الصحابي المجني عليه
أبو هريرة
صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخادمه
اسمه ونسبه
اختلف في اسم أبي هريرة رضي الله عنه قبل إسلامه على أقوال، فقيل: عبد شمس بن صخر، وقيل: عبد عمرو بن عبد غنم، وقيل غير ذلك، كما اختلف في اسمه بعد إسلامه على أقوال أيضاً، أشهرها: عبد الرحمن بن صخر، فقد روي عنه أنه قال: كان اسمي في الجاهلة: عبد شمس بن صخر، فسماني رســـــول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمنالحاكم: المستدرك 3/507، وابن حجر: الإصابة 4/202، وابن عبد البر: الاستيعاب هامش الإصابة 4/205 وما بعدها.، وأياً كان اسمه فقد غلبت كنيته أبو هريرة على اسمه، وأصبح لا يعرف إلا بها، ولا تنصرف عند إطلاقها إلى إليه.وقد روي عنه في سبب تكنيته بذلك أنه قال: كنت أرعى غنم أهلي، وكانت لي هريرة صغيرة، فكنت أضعها بالليل في شجر، فإذا كان النهار ذهبت بها معي، فلعبت بها فكنوني أبا هريرة الترمذي: السنن 5/350، والحاكم: المستدرك 3/506
وأما نسبة فيذكر المؤرخون أنه من قبيلة دوس الأزديه اليمانية، وقد توفي سنة سبع وخمسين، وقيل سنة ثمان وخمسين وقيل: سنة تسع وخمسين، وهو ابن ثمان وسبعين سنة، وقد ضعف القول الأخير الحافظ الذهبي، واعتمد الأول الحافظ ابن حجر، وكانت وفاته بالمدينة المنورة، وقيل: بالعقيق، فحمل إلى المدينة ودفن بالبقيع، وكان من المشيعين له رضى الله عنه: عبد الله بن عمر، وأبو سعيد الخدري رضي الله عنهما. الحاكم: المستدرك 3/508، والذهبي: سير أعلام النبلاء 2/262-627، وابن حجر: الإصابة4/210، وابن عبد البر: الاستيعاب هامش الإصابة 4/209-210، والعقيق يبعد نحو عشرة أميال من المدينة المنورة
إسلامه وصحبته
أسلم أبو هريرة رضي الله عنه عام خيبر في المحرم سنة سبع من الهجرة، وشهدها مع النبي صلى الله عليه وسلم، فعن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، قال: "شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر… الحديث" البخاري 5/74
وعن أبي الغيث، عن أبي هريرة، قال:"خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر ففتح الله علينا… الحديث"البخاري فتح 6/225، ومسلم شرح النووي 1/42-43، وأحمد 15/225.
كما شهدنا غيرها من المشاهد بعدها، وبذلك قد حاز فضل الجهاد في سبيل الله تعالى إلى جانب شرف الصحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ صحبه منذ ذلك اليوم إلى وفاته صلى الله عليه وسلم، وهي مدة تزيد على أربع سنينمسلم بشرح النووي 2/128، لازمه فيها ملازمة تامة تفرغ فيها للأخذ عنه، والتعلم منه، فكانت يده مع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يدور معه حيث دار، وينتقل معه حيث ينتقل، لا ينفك عنه سفراً ولا حضراً، إذ لا يشغله عن ذلك بيع ولا شراء ولا رعاية أموال.
صح عنه أنه قال: "إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله الموعد، إني كنت أمراً مســكيناً أصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني، وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم، فحضرت من النبي صلى الله عليه وسلم مجلساً، فقال: "من يبسط رداءه حتى أقضي مقالتي، ثم يقبضه إليه، فلن ينسى شيئاً سمعه مني، فبسطت بردة علي حتى قضى حديثه، ثم قبضها إلي، فوالذي نفيس بيده ما نسيت شيئاً سمعته منه بعد" البخاري 4/247 – البيوع، ومسلم بشرح النووي 16/52-53 فضائل الصحابة، واللفظ للبخاري
وبهذا نرى أن أبا هريرة رضي الله عنه قد غمرته بركة صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وملازمته له، وخدمته إياه، حيث رزقه الله تعالى ببركة تلك الصحبة حفظ ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعدم نسيانه.
حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم خدمته له
كان أبو هريرة رضي الله عنه شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قوي الثقة به، يتقرب إليه بما يرضيه صلى الله عليه وسلم، يفرح لفرحه، ويحزن لحزنه، ويسوؤه النيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان من أقرب الناس إليه، فقد صح عنه أنه قال: "كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يوماً، فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا ابكي، قلت: يا رسول الله إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام، فتأبى علي، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة.
فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اللهم اهد أم أبي هريرة".
فخرجت مستبشراً بدعوة نبي الله صلى الله عليه وسلم، فلما جئت فصرت إلى الباب، فإذا هو مجاف، فسمعت أمي خشف قدمي، فقالت: مكانك يا أبا هريرة، وسمعت خضخضة الماء، قال: فاغتسلت ولبست درعها، وعجلت عن خمارها، ففتحت الباب، ثم قالت: يا أبا هريرة أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله.
قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته وأنا أبكي من الفرح، قال: قلت: يا رسول الله أبشر، قد استجاب الله دعوتك،
وهدى أم أبي هريرة، فحمد الله، وأثنى عليه، وقال خيراً… الحديث" مسلم بشرح النووي 16/51-92 فضائل الصحابة، وابن حبان 8/142، واللفظ لمسلم
وهذا الحديث يرينا إلى جانب حب إبي هريرة للنبي صلى الله عليه وسلم، وبكائه عند النيل منه، تكريم النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة بإجابة طلبه بالدعاء لهداية أمه التي هداها الله تعالى ببركة ذلك الدعاء، مما ضاعف سرور أبي هريرة، وفرحه وبكائه لذلك.
وكان يعبر عن حبه للرسول صلى الله عليه وسلم بمثل قوله: "أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث، لا أدعهن حتى أموت: صور ثلاثة أيام من كل شهر، وصلاة الضحى، ونوم على وتر" البخاري 2/54، ومسلم 2/158، واللفظ للبخاري
وقوله: سمعت خليلي يقول:"تبلغ الحلية من المؤمن إلى حيث يبلغ الوضوء". أحمد: المسند 17/27، والمراد بالحلية: النور
كما كان يعبر عنه بالحرص على ملازمة الرسول صلى الله عليه وسلم، وخدمته حيث كان لا يدع فرصة لخدمته صلى الله عليه وسلم إلا اغتنمها، فمن ذلك: أنه كان يحمل إداوة وضوئه صلى الله عليه وسلم إذا أراد الوضوء، فقد أخرج البخاري عنه أنه كان يحمل إلى النبي صلى الله عليه وسلم إداوة لوضوئه وحاجته، فبينما هو يتبعه بها، فقال: "من هذا؟" فقال: أنا أبو هريرة، قال: "ابغني أحجاراً أستنفض بها، ولا تأتني بعظم، ولا بروثة" فأتيته بأحجار أحملها في طرف ثوبي، حتى وضعتها إلى جنبه، ثم انصرفت…الحديث" البخاري 2/240، والإداوة: إناء صغير من جلد يتخذ للماء، ابن الأثير النهاية 1/33
ومن ذلك: ما رواه أبو زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة، قال: "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلاء، فأتيته بتور فيه ماء، فاستنجى، ثم مسح يده في الأرض، ثم غسلها، ثم أتيته بتور آخر، فتوضأ به" أحمد: المسند 15/239، والتور: إناء من صفر أو حجارة، النهاية 1/199
ومنه أيضاً ما رواه مجاهد عن أبي هريرة قال: "مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصرف ما في وجهي من الجوع، فقال: "أبو هريرة؟" قلت: لبيك يا رسول الله، فدخلت معه البيت فوجد لبناً في قدح، فقال: "من أين لكم هذا؟" قيل: أرسل به إليك فلان، فقال: "يا أبا هريرة انطلق إلى أهل الصفة فادعهم" وكان أهل الصفة أضياف الإسلام، لا أهل ولا مال، إذا أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة أرسل بها إليهم، ولم يصب منها شيئاً، وإذا جاءته هدية أصاب منها، وأشركهم فيها، فساءني إرساله إياي، فقلت: كنت أرجو أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، وما هذا اللبن في أهل الصفة، ولمن يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بد، فأتيتهم فأقبلوا مجيبين، فلما جلسوا، قال: "خذ يا أبا هريرة، فأعطهم" فجعلت أعطي، فيشرب حتى يروى، حتى أتيت جميعهم، وناولته رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع رأسه إلي مبتسماً، وقال: "بقيت أنا وأنت" قلت: صدقت يا رسول الله، قال: "فاشرب" فشربت، فقال: "فاشرب" فشربت، فقال: "فاشرب" فشربت، فما زال يقول: اشرب، فأشرب حتى قلت: والذي بعثك بالحق ما أجد له مساغاً فأخذ فشرب من الفضلة"الذهبي: سير أعلام النبلاء 2/591-592، وأصل هذه الرواية في البخاري 7/179-180 كتاب: الرقاق، والصفة هي المكان الذي أعده النبي صلى الله عليه وسلم، في مسجده الشريف لإيواء فقراء المهاجرين.
تعكس لنا هذه الرواية وما قبلها من روايات حرص أبي هريرة رضي الله عنه على خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطاعته، كما تعكس لنا مدى اعتماده صلى الله عليه وسلم وإيثاره لهم على نفسه، حيث لم يشر مما أهدي إليه من لبن مع حاجته صلى الله عليه وسلم إليه إلا بعد أن شربوا منه جميعاً، وشبعوا بفضل بركة النبي صلى الله عليه وسلم، وليس هذا مستغرباً من الرحمة المهداة، وصاحب الخلق العظيم صلى الله عليه وسلم.
علمه وفضله
كان أبو هريرة رضي الله عنه من علماء الصحابة وفضلائهم، يشهد لذلك رواية كثير منهم عنه، ورجوعهم غليه في الفتوى، فقد روى عنه من الصحابة: زيد بن ثابت، وأبو أيوب الأنصاري، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وأبي بن كعب، وجابر بن عبد الله، وعائشة، والمسور بن مخرمة، وأبو موسى الأشعري، وأنس بن مالك، وأبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغيرهم من الصحابة، وروى عنه من التابعين قبيصة بن ذؤيب، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وسالم بن عبد الله بن عمر، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو صالح السمان، وعطاء بن أبي رباح، وعطاء بن يسار، ومجاهد، والشعبي، وابن سيرين، وعكرمة، ونافع مولى ابن عمر، وأبو إدريس الخولاني، وغيرهم من التابعين رضي الله عنهم.الحاكم: المستدرك 3/513، الذهبي: سير الأعلام النبلاء 2/580-585.
قال البخاري رحمه الله: روى عنه ثمانمائة نفس أو أكثر.الذهبي: تذكرة الحفاظ 1/36، وابن حجر الإصابة 4/205.
وكما رووا عنه فقد رجعوا إليه في السؤال والفتوى، ومنهم من قدمه في ذلك ووافقه فيما قال.
قال الشافعي رحمه الله: أخبرنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن بكير بن الأشج، عن معاوية بن أبي عياش الأنصاري،: أنه كان جالساً مع
ابن الزبير، فجاء محمد بن إياس بن البكير، فسأل عن رجل طلق ثلاثاً قبل الدخول، فبعثه إلى أبي هريرة، وابن عباس، وكانا عند عائشة، فذهب فسألهما، فقال ابن عباس لأبي هريرة: أفته يا أبا هريرة، فقد جاءتك معضلة، فقال: الواحدة تبينها والثلاث تحرمها، حتى تنكح زوجاً غيره، وقال ابن عباس مثل ذلك، مالك: الموطأ 2/57، والشافعي: المسند 2/36، بلفظ: تبتها.
وعن الزهري، عن سالم، أنه سمع أبا هريرة يقول: سألني قوم محرمون عن محلين أهدوا لهم صيداً، فأمرتهم بأكله.مالك: الموطأ 1/351-352.
وعن زياد بن مينا، قال: كان ابن عباس، وابن عمر، وأبو سعيد، وأبو هريرة، وجابر مع أشباه لهم، يفتون بالمدينة عن رسول الله صلى عليه وسلم من لدن توفي عثمان إلى أن توفوا، قال: وهؤلاء الخمسة إليهم صارت الفتوى. الذهبي: سير أعلام النبلاء 2/606-607.
وقال الذهبي: وناهيك أن مثل ابن عباس يتأدب معه، ويقول: أفت يا أبا هريرة.المصدر نفسه 2/609.
عبادته وتقواه
عرف أبو هريرة رضي الله عنه بالعبادة والتقوى، وكل ما يقربه إلى الله تعالى، كيف لا يكون كذلك، وقد صحب الأسوة الحسنة في العبادة، ورآه كيف كان يجهد نفسه فيها، حتى تورمت قدماه صلى الله عليه وسلم، فكان يكثر من الصلاة والصيام وقراءة القرآن، وقيام الليل.
فعن حماد بن زيد عن عباس الجريري قال: سمعت أبا عثمان النهدي قال: "تضيفت أبا هريرة سبعاً، فكان هو وامرأته وخادمه يعتقبون الليل أثلاثاً، يصلي هذا، ثم يوقظ هذا، ويصلي هذا، ثم يرقد ويوقظ هذا، قال: قلت: يا أبا هريرة كيف تصوم؟ قال: أما أنا فأصور من أول الشهر ثلاثاً، فإن حدث لي حادث كان آخر شهري". أحمد: المسند 16/260.
وعن ابن جريج قال: قال أبو هريرة: إني أجزئ الليل ثلاثة أجزاء، فجزء لقراءة القرآن، وجزء أنام فيه، وجزء أتذكر فيه حديث رسول الله.ابن كثير: البداية والنهاية 8/113.
وصح عنه أنه قال:"أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام" البخاري 2/247.
وعن حماد بن سلمة، عن هشام بن سعيد بن زيد الأنصاري، عن شرحبيل أن أبا هريرة كان يصوم الأثنين والخميس.الذهبي: سير أعلام النبلاء 2/610.
وكان إلى جانب ذلك كثير التسبيح، والحمد لله تعالى على نعمة الإسلام وغيرها من النعم التي أنعم بها تعالى عليه، كما كان شديد الخوف من الله تعالى، كثير التحذير من النار، أعاذنا الله منها.
فعن ميمون بن ميسرة، قال: "كانت لأبي هريرة صيحتان في كل يوم: أول النهار وآخره، يقول: ذهب الليل، وجاء النهار، وعرض آل فرعون على النار، فلا يسمعه أحد إلا استعاذ بالله من النار"الذهبي: سير أعلام النبلاء 2/611.
وروي عن ابن المبارك: أن أبا هريرة بكى في مرضه، فقيل: ما يبكيك؟ قال: ما أبكي على دنياكم هذه، ولكن على بعد سفري، وقلة زادي، وأني أمسيت في صعود، ومهبطه على جنة أو نار، فلا أدري إلى أيهما يؤخذ بي. المصدر نفسه 2/625.
وروي عنه أيضاً: أن أبا هريرة قال: "لا تغبطن فاجراً بنعمة، فإن من ورائه طالباً حثيثاً طلبه، جهنم كلما خبت زدناهم سعيراً". وقال ابن كثير: "وقد كان أبو هريرة من الصدق والحفظ والديانة والعبادة والزهادة والعمل الصالح على جانب عظيم". ابن كثير: البداية والنهاية 8/113.
تواضعه وكرمه وطيب أخلاقه
عرف أبو هريرة بتواضعه الجم في كل مراحل حياته، فلم ينس ماضيه بعد أن منّ الله تعالى عليه بنعمة العلم والجاه والفضل، كمن يحاولون نسيان ماضيهم إذا طابت أيامهم ووسع الله عليهم، وإنما كان يستحضر ماضيه، وما عانى فيه من فاقة وحرمان، ليشكر الله تعالى على نعمة الدين وغيرها من النعم التي أسبغها عليه، ويستزيد بذلك من نعمه تعال، فقد روي عنه أنه قال: نشأت يتيماً، وهاجرت مسكيناً، وكنت أجيراً لابنة غزوان بطعام بطنى، وعقبة رجلي، أحدو بهم إذا ركبوا، واحتطب إذا نزلوا، فالحمد لله الذي جعل الدين قواماً، وأبا هريرة إماماً بعد أن كان أجيراً لابنة غزوان على شبع بطنه، وحمولة رجله. الذهبي: سير أعلام النبلاء 2/611، وابن كثير: البداية والنهاية 2/113.
قال الذهبي: وكان من أوعية العلم مع الجلالة والعبادة والتواضع. الذهبي: تذكرة الحفاظ 1/34ن ولعله أراد بقوله: إماماً، إمامة العلم والفتوى.
وكان مع تواضعه كريماً، وكيف لا يكون كذلك وقد صحب من كان أجود من الريح المرسلة صلى الله عليه وسلم، فقد روى أبو نضرة العبدي عن الطفاوي قال: نزلت أبي هريرة بالمدينة ستة أشهر، فلم أر رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد تشميراً، ولا أقوم على ضيف منه. الذهبي: تذكرة الحفاظ 1/35، وسير أعلام النبلاء 2/593، والطفاوي: صحابي من أهل الصفة، أبو نعيم الحلية 1/375.
ولعله أراد بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضافه منهم، كما يفهم من كلامه لا كلهم، لأن فيهم أبحراً لا تدرك سواحلها في الجود والكرم، ومع تواضعه وكرمه كان دعوباً خفيف الظل، صريحاً فيما يقول، لا يحمل لأحد حقداً، ولا يتطلع إلى ما عند غيره، راضياً بما عنده، شاكراً لله تعالى عليه.
فقد روي عنه أنه قال: "الحمد لله الذي أشبعنا من الخبز بعد أن لم يكن طعامنا إلا الأسودين: التمر والماء". الذهبي: سير أعلام النبلاء 2/610
بره بأمه وحب الناس له
هريرة – وأمّه إلى عبادك المؤمنين، وحبّب إليهم المؤمنين… الحديث". مسلم بشرح النووي 16/52.
قال ابن كثير: وهذا الحديث من دلائل النبوة، فإن أبا هريرة محبب إلى جميع الناس، وقد شهر الله ذكره بما قدره أن يكون من روايته. ابن كثير: البداية 8/108. أي بما روي عنه من روايات.
كان أبو هريرة باراً بأمه، وكان من بره بها: اصطحابه لها في الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت مشركة، رجاء أن تؤمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقد حقق الله تعالى رجاءه حيث أجاب النبي صلى الله عليه وسلم طلبه بالدعاء لأمنه فآمنت، وفرح بذلك فرحاً شديداً أبكاه كما مرّ.
وكان من بره بها أيضاً، ما روي عنه أنه قال: خرجت يوماً من بيتي إلى المسجد، فوجدت نفراً، فقالوا: ما أخرجك؟ قلت: الجوع، فقالوا: ونحن والله ما أخرجنا إلا الجوع، فقمنا، فدخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما جاء بكم بهذه الساعة"؟، فأخبرناه فدعا بطبق فيه تمر، فأعطى كل رجل منا تمرتين، فقال: "كلوا هاتين التمرتين، واشروا عليهما من الماء، فإنهما ستجزيانكم يومكم هذا"، فأكلت تمرة، وخبأت الأخرى، فقال: "يا أبا هريرة لم رفعتها"؟، قلت: لأمي. قال: "كلها فسنعطيك لها تمرتين". ابن سعد: الطبقات 4/329، والذهبي: سيرا أعلام النبلااء 2/592.
ومن برّه بها، ما روي عن ابن شهاب الزهري: أن أبا هريرة لم يكن يحج حتى ماتت أمه لصحبتها. ابن سعد: الطبقات 4/329
لهذا ولغيره من المعاني والصفات الحميدة التي كان يتحلى بها أبو هريرة، ولبركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له بالمحبة، رزق القبول والمحبة من قبل معاصريه من المؤمنين من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم.
فقد روي عنه في طلب الدعاء لأمه بالإيمان، أنه قال: "قلت يا رسول الله ادع الله أن يحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين، ويحببهم إلينا" قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله حبب عُبيدَك هذا – يعني أبا
حرصه على اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم
ظهر من سلوك أبي هريرة العملي ما يدل على حرصه الشديد على اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاقتداء به فيما قال وما فعل امتثالاً لقوله تعالى: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ] [ الحشر7].
واستجابة لدواعي الحب الصادق لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ملأ قلوب أصحابه رضي الله عنهم، وملك كل عواطفهم وجوارحهم، ومنهم أبو هريرة الذي كان شديد الحرص على اتباعه صلى الله عليه وسلم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ولعل في الأمثلة الآتية ما يؤكد ذلك:فمن ذلك: ما روي عنه أنه قال:"أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث لا أدعهن حتى أموت: صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وصلاة الضحى، ونوع على وتر".تقديم تخرجه.
ومن ذلك: ما روي عنه أنه قال:"أنا أشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال: سمع الله لمن حمده، قال: ربنا ولك الحمد، وكان يكبر إذا ركع، وإذا رفع رأسه، وإذا قام من السجدتين قال: الله أكبر".
أحمد: المسند 16/111.
ومن ذلك: ما روي عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع الوضوء".
وقال أبو هريرة:"لقد كنت أستن قبل أن أنام وبعد ما أستيقظ، وقبل ما آكل، وبعد ما آكل، حين سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما قال". أحمد: المسند 18/16.
ومن ذلك أيضاً: ما رواه سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنه مر بقوم، وبين أيديهم شاة مصلية، فدعوه فأبى أن يأكل. خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير. البخاري 6/205 – كتاب الأطعمة.
وفيما تقدم من أمثلة دلالة كافية على مدى اتباعه لرسول الله صلى الله عليه وسلم واقتدائه به قولاً وعملاً وسلوكاً.
أقواله وحكمه
رويت عن أبي هريرة رضي الله عنه أقوال وحكم ومليئة بالعظات والمعاني الدالة على قوة إيمانه بالله وباليوم الآخر، وما يكون فيه من حساب وثواب وعقاب، وعلى سعة إدراكه وفهمه لتعاليم الإسلام وأبعاده، ومعرفته بالدنيا وزهده فيها، وسنقتطف طائفة من تلك الأقوال، لنقف على ما فيها من عمق المعاني، وبليغ العظات:
1- فمن ذلك قوله لأبي سلمة بن عبد الرحمن حين دعا له بالشفاء: "يا أبا سلمة إن استطعت أن تموت فمت، فوالذي نفس أبي هريرة بيده ليوشكن أن يأتي على العلماء زمن يكون الموت أحب إلى أحدهم من الذهب الأحمر، أو ليوشكن أن يأتي على الناس زمان يأتي الرجل قبر المسلم فيقول: وددت أني صاحب هذا القبر". ابن سعد: الطبقات 4/337.
2- وقوله فيما رواه أبو المتوكل: "إن أبا هريرة كانت له زنجية قد غمُّتهم بعملها، فرفع عليها السوط يوماً، فقال: لولا القصاص لأغشيتك به، ولكن سأبيعك، ممن يوفني ثمنك، اذهبي فأنت لله". أبو نعيم: الحلية 2/384، وابن الجوزي: صفة الصفوة 1/692
3- وقوله: "إن هذه الكناسة مهلكة دنياكم وآخرتكم، يعني الأموال والشهوات".
4- وقوله فيما روي عن معمر:"أنه كان إذا مرت به جنازة قال: روحوا فإنا غادون، أو اغدوا فإنا رائحون، موعظة بلغية، وغفلة سريعة، يذهب الأول، ويبقى الآخر لاعقل له". ابن كثير: البداية 8/114-115.
5- وقوله حين قال له رجل من أهل المدينة بنى داراً: ما أكتب على باب داري؟، فقال: اكتب على بابها، ابن للخراب، ولد للثكل، واجمع للوارث. أبو نعيم: الحلية 2/385.
6- وقوله: "ما وجع أحب إلي من الحمى، لأنها تعطي كل مفصل قسطه من الوجع، وإن الله تعالى يعطي كل مفصل قسطه من الأجر". ابن الجوزي: صفة الصفوة 1/692.
7- وقوله في مرضه: "اللهم إني أحب لقاءك، فأحب لقائي". الذهبي: سير أعلام النبلاء 2/625، وابن كثير: البداية والنهاية 8/118.
8- وقوله لابنته: "لا تلبسي الذهب، فإني أخشى عليك اللهب".
وقد نهاها عن لبس الذهب ورعاً، وربما لأن لبسه قد يؤدي إلى الترف، المفضي أحياناً إلى الفتور عن العبادة، والتقصير في الطاعة، وإلا فإن التحلي به للنساء جائز شرعاً. عنده وعند غيره من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمة فيما نعلم، ما لم يكن للفخر أو الاختيال، فإنه يحرم، كمن جر ثوبه خيلاء. الذهبي: سير أعلام النبلاء 2/629.
رواياته وحفظه
كان أبو هريرة رضي الله عنه من أحفظ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلمن فقد رُوي عنه نحو خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعة وسبعين حديثاً مسنداً، الذهبي: سير أعلام النبلاء 2/632، وابن حجر: الإصابة 4/205.
وتعود كثرة رواياته وحفظه لها إلى أمور:
1- صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم مدة تزيد على أربع سنين، وهي مدة كافية لحفظ ما حفظ من أحاديث في العادة، بل لأكثر منها. من قِبل من يتفرغ فيها للأخذ والحفظ.
2- أخذه لكثير من تلك الروايات عن بعض الصحابة رضي الله عنهم، ولا سيما التي فاته سماعها من النبي صلى الله عليه وسلم قبل إسلامه، كأبي بكر وعمر والفضل ابن عباس وأبي بن كعب وأسامة بن زيد وعائشة وغيرهم. ابن حجر: الإصابة 4/205.
فقد عايش هؤلاء وغيرهم من الصحابة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتاً غير قليل، وعليه فلم يكن مصدر رواياته كلها الرسول وحده، كما لم تكن مدة أخذه لها وحفظه إياها منحصرة بمدة صحبته له صلى الله عليه وسلم كما ظن الجاهلون ذلك، وإنما تعدتها إلى عهد الصحابة الذين عاشوا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.
3- تفرغه للعلم والحفظ، كما مر. مر في: إسلامه وصحبته.
4- تأخر وفاته إلى ما بعد سنة خمسين هجرية، وكما توفي قله أكثر علماء الصحابة وحفاظهم رضي الله عنهم، ولم يبق بعده إلا القيل منهم، كعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله، وأبي سعيد الخدري، وأنس بن مالك، وعائشة وآخرين رضي الله عنهم. في وقت اشتدت الحاجة فيه إلى علم الصحابة رضي الله عنهم نظراً لاتساع رقعة الدولة الإسلامية، وازدياد الداخلين في الإسلام، وكثرة الباحثين عن العلم من أولاد الصحابة وغيرهم ممن عنوا بعلم الصحابة باعتبارهم المراجع الوحيدة والأمينة التي تصلهم مباشر برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا سيما من عرف منهم بالحفظ والملازمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كأبي هريرة رضي الله عنه.
شهادة أهل العلم له بالحفظ:
لهذه الأمور، وببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له بالحفظ كان من أحفظ الصحابة رضي الله عنهم وأكثرهم حديثاً.
فقد أخرج الترمذي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال لأبي هريرة: يا أبا هريرة أنت كنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأحفظنا لحديثه. الترمذي: السنن 5/348، والحاكم:المستدرك3/511، بلفظ: وأعلمنا بحديثه.
وأخرج أيضاً عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أنه قال:" لا أشك أنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم نسمع..الحديث". الترمذي: السنن 5/348-349.
وروى الحاكم: أن رجلاً جاء إلى زيد بن ثابت فسأله عن شئ، فقال: عليك أبا هريرة، فإني بينما أنا جالس وأبو هريرة وفلان في المسجد ذات يوم ندعو الله تعالى ونذكر ربنا: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس إلينا فسكتنا، فقال: عودوا للذي كنتم فيه. قال زيد: فدعوت أنا وصاحبي قبل أبي هريرة، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمن على دعائنا، ثم دعا أبو هريرة، فقال: اللهم إني أسألك مثل الذي سألك صاحباي هذان، وأسألك علماً لا ينسى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:آمين فقلنا: يا رسول الله ونحن نسأل الله علماً لا ينسى، فقال: "سبقكما بها الدوسي". الحاكم: المستدرك 3/508.
وقال الأعمش عن أبي صالح قال: كان أبو هريرة من أحفظ الصحابة. ابن حجر: الإصابة 4/205.
وقال الشافعي: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره. الذهبي: تذكرة الحفاظ 1/36، وابن حجر: الإصابة 4/205.
وقال ابن عبد البر: وكان أحفظ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يحضر ما لا يحضر سائر المهاجرين والأنصار لانشغال المهاجرين بالتجارة، والأنصار بحوائطهم، وقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه حريص على العلم والحديث.ابن عبد البر: الاستيعاب بهامش الإصابة 4/208-209.
وعن محمد بن عمار بن عمرو بن حزم: أنه قعد في مجلس فيه أبو هريرة، وفيه مشيخة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بضعة عشر رجلاً فجعل أبو هريرة يحدثهم عن النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث فلا يعرفه بعضهم، ثم يتراجعون فيه، فيعرفه بعضهم ثم يحدثهم بالحديث فلا يعرفه بعضهم، ثم يعرفه حتى فعل ذلك مراراً. قال: فعرفت يومئذ أنه أحفظ الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. البخاري: التاريخ 1/186
وقال البخاري: روى عنه نحو الثمانمائة من أهل العلم، وكان أحفظ من روى الحديث في عصره.
وقال أبو نعيم: كان أحفظ الصحابة لأخبرا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا له بأن يحببه إلى المؤمنين. ابن حجر: الإصابة 4/206.
وقال الحاكم: قد تحريت الابتداء من فضائل أبي هريرة رضي الله عنه، لحفظه لحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وشهادة الصحابة والتابعين له بذلك، فإن كل من طلب حفظ الحديث من أول الإسلام وإلى عصرنا هذا فإنهم من أتباعه وشيعته إن هو أولهم وأحقهم باسم الحفظ. الحاكم: المستدرك 3/512.
وكفى بشهادة هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم ومن تلاهم من أعلام علماء الأمة على كثرة روايته وحفظه لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم..
11-عدالته وضبطه
لقد ثبتت العدالة لأبي هريرة رضي الله عنه بتعديل الله عز وجل العام لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم وتعديل النبي صلى الله عليه وسلم لهم، بالآيات والأحاديث السابقة غيرها مما لم نذكره هنا خشية الإطالة، وذلك لما كانوا عليه من صدق الإيمان وحسن الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما قاموا به من جهود وتضحيات، لنصرة الإسلام وإعلاء كلمته.
قال الخطيب: على أنه لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله فيهم شئ مما ذكرنا لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد والنصرة وبذل المهج والأموال، وقتل الآباء والأولاد والمناصحة في الدين، وقوة الإيمان واليقين: القطع على عدالتهم والاعتقاد لنزاهتهم، وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين الذين يجيئون بعدهم. الخطيب: الكفاية 94.
ولم يثبت من خلال سيرة أبي هريرة ما ينافي ذلك من ردة أو كذب، أو نفاق، أو غير ذلك، مما نعيذه بالله تعالى منه، ومما يؤكد ذلك: رواية من ذكرنا قبل قليل من الصحابة والتابعين الذي بلغ عددهم المئات عنه.
كما أن العدالة تثبت عند علماء الجــرح والتعديل للراوي من غير
الصحابة رضي الله عنهم، برواية عدلين عنه وتوثيقهم له، ومنهم من اكتفى بتعديل واحد له. الخطيب: الكفاية 94.
فكيف بمن روى عنه أكثر من عشرين صحابياً، ومئات من ثقات التابعين رضي الله عنهم، ووثقوه، من ذلك ما تقدم عن ابن عمر رضي الله عنهما من قوله لأبي هريرة: "أنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحفظنا لحديثه" وقول طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه: "لا أشك أن أبا هريرة سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم نسمع".
وما روي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال لرجل سأله عن شئ: "عليك أبا هريرة".
لهذا لكه أجمع العلماء من المحدثين وغيرهم على تعديله مع غيره من الصحابة رضي الله عنهم، وقبول ما صحت نسبتها إليه من روايات، أما ما لم تصح نسبتها إليه فهي مردودة لا يحتج بها مثل غيرها من الروايات الضعيفة والموضوعة المنسوبة إلى غيره من الصحابة من آل البيت وغيرهم رضي الله عنهم وأرضاهم.
وعليه فلا التفات إلى التشكيك بهن أو بما صحت نسبته إليه من روايات من قبل من توارثوا سوء الظن بأصحاب رسول الله صلى الله عليه سلم، ومن رددوا مفترياتهم من الجاهلين بسيرة هذا الصحابي الجليل، والمستخفين بشرف صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقدم بذلك ما لم يقدم مثله أو قريباً منه لهذا الدين المتقولون عليه وعلى غيره من سلف الأمن الصالح وعلمائها المخلصين.
وإذا كانت العدالة قد تحققت لأبي هريرة بكل الاعتبارات المتقدمة، فإنه قد تحقق له أيضاً: الضبط التام لرواياته، وقد شهد بذلك تلاميذه وغيرهم من المختبرين لحفظه وضبطه.
روى البخاري ومسلم وأحمد عن أبي حازم قال: قاعدت أبا هريرة خمس سنين، فسمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلف نبي، وأنه لا نبي بعدي … الحديث": أحمد:المسند15/109، والبخاري: بفتح الباري6/350، ومسلم2/87، واللفظ لأحمد ومعنى تسوسهم: تتولى أمورهم
أي أنه لم يزد فيه ولم ينقص منه على مدى المدة المذكورة.
وروى الحاكم عن كاتب مروان بن الحكم أمير المدينة قال: "إن مروان دعا أبا هريرة، فأقعدني خلف السرير وجعل يسأله، وجعلت أكتب حتى إذا كان عند رأس الحول دعا به فأقعده وراء الحجاب، فجعل يسأله عن ذلك فما زاد ولا نقص، ولا قدم ولا أخر". الحاكم:المستدرك3/510، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي عليه.
وكان ذلك من مروان اختباراً لحفظ أبي هريرة رضي الله عنه كما يبدو، ولم يكن الإملاء عنه بعلمه كما هو واضح، ومما يشهد لتمام حفظه وضبطه ما تقدم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال:"يا أبا هريرة أن كنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأحفظنا لحديثه". الترمذي 5/348، والحاكم: المستدرك 3/511، بلفظ وأعلمنا بحديثه.
وما روي عن الأعمش عن أبي صالح قال: "كان أبو هريرة رضي الله عنه من أحفظ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم". الحاكم: المستدرك 3/509
فهذه الروايات وغيره من الروايات المتقدمة الدالة على حفظه جعلت العلماء يثقون بحفظ أبي هريرة وضبطه، ويعتنون برواياته، وكان من عنايتهم بها موازنتهم بين أسانيدها من حيث التفاوت في الصحة، إذ رويت عنهم في ذلك أقوال:
فقيل: "أصح أسانيد أبي هريرة: الزهري عن سعيد بن المسيب عنه، وقل أبو الزناد، عن الأعرج عنه، وقيل: حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة".
ومنهم من قال: "إن أصح أسانيد اليمانيين معمر عن همام عن أبي هريرة".
وقال أحمد بن صالح المصري: "أثبت أسانيد أهل المدينة: إسماعيل بن أبي حكيم، عن عبيدة بن سفيان، عن أبي هريرة"
وقال أبوبكر البرديجي:"أجمع أهل النقل على صحة أحاديث الزهري عن سالم، عن أبيه، وعن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة". الحاكم: معرفة علوم الحديث 55، والسيوطي: تدريب الراوي 1/46-48.
وأياً قيل، فإن هذه الأقوال تدل على أهمية روايات أبي هريرة واهتمام المحدثين الواضح بها: حفظاً ووعياً وتدويناً حيث أخرجها أئمة المحدثين في كتبهم، فالكتب الستة وغيرها من الكتب المشهورة والمتداولة، اعتمدت روايات أبي هريرة بلا نكير عندهم، فلا تكاد تجد باباً إلا وله فيه حديث أو أكثر.
مسلكه في الرواية
إن المتأمل فيما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه من أحاديث يجده أنه قد سلك في روايته فها مسلكين رئيسيين:
المسلك الأول:هو الرواية المجردة للأحاديث النبوية:
وهي التي يقتصر فيها على أداء ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقوال، أو شاهده من أفعال وأحوال لتلاميذه أو للسائلين له عن حديث أو أحاديث بعينها لتحملها منه، أو للتأكد من صحة نسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك.
فمن ذلك: ما رواه أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخيارهم خيارهم لنسائهم". أحمد: المسند 13/133، والترمذي: السنن2/204، وقال حسن صحيح.
وروى عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما قال: دخلت على أبي هريرة في بيته، فسألته عن صوم يوم عرفة بعرفات؟ فقال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة بعرفات". أحمد: المسند5/180، وأبو داود 2440.
فقد اقتصر في أداء هذين الحديثني على ما سمعه من رسول الله صلـى الله عليه وسلم على عادة محدثي الصحابة ومن بعدهم من تابعين وغيرهم رضي الله عنهم في التحديث، وهذا المسلك هو الغالب على ما روي عنه من أحاديث مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
المسلك الثاني: هو الرواية غير المجردة:
وهي التي يرويها ضمن كلام له يشرح فيه الرواية، أو يستنبط منها معاني، أو أحكاماً استفادها منها، أو من روايات أخرى باجتهاده وفهمه الخاص. بقصد التعليم والإرشاد اللذين شكلا ظاهرة بارزة في حياته رضي الله عنه الدعوية: التي أولاها اهتمامه كما سنرى فيما بعد.
ومن تلك الروايات على سبيل المثال:
ما رواه أحمد، عن محمد بن زياد، قال: رأيت أبا هريرة مر بقوم يتوضؤون من مطهرة، فقال: أحسنوا الوضوء يرحمكم الله، ألم تسمعوا ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويل للأعقاب من النار". أحمد: المسند14/222، والمطهرة: الإناء الذي يتطهر منه.
وما رواه أحمد والبخاري عن سالم بن عبد الله قال: "ما أدري كم رأيت أبا هريرة قائماً في السوق يقول: يقبض العلم وتظهر الفتن، ويكثر الهرج، قال: قيل: يا رسول الله، وما الهرج؟ قال"بيده هكذا وحرفها".أحمد: المسند 14/257، والبخاري1/165، والهرج بفتح الهاء وإسكان الراء: القتل.
أي حركها يميناً وشمالاً.
وبهذا نراه قد قدم هاتي الروايتين بكلام من عنده، حيث أمر بإحسان الوضوء خوف الوقوع بما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم، وهي النار في الرواية الأولى.
وقدم للرواية الثانية ببيان بعض أشراط الساعة، كقبض العلمن وظهرو الفتن، وكثرة القتل، وذلك على سبيل التحذير من التمادي في المعاصي، والبعد عن طاعة الله تعالى، وختمها بما يؤكد ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
المرفوع والموقوف في روايات أبي هريرة:
وعلى هذا فالكلام الذي يأتي به في أول الروايات المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو في آخرها يعد موقوفاً عليه، لأنه من كلامه هو، لا من المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي إذا سئل عنه أحياناً، هل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ يقول: لا هذا من كيسي، أو من كيس أبي هريرة.
وقد ظن بعض من لا لعم له بالحديث، ولا معرفة له بطريقة أبي هريرة في الرواية أنه يعني بقوله هذا: الرواية بسميها المرفوع والموقوف لا الموقوف منها خاصة، فراح يقول جهلاً: إن أبا هريرة ينسب ما يقوله من نفسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصادفت هذه المقولة الجاهلة هوى في نفوس الذين في قلوبهم مرض، فأخذوا يرددونها، لعلها تؤيدهم فيما يفترون على هذا الصحابي الجليل.
13-اهتمامه بالدعوة وتبليغ العلم
كان أبو هريرة رضي الله عنه واحداً من علماء الصحابة رضي الله عنهم، الذين تحملوا أمانة الدعوة وتبليغ العلم الذي تلقوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كان من أكثرهم نشاطاً في هذا المجال، وذلك لسعة علمه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولحاجة الناس في وقته إلى علمه وتعليمه لهم ولخوفه من تبعات كتمان العلم، فقد روي عنه أنه قال: "وايم الله لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم بشئ أبداً"ثم تلا:إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى[البقرة:159]الآية كلها. أحمد: المسند14/122-123
وروي عنه أيضاً أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار يوم القيامة". أحمد: المسند4/5، وأبو داود 3/321.
وروي عن الحسن عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من رجل يأخذ مما قضى الله ورسوله كلمة أو اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً فيجعلهن في طرف ردائه فيعمل بهن ويعلمهن" قلت: أنا وبسطت ثوبي، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث حتى انقضى حديثه، فضممت ثوبي إلى صدري … الحديث. أحمد: المسند 8/147، والحسن: هو البصري.
لهذا سلك أبو هريرة رضي الله عنه كل السبل الممكنة للدعوة إلى الدين وتبيلغ ما تلقاه عن رسول الله من علم ومعرفة، فنراه يعظ ويحدث في كل مكان يتسنى له التحديث فيه، في البيت والمسجد والسوق وغيره من الأماكن التي يستطيع التحديث والوعظ فيها.
فقد روى الإمام أحمد عن عكرمة قال: دخلت على أبي هريرة في بتيه، فسألته عن صوم يوم عرفة … الحديث الذي تقدم قريباً.
وروى الحاكم عن عاصم بن محمد عن أبيه قال:رأيت أبا هريرة رضي الله عنه يخرج يوم الجمعة، فيقبض على رمانتي المنبر قائماً ويقول: حدثنا أبو القاسم رسول الله الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فلا يزال يحدث حتى إذا سمع فتح باب المقصور لخروج الإمام للصلاة جلسالحاكم: المستدرك 3/512، وقال: حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي عليه.
وروى البخاري عن محمد بن عمارة بن عمرو بن حزم: أنه قعد في مجلس فيه أبو هريرة، وفيه مشيخة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بضعة عشر رجلاً، فجعل أبو هريرة يحدثهم عن النبي صلى الله عليه وسلم …الحديث البخاري: التاريخ 1/186.
وروى أحمد والبخاري عن سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم قال: "ما أدري كم رأيت أبا هريرة قائماً في السوق يقول: يقبض العلم وتظهر الفتن…" الحديث، الذي تقدم قريباً أيضاً.
وعن مكحول قال:"تواعد الناس ليلة إلى قبة، فاجتمعوا فيها، فقام فيهم أبو هريرة يحدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح".الذهبي: سير أعلام النبلاء2/599، وابن كثير: البداية والنهاية8/110.
ولم يقتصر أبو هريرة رضي الله عنه في التحديث والوعظ والإرشاد على الرجال، وإنما تعداهم إلى النساء فحدثهن ووعظهن بما يحتجن إليه، ويتعلق بهن من أمور، فقد روى أحمد عن عبيد مولى لأبي رهم، عن أبي هريرة: "أنه لقي امرأة، قال: وله تطيبت؟ قالت: نعم. قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من امرأة تطيبت للمسجد فيقبل الله لها صلاة حتى تغتسل منه اغتسالها من الجنابة" فاذهبي فاغتسلي. أحمد: المسند15/107-108، وابن ماجه: السنن2/1326، واللفظ لأحمد والإعصار، هو فوح الطيب، شبه بما تثير الريح من الأعاصير. ابن الأثير: النهاية3/247
وروى الأوزاعي عن إسماعيل بن عبيد الله، عن كريمة بنت الحسحاس قالت: سمعت أبا هريرة في بيت أم الدرداء يقول: "ثلاث هن كفر: النياحة، وشق الجيب، والطعن في النسب". الذهبي: سير أعلام النبلاء2/586، وأم الدرداء: هي الصغرى، روت عن زوجها أبي الدرداء وأبي هريرة وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم.
وهكذا بين أبو هريرة رضي الله عنه للمرأة المتطيبة عدم مشروعية خروجها من بيتها متطيبة متزينة، ولو كان خروجها لأداء الصلاة في المسجد، وأمرها بالرجوع إلى بيتها والاغتسال من الطيب إن هي شاءت العودة إلى المسجد، وحري بنسائنا المؤمنات اليوم أن يحرصن على هذا
التوجيه النبوي الكريم، ليحفظن أنفسهن من العيون الزائفة، والنفوس المريضة المنحرفة.
كما حذر النساء اللاتي وجدهن في بيت أم الدرداء التابعية الفاضلة، زوج أبي الدرداء الصحابي الجليل رضي الله عنه، من ثلاثة أمور تتعاطاهن النساء، وهن من عادات الجاهلية، التي حرمها الإسلام وساواها بالكفر، لأنها توصل من يتفوه بها إلى النار، كما يوصل الكفر صاحبه إليها، وقد نهج في ذلك النهج التربوي الدعوي الإصلاحي الناجح، حيث خاطب كلاً بما يناسبه، خاطب الرجال بما ينسابهم، وخاطب النساء بما يناسبهن، ويخصهن من أمور، متأسياً في ذلك بالمنهج التربوي الدوعوي الأول، الذي أرسى دعائمه الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد تفنن رضي الله عنه في أساليبه في الدعوة، وكان من أساليبه فيها:
1- أسلوب الترغيب:
روى الهيثمي عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنه مر بسوق المدينة، فوقف عليها، فقال: "يا أهل السوق ما أعجزكم قالوا: وما ذاك يا أبا هريرة؟ قال: ذاك ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم وأنتم ها هنا! ألا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه. قالوا: وأين هو؟ قال: في المسجد، فخرجوا سراعاً، ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعوا فقال لهم: ما لكم؟ قالوا: يا أبا هريرة فقد أتينا المسجد فدخلنا فلم نر فيه شيئاً يقسم، فقال لهم أبو هريرة: وما رأيتم في المسجد أحداً؟ قالوا: بلى رأينا قوماً يصلون، وقوماً يقرؤون القرآن، وقوماً يتذاكرون الحلال والحرام، فقال لهم أبو هريرة: ويحكم لذاك ميراث محمد صلى الله عليه وسلم ". الهيثمي: مجمع الزوائد 1/123-124.
وبهذا الأسلوب الدعوي الرائع بين لهم أبو هريرة رضي الله عنه الميراث النبوي الحقيقي الرابح، إذ إنه لم يورث لهم درهماً ولا ديناراً ولا غيرهما من الأموال، وإنما ترك لهم الكتاب والسنة، وما اشتملا عليه من أنواع الهدي والمعرفة والفلاح.
3- أسلوب الترهيب:
وكما استخدم أسلوب الترغيب في الدعوة، استخدم أيضاً أسلوب الترهيب فيها، مع المدعوين الذين كانوا يتعاطون بعض المعاصي جهلاً، أو عن سوء تقدير لما يترتب عليها من تبعات.
من ذلك ما مر من وعظه للنساء في بيت أم الدرداء رضي الله عنها، وتحذيرهن من: النياحةن وشق الجيب والطعن في النسب التي عدها كفراً، لما تؤدي إليه من عظيم الإثم وشديد العقاب.
ومنه أيضاً ما روي عنه أنه قال: أسبغوا الوضوء فإني سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: "ويل للعراقيب من النار". أحمد: المسند 19/125،ومعنى أسبغوا الوضوء: أتموه بإكساء العراقيب بالماء.
4- أسلوب المواجهة والمصارحة:
فعن قتادة عن أبي عمر الغدانيّ، قال: "كنت عند أبي هريرة جالساً، قال: فمر رجل من بني عامر بن صعصعة، فقيل له: هذا أكثر عامري نادي مالاً، فقال أبو هريرة: ردوه إلي فردوه عليه، فقـال: نبئت أنك ذو مال كثير، فقال العامري: أي والله، إن لي مائة حمراً، ومائة أدماً، حتى عد من ألوان الإبل، وأفنان الرقيق، ورباط الخيل، فقال أبو هريرة: إياك وأخفاف الإبل وأظلاف الغنم، ويردد ذلك عليه حتى جعل لون العامري يتغير أو يتلون، فقال: ما ذاك يا أبا هريرة؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كانت له إبل لا يعطي حقها في نجدتها ورسلها" قلنا: يا رسول الله وما رسلها ونجدتها؟ قال: "في عسرها ويسرها، فإنها تأتي يوم القيامة كأغذ ما كانت وأكبره وأسمنه وأسره، ثم يبطح لها بقاع قرقر، فتطؤه فيه بأخفافها إذا جاوزته أخراها أعيدت عليه أولاها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله … الحديث".
فقال العامري: وما حق الإبل يا أبا هريرة؟ قال أن تعطي الكريمة، وتمنح الغزيرة، وتفقر الظهر، وتسقي اللبن، وتطرق الفحل".أحمد: المسند 20/72-73، ومسلم بشرح النووي 7/64-66، واللفظ لأحمد.
والمراد بالقاع القرقر: المستوية الواسعة، ومعنى العزيرة: كثيرة اللبن، ومعنى تقفر الظهر: تعير البعير لمن يحتاج لركوبه.
ولو تتبعنا جهود أبي هريرة رضي الله عنه الدعوية والتعليمية وأساليبه فيها لطال بنا المقام، وحسبنا ما أوردناه منها للدلالة على سعة ما بذل في هذا المجال من جهود، وعلى كثرة المستفيدين منه والحاملين لعلمه رضي الله عنه وأرضاه.
14- موقفه من الخلافات التي حدثت في أيامه
وقف أبو هريرة رضي الله عنه من الخلافات التي حدثت في أيامه على الحياد، ومنها الخلاف الذي نجمت عنه الفتنة بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه، وبين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وقد وقف هذا الموقف وهو اعتزال الفتنة جمع من الصحابة، كسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن نفيل، و عبد الله بن عمر بن الخطاب، ومحمد بن مسلمة، وسلمة بن الأكوع، وغيرهم رضي الله عنهم.
ولم يحصل منه ما يفيد التحيز إلى أحد الطرفين لا قولاً ولا عملاً، كما لم ينقل عن أحدهما أنه طلب تأييده أو الوقوف إلى جانبه، لأنه لم يكن لديه كما يقول المثل: خيل ولا مال كما كان بطبعه رضي الله عنه موثراً للسلامة ما أمكن، ولم يخرج عن ذلك إلا يوم حوصر أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، من قبل الفئة الباغية التي قتلته ظلماً عام 35هـ.
حيث دخل دار عثمان مع من دخلها من الصحابة للدفاع عنه، كالحسن بن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم.
فقد روى الحاكم عن موسى بن عقبة وأخويه محمد وإبراهيم قالوا: حدثنا أبو حسنة قال: شهدت أبا هريرة وعثمان محصور في الدار واستأذنه في الكلام، فقال أبو هريرة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنها فتنة واختلاف، أو اختلاف وفتنة"، قال: قلنا: يا رسول الله فما تأمرنا، قال: "عليكم بالأمير وأصحابه وأشار إلى عثمان". الحاكم: المستدرك 3/98، وقال: حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي عليه.
وهذا يمثل ولا شك موقفاً جريئاً لأبي هريرة رضي الله عنه، في إظهار الحق في وقت مضطرب لا تعرف فيه عواقب قول الحق على صاحبه، وقد بقي في الدار حتى غلبوا هو ومن معه، وقتل عثمان شهيداً رضي الله عنه وجزاه عن الإسلام خير ما يجزي به الصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.
وقد عرف الأمويون له هذا الموقف، وقدروه له فيما بعد، ولعل هذا هو الذي سوغ لبعض أهل الأهواء الافتراس عليه والتعريض به رضي الله عنه.
15- أبو هريرة وآل البيت رضي الله عنهم
كان أبو هريرة محباً لآل البيت، مجلاً لهم، عارفاً بفضلهم، مقدراً لقربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعياً لوصاياه صلى الله عليه وسلم بهم، راوياً لكثير مما روي في فضلهم ومناقبهم، وحب النبي صلى الله عليه وسلم لهم، وإليك بعض ما روي عنه من مناقبهم رضي الله عنهم:
أولاً – ما روي عنه في مناقب علي رضي الله عنه:
1- روى سهل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال يوم خيبر: "لأعطين هذه الراية رجلاً يحب الله ورسوله، يفتح الله على يديه" فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً بن أبي طالب، فأعطاه إياها، وقال: "امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك" قال: فسار علي شيئاً، ثم وقف ولم يلتفت، فصرخ: يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس؟ قال: "قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإذا فعلوا ذلك، فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله". مسلم 7/121، كتاب فضائل الصحابة، وابن حبان: الصحيح 8/43، واللفظ لمسلم.
2- وعن المحرر بن أبي هريرة عن أبي هريرة قال: "كنت مع علي بن أبي طالب، حيث بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة ببراءة، فقال: ما كنتم تنادون؟ قال: قال كنا ننادي أنه لا يدخل الجـنة إلامؤمن،ولايطوف بالبيت عريان،ومن كان
بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فإن أجله، أو أمده إلى أربعة أشهر، فإذا مضت الأربعة الأشهر، فإن الله برئ من المشركين ورسوله، ولا يحج هذا البيت بعد العام مشرك، قال: فكنت أنادي حتى صحل صوتي". أحمد: المسند 15/133-134ن وصحل بفتح الصاد وكسر الحاء معناه: بح.وقدبينت هذه
الرواية أنه كان بمعية علي رضي الله عنه في أداء هذه المهمة التي كلفوا بها من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3- وعن أبي رافع قال: قلت لأبي هريرة: إن علي بن أبي طالب رضوان الله عليه إذا كان بالعراق يقرأ في صلاة الجمعة سورة الجمعة، وإذا جاءك المنافقون، فقال: كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ. ابن حبا: الصحيح 4/104وفى هذه الرواية يذكرفضيلة من فضائل على بن أبى
طالب رضي الله عنه، وهي الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة والتأسي به فيها.
ثانياً- ما روي عنه في مناق جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه.
1- روي عنه رضي الله عنه أنه قال: وكان أخير الناس للمسكين جعفر بن أبي طالب، كان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته حتى إن كان ليخرج إلينا العكة التي فيها شئ فنشقها فنلعق ما فيها.البخاري 2/208 فضائل الصحابة، العكة: وعاء من جلد يوضع فيه السمن.
2- وعن المقبري عن ابي هريرة قال: كان جعفر بن أبي طالب يحب المساكين، ويجلس إليهم، ويحدثهم ويحدثونه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكنيه أبا المساكين. ابن ماجه: السنن 5/138.
ثالثاً- ما روي عنه في مناقب الحسن والحسين رضي الله عنهما.
1- روي عنه أنه قال: عانق النبي صلى الله عليه وسلم الحسن. البخاري 2/216 مناقب الحسن والحسين رضي الله عنهما.
وفي رواية عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لحسن: "اللهم إني أحبه فأحبه، وأحبب من يحبه". مسلم 7/129، وأحمد: المسند 14/128.
2- وجاء عنه أنه قال: فما كان أحد أحب إلى من الحسن بن علي بعد ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال.ابن حبان: الصحيح 8/56.
3- وعن عمير بن إسحاق قال: كنت أمشي مع الحسن بن علي في طرق المدينة، فلقينا أبا هريرة، فقال للحسن: اكشف لي عن بطنك جعلت فداك حتى أقبل حيث رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبله، قال: فكشف عن بطنه فقبل سرته. أحمد: المسند 14/195، وابن حبان: الصحيح 8/57.
4- وعن عبد الرحمن بن مسعود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الحسن والحسين، هذا على عاتقه، وهذا على عاتقه، وهو يلثم هذا مرة وهذا مرة، حتى انتهى إلينا، فقال له رجل: يا رسول الله إنك تحبهما، فقال: "نعم من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني". الحاكم: المستدرك 3/166، وقال: حديث صحيح، ووافقه الذهبي عليه وقوله: يلثم، أي:يقبل فاه.
5- وعنه رضي الله عنه قال: ما رأيت الحسين بن علي إلا فاضت عيني دموعاً، وذاك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوماً فوجدني في المسجد، فأخذ بيدي، واتكأ علي فانطلقت معه، حتى جاء سوق بني قينقاع، قال: وما كلمني، فطاف ونظر، ثم رجع ورجعت معه، فجلس في المسجد واحتبى، وقال: "ادع لي لكاع" فأتى حسين يشتد حتى وقع في حجره، ثم أدخل يده في لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتح فم الحسين فيدخل فاه في فيه ويقول: "اللهم إني أحبه فأحبه".الحاكم: المستدرك 3/178، وقال حديث صحيح، ووافقه الذهبي عليه.
ونكتفي بما ذكرناه مما رواه أبو هريرة من مناقبهم، عن باقي ما رواه أبو هريرة من مناقب آل البيت رضي الله عنهم، لدلالة ما أوردناه من مناقبهم على علاقة أبي هريرة الحميمة بهم، وحبه لهم، وحرصه على إبراز مناقبهم، وإظهار فضلهم رضوان الله عليهم، وهذا يدل على جهل كثير من المتقولين عليه بتلك العلاقة، وذلك الحب الصادق لهم.
هذا ولم يثبت عن أحد من آل البيت الكرام ما يفيد الطعن بأبي هريرة، أو النيل منه، وإنما ثبت أن بعضهم قد روى عنه، وأن كثيرا من ثقات أصحابهم والرواة عنهم، قد رووا عنه أيضاً بعلمهم ودون معارضة من أحد منهم، مما يدل على رضائهم عنه، وقبولهم لرواياته، ومن شاء التأكد مما ذكرنا، فليراجع كتاب دفاع عن أبي هريرة لمؤلفه الفاضل الأستاذ: عبد المنعم صالح العلي، فإنه سيجد فيها ما يؤكد ذلك.
الشبهات الباطلة التي أثيرت حوله
لم تمنع صحبة أبي هريرة رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وخدمته له، وحمله لسنته، ولا سيرته الحسنة، وسلوكه الهادئ، وطبعه المسالم، ولا ثناء إخوانه من الصحابة رضي الله عنهم، وإشادة من بعدهم من علماء الأمن من تابعين وغيرهم به، وتقديرهم له، لم يمنع ذلك كله أصحاب الأهواء من التقول عليه، وإثارة بعض الشبهات الباطلة حوله، وكان منها ما استهدف بعض رواياته، وقد ردّ عليها العلماء من قدامى ومحدثين بما أبان ريفها وبطلانها، ومنها ما استهدف شخصه ورواياته عموماً، وسنحاول الرد على هذا النوع من الشبهات وتفنيده بما ييسر الله تعالى لنا من شواهد وأدلة:
الشبهة الأولى
كثرة رواياته
يرى البعض أن كثرة رواياته مع قصر مدة صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمر يدعو إلى الشك في صحتها، ويجاب على هذه الشبهة من وجوه:
1 – أن كثرة روايات كثرة نسبية وليست كثرة مطلقة إذ أنه أكثر من روي عنه من الصحابة رضي الله عنهم: لا أكثر من يحفظ الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومما يؤكد هذا اعترافه رضي الله عنه بأن ما كان عند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما من حديث أكثر مما كان عنده، لأن عبد الله كما قال: كان يكتب، وهو لا يكتب، وهذا ما أفصح عنه الإمام أبو بكر بن خزيمة بقوله: كان من أكثر أصحابه عنه رواية فيما انتشر من رواياته وروايات غيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع مخارج صحاح. الحاكم: المستدرك 3/112.
وإن عدم كثرة الرواية عمن عداه ممن طالت صحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمر نسبي، ويرجع بعض أسبابها إلى وفاة بعضهم المبكرة، إذا أن منهم من توفي، في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من توفي بعد وفاته بقليل، كما أن منهم من كان مقلاً للرواية لا يحدث إلا إذا سئل، وكان من هؤلاء الخلفاء الراشدون، وأبيه بن كعب، وابن مسعود، وأبو سعيد الخدري، وغيرهم رضي الله عنهم.
2 – إن قصر صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم قصر نسبي: أي بالنسبة لمن طالت صحبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم، كالعشرة المبشرين بالجنة، وغيرهم من السابقين الأولين من الصحابة رضي الله عنهم، وإلا فإنها في الواقع ليست قصيرة كما يتوهم، إذ زادت على أربع سنين كما تقدم.تقدم في إسلامه وصحبته.
وهي مدة كافية لجمعه ما جمع، وروايته ما روى من أحاديث، علماً أنه قد لازم فيها النبي صلى الله عليه وسلم ملازمة تامة، حضراً وسفراً، يدور معه حيث دار، تفرغ فيها للعلم والتحصيل، لا يشغله عنهما شاغل من تجارة، أو زراعة، أو أعباء عائلية أو غير ذلك، وهي ملازمة لم تتيسر لكثير ممن كانت صحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أطول من صحبته له، لانشغالهم بأمور الحياة الضرورية، روي عن البراء بن عازب رضي الله عنه، أنه قال: ليس كلما سمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت لنا ضيعة وأشغال، ولكن الناس لم يكونوا يكذبون يومئذ فيحدث الشاهد الغائب. الخطيب: الكفاية 548، والسيوطي: مفتاح الجنة 22.
وروي أنه جاء رجل إلى طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، فقال: يا أبا محمد، والله ما ندري هذا اليماني أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم أم أنتم؟ تقوّل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل، يعني أبا هريرة، فقال: طلحة: والله ما يشك أنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم، إنا كنا قوماً أغنياء، لنا بيوت وأهلون، كنا نأتي نبي الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار، ثم نرجع،
وكان أبو هريرة رضي الله عنه مسكيناً لا مال له، ولا أهل، ولا ولد، إنما كانت يده مع يد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يدور معه حيث دار، ولا نشك أنه قد عمل ما لم نعمل، وسمع ما لم نسمع، ولم يتهمه أحد منا، أنه تقوّل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل.الحاكم: المستدرك 3/511-512، وقال: حديث صحيح.
كما كانوا مشغولين أيضاً بأمور الدعوة، والقيام بالمهمات التي كان يكلفهم بها النبي صلى الله عليه وسلم، كالخروج في السرايا والغزوات، وتبليغ العلم، ونقل الكتب إلى الملوك والأمراء المجاورين للجزيرة العربية، وما تتطلبه مثل هذه المهمات من سفر وغياب عن مجالسة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يدوم غيابهم أياماً أو أشهراً.
كما أن منهم من لم يكن يساكن النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، حتى يتسنى له لقاؤه متى شاء، أو في الوقت الذي تمسح له ظروفه اللقاء به.
لهذه الأسباب وغيره لم تتيسر الملازمة التامة لكثير ممن طالت صحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما تيسرت لأبي هريرة رضي الله عنه، ويشهد لذلك ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: يا أبا هريرة كمنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحفظنا لحديثه. تقدم تخرجه في: رواياته وحفظه.
3- حرصه على العلم والتحصيل ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم له بالحفظ: كان أبو هريرة رضي الله عنه مهتماً بالعلم، حريصاً على التعلم، شهد له بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى البخاري عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: قلت: يا نبي الله من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: "لقد ظننت أن يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك، لما رأيت من حرصك على الحديث". أحمد: المسند 17/35-36، والبخاري بفتح الباري 1/193، واللفظ لأحمد.
وكفي بها شهادة على حرصه رضي الله عنه على العلم والتحصيل وبهذا نرى النبي صلى الله عليه وسلم، يشجع أبا هريرة على العلم، كما شجع غيره من الصحابة الذين أنس منهم الفطنة والرغبة والاستعداد لذلك، كأنس بن مالك، وابن عباس، وغيرهما.
وقد دعا لأبي هريرة بالحفظ وعدم النسيان، حيث أمن على دعائه بذلك. فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه، قال: فإني بينما أنا جالس وأبو هريرة، وفلان في المسجد ذات يوم ندعوا الله ونذكره، إذ خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم، حتى جلس إلينا، فسكتنا، فقال: عودوا للذي كنتم فيه، قال زيد: فدعوت أنا وصاحبي قبل أبي هريرة، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمن على دعائنا ثم دعا أبو هريرة، فقال: اللهم إني أسألك ما سألك صاحباي، وأسألك علماً لا ينسى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آمين" فقلنا: يا رسول الله، ونحن نسأل الله علماً لا ينسى، فقال: "سبقكما بها الدوسي ". الحاكم: المستدرك 3/508.
وكان هذا يمثل اهتماماً منه صلى الله عليه وسلم بأداء ما كان يحمله من العلم والهدي إلى من كانوا أكثر استعداداً للتلقي والحفظ من شباب الصحابة رضي الله عنهم، كل حسب استعداده وما هو ميسر له.
4- أسئلته للنبي صلى الله عليه وسلم: إذا كانت الأسئلة كما قيل: مفاتيح العلم، فإن أبا هريرة كان من المكثرين لها الجريئين عليها، إذ كان يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عما يرى أنه محتاج للسؤال، طلباً للعلم،واستزادة للمعرفة من نبعها الصافى
ومصدرها الأول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك سؤاله عن أسعد الناس بشفاعته صلى الله عليه وسلم، يوم القيامة، بقوله: يا نبي الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: "لقد ظننت أن لا يسألني عن الحديث أحد أول منك، لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصة من قبل نفسه". أحمد: المسند17/35-36، والبخاري بفتح الباري 1/193، واللفظ لأحمد.
وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: كان أبو هريرة جريئاً على النبي صلى الله عليه وسلم، يسأله عن أشياء لا نسأله عنها.
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رجل لابن عمر: إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال ابن عمر: أعيذك بالله أن تكون في شك مما يجئ به، ولكنه اجترأ وجبنا. الحاكم: المستدرك 3/510، وحذيفة: هو ابن اليمان رضي الله عنه وقوله: جبنا، أي هبنا سؤال النبي صلى الله عليه وسلم.
5 – روايته عن كثير من الصحابة رضي الله عنهم: ثبتت الرواية لأبي هريرة رضي الله عنه عن كثير من الصحابة رضي الله عنهم، كأبي بكر، وعمر، والفضل ابن العباس، وأبي بن كعب، وأسامة بن زيد، وعائشة، وسهل بن سعد الساعدي، ونضرة بن أبي نضرة وغيرهم.إلى جانب ما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة، وكان يروي أحياناً عمن هو أقل منه رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد روى عن سهل سعد الساعدي رضي الله عنه أن قال: قال رســول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يشهرن أحدكم على أخيه السيف لعل الشيطان ينزع في يده، فيقع في حفرة من حفر النار". قال أبو هريرة: سمعته من سهل بن سعد الساعدي سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. الحاكم: المستدرك 3/512-513.
وقد أسهم ما رواه عن الصحابة رضي الله عنهم في زيادة عدد ما روي عنه من روايات، الأمر الذي جهله أو تجاهله من استكثر على أبي هريرة ما روى من روايات.
6 – تأخر وفاته وحاجة الناس إلى علمه، وكثرة الرواة عنه: كان أبو هريرة رضي الله عنه من القلائل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين امتد بهم العمر إلى ما بعد سنة خمسين من الهجرة، واحتاج الناس إلى علمهم والرجوع إليهم فيما أشكل عليهم من أمور، ولما كان من أكثر الصحابة حفظاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجمعاً له، واستعداداً لبذله، كان حرياً أن يقبل عليه طلاب العلم وعشاق المعرفة، وحماة الدين من صحابة وتابعين رضي الله عنهم، حيث روى عنه نحو ثمانية وعشرين من كبار الصحابة وصغارهم، كزيد بن ثابت، وأبي أيوب الأنصاري، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وأبي بن كعب، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وعائشة، وغيرهم رضي الله عنهم، كما روى عنه وتتلمذ عليه مئات من التابعين، رضي الله عنهم.
قال البخاري: روى عنه ثمانمائة نفس، أو أكثر. الذهبي: تذكرة الحفاظ 1/36، وابن حجر: الإصابة 4/205.
وقال الحاكم: بلغ عدد من روى عن أبي هريرة من الصحابة ثمانية وعشرين رجلاً، فأما التابعون فليس فيهم أجل ولا أشهر ولا أشرف وأعلم من أصحاب أبي هريرة، وذكرهم في هذا الموضع يطول لكثرتهم. الحاكم: المستدرك 3/513.
ولم يتوفر فيما أعلم لغيره من رواة الصحابة رضي الله عنهم، مثل هذا العدد من الرواة والناقلين لعلمهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومما لا شك فيه أن مثل هذا العدد الوفير قد ساعد كثيراً على نقل مروياته وإبقائها حية ومتداولة بين أكبر عدد من الرواة والنقلة، حتى دونت مع غيرها من الروايات الحديثة الأخرى في كتب الحديث وأسفاره، بخلاف غيره من الصحابة الذين قلت الرواية عنهم، لتقدم وفياتهم عنه نسبياً، أو لتحرج بعضهم عن الرواية، أو لغير ذلك مما أسلفنا من أسباب.
7- تعدد طرق رواياته: لقد أسهم طرق بعض رواياته إلى حد ما في زيادة عدد ما نسب إليه من روايات، ومن يطلع على رواياته في مسند الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، التي بلغ عددها بشرح الشيخ: أحمد محمد شاكر رحمه الله 3848 رواية يرى أن ما يقرب من ثلثها قد تكررت روايتها فيه، لزيادة راو أو تغير صيغة أداء في السند، أو زيادة لفظ في المتن، فأدى ذلك إلى عد الرواية الواحدة في الواقع: روايتين أو أكثر حسب عدد تكررها، وهذا ما فعله المرقمون لمسند أحمد، وهم معذورون في ذلك، لأسباب فنية حديثة معروفة لدى أهل هذا العلم.
8 – مشاركة كثير من الصحابة له فيما روى من روايات:
إن من يطلع على كتب الحديث المعتمدة والمتداولة اليوم بين المسلمين، ويتتبع فيها روايات أبي هريرة رضي الله عنه، يجد أن أكثرها قد شاركه في روايتها صحابي أو أكثر، ولا سيما التي كانت مثار اعتراض أو طعن من قبل أهل الأهواء والبدع، وغيرهم ممن لا خبرة لهم بما تصح به الأحاديث، وما لا تصح.
9 – كثرة عدد الرواة عنه:
إن رواية الكثيرين عنه من الصحابة وثقات التابعين رضي الله عنهم، الذين زاد عددهم على ثمانمائة راو كما تقدم قريباً، واعتماد من بعدهم من علماء الأمة وفقهائها ومجتهديها على رواياته التي صحت نسبتها إليه إلى جانب ما صحت نسبتها إلى الصحابة الآخرين رضي الله عنهم من روايات، لأدل وخير شاهد على عدالته رضي الله عنه، وأمانته فيما روى ونقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومما تقدم يتضح لمن صفت سرائرهم واستنارت عقولهم، أن الكثرة النسبية لرواياته المسندة الصحيحة: كثرة طبيعية، أسهمت في تحقيقها وإبرازها العوامل التي أوردناها في الرد على هذه الشبهة وغيرها من العوامل المساعدة، التي صاحبت حياته واتسمت بها شخصيته من صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى وفاته رضي الله عنه.
كما يتضح وبجلاء زيف هذه الشبهة، وأن منشأها إن لم يكن الجهل المجرد، فهو الهوى، أو هما معاً، ونعوذ بالله منهما.
الشبهة الثانية
استدراك بعض الصحابة عليه
ذهب البعض ممن لا خبرة لهم بطبيعة استدراك بعض الصحابة رضي الله عنهم على بعض، إلى القول: بضعف ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه، أو ضعف ما استدرك عليه خاصة، وذلك لأنه قد استدرك عليه من قبل عائشة وابن عمر رضي الله عنهما.
ويجاب عن هذه الشبهة بما يأتي:
1 – إن استدراك عائشة وابن عمر رضي الله عنهما عليه كان من الأمور التي اقتضتها طبيعة الحوار العلمي، والمذاكرة التي كانت تحصل بين الصحابة رضي الله عنهم أحياناً، إذ قد استدرك أكثر من صحابي على غيره رواية أو مسألة علمية، فأقنع صاحبه بها، أو اقتنع هو بما عند صاحبه فيها، وهذا أمر معروف عند العلماء، ولا سيما المحدثين منهم، وهو لا يؤثر في عدالة المستدرك عليه ولا في أمانته، كما لا تؤثر مخالفة الثقة لثقة مثله: في عدالتهما، أو فيما يرويان من روايات.
وكان استدراك عائشة وابن عمر رضي الله عنهما على أبي هريرة يسير في هذا الإطار.
2- إن استدراك عائشة رضي الله عنها عليه مستفاد مما روي أنها دعت أبا هريرة، فقالت له: يا أبا هريرة ما هذه الأحاديث التي تبلغنا أنك تحدث بها عن النبي صلى الله عليه وسلم، هل سمعت إلا ما سمعنا، وهل رأيت إلا ما رأينا؟ قال: يا أماه إنه كان يشغلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المرآة والمكحلة والتصنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني والله ما كان يشغلني عنه شئ. الحاكم: المستدرك 3/509، وقال صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي عليه ويراد بالاستدراك هنا: الاعتراض، لا الاستدراك الاصطلاحي، وهو استدراك إمام على إمام: أحاديث لم يخرجها في كتابه، مع وجود شرطه فيها، وذلك مثل ما فعل الحاكم في المستدرك على الصحيحين.
ففي هذا الحديث نرى أبا هريرة رضي الله عنه يجيب عائشة رضي الله عنها على تساؤلاتها بما يبدو أنها قد اقتنعت به، إذ لم ترد أو تعلق عليه بشئ، لما فيه من صراحة وواقعية يسلم بها ذوو النفوس الكريمة والمقاصد السليمة.
وبهذا يتضح أن استدراكها ما هو إلا تساؤل أرادت منه الجواب عليه، فلما أجابها بما أجابها به، عرفت أن عنده ما ليس عندها، وأنه قد سمع ما لم تسمعه، ورأى ما لم تره، نظراً لملازمته التامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وانشغالها رضي الله عنهما بما تنشغل به النساء المتزوجات عادة.
ومما يؤكد عدم انشغاله رضي الله عنه بغير السماع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما تقدم عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، أنه دخل عليه رجل، فقال: يا أبا محمد والله ما ندري هذا الغلام اليماني أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم أم أنتم؟ فقال طلحة: والله ما يشك أنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم، إن كنا قوماً أغنياء لنا بيوت وأهلون، كنا نأتي نبي الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار، ثم نرجع وكان أبو هريرة رضي الله عنه مسكيناً لا مال له ولا أهل ولا ولد، إنما كانت يده مع يد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يدور معه حيث ما دار، ولا نشك أنه قد علم ما لم نعلم، وسـمع ما لم ولم يتهمه أحد منا أنه تقوّل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل. الحاكم 3/511-512.
3 – وأما استدراك ابن عمر رضي الله عنهما عليه، فهو اعتراضه عليه في حديث اتباع الجنازة وهو ما روي أنه مرّ بأبي هريرة رضي الله عنه، وهو يحدث عن النبي صلى الله عليه سلم: "من تبع جنازة فله قيراط، فإن شهد دفنها فله قيراطان، القيراط أعظم من أحد" فقال ابن عمر: يا أبا هريرة: انظر ما تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام إليه أبو هريرة حتى انطلق إلى عائشة رضي الله عنها، فقال لهاك يا أم المؤمنين أنشــدك الله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من تبع جنازة، فصلى عليها فله قيراط، وإن شهد دفنها فله قيراطان؟" فقالت: اللهم نعم.
فقال أبو هريرة: إنه لم يكن يشغلنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غرس، ولا صفق بالأسواق، إنما كنت أطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة يعلمنيها، أو أكلة يطعمنيها، فقال ابن عمر: يا أبا هريرة كنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلمنا بحديثه. أحمد: المسند 19/121، والحاكم: المستدرك 3/510-511، واللفظ له، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي عليه والغرس: يراد به غرس صغار النخل، إشارة إلى انشغالهم بالبساتين والضيعات عن الملازمة للنبي صلى الله عليه وسلم.
4 – هذا ولم يكن أبو هريرة رضي الله عنه هو الصحابي الوحيد الذي استدرك عليه من قبل بعض إخوانه من الصحابة، وإنما قد استدرك على غيره، فقد استدركت عائشة رضي الله عنها على ابن عمر وغيره من الصحابة رضي الله عنهم، كما استدرك بعضهم عليها، وهو أمر معروف عند العلماء كما أسلفنا ليس هذا موضع بسطه.
ومما تقدم يتأكد لنا: أن استدراك بعض الصحابة على بعض لم يترتب عليه تكذيب للمستدرك عليه، ولا خدش لعدالته، أو انتقاص لأمانته، كما توهم الجاهلون ذلك.
الشبهة الثالثة
اهتمامه بشبع بطنه
اتهم البعض أبا هريرة رضي الله عنه بالاهتمام بشبع بطنه، وأنه ما صحب النبي صلى الله عليه وسلم إلا لذلك، معولاً في شبهته هذه على ما روي من قوله: "كنت أصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ملء بطني"، وقوله: "كنت أطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة يعلمنيها، أو أكلة يطعمنيها" وما في معناهما من عبارات.
وهذا اتهام باطل أيضاً من وجوه:
1-عدم فهم صاحب هذه الشبهة لمراد أبي هريرة رضي الله عنه من قوله: كنت أصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ملء بطني، وما في معناه، وعدم معرفته بما دفعه إلى هذا القول، وذلك لأن مراد أبي هريرة من ذكره لشبع بطنه فيما روي عنه من روايات هو: بيان تفرغه التام لملازمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحفظه لما سمعه منه، وأنه لم يشغله عن ذلك شاغل، حتى لقمة العيش التي قد تشغل غيره، حيث وجدها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه ما قال ذلك عبثاً أو سذاجة، كما زعم البعض، وإنما أراد به الرد علي من قالوا: إن أبا هريرة قد أكثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ما يفهم من قوله: "إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله الموعد، إني كنت امرأً مسكيناً، أصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني، وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم…الحديث". البخاري 4/247: كتاب البيوع، ومسلم بشرح النووي16/52-53 واللفظ للبخاري، والصفق: هو صوت وضع اليد باليد عند التبايع.
ومن رده الذي تقدم قريباً على استدراك ابن عمر رضي الله عنهما عليه بقوله: "لم يكن يشغلنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غرس، ولا صفق بالأسواق، إنما كنت أطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة يعلمنيها، أو أكلة يطعمنيها".
2-لو كان همه إشباع بطنه لكان بإمكانه البحث عنه عند أمير من أمراء اليمن، أو رئيس قبيلة من قبائلها، يعمل عنده بزراعة، أو رعي مواش، أو غير ذلك، ولوفر على نفسه عناء السفر، وترك الأهل والعشيرة والبلد، وبالهجرة من اليمن إلى الحجاز، إلى رجل لم يكن ملكاً، أو ذا سلطان أو مال يومها، ولم يكن قد تخلص من أعدائه الثلاثة المتربصين به الدوائر: المشركين في مكة وغيرها، والمنافقين في المدينة وحولها، واليهود المجاورين لها، وكانت احتمالات النصر والهزيمة كلها واردة في المقاييس البشرية والمادية.
ولم تغب هذه الاحتمالات عن ذهب أبي هريرة الشاب الفطن واليماني الحكيم، وهو يحث رحاله نحو المدينة، نحو النور الذي شع فيها: ملبياً دعوة الحق، دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعوة الإيمان بالله الواحد الأحد، وقد شهد بعد وصوله المدينة بيومين أو ثلاثة: غزوة خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.البخاري 5/74.
وشهد معه المشاهد بعدها، ولازمه حتى وفاته، وحفظ منه لم يحفظه كثيرون سواه، ممن تشرفوا بصحبته صلى الله عليه وسلم، نعم يحث رحاله متوجهاً إلى طيبة وهو ينشد:
يا ليلة من طولها وعنائها..... على أنها من دارة الكفر نجت
أبو نعيم: الحلية 1/379، وابن كثير: البداية والنهاية 8/107.
3-لو كان همه إشباع بطنه، لترك ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم، وبحث عمن يشبعها له من موسري الصحابة رضي الله عنه أو غيرهم من أهل المدينة، بعمل أو غيره إذا لم يتيسر له إشباعها في أكثر أيام ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم، إذا كان لا يحصل في بعض الأيام على أكثر من تمرة أو تمرتين، أو شربة لبن، أو ما قارب ذلك، فقد روي عنه أنه قال: خرجت يوماً من بيتي إلى المسجد فوجدت نفراً، فقالوا: ما أخرجك؟ قلت: الجوع فقالوا: ونحن والله ما أخرجنا إلا الجوع، فقمنا فدخلنا على رسول الله، فقال: "ما جاء بكم هذه الساعة"؟ فأخبرناه فدعا بطبق فيه تمر، فأعطى كل رجل منا تمرتين، فقال:"كلوا هاتين التمرتين واشربوا عليهما من الماء فإنهما ستجزيانكم يومكم هذا". الذهبي: سير أعلام النبلاء 2/592.
كما روي عنه أنه قد أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم قدح لبن، فأمره أن يدعو أهل الصفة، وكان عريفهم، فدعاهم فلما جلسوا قال:" خذا يا أبا هريرة فأعطهم"، فجعلت أعطي الرجل فيشرب حتى يروى، حتى أتيت على جميعهم، وناولته رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع رأسه إلى مبتسماً، وقال:"بقيت أنا وأنت" قال: "فاشرب"، فشــربت، قال:"اشرب"،
فشربت، فما زال يقول "اشرب" فأشرب، حتى قلت: والذي بعثك بالحق ما أجد لها مساغاً، فأخذ فشرب الفضلة". تقدمت هذه الرواية في فقرة: حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما تقدم التعريف بالصفة وأهلها هناك.
وهذه الرواية مع ما دلت عليه من أمور عظيمة، كزيادة اللبن ببركة النبي صلى الله عليه وسلم، وعنايته بفقراء المسلمينن وتقديمه لهم بالشرب على نفسه، وفرحه بشبعهم، وضربه المثل الأروع في ذلك، فإنها دلت أيضاً على مدى ما كانوا يعانون من جوع وحاجة، ومنهم:
أبو هريرة المتهم بالاهتمام بشبع بطنه، بل ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يشبع ثلاث ليال تباعاً، فقد صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة من طعام بر ثلاث ليال تباعاً حتى قبض، وعنها قالت: كان يأتي علينا الشهر ما نوقد ناراً، إنما هو التمر والماء.البخاري 7/181.
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: "ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لنا طعام إلا ورق الشجر، حتى قرحت أشداقنا". أبو نعيم: الحلية 1/93.
وإذا كان هذا هو حال النبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته الكرام، فكيف حال أبي هريرة من على شاكلته؟، وهل مثله وهو في هذه الحال يتهم بالاهتمام بإشباع بطنه؟ وماذا يفيده الاهتمام بذلك مع عدم وجود أو قلة ما يقدمه لها لتشبع؟؟؟
4 – لو كان مهتما بشبع بطنه أو بغيره من أعراض الدنيا، لأخذ كغيره شيئاً من الغنائم التي عرضها عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، فعن سعد بن أبي هند عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"ألا تسألني من هذه الغنائم التي يسألني أصحابك"؟ قلت: أسألك أن تعلمني مما علمك الله؟ فنزع نمرة كانت على ظهري، فبسطها بيني وبينه، حتى كأني أنظر إلى النمل يدب عليها، فحدثني حتى استوعبت حديثه قال:"اجمعها فصرها إليك" فأصبحت لا أسقط حرفاً مما حدثني. أبو نعيم: الحلية 1/381، والذهبي: سير أعلام النبلاء 2/594.
فأين كان هم أبي هريرة متجهاً إلى إشباع بطنه أم إلى العلم والتحصيل؟ قاتل الله الهوى إذا استبد بصاحبه أعمى بصره وبصيرته عن رؤية الحق وقوله.
5 – إن ذكره لما عاناه من جوع وفاقة، كان حرياً بأن يقدر له، لا أن يفسر تفسيراً مادياً نفعياً تافهاً، لما يدل عليه من واقعية وعدم إنكار لماضيه، أعانه على التواضع وعلى استشعار نعم الله تعالى عليه، وشكره عليها بعد أن وسع الله تعالى عليه، ورفع ذكره، وأعلى قدره بالإسلام والعلم والفضل، حيث نراه يلهج بحمد الله تعالى والثناء عليه كثيراً، من ذلك قوله: "الحمد لله الذي جعل الدين قواماً، وجعل أبا هريرة إماماً، بعد أن كان أجيراً … الحديث". ابن كثير: البداية والنهاية 8/113.
وقوله: "الحمد لله الذي علم أبا هريرة القرآن، الحمد لله الذي منّ على أبي هريرة بمحمد صلى الله عليه وسلم…الحديث." أبو نعيم: الحلية 1/383.
وبهذا يتضح لنا بطلان هذه الشبهة، وأن أبا هريرة ما صحب النبي صلى الله عليه وسلم لشبع بطنه، كما زعم الزاعمون، وإنما صحبه: إيماناً به، وحباً له، ورغبة في جمع ما جمع منه من علم وهدى ونور.
الشبهة الرابعة
كتمانه لبعض ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
من الشبه التي أثارها بعض أهل الأهواء: أن كتم بعض ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يعد كتماناً للوحي الذي أمر الله تعالى رسوله بتبليغه للناس، مستندين في ذلك إلى ما صح عنه أنه قال: "حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين: فأما أحدهما فبثثته في الناس، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم". البخاري 1/192-193، كتاب العلم.
وفي رواية: "حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث ما حدثتكم بها، ولو حدثتكم بحديث منها لرجمتموني بالأحجار". الحاكم: المستدرك 3/509، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي عليه.
هذا ويجاب على هذه البشهة بما يأتي:
1 – لقد أراد أبو هريرة رضي الله عنه: بالوعاءين وما في معناهما، قسمين أو مجموعتين من الأحاديث: أحدهما وهو الأكثر ما رواه للناس ونشره بينهم، وهو ما يجب تبليغه لهم، ولا يجوز كتمانه عنهم، والثاني وهو الأقل، ولعله لا يتجاوز الحديث أو الحديثين كثيراً، هو الذي أخفاه ولم يروه للناس، وذلك مما لا يطلـب العمل به، أو مما قد يثير فتنة، أويترتب عليه اتكال،آويلحقمنه أذى، أو تكذيب لمن يرويه، أو غير ذلك، قال الذهبي: هذا على جواز كتمان بعض الأحاديث التي تحرك فتنة في الأصول أو الفروع، أو المدح أو الذم، أما حديث يتعلق بحل أو حرام، فإنه لا يحل كتمانه بوجه، فإنه من البينات والهدى.الذهبي: سير أعلام النبلاء 2/597.أي يجب بيانه للناس، ولا يجوز كتمانه.
وقال ابن كثير: وهذا الوعاء الذي كان لا يظهره هو الفتن والملاحم وما وقع بين الناس من الحروب والقتال، وما سيقع، وهذه لو أخبر بها قبل كونها، لبادر كثير من الناس إلى تكذيبه. ابن كثير: البداية والنهاية 8/109.
2- لم يكن أبو هريرة رضي الله عنه الصحابي الوحيد الذي كتم بعض ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ ثبت أن بعض الصحابة رضي الله عنهم كتموا بعض ما رووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحاديث، وكان منهم: معاذ بن جبل رضي الله عنه، فقد روى مسلم عنه قال: "كنت ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له عفير، قال: فقال: "يا معاذ تدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟"، قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال:" فإن حق الله على العباد أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله عز وجل أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً"، قال: قلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس، قال:" لا تبشرهم فيتكلوا". مسلم بشرح النووي 1/232.
ومنهم: عبادة بن الصامت رضي الله عنه، فقد صح عنه أنه قال في مرض موته: ما من حديث سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسـلم لكم فيه خير إلا حدثتكموه، إلا حديثاً واحداً وسوف أحدثكموه اليوم، وقد أحيط بنفسي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله حرم الله عليه النار". مسلم بشرح النووي 1/229، ومعنى: أحيط بنفسي، قربت من الموت.
قال القاضي عياض: "ومثل هذا عن الصحابة رضي الله عنهم كثير في ترك الحديث بما ليس تحته عمل، ولا تدعو إليه ضرورة، أو ما تحتمله عقول العامة أو حشيت مضرته على قائله أو سامعه". النووي شرح مسلم 1/229.
3 – دعوة كبار الصحابة رضي الله عنهم إلى الإقلال من رواية الحديث، وحثهم على ذلك، لأسباب رأوها داعية للإقلال من روايته.
فقد روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: أقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا فيما يعمل به.
قال ابن كثير: وهذا محمول من عمر على أنه خشي من الأحاديث التي قد تضعها الناس على غير مواضعها، وأنهم يتكلون على ما فيها من أحاديث الرخص، وأن الرجل إذا أكثر من الحديث ربما وقع في أحاديثه بعض الغلط أو الخطأ، فيحملها الناس عنه. ابن كثير: البداية والنهاية 8/110.
وصح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال:"حدثوا بما يعـرفون،ودعواماينكرون،أتحبون آن يكذب الله ورسوله"
البخاري 1/199، كتاب العلم.
كما صح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة". مسلم: المقدمة بشرح النووي 1/76.
وبهذا يبدو جلياً أن ما أخفاه أبو هريرة لا يخرج عن الأسباب التي أخفى من أجلها بعض الصحابة رضي الله عنهم ما أخفوه من روايات، وأنه لم يكن كتماناً لما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بتبليغه للناسب كما توهم الواهمون.
الشبهة الخامسة
عزل عمر له عن ولاية البحرين
من الشبه التي أثارها بعض أهل الأهواء أيضاً، قولهم: إن عزل عمر ابن الخطاب رضي الله عنه له عن ولاية البحرين يثير الشك في أمانته.
وهي شبهة باطلة لما يأتي:
1 – لم يكن عمر رضي الله عنه شاكاً في أمانة أبي هريرة رضي الله عنه، حين عزله عن ولاية البحرين، وإنما أراد بمساءلته له وعزله أن يقطع التساؤل حول ما نمى عنده من مال بعد ولايته للبحرين، وإن كان ذلك المال محدوداً، ولكن كما يقول المثل:"إذا لبس الفقير جديداً قيل: من أعطاك هذا"؟ وعلى افتراض أنه كان شاكاً في أمانته، فإن هذا الشك قد زال بعد سؤاله له عن مصدر هذا المال، وجواب أبي هريرة المقنع على سؤاله.
فعن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين "أن عمر استعمل أبا هريرة على البحرين، فقدم بعشرة آلاف، فقال له عمر: استأثرت بهذه الأموال يا عدو الله وعدو كتابه؟ فقال أبو هريرة: فقلت: لست بعدو الله وعدو كتابه، ولكن عدو من عاداهما، قال: فمن أين لك؟ قلت: خيل نتجت، وغلى رقيق لي، وأعطية تتابعت، فنظروا فوجدوه كما قال".
ومما يؤكد اقتناع عمر رضي الله عنه بجوابه، وزوال شكه في أمانته، دعوته له لولاية البحرين مرة أخرى.
فقد جاء في نفس الرواية "أنه لما كان بعد ذلك، دعا عمر ليوليه، فأبى، فقال: تكره العمل، وقد طلب العمل من كان خيراً منك: يوسف عليه السلام، فقال: يوسف نبي ابن نبي، وأنا أبو هريرة بن أميمة، وأخشى ثلاثاً واثنتين، قال: فهلا قلت: خمساً؟ قال: أخشى أن أقول بغير علم، واقضي بغير حلم، وأن يضرب ظهري، وينتزع مالي، ويشتم عرضي". الذهبي: سير أعلام النبلاء 2/612، وابن كثير: البداية والنهاية 8/116.
وهذه الرواية اصح رواية في موضوع عزل عمر له، عن ولاية البحرين، لثقة رواتها، وتعدد طرقها إلى التابعي الجليل محمد بن سيرين رضي الله عنه، وهي تفيد أن عزله لم يكن لخيانة، أو قلة أمانة، أو تقصير في واجب، وإلا فبماذا تفسر دعوة عمر رضي الله عنه له ليوله ثانية على البحرين بعد أن كان قد عزله عنها؟.
2- كان من سياسة عمر رضي الله عنه المتميزة في الحكم متابعة الولاة والعمل ومساءلتهم، لأدنى ما يرفع عنهم أو يقال ضدهم، مهما علت مراتبهم، وسمت منازلهم في السبق إلى الإسلام، والفضل فيه، لذا نراه يحاسب أبا هريرة ويحاسب من هو دونه، ومن هو أعلى منه في مراتب الصحبة والفضل، كسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أحد السابقين الأولين للإسلام، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، ومجابي الدعوة منهم، ابن كثير: البدايةوالنهاية 8/79، والإصابة 2/33.
وكان عمر رضي الله عنه قد عزله عن إمرة الكوفة، وقال بعد
ذلك في وصيته لأهل الشورى: "إن أصابت الإمرة سعداً فذاك، وإلا فليستعن به الذي يلي الأمر، فإني لم أعزله عن عجزن ولا خيانة" ابن كثير: البداية والنهاية 8/75، والإصابة 2/34.
وعمير بن سعد بن عبيد الأنصاري الصحابي، الذي كان يقال فيه: "عمير نسيج وحده"، وقيل: إن الذي وصفه بهذا هو عمر رضي الله عنه وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال لعبد الرحمن بن عمير بن سعد: "ما كان بالشام أفضل من أبيك".الإصابة 3/32.
ومع هذا فقد روى الترمذي عن أبي إدريس الخولاني أن عمر رضي الله عنه عزله عن ولاية حمص وولى صحابياً آخر مكانه. الترمذي: السنن 5/351.
وعليه فمساءلة عمر لبعض ولاته، وعزلهم أحياناً، كانت سياسة له كما أسلفنا، وليست بالضرورة إدانة لمن يعزلهم، لعله أراد أن يسن بها سنة لمن بعده من الخلفاء والأمراء.
الشبهة السادسة
اتهامه بموالاة بني أمية
لم يكتف أهل الأهواء بما تقدم من الشبهات التي أثاروها زوراً على أبي هريرة رضي الله عنه، وكأن لهم عليه دماً أو حقاً مالياً، حيث ادعوا أنه كان يمالئ بني أمية، ويضع لمعاوية رضي عنه أحاديث في ذم علي بن أبي طالب رضي الله وكرّم الله وجهه، وهو ادعاء لا دليل عليه، ولا أساس له من الصحة، للأمور الآتية:
1 – لم يرد في كتب الحديث المعتمدة عند جمهور المسلمين من صحاح وغيرها شئ من الأحاديث المدعى ضعها فيما نعلم، وعلى المدعي أن يثبت ما ادعاه إن كان صادقاً، وأنى له ذلك؟.
2 – كيف يكتشف هؤلاء المرجفون وضع أبي هريرة للحديث، ولم يكتشف ذلك الرواة عنه من الصحابة وعدول التابعين، ومن تلاهم من علماء الجرح والتعديل، الذين لم يجاملوا أحداً على حساب دينهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم.
3 – كيف يضع الحديث وهو من رواة حديث: "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" الذي شاركه في روايته نحو أربعين صحابي.النووي علي مسلم 1/68.
4-ما الأحاديث التي وضعها لمعاوية؟ وكم عددها؟ وما الكتب التي أوردتها، حتى نعرف وزنها عند أهل العمل بالحديث.
5- روت لنا كتب الحديث المعتمدة كثيراً من الروايات الصحيحة والحسنة عن أبي هريرة في مناقب آل البيت رضي الله عنهم وأرضاهم، وفي مقدمتهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرّم الله وجهه، وقد أوردنا طرفاً في موضوع أبي هريرة وآل البيت مما يغني عن إعادتها هنا، في حين لم ترو هذه الكتب عنه شيئاً في فضل معاوية رضي الله، أو غيره من بني أمية فيما أعلم.
6- لم يثبت أنه كُكِّف في عهد معاوية رضي الله عنه بمهمة أو علم يبرر هذه الشبهة الباطلة، اللهم إلا ما روي أنه ولي إمرة المدينة لمروان بن الحكم في بعض حجاته. ابن سعد: الطبقات 4/336.
وهي إمرة لا تتجاوز حدود النيابة في الصلاة، والخطبة، وما يقرب منهما، لتأهله لذلك، ولقبول الناس له، لا لمودته منه لأبي هريرة، لما بينهما من خلاف وتنافر ظهر جلياً في أكثر من موقف.
من ذلك: ما روي عن الوليد بين رباح قال: سمعت أبا هريرة يقول لمروان: "ما أنت بوال، وإن الوالي لغيرك، فدعه، يعني حين أرادوا دفن: الحسن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنك تدخل فيما لا يعنيك، إنما تريد بهذا إرضاء من هو غائب عنك. قال: فأقبل عليه مروان مغضباً، فقال: يا أبا هريرة إن الناس قد قالوا: أكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: قدمت ورسول الله صلى الله عليه بخـيبر وأنا يومئذ قد زدت على الثلاثين ستة سنوات، وأقمت معه حتى توفي، أدور معه في بيوت نسائه، وأخدمه، وأغزو وأحج معه، وأصلي خلفه، فكنت والله أعلم الناس بحديثه".الذهبي: سير أعلام النبلاء 2/605، وابن كثير: البداية والنهاية 8/111.
وفي رواية: إن أبا هريرة قال لمروان: إني أسلمت، وهاجرت اختياراً وطوعاً، وأحببت رسول الله صلى الله عليه وسلم حباً شديداً، وأنتم أهل الدار وموضع الدعوة أخرجتم الداعي من أرضه، وآذيتموه وأصحابه، وتأخر إسلامكم عن إسلامي فندم مروان على كلامه له واتقاه. ابن كثير: البداية والنهاية 8/122.
ومن ذلك: ما روي عنه أنه قال: والذي نفسي بيده، يوشك أن يأتي على الناسزمان تكون الثلة من الغنم أحب إلى صاحبها من دار مروان. الذهبي: سير أعلام النبلاء 2/610-611، والثلة: جماعة الغنم.
وفي هذا ما فيه التعريض الواضح بمروان، ولكن للحاجة حكمها وللظروف مقتضياتها.
7– لم يمل في الخلاف الذي حصل بين علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما إلى أحد منهما، وقد اعتزل الفتنة التي نشأت عن الخلاف بينهما مع من اعتزلها من الصحابة رضي الله عنهم، وسكن المدينة بعد عودته من البحرين قبل سنة أربع وعشرين من الهجرة، وبقي فيها إلى أن توفي بعد سنة خمسين من الهجرة كما أسلفنا، ومع ذلك لم يسلم من افتراء المفترين وتزوير المبطلين، الذين قوّلوه ما لم يقله، ومن ذلك: المقولة الباطلة التي تقول: "الصلاة خلف علـي أتم، والقصعة عند معاوية أدسم" والتي يرددها الجهلة والأغرار من الناس دون التأكد من صحة نسبتها إليه، وهي تدل على جهل مفتريها بالمسافة التي كانت تفصل بين أبي هريرة رضي الله عنه، وبين موقع الأحداث، بين المدينة المنورة التي كان يسكنها أبو هريرة، وبين صفين التي جرت فيها الأحداث المؤسفة والمؤلمة، والتي تقع على شاطئ الفرات الغربي بين الرقة وبالس، وهي مسافة تقرب من ألفي كيلو متر، وجهله أيضاً بواقع الأحداث ومجرياتها، حيث الصلاة فيها حرب وخوف لا تتم، لا خلف علي رضي الله عنه، ولا خلف غيره بالشكل المطلوب منها في حالات الأمن والسلم، كما أن
دسم القصعة المزعومة لا يتوفر، ولا تستساغ القصعة نفسها بين أشلاء القتلى، وأنين الجرحى من أبناء الدم والدين، لا عند معاوية ولا عند غيره.
هذا إذا كان مفتريها جاهلاً بذلك، أما إذا كان عالماً به، فيبدو أنه عدل عن المبدأ الإسلامي القائل: إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكافرون [النحل: 105] الآية.
إلى المبدأ الميكافلي القائل:"الغاية تبرر الوسيلة".
إن بغض إنسان لآخر يبرر الكذب والافتراء عليه إرضاء للهوى، واستجابة لإغواء الشيطان، وهذا هو المصدر الأساس لكل ما أثير حول هذا الصحابي الجليل ورواياته من شبهات ومزاعم باطلة.
ورحم الله من قال:
يا طالبي العلـم والروايات.... إن الروايات ذات آفات
لا تأخذوا العلم عن أخي تهم....إلا عن الجائز الشهادات
إذا رضيتم منه الأمانة والد.... ين له طوفوا الأمانـات
الخطيب: الكفاية 133.
أسباب إثارة الشبهات حوله رضي الله عنه
أثيرت الشبهات حول أبي هريرة رضي الله عنه ضمن الحملة العامة على الصحابة رضي الله عنهم، وعلى الرواة منهم خاصة، كعمران بن حصين، والبراء بن عازب، وجابر بن عبد الله وأبي هريرة وآخرين، من قبل فئات وأشتات من الناس، من زنادقة ومبتدعة وغيرهم، وقد تلقف ما روي عن هذه الفئات: أعداء الإسلام والحانقون عليه من ملاحدة ومستشرقين، الحاكم: المستدرك 3/513، ومعنى: اجتبى: اختار واصطفى. وغيرهم ممن هالهم بناء الإسلام المتين، وخدمة أبنائه له وحرصهم عليه.
وقد أضافوا إلى شبهات أسلافهم ما دفعهم إليه حقدهم الموروث وفهمهم المنحرف، وأخذ يردد شبهات هؤلاء وأولئك، بعض المعاصرين من المحسوبين على هذه الأمة، بدوافع شتى تعود في معظمها إلى الهوى والجهل وحب الظهور المجرد أحياناً، وذلك على حساب أفضل أجيال هذه الأمة وآمنها على دينها، وإرث نبيها صلى الله عليه وسلم، وقد نال أبا هريرة رضي الله عنه النصيب الأوفر من تلك الحملة الظالمة، والخائنة لأسباب أهمها:
1 – كونه أكثر من روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً صحيحاً.
2- أهمية ما اشتملت عليه أحاديثه، وشمولها لأغلب أمور الدين من عقائد وعبادات ومعاملات وسلوك وأخلاق وغير ذلك.
3- روايته لكثير من الأحاديث المتعلقة ببعض القضايا الخلافية، التي اعتمد عليها الجمهور في خلافهم مع غيرهم وكانت الحجة فيها لهم.
4 – رواية أئمة المحدثين لأحاديثه في كتبهم وفي مقدمتهم الإمامان البخاري ومسلم.
وأهم ما يقصدون إليه:
أولاً:التشكك به.
ثانياً:التشكيك برواياته.
ثالثاً:التشكيك بالكتب التي أخرجت هذه الروايات، وهذا غاية ما يسعى إليه أعداء السنة والمشايعون لهم من أغرار ومأجورين قديما وحديثاً.
5 – الجهل بتأريخ حياته وكيفية جمعه لرواياته وحفظه لها واستعداده المتميز لذلك، وهذا بالنسبة لمن حسنت نواياهم، إن كان فيمن حملوا عليه من حسنت نواياهم.
ويجدر بنا أن نورد هنا ما نقله الحاكم أبو عبد الله عن الحافظ أبي بكر بن خزيمة: حول أسباب الحمل والتقول على أبي هريرة رضي الله عنه وعلى رواياته، إذ قال ما ملخصه: وإنما يتكلم في أبي هريرة لدفع أخباره من قد أعمى الله قلوبهم، فلا يفهمون معاني الأخبار، وهم إما معطل جهمي يسمع أخباره التي يرويها على خلاف مذهبهم، فيشتمون أبا هريرة ويرمونه بما نزهه الله تعالى عنه تمويهاً على الرعاع زاعمين أن أخباره لا تثبت بها الحجة، وإما خارجي إذا سمع أخبار أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف مذهبهم لم يجد حيلة في دفع أخباره بحجة وبرهان كان مفزعه الوقيعة في أبي هريرة، أو قدري كفر أهل الإسلام الذين يتبعون الأقدار الماضية التي قدرها الله تعالى وقضاها قبل كسب العباد لها إذا نظر إلى أخبار أبي هريرة التي قد رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات القدر لم يجد حجة تؤيد صحة مقالته، كانت حجته عند نفسه أن أخبار أبي هريرة لا يجوز الاحتجاج بها، أو جاهل يتعاطى الفقه ويطلبه من غير مظانه، إذا سمع أخبار أبي هريرة فيما يخالف مذهب من قد اجتبى مذهبه وأخباره تقليداً بلا حجة ولا برهان تكلم في أبي هريرة ودفع أخباره التي تخالف مذهبه – إلى أن قال: وقد أنكر بعض هذه الفرق على أبي هريرة أخباراً لم يفهموا معناها. اهـ الخطيب: الكفاية 93.
ويبدو أن من ذكرهم الإمام ابن خزيمة كانوا سلفاً لبعض المعاصرين اليوم الذين ينكرون بعض الأحاديث غير عابئين بتصحيح أهل العلم لها واعتدادهم بها، لمجرد أنهم لم يفهموا معانيها، أو لم تستسغها عقولهم، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء الرجوع إلى أقوال العلماء فيها، وتوجيههم لها، ولكن كان الإمام يحيى بن معين دقيقاً حين قال: كان محمد بن عبد الله الأنصاري يليق به القضاء، فقيل له: يا أبا زكريا فالحديث؟ فقال:
للحرب أقوام خلقوا لها....وللدواوين حُسّابٌ وكُتّابُ.
الخاتمة
وبعد: فقد بان لنا من خلال هذه الدراسة السريعة لحياة الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه: أنها قد اتسمت بسمات بارزة أسهمت في بناء شخصيته ورفع مكانته وانتشار علمه، وقد تجلت تلك السمات بأمور أهمها:
1 – إسلامه وصحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم مدة زادت على أربع سنين، وملازمته له فيها، وجمعه لكثير من العلم وأنواع الهدي والمعرفة بفضل تلك الملازمة.
2 – حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وحرصه على اتباعه وتأسيه به، قولاً وعملاً سلوكاً، بدى منه ذلك في أكثر من جانب من جوانب السلوك والعمل.
3 – عبادته وتقواه، وذكره الكثير للموت، وخوفه من يوم اللقاء، وتعوذه من النار وما يقرب إليها.
4 – تواضعه الجم، وسخاؤه المشهود به، وطيب أخلاقه، ودعابته، وصراحته، وحب الناس له.
5 – نشره للعلم، واهتمامه بالدعوة للدين، وتفننه فيها على نحو جعله من أبرز الدعاة وناشري العلم من الصحابة رضي الله عنهم بعد عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
6 – كثرة رواياته وصحتها، وجودة حفظه، وتمام ضبطه لها.
7- ثبوت عدالة الصحبة له، وكذلك عدالة الرواية حيث روى عنه كثير من الصحابة رضي الله عنهم، وأشاد بعضهم بحفظه وعلمه، كما روى عنه مئات التابعين، وأشادوا به ووثقوه، ووثقه كذلك من جاء بعدهم من علماء الأمة ممن يعتد بأقوالهم، ويرجع إليهم في هذا الأمر.
8 – حياده في الخلافات التي حدثت في أيامه بين بعض الصحابة رضي الله عنهم.
9 – حبه لآل البيت رضي الله عنهم، وروايته لكثير من مناقبهم وفضائلهم، وعدم ثبوب ما يدل على عدم رضاهم عنه كما يشاع زوراً.
10 – ثبوت بطلان ما أثير حوله من شبهات زائفة، وبيان أهم الأسباب الكامنة وراء إثارة تلك الشبهات والمزاعم الباطلة.
11 – وضع بعض أهل الأهواء أحاديث، لتأييد بدعهم من ناحية، وللتشكيك به وبرواياته من ناحية أخرى، وذلك لاشتمالها على مخالفات واضحة لحقائق الدين وتعاليمه النيرة، وهي معروفة لدى أهل هذا العلم.
وفيما تقدم من سمات حياته رضي الله عنه ما يكفي للتدليل على سموّ مكانته ورفعة شأنه، وعلى حرمة النيل منه أو التعريض به، أو بغيره من الصحابة رضي الله عنهم، لما في النيل منهم من العقوق بهم، وعدم الوفاء لهم، على جهودهم الخيرة في نصرة الإسلام، ورسوله صلى الله عليه وسلم، ونقلهم لتعاليمه إلى من بعدهم، حتى وصل إلينا بلا عناء وبدون ثمن، ولما فيه من الاستخفاف بالآيات الكريمة والأحاديث الشريفة
الواردة في بيان فضلهم والمحذرة من النيل منهم، ولما فيه أيضاً: من الاستهانة بصحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يترتب على ذلك من الاستهانة بالرسول صلى الله عليه وسلم، لأن فضل الصاحب من فضل المصحوب.
وفي هذا بلاغ لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل.
تأليف الدكتور
حارث سليمان الضاري