حاجة مع نصره إلى المؤمنين ، حتى قال( وبالمؤمنين )..؟
قلنا: التأييد ليس إلا من الله، لكنه على قسمين:
أحدهما : ما يحصل من غير واسطة أسباب معلومة معتادة. وهو المراد من قوله:( أيدك بنصره ).
والثاني: ما يحصل بواسطة أسباب معلومة. وهو المراد من قوله:( وبالمؤمنين ).( [224] ) ثم بين الله سبحانه بعض مظاهر فضله في كيفية تأييده لرسوله بالمؤمنين ، فقال:( وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم ) أي: من مظاهر فضل الله عليك يا محمد أن أيدك بنصره، وأن أيدك بالمؤمنين، بأن حبب إليهم الإيمان وزينة في قلوبهم، وجعل منهم قوة موحدة، فصاروا بفضله تعالى كالنفس الواحدة. بعد أن كانوا متنازعين متفرقين، لو أنفقت ما في الأرض من مال ومتاع، ما استطعت أن تؤلف بين قلوبهم المتنافرة، ولكن الله بفضله وقدرته ألف بينهم ، فصاروا إخوانا متحابين،( إنه ) سبحانه( عزيز ): أي: غالب في ملكه وسلطانه( حكيم ): في كل أفعاله وأحكامه.
وفصلت الفاصلة(إنه عَزِيزٌ حَكِيمٌ) عن الجملة(وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ) لكمال الاتصال بينهما، فقد جاءت الفاصلة بيانا للجملة الأولى،فإن فضل الله عليهم بتأليف قلوبهم من فضل عزته وحكمته. ويحتمل أن تكون الجملة الثانية بمنزلة التأكيد، لاتحاد المعنى، فإن قوله:( إنه عَزِيزٌ حَكِيمٌ) تأكيد لعزة الله وحكمته في فضله عليهم، بتأليف قلوبهم.
ونكر المسندإليه(عزيز حكيم ): دون تعريف، لزيادة جلال عزته، وبديع حكمته في قلوبهم، فيزدادون له محبةً وحمداً. واسمية الجملة تجعلهم يتأملون دوام واستمرار آيات عزته، وفضائل حكمته، ويحمدون ربهم على نعمائه فيها.
ثم مضت السورة الكريمة في تثبيت الطمأنينة في قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي قلوب أصحابه، فبينت لهم أن الله كافيهم وناصرهم، وأن القلة منهم تغلب الكثرة من أعداء الله، وأعدائهم …
فقال الله تعالى:
[ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ( 64). يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ(65). الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ( 66). ]
الشرح والتفسير
قال الفخر الرازي: ( اعلم أن تعالى لما وعده بالنصر عند مخادعة الأعداء، وعده بالنصر والظفر في هذه الآية مطلقا، وعلى جميع التقديرات، وعلى هذا الوجه: لا يلزم حصول التكرار، لأن المعنى في الآية الأولى: إن أرادوا خداعك: كفاك الله أمرهم. والمعنى في هذه الآية: عام في كل ما يحتاج إليه في الدين والدنيا. وهذه الآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال..)([225] )
والمعنى: يا أيها النبي ، الله كافيك وكافي متبعيك من المؤمنين، فهو سبحانه ناصركم ومؤيدكم على أعدائكم، فاعتمدوا عليه وحده،وأطيعوه في السر والعلن، لكي يديم عليكم عونه ونصره.
وفي معنى العطف في قوله تعالى ) : حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنین) قولان للعلماء:-
الأول: التقدیر: الله كافیك وكافي أتباعك من المؤمنين ، والمعنى یكفیك الله ویكفي من اتبعك.فلا یقال غالبا: حسبك وأخاك، بل المعتاد أن یقال حسبك وحسب أخیك.
الثاني: أن یكون المعنى: كفاك الله وكفى أتباعك من المؤمنین، وعلى كلا المعنیین، فالنصر كله من عند الله، ولكنه سبحانه جعل المؤمنین ینصرونه من باب اتخاذ الأسباب المألوفة المعتادة ( [226] )
والمعنى: یأیها النبي، هكذا ینادیه سبحانه وتعالى بهذا النداء المحبب إلى نفسه، وهي صفة النبوة تشریفا وتكریما له- صلى الله علیه وسلم - ، فلم یناده باسمه الصریح في كل القرآن ، بینما نادى كثيرا من أنبیائه علیهم السلام بأسمائهم الصریحة: آدم، ونوح ، وإبراهيم، وداود وموسي، وعیسى... وغیرهم - علیهم جمیعا السلام، - مثل قوله تعالى )"یا یحیى خذ الكتاب بقوة")(مریم: ١٢ )
یأیها النبي حسبك الله وكافیك، وحافظك من كل سوء ومكروه، وناصرك ومؤیدك أنت ومن اتبعك من المؤمنین، علیكم أن تعملوا بالأسباب وتعدوا القوة حتى تكونوا أقویاء حسیا ومعنویا. والحسب: بسكون السين: الكفاية. يقال: حسبك درهم.. وتزاد عليه الباء، فيقال: بحسبك درهم، أي: كفايتك. وهذا رجل حسبك من رجل.. وزيد صديقي فحسبي، أو: فحسب، أي: يكفيني ويغني عن غيره.
ثم أمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بتحريض المؤمنين على القتال من أجل إعلاء كلمة الحق، فقال تعالى:( يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال..)
قال الراغب: الحَرَض: ما لا يعتد به ، ولا خير فيه . ولذلك يقال لمن أشرف على الهلاك حرض. قال تعالى( حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين ) والتحريض: الحث على الشيئ، )( [227]).
وكرر النداء للنبي - صلى الله عليه وسلم -: للانتباه واليقظة لما بعد النداء، والحرص على تنفيذه، والعمل بمقتضاه.
والمعنى: يا أيها النبي بالغ في حث المؤمنين على القتال بصبر وجلد، من أجل إحقاق الحق.
وقوله: ( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون ) ، بشارة من الله تعالى للمؤمنين، ووعد لهم بالظفر على أعدائهم . أي: قابلوا أيها المؤمنون أعداءكم بقوة وإقدام، فإنكم إن يوجد منكم عشرون رجلا صابرون ، يغلبوا مائتين من الكافرين، وإن يوجد منكم مائة يغلبوا ألفا منهم، وذلك بسبب أن هؤلاء الكافرين قوم جهلة بحقوق الله، وبما يجب عليهم نحوه.
ثم حكى سبحانه بعض مظاهر فضله على المؤمنين ، ورحمته بهم، فقال( الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ..) والمعنى: لقد فرضنا عليكم أيها المؤمنون أول الأمر، أن يثبت الواحد منكم أمام عشرة من الكافرين، والآن وبعد أن شق عليكم الاستمرار على ذلك، ولم تبق هناك ضرورة لدوام هذا الحكم لكثرة عددكم، شرعنا لكم التخفيف رحمة بكم، ورعاية لأحوالكم، فأوجبنا عليكم أن يثبت الواحد منكم أمام اثنين من أعدائكم بدلا من عشرة، وبشرناكم بأنه إن يوجد منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين من أعدائكم، وإن يوجد منكم ألف يغلبوا ألفين منهم بإذن الله وتأييده. وقوله:( والله مع الصابرين ): تذييل مقرر لمضمون ما قبله. أي: والله مع الصابرين بتأييده ورعايته ونصره.
وعرف المسند إليه(والله ) بالعلمية، ليزدادوا أُنسا بذكره ومعيته.
والألف واللام في(الصابرين ) للعهد، فالصابرون الموعودون بهذا القرب والمعية من الله، هم من تأدبوا بهذه العبادة القلبية التي عََلَّمَهُم الله إياها ربهم، وبلغوا درجاتها المطلوبة. وتكون للاستغراق، أي: كل الصابرين.
واسمية الجملة أفادت دواماً واستمراراً يفتح أبواب الرجاء في قلوب عباده المؤمنين أن يوفقهم للصبر في القتال، ليظفروا بمعيته وقربه دائما.
ويرى بعض العلماء أن قوله تعالى:(إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ)([228]) منسوخ، قال ابن عباس: لما نزلت ثقلت على المسلمين فنسخها الله بقوله تعالى:( الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ)([229]) وقيل: لا نسخ، لأن التخفيف لا ينسخ حكم الأول، وإنما التخفيف رخصة وإباحة، والناسخ: ما رفع حكم المنسوخ.
وبالإجماع: أن الرجل إذا أطاق قتال غيره من المشركين وقاتلهم، كان له الأجر العظيم، قاله بعض المحققين([230]).
وبعد هذا الحديث المستفيض عن القتال في سبيل الله، عقب سبحانه ذلك بالحديث عن بعض الأحكام التي تتعلق بالأسرى
فقال الله تعالى:
[ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ( 67).لَوْلاَ كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ( 68). فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 69). ]
الشرح والتفسير
ذكر المفسرون في سبب نزول الآية روايات، منها: ما أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال: حدثني عمر بن الخطاب: أنه لما كان يوم بدر نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم – إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه تلاتمائة وتسعة عشر رجلا، فاستقبل القبلة، ثم مد يديه فجعل يهتف بربه: اللهم أنجز ما وعدتني. فقتل المسلمون من المشركين يومئذ سبعين وأسروا سبعين. قال ابن عباس: فلما أسروا الآسارى، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر وعمر: ما ترون في هؤلاء الأسارى ..؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله : هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية ، تكون لنا قوة على الكفار فعسى أن يهديهم الله إلى الإسلام. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما ترى يا ابن الخطاب..؟ قال: قلت : لا والله يا رسول الله، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم، فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من العباس فيضرب عنقه، وتمكنني من فلان – نسيب لعمر – فأضرب عنقه، حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين، فإن هؤلاء أئمة الكفر وضناديده، فهوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت.
فلما كان من الغد جئت، فإذا رسول الله وأبو بكر يبكيان، فقلت: يا رسول الله، أخبرني من أي شيئ تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إبكي على أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة – شجرة قريبة منه - وأنزل الله :( ما كان لنبي لأن يكون له أسرى … الآيات ). [231]
وقوله:( أسرى ): جمع أسير، مأخوذ من الأسر بمعنى الشد بالإسار، أي: القيد الذي يقيد به حتى لا يهرب، ثم صار لفظ الأسير يطلق على كل من يؤخذ من فئته في الحرب، ولو لم يشد بالإسار.
وقوله:( يثخن ): من الثخانة، وهو في الأصل: الغلظ والصلابة. ثم استعمل في النكاية والمبالغة في قتل العدو. فقيل: أثخن فلان في عدوه، أي: بالغ في قتله ، وإنزال الجراحة الشديدة به، لأنه بذلك يمنعه من الحركة ، فيصير كالشيئ الثخين ، الذي لا يسيل ولا يتحرك.
والمراد بالنبي في قوله( ما كان لنبي ): نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإنما جيئ باللفظ منكرا تلطفا به - صلى الله عليه وسلم - حتى لا يواجه بالعتاب.
والمعنى: ما استقام لنبي من الأنبياء( أن يكون له أسرى ) من أعدائه ، الذين يريدون به وبدعوته شرا( حتى يثخن في الأرض ) أي: حتى يبالغ في قتلهم، إذلالا للكفر، وإعزازا لدين الله.
وقوله:( تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة ): استئناف مسوق للعتاب
والعرض: ما لا ثبات له ولا دوام من الأشياء. والمراد بعرض الدنيا: حطامها، سمي بذلك لأنه قليل اللبث، يريد الفداء الذي أخذوه من أسرى بدر. وقد سمى المتكلمون الأعراض أعراضا: لأنها لا ثبات لها.. فإنها تطرأ على الأجسام، ثم تزول عنها.
والمعنى: تريدون أيها المؤمنون بأخذكم الفداء من أعدائكم الأسرى ، عرض الدنيا ومتاعها الزائل، وحطامها الذي لا ثبات له، والله تعالى يريد لكم ثواب الآخرة. وقوله( والله عزيز حكيم ): أي: عزيز لا يغالب، بل هو الغالب على أمره،(حكيم ) في كل ما يأمر به أو ينهى عنه.
وُصلت الفاصلة(وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) بالجملة قبلها(وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ) لأن بين الجملتين تناسباً من جهة المعنى، إذ إرادة الله لهم الآخرة من كمال عزته وحكمته.
وخلت من المؤكدات، لأن الرسول – صلى الله عليه وسلم – وصحابته – رضوان الله عليهم -، كانوا لا يعلمون حكمة الله القوي العزيز، من وراء تحريم أخذ مال الفداء من الأسرى، لذا سبقت الفاصلة بهذين الاسمين الجليلين لله سبحانه دون مؤكدات.
وذكر المسند إليه(والله) مُصَرحاً به دون نيابة ضمير، لأن المقام مقام إظهار عزة وقوة هذا الدين، الذي جاء من عند الله العزيز الحكيم، وأن لاسمه العظيم(والله) من الجلال والعظمة والرهبة، ما يجعل لدينه في قلوبهم من ذلك الجلال والعظمة والرهبة.
وجاء المسند من دون أل التعريف، للتفخيم والتعظيم، فإن له غاية الفخامة والجلال لعزته، وله غاية العظمة والكمال لحكمته.
واسمية الجملة: تفيد دواما واستمرارا، يجعل المؤمنين من جند الله، يسعون دائماً في نُصرَةِ دينه، وإعلاء رايته.
ثم بين سبحانه بعد ذلك بعض مظاهر رحمته بالمؤمنين، فقال( ولولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما اخذتم عذاب عظيم ). والمراد بالكتاب هنا: الحكم، لأن هذا الحكم مكتوب في اللوح المحفوظ.
والمعنى: لولا حكم من الله سبق منه في الأزل أن لا يعذب المخطئ على اجتهاده، أو: أن لا يعذب قوما قبل تقديم البيان إليهم، لولا كل ذلك ، ( لمسكم ) أي: لأصابكم( فيما أخذتم فيه ) أي: بسبب ما أخذتم من الفداء( عذاب عظيم ): أي: عذاب لا يقادر قدره في شدته وألمه.
ثم زاد سبحانه المؤمنين فضلا منه ومنة ، فقال:( فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفوررحيم ). والمعنى: لقد عفوت عنكم أيها المؤمنون فيما وقعتم فيه من تفضيلكم أخذ الفداء من الأسرى على قتلهم، وأبحت لكم الإنتفاع بالغنائم، فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا، ( واتقوا الله ) في كل أحوالكم،( إن الله غفور رحيم ) لمن اتقاه، وتاب إليه توبة صادقة. ثم أمرت السورة النبي - صلى الله عليه وسلم - : أن يخبر الأسرى بأنهم إذا ما فتحوا قلوبهم للحق واستجابوا له، سيعوضهم سبحانه عما فقدوه خيرا منه، أما إذا ما استمروا في كفرهم فإن الدائرة ستدور عليهم
يقول سبحانه:
[ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ( 70). وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( 71). ]
الشرح والتفسير
قال ابن كثير:( بعثت قريش إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في فداء أسراهم، ففدى كل قوم أسيرهم بما رضوا. وقال العباس: يا رسول الله.. قد كنت مسلما.. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الله أعلم بإسلامك، فإن يكن كما تقول، فإن الله يجزيك، وأما ظاهرك فقد كان علينا، فافتد نفسك، وابن أخيك: نوفل بن الحارث، وعقيل بن أبي طالب، وحليفك: عتبة بن عمرو أخي بني الحارث بن فهر. قال العباس: ما ذاك عندي يا رسول الله، فقال له الرسول: - صلى الله عليه وسلم - فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل، فقلت لها: إن أصبت في سفري هذا، فهذا المال الذي دفنته لبني: الفضل، وعبد الله، وقثم.
قال: والله يا رسول الله إني لأعلم أنك رسول الله، إن هذا الشيئ ما علمه أحد غيري وغير أم الفضل، فاحسب لي يا رسول الله ما أصبتم مني: عشرين أوقية من مال كان معي. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا، ذاك شيئ أعطانا الله منك.. ففدى نفسه، وابني أخويه، وحليفه، فأنزل الله تعالى فيه:( ياأيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى.. الآية ) …
قال العباس: فأعطاني الله مكان العشرين أوقية في الإسلام، عشرين عبدا كلهم في يده مال يضرب به، مع ما أرجو من مغفرة الله تعالى )([232] )
والمعنى: قل لهم أيها النبي( إن يعلم الله في قلوبكم خيرا ) أي: إيمانا وتصديقا، وعزما على اتباع الحق ( يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ) من فداء، بأن يخلفه عليكم في الدنيا، ويمنحكم الثواب الجزيل في الآخرة. ( ويغفر لكم ): زبادة في حضهم على الدخول في الإيمان.
( والله غفور رحيم ): تذييل قصد به تأكيد ما قبله من الوعد بالخير والمغفرة.
والتعبير بقوله( لمن في أيديكم ): للإشعار بأن هؤلاء الأسرى المشركين قد صاروا في قبضة المؤمنين ، وتحت تصرفهم. وأسند وجود الخير في قلوبهم إلى علم الله تعالى: للإشارة إلى أن إدعاء الإيمان باللسان فقط ، لا يكفل لهم الحصول على الخير الذي فقدوه، ولا يوصلهم إلى مغفرة الله، فعليهم أن يخلصوا في إيمانهم حتى ينالوا فضله وثوابه.
وقوله:( وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم ): إنذار لهم بسوء المنصير ، إذا ما لجوا في عنادهم وغدرهم، وبشارة من الله لرسوله وللمؤمنين بأن العاقبة ستكون لهم.
أي: وإن يرد هؤلاء الأسرى نقض عهودهم معك، فلا تهتم بهم، فهم قد خانوا الله من قبل هذه الغزوة، فكانت نتيجة ذلك أن أمكنك منهم، وسينصرك عليهم كما نصرك في بدر، والله عليم بما يسرونه وما يعلنونه، حكيم في تدبيره وصنعه ، ومن ذلك : أن يوهن كيد الكافرين، ويقابله بما يحبطه، كما فعل( بأبي عزة الجمحي )، فقد سأل النبي - صلى الله عليه وسلم – أن يمن عليه من غير فدية لفقره وعياله، وعاهده أن لا يظاهر عليه أحدا، فمن عليه، ولكنه لمم يوف بعهده، بل خان وغدر، فظفر به النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمكنه الله منه في غزوة( حمراء الأسد )، بعد يوم أحد، فلما وقع أسيرا، اعتذر للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وسأله العفو عنه، فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا، لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، ثم أمر الزبير أو عاصم بن ثابت فضرب عنقه([233] ) .
فالآية إنذار للأسرى إذا ما استحبوا العمى على الهدى، وتبشير للرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن خيانتهم ستكون وبالا عليهم.
وجيئ بالمسند(عليم حكيم )دون تعريف، لإفادة السَّعة والشمول، فتطمئن فلوبهم إلى واسع علمه، وبعيد حكمته، فيتوكلوا على ربهم، ويُفَوِّضوا أمرهم إليه.
والجملة الاسمية تفيد الدوام والاستمرار، فعلمه بِخلقه دائم، وحكمته في تصريف أمورهم، وتدبير مصالحهم ، ما دامت السموات والأرض. ثم ختم الله تعالى سورة الأنفال بالحديث عن علاقة المسلمين بعضهم ببعض، وعن علاقتهم بغيرهم من الكفار، وعن الأحكام المنضمة لهذه العلاقات
فقال الله تعالى:
[ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ( 72). وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ( 73). وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ( 74). وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنْكُمْ وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ( 75). ]
الشرح والتفسير
قوله تعالى:(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا) يعني الميراث.. وذلك أنهم كانوا يتوارثون بالهجرة.. ثم نسخ([234])
وهذه الآيات الكريمة التي ختم الله تعالى بها سورة الأنفال، وضحت أن المؤمنين في العهد النبوي أقسام، وذكرت حُكم كل قسم منهم.
أما القسم الأول: فهم المهاجرون الأولون، أصحاب الهجرة الأولى.
وأما القسم الثاني: فهم الأنصار من أهل المدينة.
والقسم الثالث: المؤمنون الذين لم يهاجروا.
والقسم الرابع: المؤمنون الذبن هاجروا بعد صلح الحديبية.
وقد عبر سبحانه عن القسمين: الأول والثاني بقوله:( إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا )
فالله قد وصف القسم الأول من المؤمنين، وهم الذين سبقوا إلى الهجرة بأعظم الصفات وأكرمها. فقد وصفهم بالإيمان الصدق، وبالمهاجرة فرارا بدينهم من الفتن، وبالمجاهدة بالمال والنفس في سبيل إعلاء كلمة الله. وكلمة( في سبيل الله ): تتناول كل طريق يرضي الله تعالى، ثم شاع استعمالها في الجهاد.
ما السر في تقديم ذكر(في سبيل الله) على الجهاد(بالمال والنفس) وتأخيره حينا كقوله تعالى :( الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ" )( التوبة: 20 ) حيث قدم(في سبيل الله) على نوعية الجهاد، وقال عز وجل في الأنفال ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ )( الأنفال: 72) فقدم الجهاد بالأموال على قوله(في سبيل الله)؟ نلحظ في الآيات القرآنية خطا عاما يوضح لنا سبب هذا التقديم والتأخير في الآيات التي تتحدث عن الجهاد فإذا كان السياق في جمع الأموال وحب المال، قدم ذكرَ التضحية به، وإذا كان السياق في القتال وليس في الأموال أو القعود عن الجهاد أخّـر الأموال، فهذا من باب التناسب بين الكلام ومناسبة المقال للمقام... فلو عدنا إلى الآيات السابقة في سورة الأنفال لوجدنا حديثا عن المال والفداء وأخذه من الأسرى والغنائم، وهذه الآية نفسها وردت تعقيبا على قوله تعالى: ( وما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا )( الأنفال: 67) وعرض الدنيا هو الفداء الذي أخذه من الأسرى وهو المال، فعاتبهم على أخذ المال ثم قال:(لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم)( الأنفال: 68) والذي أخذوه هو المال الذي افتدى الأسرى به أنفسهم، ثم قال:(فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا)( الأنفال: 69) فالسياق أصلا في المعاتبة على أخذ المال من الأسرى لذلك قدم المال لأنه كان مطلوبا لهم، فطلب أن يبدؤوا بالتضحية به، فكان التقديم للاهتمام به لأنهم يهتمون به.. أما لو عدنا إلى سورة التوبة لرأيناه كله في الجهاد وليس المال [ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ" ](التوبة:14 ) [ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] ( التوبة:16 ) [ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ](التوبة:19 ) فالسياق حدد التقديم وما يجب أن يتقدم، فلما كان هناك في أخذ الأموال وكان المال مطلوبا لهم قدم المال على(في سبيل الله) وهنا العكس فأخر المال..
وقوله( والذين أووا ونصروا ): بيان للقسم الثاني من أقسام المؤمنين في العهد النبوي، وهم الأنصار من أهل المدينة . وقد وصفتهم الآية بوصفين كريمين: أولهما: الإيواء الذي يتضمن معنى التأمين من الخوف. وثانيهما: النصرة، فأهل المدينة نصروا الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرين بكل ما يملكون من وسائل التأييد والمؤازرة. لذا جعل الله تعالى حكمهم وحكم المهاجرين واحدا،فقال:( أولئك بعضهم أولياء بعض )، فاسم الإشارة يعود إلى المهاجرين السابقين، وإلى الأنصار.
وقوله( أولياء ): جمع ولي، ويطلق على الناصر والمعين، والصديق، والقريب.
أي: أولئك المذكورون الموصوفون بهذه الصفات الفاضلة، يتولى بعضهم بعضا في النصرة والمعاونة والتوارث ، لأن حقوقهم ومصالحهم مشتركة.
وقوله تعالى:( والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيئ حتى يهاجروا..): بيان لحكم القسم الثالث من أقسام المؤمنين في العهد النبوي. أي: أولئك المقيمون في أرض الشرك من المسلمين ، تحت سلطان المشركين وحكمهم في مكة، فإنه ليس بينهم وبين المهاجرين والأنصار ولاية إرث( حتى يهاجروا ) إلى المدينة. كما أنكم أيها المؤمنون لا تنتظروا منهم تعاونا أو مناصرة، لأنهم بسبب إقامتهم في أرض الشرك وتحت سلطانه، أصبحوا لا يملكون وسائل المناصرة لكم.
ثم قال تعالى: ( وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق ): أي: وإن طلب منكم هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا النصرة على أعدائكم في الدين، فيجب أن تناصروهم، لأنهم إخوانكم في العقيدة ، بشرط أن لا يكون بينكم وبين هؤلاء الأعداء عهد ومهادنة، أي: إن نصرتكم لهم إنما تكون على الكفار الحربيين لا على الكفار المعاهدين، وهذا يدل على رعاية الإسلام للعهود، واحترامه للشروط والعقود. قال سليمان الجمل:( أثبت الله تعالى للقسمين الأولين النصرة والإرث، ونفى عن هذا القسم الإرث، وأثبت له النصرة.) [235]
وقوله:( والله بما تعملون بصير )، تذييل قصد به الترغيب في طاعة الله، والتحذير من معصيته. أي: والله مطلع على كل أعمالكم فأطيعوه ولا تخالفوا أمره.
وصرح بالمسند إليه(والله )لأنه مقام ترهيب وتحذير، ليذكروا له سبحانه واسع علمه، وعظيم قدرته، وسخطه إن هم خالفوه.وقدم(تعملون ) على(بصير ):للاهتمام بالعمل..واختيرت صفة (بصير )عن غيرها من الصفات العلا مثل( خبير، عليم ) تحذيراً لهم من الوقوع فيما نهتهم الآية عنه.
وجيئ بالمسند(بصير ) دون تعريف، لإفادة الإحاطة والشمول، فإنه سبحانه يبصر كل شيء. ومجيء الجملة اسمية: لإفادة الثبوت والاستمرار، فلا يغيب عن بصره شيء طرفة عين لا في الليل ولا في النهار..
وقبل أن تذكر السورة القسم الرابع من أقسام المؤمنين: تحدثت عن ولاية الكفار بعضهم لبعض ، فقالت:( والذين كفروا بعضهم أولياء بعض، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ) .
أي: والذين كفروا بعضهم أولياء بعض في النصرة والتعاون على قتالكم وإيذائكم، إلا تفعلوا ما أمرتكم به من التناصر والتواصل، وتولي بعضكم بعضا، من قطع العلائق بينكم وبين الكفار، تحصل فتنة في الأرض، ومفسدة شديدة فيها، لأنكم إذا لم تصيروا يدا واحدة على الشرك، يضعف شأنكم، وتذهب ريحكم.
وقوله تعالى:( والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا )، كلام مسوق للثناء على القسمين الأولين من الأقسام الثلاثة للمؤمنين وهم: المهاجرون والأنصار.
ما دلالة تقديم وتأخير(في سبيل الله) في آية سورة التوبة وسورة الأنفال..؟
قال تعالى في سورة التوبة(الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ {20}) وقال تعالى في سورة الأنفال(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَـئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {72})
الخط العام: إذا كان المقام في جمع وحفظ الأموال يبدأ بالتضحية به وإذا كان السياق في القتال وليس في الأموال يقدّم(في سبيل الله)على الأموال.
سورة التوبة كلها في الجهاد وليست في الأموال فسياق الآيات كلها عن الجهاد والقتال وليس المال لذا اقتضى تقديم(في سبيل الله) على الأموال والأنفس.
أما في سورة الأنفال قدّم الأموال على(في سبيل الله) لأنه تقدّم ذكر المال والفداء في الأسرى وعاتبهم الله تعالى على أخذ المال إذن السياق كله في المعاتبة على أخذ المال من الأسرى.
ثم ختم سبحانه السورة ببيان القسم الرابع من أقسام المؤمنين في العهد النبوي، فقال:( والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم..) أي: من جملتكم أيها المهاجرون والأنصار في استحقاق الموالاة والنصرة، واستحقاق الأجر والثواب من الله، إلا أن هذا الأجر ينقص عن أجركم، لأنه لا يتساوى السابق في الإيمان والهجرة والجهاد، مع المتأخر في ذلك قالوا: والمراد بالقسم الرابع من أقسام المؤمنين: أهل الهجرة الثانية التي وقعت بعد الهجرة الأولى. وقيل: المراد بهذا القسم: المهاجرون بعد صلح الحديبية، أو بعد غزوة بدر، أو بعد نزول هذه الآية. فيكون الفعل الماضي( آمنوا ) وما بعده بمعنى المستقبل.
وقوله:( وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ): بيان لحقوق الأقارب في النسب، والأرحام: جمع رحم، وسمي به الأقارب: لأنهم في الغالب من رحم واحدة. وأولوا الأرحام في اصطلاح علماء الفرائض: هم الذين لا يرثون بفرض ولا تعصيب.
أي: وذوو القرابة بعضهم أولى في التوارث، وفي غير ذلك مما تقتضيه مطالب الحياة من التكافل والتراحم. وقوله ( في كتاب الله ): أي: في حكمه الذي كتبه على عباده المؤمنين، فنسخت هذه الآية ما كان بين المهاجرين والأنصار من التوارث بسبب الهجرة والمؤاخاة.
وقوله( إن الله بكل شيئ عليم ): تذييل ختمت به السورة الكريمة، لحض المؤمنين على التمسك بما اشتملت عليه من آداب، وتشريعات، وأحكام، لينالوا رضاه. أي: إن الله تعالى مطلع على كل شيئ مما يدور ويجري في هذا الكون، ولا يخفى عليه شيئ في الأرض ولا في السماء، وسيجازي الذين أساءوا بما عملوا، ويجازي الذين أحسنوا بالحستى. اللهم عاملنا بما أنت أهل له، فإنك أهل التقوى وأهل المغفرة.
المراجع
الإتقان في علوم القرآن – جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي،(تـ 911 هـ) ط3، 1951م.
الإحكام في أصول الأخكام، لابن حزم، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد( تـ 320 هـ ) دار الكتب العلمية، بيروت. 1985م.
الالتفات في حاشبة الشهاب الخفاجي، د. هاشم محمد هاشم محمود، ط1، 1986م. مطبعة الأمانة، القاهرة.
الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه، لمكي بن أبي طالب، تحقيق أحمد حسن فرحات، ط دار المنار بجدة.
أساس البلاغة، للزمخشري جار الله محمود بن عمر(ـتـ 538هـ)، دارالمعرفة، بيروت.
أسباب النزول للواحدي – علي بن أحمد النيسابوري( ت468 هـ ) دار الكتب العلمية – بيروت 1395 هـ – 1975 م
البحر المحيط في التفسير، لأبي حيان،أبو عبد الله محمد بن يوسف بن علي الأندلسي( تـ 654 هـ) - دار الفكر، ا992م.
البرهان في علوم القرآن، بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي
( تـ 794هـ) تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، مصر، 1957م.
بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز: مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي(تـ 817هـ)، تحقيق: محمد على النجار، القاهرة، 1963م.
البيان والتبيين، لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ( تـ 255هـ) تحقيق عبد السلام هرون، القاهرة، 1948م.
تحرير التحبير، ابن أبي الاصبع المصري( تـ 654هـ) تحقيق حفني محمد شرف، القاهرة، 1383هـ.
تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي ، للمباركفوري، محمد عبد الرحمن( تـ 1283هـ ) المكتبة السلفية بالمدينة المنورة ، ط2، 1383هـ.
تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن كثير ( تـ 774هـ ) نشر دار طيبة، طذ، ذ418هـ.
تفيبر القرآن الكريم، محمد رشيد بن علي رضا(تـ 1354هـ )، دار المعرفة، بيروت.
التفسير الكبير، فخر الدين محمد بن عمر الرازي( 606هـ)، دار الكتب العربية، طهران.
التفسير الوسيط، د. محمد سيد طنطاوي ط2، 1986م، مطبعة السعادة، القاهرة.
التفسير والمفسرون، الدكتور محمد حسين الذهبي،( تـ 1973م) دار الكتاب العربي، القاهرة، 1961م.
تقريب التهذيب، أحمد بن علي بن محمد العسقلاني( تـ 852هـ ) نشر دار العاصمة، الرياض، طذ، 1416هـ.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري،(تـ 310هـ) تحقيق محمود شاكر، دار المعارف، القاهرة
الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي،محمد بن أحمد الأنصاري(تـ 671هـ) ط3، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
جمال القراء، لعلم الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي،( تـ592هـ ) تحقبق علي البواب، مكتبة التراث بمكة، ط1، 1987م.
جواهر البلاغة، السيد أحمد الهاشمي، ط12، بيروت
الدر المنثور في التفسير بالمأثور، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي ( تـ 911 هـ) ط1، المطبعة الميمنية، القاهرة، 1896م.
دراسات منهجية في علم البديع، د. الشحات أبو ستيت، ط1، 1992م. القاهرة. لا
ديوان لبيد بن ربيعة، نشر دار الكتاب العربي، ط1، 1414هـ.
روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، للآلوسي،شهاب الدين محمود ابن عبد الله (تـ ـ1270 هـ) دار الفكر، بيروت.
زاد المسير في علم التفسير، لابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي ( تـ 097هـ ) ط المكتب الاسلامي، ط4، 1987م.
سعادة الدارين في بيان وعد آي معجز الثقلين – محمد بن علي بن خلف الحسيني – مطبعة السعادة بمصر.
شرح صحيح مسلم، محيي الدين يحيى بن شرف النووي( تـ 676هـ) ط1، بيروت، 1407هـ.
الصناعتين، أبو هلال الحسن بن عبد الله العسكري( تـ 395هـ) طبة الآستانة، تركيا.
الفتوحات الإلهية بتوضيح الجلالين للدقائق الخفية – سليمان بن عمر العجيلي الشهير بالجمل(ت 1204 هـ ) دار احياء التراث العربي – بيروت
فتح الباري في شرح صحيح البخاري، لبن حجر، أحمد بن علي بن محمد العسقلاني( تـ 852هـ ) ط دار الريان، القاهرة، ط1 1987م.
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية في علم التفيبر، للشوكاني، محمد بن علي بن محمد (تـ 1200هـ ) ط عالم الكتب، بيروت.
في ظلال القرآن، سيد قطب بن إبراهيم(استشهد 1387هـ ) ط الحلبي بمصر.
القاموس المحيط، لمجد الدين الفيروز آبادي( تــ817 هـ)، مطبعة السعادة، بمصر.
قلائد المرجان في الناسخ والمنسوخ من القرآن – مرعي بن يوسف الكرمي، تحقيق: د. سامي عطا الحسن، ط2، دار غراس، 2008م، الكويت.
الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، للزمخشري جار الله محمود بن عمر(ـتـ 538هـ) دار الفكر، بيروت.
لطائف الإشارات، عبد الكريم بن هوازن القشيري،( تـ 465هـ) ط2، مركز تحقيق التراث، الهيئة المصرية للكتاب، 1981م.
لسان العرب، لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور( تـ 711هـ) دار صادر، بيروت.
مفردات ألفاظ القرآن، للراغب الأصفهاني، أبو القاسم الحسين بن محمد( تـ 502هـ) ، تحقيق صفوان داوودي، نشر دار القلم،ط1، 1412هـ.
مقاييس اللغة،لابن فارس(تـ 395هـ )، تحقيق عبد السلام هرون، دار الكتب العلمية.
المدخل لدراسة القر آن الكريم، محمد محمد أبي شهبة، ط3، 1987م. القاهرة.
المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، ضياء الدين إبي الفتح ابن الأثير الجزري( تـ 638هـ)، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مصر 1939م.
مجموع الفتاوى، لشيخ الاسلام ابن تيمية،( تـ 728هـ ) ط دار عالم الكتب، 1992م.
معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس( تـ395هـ)، تحقيق عبد السلام هرون، ط1، 1368هـ.
المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني، تحقيق وضبط محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت، 1956م.
من أسرار التعبير في القرآن،د. عبد الفتاح لاشين. طذ، 1983م. شركة مكتبات عكاظ، المملكة العربية السعودية.
مواهب الفتاح في شرح تلخيص المفتاح، لابن يعقوب المغربي(تـ 1050 هـ ) ضمن شروح التلخيص، القاهرة، 1973م.
ميزان الاعتدال في نقد الرجال، للحافظ الذهبي محمد بن أحمد،( تـ 748هـ ) تحقيق محمد على البجاوي، دار المعرفة بيروت.
الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم – للقاضي أبو بكر بن العربي – تحقيق د. عبد الكريم العلوي المدغري – مكتبة الثقافة الدينية – الرباط – 1413 هـ – 1992 م
النسخ في القرآن الكريم، د. مصطفى زيد، دار الفكر العربي، ط1، 1383هـ.
[1] - القرطبي، الجامع لأحكام القفرآن، المكتبة التوفیقیة، القاهرة ص ٢٩٠
[2] - الطبري، جامع البیان عن تأویل آي القرآن تحقیق محمود شاكر، 13: 370
[3] - القرطبى.. الجامع لأحكام القرآن(تفسير سورة الأنفال).
[4] - السيوطي: الاتقان: 1/ 148
[5] - صحيح البخاري: حديث( 4366)
[6] - صحبح ابن خزيمة: حديث( 542)
[7] - ابن عاشور: التحرير والتنوير: 1/ 50.
[8] - مسند الامام أحمد: حديث رقم( 17023) وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن
[9] - ابن عاشور: التحرير ولتنوير: 1/ 90.
[10] - المصدر السابق: 1/ 3503. وانظر: د. آدم بمبا: أسماء القرآن الكريم وأسماء سوره وآياته: ص 47-50.
[11] - انظر: اللسان: مادة نفل، ج11/ ص 670-671.
[12] - أخرجه الواحدي في أسباب النزول،( سورة الأنفال ) ص 231.
[13] _ السيوطي: الاتقان: 1: 172.
[14] - أخرجه البخاري: رقم:( 4882)
[15] - انظر: الفيروزابادى.. بصائر ذوى التمييز 1/222. والسيوطى.. الاتقان(النوع 17).
[16] - انظر: الفيروزابادى.. بصائر ذوى التمييز 1/222. والسيوطى.. الاتقان(النوع 17). و السيوطى.. الدرر المنثور 9/3. والآلوسى.. روح المعانى(تفسير الأنفال). والشوكانى.. فتح القدير(تفسير الأنفال)
[17] - البقاعى.. نظم الدرر(سورة الأنفال).
[18]- السخاوي.. جمال القراء 1/36.
[19] - موقع: إسلام ويب: رقم الفتوى: 44983، الأربعاء: 3/3/ 2004م :
[20] - التبيان في آداب حملة القرآن: 100
[21]- بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي: البرهان في علوم القرآن، ط2، دار المعرفة، بيروت: ج1/256.
[22] - رواه البخاري في صحيحه كتاب تفسير القرآن بَاب( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا )(8/48) حديث رقم: 4536.
[23]- فتح الباري ج8 /125.
[24] - الزركشي: البرها ن في علوم القرآن، ج1/241، وانظر فتح الباري ج9/18
[25]- فتح الباري شرح صحيح البخاري، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، دار الافتاء، السعودية: ج9/32
[26] - تاريخ القرآن وغرائب رسمه، محمد طاهر الكردي، ط2، 1953م، البابي الحلبي: ص59
[27]- جلال الدين عبد الرحمن السيوطي: الإتقان في علوم القرآن، ط3، مكتبة دار التراث، القاهرة: ج1/18.
[28] - جلال الدين السيوطي: الاتقان في علوم القرآن: ج1/ص 166..
[29] - هذا بالضبط ما يقصده المستشرقون وتلاميذهم ن الحداثيين من ترتيبهم للآيات حسب النزول. ليقوموا بقراءة النص قراءة تاريخية، أي: تفسير النص القرآني وتحليله وفق معطيات التاريخ والواقع الذي كان سائداً عند نزوله. فيحللوا النص، ويبينوا دوافعه، وحكمته، ودلالاته، بدراسة الواقع، والبيئة، والعادات، والتقاليد التي كانت سائدة. ومن ثم قصر دلالة النص وتطبيقه على ذلك الواقع ومعطياته، ولا يتعداه إلى المراحل التاريخية اللاحقة، وبذلك يفقد النص ديمومته وإطلاقيته.ويصبح قاصراً على مكان معين، وأشخاص معينين. مما يفقد النص إلزاميته أيضا، ولا يكون صالحا لكل زمان ومكان. وممن حمل لواء هذه الدعوة كثير من العلمانيين المعاصرين -، وكان الدكتور محمد عابد الجابري من أشد المتحمسين لها. " انظر: ابراهيم محمد طه بويداين- التأويل..بين ضوابط الأصوليين وقراءات المعاصرين:دراسة أصولية فكرية معاصرة، رسالة ماجستير غير مطبوعة، نوقشت في جامعة القدس، 2001م: ص 211"
[30]- انظر: المجتمع المثالي كما تنظمه سورة النساء، ص 20:الشيخ محمد محمد المدني .حصل على الثانوية الأزهرية في شهر 4/1927م، وفي شهر 10/1927م حصل على العالمية( الدكتوراة ) وكل دراسته الجامعية أقل من سنة دراسية. ؟؟
[31]- الزركشي: البرهان في علوم القرآن، ج1/ ص258-259.
[32]- شرح النووي على صحيح مسلم ج1/ ص61-62. ونيل الأوطار، محمد بن علي الشوكاني، تحقيق طه سعد، وزميله، مكتبة الكليات الأزهرية، 1298هـ: ج2/ ص237.
[33]- الإتقان ج1/ ص62.
[34]- الإتقان ج1/ 63.
[35]- انظر: مقدمة روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، أبو الفضل محمودالألوسي، دار إحياء التراث، بيروت: ج1/ ص27
[36]- مقدمتان في علوم القرآن، لابن عطية، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1392هـ: ص256.
[37]- الفتح الرباني لترتيب مسند أحمد بن حنبل الشيباني، أحمد عبد الرحمن البنا، دار إحياء التراث العربي،1396هـ: ج28/ ص154-155 وانظر الإتقان ج1/ ص62.
[38]- فتح الباري ج10/ 418.
[39]- تناسق الدرر في تناسب السور، جلال الدين السيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت: ص 48.
[40] - تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، محمد عبد الرحمن المباركفوري، ط2، 1383هـ: ج8/ ص480.
[41]- ميزان الاعتدال: محمد بن أحمد بن عثمان: تحقيق علي البجاوي، دار إحياء الكتب العربية، ط1، 1382هـ ج2/ ص308-309.
[42]- صحيح مسلم ج1/ ص54.
[43] - الفتح الرباني ج18/ ص154-156.
[44]- ميزان الاعتدال،: ج3/308.
[45] - منهج الفرقان في علوم القرآن، محمد علي سلامة، القاهرة : ص 136.
[46] - تفسير القرطبي ج8: ص63
[47] - الفتح الرباني ج18/ ص155
[48]- تفسير القرآن الحكيم، الشهير بتفسير المنار، محمد رشيد رضا، ط2، دار المنار، القاهرة: ج9/ ص585.
[49] - تفسير الآلوسي: ج10 / ص 40-41.
[50] - فتح الباري ج10/ ص410.
[51] - لطائف الإشارات لفنون القراءات، شهاب الدين القسطلاني، تحقيق عامر السيد، لجنة إحياء التراث الاسلامي، القاهرة: ج3/ ص5.
[52]- البرهان ج1/ص270.
[53]- مقدمة تفسير الألوسي ج1/ ص27.
[54]- الجامع لأحكام القرآن، محمد بن أحمد القرطبي دار الكتب العلمية، بيروت: ج1/ ص59-60.
[55]-انظر: الإتقان، مكتبة دار التراث: ج1/ ص179.
[56]- تفسير القرطبي ج1/ ص60. وانظر: محمد بن محمد أبو شهبة: المدخل لدراسة القرآن الكريم، ص 285-297.ومحمد عبد العظيم الزرقاني: مناهل العرفان في علوم القرآن، ج1: ص 339-353. ود. أحمد السيد الكومي وزميله: فصل الخطاب في سلامة القرآن الكريم، ط2، البابي الحلبي، القاهرة ص 19-28. ومحمد طاهر بن عبد القادر الكردي: تاربخ القرآن، ص 71-79.
([57]) - انظر: دراسات في علوم القرآن د. فهد الرومي –ط5، 124 -125. ود. محمد بن محمد أبو شهبة: المدخل لدراسة القرآن الكريم ، ص: 297. وفضل حسن عباس: إتقان البرهان في علوم القرآن، : ج1: ص429-437.
([58])- اختلف عدد آيات القران على حسب اختلاف العادِّين، والعدد منسوب إلى خمسة بلدان. وهي : مكة - والمدينة - والكوفة - والبصرة – والشام.
فعدد المكي: منسوب إلى( عبد الله بن كثير ) أحد السبعة. وهو يروي ذلك عن مجاهد عن ابن عباس عن أبي بن كعب.
وعدد المدني على ضربين: عدد المدني الأول، وعدد المدني الأخير. فعدد المدني غير منسوب إلى أحد بعينه وإنما نقله أهل الكوفة عن أهل المدينة مرسلا، ولم يسموا في ذلك أحداً. وعدد المدني الأخير منسوب إلى أبي جعفر بن أبي كثير الأنصاري، بواسطة سليمان بن جماز.
وعدد الكوفي: منسوب إلى أبي عبد الرحمن السلمي، قال حمزة بن حبيب أحد السبعة: اخبرنا بهذا العدد ابن أبي ليلى عن عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب.
وعدد البصري: منسوب إلى عاصم بن العجاج الحجدري وعطاء بن يسار، ومداره على عاصم،وينسبهُ أهل البصرة بعد عاصم إلى أيوب بن المتوكل وعليه مصاحفهم.
وعدد الشامي: إلى عبد الله بن عامر اليحصبي. قال يحي بن الحارث الذماري: هذا العدد الذي نعده عدد أهل الشام، مما رواه لنا المشيخة عن الصحابة، ورواه عبد الله بن عامر اليحصبي وغيره لنا عن أبي الدرداء.
هذه هي الأعداد المشهورة في ذلك،وهي ستة، وأشهرها العدد الكوفي، والظاهر أن كل واحدٍ من أئمة القراء كان يعتبر العدد المنسوب إلى بلده. أ هـ أنظر ص 170-171 من كتاب التبيان.
([59]) - وقيل كلها مدنية إلا من آية 30 إلى آية 36. انظر: سعادة الدارين في عَدّ آيات كتاب معجز الثقلين، ص 25.
[60] -- انظر سعادة الدارين في عد آيات كتاب معجز الثقلين ص25، وقلائد المرجان، ص182
[61] - آياتها خمس وسبعون في عدد الكوفي. وست في عدد المكي والمدني والبصري. وسبع في عدد الشامي ، وقد اختلفوا فيها في ثلاثة مواضع: ثم يغلبون - عده البصري والشامي. ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا. عده غير الكوفي. هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين - عده غير البصري، كتاب التبيان في عد آي القرآن: 189.
[62] - القرطبى.. الجامع لأحكام القرآن(تفسير الأنفال).
[63] - انظر: الشوكانى.. فتح القدير(تفسير الأنفال).
[64] - الإمام بدر الدین محمد عبد الله الزركشى، البرهان في علوم القرآن ، 1:ص38
[66] - الزركشى، البرهان في علوم القرآن : 1: ص 129
[67] - القرطبي جزء4، ص 2900.
[68] - القرطبي جزء4، ص 2912. وانظر ابن العربي: الناسخ والمنسوخ ج2/ ص 240. وقد رد ابن الجوزي دعوى النسخ وقال: وقد ذكر بعض من لا فهم له من ناقلي التفسير، أن هذه الآية وهي آية السيف نسخت من القرآن مائة وأربعا وعشرين آية ، ثم صار آخرها ناسخا لأولها، وهو قوله(فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم)( التوبة: 5) وهذا سوء فهم لأن المعنى اقتلوهم وأسروهم، إلا أن يتوبوا من شركهم، ويقروا بالصلاة، والزكاة، فخلوا سبيلهم ولا تقتلوهم. انظر: كتابه نواسخ القرآن: تحقيق د. سامي عطا حسن، ص 270.
[69] - محمد رشید رضا، تفسیر المنار ، 9: 391.
[70] - انظر: رشيد رضا.. تفسير المنار(تفسير الأنفال). والآلوسى.. روح المعانى(تفسير الأنفال).
[71] - الآلوسى.. روح المعانى(تفسير الأنفال).
[72] - أخرجه البخاري(438) باختلاف يسير، ومسلم(521) واللفظ له
[73] - سيد قطب.. فى ظلال القرآن(تفسير الأنفال).
[74] - تفسير الألوسي: ج1 / ص 157.
[75] - انظر: الصابوني: صفة التفاسير: 1: 492. وابن عاشور: التحرير والتنوير: 1: 247.
[76] - براعة الاستهلال: هو البدء بما يكون فيه إلماحٌ إلى المقصود الأول من النص، في إبداع يجذب الانتباه، يأسر المتلقي، مع حسن سبك، وعذوبة لفظ، وصحة معنى. ومن براعة الاستهلال في الشعر قول( أبي تمام ) يهنئ المعتصم بفتح عمورية، بادئا قصيدته باستهلال بارع، يرد فيه على مزاعم المنجمين الذين زعموا أن عمورية لا تفتح في ذلك الوقت الذي فُتحت فيه، فقال:
السيفُ أصدق أنباء من الكُتب.... في حَذِّه الحد بين الجِّد واللعب. بيض الصفائحِ لا سود الصحائف قي..... متونهن جلاء الشك والريب.
وقول المتنبي يمدح سيف الدولة بالشفاء من مرض أَلَمَّ به:
المجدُ عُوفي إذ عوفيت والكرم...... وزال عنك إلى أعدائك الألم.
وكقول الآخر في التهنئة ببناء قصر:
قصْرٌ عليه تحيَّةٌ وسَلامُ ..... خلَعَتْ عليه جَمالَها الأيَّامُ.
ومن أمثلة البدايات السيئة، قول( ذي الرمة ) حين دخل على هشام بن عبد الملك وكانت عينه تدمع، وقال:
ما بال عينيك منها الماءُ ينسكبُ... كأنه من كُلىً مَفرِيَّةٍ سَرَبُ. فتشاءم منه، وأمر بإخراجه ؟ ودخل جرير على عبد الملك بن مروان فابتدأ ينشده:
أتصحو أم فؤادك غير صاحي... عشية هم صحبك بالرواح. فقال له عبد الملك: بل فؤادك يا ابن الفاعلة، وما سؤالك عن هذا ياجاهل ؟ فمقته وأمر بإخراجه.
وكذلك فعل ابنه هشام بأبي النجم، وقد أنشده في أرجوزة:
والشمس قد كادت ولما تفعل – - كأنها في الأفق عين الأحول. وكان هشام أحول، فأمر به فحجب عنه مدة، وقد كان قبل ذلك من خاصته، يسمر عنده ويمازحه.
[77] - انظر: التفسير الوسيط: لفضيلة الأستاذ الدكتور الشيخ محمد سيد طنطاوي، ص 7 وما بعدها. وانظر: الصابوني: صفة التفاسير: 1: 492. وابن عاشور: التحرير والتنوير: 1: 247.
[78] - انظر: مواهب الجليل: 1/ 544، أحكام القرآن لابن العربي:1/6 ، الجامع لأحكام القرآن 1: 93
[79] - حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي: 1: 29.
[80] - أحكام القرآن للجصاص1: 17. حاشية الشهاب: 1: 29.
[81] - ابن قدامة: المغني: 1: 285.
[82] - الفتاوى الكبرى: 2: 182.
[83] - المرجع السابق.
[84] - النووي: المجموع: 3: 289.
[85] - المرجع السابق نفسه.
[86] - انظر: صحيح البخاري: كتاب الأذان، باب جهر الإمام بالتأمين. وصحيح مسلم: الباب الرابع من كتاب الصلاة.
[87] - انظر: أنوار التنـزيل: 1/31 ، معالم التنـزيل: 1/19.
[88] - انظر: لباب التأويل: 1/19، والحديث رواه مسلم: كتاب الصلاة، باب حجة من قال البسملة آية من كل سورة سوى براءة. وانظر: أبو داود: كتاب الصلاة، باب من لم ير الجهر ب بسم الله الرحمن الرحيم. النسائي: كتاب الافتتاح باب قراءة بسم الله الرحمن الرحيم..
[89] - البخاري: كتاب فضائل القرآن باب مد القراءة، رقم 5046.
[90] - الترمذي:كتاب الصلاة باب من رأى الجهر بـ بسم الله الرحمن الرحيم،
قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث ليس إسناده بذاك وقد قال بهذا عدة من أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم أبو هريرة وابن عمر وابن عباس وابن الزبير ومن بعدهم من التابعين رأوا الجهر بـ بسم الله الرحمن الرحيم وبه يقول الشافعي وإسماعيل بن حماد هو ابن أبي سليمان وأبو خالد يقال هو أبو خالد الوالبي واسمه هرمز وهو كوفي. وقال ابن حجر: الحديث غير محفوظ، وقال أبو زرعة: لا أعرف أبا خالد. الدراية:(1/130). وانظر نصب الراية للزيلعي(1/ 324).
[91] - الدارقطني: 1/312
[92] - الجامع لأحكام القرآن 1/93 وما بعدها، أحكام القرآن لابن العربي 1/6
[93] - مسلم: كتاب الصلاة باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة . الموطأ: النداء للصلاة باب القراءة خلف الإمام فيما لا يجهر فيه بالقراءة. الترمذي: كتاب تفسير القرآن باب ومن سورة فاتحة الكتاب
[94] - الموطأ: النداء للصلاة باب القراءة خلف الإمام فيما لا يجهر فيه بالقراءة.
[95] - الجامع لأحكام القرآن: 1: 94.
[96] - جزء حديث رواه مالك في الموطأ: كتاب النداء للصلاة: باب ما جاء في أم القرآن
[97] - مسلم: كتاب الصلاة باب ما يجمع صفة الصلاة.أبو داود: كتاب الصلاة باب من لم ير الجهر بـ بسم الله الرحمن الرحيم
[98] - مسلم: كتاب الصلاة باب حجة من قال لا يجهر بالبسملة. النسائي: كتاب الافتتاح باب ترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم.
[99] - الترمذي: كتاب الصلاة باب ما جاء في ترك الجهر بـ بسم الله الرحمن الرحيم، قال أبو عيسى: حديث عبد الله بن مغفل حديث حسن والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم -منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم ومن بعدهم من التابعين وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحق لا يرون أن يجهر ب بسم الله الرحمن الرحيم قالوا ويقولها في نفسه..
[100] - الجامع لأحكام القرآن : 1/95
[101] - أنوار التنـزيل 1/28
[102] - منجد المقرئين : ص68
[103] - ابن حزم: المحلى: 2: 284.
[104] - تفسير ابن كثير: ج2/ ص 183. وعبد الرحمن بن الحارث، قال فيه ابن حجر: صدوق، له أوهام، وفي حديثه بعض لين، وخلط قبل موته بقليل، وهذا التعبير أول درجات الجرح، وهو يجعل الرواية ضعيفة. انظر: تقريب التهذيب: ج1/ ص 476. وانظر: من هدي سورة الأنفال: د. محمد أمين المصري، ص 31.
[105] - المستدرك: ج3/ ص 102.
[106] - وهو الأصح.. لأن الآية الثانية( واعلموا أنما غنمتم ) فصل الله فيها ما أجمله في أول سورة الأنفال… وتفصيل الإجمال ليس نسخا. هذا إذا فسرنا الأنفال بالغنيمة وكذلك إذ فسرناها بأنها ما نفله الإمام بعض المجاهدين فهو من حق الإمام لا اعتراض عليه. ولا ينافيه تقسيم الغنائم على النحو الذي بينته آياتها. فلا مجال للقول بالنسخ. وإن فسرنا الأنفال - بالفيئ - يختلف موضوع الآيتين - فهل تنسخ آية في الغنيمة آية في الفيء . مكي: الايضاح ص 295- 296 وانظر: د. سامي عطا: قلائد المرجان في الناسخ والمنسوخ من القرآن، ص 173- 174.
[107] - انظر: القرطبي، تفسیر الجامع لأحكام القرآن – 11: 245
والطاهر بن عاشور، تفسیر التحریر والتنویر، – 9: 247
[108] - ديوان لبيد: ص 177 ،200
[109] - عودة خليل أبو عودة: التطور الدلالي بين لغة الشعر ولغة القرآن، ص 526 .
[110] - لسان العرب، مادة: فاء.
[111] - عودة خليل أبو عودة: التطور الدلالي، ص 528.
[112] - الشنقیطي، العذب النمیر من مجالس الشنقیطي في التفسیر، 4: 1817-1818.
[113] - انظر: الزركشي، البرهان في علوم القرآن ٢ / 190. والشنقیطي،العذب النمیر من مجالس الشنقیطي في التفسیر ٤/ 1820.
[114] - محمد زشيد رضا: تفسير المنار: 9: 590-591.
[115] - ابن عطية: المحرر الوجيز: 2: 501.
[116] - ابن عطية: المحرر الوجيز: 1: 500-501.
[117] - الشیخ محمد أبو زهرة،: زهرة التفاسیر: 2: 3065
[118] - ابن عطیة، المحرر الوجیز: 3: 502
[119] - الشوكاني: فتح القدير: 2: 411.
[120] - الشيخ محمد أبو زهرة: زهرة التفاسير، 6: 3065.
[121] - فتاوى ابن تيمية: ج22/ ص50
[122] - ابن تيمية: كتاب الإيمان، ص 275.
[123] - أبو حيان: البحر المحيط: 4: 459. والألوسي: روح ا المعاني : 3: 169، والعجيلي: حاشية الجمل: 2: 262.
[124] - ابن عاشور التحریر والتنویر: 1: 367
[125] - الاحْتِرَاسُ: لغة التحفظ، وعند أهل المعاني يقال له التكميل. وهو أن يؤتى في وسط الكلام أو آخره بما يرفع عنه الوهم بخلاف مقصوده. وسط الكلام: في الآية الأولى من سورة المنافقون ( قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون). الجملة الوسطى احتراس لئلا يتوهم أن التكذيب لما في نفس الأمر.وكقوله سبحانه:( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا )( الإنسان: 8) أي أنهم يطعمون الطعام مع حب هذا الطعام لديهم، ومع حاجتهم إليه واشتهائهم له آخر الكلام : في الآية الثامنة عشرة من سورة النمل (لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون). قوله(وهم لا يشعرون) احتراس كيلا يتوهم نسبة الظلم إلى سليمان- عليه السلام -..وكقَوْلُهُ تَعَالَى ) فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ).( الْمَائِدَةِ: 54) ففَوْلِهِ: سبحانه ( أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ) احتراس... عَنْ أَنَّ يكون ذَلِكَ لِضَعْفِهِمْ؛ فَإِنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى وَصْفِهِمْ بِالذِّلَّةِ لَتُوُهِّمَ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبَهُ الضَعْفُ، فلما ذَكَرَ عِزْتَهُم عَلَى الْكَافِرِينَ عُلِمَ أَنَّ ذلتهم للمؤمنين تَوَاضُعٌ وَعَطْفٌ، وليس ضَعْفًا.
[126] - مَدَّ و أمَدَّ: ( مدّ )تأتي في الشر٬ وأمد تأتي في الخير( أنظر:جامع البيان 1/135،والمفردات في غريب القرآن/465، ولسان العرب 3/398) ويقع( المد )في القرآن الكريم بمعنى الإمهال للكافرين من الحق سبحانه٬ بأن يطيل لهم المدة ويملي لهم(انظر: الصحاح 2/537، والجامع لأحكام القرآن 1/209 )٬ قال تعالى:( اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)(البقرة: ١٥).وقوله:(كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنْ الْعَذَابِ مَدّاً ) (مريم:٧٩) أما(الإمداد ) ففي الخير٬ ومنه قول الحق سبحانه:(وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ )(الطور:٢٢) وقوله: (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ. أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ.وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ )(الشعراء:١٣٢- ١٣٤)
[127] - تفسير القرطبي: ج7/ ص 370.
[128] - تفسيرالفخر الرازي: ج5/ ص 130.
[129] - صحيح مسلم: ج5/ ص 156.
[130] - التذييل : التذييل البلاغي في القرآن الكريم لون من ألوان الإطناب, وصورة من صوره, ولا يخفي ما بين الإطناب والبلاغة من علاقة, ولكل مقام مقالا, وما يحسن في موضع لا يحسن في غيره, وما يعد بلاغة في حال، لا يعد كذلك بالضرورة في كل حال, ولذلك قال أبو هلال العسكري في الصناعتين:(قال أصحاب الإطناب: المنطق إنما هو بيان، والبيان لا يكون إلا بالإشباع، والإشباع لا يقع إلاّ بالإقناع، وأفضل الكلام أبينه، وأبينه أشدّه إحاطةً بالمعاني، ولا يحاط بالمعاني إحاطة تامّة إلاّ بالاستقصاء، والإيجاز للخواصّ، والإطناب مشتركٌ فيه الخاصة والعامة، والغبي والفطن، ولمعنى ما أطيلت الكتب السلطانية في إفهام الرعايا....... والقول القصد أنّ الإيجاز والإطناب يحتاج إليهما في جميع الكلام,..، ولكلّ واحد منهما موضع، فالحاجة إلى الإيجاز في موضعه كالحاجة إلى الإطناب في مكانه، فمن استعمل الإطناب في موضع الإيجاز، واستعمل الإيجاز في موضع الإطناب أخطأ.والإطناب إذا لم يكن منه بدٌّ إيجاز، وهو في المواعظ خاصّة محمود، كما أن الإيجاز في الإفهام محمود ممدوح. وقيل لبعضهم: متى يحتاج إلى الإكثار؟ قال: إذا عظم الخطب. وأنشد:
صَموتٌ إذا ما الصّمتُ زيَّن أهلهُ........ وفتّاقُ أبكارِ الكلامِ المحبّرِ
(قاله عبد الله بن المبارك في أنس بن مالك , وانظر العقد الفريد: 1/ 161.)
وقال آخر:
يرمونَ بالخطبِ الطّوالِ وتارةً...... وحيَ الملاحظِ خشيةَ الرُّقباءِ
(البيت لأبي دؤاد بن حريز الإيادي, انظر البيان والتبيين: 1/50. وانظر الصناعتين:1/59, والمثل السائر: 1/ 176.)
والتذييل في اللغة: يقول صاحب اللسان:(الذَّيْل آخر كل شيء، وذَيْل الثوب والإِزارِ ما جُر منه إِذا أُسْبِل، والذَّيْل ذَيْلُ الإِزار من الرِّداء وهو ما أُسْبِل منه فأَصاب الأَرض وذَيْل المرأَة لكل ثوب تَلْبَسه إِذا جرَّته على الأَرض من خلفها, والرَّجُل إِن كان طويل الثوب فذلك الإِرْفال في القميص والجُبَّة, والذَّيْلُ في دِرْع المرأَة أَو قِناعها إِذا أَرْخَتْه, وتذيلت الدابةُ حرَّكت ذنَبها من ذلك, والتَّذَيُّل التَّبَخْتُر منه..ويقال أَذالَ فلان ثوبه أَيضاً إِذا أَطالَ ذَيْله.. وأَذالَت المرأَةُ قِناعَها أَي: أَرْسَلَتْه.... )( انظر: لسان العرب: 11/ 260, مادة(ذ ي ل)) . والتذييل في الاصطلاح: التذييل في الاصطلاح له بالتعريف اللغوي عروة وثقى, فقد عرفه الإمام الزركشي بقوله:(أن يؤتى بعد تمام الكلام بكلام مستقل في معنى الأول تحقيقا لدلالة منطوق الأول أو مفهومه ليكون معه كالدليل، ليظهر المعنى عند من لا يفهم ويكمل عند من فهمه)( البرهان: 3/68.). أقسام التذييل: قسم العلماء التذييل إلى أقسام باعتبارات, فقسموه من حيث صورة وروده إلى قسمين: ما يرد في صورة المثل, وما يرد في غير صورة المثل, وقسموه من حيث دلالته إلى قسمين أيضا: ما يرد مؤكداً للمنطوق, وما يرد مؤكداً للمفهوم, فالتذييل قسمان: قسم لا يزيد على المعنى الأول، وإنما يؤتى به للتوكيد والتحقيق,وقسم يخرجه المتكلم مخرج المثل السائر ليحقق به ما قبله. ومما جاء من ذلك في الكتاب العزيز متضمناً القسمين معاً قوله تعالى( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)( التوبة: 111 ففي هذه الآية الكريمة تذييلان: أحدهما قوله تعالى:(وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا )، فإن الكلام قد تم قبل ذلك، ثم أتى سبحانه بتلك الجملة لتحقق ما قبلها, والآخر قوله سبحانه:( وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ )، فخرج هذا الكلام مخرج المثل السائر لتحقيق ما تقدمه، فهو تذييل ثان للتذييل الأول, وقد جاء في السنة من هذا الباب قوله - صلى الله عليه وسلم -: " من هم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشراً، ومن هم بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه، فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة، ولا يهلك على الله إلا هالك "(الحديث: أخرجه مسلم في صحيحه, برقم: 1/323.) فقوله- صلى الله عليه وسلم -: " ولا يهلك على الله إلا هالك "، تذييل في غاية الحسن، خرج الكلام فيه مخرج المثل.)( تحرير التحبير:1/ 77) فوائد التذييل: من قيمة التذييل وأهميته، إفادته بعض الفوائد التي تترتب عليه, وقد عني المفسرون ببيان هذه الفوائد والاعتماد عليها في بيان بعض الدلالات, وكثر ذلك لدى الرازي في مفاتيح الغيب, والبقاعي في نظم الدرر, والألوسي في روح المعاني, والطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير, وغيرهم ومن هذه الفوائد ما يلي: 1- ترجيح بعض المعاني على بعض: ومن ذلك ترجيح الألوسي لمعنى التسبيح في قوله – تعالى-:( تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا )( الإسراء: 44) بأنه تسبيح الحال لا تسبيح المقال, وأنكر على من اختار أن التسبيح مقالي لا حالي بقوله:( إن هذا التسبيح(أي المقالي) لا يحصل إلا مع العلم, وهو مما لا يتصور في الجماد لفقد شرطه العقلي وهو الحياة, ولو لم يكن ذلك شرطاً عقلياً، لانسد باب العلم بكونه- سبحانه وتعالى- حياً؛ وأيضاً التذييل السابق يأبى ذلك، لدلالته على أن عدم فقه التسبيح المذكور جرم, ولا شك أن عدم فقه تسبيح الجمادات بألفاظها ليس بجرم, وإنما الجرم عدم فقه دلالتها للغفلة، وقصور النظر, ومن تتبع الأحاديث والآثار رأى فيها ما يشهد بما ذهب إليه هذا البعض، شهادة لا تكاد تقبل التأويل، فقد صح سماع تسبيح الحصا في كفه صلى الله عليه وسلم)( تفسير الألوسي:10: ص 469 ).فلقد اختار الألوسي معنى من المعاني مرجحا إياه على غيره مستندا إلى التذييل كما اتضح من كلامه. 2- تحديد المعنى المراد: ومن ذلك اختيار الألوسي وصف الولد الذي دعا به زكريا-عليه السلام- بأنه ولد يرثه، لا ليعينه أو غير ذلك من رغبات الأب في الولد, وأفاد ذلك من التذييل الوارد في الآية الكريمة:(وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ )( الأنبياء: 89). إذ يقول:( وَزَكَرِيَّا ) أي واذكر خبره -عليه السلام-( إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا ) أي: وحيداً بلا ولد يرثني، كما يشعر به التذييل بقوله تعالى:(وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ) وأنت خير حي يبقى بعد ميت، وفيه مدح له تعالى بالبقاء، وإشارة إلى فناء من سواه من الأحياء. وفي ذلك استمطار لسحائب لطفه عز وجل)) تفسير الآلوسي: 12: 457) ،فأنت – أعزك الله- واجد أنه حدد صفة الولد المطلوب على لسان زكريا – عليه السلام -، من خلال التذييل الذي رشح له هذا المعنى, تلك فائدة من فوائد التذييل وقيمة من قيمه التي لا تنكر ومما يدل على قيمة التذييل وخدمته للنص القرآني، عناية العلماء والمفسرين به, فلا يخلو كتاب من كتب البلاغة من حديث عن التذييل؛ ذلك لما له من قيمة بلاغية لا تُنكَر في بيان المراد وتقوية المعنى..
[131] - المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، لأبي حامد الغزالي: ص 60.
[132] - انظر مادة( أله ) في: المقاييس في اللغة، لابن فارس، وأساس البلاغة للزمخشري، ولسان العرب لابن منظور.
[133] - المقصد الأسنى: ص 60.
[134] - المقاييس في اللغة، لابن فارس: مادة عز.
[135] - مفردات ألفاظ القرآن، للأصفهاني، مادة( عز ).
[136] - المقصد الأسنى، للغزالي: ص 69.
[137] - انظر لسان العرب، لابن منظور، مادة( حكم ).
[138] - المقصد الأسنى، للغزالي: ص 107.
[139] - قال الثعالبي في فقه اللغة( ص 165): أول النوم النعاس، وهو أن يحتاج الإنسان إلى النوم. ثم الوَسَن، وهو ثقل النعاس. ثم التنرنيق وهو مخالطة النعاس العين. ثم الكَرى والغَمْض، وهو أن يكون الإنسان بين النائم واليقظان. ثم التَّغفيق، وهو النوم، وأن تسمع كلام القوم. ثم الإغفاء، وهو: النوم الخفيف. ثم التَّهويم، والغِرار، والتَّهجاع، وهو النوم الثقيل.ثم الرُقاد، وهو: النوم الطويل. ثم الهُجود، والهُجوع، والهُبوع، وهو النوم الغَرِق. ثم التَّسبيخ، وهو: أشد النوم.
[140] - تفسير القرطبي: ج8 / ص 372.
[141] - تفسير المنار: محمد رشيد رضا، ج4/ ص 132.
[142] - تفسير الفخر الرزي: ج5/ ص 133.
[143] - تفسير الكشاف: ج2/ ص 147.
[144] - انظر: جامع البيان للطبري: ج9:ص 197. والبحر المحيط لأبي حيان الأندلسي: ج4: ص 470.
[145] - ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم: - نصرت بالرعب مسيرة شهر: أن أعداءه يقذف الله في قلوبهم الرعب وهو منهم على مسيرة شهر، قال ابن حجر في فتح الباري: مفهومه أنه لم يوجد لغيره النصر بالرعب في هذه المدة ولا في أكثر منها، أما ما دونها فلا، لكن لفظ رواية عمرو بن شعيب: ونصرت على العدو بالرعب ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر. فالظاهر اختصاصه به مطلقاً، وإنما جعل الغاية شهراً لأنه لم يكن بين بلده وبين أحد من أعدائه أكثر منه، وهذه الخصوصية حاصلة له على الإطلاق حتى لو كان وحده بغير عسكر(فتح الباري:1/567. )
[146] - الفك لغة الحجاز، والإدغام لغة تميم.. ونزل القرآن باللغتين في آيات كثيرة منها: فقرأ الجمهور:(فلا يغررك تقلبهم في البلاد)( غافر: 4 ) بالفك على لغة أهل الحجاز. وقرأ زيد بن علي، وعبيد بن عمير:( فلا يغرك ) بالإدغام، مفتوح الراء، وهي لغة تميم.( انظر البحر المحيط: 7: 449). وكذلك هذه الآية: فقوله( ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ) مدغمة، وهي لغة تميم. وقوله:( ومن يشاقق الله ورسوله ) بالفك: لغة الحجاز.
[147] - الالتفات: الالتفات فن من فنون البلاغه، مأخوذ من التفات الإنسان من يمينه إلى شماله،ومن شماله الى يمينه، فإذا قلت:لفت فلان فلانا عن رأيه، فالمعنى : لواه وصرفه عنه،وهكذا نرى الماده تدور اللّيّ والصرف(الفيروزآبادي: القاموس المحيط: ج1: ص 157. )
ح- صور الالتفات: للالتفات صور ست وهي:
من التكلم إلى الخطاب: كقوله تعالى:(وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)( يس: 22). ومقتضى الظاهر: وإليه أرجع، كما يقتضيه ظاهر: فطرني.
من التكلم إلى الغيبة: كقوله تعالى:(إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ. فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)(الكوثر: 1-2 ). ومقتضى الظاهر: فصل لنا. وفائدة الالتفات في الآية: أن في لفظ الرب ما يحث على فعل المامور به،لأن من يربيك يستحق العبادة.
من الخطاب إلى التكلم: كما في قوله تعالى:(وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) ( هود:52) فقد التفت من الخطاب في( استغفروا ) إلى التكلم في( إن ربي )، وهذا الالتفات يفيد أن الله تعالى رب المخاطبين، ورب نبيهم شعيب.
- من الخطاب إلى الغيبة: كما في قوله تعالى:(رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ )( آل عمران: 9 ) لان النداء من قبيل الخطاب.والاسم الظاهر من قبيل الغيبه-كما سلف –ففيه التفات من الخطاب في قوله تعالى(ربنا)،الى الغيبه في قوله تعالى(إن الله)
-من الغيبه الى التكلم:-كما في قوله تعالى:(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. )( الاسراء: 1 ) فالتفت من الغيبه من قوله-(أسرى بعبده)،الى التكلم من قوله(لنريه من آياتنا)ومقتضى الظاهر ليريه من آياته،فهو التفات من الغيبه الى التكلم.
من الغيبه الى الخطاب:-كقوله تعالى:-( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا(88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا)( مريم:88-89 ) ففيه التفات من الغيبه في قوله(وقالوا)الى الخطاب في قوله تعالى(جئتم)..خ- فوائد الالتفات وأغراضه البلاغيه:-حصر المتأخرون أسباب الالتفات في فوائد عامه وخاصه.
فمن فوائده العامه: التفنن والانتقال من أسلوب إلى آخر، لما في ذلك من تنشيط السامع واستجلاب صفائه ، واتساع مجاري الكلام، وتسهيل الوزن والقافية(انظر: الزركشي، البرهان في علوم القرآن، ج3: ص 325.) وأما الفوائد الخاصه: فتختلف باختلاف مجاله،ومواقع الكلام فيه على ما يقصده المتكلم....منها:
1 -التنبيه على ما حق الكلام أن يكون وارداً عليه،كقوله تعالى:( وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)( يس:22)وأصل الكلام(ما لكم لا تعبدون الذي فطركم)،ولكنه أبرز الكلام في معرض المناصحه لنفسه،وهو يريد مناصحتهم ليتلطف بهم ، ويريهم أنه لا يريد الا ما يريد لنفسه، ثم لما انقضى غرضه من ذلك قال:( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، ليدل على ما كان من أصل الكلام ومقتضيا له. ثم ساق هذا المساق الى أن قال:(إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ.)( يس:25)
2- أن يكون الغرض به التتميم لمعنى مقصود للمتكلم،فيأتي به محافضة على تتميم ما قصداليه من المعنى المطلوب له،كقوله تعالى : ( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.)(الدخان: 4-6) وأصل الكلام : ( إنا كنا مرسلين رحمة منا)ولكنه وضع الظاهر موضع المضمر، للانذار بأن الربوبيه تقتضي الرحمه للمربوبين للقدره عليهم، أو لتخصيص النبي-صلى الله عليه وسلم-بالذكر، أو الإشارة إلى أن الكتاب إنما هو إليه دون غيره، ثم التفت بإعادة الضمير إلى الرب الموضوع موضع المضمر للمعنى المقصود من تتميم المعنى
3- ومنها قصد المبالغه:كقوله تعالى(هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)( يونس: 22)كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليتعجب منها،ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح لها، إشاره منه على سبيل المبالغه، إلى أن ما يعتمدونه بعد الإنجاء من البغي في الأرض بغير الحق، مما ينكر ويقبح.
4- ومنها قصد الدلاله على الاختصاص كقوله تعالى(وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ.)( فاطر: 9) فانه لما كان سوق السحاب الى البلد الميت، وإحياء الأرض بعد موتها بالمطر، دالا على القدره الباهره التي لا يقدر عليها غيره،عدل عن لفظ الغيبه الى التكلمر، لأنه أدخل في الاختصاص وأدل عليه في قوله:(سقنا)و(أحيينا).
5- ومنها قصد الاهتمام كما في قوله تعالى:-( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ(11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ.)( فصلت/11-12). فعدل على الغيبه في(قضاهن)و(أوحى)،الى التكلم في(وزينا السماء الدنيا)للاهتمام بالإخبار عن نفسه،فإنه تعالى جعل الكواكب وسماء الدنيا، للزينه والحفظ، وذلك لأن طائفه اعتقدت في النجوم أنها ليست في سماء الدنيا، وأنها ليست حفظاً ولا رجوماً، فعدل إلى التكلم والإخبار عن ذلك.لكونه مُهِماً من مهمات الاعتقاد، ولتكذيب الفرقه المعتقده بطلانه...
6- ومنها قصد التوبيخ كقوله تعالى:( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا(88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا.)( مريم:88-89) عدل عن الغيبه الى الخطاب،للدلاله على أن قائل مثل قولهم:ينبغي أن يكون موبخاً ومُنكراً عليه، ولماأراد توبيخهم على هذا، أخبر عنه بالحضور فقال:(لقد جئتم)لأن توبيخ الحاضر أبلغ في الاهانه له.( د. هاشم محمد هاشم، الالتفات في حاشية الشهاب: ص: 43-47. )
[148] - حاشية الجمل على الجلالين: ج1/ ص 179.
[149] - انظر تفسير الكشاف: ج2/ ص 207.
[150] - انظر: لسان العرب، لابن منظور، مادة(سمع ).
[151] - المرجع السابق، مادة( علم ).
[152] - وصيغ المبالغة تأتي على الأوزان التلية:( فعال، مفعال، فعول، فعيل، فَعِل )
[153] - تفسير الفخر الرازي: ج5/ 141.
[154] - تفسير ابن كثير: ج2/ ص 296.
[155] - انظر تفسير ابن كثير: ج2/ ص 296.
[156] - تفسير ابنجرير الطبري: ج9/ ص 208.
[157] - انظر مفردات الراغب: ص 370.
[158] - تفسير ابن جرير: ج9/ ص 208.
[159] - تفسير الكشاف: ج2/ ص 150.
[160] - تفسير الآلوسي: ج9/ ص178.
[161] - حاشية الجمل على الحلالين: ج6/ ص 236.
[162] - تفسير الفخر الرازي: ج5/ ص 148.
[163] - انظر: تفسير ابن جرير: ج9/ ص 221.
[164] - تفسير ابن كثير: ج2/ ص 300.
[165] - تفسير الكشاف: ج2/ ص 213.
[166] - انظر تفسير ابن جرير الطبري: ج9/ 224.
[167] - تفسير الآلوسي: ج9/ ص 196.
[168] - من حديث طويل، رواه أبو ذر الغفاري – رضي الله عنه -، وأوله:( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا....الحديث ) رواه مسلم، باب البر والصلة والآداب، تحريم الظلم.
[169] - انظر: تفسير ابن كثير: ج2/ ص 303، وتفسير ابن جرير الطبري: ج9/ ص 226.
[170] - انظر: المفردات في غريب القرآن، للراغب الأصفهاني، ص 471.
[171] - وقد صنف المتأخرون المشاكلة تحت باب( المحسنات البديعية ) انظر جواهر البلاغة: أحمد الهاشمي، ص 372.
[172] - المشاكلة لغة: الشكل بالفتح: الشبه والمثل، والجمع: أشكال وشكول.(ابن منظور: لسان العرب، ج7، ص 176.) وفي اصطلاح البلاغيين:( ذكر الشيء الشيء بلفظ غيره، أو بلفظ ضد ذلك الغير، أو بلفظ مناسبه، لوقوعه في صحبته تحقيقا أو تقديرا ً )( انظر: مواهب الفتاح لابن يعقوب، ضمن شروح التلخيص: 4: 310. وحاشية الأنباني على الرسالة البيانية للصبان: 242. والخطيب القزويني: متن التلخيص: ص 108. ) ومعنى الوقوع في الصحبة: أن ذلك الشيء الملبس لفظ غيره وُجِدَ مصاحبا لغيره، بمعنى:أنه ذكر هذا عند ذكر هذا، فأحدثت هذه المصاحبة سبيلا إلى مشاكلته لغيره في لفظه. والصحبة: قد تكون صجبة ذكر، أو صحبة حضور معنى: أي: أن يذكر الشيء الثاني عند ذكر الأول فيشاكله.أو يذكر الثاني عند حضور معنى الأول، وإن لم يكن للأول حضور ذكري.(انظر: مواهب الفتاح، 4: 309.. )
وقال ابن أبي الإصبع :( هو أن يأتي المتكلم في في كلامه، أو الشاعر في شعره باسم من الأسماء المشتركة في موضعين فصاعداً من البيت الواحد، وكذلك الاسم في كل موضع من الموضعين مسمى غير الأول، تدل صيغته عليه بتشاكل إحدى اللفظتين الأخرى في الخط واللفظ ؟؟)(ابن أبي الإصبع، تحرير التحبير: ص 268). وقد عد المتأخرون المشاكلة من ضمن المحسنات المعنوية، بالنظر إلى أن لها تعلقا بالمعنى المصاحب، إذ هي ذكر ذلك المعنى بلفظ غيره للصحبة بين المعنيين، وتلزم الصحبة بين اللفظين. والظاهر أن التحسين اللفظي في المشاكلة، يتوازى مع التحسين المعنوي.(انظر: مواهب الفتاح: 4: 215- 316.) بلاغة المشاكلة: المشاكلة لون بديعي خلاب يثير الانتباه، وينشط العقول، ويستدعي التفكير والتدبر، وذلك لأن المعنى المراد يظهر في لفظ غير لفظه، فيبدو في رداء غير مألوف، ولباس غير معتاد، مما يثير انتباه المتلقي، ويستدعي إصغاءه، ويبعث عقله على التفكير في اللفظ المعروض عليه، والمعنى المراد منه، فإذا علمه بعد ذلك تأكد لديه ، وثبت عنده. ومن ناحية أخرى: تخدع المشاكلة المتلقي، ففي النظرة الأولى يتوهم أن المعنى الثاني هو عين الأول، ولكنه بعد إدامة النظر، وإعمال الفكر، يعلم أنه غيره، وأن اللفظين وإن كانا على شاكلة واحدة، إلا أن معنى كل منهما يختلف عن الآخر، وهذا أدعى إلى استقرار المعاني ورسوخها في الذهن.( د. الشحات محمد أبو ستيت: دراسات منهجية في علم البديع ط1، 1992م ص 141. )
[173] - باب الدعاء في صلاة الليل، رواه مسلم في صلاة المسافرين من حديث طويل، أوله:( وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين...)
[174] - انظر: تفسير ابن كثير، ج2/ ص 304.
[175] - انظر: تفسير الآلوسي: ج9/ ص 99.
[176] - هناك فرق بين المطر والغيث، ولعل أصل الغيث يقترب من الغوث بمعنى النصر والعون. والغيث لا يرد إلا في سياق الرحمة والبشر، قال تعالى:( إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث... الآية )( لقمان: 34 )
أما المطر: فقد ورد في آيات كثيرة في سياق العذاب ، قال تعالى:( وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين )( الأعراف: 84)
وقال سبحانه:( وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين )( الشعراء: 173 )
[177] - تفسير الكشاف: ج2/ ص 216.
[178] - رفض كثير من العلماء دعوى النسخ بهذه الآية.. فقال الطبري: لا وجه لقول من قال إن قوله جل ثناؤه(وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ) لأنه خبر لا يجوز أن يكون فيه نسخ، وإنما يكون النسخ للأمر أو النهي، ووافقه عليه أبو جعفر النحاس بقوله:( النسخ هنا محال.. لأنه خبرٌ خبَّرَ الله به ولا نعلم أحداً روي عنه هذا إلا الحسن.. وسائر العلماء أنها محكمة ) أهـ. الطبري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن ج13/ ص518، ومكى: الإيضاح ص 298- 299. ود. سامي عطا حسن، قلائد المرجان: ص 183
[179] - تفسير القرطبي: ج7/ ص 40.
[180] - انظر: من أسرار التعبير القرآني، د. عبد الفتاح لاشين، ص 191.
[181] - تفسير ابن جرير الطبري: ج9/ ص 245.
[182] - انظر بحث: محمود محمد قاسم - سبب الاختلاف الكتابي لرسم القرآن العثماني
[183] - لسان العرب: لابن منظور:( مادة بصر ج1: ص 417).
-[184] - المقصد الأسنى، للغزالي: ص 84.
[185] - انظر: معجم المقاييس في اللغة، لابن فارس( مادة ولي ). ولسان العرب، لابن منظور،( مادة ولي).
[186] - المفردات، للأصفهاني،( مادة نصر ).
[187] - من اللمسات البيانية: د. فاضل السامرائي.
[188] - تفسير القرطبي: ج8/ ص 1.
[189] - والحائط: هو البستان الذي يحيط به سور. والرجل الذي بنى المسجد الأُدنى هو عبد الله بن خالد الخزاعي..: د. حسين عبد العزيز شافع: شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام 1/384
[190] - الواقدي محمد بن عمر: المغازي، ج3 ص 959. تحقيق د. مارسدن جونس – عالم الكتب
[191] - المغازي للواقدي: 1/ 866
[192] - انظر: الرحيق المختوم؛ صفي الرحمن المباركفوري، ص128.
[193]- ويُكَذب مزاعم مردخاي كيدار ما حصل في موسم الحج عام 68 للهجرة، فقد وافى الموسم، ووقف بعرفات في تلك السنة أربعة ألوية: لواء محمد بن الحنيفية( بن علي بن أبي طالب ) وشيعته. ولواء عبد الله بن الزبير وأتباعه. ولواء بني أمية.... ولواء نجدة الحروري( الخارجي ) ومن معه . فهذه الألوية كانت تمثل – على التوالي – أحزاب: الشيعة، وأتباع ابن الزبير – رضي الله عنه -، وبني أمية، ثم الخوارج.. وهي الأحزاب التي كانت الأمة منقسمة إليها في ذلك الوقت. وفي سنة 75هـحج بالناس الخليفة عبد الملك بن مروان نفسه.. وهذا يكذب ما نسب إليه من تهم.. وافتراءات... وأنه يريد صرف الحجيج من مكة إلى بيت المقدس... ثم لو أراد عبد الملك أن يجعلها بديلا للحج إلى بيت الله الحرام، لما ذهب هو إلى الحج بمكة.. قال اليعقوبي بعد ذلك في تاريخه مناقضا نفسه: وأقام عبد الملك الحج للناس في ولايته سنة 72 الحجاج بن يوسف، وسنة 73، وسنة 74 الحجاج أيضًا، وسنة 75 ذهب للحج عبد الملك بن مروان نفسه، وسنة 76 أبان بن عثمان بن عفان، وسنة 77 أبان أيضًا ، وسنة 78 وسنة 79 وسنة 80 أبان بن عثمان أيضًا وسنة 81 سليمان بن عبد الملك ( وسرد باقي السنوات...) وعبد الملك هو الذي كسا الكعبة الديباج، فهل هذا صنيع من يريد الاستهانة بالحرم، وتحويل الحج من مكة إلى بيت المقدس ؟
[194]- ضع هذه الجملة التي بين قوسين على الجوجل( الشيخ الزغبي يفضح يوسف زيدان على الهواء ويكشف كذبه وعمالته لليهود )يظهر لك فيديو يعرض كلام الصهيوني( مردخاي كيدار ) المدرس بجامعة بار إيلان في مستعمرة رمات غان، وبعد انتهاء الجملة، يردد ليوسف زيدان نفس العبارة التي يتفوه بها( مردخاي كيدار ) كالببغاء ، وحذو النعل بالنعل ؟؟ّ !!
وقد نشرت( القدس العربي” 29 ديسمبر 2017م الصادرة في لندن ): رسالة شكر نشرتها صفحة سفارة إسرائيل في القاهرة على حسابها على “فيبسوك” موجهة للكاتب والروائي المصري المثير للجدل يوسف زيدان على خلفية تصريحاته التي أدلى بها عبر برنامج “كل يوم” الذي يقدمه الصحفي عمرو اديب على قناة ONTV.المصرية، التي نزع فها القدسية عن المسجد الأقصى، وزعم أنه موجود في الطائف وليس في فلسطين، وهو “تدوير” لإدعاءات صهيونية كاذبة، في مقابل إدعاء الصهاينة أن “القدس وفلسطين هي أرض وعد الله اليهود بها”.. وقالت السفارة الإسرائيلية في رسالة أخرى: “أسعدنا سماع أقوال الكاتب والمؤرخ يوسف زيدان، ووصفه للعلاقات الحميدة بين اليهود والمسلمين حتى قبل ظهور النبي محمد - صلى الله عليه وسلم-، وحتى أيامنا هذه، مشيرا إلى ان جذور الحروب بين الطرفين تعود إلى المتطرفين”. كما نشرته الصحيفة الاليكترونية - عربي21 – يوم الثلاثاء، 26 ديسمبر 2017 ؟؟
[195] - لقد رد العشرات على زيدان في مصر وغيرها، وقد كتبت فصلا مطولا في كتاب لي ينتظر الطبع تحت عنوان( المسجد الأقصى المبارك مكانا... ومكانة )
[196]- كشف المفكر المصري ( علاء_حمودة ) عن سرقة الروائي المصري (يوسف_زيدان ) لرواية "عزازيل" التي صدرت عن دار الشروق سنة 2008،. وحصلت الرواية على جائزة "بوكر" العربية سنة 2009، كما حصلت على جائزة "أنوبي" البريطانية لأفضل رواية مترجمة إلى اللغة الإنجليزية سنة 2012.ويقول حمودة لـ"العربية.نت": منذ أثرت موضوع السرقة الأدبية للدكتور يوسف زيدان لروايته "عزازيل" والمنقولة حرفياً من رواية "أعداء جدد بوجه قديم" منتصف القرن التاسع عشر لتشارلز كينغسلي، والمعروفة بالاسم "هيباتيا"، والجدل يدور حول الموضوع، بالرغم من أنه ليس بجديد ولا من اكتشافي، بل أثير عدة مرات من قبل". ويضيف الأديب المصري: الحقيقة أننا نظلم الدكتور يوسف زيدان لو اتهمناه بسرقة "عزازيل" من "هيباتيا".. فهو في الواقع لم يسرق "هيباتيا" فحسب، بل سرق رواية أخرى تسمى "اسم الوردة" للكاتب الإيطالي امبرتو ايكو مطلع الثمانينيات.و قد مزج الدكتور يوسف الروايتين مزجاً، وخرج علينا بـ"عزازيل" وإن كان حافظ على معظم الشخصيات والحبكة والأحداث الخاصة برواية "كينغسلي . ويقول د. حمودة لقد كان رد الدكتور يوسف زيدان على الاتهام بأن ذكر أنه لم يقرأ رواية كينغسلي ولا يعرف عنها شيئاً.. ولكن كَذَّبه حوار قام بتسجيله بنفسه في وقت سابق، أقر فيه بقراءة الرواية وانتقدها كذلك نقدا لاذعا، في مجلة "روزاليوسف"، عدد السبت 21 مارس 2009، مضيفاً أن زيدان فضح أمر "عزازيل" بهذا التصريح المتناقض، وإن كان فتح شهيتي على قراءة المزيد له، ويا للحظ فقد أمسكت بروايته "محال"، وهي عن قصة شاب مصري من أصل سوداني، يطارد أحلامه، ويسافر ويعمل سعياً خلفها، حتى يجد نفسه في نهاية القصة بلا ذنب داخل معتقل "غوانتانامو". لا تنتهي أحداث الرواية عند هذا الحد، بل نقفز مع الدكتور يوسف للجزء الثاني الذي يحمل اسم "غوانتانامو" ويصف الأحداث داخل المعتقل ونعرف مصير ذلك الشاب. ويقول حمودة: الرواية قرعت أجراسا في ذاكرتي دفعتني للنهوض والبحث في مكتبتي المتواضعة، حتى عثرت على رواية كتبتها الكاتبة دوروثيا ديكمان عام 2007، قبل رواية الدكتور يوسف بخمس سنوات كاملة، وتدور أحداث رواية "غوانتانامو" للكاتبة والأديبة دوروثيا حول شاب ألماني من أصل هندي، يطارد إرثا قديما له في الهند، ويسافر ويعمل سعياً خلفه، حتى يجد نفسه بلا ذنب داخل معتقل "غوانتانامو". ويضيف حمودة متسائلاً: هل هناك تشابه ما بين الروايتين؟ ويجيب "نعم"، مضيفاً: لقد دفعني هذا للسهر، والتقاط كتاب "ظل الأفعى" رواية الدكتور يوسف التي كتبها عام 2006، وتدور أحداثها حول زوجة، تنفر من زوجها وتنشز عنه بلا سبب مفهوم، ثم كانت تتلقى رسائل بالبريد من أمها التي كانت قد هجرتها في صغرها بعد وفاة والدها، وتبين الرواية في هذا السياق مكانة الأنثى ودورها الحقيقي الذي تم تدنيسه والتقليل منه عبر الوقت بسبب قهر الرجل لها. ولأن مكتبتي عامرة، فكان لابد أن تلفت نظري رواية الكاتبة السنغالية( مريمة با، ) الناشطة والمدافعة عن حقوق المرأة والتي كتبتها عام 1981، تحت عنوان "خطاب طويل جداً". ورواية "مريمة" تدور أحداثها حول خطاب ترسله الأرملة "راماتويا" إلى صديقة طفولتها "أيساتو"، وهذا الخطاب يتضح أنه الرواية نفسها فيما بعد، وتبين الرواية في هذا السياق مكانة الأنثى ودورها الحقيقي الذي تم تدنيسه والتقليل منه عبر الوقت بسبب قهر الرجل لها.عند هذا الحد يقول علاء حمودة: لقد توقفت عن قراءة أعمال د.يوسف زيدان وقررت أن أتبحر في الروايات العالمية التي تملأ مكتبتي وأعيد قراءتها، وبذلك أكون قد قرأت الأعمال الأصلية نفسها دون "ترجمة" أو "اقتباس" أو سرقة من الغير توفيراً للوقت.... باختصار انظر:(حمودة لـ"العربية.نت": روايات( عزازيل،ومحال،وظل الأفعى ) لزيدان مقتبسة من هذه الروايات21 فبراير 2017م ) فهو ناقل أفكار وروايات ؟؟ واكتب العبارة التالية على( جوجل )-( خالد رفعت بفضح يوسف زيدان ومصادر الوايات التي يؤلفها )
[197] - تفسير الفخر الرازي: ج5/ ص 172.
[198] - المفردات: للراغب الأصفهاني، ص 50.
[199] - سورة الأنعام: آية / 153.
[200] - انظر الفروق اللغوية: د. محمد بن عبد الرحمن الشايع، ص 263 وما بعدها.
[201] - جامع البيان 1/73، ومعاني القران- للنحاس1/67، ولسان العرب 7/313.
[202] - ينظر: المفردات في غريب القران 230، والكشاف 1/25، والتبيان في اعراب القران 1/7، ابو البقاء محب الدين عبد الله بن ابي عبدالله الحسين بن ابي البقاء العكبري(ت616هـ)، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار احياء الكتب العربية- عيسى البابي الحلبي.
[203] - شرح ديوانه 607، ضبط معانيه وشروحه: ايليا الحاوي، دار الكتاب اللبناني- بيروت، ط1، 1982م.
[204] - انظر روح المعاني للآلوسي: ج8: ص 57.
[205] - دقائق التفسير 2/480، ابن تيمية الحراني(ت 728هـ)، تحقيق: د. محمد السيد الجليند، مؤسسة علوم القران- دمشق، ط2، 1404هـ.
[206] - المفردات في غريب القران 223، واسرار التكرار في القران 139، ولسان العرب 11/32.
[207] - ينظر: التوقيف في مهمات التعاريف 396.
[208] - ينظر: لسان العرب 11/320، والبرهان في علوم القران 4/80.
[209] - لسان العرب 11/320.
[210] - الوجوه والنظائر في القران 186-187، هارون بن موسى القاري الاعور(ت 170هـ)، تحقيق: د. حاتم صالح الضامن، دار الحرية للطباعة والنشر- بغداد، 1988م، وظاهرة الترادف102.
[211] - المفردات في غريب القران 223.
[212] - الفروق اللغوية 246.
[213] - الفروق اللغوية 246، والمفردات في غريب القران 303، والتوقيف في مهمات التعاريف 481-482.
[214] - ينظر: البرهان في علوم القران 4/80، والاتقان 1/94.
[215] - مفردات ألفاظ القرآن، للراغب الأصفهاني: ماد( حيط ).
[216] - تفسير الفخر الرازي: ج5/ ص 176.
[217] - وردت كلمة( ظلاّم) في ثلاث آيات:
1-( وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ) [الأنفال: 51].
2- وقال سبحانه وتعالى: ( ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ) [آل عمران: 181-182].
3- وقال سبحانه وتعالى في سورة الحج:( ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ ) [الحج: 10]. وهكذا نجد أن الحق سبحانه وتعالى قد قال: إنه ليس بظلام للعبيد ثلاث مرات في القرآن الكريم، فهل هذا يعني أن الله - حاشاه – ظالم..؟ ونقول: لا، فسبحانه ينفي الظلم عن نفسه على إطلاقه. والإنسان حين يظلم فهو ظالم، فإذا اشتد ظلمه وتعدد، يقال: " ظلاَّم ". إذن فهذه صيغة مبالغة في الظلم، مثلما تقول: فلان " آكل " وفلان " أكّال " أي كثير الأكل مبالغة في تناول الطعام. وتقول: فلان " ناجر " أي أمسك قطعة خشب بدون خبِرة، وصنعَ منها شيئاً. ولكنك إذا قلت: " نجَّار " كانت هذه صيغة مبالغة تبين إتقانه في صنعته. إذن " فعَّال " صيغة مبالغة في الفعل. وصيغ المبالغة لها حالتان، حالة إثبات وحالة نفي. فأنت حين تقول: فلان " أكّال " أثبت له صفة المبالغة في الأكل، أي كثرة الأكل، ومن باب أولى صفة الأكل مطلقاً، وما دمت قد أثبت له الصفة الأعلى تكون الصفة الأدنى ثابتة. فإذا قلت: إن فلاناً " خياط " أثبت له أنه يعرف الخياطة ويجيدها. وإن قلت: إنه " نجَّار " أثبت له أنه ناجر متقن للنجارة.. أما من ناحية النفي فإذا قلت: إن فلاناً ليس أكَّالاً، تنفي المبالغة، ولكنها لا تنفي أنه يأكل. وإذا قلت: إن فلاناً ليس علاّمة، فقد يكون عالماً. وأنت عندما تثبت الأعلى تثبت الأدنى، وعندما تنفي الأعلى، لا تنفي الأدنى. وعندما تقول: إن فلاناً ليس ظلاَّماً، تكون قد نفيت الأعلى. ولكن لا يلزم نفي الأدنى،فقد يكون ظالماً فقط، وليس ظلاَّما. إذن فكلمة " ليس ظّلاماً " نفت المبالغة فقط، ولكنها لم تنف الظلم. وهذا ما قاله المستشرقون: إن آيات القرآن يناقض بعضها بعضاً، ففي آية مثلاً يقول: { لَيْسَ بِظَلاَّمٍ } فنفى الأعلى، ولا يلزم من نفي الأعلى نفي الأدنى. ويقول سبحانه وتعالى في آية أخرى: (إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ) [النساء: 40].فنفى الأدنى والأعلى. وهذا في رأيهم تضارب. نقول: هل إذا نفى الأعلى يلزم أن يثبت الأدنى..؟ طبعاً لا، إن نفي الأعلى لا يمنع أن يوجد الأدنى، ولكنه لا يلزم بوجوده....إذن فقول الحق سبحانه وتعالى:( إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ) [النساء: 40].نفى مبدأ الظلم. وقوله تعالى:( وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ) [الأنفال: 51].نفي مبدأ المبالغة... فالقرآن يكمل بعضه بعضاً، فإذا قيل: إن الله نفى الأعلى وهذا إثبات للأدنى، نقول: إن نفي الأعلى لا يلزم منه إثبات الأدنى، ولا يمنع من وجود الأدنى، فإذا جاءت آية أخرى ونفت الأدنى، إذن فلا هو بظلاَّم، ولا هو بظالم. ثم: هل قال الله سبحانه وتعالى: ليس بظلاَّم للعبد، أم ليس بظلاَّم للعبيد...؟ لقد قال الحق:( لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ) وهي هنا صيغة مبالغة، والمبالغة مرة تكون في قوة الحَدَثْ وإن لم يتكرر، ومرة تكون المبالغة في تكرار الحدث، والإنسان حين يظلم ظلماً بيّناً مبالغاً فيه يقال عنه: إنه ظلاَّم؛ لأنه بالغ في الظلم، فإذا لم يبالغ في الظلم، وكان ظلماً بسيطاً، ولكنه شمل عدداً كبيراً من الناس، يكون ظلاَّما نظراً لتعدد المظلومين. وما دام الحق سبحانه وتعالى قال:( لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ) ؛ ولم يقل: ليس بظلاَّم للعبد، وبما أن الظلم يتناسب مع القدرة. نجد مثلاً قدرة الحاكم على الظلم أكبر من قدرة محدود النفوذ،وهذه أكبر من قدرة الشخص العادي، فلو كان الله سبحانه وتعالى مع كل واحد من عباده ظالماً ولو مثقال ذرة لقيل : ظلاَّم . وقد أراد الله سبحانه وتعالى بهذه الآية الكريمة أن يخبرنا أنه لا يظلم أحداً ولو مثقال ذرة، إذن فهو ليس بظلاَّم للعبيد؛ لأنه لو ظلم كل عبد من عباده ذرة لكانت كمية الظلم هائلة لكثرة العباد. ولكن حتى هذه الذرة من الظلم لا تحدث من الله سبحانه؛ لأن الله ليس بظلاَّم للعبيد.
[218] - من اللمسات البيانية: د. فاضل السامرائي
[219] - تفسير الفخر الرازي: ج15/ ص 182.
[220] - انظر: تفسير الجمل على الجلالين: ج2/ ص 252.
[221] - المفردات في غريب القرآن: للراغب الأصفهاني، ص 322.
[222] - تفسير الفخر الرازي: ج15/ ص 186.
[223] - تتضمن هذه الآية الأمر بالصلح إذا كان فيه مصلحة ظاهرة… فإن رأى الإمام أن يصالح أعداءه من الكفار. وفيه قوة فلا يجوز أن يهادنهم سنة كاملة.. وان كانت القوة للمشركين جاز أن يهادنهم عشر سنين، ولا يجوز الزيادة عليها إقتداء برسول الله في صلح الحديبية…) أما إذا كان ميل الكفار للصلح لاستكمال أسباب قوتهم فالآية التي تليها تحذر منه حيث تقول: ( وإن يريدوا أن يخدعوك فحسبك الله…) فعند ذلك يجب رفض الصلح ليسهل إنهاء الحرب في أقرب وقت لئلا يطول أمدها. وقد رد الإمام الطبري دعوى النسخ فقال:( أما ما قاله قتادة ومن قال مثل قوله من أن هذه الآية منسوخة فقول لا دلالة عليه من كتاب ولاسنة ولا فطرة عقل…).وقول الله في براءة ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم( غير ناف حكمه حكم قوله تعالى:( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ) لأن قوله( وإن جنحوا للسلم ) إنما عنى به بنو قريظة… وكانوا يهودا… أهل كتاب… وقد أذن الله جل ثناؤه للمؤمنين بصلح أهل الكتاب ومتاركتهم على اخذ الجزية منهم. - وأما قوله ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) فإنما عنى به مشركوا العرب من عبدة الأوثان.. الذين لا يجوز قبول الجزية منهم… فليس في أحد الآيتين نفي لحكم الأخرى.. بل كل واحدة منها محكمة فيما أنزلت فيه ). انظر: الطبري: جامع البيان ج14/ 42 – 43، ومكي: الإيضاح ص 300، وابن العربي:الناسخ والمنسوخ ج2/ 233- 234.ود. سامي عطا، قلائد المرجان في الناسخ والمنسوخ من القرآن، ص 176.
[224] - انظر تفسير الفخر الرازي: ج15/ ص 188.
[225] - تفسير الفخر الرازي: ج15/ ص 191.
[226] - نفس المرجع السابق
[227] - المفردات في غريب القرآن: ص 113.
[228] - اتفق جمهور المفسرين على أن الآيتين الناسخة والمنسوخة تتحدثان عن وجوب الثبات، وتحريم الفرار أمام الكفار، وقد قيدت الأولى بألا يتجاوز المقاتلون من الكفار عشرة أمثال المقاتلين من المؤمنين، ثم نسخ هذا تخفيفا من الله عنهم، ورحمة بهم، فصار القيد في الآية الناسخة ألا يتجاوز الكفار مثلي المؤمنين، وقد انفرد الإمام ابن حزم في القول بأن الآية محكمة وليست منسوخة. انظر ابن حزم: الإحكام في أصول الأحكام ج4/ ص89-90. وانظر رد هذا القول لمصطفى زيد في كتابه: النسخ في القرآن الكريم، ص 824-828. وانظر: قلائد المرجان، للدكتور سامي عطا، ص: 176-177.
[229] - سورة الانفال، من الآيه 66. وانظر الطبري: جامع البيان ج10 / ص39.
[230] - مكي: الإيضاح ص 301.
[231] - صحيح مسلم: ج5/ ص 156، من كتاب الجهاد والسير.
[232] - تفسير ابن كثير: ج2/ ص 328.
[233] - الرحيق المختوم: صفي الرحمن المبار كفوري، ص 258.
[234] - منشأ دعوى النسخ في هذه الآية هو تفسير الولاية بالميراث.. أما إذا فسرنا الولاية بالنصرة.. تكون الآية محكمة وليست منسوخة.. وهناك آثار وردت في تفسير الطبري تدعم تفسير الولاية بالنصرة.. بقدر ما تضعف تفسيرها بالميراث.. إذ لا مكان للميراث في آيات تتحدث عن ولاية بعض المؤمنين لبعض.. بعد أن تحدثت عن أسباب القتال وغاياته ونتائجه.. في أول سورة تعالج موضوعه بشيء من التفصيل.(تفسير الطبري 14/85، والنسخ في القران الكريم ج2 ص741 والايضاح لمكي ص 305.) ويقول الإمام فخر الدين الرازي:( احتج الذاهبون إلى أن المراد من هذه الولاية الميراث. بأن قالوا: لا يجوز أن يكون المراد منها الولاية بمعنى النصرة ، والدليل عليه أنه تعالى عطف عليه قوله(وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر ) ولا شك أن ذلك عبارة عن الموالاة في الدين. والمعطوف مغاير للمعطوف عليه. فوجب أن يكون المراد بالولاية المذكورة أمرا " مغايرا " لمعنى النصرة ).( التفسير الكبير 15/210.)وهذا الاستدلال ضعيف.. لأنا حملنا تلك الولاية على التعظيم والإكرام وهو أمر مغاير للنصرة. ألا ترى أن الإنسان قد ينصر بعض أهل الذمة في بعض الملمات. وقد ينصر عبده وأمته بمعنى الإعانة.. مع أنه لا يواليه بمعنى التعظيم والإجلال.. فسقط هذا الدليل.انظر: د. سامي عطا، قلائد المرجان في الناسخ والمنسوخ من القرآن: ص 177.
[235] - حاشية الجمل على الجلالين: ج2/ ص 259.