يا ليتني كنت كبشا لقومي فسمنّوني
يا ليتني كنت كبشا لقومي فسمنّوني
قال الرافضي: ((ومنها ما رووه عن عمر. روى أبونُعيم الحافظ في كتابه ((حلية الأولياء)) أنه قال لما احتُضر قال: يا ليتني كنت كبشا لقومي فسمنّوني ما بدا لهم، ثم جاءهم أحب قومهم إليهم فذبحوني، فجعلوا نصفي شواءً ونصفي قديدا، فأكلوني، فأكون عذرة ولا أكون بشرا. وهل هذا إلا مساوٍ لقول الكافر: {يا لَيْتَني كُنْتُ تُرابًا} (1).
قال: ((وقال لابن عباس عند احتضاره: لوأن لي ملء الأرض ذهباومثله معه لافتديت به نفسي من هول المطلع. وهذا مثل قوله: {وَلَوْ أَنَّ للذِّينَ ظَلَمُوا مَا في الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَاب} ِ (2). فلينظر المنصف العاقل قولَ الرجلين عند احتضارهما، وقول عليّ:
متى ألقى الأحبة .. ؟ محمداً وحزبه متى ألقاها .. ؟ متى يُبعث أشقاها
وقوله حين قتله ابن ملجم: فزت ورب الكعبة)).
والجواب: أن في هذا الكلام من الجهالة ما يدل على فرط جهل قائله؛ وذلك أن ما ذكره عن عليّ قد نُقل مثله عمَّن هودون أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، بل نُقل مثله عمَّن يكفِّر عليّ بن أبي طالب من الخوارج. كقول بلال عتيق أبي بكر عند الاحتضار، وامرأته تقول: واحرباه، وهويقول: واطرباه غداً ألقى الأحبة محمداً وحزبه.
وكان عمر قد دعا لما عارضوه في قسمة الأرض فقال: ((اللهم اكفني بلالاً وذويه)) فما حال الحَوْل وفيهم عين تَطْرِفُ.
__________
(1) الآية 4. من سورة النبأ.
(2) الآية 1 من سورة الزمر.
وروى أبونُعيم في ((الحلية)): ((حدثنا القطيعى، حدثنا الحسن بن عبد الله، حدثنا عامر بن سيّار، حدثنا عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، عن الحارث بن عمير، قال: طُعن معاذ وأبوعبيدة وشُرحبيل بن حسنة وأبومالك الأشعري في يوم واحد. فقال معاذ: إنه رحمة ربكم، ودعوة نبيكم، وقبض الصالحين قبلكم. اللهم آت آل معاذ النصيب الأوفر من هذه الرحمة. فما أمسى حتى طُعن ابنه عبد الرحمن بِكْرُه الذي كان يُكنَّى به، وأحب الخلق إليه. فرجع من المسجد فوجده مكروبا. فقال: يا عبد الرحمن كيف أنت؟ قال: يا أبتِ الحق من ربك فلا تكونن من الممترين. قال: وأنا إن شاء الله ستجدني من الصابرين. فأمسكه لَيْلَهُ ثم دفنه من الغد. وطُعن معاذ، فقال حين اشتدَّ به النزع، نزع الموت، فنزع نزعاً لم ينزعه أحد، وكان كلما أفاق فتح طرفه، وقال: رب أخنقني خَنْقَك، فوعزتك إنك لتعلم أن قلبي يحبك)) (1).
وكذلك قوله: فزت ورب الكعبة. قد قالها من هودون عليّ، قالها عامر بن فُهيرة مَوْلَى أبي بكر الصديق لما قُتل يوم بئر معونة. وكان قد بعثه النبي (مع سرية قِبَل نجد. قال العلماء بالسير: طعنه جبّار بن سَلْمى فأنفذه. فقال عامر: فزت والله. فقال جبّار: ما قوله فزت والله؟ قال عروة بن الزبير: يرون أن الملائكة دفنته (2).
وشبيب الخارجي لما طُعن دخل في الطعنة، وجعل يقول: وعجلت إليك ربِ لترضى.
واعرف شخصاً من أصحابنا لما حضرته الوفاة جعل يقول: حبيبي هاقد جئتك، حتى خرجت نفسه. ومثل هذا كثير.
وأما خوف عمر وخشيته من الله لكمال علمه؛ فإن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (3).
__________
(1) انظر الحلية ج1 ص24..
(2) انظر الحلية ج1 ص24..
(3) انظر الحلية ج1 ص24..
وقد كان النبي (يصلِّي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء (1).
وأما قول الرافضي: ((وهل هذا إلا مساوٍ لقول الكافر: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} (2).
فهذا جهل منه؛ فإن الكافر يقول ذلك يوم القيامة، حين لا تُقبل توبة، ولا تنفع حسنة. وأما من يقول ذلك في الدنيا، فهذا يقوله في دار العمل على وجه الخشية لله، فيُثاب على خوفه من الله.
وقد قالت مريم: {ياَلَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} (3).ولم يكن هذا كتمنِّي الموت يوم القيامة.
ولا يُجعل هذا كقول أهل النار، كما أخبر الله عنهم بقوله: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} (4). وكذلك قوله: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا في الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنُ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} (5)؛ فهذا إخبار عن حالهم يوم القيامة حين لا ينفع توبة ولا خشية.
وأما في الدنيا، فالعبد إذا خاف ربَّه كان خوفه مما يثيبه الله عليه، فمن خاف الله في الدنيا أمّنه يوم القيامة، ومن جعل خوف المؤمن من ربه في الدنيا كخوف الكافر في الآخرة، فهوكمن جعل الظلمات كالنور، والظل كالحرور، والأحياء كالأموات.
__________
(1) انظر سنن النسائي ج3 ص14 والمسند ج4 ص 25، 26.
(2) الآية 4. من سورة النبأ.
(3) الآية 23 من سورة مريم.
(4) الآية 77 من سورة الزخرف.
(5) الآية 47 من سورة الزمر.
قال الطاعن : (( ومنها ما رووه عن عمر . روى أبو نُعيم الحافظ في كتابه (( حلية الأولياء )) أنه قال لما احتُضر قال : يا ليتني كنت كبشا لقومي فسمنّوني ما بدا لهم ، ثم جاءهم أحب قومهم إليهم فذبحوني ، فجعلوا نصفي شواءً ونصفي قديدا ، فأكلوني ، فأكون عذرة ولا أكون بشرا . وهل هذا إلا مساوٍ لقول الكافر : { يا لَيْتَني كُنْتُ تُرابًا } .
قال : (( وقال لابن عباس عند احتضاره : لو أن لي ملء الأرض ذهباومثله معه لافتديت به نفسي من هول المطلع.وهذا مثل قوله: { وَلَوْ أَنَّ للذِّينَ ظَلَمُوا مَا في الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَاب } . فلينظر المنصف العاقل قولَ الرجلين عند احتضارهما ، وقول عليّ :
متى ألقى الأحبة ..؟ محمداً وحزبه متى ألقاها ..؟ متى يُبعث أشقاها
وقوله حين قتله ابن ملجم : فزت ورب الكعبة )) .
والجواب : أن في هذا الكلام من الجهالة ما يدل على فرط جهل قائله؛ وذلك أن ما ذكره عن عليّ قد نُقل مثله عمَّن هو دون أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ ، بل نُقل مثله عمَّن يكفِّر عليّ بن أبي طالب من الخوارج . كقول بلال عتيق أبي بكر عند الاحتضار ، وامرأته تقول : واحرباه ، وهو يقول : واطرباه غداً ألقى الأحبة محمداً وحزبه .
وكان عمر قد دعا لما عارضوه في قسمة الأرض فقال : (( اللهم اكفني بلالاً وذويه ))فما حال الحَوْل وفيهم عين تَطْرِفُ.
وروى أبو نُعيم في (( الحلية )): ((حدثنا القطيعى ، حدثنا الحسن بن عبد الله ، حدثنا عامر بن سيّار ، حدثنا عبد الحميد بن بهرام ، عن شهر بن حوشب ، عن عبد الرحمن بن غنم ، عن الحارث بن عمير ، قال : طُعن معاذ وأبو عبيدة وشُرحبيل بن حسنة وأبو مالك الأشعري في يوم واحد . فقال معاذ: إنه رحمة ربكم ، ودعوة نبيكم ، وقبض الصالحين قبلكم . اللهم آت آل معاذ النصيب الأوفر من هذه الرحمة . فما أمسى حتى طُعن ابنه عبد الرحمن بِكْرُه الذي كان يُكنَّى به ، وأحب الخلق إليه . فرجع من المسجد فوجده مكروبا . فقال : يا عبد الرحمن كيف أنت ؟ قال : يا أبتِ الحق من ربك فلا تكونن من الممترين .قال : وأنا إن شاء الله ستجدني من الصابرين . فأمسكه لَيْلَهُ ثم دفنه من الغد . وطُعن معاذ ، فقال حين اشتدَّ به النزع ، نزع الموت ، فنزع نزعاً لم ينزعه أحد ، وكان كلما أفاق فتح طرفه ، وقال : رب أخنقني خَنْقَك ، فوعزتك إنك لتعلم أن قلبي يحبك )).
وكذلك قوله : فزت ورب الكعبة . قد قالها من هو دون عليّ ، قالها عامر بن فُهيرة مَوْلَى أبي بكر الصديق لما قُتل يوم بئر معونة . وكان قد بعثه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع سرية قِبَل نجد .قال العلماء بالسير : طعنه جبّار بن سَلْمى فأنفذه. فقال عامر : فزت والله . فقال جبّار : ما قوله فزت والله ؟ قال عروة بن الزبير: يرون أن الملائكة دفنته.
وشبيب الخارجي لما طُعن دخل في الطعنة ، وجعل يقول : وعجلت إليك ربِ لترضى .
واعرف شخصاً من أصحابنا لما حضرته الوفاة جعل يقول : حبيبي هاقد جئتك ، حتى خرجت نفسه . ومثل هذا كثير .
وأما خوف عمر وخشيته من الله لكمال علمه ؛ فإن الله تعالى يقول : { إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ }.
وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلِّي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء.
وأما قوله : (( وهل هذا إلا مساوٍ لقول الكافر : { يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً }.
فهذا جهل منه ؛ فإن الكافر يقول ذلك يوم القيامة ، حين لا تُقبل توبة ، ولا تنفع حسنة . وأما من يقول ذلك في الدنيا ، فهذا يقوله في دار العمل على وجه الخشية لله ، فيُثاب على خوفه من الله .
وقد قالت مريم : { ياَلَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا } .ولم يكن هذا كتمنِّي الموت يوم القيامة .
ولا يُجعل هذا كقول أهل النار ، كما أخبر الله عنهم بقوله : { وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } . وكذلك قوله : { وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا في الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنُ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ } ؛ فهذا إخبار عن حالهم يوم القيامة حين لا ينفع توبة ولا خشية .
وأما في الدنيا ، فالعبد إذا خاف ربَّه كان خوفه مما يثيبه الله عليه ، فمن خاف الله في الدنيا أمّنه يوم القيامة ، ومن جعل خوف المؤمن من ربه في الدنيا كخوف الكافر في الآخرة ، فهو كمن جعل الظلمات كالنور ، والظل كالحرور ، والأحياء كالأموات .
الطعن على الشيخين ببعض ما أثر عنهما من أقوال في شدة خوفهما من الله والرد عليه
قال تحت عنوان: (شهادة الشيخين على نفسيهما )
«خرج البخاري في صحيحه في باب مناقب عمر بن الخطاب قال: لما طعن عمر جعل يألم فقال له ابن عباس وكأنه يُجَـزِّعُهُ: يا أمير المؤمنين ولئن كان ذاك لقد صحبت رسول الله r فأحسنت صحبته ثم فارقته وهو عنك راض، ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته ثم فارقته وهو عنك راض، ثم صحبت صحابتهم فأحسنت صحبتهم ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون.
قال: أما ما ذكرت من صحبة رسول الله r ورضاه فإنما ذاك من منّ الله تعالى منّ به عليّ، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه فإنما ذاك من منّ الله جل ذكره منّ به عليّ، وأما ما ترى من جزعي فهو من أجلك وأجل أصحابك، والله لو أن لي طلاع الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله U قبل أن أراه.
وقد سجل التاريخ له أيضاً قوله: ياليتني كنت كبش أهلي يسمنونني ما بدا لهم، حتى إذا كنت أسمن ما أكون زارهم بعض من يحبون، فجعلوا بعضي شواء وقطعوني قديداً، ثم أكلوني وأخرجوني عذرة ولم أكن بشراً. كما سجل التاريخ لأبي بكر مثل هذا قال لما نظر أبو بكر إلى طائر على شجرة: طوبي لك ياطائر تأكل الثمر وتقع على الشجر، وما من حساب ولا عقاب عليك، لوددت أني شجرة على جانب الطريق مرّ على جمل فأكلني وأخرجني في بعره ولم أكن من البشر.
إلى أن قال: فكيف يتمنى الشيخان أبو بكر، وعمر، أن لا يكونا من البشر الذي كرمه الله على سائر مخلوقاته،وإذا كان المؤمن العادي الذي يستقيم في حياته تتنزل عليه الملائكة وتبشره بمقامه في الجنة فلا يخاف من عذاب الله ولا يخرن... فما بال عظماء الصحابة الذين هم خير الخلق بعد رسول الله-كما تعلمنا ذلك-يتمنون أن يكونوا عذرة».
والرد عليه من عدة وجوه:
الوجه الأول: أن هذه الآثار المذكورة تدل على شدة خوف الشيخين من الله تعالى وتعظيمهما لربهما، وهذا من كمال فضلهما وعلو شأنهما في الدين، ولذا أثني الله في كتابه على عباده الخائفين منه المشفقين من عذابه في آيات كثيرة كقوله تعالى: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى % فإن الجنة هي المأوى}،
وقال تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان} وقال تعالى: {الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون}، وقال تعالى في وصف المؤمنين: {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار} وقال في وصفهم: {والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب} والآيات في هذا كثيرة، وهي تدل على أن الخوف من الله من صفات المؤمنين التي أثنى الله بها عليهم، وأحبها منهم، ورتب على ذلك سعادتهم ونجاتهم في الآخرة بخوفهم منه في الدنيا. والشيخان -رضي الله عنهما- ماقالا الذي قالا إلا لتحقيقهما أعلى مقامات الخوف من الله الذي استحقابه ذلك الفضل العظيم عند الله تعالى وسبقا به غيرهما من الأمة فكانا أفضل هذه الأمة بعد نبيها
الوجه الثاني: أن حمل الرافضي شدة خوف الشيخين على مخالفتهما ومعصيتهما، وأنهما لولا ذلك ما حصل لهما هذا، فهذا من جهلـه العظيم بالشرع فإنه من المعلوم أن الخوف والخشية من لوازم العلم، كما قال تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماءُ}، وكل ماقوي ذلك العلم قويت الخشية في نفس العبد، ولذا قال النبيr لأصحابه: (والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله) وهذا كله يورث الإستقامة على الطاعة، وحسن العبادة، والانقطاع إلى الله تعالى، قال تعالى: {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار}، وقال {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون} فَوَصْف الله عباده بالخوف والعبادة دليل تلازمهما واجتماعهما.
وبعكس هذا عدم الخوف فإنه مصاحب للتفريط وترك العمل، قال تعالى في وصف الكفار: {ما سلككم في سقرقالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين}، إلى أن قال: {كلا بل لا يخافون الآخرة} فوصفهم بعدم العمل وعدم الخوف.
وبهذا يتبين جهل الرافضي في ذمه الشيخين بالخوف، الذي هو من أخص صفات المؤمنين العاملين.
الوجه الثالث: أن الله تعالى أخبر عن مريم -عليها السلام- بنظير ما ثبت عن أبي بكر، وعمر في قوله: {قالت ياليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً}.
قال ابن عباس في معنى نسياً منسياً أي: (لم أُخلق ولم أك شيئاً).
وقال قتادة أي: (شيئاً لا يُعرف ولا يُذكر).
وقال الربيع بن أنس هو: (السَّقْط).
وثبت عن علي- كما تقدم في النقل عنه أنه قال يوم الجمل لابنه الحسن: (ياحسن ليت أباك مات منذ عشرين سنة)
كما ثبت عن أبي ذر قوله: (والله لوددت أني شجرة تعضد) فهل هؤلاء مذمومون بهذا؟ فإن لم يكونوا مذمومين فلم القدح في الشيخين بمثل ما ثبت عن هؤلاء؟
الوجه الرابع: أن قول الرافضي إن المؤمن العادي تتنزل عليه الملائكة وتبشره بمقامه في الجنة، وأنه لا يخاف ولا يحزن، وهو يشير بهذا لقوله تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا}، فهذا من جهله العظيم وفهمه السقيم لمعنى الآية فإن هذه البشارة الواردة في الآية إنما تكون عند الموت، كما ذكر ذلك المفسرون ونقلوه عن أئمة التفسير: كمجاهد والسدي وزيد بن أسلم، وابنه وغيرهم والمسلم قبل ذلك لايدري هل يبشر بهذا أم لا، فهو دائماً خائف وجل، لا يعلم بم يختم له، وخوف الشيخين من ربهما أمر طبيعي، بل هو اللائق بهما لكمال علمهما بالله ومعرفتهما به، والله يقول: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}ولا يشكل على هذا بشارة النبيrللشيخين بالجنة فإن
الخوف من الله من أخص صفات المؤمنين الراسخة في قلوبهم، التي لا ترتفع بشيء ولا يستطيعون دفعها، بل كلما ازداد العبد إيماناً وعلماً وطاعة لله ازداد خوفاً، ولهذا كان النبي r أخشى الأمة لله كما أخبر بذلك عن نفسه وأقسم عليه في قوله: (أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له)، وهكذا حال أنبياء الله كما أخبر الله عنهم في قوله: {أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً} فإذا كان النبي r أعظم خشية لله من الشيخين وسائر الأمة، وكذلك أنبياء الله هم أعظم خشية لله منهما بلاشك، فأي لوم عليهما في ذلك، وإذا كان المؤلف يرى بفهمه السقيم أن الواجب على المؤمن أن لا يخاف لأنه مبشر من الله بالجنة، ويقدح في الشيخين-رضي الله عنهما- بالخوف، فإن أولى الناس بعدم الخوف لو كان ما ادعاه صحيحاً هم رسل الله الذين اصطفاهم الله برسالته، ووعدهم بأعلى الدرجات في الجنة
الوجه الخامس: أنه ظاهر أن الحامل للشيخين على ما قالا هو شدة خوفهما من الله، والخوف من الله من الصفات الفاضلة الممدوح بها باتفاق العقلاء، كما أن عدم الخوف من الله من الصفات الرذيلة المذموم بها عند العقلاء، ولهذا يصف الناس من أرادوا مدحه بقولهم (فلان يخاف الله) ويصفون من أرادوا ذمه بعكس ذلك فيقولون: (فلان لا يخاف الله) فتبين أن ذم الرافضي للشيخين بخوف الله، معارض بالشرع والعقل، بل إنه غاية في العجب عند أهل العقول والنظــــر.
وهذا حال كل مؤمن كامل الإيمان، فهو دائماً يستصغر عمله ويستقله، ويستعظم ذنبه ويستكثره، وذلك لكمال علمه بالله وقوة تعظيمه له، بخلاف الفاسق، فإنه يستعظم عمله، ويستقل ذنبه، لضعف الإيمان في نفسه وجرأته على ربه روى البخاري عن عبدالله بن مسعود -t- أنه قال: (إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مرّ على أنفه فقال به هكذا). ولهذا كثرت الآثار عن الصحابة، وخيار سلف الأمة في لوم النفس، واستشعار التقصير لكمال إيمانهم وعلمهم بالله
فمن ذلك ما ثبت عن علي -t- من ندمه يوم الجمل ندماً عظيماً حتى إنه قال لابنه الحسن: (يا حسن ليت أباك مات منذ عشرين سنة، فقال له: يا أبه قد كنت أنهاك عن هذا قال: يابني إني لم أر أن الأمر يبلغ هذا)
وفيه رواية: (أنه لما اشتد القتال يوم الجمل ورأى علي الرؤوس تندر، أخذ علي ابنه الحسن فضمه إلى صدره، ثم قال: إنا لله ياحسن؟ أي خير يرجى بعد هذا؟).
وروى أبو نعيم عن سعيد بن المسيب (أن سعد بن مالك وعبدالله بن مسعود دخلا على سلمان - يعودانه فبكى فقالا: ما يبكيك يا أبا عبدالله؟ فقال: عهد عهده إلينا رسول الله r فلم يحفظه أحد منا قال: ليكن بلاغ أحدكم كزاد الراكب).
وعن أبي ذر - أنه قال: (والله لوددت أني شجرة تعضــد).
وهاهو الحسين بن علي رضي الله عنه حين سئل كيف اصبحت يابن رسول الله قال اصبحت ولي رب فوقي والنار امامي والموت يطلبني والحساب محدق بي وانا مرتهن بعملي ولا اجد مااحب ولا ادفع مااكره والامور بيد غيري فان شاء عذبني وان شاء عفا عني فأي فقير افقر مني ؟
وهذا علي ابن ابي طالب رضي الله عنه يقبض لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين وهو يقول يادنيا غري غيري ابي تعرضت ام لي تشوقت هيهات لاحاجة لي فيك قد طلقتك ثلاثا لارجعة لي فيها فعمرك قصير وعيشك حقير وخطرك كبير آه آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق.