على ملءِ بطني
على ملءِ بطني
قال الامام مسلم : " حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ جَمِيعًا عَنْ سُفْيَانَ قَالَ زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِىِّ عَنِ الأَعْرَجِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَاللَّهُ الْمَوْعِدُ كُنْتُ رَجُلاً مِسْكِينًا أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى مِلْءِ بَطْنِى وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ وَكَانَتِ الأَنْصَارُ يَشْغَلُهُمُ الْقِيَامُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ يَبْسُطُ ثَوْبَهُ فَلَنْ يَنْسَى شَيْئًا سَمِعَهُ مِنِّى ». فَبَسَطْتُ ثَوْبِى حَتَّى قَضَى حَدِيثَهُ ثُمَّ ضَمَمْتُهُ إِلَىَّ فَمَا نَسِيتُ شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْهُ " اهـ .[1]
قال الامام النووي : " قَوْلُهُ (كُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مِلْءِ بَطْنِي) أَيْ أُلَازِمُهُ وَأَقْنَعُ بِقُوتِي وَلَا أَجْمَعُ مَالًا لِذَخِيرَةٍ وَلَا غَيْرِهَا وَلَا أَزِيدُ عَلَى قُوتِي وَالْمُرَادُ مِنْ حَيْثُ حَصَلَ الْقُوتُ مِنَ الْوُجُوهِ الْمُبَاحَةِ وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الْخِدْمَةِ بِالْأُجْرَةِ " اهـ .[2]
وقال الحافظ ابن حجر : " قَوْلُهُ عَلَى مِلْءِ بَطْنِي أَيْ مُقْتَنِعًا بِالْقُوتِ أَيْ فَلَمْ تَكُنْ لَهُ غَيْبَةٌ عَنْهُ " اهـ .[3]
لقد كان ابو هريرة رضي الله عنه زاهدا في الدنيا , ومكتفيا بالكفاف حتى ان النبي صلى الله عليه واله وسلم كان يعرض عليه من الغنائم , فكان رده على رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ان يعلمه مما علمه الله تعالى , ففي سير اعلام النبلاء للامام الذهبي : " قَالَ مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى الزَّمِنُ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الحَنَفِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ أَبِي يَحْيَى، سَمِعْتُ سَعِيْدَ بنَ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (أَلاَ تَسْأَلُنِي مِنْ هَذِهِ الغَنَائِمِ الَّتِي يَسْأَلُنِي أَصْحَابُكَ؟) . قُلْتُ: أَسْأَلُكَ أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عَلَّمَكَ اللهُ. فَنَزَعَ نَمِرَةً كَانَتْ عَلَى ظَهْرِي، فَبَسَطَهَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ، حَتَّى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّمْلِ يَدُبُّ عَلَيْهَا، فَحَدَّثَنِي حَتَّى إِذَا اسْتَوْعَبْتُ حَدِيْثَهُ، قَالَ: (اجْمَعْهَا، فَصُرَّهَا إِلَيْكَ) . فَأَصْبَحْتُ لاَ أُسْقِطُ حَرْفاً مِمَّا حَدَّثَنِي - رجاله ثقات، وأخرجه أبو نعيم في " الحلية " 1 / 381، وهو في تاريخ ابن عساكر 19 / 113 / 2، والنمرة: شملة فيها خطوط بيض وسود. " اهـ . [4]
1164 - صحيح مسلم - بَابُ مِنْ فَضَائِلِ أَبِي هُرَيْرَةَ الدَّوْسِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - ج 4 ص 1939 .
1165 - شرح صحيح مسلم – ابو زكريا يحيى بن شرف النووي – ج 16 ص 53 .
1166 - فتح الباري – احمد بن علي بن حجر – ج 4 ص 289 .
1167 - سير اعلام النبلاء – تحقيق شعيب الارناؤوط – ج 2 ص 594 .
اهتمامه بشبع بطنه
اتهم البعض أبا هريرة رضي الله عنه بالاهتمام بشبع بطنه، وأنه ما صحب النبي صلى الله عليه وسلم إلا لذلك، معولاً في شبهته هذه على ما روي من قوله: "كنت أصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ملء بطني"، وقوله: "كنت أطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة يعلمنيها، أو أكلة يطعمنيها" وما في معناهما من عبارات.
الجـواب:
وهذا اتهام باطل أيضاً من وجوه:
1- عدم فهم صاحب هذه الشبهة لمراد أبي هريرة رضي الله عنه من قوله: كنت أصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ملء بطني، وما في معناه، وعدم معرفته بما دفعه إلى هذا القول، وذلك لأن مراد أبي هريرة من ذكره لشبع بطنه فيما روي عنه من روايات هو: بيان تفرغه التام لملازمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحفظه لما سمعه منه، وأنه لم يشغله عن ذلك شاغل، حتى لقمة العيش التي قد تشغل غيره، حيث وجدها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه ما قال ذلك عبثاً أو سذاجة، كما زعم البعض، وإنما أراد به الرد علي من قالوا: إن أبا هريرة قد أكثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ما يفهم من قوله: "إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله الموعد، إني كنت امرأً مسكيناً، أصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني، وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم…الحديث". ( البخاري 4/247: كتاب البيوع، ومسلم بشرح النووي16/52-53 واللفظ للبخاري، والصفق: هو صوت وضع اليد باليد عند التبايع.)
ومن رده الذي تقدم قريباً على استدراك ابن عمر رضي الله عنهما عليه بقوله: "لم يكن يشغلنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غرس، ولا صفق بالأسواق، إنما كنت أطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة يعلمنيها، أو أكلة يطعمنيها".
2- لو كان همه إشباع بطنه لكان بإمكانه البحث عنه عند أمير من أمراء اليمن، أو رئيس قبيلة من قبائلها، يعمل عنده بزراعة، أو رعي مواش، أو غير ذلك، ولوفر على نفسه عناء السفر، وترك الأهل والعشيرة والبلد، وبالهجرة من اليمن إلى الحجاز، إلى رجل لم يكن ملكاً، أو ذا سلطان أو مال يومها، ولم يكن قد تخلص من أعدائه الثلاثة المتربصين به الدوائر: المشركين في مكة وغيرها، والمنافقين في المدينة وحولها، واليهود المجاورين لها، وكانت احتمالات النصر والهزيمة كلها واردة في المقاييس البشرية والمادية.
ولم تغب هذه الاحتمالات عن ذهب أبي هريرة الشاب الفطن واليماني الحكيم، وهو يحث رحاله نحو المدينة، نحو النور الذي شع فيها: ملبياً دعوة الحق، دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعوة الإيمان بالله الواحد الأحد، وقد شهد بعد وصوله المدينة بيومين أو ثلاثة: غزوة خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.(البخاري 5/74.)
وشهد معه المشاهد بعدها، ولازمه حتى وفاته، وحفظ منه لم يحفظه كثيرون سواه، ممن تشرفوا بصحبته صلى الله عليه وسلم، نعم يحث رحاله متوجهاً إلى طيبة وهو ينشد:
يا ليلة من طولها وعنائها ..... على أنها من دارة الكفر نجت
( أبو نعيم: الحلية 1/379، وابن كثير: البداية والنهاية 8/107)
3- لو كان همه إشباع بطنه، لترك ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم، وبحث عمن يشبعها له من موسري الصحابة رضي الله عنه أو غيرهم من أهل المدينة، بعمل أو غيره إذا لم يتيسر له إشباعها في أكثر أيام ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم، إذا كان لا يحصل في بعض الأيام على أكثر من تمرة أو تمرتين، أو شربة لبن، أو ما قارب ذلك، فقد روي عنه أنه قال: خرجت يوماً من بيتي إلى المسجد فوجدت نفراً، فقالوا: ما أخرجك؟ قلت : الجوع فقالوا: ونحن والله ما أخرجنا إلا الجوع، فقمنا فدخلنا على رسول الله، فقال: "ما جاء بكم هذه الساعة"؟ فأخبرناه فدعا بطبق فيه تمر، فأعطى كل رجل منا تمرتين، فقال:"كلوا هاتين التمرتين واشربوا عليهما من الماء فإنهما ستجزيانكم يومكم هذا". ( الذهبي: سير أعلام النبلاء 2/592.)
كما روي عنه أنه قد أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم قدح لبن، فأمره أن يدعو أهل الصفة، وكان عريفهم، فدعاهم فلما جلسوا قال:" خذا يا أبا هريرة فأعطهم"، فجعلت أعطي الرجل فيشرب حتى يروى، حتى أتيت على جميعهم، وناولته رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع رأسه إلى مبتسماً، وقال:"بقيت أنا وأنت" قال: "فاشرب"، فشــربت، قال:"اشرب"، فشربت، فما زال يقول "اشرب" فأشرب، حتى قلت: والذي بعثك بالحق ما أجد لها مساغاً، فأخذ فشرب الفضلة". (تقدمت هذه الرواية في فقرة: حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما تقدم التعريف بالصفة وأهلها هناك.)
وهذه الرواية مع ما دلت عليه من أمور عظيمة، كزيادة اللبن ببركة النبي صلى الله عليه وسلم، وعنايته بفقراء المسلمين وتقديمه لهم بالشرب على نفسه، وفرحه بشبعهم، وضربه المثل الأروع في ذلك، فإنها دلت أيضاً على مدى ما كانوا يعانون من جوع وحاجة، ومنهم:
أبو هريرة المتهم بالاهتمام بشبع بطنه، بل ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يشبع ثلاث ليال تباعاً، فقد صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة من طعام بر ثلاث ليال تباعاً حتى قبض، وعنها قالت: كان يأتي علينا الشهر ما نوقد ناراً، إنما هو التمر والماء.(البخاري 7/181.)
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: "ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لنا طعام إلا ورق الشجر، حتى قرحت أشداقنا".( أبو نعيم: الحلية 1/93).
وإذا كان هذا هو حال النبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته الكرام، فكيف حال أبي هريرة من على شاكلته؟، وهل مثله وهو في هذه الحال يتهم بالاهتمام بإشباع بطنه؟ وماذا يفيده الاهتمام بذلك مع عدم وجود أو قلة ما يقدمه لها لتشبع؟؟؟
4- لو كان مهتما بشبع بطنه أو بغيره من أعراض الدنيا، لأخذ كغيره شيئاً من الغنائم التي عرضها عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، فعن سعد بن أبي هند عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"ألا تسألني من هذه الغنائم التي يسألني أصحابك"؟ قلت: أسألك أن تعلمني مما علمك الله؟ فنزع نمرة كانت على ظهري، فبسطها بيني وبينه، حتى كأني أنظر إلى النمل يدب عليها، فحدثني حتى استوعبت حديثه قال:"اجمعها فصرها إليك" فأصبحت لا أسقط حرفاً مما حدثني.( أبو نعيم: الحلية 1/381، والذهبي: سير أعلام النبلاء 2/594)
فأين كان هم أبي هريرة متجهاً إلى إشباع بطنه أم إلى العلم والتحصيل؟ قاتل الله الهوى إذا استبد بصاحبه أعمى بصره وبصيرته عن رؤية الحق وقوله.
5- إن ذكره لما عاناه من جوع وفاقة، كان حرياً بأن يقدر له، لا أن يفسر تفسيراً مادياً نفعياً تافهاً، لما يدل عليه من واقعية وعدم إنكار لماضيه، أعانه على التواضع وعلى استشعار نعم الله تعالى عليه، وشكره عليها بعد أن وسع الله تعالى عليه، ورفع ذكره، وأعلى قدره بالإسلام والعلم والفضل، حيث نراه يلهج بحمد الله تعالى والثناء عليه كثيراً، من ذلك قوله: "الحمد لله الذي جعل الدين قواماً، وجعل أبا هريرة إماماً، بعد أن كان أجيراً … الحديث". ( ابن كثير: البداية والنهاية 8/113)
وقوله: "الحمد لله الذي علم أبا هريرة القرآن، الحمد لله الذي منّ على أبي هريرة بمحمد صلى الله عليه وسلم…الحديث." ( أبو نعيم: الحلية 1/383.)
وبهذا يتضح لنا بطلان هذه الشبهة، وأن أبا هريرة ما صحب النبي صلى الله عليه وسلم لشبع بطنه.
قال الامام مسلم : " حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ جَمِيعًا عَنْ سُفْيَانَ قَالَ زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِىِّ عَنِ الأَعْرَجِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَاللَّهُ الْمَوْعِدُ كُنْتُ رَجُلاً مِسْكِينًا أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى مِلْءِ بَطْنِى وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ وَكَانَتِ الأَنْصَارُ يَشْغَلُهُمُ الْقِيَامُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ يَبْسُطُ ثَوْبَهُ فَلَنْ يَنْسَى شَيْئًا سَمِعَهُ مِنِّى ». فَبَسَطْتُ ثَوْبِى حَتَّى قَضَى حَدِيثَهُ ثُمَّ ضَمَمْتُهُ إِلَىَّ فَمَا نَسِيتُ شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْهُ " اهـ .[1]
قال الامام النووي : " قَوْلُهُ (كُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مِلْءِ بَطْنِي) أَيْ أُلَازِمُهُ وَأَقْنَعُ بِقُوتِي وَلَا أَجْمَعُ مَالًا لِذَخِيرَةٍ وَلَا غَيْرِهَا وَلَا أَزِيدُ عَلَى قُوتِي وَالْمُرَادُ مِنْ حَيْثُ حَصَلَ الْقُوتُ مِنَ الْوُجُوهِ الْمُبَاحَةِ وَلَيْسَ هُوَ مِنَ الْخِدْمَةِ بِالْأُجْرَةِ " اهـ .[2]
وقال الحافظ ابن حجر : " قَوْلُهُ عَلَى مِلْءِ بَطْنِي أَيْ مُقْتَنِعًا بِالْقُوتِ أَيْ فَلَمْ تَكُنْ لَهُ غَيْبَةٌ عَنْهُ " اهـ .[3]
لقد كان ابو هريرة رضي الله عنه زاهدا في الدنيا , ومكتفيا بالكفاف حتى ان النبي صلى الله عليه واله وسلم كان يعرض عليه من الغنائم , فكان رده على رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ان يعلمه مما علمه الله تعالى , ففي سير اعلام النبلاء للامام الذهبي : " قَالَ مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى الزَّمِنُ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الحَنَفِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ أَبِي يَحْيَى، سَمِعْتُ سَعِيْدَ بنَ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (أَلاَ تَسْأَلُنِي مِنْ هَذِهِ الغَنَائِمِ الَّتِي يَسْأَلُنِي أَصْحَابُكَ؟) . قُلْتُ: أَسْأَلُكَ أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عَلَّمَكَ اللهُ. فَنَزَعَ نَمِرَةً كَانَتْ عَلَى ظَهْرِي، فَبَسَطَهَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ، حَتَّى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّمْلِ يَدُبُّ عَلَيْهَا، فَحَدَّثَنِي حَتَّى إِذَا اسْتَوْعَبْتُ حَدِيْثَهُ، قَالَ: (اجْمَعْهَا، فَصُرَّهَا إِلَيْكَ) . فَأَصْبَحْتُ لاَ أُسْقِطُ حَرْفاً مِمَّا حَدَّثَنِي - رجاله ثقات، وأخرجه أبو نعيم في " الحلية " 1 / 381، وهو في تاريخ ابن عساكر 19 / 113 / 2، والنمرة: شملة فيها خطوط بيض وسود. " اهـ . [4]
1164 - صحيح مسلم - بَابُ مِنْ فَضَائِلِ أَبِي هُرَيْرَةَ الدَّوْسِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - ج 4 ص 1939 .
1165 - شرح صحيح مسلم – ابو زكريا يحيى بن شرف النووي – ج 16 ص 53 .
1166 - فتح الباري – احمد بن علي بن حجر – ج 4 ص 289 .
1167 - سير اعلام النبلاء – تحقيق شعيب الارناؤوط – ج 2 ص 594 .
اهتمامه بشبع بطنه
اتهم البعض أبا هريرة رضي الله عنه بالاهتمام بشبع بطنه، وأنه ما صحب النبي صلى الله عليه وسلم إلا لذلك، معولاً في شبهته هذه على ما روي من قوله: "كنت أصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ملء بطني"، وقوله: "كنت أطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة يعلمنيها، أو أكلة يطعمنيها" وما في معناهما من عبارات.
الجـواب:
وهذا اتهام باطل أيضاً من وجوه:
1- عدم فهم صاحب هذه الشبهة لمراد أبي هريرة رضي الله عنه من قوله: كنت أصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ملء بطني، وما في معناه، وعدم معرفته بما دفعه إلى هذا القول، وذلك لأن مراد أبي هريرة من ذكره لشبع بطنه فيما روي عنه من روايات هو: بيان تفرغه التام لملازمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحفظه لما سمعه منه، وأنه لم يشغله عن ذلك شاغل، حتى لقمة العيش التي قد تشغل غيره، حيث وجدها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه ما قال ذلك عبثاً أو سذاجة، كما زعم البعض، وإنما أراد به الرد علي من قالوا: إن أبا هريرة قد أكثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ما يفهم من قوله: "إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله الموعد، إني كنت امرأً مسكيناً، أصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني، وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم…الحديث". ( البخاري 4/247: كتاب البيوع، ومسلم بشرح النووي16/52-53 واللفظ للبخاري، والصفق: هو صوت وضع اليد باليد عند التبايع.)
ومن رده الذي تقدم قريباً على استدراك ابن عمر رضي الله عنهما عليه بقوله: "لم يكن يشغلنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غرس، ولا صفق بالأسواق، إنما كنت أطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة يعلمنيها، أو أكلة يطعمنيها".
2- لو كان همه إشباع بطنه لكان بإمكانه البحث عنه عند أمير من أمراء اليمن، أو رئيس قبيلة من قبائلها، يعمل عنده بزراعة، أو رعي مواش، أو غير ذلك، ولوفر على نفسه عناء السفر، وترك الأهل والعشيرة والبلد، وبالهجرة من اليمن إلى الحجاز، إلى رجل لم يكن ملكاً، أو ذا سلطان أو مال يومها، ولم يكن قد تخلص من أعدائه الثلاثة المتربصين به الدوائر: المشركين في مكة وغيرها، والمنافقين في المدينة وحولها، واليهود المجاورين لها، وكانت احتمالات النصر والهزيمة كلها واردة في المقاييس البشرية والمادية.
ولم تغب هذه الاحتمالات عن ذهب أبي هريرة الشاب الفطن واليماني الحكيم، وهو يحث رحاله نحو المدينة، نحو النور الذي شع فيها: ملبياً دعوة الحق، دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعوة الإيمان بالله الواحد الأحد، وقد شهد بعد وصوله المدينة بيومين أو ثلاثة: غزوة خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.(البخاري 5/74.)
وشهد معه المشاهد بعدها، ولازمه حتى وفاته، وحفظ منه لم يحفظه كثيرون سواه، ممن تشرفوا بصحبته صلى الله عليه وسلم، نعم يحث رحاله متوجهاً إلى طيبة وهو ينشد:
يا ليلة من طولها وعنائها ..... على أنها من دارة الكفر نجت
( أبو نعيم: الحلية 1/379، وابن كثير: البداية والنهاية 8/107)
3- لو كان همه إشباع بطنه، لترك ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم، وبحث عمن يشبعها له من موسري الصحابة رضي الله عنه أو غيرهم من أهل المدينة، بعمل أو غيره إذا لم يتيسر له إشباعها في أكثر أيام ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم، إذا كان لا يحصل في بعض الأيام على أكثر من تمرة أو تمرتين، أو شربة لبن، أو ما قارب ذلك، فقد روي عنه أنه قال: خرجت يوماً من بيتي إلى المسجد فوجدت نفراً، فقالوا: ما أخرجك؟ قلت : الجوع فقالوا: ونحن والله ما أخرجنا إلا الجوع، فقمنا فدخلنا على رسول الله، فقال: "ما جاء بكم هذه الساعة"؟ فأخبرناه فدعا بطبق فيه تمر، فأعطى كل رجل منا تمرتين، فقال:"كلوا هاتين التمرتين واشربوا عليهما من الماء فإنهما ستجزيانكم يومكم هذا". ( الذهبي: سير أعلام النبلاء 2/592.)
كما روي عنه أنه قد أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم قدح لبن، فأمره أن يدعو أهل الصفة، وكان عريفهم، فدعاهم فلما جلسوا قال:" خذا يا أبا هريرة فأعطهم"، فجعلت أعطي الرجل فيشرب حتى يروى، حتى أتيت على جميعهم، وناولته رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع رأسه إلى مبتسماً، وقال:"بقيت أنا وأنت" قال: "فاشرب"، فشــربت، قال:"اشرب"، فشربت، فما زال يقول "اشرب" فأشرب، حتى قلت: والذي بعثك بالحق ما أجد لها مساغاً، فأخذ فشرب الفضلة". (تقدمت هذه الرواية في فقرة: حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما تقدم التعريف بالصفة وأهلها هناك.)
وهذه الرواية مع ما دلت عليه من أمور عظيمة، كزيادة اللبن ببركة النبي صلى الله عليه وسلم، وعنايته بفقراء المسلمين وتقديمه لهم بالشرب على نفسه، وفرحه بشبعهم، وضربه المثل الأروع في ذلك، فإنها دلت أيضاً على مدى ما كانوا يعانون من جوع وحاجة، ومنهم:
أبو هريرة المتهم بالاهتمام بشبع بطنه، بل ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يشبع ثلاث ليال تباعاً، فقد صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة من طعام بر ثلاث ليال تباعاً حتى قبض، وعنها قالت: كان يأتي علينا الشهر ما نوقد ناراً، إنما هو التمر والماء.(البخاري 7/181.)
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: "ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لنا طعام إلا ورق الشجر، حتى قرحت أشداقنا".( أبو نعيم: الحلية 1/93).
وإذا كان هذا هو حال النبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته الكرام، فكيف حال أبي هريرة من على شاكلته؟، وهل مثله وهو في هذه الحال يتهم بالاهتمام بإشباع بطنه؟ وماذا يفيده الاهتمام بذلك مع عدم وجود أو قلة ما يقدمه لها لتشبع؟؟؟
4- لو كان مهتما بشبع بطنه أو بغيره من أعراض الدنيا، لأخذ كغيره شيئاً من الغنائم التي عرضها عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، فعن سعد بن أبي هند عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"ألا تسألني من هذه الغنائم التي يسألني أصحابك"؟ قلت: أسألك أن تعلمني مما علمك الله؟ فنزع نمرة كانت على ظهري، فبسطها بيني وبينه، حتى كأني أنظر إلى النمل يدب عليها، فحدثني حتى استوعبت حديثه قال:"اجمعها فصرها إليك" فأصبحت لا أسقط حرفاً مما حدثني.( أبو نعيم: الحلية 1/381، والذهبي: سير أعلام النبلاء 2/594)
فأين كان هم أبي هريرة متجهاً إلى إشباع بطنه أم إلى العلم والتحصيل؟ قاتل الله الهوى إذا استبد بصاحبه أعمى بصره وبصيرته عن رؤية الحق وقوله.
5- إن ذكره لما عاناه من جوع وفاقة، كان حرياً بأن يقدر له، لا أن يفسر تفسيراً مادياً نفعياً تافهاً، لما يدل عليه من واقعية وعدم إنكار لماضيه، أعانه على التواضع وعلى استشعار نعم الله تعالى عليه، وشكره عليها بعد أن وسع الله تعالى عليه، ورفع ذكره، وأعلى قدره بالإسلام والعلم والفضل، حيث نراه يلهج بحمد الله تعالى والثناء عليه كثيراً، من ذلك قوله: "الحمد لله الذي جعل الدين قواماً، وجعل أبا هريرة إماماً، بعد أن كان أجيراً … الحديث". ( ابن كثير: البداية والنهاية 8/113)
وقوله: "الحمد لله الذي علم أبا هريرة القرآن، الحمد لله الذي منّ على أبي هريرة بمحمد صلى الله عليه وسلم…الحديث." ( أبو نعيم: الحلية 1/383.)
وبهذا يتضح لنا بطلان هذه الشبهة، وأن أبا هريرة ما صحب النبي صلى الله عليه وسلم لشبع بطنه.