مختصر منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية - ج1
مخُتْصَرُ مِنْهَاجِ السُّنَّة
لأبي العباس شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله
اختصره
الشيخ عبد الله الغنيمان
المدرس بقسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية (سابقاً)
بالمدينة المنورة
الجزء الأول 1410ﻫ
المقدمة
الحمد لله مظهر الحق ومعليه ، وقاطع الباطل وذويه ، قال الله تعالى : بَلْ نَقْذِف ُبِالْحَق ِّعَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقْ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُون، وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كاَنَ زَهُوقًا ، قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيد . أحمده حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحق ، ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون .
أما بعد:( فإن منهاج السنة النبوية في نقض دعاوى الرافضة والقدرية ) من أعظم كتب الإمام المجاهد الصابر المصابر شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية ، قد ناضل فيه عن الحق وأهله ، ودحض الباطل وفضحه . وشباب الاسلام اليوم بأمس الحاجة إلى قراءة هذا الكتاب ، ومعرفة محتواه حيث أطل الرفض على كل بلد من بلاد الاسلام ، وغيرها بوجهه الكريه ، وكشر عن أنيابه الكالحة ، وألقى حبائله أمام من لا يعرف حقيقته ، مظهرا غير مبطن ديدن كل منافق مفسد ختال ، فاغتر به من يجهل حقيقته ، ومن لم يقرأ مثل هذا الكتاب.
والغالب على مذاهب أهل البدع والأهواء ، أنها تتراجع عن الشطح وعظيم الضلال ما عدا مذهب الرفض فإنه يزداد بمرور الأيام تطرفا وانحدارا، وتماديا في محاربة أولياء الله وأنصار دينه ، وقد ملئت كتب الرافضة بالسباب والشتائم واللعنات لخير خلق الله بعد الأنبياء ، أعني ، أصحاب رسول الله ، ورضي الله عنهم ، وهم لا يتورعون عن تكفير الصحابة ، ولا سيما كبارهم وسادتهم ، مثل أبي بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، وإخوانهم _ رضوان الله عليهم _ الذين اطفؤوا نار المجوس ، وهدموا معبوداتهم ، وإكفار الصحابة ومن يتولاهم في كتبهم المعتمدة عندهم لا يحصره نقل ، فهم يتعبدون بلعن صحابة رسول الله ، ويعتقدون أن الشيعة بأئمتهم هم الناس ، وما عداهم همج للنار وإلى النار ، والله لا يقبل من مسلم حسنة مهما بالغ في الإحسان ما لم يكن شيعيا كما في كتابهم (الوافي ، الباب السابع والثامن بعد المائة ) ، وفي ( الكافي ) أحد الكتب الموثوق بها - عندهم - ما يبين عن حقدهم الدفين على الاسلام ومن جاء به ، ومن حمله واعتنقه ، وهم يرون أن القرآن نزل لشيئين أحدهما : الثناء و المدح على علي بن أبى طالب وإعلاء شأنه وذريته ، والثاني : ثلب أصحاب رسول الله وذكر معايبهم ، ولهذا قالوا : إنه ضاع من القرأن ثلثاه أو ثلاثة أرباعه ، وهم يعتمدون في دينهم على الكذب الذي يلصقونه بأئمتهم ، والادعاءات الكاذبة فصاروا من أكذب الناس ، وأكثرهم تصديقا للكذب ، وتصديقا بالباطل ، ومع ذلك يرمون الصحابة بالنفاق ، ونبتهل إلى الله تعالى أن يزيدهم غيظا وأن يكبتهم بكمدهم وكل من غاظه الاسلام .
و لما كان كتاب منهاج السنة مشتملا على مباحث مطولة . وغير مطولة في الرد على القدرية والمتكلمين وغيرهم من سائر الطوائف أحببت أن أجرد ما يخص الرافضة من الرد عليهم فيما يتعلق بالخلافة والصحابة وأمهات المؤمنين وغير ذلك . ولم أضف إليه شيئا من عندي ، لا في أصله ، ولا تعليقا ، لأن كلام الإمام ابن تيمية فيه من القوة والرصانة والمتانة ما يغني عن كل تعليق ، وعليه من نور الحق ووضوح البيان وقوة الحجة ما لا يحتاج إلى غيره . فالله يجزيه على جهاده ومنافحته عن الاسلام وأهله خير الجزاء ، ونسأله تعالى أن يشركنا معه في جهاده وجزائه إنه خير مسؤول ، وأكرم مأمول ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأزواجه وأصحابه .
قال شيخ الإسلام :
الحمد لله الذي بَعَثَ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ، وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُم الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم ( ).
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، كما شهد هو سبحانه وتعالى أنه لا إله إلا هو ، والملائكة ، وأولو العلم ، قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ختم به أنبياءه ، وهدى به أولياءه ، ونعته بقوله في القرآن الكريم : لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُم عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيم . فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم ( ) . صلى الله عليه أفضل صلاة وأكمل تسليم .
( أما بعد ) : فإنه أحضر إلي طائفة من أهل السنة والجماعة كتابا صنفه بعض شيوخ الرافضة، في عصرنا منفقا لهذه البضاعة ، يدعو به إلى مذهب الرافضة الإمامية ، من أمكنه دعوته من ولاة الأمور وغيرهم ، أهل الجاهلية ، ممن قلت معرفتهم بالعلم والدين ، ولم يعرفوا أصل دين المسلمين .
وأعانه على ذلك من عادتهم إعانة الرافضة ، من المتظاهرين بالاسلام، من أصناف الباطنية الملحدين ، الذي هم في الباطن من الصابئة الفلاسفة الخارجين عن حقيقة متابعة المرسلين ، الذين لا يوجبون اتباع دين الاسلام ، ولا يحرمون اتباع ما سواه من الأديان، بل يجعلون الملل بمنزلة المذاهب السياسية التي يسوغ أتباعها ، وأن النبوة من السياسة العادلة التي وضعت لمصلحة العامة في الدنيا .
فإن هذا الصنف يكثرون ويظهرون إذا كثرت الجاهلية وأهلها، ولم يكن هناك من أهل العلم بالنبوة والمتابعة لها من يظهر أنوارها الماحية لظلمة الضلال ، ويكشف ما في خلافها من الإفك والشرك والمحال .
وهؤلاء لا يكذبون بالنبوة تكذيبا مطلقا ، بل هم يؤمنون ببعض أحوالها ويكفرون ببعض الأحوال ، وهم متفاوتون فيما يؤمنون به ويكفرون من تلك الخلال ، فلهذا يلتبس أمرهم بسبب تعظيمهم للنبوات على كثير من أهل الجهالات .
والرافضة والجهمية هم الباب لهؤلاء الملحدين ، ومنهم يدخلون إلى أصناف الإلحاد في أسماء الله وفي آيات كتابه المبين ، كما قرر ذلك رؤوس الملحدة من القرامطة الباطنية ، وغيرهم من المنافقين .
وذكر من أحضر هذا الكتاب أنه من أعظم الأسباب في تقرير مذاهبهم عند من مال إليهم ، من الملوك وغيرهم ، وقد صنفه للملك المعروف الذي سماه : خدابنده ، وطلبوا مني بيان ما في هذا الكتاب من الضلال وباطل الخطاب ، لما في ذلك من نصر عباد الله المؤمنين ، وبيان بطلان أقوال المفترين الملحدين ، فأخبرتهم أن هذا الكتاب وإن كان من أعلى ما يقولونه في باب الحجة والدليل ، فالقوم من أضل الناس عن سواء السبيل . فإن الأدلة إما نقلية ، وإما عقلية، و القوم من أضل الناس في المنقول والمعقول ، في المذهب التقرير، وهم من أشبه الناس بمن قال الله تعالى فيهم : وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِير ( ).
وهم من أكذب الناس في النقليات ، ومن أجهل الناس في العقليات ، يصدقون من المنقول بما يعلم العلماء بالاضطرار أنه من الأباطيل ، ويكذبون بالمعلوم من الاضطرار المتواتر أعظم تواتر في الأمة جيلا بعد جيل .
ولا يميزون في نقلة العلم ورواة الأخبار بين المعروف الكذب ، أو الغلط ، أو الجهل ، بما ينقل ، وبين العدل الحافظ الضابط المعروف بالعلم ، والآثار ، وعمدتهم في نفس الأمر على التقليد ، وإن ظنوا إقامته بالبرهانيات . فتارة يتبعون المعتزلة والقدرية ، وتارة يتبعون المجسمة والجبرية .
وهم من أجهل هذه الطوائف بالنظريات ، ولهذا كانوا عند عامة أهل العلم والدين ، من أجهل الطوائف الداخلين في المسلمين ، ومنهم من أدخل على الدين من الفساد ، ما لا يحصيه إلا رب العباد فملاحدة الاسماعيلية ، والنصيرية ، وغيرهم من الباطنية المنافقين ، من بابهم دخلوا .
وأعداءالاسلام من المشركين وأهل الكتاب بطريقهم وصلوا ، واستولوا بهم على بلاد الاسلام ، وسبوا الحريم ، وأخذوا الأموال ، وسفكوا الدم الحرام ، وجرى على الأمة بمعاونتهم من فساد الدنيا والدين ما لا يعلمه إلا رب العالمين .
إذا كان أصل المذهب من إحداث الزنادقة المنافقين ، الذين عاقبهم في حياته علي أمير المؤمنين _ _ فحرق منهم طائفة بالنار ، وطلب قتل بعضهم ففروا من سيفه البتار ، وتوعد بالجلد طائفة مفترية فيما عرف عنه من الأخبار ، إذ قد تواتر عنه من الوجوه الكثيرة أنه قال . على منبر الكوفة ، وقد أسمع من حضر : ((خير هذه الأمة بعد نبيها ، أبو بكر ثم عمر )) ( ) وبذلك أجاب ابنه محمد بن الحنفية ، فيما رواه البخاري ، في صحيحه وغيره من علماء الملة الحنيفية .
ولهذا كانت الشيعة المتقدمون الذين صحبوا عليا ، أو كانوا في ذلك الزمان ، لم يتنازعوا في تفضيل أبي بكر وعمر ، وإنما كان نزاعهم في تفضيل علي وعثمان ، وهذا مما يعترف به علماء الشيعة الأكابر من الأوائل والأواخر حتى ذكر مثل ذلك أبو القاسم البلخي .
قال : سأل سائل شريك بن عبد الله ، فقال له أيهما أفضل أبو بكر أو علي ؟ فقال له : أبو بكر . فقال له السائل : تقول هذا وأنت شيعي ؟ فقال له نعم . من لم يقل هذا فليس شيعيا ، والله لقد رقى هذه الأعواد علي ، فقال : ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ، ثم عمر فكيف نرد قوله ؟ وكيف نكذبه ؟ والله ما كان كذابا . نقل هذا عبد الجبار الهمداني في كتاب تثبيت النبوة ( ) .
قال ذكره أبو القاسم البلخي في النقض على ابن الراوندي على اعتراضه على الجاحظ .
( فصل )
فلما ألحوا في طلب الرد لهذا الضلال المبين ، ذاكرين أن في الإعراض عن ذلك خذلانا للمؤمنين ، وظن أهل الطغيان نوعا من العجز عن رد البهتان، فكتبت ما يسره الله تعالى من البيان ، وفاء بما أخذه الله من الميثاق على أهل العلم والإيمان ، وقياما بالقسط وشهادة لله ، كما قال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ ِللهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُم أَوِ الَوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِين إِنْ يَكُنْ غَنِيًا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَوَلَّوْا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( ) .
واللي هو تغيير الشهادة ، والإعراض هو كتمانها .
والله تعالى قد أمر بالصدق والبيان ، ونهى عن الكذب والكتمان ، فيما يحتاج إلى معرفته وإظهاره ، كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم في الحديث المتفق عليه : ((البيعان بالخيار مالم يتفرقا فإن صدقا وبينا ، بورك لهما في بيعهما ، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما )) ( ) .
لا سيما الكتمان إذا لعن آخر هذه الأمة أولها ، كما في الأثر (إذا لعن آخر هذه الأمة أولها ، فمن كان عنده علم فليظهره ، فإن كاتم العلم يومئذ ككاتم ما أنزل الله على محمد )( ) .
وذلك أن أول هذه الأمة هم الذين قاموا بالدين ، تصديقا وعلما وعملا ، وتبليغا ، فالطعن فيهم طعن في الدين ، موجب للإعراض عما بعث الله به النبيين .
وهذا كان مقصود أول من أظهر بدعة التشيع ، فإنما كان قصده الصد عن سبيل الله ، وإبطال ما جاءت به الرسل عن الله تعالى ، ولهذا كانوا يظهرون ذلك بحسب ضعف الملة ، فظهر في الملاحدة حقيقة هذه البدعة المضلة .
لكن راج كثير منها على من ليس من المنافقين الملحدين ، لنوع من الشبهة والجهالة المخلوطة بهوى ، فقبل معه الضلالة وهذا أصل كل باطل ، قال تعالى : وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى فنزه الله رسوله عن الضلال والغي ، والضلال عدم العلم ، والغي اتباع الهوى كما قال تعالى وَحَمَلَهَا الإِنْسَان إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً ( ) فالظلوم غاو ، والجهول ضال ، إلا من تاب الله عليه .
وهذا حال أهل البدع المخالفة للكتاب والسنة ، فإنهم إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ، ففيهم جهل وظلم ، لا سيما الرافضة ، فإنهم أعظم ذوى الأهواء جهلا وظلما ، يعادون خيار أولياء الله تعالى - من بعد النبيين ، من السابقين الأولين ، من المهاجرين والأنصار ، والذين اتبعوهم بإحسان م ورضوا عنه ،و يوالون الكفار والمنافقين من اليهود والنصارى والمشركين وأصناف الملحدين ، كالنصيرية والإسماعيلية وغيرهم من الضالين ، فتجدهم أو كثيرا منهم إذا اختصم خصمان في ربهم من المؤمنين والكفار ، واختلف الناس فيما جاءت به الأنبياء فمنهم من آمن ومنهم من كفر ، سواء كان الاختلاف بقول أو عمل ، كالحروب التي بين المسلمين وأهل الكتاب والمشركين .
تجدهم يعاونون المشركين وأهل الكتاب على المسلمين أهل القرآن ، كما قد جربه الناس منهم غير مرة ، في مثل إعانتهم للمشركين من الترك وغيرهم على أهل الاسلام ، بخراسان والعراق والجزيرة والشام ، وغير ذلك .
وإعانتهم للنصارى على المسلمين بالشام ، ومصر وغير ذلك في وقائع متعددة .
من أعظم الحوادث التي كانت في الإسلام ، في المائة الرابعة والسابعة، فإنه لما قدم كفار الترك إلى بلاد الإسلام ، وقتل من المسلمين ما لا يحصى عدده إلا رب الأنام ، كانوا من أعظم الناس عداوة للمسلمين ومعاونة للكافرين، وهكذا معاونتهم لليهود أمر شهير ، حتى جعلهم الناس لهم كالحمير.
( فصل )
مشابهة الرافضة لليهود والنصارى من وجوه كثيرة
وهذا المصنف سمى كتابه : منهاج الكرامة في معرفة الإمامة، وهو خليق بأن يسمى : منهاج الندامة ، كما أن من ادعى الطهارة ، وهو من الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم ، بل من أهل الجبت والطاغوت والنفاق ، كان وصفه بالنجاسة والتكدير ، أولى من وصفه بالتطهير .
ومن أعظم خبث القلوب أن يكون في قلب العبد غل لخيار المؤمنين ، وسادات أولياء الله بعد النبيين ، ولهذا لم يجعل الله تعالى في الفيء نصيبا لمن بعدهم ، إلا الذين يقولون : رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيم .
ولهذا كان بينهم وبين اليهود من المشابهة واتباع الهوى وغير ذلك من أخلاق اليهود .
وبينهم وبين النصارى من المشابهة في الغلو والجهل ، واتباع الهوى وغير ذلك من أخلاق النصارى ، ما أشبهوا به هؤلاء من وجه وهؤلاء من وجه ، وما زال الناس يصفونهم بذلك .
ومن اخبر الناس بهم الشعبي ، وأمثاله من علماء الكوفة .
وقد ثبت عن الشعبي أنه قال : ما رأيت أحمق من الخشبية ، لو كانوا من الطير لكانوا رخما ، ولو كانوا من البهائم لكانوا حمرا ، والله لو طلبت منهم ان يملؤا هذا البيت ذهبا على أن أكذب على علي لأعطوني ، والله ما أكذب عليه أبدا ، وقد روى هذا الكلام عنه مبسوطا لكن ، الأظهر أن المبسوط من كلام غيره .
كما روى أبو حفص بن شاهين ( ) في كتاب اللطف في السنة : حدثنا محمد بن أبي القاسم بن هارون ، حدثنا أحمد بن الوليد الواسطي ، حدثني جعفر بن نصير الطوسي الواسطي ، عن عبد الرحمن بن مالك بن مغول ، عن أبيه ، قال . قال الشعبي : أحذركم أهل هذه الأهواء المضلة ، وشرها الرافضة ، لم يدخلوا في الاسلام رغبة ولا رهبة، ولكن مقتا لأهل الاسلام وبغيا عليهم ، وقد حرقهم علي ونفاهم إلى البلدان .
ومنهم عبد الله بن سبأ من يهود صنعاء ، نفاه إلى سباباط ، وعبد الله بن يسار نفاه إلى خاذر ، وآية ذلك أن محنة الرافضة ، محنة اليهود . قالت اليهود : لا يصلح الملك إلا في آل داود ، وقالت الرافضة لا تصلح الإمامة إلا في ولد علي ، وقالت اليهود : لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج المسيح الدجال ، وينزل سيف من السماء ، وقالت الرافضة : لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج المهدي، وينادي مناد من السماء .
واليهود يؤخرون الصلاة إلى اشتباك النجوم ، وكذلك الرافضة يؤخرون المغرب إلى اشتباك النجوم ، والحديث عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال :((لا تزال أمتي على الفطرة مالم يؤخروا المغرب إلى اشتباك النجوم))( ) .
واليهود تزول عن القبلة شيئا ، وكذلك الرافضة ، واليهود تنود في الصلاة ، وكذلك الرافضة ، واليهود تسدل أثوابها في الصلاة ، وكذلك الرافضة .
واليهود لا يرون على النساء عدة ، وكذلك الرافضة ، واليهود حرفوا التوراة ، وكذلك الرافضة حرفوا القرآن . واليهود قالوا : افترض الله علينا خمسين صلاة ، وكذلك الرافضة .
واليهود لا يخلصون السلام على المؤمنين إنما يقولون : السام عليكم _ والسام الموت _ وكذلك الرافضة ، واليهود لا يأكلون الجرى( ) والمرماهى . والذناب ، وكذلك الرافضة.
واليهود لا يرون المسح على الخفين ، وكذلك الرافضة .
واليهود يستحلون أموال الناس كلهم ، وكذلك الرافضة . وقد أخبرنا الله عنهم في القرآن أنهم: قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِيِّينَ سَبِيل ( ) وكذلك الرافضة.
واليهود تسجد على قرونها في الصلاة ، وكذلك الرافضة ، واليهود لا تسجد حتى تخفق برؤوسها مرارا شبه الركوع ، وكذلك الرافضة .
واليهود تبغض جبريل ، ويقولون هو عدونا من الملائكة ، وكذلك الرافضة ، يقولون غلط جبريل بالوحي على محمد .
وكذلك الرافضة وافقوا النصارى في خصلة : النصارى ليس لنسائهم صداق إنما يتمتعون بهن تمتعا ، وكذلك الرافضة يتزوجون بالمتعة ، ويستحلون المتعة ، وفضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلتين ، سئلت اليهود : من خير أهل ملتكم ؟ قالوا : أصحاب موسى ، وسئلت النصارى من خير أهل ملتكم ؟ قالوا : حواري عيسى . وسئلت الرافضة من شر أهل ملتكم ؟ قالوا أصحاب محمد .
أمروا بالاستغفار لهم ، فسبوهم والسيف عليهم مسلول إلى يوم القيامة ، لا تقوم لهم راية ، ولا يثبت لهم قدم ولا تجتمع لهم كلمة ، ولا تجاب لهم دعوة ، دعوتهم مدحوضة ، وكلمتهم مختلفة ، وجمعهم متفرق ، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله .
( قلت ) : هذا الكلام بعضه ثابت عن الشعبي كقوله : لو كانت الشيعة من البهائم لكانوا حمرا ، ولو كانت من الطير لكانوا رخما ، فإن هذا ثابت عنه .
قال ابن شاهين : حدثنا محمد بن العباس النحوي ، حدثنا ابراهيم الحربي ، حدثنا أبو الربيع الزهراني، حدثنا وكيع بن الجراح ، حدثنا مالك بن مغول ، فذكره وأما السياق المذكور ، فهو معروف عن عبد الرحمن بن مالك بن مغول ، عن أبيه ، عن الشعبي .
وروى أبو عاصم خشيش بن أصرم( ) في كتابه ورواه من طرقه أبو عمرو الطلمنكي ، في كتابه في الأصول ، قال . حدثنا ابن جعفر الرقي ، عن عبد الرحمن بن مالك بن مغول ، عن أبيه ، قال قلت لعامر الشعبي : ما ردك عن هؤلاء القوم ، وقد كنت فيهم رأسا ، قال رأيتهم يأخذون بأعجاز لا صدور لها .
ثم قال لي : يا مالك لو أردت أن يعطوني رقابهم عبيدا ، أو يملؤا لي بيتي ذهبا ، أو يحجوا إلى بيتي هذا ، على أن اكذب على علي لفعلوا ، ولا . والله أكذب عليه أبدا ، يا مالك إني قد درست أهل الأهواء فلم أر فيهم أحمق من الخشبية ، فلو كانوا من الطير لكانوا رخما ، ولو كانوا من الدواب لكانوا حمرا ، يا مالك لم يدخلوا في الاسلام رغبة فيه لله ولا رهبة من الله ، ولكن مقتا من الله عليهم ، وبغيا منهم على أهل الإسلام .
يريدون أن يغمصوا دين الإسلام ، كما غمص بولص بن يوشع ملك اليهود دين النصرانية ، ولا تتجاوز صلاتهم آذانهم .
قد حرقهم علي بن أبي طالب بالنار ، ونفاهم من البلاد .
منهم عبد الله بن سبأ ، يهودي من يهود صنعاء ، نفاه إلى ساباط وأبو بكر الكروس ، نفاه إلى الجابية ، وحرق منهم قوما ، أتوه فقالوا : أنت هو . فقال : من أنا . فقالوا : أنت ربنا . فأمر بنار فأججت ، فألقوا فيها ، وفيهم قال علي :
لما رأيت الأمر أمرا منكرا أججت ناري ودعوت قنبرا
يا مالك إن محنتهم محنة اليهود ، قالت اليهود : لا يصلح الملك إلا في آل داود ، وكذلك قالت الرافضة : لا تصلح الإمامة إلا في ولد علي .
وقالت اليهود : لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج المسيح الدجال وينزل سيف من السماء ، وكذلك الرافضة قالوا : لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج الرضا من آل محمد وينادي مناد من السماء اتبعوه .
وقالت اليهود : فرض الله علينا خمسين صلاة في كل يوم وليلة ، وكذلك قالت الرافضة .
واليهود لا يصلون المغرب حتى تشتبك النجوم ، وقد جاء عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : ((لا تزال أمتي على الاسلام مالم تؤخر المغرب إلى اشتباك النجوم ))( ) مضاهاة لليهود، وكذلك الرافضة، واليهود إذا صلوا زالوا عن القبلة شيئا ، وكذلك الرافضة.
واليهود تنود في صلاتها ، وكذلك الرافضة . واليهود يسدلون أثوابهم في الصلاة ، وقد بلغني أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مر برجل سادل ثوبه فعطفه عليه ، وكذلك الرافضة .
واليهود حرفوا التوراة ، وكذلك الرافضة حرفوا القرآن . واليهود يسجدون في صلاة الفجر الكندرة ، وكذلك الرافضة . واليهود لا يخلصون بالسلام إنما يقولون : سام عليكم . وهو الموت _ وكذلك الرافضة ، واليهود عادوا جبريل فقالوا : هو عدونا . وكذلك الرافضة قالوا : أخطأ جبريل بالوحي . و اليهود يستحلون أموال الناس ، وقد نبأنا الله عنهم أنهم قالوا قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِيِّينَ سَبِيل ، وكذلك الرافضة يستحلون مال كل مسلم .
واليهود ليس لنسائهم صداق وإنما يتمتعون متعة ، وكذلك الرافضة يستحلون المتعة ، واليهود يستحلون دم كل مسلم ، وكذلك الرافضة .
واليهود يرون غش الناس ، وكذلك الرافضة . واليهود لا يعدون الطلاق شيئا إلا عند كل حيضة ، وكذلك الرافضة .
واليهود لا يرون العزل عن السرارى ، وكذلك الرافضة . واليهود يحرمون الجرى والمرماهى ، وكذلك الرافضة .
واليهود حرموا الأرنب والطحال ، وكذلك الرافضة . واليهود لا يرون المسح على الخفين ، وكذلك الرافضة . واليهود لا يلحدون، وكذلك الرافضة . وقد ألحد لنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم . واليهود يدخلون مع موتاهم في الكفن سعفة رطبة ، وكذلك الرافضة.
ثم قال يا مالك : وفضلهم اليهود والنصارى بخصلة ، قيل لليهود : من خير أهل ملتكم ؟ قالوا : أصحاب موسى ، وقيل للنصارى من خير أهل ملتكم؟ قالوا : حواري عيسى ، وقيل للرافضة من شر أهل ملتكم ؟ قالوا : حواري محمد _ يعنون بذلك طلحة والزبير _ أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم ، والسيف مسلول عليهم إلى يوم القيامة ، ودعوتهم مدحوضة ، ورايتهم مهزومة ، وأمرهم متشتت ، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ، ويسعون في الأرض فسادا ، والله لا يحب المفسدين .
وقد روى أبو القاسم الطبري( ) في شرح اصول السنة نحو هذا الكلام من حديث وهب بن بقية الواسطي ، عن محمد بن حجر الباهلي ، عن عبد الرحمن بن مالك بن مغول من وجوه متعددة يصدق بعضها بعضا ، وبعضها يزيد على بعض ، لكن عبد الرحمن بن مالك بن مغول ضعيف ، وذم الشعبي لهم ثابت من طرق أخرى، لكن لفظ الرافضة إنما ظهر لما رفضوا زيد بن علي بن الحسين ، في خلافة هشام ، وقصة زيد بن علي بن الحسين ، كانت بعد العشرين ومائة سنة إحدى و عشرين ،أو اثنتين وعشرين ومائة في آخر خلافة هشام . قال أبو حاتم البستى : قتل زيد بن علي بن الحسين بالكوفة سنة اثنتين وعشرين ، فصلب على خشبة ، وكان من أفاضل أهل البيت وعلمائهم ، وكانت الشيعة تنتحله .
متى سموا رافضة وكذا الزيدية
( قلت ) : ومن زمن خروج زيد افترقت الشيعة إلى رافضة وزيدية ، فإنه لما سئل عن ابي بكر وعمر . فترحم عليهما ، رفضه قوم فقال لهم : رفضتموني ، فسموا رافضة ، لرفضهم إياه ، وسمي من لم يرفضه من الشيعة زيديا ، لانتسابهم إليه ، ولما صلب كانت العباد تأتي إلى خشبته بالليل ، فيتعبدون عندها .
والشعبي توفي في أوائل خلافة هشام ، أواخر خلافة يزيد بن عبد الملك أخيه ، سنة خمس ومائة ، أو قريبا من ذلك . فلم يكن لفظ الرافضة معروفا إذ ذاك .
وبهذا وغيره يعرف كذب لفظ الأحاديث المرفوعة التي فيها لفظ الرافضة ، ولكن كانوا يسمون بغير ذلك الاسم ، كما يسمون بالخشبية لقولهم إنا لا نقاتل بالسيف إلا مع إمام معصوم ، فقاتلوا بالخشب .
ولهذا جاء في بعض الروايات عن الشعبي : ما رأيت أحمق من الخشبية، فيكون المعبر عنهم بلفظ الرافضة ذكره بالمعنى ، مع ضعف عبد الرحمن ، ومع أن الظاهر أن هذا الكلام ، إنما هو نظم عبد الرحمن بن مالك بن مغول وتأليفه ، وقد سمع منه طرفا عن الشعبي ، وسواء كان هو ألفه ونظمه لما رآه من أمور الشيعة في زمانه ، ولما سمع عنهم ، أو لما سمع من أقوال أهل العلم فيهم ، أو بعضه أو مجموع الأمرين ، أو بعضه لهذا وبعضه لهذا ، فهذا الكلام معروف بالدليل الذي لا يحتاج فيه إلى نقل وإسناد ، وقول القائل : إن الرافضة تفعل كذا ، المراد به بعض الرافضة ، كقوله تعالى : وَقَاَلتْ الَيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ الله ( ) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةً غُلَّتْ أَيْدِيهِم ( ).
لم يقل ذلك كل يهودي ، بل فيهم من قال ذلك . وما ذكره موجود في الرافضة .
وفيهم أضعاف ما ذكره ، مثل تحريم بعضهم للحم الأوز ، والجمل ، مشابهة لليهود .
ومثل جمعهم بين الصلاتين دائما ، فلا يصلون إلا في ثلاثة أوقات ، مشابهة لليهود .
ومثل قولهم أنه لا يقع الطلاق إلا بالإشهاد على الزوج مشابهة لليهود ، ومثل تنجيسهم لأبدان غيرهم من المسلمين وأهل الكتاب وتحريمهم لذبائحهم ، وتنجيسهم ما يصيب ذلك من المياه والمائعات ، وغسل الآنية التي يأكل منها غيرهم ، مشابهة للسامرة الذين هم شر اليهود ، ولهذا تجعلهم الناس في المسلمين كالسامرة في اليهود .
ومثل استعمالهم التقية ، وإظهار خلاف ما يبطنون من العداوة، مشابهة لليهود ونظائر ذلك كثير .
ذكر بعض حماقات الرافضة
وأما سائر حماقاتهم فكثيرة جدا ، مثل كون بعضهم لا يشرب من نهر حفره يزيد ، مع أن النبي والذين كانوا معه كانوا يشربون من آبار وأنهار حفرها الكفار .
وبعضهم لا يأكل من التوت الشامي ، ومعلوم أن النبي ومن معه كانوا يأكلون مما يجلب من بلاد الكفار ،من الجبن ، ويلبسون ما تنسجه الكفار، بل غالب ثيلبهم كانت من نسيج الكفار .
ومثل كونهم يكرهون التكلم بلفظ العشرة ، أو فعل أي شيء يكون عشرة ، حتى في البناء لا يبنون على عشرة أعمدة ، ولا بعشرة جذوع ونحو ذلك ، لكونهم يبغضون خيار الصحابة _ وهم العشرة _ المشهود لهم بالجنة ، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح رضوان الله عليهم أجمعين ، يبغضون هؤلاء إلا علي بن أبي طالب ، ويبغضون السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، الذين بايعوا رسول الله ، تحت الشجرة ، وكانوا ألفا وأربعمائة .
وقد أخبر الله أنه قد رضي عنهم . وثبت في صحيح مسلم وغيره ، عن جابر أيضا . أن غلام حاطب بن أبي بلتعة قال : يا رسول الله والله ليدخلن حاطب النار ، فقال النبي : (( كذبت ، إنه شهد بدرا والحديبية ))( ) .
وهم يتبرؤون من جمهور هؤلاء . بل يتبرؤون من سائر أصحاب رسول الله ، إلا نفرا قليلا نحو بضعة عشر ، ومعلوم أنه لو فرض في العالم عشرة من أكفر الناس ، لم يجب هجر هذا الاسم لذلك ، كما أنه سبحانه وتعالى لما قال : وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فيِ الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُون ( ).
لم يجب هجر اسم التسعة مطلقا ، بل اسم العشرة قد مدح الله مسماه في مواضع ، كقوله تعالى في متعة الحج : فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشْرَةٌ كَامِلَة ( ) .
وقال تعالى : وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْر فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَة ( ) .
وقال تعالى : وَاٌلْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ .
وقد ثبت في الصحيح أن النبي كان يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان حتى توفاه الله تعالى( ) .
وقال في ليلة القدر التمسوها في العشر الأواخر( ) .
وقد ثبت في الصحيح أن النبي قال : (( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر)) ( ) نظائر ذلك متعددة .
ومن العجيب أنهم يوالون لفظ التسعة ، وهم يبغضون التسعة من العشرة فإنهم يبغضونهم إلا عليا ، وكذلك هجرهم لاسم أبي بكر وعمر وعثمان ولمن يتسمى بذلك ، حتى يكرهون معاملته ، ومعلوم أن هؤلاء لو كانوا من أكفر الناس ، لم يشرع أن لا يتسمى الرجل بمثل أسمائهم ، فقد كان في الصحابة من اسمه الوليد .
وكان النبي يقنت في الصلاة ، ويقول اللهم أنج الوليد بن الوليد بن المغيرة( )وأبوه وكان من أعظم الناس كفرا ، وهو الوحيد المذكور في قوله تعالى : ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ( ) وفي الصحابة من اسمه عمرو ، وفي المشركين من اسمه عمرو بن عبدود ، وأبو جهل اسمه عمرو بن هشام .
وفي الصحابة خالد بن سعيد بن العاص من السابقين الأولين ، وفي المشركين خالد بن سفيان الهذلي .
وفي الصحابة من اسمه هشام مثل هشام بن حكيم ، وأبو جهل كان اسم أبيه هشاما . وفي الصحابة من اسمه عقبة مثل أبي مسعود عقبة بن عمرو البدري ، وعقبة بن عامر الجهني ، وكان في المشركين عقبة بن أبي معيط .
وفي الصحابة علي وعثمان ، وكان في المشركين من اسمه علي مثل علي بن أمية بن خلف ، قتل يوم بدر كافرا ، ومثل عثمان بن طلحة قتل قبل أن يسلم ، ومثل هذا كثير .
فلم يكن النبي والمؤمنون يكرهون اسما من الأسماء لكونه قد تسمى به كافر من الكفار ، فلو قدر أن المسلمين بهذه الأسماء كفار ، لم يوجب ذلك كراهة هذه الأسماء مع العلم لكل أحد بأن النبي كان يدعوهم بها ، ويقر الناس على دعائهم بها .
وكثير منهم يزعم أنهم كانوا منافقين ، وكان النبي يعلم أنهم منافقون، وهو مع هذا يدعوهم بها ، وعلي بن أبي طالب قد سمى بها أولاده فعلم أن جواز الدعاء بهذه الأسماء سواء كان ذلك المسمى بها مسلما أو كافرا أمر معلوم من دين الاسلام ، فمن كره أن يدعو أحدا بها كان من أظهر الناس مخالفة لدين الإسلام ، ثم مع هذا إذا تسمى الرجل عندهم باسم علي، أو جعفر أو حسن او حسين أو نحو ذلك ، عاملوه وأكرموه ، ولا دليل لهم في ذلك على أنه منهم .
ومن حماقاتهم أيضا أنهم يجعلون للمنتظر عدة مشاهد ينتظرونه فيها ، كالسرداب الذي بسامرا الذي يزعمون أنه غائب فيه.
ومشاهد أخرى وقد يقيمون هناك دابة إما بغلة وإما فرسا ، وإما غير ذلك ليركبها إذا خرج ، ويقيمون هناك إما في طرفي النهار وإما في أوقات أخرى من ينادي عليه بالخروج يا مولانا اخرج ، ويشهرون السلاح ولا أحد هناك يقاتلهم ، وفيهم من يقوم في أوقات دائما لا يصلي ، خشية أن يخرج وهو في الصلاة فيشتغل بها عن خروجه ، وخدمته ، وهم في أماكن بعيدة عن مشهده كمدينة النبي إما في العشر الأواخر من شهر رمضان.
وإما في غير ذلك يتوجهون إلى المشرق ، وينادون بأصوات عالية يطلبون خروجه ، ومن المعلوم أنه لو كان موجودا وقد أمره الله بالخروج فإنه يخرج ، سواء نادوه أو لم ينادوه ، وإن لم يؤذن له فهو لا يقبل منهم ، وإنه إذا خرج فإن الله يؤيده ويأتيه بما يركبه ، وبمن يعينه وينصره ، لا يحتاج أن يوقف له دائما من الآدميين من ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، والله سبحانه وتعالى قد عاب في كتابه من يدعو من لا يستجيب دعاءه فقال تعالى : ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَ لاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ( )هذا مع أن الأصنام موجودة ، وكان يكون بها أحيانا شياطين تتراءى لهم وتخاطبهم .
ومن خاطب معدوما كانت حالته أسوأ من حال من خاطب موجودا ، وإن كان جمادا ، فمن دعا المنتظر الذي لم يخلقه الله ، كان ضلاله أعظم من ضلال هؤلاء ، وإذا قال أنا أعتقد وجوده كان بمنزلة قول أولئك نحن نعتقد أن هذه الأصنام لها شفاعة عند الله فيعبدون من دون الله ما لاينفعهم و لا يضرهم و يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله .
و المقصود أن كليهما يدعو من لا ينفع دعاؤه ، وإن كان أولئك اتخذوهم شفعاء آلهة ، وهؤلاء يقولون هو إمام معصوم فهم يوالون عليه . ويعادون عليه كموالاة المشركين على آلهتهم ، ويجعلونه ركنا في الإيمان لا يتم الدين إلا به ، كما يجعل بعض المشركين آلهتهم كذلك وقال تعالى : مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيْيِنَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ . وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنَّبِْييِنَ أَرْبَابَاً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ( ) .
فإذا كان من يتخذ الملائكة والنبيين أربابا بهذه الحال ، فكيف بمن يتخذ إماما معدوما لا وجود له؟ وقد قال تعالى : اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابَاً مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهَاً وَاحِداً لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( ) وقد ثبت في الترمذي وغيره من حديث عدي بن حاتم أنه قال : (( يا رسول الله ما عبدوهم . فقال : إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم ، فكانت تلك عبادتهم إياهم )) ( ) فهؤلاء اتخذوا أناسا موجودين ، أربابا .
وهؤلاء يجعلون الحرام والحلال معلقا بالإمام المعدوم ، الذي لا حقيقة له ، ثم يعملون بكل ما يقول المثبتون أنه يحلله ويحرمه ، وإن خالف الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة ، حتى إن طائفتهم إذا اختلفت على قولين فالقول الذي لا يعرفه قائله هو الحق ، لأنه قول هذا الإمام المعصوم ، فيجعلون الحلال ما حلله والحرام ما حرمه هذا الذي لا يوجد . وعند من يقول إنه موجود لا يعرفه أحد ، ولا يمكن أحدا أن ينقل عنه كلمة واحدة .
ومن حماقاتهم تمثيلهم لمن يبغضونه مثل اتخاذهم نعجة وقد تكون نعجة حمراء ، لكون عائشة تسمى الحميرا يجعلونها عائشة ويعذبونها بنتف شعرها، وغير ذلك ، ويرون أن ذلك عقوبة لعائشة و مثل ا تخاذهم حلسا مملوءا سمنا يشقون بطنه فيخرج السمن فيشربونه ، ويقولون هذا مثل ضرب عمر وشرب دمه .
ومثل تسمية بعضهم لحمارين من حمر الرحا أحدهما بأبي بكر ، والآخر بعمر ثم عقوبة الحمارين جعلا منهم تلك العقوبة عقوبة لأبي بكر وعمر ، وتارة يكتبون أسماءهم على اسفل أرجلهم حتى أن بعض الولاة جعل يضرب رجلي من فعل ذلك ويقول إنما ضربت أبا بكر وعمر ، ولا أزال أضربهما حتى أعدمهما .
ومنهم من يسمي كلابه باسم أبي بكر وعمر ، ويلعنهما ومنهم من إذا سمى كلبه فقيل له بكير يضارب من يفعل ذلك ، ويقول تسمى كلبي باسم أصحاب النار .
ومنهم من يعظم أبا لؤلؤة المجوسي الكافر الذي كان غلاما للمغيرة بن شعبة ، لما قتل عمر ، ويقولون : واثارات أبي لؤلؤة فيعظمون كافرا مجوسيا باتفاق المسلمين لكونه قتل عمر .
ومن حماقاتهم إظهارهم لما يجعلونه مشهدا ، فكم كذبوا الناس، وادعوا أن في هذا المكان ميتا من أهل البيت ، وربما جعلوه مقتولا، فيبنون ذلك مشهدا ، وقد يكون ذلك كافرا أو قبر بعض الناس ، ويظهر ذلك بعلامات كثيرة .
ومعلوم أن عقوبة الدواب المسماة بذلك ونحو هذا الفعل لا يكون إلا من فعل أحمق الناس وأجهلهم ، فإنه من المعلوم أنا لو أردنا أن نعاقب فرعون وأبا لهب وأبا جهل وغيرهم ممن ثبت بإجماع المسلمين أنهم من أكفر الناس مثل هذه العقوبة لكان هذا من أعظم الجهل ، لأن ذلك لا فائدة فيه بل إذا قتل كافر ، يجوز قتله أو مات حتف أنفه ، لم يجز بعد قتله أو موته أن يمثل به فلا يشق بطنه أو يجدع أنفه وأذنه ولا تقطع يده إلا أن يكون ذلك على سبيل المقابلة .
فقد ثبت في صحيح مسلم وغيره ، عن بريدة ، عن النبي ، أنه كان إذا بعث أميرا على جيش أو سرية ، أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ، وأوصاه بمن معه من المسلمين خيرا وقال : ((اغزو في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، لا تغلوا ، ولا تغدروا ، ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا ، وليدا )) ( ) وفي السنن أنه كان في خطبته يأمر بالصدقة ، وينهى عن المثلة( ) .
مع أن التمثيل بالكافر بعد موته فيه نكاية بالعدو ، ولكن نهى عنه لأنه زيادة إيذاء بلا حاجة ، فإن المقصود كف شره بقتله ، وقد حصل . فهؤلاء الذين بيغضونهم لو كانوا كفارا وقد ماتوا لم يكن لهم بعد موتهم أن يمثلوا بأبدانهم ، لا يضربونهم ، ولا يشقون بطونهم ولا ينتفون شعورهم ، مع أن في ذلك نكاية فيهم . أما إذا فعلوا ذلك بغيرهم ظنا أن ذلك يصل إليهم كان غاية الجهل ، فكيف إذا كان بمحرم كالشاة التي يحرم إيذاؤها بغير حق ، فيفعلون ما لا يحصل لهم به منفعة أصلا بل ضرر في الدين والدنيا ، والآخرة ، مع تضمنه غاية الحمق والجهل .
ومن حماقتهم إقامة المأتم والنياحة على من قتل من سنين عديدة ، ومن المعلوم أن المقتول وغيره من الموتى إذا فعل مثل ذلك بهم عقب موتهم كان ذلك مما حرمه الله ورسوله ، فقد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال : (( ليس منا من لطم الخدود ، وشق الجيوب ، ودعا بدعوى الجاهلية ))( ) . وثبت في الصحيح عنه أنه برئ من الحالقة والصالقة والشاقة( ) . فالحالقة لتي تحلق شعرها عند المصيبة ، والصالقة التي ترفع صوتها عند المصيبة بالمصيبة والشاقة التي تشق ثيابها .
وفي الصحيح عنه أنه قال :((من نيح عليه فإنه يعذب ، بما نيح عليه))( ). وفي الصحيح عنه أنه قال : ((إن النائحة إذا لم تتب قبل موتها فإنها تلبس يوم القيامة درعا من جرب ، وسربالا من قطران ))( ) .
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ، وهؤلاء يأتون من لطم الخدود ، وشق الجيوب ، ودعوى الجاهلية ، وغير ذلك من المنكرات بعد الموت بسنين كثيرة ما لو فعلوه عقب موته لكان ذلك من أعظم المنكرات التي حرمها الله ورسوله ، فكيف بعد هذه المدة الطويلة ؟ .
ومن المعلوم أنه قد قتل من الأنبياء وغير الأنبياء ظلما وعدوانا من هو أفضل من الحسين ، قتل أبوه ظلما ، وهو أفضل منه ، وقتل عثمان بن عفان، وكان قتله اول الفتن العظيمة التي وقعت بعد موت النبي ، وترتب عليه من الشر والفساد أضعاف ما ترتب على قتل الحسين .
وقتل غير هؤلاء ومات ، وما فعل أحد من المسلمين ولا غيرهم مأتما ولا نياحة على ميت ، ولا قتيل بعد مدة طويلة من قتله ، إلا هؤلاء الحمقى الذين لو كانوا من الطير لكانوا رخما ، ولو كانوا من البهائم لكانوا حمرا ( ) .
ومن ذلك أن بعضهم لا يوقد خشب الطرفاء ، لأنه أبلغه أن دم الحسين وقع على شجرة من الطرفاء . ومعلوم أن تلك الشجرة بعينها لا يكره وقودها ولو كان عليها من أي دم كان ، فكيف بسائر الشجر الذي لم يصبه الدم ؟
ومن حماقاتهم ما يطول وصفها ولا يحتاج أن تنقل بإسناد ، ولكن ينبغي أن يعلم مع هذا أن المقصود أنه من ذلك الزمان القديم يصفهم الناس بمثل هذا، من عهد التابعين وتابعيهم كما ثبت بعض ذلك ، إما عن الشعبي ، وإما أن يكون من كلام عبد الرحمن ، وعلى التقديرين فإن المقصود حاصل ، فإن عبد الرحمن كان في زمن تابعي التابعين .
وإنما ذكرنا هذا لأن عبد الرحمن كثير من الناس لا يحتج بروايته المفردة ، إما لسوء حظه ، وإما لتهمته في تحسين الحديث ، وإن كان له علم ومعرفة بأنواع من العلوم ، ولكن لا يصلح للاعتضاد ، والمتابعة ، كمقاتل بن سليمان ، ومحمد بن عمر الواقدي ، وأمثالهما ، فإن كثرة الشهادات والأخبار قد توجب العلم ، وإن لم يكن كل من المخبرين ثقة حافظا حتى يحصل العلم بمخبر الأخبار المتواترة ، وإن كان المخبرون من أهل الفسوق ، إذا لم يحصل بينهم تشاغر وتواطؤ .
والقول الحق الذي يقوم عليه الدليل يقبل من كل من قاله ، وإن لم يقبل بمجرد إخبار المخبر به .
فلهذا ذكرنا ما ذكره عبد الرحمن بن مالك بن مغول ، فإن غاية ما فيه أنه قاله ذاكرا الأثر وعبد الرحمن هذا يروي عن أبيه ، وعن الأعمش ، وعن عبيد الله بن عمر ، ولا يحتج بمفرداته ، فإنه ضعيف.ومما ينبغي أن يعرف أن ما يوجد في جنس الشيعة من الأقوال والأفعال المذمومة ، وإن كان أضعاف ما ذكرناه لكن قد لا يكون هذا كله في الإمامية الاثني عشرية ، ولا في الزيدية ولكن يكون كثير منه في الغالية ، وفي كثير من عوامهم مثل ما يذكر عنهم من تحريم لحم الجمل ، وأن الطلاق يشترط فيه رضا المرأة ، ونحو ذلك مما يقوله من يقوله من عوامهم وإن كان علماؤهم لا يقولون ذلك ، ولكن لما كان أصل مذهبهم مستند إلى جهل ، كانوا أكثر الطوائف كذبا وجهل.
( فصل )
الرافضة أكذب الناس ، وذلك فيهم قديم وليسوا أهل علم
ونحن نبين إن شاء الله تعالى طريق الاستقامة في معرفة هذا الكتاب ، منهاج الندامة بحول الله وقوته ، وهذا الرجل سلك مسلك سلفه ، شيوخ الرافضة كابن النعمان المفيد ، ومتبعيه كالكراجكي ، وأبي القاسم الموسوي ، والطوسي ، وأمثالهم .
فإن الرافضة في الأصل ليسوا أهل علم ، وخبرة بطريق النظر والمناظرة ، ومعرفة الأدلة ، وما يدخل فيها من المنع والمعارضة ، كما أنهم أجهل الناس بمعرفة المنقولات ، والأحاديث والآثار ، والتمييز بين صحيحها وضعيفها ، وإنما عمدتهم في المنقولات على تواريخ منقطعة الإسناد ، وكثير منها من وضع المعروفين بالكذب وبالإلحاد .
وعلماؤهم يعتمدون على نقل مثل أبي مخنف لوط بن علي ، وهشام بن محمد بن السائب ، وأمثالهما من المعروفين بالكذب عند أهل العلم ، مع أن أمثال هؤلاء هم أجل من يعتمدون عليه ، في النقل إذ كانوا يعتمدون على من هو في غاية الجهل والافتراء ، ممن لا يذكر في الكتب ، ولا يعرفه أهل العلم بالرجال .
وقد اتفق أهل العلم بالنقل والرواية والاسناد على أن الرافضة أكذب الطوائف ، والكذب فيهم قديم ، ولهذا كان أئمة الاسلام يعلمون امتيازهم بكثرة الكذب .
قال أبو حاتم الرازي سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول قال أشهب بن عبد العزيز : سئل مالك عن الرافضة فقال : لا تكلمهم ولا ترو عنهم فإنهم يكذبون .
وقال أبو حاتم حدثنا حرملة قال سمعت الشافعي يقول : لم أر أحدا أشهد بالزور من الرافضة .
وقال مؤمل بن أهاب : سمعت يزيد بن هارون يقول : نكتب عن كل صاحب بدعة إذا لم يكن داعية إلا الرافضة ، فإنهم يكذبون . وقال محمد بن سعيد الأصفهاني سمعت شريكا يقول احمل العلم عن كل من لقيت إلا الرافضة ، فإنهم يضعون الحديث ، ويتخذونه دينا .
وشريك هو شريك بن عبد الله القاضي ، قاضي الكوفة من أقران الثوري وأبي حنيفة ، وهو من الشيعة ، الذي يقول بلسانه أنا من الشيعة . وهذه شهادته فيهم . وقال أبو معاوية سمعت الأعمش يقول : أدركت الناس وما يسمونهم إلا الكذابين ، يعني أصحاب المغيرة بن سعيد .
وقال الأعمش ولا عليكم أن تذكروا هذا فإني لا آمنهم أن يقولوا إنا أصبنا الأعمش مع امرأة ، وهذه آثار ثابتة قد رواها ابوعبد الله بن بطة في الإبانة الكبرى ، هو وغيره .
وروى أبو القاسم الطبري : كان الشافعي يقول : ما رأيت في أهل الأهواء قوما أشهد بالزور من الرافضة ، وهذا المعنى إن كان صحيحا فاللفظ الأول هو الثابت عن الشافعي .
والمقصود هنا أن العلماء كلهم متفقون على أن الكذب في الرافضة أظهر منه في سائر طوائف أهل القبلة .
والرافضة أصل بدعتهم عن زندقة وإلحاد ، وتعمد الكذب فيهم كثير ، وهم يقرون بذلك ، حيث يقولون ديننا التقية ، وهو أن يقول أحدهم بلسانه خلاف ما في قلبه ، وهذا هو الكذب والنفاق ، ويدعون مع هذا أنهم هم المؤمنون دون غيرهم من أهل الملة .
ويصفون السابقين الأولين بالردة والنفاق ، فهم في ذلك كما قيل : (رمتني بدائها وانسلت ) ، إذ ليس في المظهرين للاسلام أقرب إلى النفاق والردة منهم ، ولا يوجد المرتدون والمنافقون في طائفة أكثر مما يوجد فيهم ، واعتبر ذلك بالغالية من النصيرية وغيرهم ، وبالملاحدة والاسماعيلية وأمثالهم.
وعمدتهم في الشرعيات ما ينقل لهم عن بعض أهل البيت ، وذلك النقل منه ما هو صدق ، ومنه ما هو كذب عمدا ، أو خطأ وليسوا أهل معرفة بصحيح المنقول وضعيفه ، كأهل المعرفة بالحديث ، ثم إذا صح النقل عن هؤلاء فإنهم بنوا وجوب قبول قول الواحد من هؤلاء على ثلاثة أصول على أن الواحد من هؤلاء معصوم مثل عصمة الرسول .
وعلى أن ما يقول أحدهم فإنما يقوله نقلا عن الرسول، ويدعون العصمة في هذا النقل .
والثالث أن إجماع العترة حجة ، ثم يدعون أن العترة هم الاثنا عشر ، ويدعون أن ما نقل عن أحدهم فقد أجمعوا كلهم عليه ، فهذه أصول الشرعيات عندهم ، وهي أصول فاسدة ، كما سنبين ذلك في موضعه ، لا يعتمدون على القرآن ، ولا على الحديث ، ولا على الإجماع ، إلا لكون المعصوم منهم.
ولا على القياس ، وإن كان جليا واضحا . وأما أعمدتهم في النظر والعقليات : فقد اعتمد متأخروهم على كتب المعتزلة في الجملة .
والمعتزلة أعقل وأصدق ، وليس في المعتزلة من يطعن في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضوان الله عليهم أجمعين ، بل هم متفقون على تثبيت خلافة الثلاثة ، وأما التفضيل فأئمتهم وجمهورهم كانوا يفضلون أبا بكر وعمر ما، وفي متأخريهم من توقف في التفضيل وبعضهم فضل عليا ، فصار بينهم وبيم الزيدية نسب راجح من جهة المشاركة ، في التوحيد والعدل والإمامة والتفضيل .
الفصل الأول
زعم الرافضة أن الإمامة من أهم أصول الدين
قال المصنف الرافضي أما بعد : فهذه رسالة شريفة ، ومقالة لطيفة اشتملت على أهم المطالب في أحكام الدين ، وأشرف مسائل المسلمين وهي مسألة الإمامة ، التي يحصل بسبب إدراكها نيل درجة الكرامة ، وهي أحد أركان الإيمان ، المستحق بسببه الخلود في الجنان ، والتخلص من غضب الرحمن ، فلقد قال رسول الله : ((من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية )) . خدمت بها خزانة السلطان الأعظم مالك رقاب الأمم ، ملك ملوك طوائف العرب والعجم ، مولى النعم ومسدي الخير والكرم ، شاهنشاه المكرم غياث الملة والحق والدين ( أولجايو خدابنده ) ، قد لخصت فيه خلاصة الدلائل ، وأشرت إلى رؤوس المسائل ، وسميتها منهاج الكرامة ، في معرفة الإمامة ، وقد رتبتها على فصول . الفصل الأول في نقل المذاهب في هذه المسألة ، ثم ذكر الفصل الثاني في أن مذهب الإمامية واجب الاتباع ، ثم ذكر الفصل الثالث في الأدلة على إمامة علي بعد رسول الله ، ثم ذكر الفصل الرابع في الاثني عشر ثم ذكر الفصل الخامس في إبطال خلافة أبي بكر وعمر وعثمان ، فيقال الكلام على هذا من وجوه :
( أحدها ) : أن يقال أولا أن القائل : أن مسألة الامامة أهم المطالب في أحكام الدين ، وأشرف مسائل المسلمين ، كذب بإجماع المسلمين ، سنيهم وشيعيهم ، بل هو كفر ، فإن الإيمان بالله ورسوله أهم من مسألة الامامة .
وهذا معلوم بالاضطرار من دين الاسلام ، فالكافر لا يصير مؤمنا حتى يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وهذا هو الذي قاتل عليه الرسول الكفار كما استفاض عنه في الصحاح وغيرها أنه قال: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم ، إلا بحقها )) ( )
وقد قال تعالى : فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ ( ) . وكذلك قال لعلي لما بعثه إلى خيبر وكذلك كان النبي . يسير في الكفار فيحقن دماءهم بالتوبة من الكفر لا يذكر لهم الامامة بحال وقد قال تعالى بعد هذا : فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ( ) .
فجعلهم إخوانا في الدين بالتوبة ، فإن الكفار على عهد رسول الله كانوا إذا أسلموا أجرى عليهم أحكام الاسلام ، ولم يذكر لهم الإمامة بحال ، ولا نقل هذا عن الرسول أحد من أهل العلم ، لا نقلا خاصا ولا عاما ، بل نحن نعلم بالاضطرار أن النبي صلى الله عليه لم يكن يذكر للناس إذا أرادوا الدخول في دينه الإمامة لا مطلقا ولا معنيا .
فكيف تكون أهم المطالب في أحكام الدين ؟ ومما يبين ذلك ان الامامة بتقدير الاحتياج إلى معرفتها لا يحتاج إليها من مات على عهد رسول الله _ فكيف يكون أشرف مسائل المسلمين وأهم المطالب في الدين لا يحتاج إليه أحد على عهد النبي .
أوليس الذين آمنوا بالنبي في حياته واتبعوه باطنا وظاهرا ولم يرتدوا ولم يبدلوا هم أفضل الخلق باتفاق المسلمين أهل السنة والشيعة ، فكيف يكون أفضل المسلمين لا يحتاج إلى أهم المطالب في الدين ؟ وأشرف مسائل المسلمين ؟ .
فإن قيل إن النبي كان هو الإمام في حياته، وإنما يحتاج إلى الامام بعد مماته فلم تكن هذه المسألة أهم مسائل الدين في حياته وإنما صارت أهم مسائل الدين بعد موته قيل: الجواب عن هذا من وجوه :
( أحدها ) : أنه بتقدير صحة ذلك لا يجوز أن يقال إنها أهم مسائل الدين مطلقا ، بل في وقت دون وقت ، وهي في خير الأوقات ليست أهم الطالب في أحكام الدين ولا أشرف مسائل المسلمين .
( الثاني ) : أن يقال الإيمان بالله ورسوله في كل زمان ومكان أعظم من مسألة الامامة ، فلم تكن في وقت من الأوقات لا الأهم ولا الأشرف .
( الثالث ) : أن يقال فقد كان يجب بيانها من النبي لأمته الباقين من بعده ، كما بين لهم أمور الصلاة والزكاة والصيام والحج ، وعين أمر الإيمان بالله وتوحيده واليوم الآخر .
ومن المعلوم أنه ليس بيان مسألة الإمامة في الكتاب والسنة ببيان هذه الأصول ، فإن قيل بل الإمامة في كل زمان هي الأهم والنبي كان نبيا إماما وهذا كان معلوما لمن آمن به أنه كان إمام ذلك الزمان قيل الاعتذار بهذا باطل من وجوه :
( أحدها ) : أن قول القائل الإمامة أهم المطالب في أحكام الدين إما أن يريد به إمامة الاثني عشر أو إمامة إمام كل زمان بعينه في زمانه بحيث يكون الأهم في زماننا الإيمان بإمامة محمدالمنتظر، والأهم في زمان الخلفاء الأربعة الإيمان بإمامة علي عندهم ، والأهم في زمان النبي الإيمان بإمامته .
وإما أن يريد به الإيمان بأحكام الإمامة مطلقا غير معين . وإما أن يريد به معنى رابعا ، أما الأول فقد علم بالاضطرار أن هذا لم يكن معلوما شائعا بين الصحابة ولا التابعين بل الشيعة تقول أن كل واحد إنما يعين بنص من قبله ، فبطل أن يكون هذا أهم أمور الدين.
وأما الثاني فعلى هذا التقدير يكون أهم المطالب في كل زمان الإيمان بإمام ذلك الزمان ، ويكون الإيمان من سنة ستين ومائتين إلى هذا التاريخ إنما هو الإيمان بإمامة محمد بن الحسن ، ويكون هذا أعظم من الإيمان بأنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، ومن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت ، ومن الإيمان بالصلاة والزكاة والصيام والحج وسائر الواجبات ، وهذا مع أنه معلوم فساده بالاضطرار من دين الاسلام ، فليس هو قول الإمامية ، فإن اهتمامهم بعلي وإمامته أعظم من اهتمامهم بإمامة المنتظر كما ذكره هذا المصنف ، وأمثاله من شيوخ الشيعة .
وأيضا فإن كان هذا هو أهم المطالب في الدين فالإمامية آخر الناس في صفقة هذا الدين ، لأنهم جعلوا الإمام المعصوم ، هو الإمام المعدوم الذي لم ينفعهم في الدين والدنيا ، فلم يستفيدوا م أهم الأمور الدينية شيئا من منافع الدين ولا الدنيا .
وإن قالوا : إن المراد أن الإيمان بحكم الإمامة مطلقا هو أهم أمور الدين، كان هذا أيضا باطلا للعلم الضروري أن غيرها من أمور الدين أهم منها ، وإن أريد معني رابع فلا بد من بيانه لنتكلم عليه .
( الوجه الثاني ) أن يقال إن النبي لم تجب طاعته على الناس لكونه إماما ، بل لكونه رسول الله إلى الناس ، وهذا المعنى ثابت له حيا وميتا ، فوجوب طاعته على من بعده كوجوب طاعته على أهل زمانه ، وأهل زمانه فيهم الشاهد الذي يسمع أمره ونهيه ، وفيهم الغائب الذي بلغه الشاهد أمره ونهيه .
فكما يجب على الغائب عنه في حياته طاعة أمره ونهيه ، يجب ذلك على من يكون بعد موته ، وهو أمره شامل عام لكل مؤمن شهده أو غاب عنه ، في حياته وبعد موته ، وهذا ليس لأحد من اهل الأئمة ولا يستفاد هذا بالإمامة .
حتى إنه إذا أمر ناسا معينين بأمور وحكم في أعيان معينة بأحكام لم يكن حكمه وأمره مختصا بتلك المعينات ، بل كان ثابتا في نظائرها وأمثالها إلى يوم القيامة ، فقوله لمن شهده :((لا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ))( ) هو حكم ثابت لكل مأموم بإمام أن لا يسبقه بالركوع ولا بالسجود ، وقوله لمن قال : (( لم أشعر فحلقت قبل أن أرمي . قال : ارم ولا حرج . ولمن قال نحرت قبل أن أحلق . قال : احلق ولا حرج )) ( ) . أمر لمن كان مثله .
وكذلك قوله لعائشة ا لما حاضت وهي معتمرة : ((اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت ))( ) ، وأمثاله هذا كثير ، بخلاف الإمام إذا أطيع .
وخلفاؤه بعده في تنفيذ أمره ونهيه كخلفائه في حياته ، فكل آمر بأمر يجب طاعته فيه ، إنما هو منفذ لأمر رسول الله _ لأن الله أرسله إلى الناس وفرض عليهم طاعته ، لا لأجل كونه إماما له شوكة وأعوان ، أو لأجل أن غيره عهد له بالإمامة ، أو غير ذلك ، فطاعته لا تقف على ما تقف عليه طاعة الأئمة من عهد من قبله ، أو موافقته ذوي الشوكة أو غير ذلك بل تجب طاعته _ وإن لم يكن معه أحد ، وإن كذبه جميع الناس.
وكانت طاعته واجبة بمكة قبل أن يصير له أعوان ، وأنصار يقاتلون معه ، فهو كما قال سبحانه فيه : وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ( ) بين سبحانه وتعالى أنه ليس بموته ولا قتل ينتقض حكم رسالته ، كما ينتقض حكم الإمامة بموت الأئمة وقتلهم ، وأنه ليس من شرطه أن يكون خالدا لا يموت ، فإنه ليس هو ربا وإنما هو رسول قد خلت من قبله الرسل .
وقد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده وعبد الله حتى أتاه اليقين من ربه ، فطاعته واجبة بعد مماته وجوبها في حياته، وأوكد لأن الدين كمل واستقر بموته فلم يبق فيه نسخ ، ولهذا جمع القرآن بعد موته لكماله واستقراره بموته ، فإذا قال القائل إنه كان إماما في حياته ، وبعده صار الإمام غيره إن أراد بذلك أنه صار بعده من هو نظيره يطاع كما يطاع الرسول فهو باطل ، وإن أراد أنه قام من يخلفه في تنفيذ أمره ونهيه فهذا كان حاصلا في حياته ، فإنه إذا غاب كان هناك من يخلفه . وإن قيل أنه بعد موته لا يباشر معينا بالأمر بخلاف حياته قيل مباشرته بالأمر ليست شرطا في وجوب طاعته ، بل تجب طاعته على من بلغه أمره ونهيه كما تجب طاعته على من سمع كلامه .
وقد كان يقول : ((ليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع )) ( ) وإن قيل إنه في حياته كان يقضي في قضايا معينة ، مثل إعطاء شخص بعينه، وإقامة الحد على شخص بعينه ، وتنفيذ جيش بعينه . قيل نعم وطاعته واجبة في نظير ذلك إلى يوم القيامة ، بخلاف الأئمة . لكن قد يخفى الاستدلال على نظير ذلك كما يخفى العلم على من غاب عنه ، فالشاهد أعلم بما قال وأفهم له من الغائب، وإن كان فيمن غاب وبلغ أمره من هو أوعى له من بعض السامعين، لكن هذا لتفاضل الناس في معرفة أمره ونهيه ، لا لتفاضلهم في وجوب طاعته عليهم .
فما تجب طاعة ولي أمر بعده إلا كما تجب طاعة ولاة الأمور في حياته فطاعته شاملة لجميع العباد شمولا واحدا ، وإن تنوعت خدمتهم في البلاغ و السماع والفهم ، فهؤلاء يبلغهم من أمره ما لم يبلغ هؤلاء ، وهؤلاء يسمعون من أمره ما لم يسمعه هؤلاء ، وهؤلاء يفهمون من أمره ما لا يفهمه هؤلاء ، وكل من أمر بما أمر به الرسول وجبت طاعته ، طاعة لله ورسوله لا له .
وإذا كان للناس ولي أمر قادر ذو شوكة ، فيأمر بما يأمر ويحكم بما يحكم ، انتظم الأمر بذلك ، ولم يجز أن يولى غيره ، ولا يمكن بعده أن يكون شخص واحد مثله ، وإنما يوجد من هو أقرب إليه من غيره ، فأحق الناس بخلافة نبوته أقربهم إلى الأمر بما يأمر به ، والنهي عما نهى عنه ، ولا يطاع أمره طاعة ظاهرة غالبة إلا بقدرة وسلطان يوجب الطاعة ، كما لم يطع أمره في حياته طاعة ظاهرة غالبة حتى صار معه من يقاتل على طاعة أمره ، فالدين كله طاعة لله ورسوله وطاعة الله ورسوله هي الدين كله فمن يطع الرسول فقد أطاع الله .
ودين المسلمين بعد موته طاعة الله ورسوله ، وطاعتهم لولي الأمر فيما أمروا بطاعته فيه هو طاعة لله ورسوله ، وأمر ولي الأمر الذي أمره الله أن يأمرهم به ، وقسمه وحكمه هو طاعة لله ورسوله ، فأعمال الأئمة والأمة في حياته ومماته التي يحبها الله ويرضاها ، كلها طاعة لله ورسوله .
ولهذا كان أصل الدين شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله ، فإذا قيل هو كان إماما وأريد بذلك إمامة خارجة عن الرسالة ، أو إمامة يشترط فيها ما لا يشترط في الرسالة ، أو إمامة يعتبر فيها طاعته بدون طاعة الرسول ، فهذا كله باطل فإن كل ما يطاع به داخل في رسالته ، وهو في كل ما يطاع فيه يطاع بأنه رسول الله ولو قدر أنه كان إماما مجردا لم يطع حتى تكون طاعته داخلة في طاعة رسول آخر .
فالطاعة إنما تجب لله ورسوله ، ولمن أمرت الرسل بطاعتهم .
فإن قيل أطيع بإمامته طاعة داخلة في رسالته كان هذا عديم التأثير ، فإن مجرد رسالته كافية في وجوب طاعته ، بخلاف الإمام فإنه إنما يصير إماما بأعوان ينفذون أمره ، وإلا كان كآحاد أهل العلم والدين ، فإن قيل أنه لما صار له شوكة بالمدينة صار له مع الرسالة إمامة بالعدل ، قيل بل صار رسولا له أعوان وأنصار ينفذون أمره ، ويجاهدون من خالفه وهو ما دام في الأرض من بل صار رسولا له أعوان وأنصار ينفذون أمره ، ويجاهدون من خالفه وهو ما دام في الأرض من يؤمن بالله ورسوله له أنصار وأعوان ينفذون أمره ويجاهدون من خالفه فلم يستفد بالأعوان ما يحتاج أن يضمه إلى الرسالة مثل كونه إماما أو حاكما أو ولى أمر إذا كان هذا كله داخل في رسالته ، ولكن بالأعوان حصل له كمال قدرة أوجبت عليه من الأمر والجهاد ما لم يكن واجبا بدون القدرة ، والأحكام تختلف باختلاف حال القدرة والعجز والعلم وعدمه كما تختلف باختلاف الغنى والفقر والصحة والمرض ، والمؤمن مطيع لله في ذلك كله ، وهو مطيع لرسول الله في ذلك كله ، ومحمد رسول الله فيما أمر به ونهى عنه مطيع لله في ذلك كله.
وإن قالت الإمامية : الإمامة واجبة بالعقل بخلاف الرسالة فهي أهم من هذا الوجه ، قيل : الوجوب العقلي فيه نزاع كما سيأتي ، وعلى القول بالوجوب العقلي فما يجب من الإمامة جزء من أجزاء الواجبات العقلية ، وغير الإمامة أوجب من ذلك كالتوحيد ، والصدق والعدل ، وغير ذلك من الواجبات العقلية.
وأيضا فلا ريب أن الرسالة يحصل بها هذا الواجب ، فمقصودها جزء من أجزاء الرسالة ، فالإيمان بالرسول يحصل به مقصود الإمامة ، في حياته وبعد مماته بخلاف الإمامة ، وأيضا فمن ثبت عنده أن محمداً رسول الله وأن طاعته واجبة عليه واجتهد في طاعته بحسب الإمكان إن قيل أنه يدخل الجنة فقد استغنى عن مسألة الإمامة .
وإن قيل لا يدخل الجنة كان هذا خلاف نصوص القرآن ، فإنه سبحانه أوجب الجنة لمن أطاع الله ورسوله في غير موضع كقوله تعالى:مَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِين وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ َرفِيقاً( ).
وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلُهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَار خَالِدِينَ فِيها وَذَلِكَ الْفَوْز العَظِيم( ) .
وأيضا فصاحب الزمان الذي يدعون إليه ، لا سبيل للناس إلى معرفته ولا معرفة ما يأمرهم به ، وما ينهاهم عنه ، وما يخبرهم به، فإن كان أحد لا يصير سعيدا إلا بطاعة هذا الذي لا يعرف أمرهولا نهيه لزم أن لا يتمكن أحد من طريق النجاة والسعادة وطاعة الله ، وهذا من أعظم تكليف ما لا يطاق وهم من أعظم الناس إحالة له .
وإن قيل بل هو يأمر بما عليه الإمامية ، قيل فلا حاجة إلى وجوده ، ولا شهوده ، فإن هذا معروف سواء كان هو حيا أو ميتا ، وسواء كان شاهدا أو غائبا ، وإذا كان معرفة ما أمر الله به الخلق ممكنا بدون هذا الإمام المنتظر، علم أنه لا حاجة إليه ولا يتوقف عليه طاعة الله ولا نجاة أحد ولا سعادته ، وحينئذ فيمتنع القول بجواز إمامة مثل هذا ، فضلا عن القول بوجوب إمامة مثل هذا،وهذا أمر بيّن لمن تدبره .
لكن الرافضة من أجهل الناس ، وذلك أن فعل الواجبات العقلية والشرعية إما أن يكون موقوفا على معرفة ما يأمر به ،وينهى عنه هذا المنتظر وإما أن لا يكون موقوفا ، فإن كان موقوفا لزم تكليف ما لا يطاق ، وأن يكون فعل الواجبات وترك المحرمات موقوفا على شرط لا يقدر عليه عامة الناس ، بل ولا أحد منهم فإنه ليس في الأرض من يدعي دعوة صادقة أنه رأى هذا المنتظر ، أو سمع كلامه .
وإن لم يكن موقوفا على ذلك أمكن فعل الواجبات العقلية والشرعية وترك القبائح العقلية والشرعية بدون هذا المنتظر ، فلا يحتاج إليه ولا يجب وجوده ولا شهوده .
وهؤلاء الرافضة علقوا نجاة الخلق وسعادتهم وطاعتهم لله ورسوله بشرط ممتنع لا يقدر عليه الناس ،ولا يقدر عليه أحد منهم ، وقالوا للناس لا يكون أحد ناجيا من عذاب الله إلا بذلك ،ولا يكون سعيدا إلا بذلك ، ولا يكون أحد مؤمنا إلا بذلك .
فلزمهم أحد أمرين ، إما بطلان قولهم وإما أن يكون الله قد آيس عباده من رحمته وأوجب عذابه لجميع الخلق،المسلمين وغيرهم وعلى هذا التقدير فهم أوّل الأشقياء ، المعذبين فإنه ليس لأحد منهم طريق إلى معرفة أمر هذا الإمام ، الذي يعتقدون أنه موجود غائب ، ولا نهيه ولا خبره ، بل عندهم من الأقوال المنقولة عن شيوخ الرافضة ما يذكرون أنه منقول عن الأئمة المتقدمين على هذا المنتظر ، وهم لا ينقلون شيئا عن المنتظر وإن قدر أن بعضهم نقل عنه شيئا علم أنه كاذب ، وحينئذ فتلك الأقوال إن كانت كافية فلا حاجة إلى المنتظر ، وإن لم تكن كافية فقد أقروا بشقائهم وعذابهم، حيث كانت سعادتهم موقوفة على آمر لا يعلمون بماذا أمر.
وقد رأيت طائف من شيوخ الرافضة كابن العود الحلي يقول : إذا اختلفت الإمامية على قولين أحدهما يعرف قائله والآخر لا يعرف قائله ، كان القول الذي لا يعرف قائله هو القول الحق الذي يجب اتباعه لأن المنتظر المعصوم في تلك الطائفة .
وهذا غاية الجهل والضلال ، فإنه بتقدير وجود المنتظر المعصوم لا يعلم أنه قال ذلك القول إذ لم ينقله عنه أحد ، ولا عن من نقله عنه ، فمن أين يجزم بأنه قوله ، ولم لا يجوز أن يكون القول الآخر هو قوله وهو لغيبته وخوفه من الظالمين لا يمكنه إظهار قوله ، كما يدعون ذلك فيه .
وكان أصل دين هؤلاء الرافضة مبنيا على مجهول ، ومعدوم ، لا على موجود ولا معلوم ، يظنون أن إمامهم موجود معصوم ، وهو مفقود معدوم ، ولو كان موجودا معصوما فهم معترفون بأنهم لا يقدرون أن يعرفوا أمره ونهيه ، كما كانوا يعرفون أمر آبائه ونهيهم ، والمقصود بالإمام إنما هو طاعة أمره ، فإذا كان العلم بأمره ممتنعاً كانت طاعته ممتنعة ، فكان المقصود به ممتنعاً ، وإذا كان المقصود به ممتنعاً لم يكن في إثبات الوسيلة فائدة أصلا، بل كان إثبات الوسيلة التي لا يحصل بها مقصودها من باب السفه والعبث والعذاب القبيح باتفاق أهل الشرع ، وباتفاق العقلاء القائلين بتحسين العقول وتقبيحها ، بل باتفاق العقلاء مطلقا ، فإنهم إذا فسروا القبيح بما يضر كانوا متفقين على أن معرفة الضار يعلم بالعقل .
والإيمان بهذا الإمام الذي ليس فيه منفعة بل مضرة في العقل والنفس والبدن والمال وغير ذلك قبيح شرعا وعقلا ، ولهذا كان المتبعون له من أبعد الناس عن مصلحة الدين والدنيا ، لا تنتظم لهم مصلحة دينهم ولا دنياهم ، إن لم يدخلوا في طاعة غيرهم . كاليهود الذين لا تنتظم لهم مصلحة إلا بالدخول في طاعة من هو خارج عن دينهم .
فهم يوجبون وجود الإمام المنتظر المعصوم ، لأن مصلحة الدين والدنيا لا تحصل إلا به عندهم ، وهم لم يحصل لهم بهذا المنتظر مصلحة في الدين ولا في الدنيا ، والذين كذبوا به لم تفتهم مصلحة في الدين ولا في الدنيا، بل كانوا أقوم بمصالح الدين والدنيا من أتباعه .
فعلم بذلك أن قولهم في الإمامة لا ينال به إلا ما يورث الخزى والندامة ،وأنه ليس فيه شيء من الكرامة ، وان ذلك إذا كان أعظم مطالب الدين فهم أبعد الناس عن الحق والهدى ، في أعظم مطالب الدين ، وإن لم يكن أعظم مطالب الدين ظهر بطلان ما ادّعوه من ذلك . فثبت بطلان قولهم على التقديرين ، وهو المطلوب.
فإن قال هؤلاء الرافضة : إيماننا بهذا المنتظر المعصوم مثل إيمان كثير من شيوخ الزهد والدين بالياس والخضر والغوث والقطب ، ورجال الغيب ، ونحو ذلك من الأشخاص الذين لا يعرفون وجودهم ، ولا بماذا يأمرون ، ولا عن ماذا ينهون ، فكيف يسوغ لمن يوافق هؤلاء أن ينكر علينا ما ندعيه ؟ قيل الجواب من وجوه :
(أحدها ): أن الإيمان بوجود هؤلاء ليس واجبا عند أحد من علماء المسلمين وطوائفهم المعروفين ، وإن كان بعض الغلاة يوجب على أصحابه الإيمان بوجود هؤلاء ، ويقول إنه لا يكون مؤمنا وليا لله إلا من يؤمن بوجود هؤلاء في هذه الأزمان ، كان قوله مردودا ، كقول الرافضة
(الوجه الثاني ):أن يقال من الناس من يظن أن التصديق بهؤلاء يزداد الرجل به إيمانا وخيرا ، وموالاة لله وأن المصدق بوجود هؤلاء أكمل وأشرف وأفضل عند الله ممن لم يصدق بوجود هؤلاء ، وهذا القول ليس مثل قول الرافضة من كل وجه ، بل هو مشابه له من بعض الوجوه ، لكونهم جعلوا كمال الدين موقوفا على ذلك .
وحينئذ ، فيقال هذا القول أيضاً باطل باتفاق علماء المسلمين وأئمتهم، فإن العلم بالواجبات والمستحبات وفعل الواجبات والمستحبات كلها ليس موقوفا على التصديق بوجود هؤلاء ، ومن ظن من أهل النسك والزهد والعامة أن شيئا من الدين واجبا أو مستحبا موقوف على التصديق بوجود هؤلاء فهذا جاهل ضال ، باتفاق أهل العلم والإيمان العالمين بالكتاب والسنّة ،إذ قد علم بالأضرار من دين الإسلام أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لم يشرع لأمته التصديق بوجود هؤلاء ، ولا أصحابه كانوا يجعلون ذلك من الدين ، ولا أئمة المسلمين وأيضا .
فجميع هذه الألفاظ لفظ الغوث والقطب والأوتاد والنجباء وغيرها لم ينقل أحد عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بإسناد معروف أنه تكلم بشيء منها ، ولا أصحابه ، ولكن لفظ الإبدال تكلم به بعض السلف ويروى فيه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حديث ضعيف( ) وقد بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع .
شرك بعض الصوفية حتى في الربوبية
(الوجه الثالث) : أن يقال القائلون بهذه الأمور ، منهم من ينسب إلى أحد هؤلاء ما لا تجوز نسبته إلى أحد من البشر ، مثل دعوى بعضهم أن الغوث أو القطب هو الذي يمد أهل الأرض في هداهم ونصرهم ورزقهم ، وأن هذا لا يصل إلى أحد إلا بواسطة نزوله على ذلك الشخص وهذا باطل بإجماع المسلمين ، وهو من جنس قول النصارى في الباب وكذلك ما يدعيه بعضهم من أن الواحد من هؤلاء يعلم كل ولى له كان أو يكون ، اسمه واسم أبيه ومنزلته من الله ونحو ذلك من المقالات الباطلة ، التي تتضمن أن الواحد من البشر يشارك الله في بعض خصائصه .
مثل أنه بكل شيء عليم ، أو على كل شيء قدير ، ونحو ذلك كما يقول بعضهم في النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفي شيوخه : أن علم أحدهم ينطبق على علم الله وقدرته منطبقة على قدرة الله ، فيعلم ما يعلمه الله ويقدر و يقدر على ما يقدر الله عليه ، فهذه المقالات ، وما يشبهها من جنس قول النصارى ، والغالية في عليّ ، وهي باطلة بإجماع المسلمين .
ومنهم من ينسب إلى الواحد من هؤلاء ما تجوز نسبته إلى الأنبياء وصالحي المؤمنين ، من الكرامات ، كدعوة مجابة ومكاشفات من مكاشفات الصالحين ، ونحو ذلك فهذا القدر يقع كثيرا من الأشخاص الموجودين المعاينين ، ومن نسب ذلك إلى من لا يعرف وجوده ، فهؤلاء وإن كانوا مخطئين في نسبة ذلك إلى شخص معدوم فخطؤهم كخطأ من اعتقد أن في البلد الفلاني رجالا من أولياء الله تعالى وليس فيه أحد ، أو اعتقد في ناس معينين أنهم أولياء الله ولم يكونوا كذلك ، ولا ريب أن هذا خطأ وجهل وضلال يقع فيه كثير من الناس ، لكن خطأ الإمامية و ضلالهم أقبح وأعظم .
لا وجود لإلياس والخضر
(الوجه الرابع):أن يقال الصواب الذي عليه محققو العلماء أن إلياس والخضر ماتا ، وأنه ليس أحد من البشر واسطة بين الله عز سلطانه وبين خلقه في خلقه ورزقه وهداه ونصره ، وإنما الرسل وسائط في تبليغ رسالاته ، لا سبيل لأحد إلى السعادة إلا بطاعة الرسل .
وأما خلقه وهداه ونصره ورزقه فلا يقدر عليه إلا الله تعالى. فهذا لا يتوقف على حياة الرسل وبقائهم ، بل ولا يتوقف نصر الخلق ورزقهم على وجود الرسل أصلا ، بل قد يخلق ذلك بما شاء من الأسباب بواسطة الملائكة أو غيرهم ، وقد يكون لبعض البشر في ذلك من الأسباب ما هو معروف في البشر .
وأما كون ذلك لا يكون إلا بواسطة من البشر ، أو أن أحدا من البشر يتولى ذلك كله ونحو ذلك ، فهذا كله باطل ، وحينئذ فيقال للرافضة إذا احتجوا بضلال الضلال ولن ينفعكم اليوم إذا ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون ( ).
وأيضا فمن المعلوم أن أشرف مسائل المسلمين وأهم المطالب في الدنيا ينبغي أن يكون ذكرها في كتاب الله تعالى أعظم من غيرها وبيان الرسول لها أولى من بيان غيرها ، والقرآن مملوء بذكر توحيد الله تعالى وذكر أسمائه وصفاته، وآياته ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، والقصص ، والأمر والنهي، والحدود ، والفرائض ، بخلاف الإمامة فكيف يكون القرآن مملوء بغير الأهم الأشرف ؟ وأيضا فإن الله تعالى قد علق السعادة بما لا ذكر فيه للإمامة ، فقال : وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءَ وَالصَّالِحِين وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا ( ) وقال: وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَناَّت إلى قوله : وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيها وَلَهُ عَذَابٌ مُهِين ( ).
فقد بين الله في القرآن أن من أطاع الله ورسوله كان سعيدا ، في الآخرة ومن عصى الله ورسوله وتعدّى حدوده كان معذباً ، وهذا هو الفرق بين السعداء والأشقياء ، ولم يذكر الإمامة.
فإن قال قائل : أن الإمامة داخلة في طاعة الله ورسوله . قيل نهايتها أن تكون كبعض الواجبات ، كالصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك ، مما يدخل في طاعة الله ورسوله ، فكيف تكون هي وحدها أشرف مسائل المسلمين وأهم مطالب الدين ؟ فإن قيل لا يمكننا طاعة الرسول إلا بطاعة الإمام ، فإنه هو الذي يعرف الشرع . قيل هذا هو دعوى المذهب ، ولا حجة فيه ، ومعلوم أن القرآن لم يدل على هذا كما دل على سائر أصول الدين ، وقد تقدم أن هذا الإمام الذي يدعونه لم ينتفع به أحد في ذلك ، وسيأتي إن شاء الله تعالى أن ما جاء به الرسول لا يحتاج في معرفته إلى أحد من الأئمة.
أصول الدين عند الإمامية
(الوجه الثاني)( ) أن يقال : أصول الدين عند الإمامية أربعة، التوحيد والعدل والنبوة ، والإمامة ، هي آخر المراتب ، والتوحيد والعدل والنبوة قبل ذلك ، وهم يدخلون في التوحيد نفي الصفات ، والقول بأن القرآن مخلوق ، وأن الله لا يرى في الآخرة ، ويدخلون في العدل التكذيب بالقدر ، وأن الله لا يقدر أن يهدي من يشاء ، ولا يقدر أن يضل من يشاء ، وأنه قد يشاء ما لا يكون ، ويكون ما لا يشاء ، وغير ذلك ، فلا يقولون أنه خالق كل شيء، ولا أنه على كل شيء قدير، ولا أنه ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، لكن التوحيد والعدل والنبوة مقدمة على الإمامة ، فكيف تكون الإمامة أشرف وأهم؟ وأيضاً فالإمامة إنما أوجبوها لكونها لطفا في الواجبات ، فهي واجبة وجوب الوسائل ، فكيف تكون الوسيلة أشرف وأهم من المقصود .
تناقض الرافضة في الإمامة بين القول والتطبيق
(الوجه الثالث): أن يقال إن كانت الإمامة أهم مطالب الدين ، وأشرف مسائل المسلمين ، فأبعد الناس عن هذا الأهم الاشرف هم الرافضة ، فإنهم قد قالوا في الإمامة أسخف قول وأفسده في العقل والدين ، كما سنبينه إن شاء الله تعالى إذا تكلمنا عن حججهم .
ويكفيك أن مطلوبهم بالإمامة أن يكون لهم رئيس معصوم ، يكون لطفا في مصالح دينهم ودنياهم ، وليس في الطوائف أبعد عن مصلحة اللطف والإمامة منهم ، فإنهم يحتالون على مجهول ومعدوم،لا يرى له عين ولا أثر، ولا يسمح له حس ولا خبر ، فلم يحصل لهم من الأمر المقصود بإمامته شيء وأي من فرض إماما نافعا في بعض مصالح الدين والدنيا كان خيرا ممن لا ينتفع به في شيء من مصالح الإمامة .
ولهذا تجدهم لما فاتهم مصلحة الإمامة يدخلون في طاعة كافر أو ظالم لينالوا به بعض مقاصدهم ، فبينا هم يدعون الناس إلى طاعة إمام معصوم ، أصبحوا يرجعون إلى طاعة كفور ظلوم ، فهل يكن أبعد عن مقصود الإمامة وعن الخير والكرامة ،ممن سلك منهاج الندامة ، وفي الجملة فالله تعالى قد علق بولاة الأمور مصالح في الدين والدنيا ، سواء كانت الإمامة أهم الأمور أو لم تكن ، والرافضة أبعد الناس عن حصول هذه المصلحة لهم ، فقد فاتهم على قولهم الخير المطلوب من أهم مطالب الدين وأشرف مسائل المسلمين.
ولقد طلب مني بعض أكابر شيوخهم الفضلاء أن يخلو بي وأتكلم معه في ذلك فخلوت به وقررت له ما يقولونه في هذا الباب كقولهم إن الله أمر العباد ونهاهم ، فيجب أن يفعل بهم اللطف الذي يكونون عنده أقرب إلى فعل الواجب ، وترك القبيح ، لأن من دعا شخصاً ليأكل طعاما فإذا كان مراده الأكل فعل ما يعين على ذلك من الأسباب ، كتلقيه بالبشر وإجلاسه في مجالس مناسبة وأمثال ذلك .
وإن لم يكن مراده أن يأكل عبس في وجهه وأغلق الباب ، ونحو ذلك وهذا أخذوه من المعتزلة ، ليس هو من أصول شيوخهم القدماء.
ثم قالوا والإمام لطف ، لأن الناس إذا كان لهم إمام يأمرهم بالواجب وينهاهم عن القبيح كانوا أقرب إلى فعل المأمور ، وترك المحظور ، فيجب أن يكون لهم إمام ، ولا بد أن يكون معصوما ، لانه إذا لم يكن معصوما لم يحصل به المقصود ،ولم تدع العصمة لأحد بعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلا لعليّ فتعين أن يكون هو إياه ، للإجماع على انتقاء ما سواه وبسطت له العبارة في هذه المعانى .
ثم قالوا : وعليّ نص على الحسن ، والحسن على الحسين إلى أن انتهت النوبة إلى المنتظر محمد بن الحسن صاحب السرداب الغائب ، فاعترف أن هذا تقرير مذهبهم على غاية الكمال ، قلت له : فأنا وأنت طالبان للعلم والحق والهدى وهم يقولون من لم يؤمن بالمنتظر فهو كافر ، فهذا المنتظر هل رأيته ، أو رأيت من رآه ، أو سمعت بخبره ، أو تعرف شيئا من كلامه ، الذي قاله هو ، أو ما أمر به أو نهى عنه مأخوذاً عنه كما يؤخذ من الأئمة ؟ قال: لا . قلت :فأي فائدة في إيماننا هذا ؟ وأي لطف يحصل لنا بهذا ؟.
ثم كيف يجوز أن يكلفنا الله تعالى بطاعة شخص ونحن لا نعلم ما يأمرنا به ولا ما ينهانا عنه ، ولا طريق لنا إلى معرفة ذلك بوجه من الوجوه ، وهم من أشد الناس إنكاراً لتكليف ما لا يطاق ، فهل يكون في تكليف ما لا يطاق أبلغ من هذا ؟
فقال : إثبات هذا مبني على تلك المقدمات . قلت : لكن المقصود لنا من تلك المقدمات هو ما يتعلق بنا نحن ، وإلا فما علينا مما مضى إذا لم يتعلق الأمر بنا منه أمر ولا نهى .
وإذا كان كلامنا في تلك المقدمات لا يحصل لنا فائدة ولا لطفا ولا يفيدنا إلا تكليف ما لا يقدر عليه ، علم ان الإيمان بهذا المنتظر من باب الجهل والضلال ، لا من باب اللطف والمصلحة .
والذي عند الإمامية من النقل عن الأئمة الموتى إن كان حقا يحصل به سعادتهم فلا حاجة بهم إلى المنتظر ، وإن كان باطلا فهم أيضا لم ينتفعوا بالمنتظر في رد هذا الباطل ، فلم ينتفعوا بالمنتظر لا في إثبات حق ولا في نفي باطل ، ولا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر ،ولم يحصل به لواحد منهم شيء من المصلحة واللطف والمنفعة المطلوبة من الإمامة .
والجهال الذين يعلقون أمورهم بالمجهولات كرجال الغيب والقطب والغوث والخضر ونحو ذلك مع جهلهم وضلالهم وكونهم يثبتون ما لم يحصل لهم به مصلحة ولا لطف ولا منفعة لا في الدين ولا في الدنيا ، أقل ضلالا من الرافضة ، فإن الخضر ينتفع برؤيته وبموعظته ، وإن كان غالطا في اعتقاده انه الخضر فقد يرى أحدهم بعض الجنّ فيظنّ أنه الخضر ، ولا يخاطبه الجني إلا بما يرى أنه يقبله منه ليربطه على ذلك ، فيكون الرجل أتى من نفسه لا من ذلك المخاطب له ومنهم من يقول لكل زمان خضر ، ومنهم من يقول لكل وليّ خضر .
وللكفار كاليهود مواضع يقولون أنهم يرون الخضر فيها ، وقد يرى الخضر على صور مختلفة ، وعلى صورة هائلة ، وأمثال ذلك ، وذلك لأن هذا الذي يقول أنه الخضر هو جني ، بل هو شيطان، يظهر لمن يرى أنه يضله ، وفي ذلك حكايات كثيرة يضيق هذا الموضع عن ذكرها ، وعلى كل تقدير فأصناف الشيعة أكثر ضلالا من هؤلاء ، فإن المنتظر ليس عندهم نقل ثابت عنه ، ولا يعتقدون فيمن يرونه أنه المنتظر ، ولما دخل السرداب كان عندهم صغيرا لم يبلغ سنّ التمييز ، وهم يقبلون من الأكاذيب أضعاف ما يقبله هؤلاء ، ويعرضون عن الاقتداء بالكتاب والسنّة أكثر من إعراض هؤلاء، ويقدحون في خيار المسلمين قدحا يعاديهم عليه هؤلاء ، فهم أضل عن مصالح الإمامة من جميع طوائف الأمة ، فقد فاتهم على قولهم أهم الدين وأشرفه .
لا يحصل بمعرفة الإمام خير إن لم يعمل صالحا
(الوجه الرابع): أن يقال قوله التي يحصل بسبب إدراكها نيل درجة الكرامة ، كلام باطل فإن مجرد معرفة إمام وقته وإدراكه بعينه لا يستحق به الكرامة ، إن لم يوافق أمره وإلا فليست معرفة إمام الوقت بأعظم من معرفة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ، ومن عرف أن محمدا رسول الله فلم يؤمن به ولم يطع أمره لم يحصل له شيء من الكرامة .
ولو آمن بالنبي وعصاه ، وضيع الفرائض وتعدّ الحدود كان مستحقا للوعيد عند الإمامية وسائر طوائف المسلمين ، فكيف بمن عرف الإمام وهو مضيّع للفرائض متعدّ للحدود ؟ وكثير من هؤلاء يقول حب عليّ حسنة لا يضر معها سيئة ، وإن كانت السيئات لا تضر مع حب عليّ فلا حاجة إلى الإمام المعصوم ، الذي هو لطف في التكليف ، فإنه إذا لم يوجد إنما توجد سيئات ومعاص ، فإن كان حب عليّ كافيا فسواء وجد الإمام أو لم يوجد ..
ليست الإمامة من واجبات الدين
(الوجه الخامس): قوله وهي أحد أركان الإيمان ، المستحق بسببه الخلود في الجنان ، فيقال له : من جعل هذا من الإيمان إلا أهل الجهل والبهتان ؟ وسنتكلم إن شاء الله تعالى على ما ذكره من ذلك .
والله تعالى وصف المؤمنين وأحوالهم ، والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم قد فسر الإيمان ، وذكر شعبه ، ولم يذكر الله ولا رسوله الإمامة ، في أركان الإيمان ففي الحديث الصحيح حديث جبريل لما أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في صورة أعرابي، وسأله عن الإسلام ، والإيمان ، والإحسان ، قال له (( الإسلام : أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت ، قال والإيمان : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره ))( ) ولم يذكر الإمامة .
قال والإحسان : أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك . وهذا الحديث متفق على صحته ، متلقى بالقبول ، أجمع أهل العلم بالنقل على صحته ، وقد أخرجه أصحاب الصحيح من غير وجه ، فهو من المتفق عليه من حديث أبي هريرة وفي أفراد مسلم من حديث عمر ، وهم وإن كانوا لا يقرون بصحة هذه الأحاديث ، فالمصنف قد احتج بأحاديث موضوعة كذب باتفاق أهل المعرفة .
فإما أن يحتج بما يقوم الدليل على صحته نحن وهم ، أو لا يحتج بشيء من ذلك نحن ولا هم ، فإن تركوا الرواية رأسا أمكن أن نترك الراوية .
أما إذا رووا هم فلا بد من معارضة الراوية بالرواية ، والاعتماد على ما تقوم به الحجة ، ونحن نبين الدلائل الدالة على كذب ما يعرضون به أهل السنّة من الروايات الباطلة ، والدلائل الدالة على صحة ما نقله أهل العلم بالحديث وصححوه .
وهب أنّا لا نحتج بالحديث فقد قال الله تعالى : إ ِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُم إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِم يَتَوَكَّلُون الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونْ أُوْلَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًا لَهُم دَرَجَاتٍ عِنْدَ رَبِّهِم وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيم ( ). فشهد لهؤلاء بالإيمان من غير ذكر للإمامة وقال تعالى : إِنَّمَا الُمؤْمِنونَ الَّذِينَ آمنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُون ( ). فجعلهم صادقين في الإيمان من غير ذكر للإمامة .
وأيضا فنحن نعلم بالاضطرار من دين محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن الناس كانوا إذا أسلموا لم يجعل إيمانهم موقوفا على معرفة الإمامة ، ولم يذكر لهم شيئا من ذلك .
وما كان أحد أركان الإيمان لا بد أن يبينه الرسول لأهل الإيمان ليحصل لهم به الإيمان ، فإذا علم بالاضطرار أن هذا مما لم يكن الرسول يشترطه في الإيمان ، علم أن اشتراطه في الإيمان من أقوال البهتان .
فإن قيل هنا قد دخلت في عموم النص ، أو هي من باب لا يتم الواجب إلا به ، أو دل عليه نص آخر .
قيل هذا كله لو صح لكان غايته أن تكون من بعض فروع الدين ، لا تكون من أركان الإيمان ، فإن ركن الإيمان ما لا يحصل الإيمان إلا به كالشهادتين ، فلا يكون الرجل مؤمنا حتى يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فلو كانت الإمامة ركنا في الإيمان لا يتم إيمان أحد إلا به ، لوجب أن يبينه الرسول بيانا عاما قاطعا للعذر كما بين الشهادتين ، والإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر ، فكيف ونحن نعلم بالاضطرار من دينه أن الذين دخلوا في دينه أفواجا لم يشترط على أحد منهم في الإيمان بالإمامة ، مطلقا ولا معينا .
(الوجه السادس ): قوله قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية .
فيقال له أوّلا من روى هذا الحديث بهذا اللفظ ، وأين إسناده؟ وكيف يجوز أن يحتج بنقل عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من غير بيان الطريق الذي به يثبت أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قاله ، هذا لو كان مجهول الحال عند أهل العلم بالحديث ، فكيف وهذا الحديث بهذا اللفظ لا يعرف ، إنما الحديث المعروف مثل روى مسلم في صحيحه عن نافع قال : جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع حين كان من أمر الحرة ما كان زمن يزيد بن معاوية ، فقال اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة ، فقال إني لم آتك لأجلس أتيتك لأحدثك حديثا سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقوله سمعته يقول ((من خلع يدا من طاعة لقى الله يوم القيامة لا حجة له ، ومن مات ليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية ))( ) .
وهذا حديث حدث به عبد الله بن عمر لعبد الله بن مطيع بن الأسود لما خلعوا طاعة أمير وقتهم يزيد ، مع إنه كان فيه من الظلم ما كان ، ثم أنه اقتتل هو وهم وفعل بأهل الحرة أمورا منكرة ، فعلم أن هذا الحديث دل على ما دل عليه سائر الأحاديث الآتية ، من أنه لا يخرج على ولاة أمور المسلمين بالسيف ، فإن لم يكن مطيعا لولاة الأمور مات ميتة جاهلية .
وهذا ضد قول الرافضة ، فإنهم أعظم الناس مخالفة لولاة الأمور وأبعد الناس عن طاعتهم إلا كرها ، ونحن نطالبهم أولا بصحة النقل ثم بتقدير أن يكون ناقله واحد ، فكيف يجوز أن يثبت أصل الإيمان بخبر مثل هذا الذي لا يعرف له ناقل ، وإن عرف له ناقل أمكن خطؤه وكذبه ، وهل يثبت أصل الإيمان إلا بطريق علمي.
(الوجه السابع ): أن يقال إن كان هذا الحديث من كلام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فليس فيه حجة لهذا القائل ، فإن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قد قال مات ميتة جاهلية .
وهذا الحديث يتناول من قاتل في العصبية ، والرافضة رؤوس هؤلاء، ولكن لا يكفر المسلم بالاقتتال في العصبية ، كما دل على ذلك الكتاب والسنّة ، فكيف يكفر بما دون ذلك .
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال . قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم :(( من خرج من الطاعة وفارق الجماعة ثم مات ، مات ميتة جاهلية ))( ).وهذا حال الرافضة، فإنهم يخرجون عن الطاعة و يفارقون الجماعة .
وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله ما عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : (( من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه ، فإن من خرج من السلطان شبراً ، مات ميتة جاهلية))( ).
وهذه النصوص مع كونها صريحة في حال الرافضة فهي وأمثالها المعروفة عند أهل العلم لا بذلك اللفظ الذي نقله .
( الوجه الثامن ) : أن هذا الحديث الذي ذكره حجة على الرافضة ، لأنهم لا يعرفون إمام زمانهم ، فإنهم يدّعون أنه الغائب المنتظر محمد بن الحسن ، الذي دخل سرداب سامرّا ، سنة ستين ومائتين أو نحوهما ولم يعد ، بل كان عمره إما سنتين ، وإما ثلاثا ، وإما خمساً أو نحو ذلك وله الآن على قولهم أكثر من أربعمائة سنة ولم ير له عين ولا أثر ، ولا سمع له حس ولا خبر .
فليس فيهم أحد يعرفه لا بعينه ، ولا صفته ، لكن يقولون أن هذا الشخص الذي لم يره أحد ، ولم يسمع له خبر هو إمام زمانهم ، ومعلوم أن هذا ليس هو معرفة بالإمام ، ونظير هذا أن يكون لرجل قريب من بني عمه في الدنيا ولا يعرف شيئا من أحواله ، فهذا لا يعرف ابن عمه وكذلك المال الملتقط إذا عرف أن له مالكا ولم يعرف عينه لم يكن عارفا لصاحب اللقطة ، بل هذا أعرف لأن هذا يمكن ترتيب بعض أحكام الملك والنسب عليه .
وأما في المنتظر فلا يعرف له حال ينتفع به في الإمامة ، فإن معرفة الإمام التي تخرج الإنسان من الجاهلية ، هي المعرفة التي يحصل بها طاعة وجماعة ، خلاف ما كان عليه أهل الجاهلية ، فإنهم لم يكن لهم إمام يجمعهم ، ولا جماعة تعصمهم ، والله تعالى بعث محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم ، وهداهم به إلى الطاعة والجماعة ، وهذا المنتظر لا يحصل بمعرفته طاعة ولا جماعة ، فلم يعرف معرفة تخرج الإنسان من الجاهلية ، بل المنتسبون إليه أعظم الطوائف جاهلية ، وأشبههم بالجاهلية ، إن لم يدخلوا في طاعة غيرهم إما طاعة كافر أو طاعة مسلم ، هو عندهم من الكفار أو النواصب لم ينتظم لهم مصلحة لكثرة اختلافهم ، وافتراقهم وخروجهم عن الطاعة وهذا يبينه .
( الوجه التاسع ): وهو أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أمر بطاعة الأئمة الموجودين ، المعلومين الذين لهم سلطان يقدرون به على سياسة الناس ، لا بطاعة معدوم ولا مجهول ، ولا من ليس له سلطان ولا قدرة على شيء أصلا ، كما أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بالاجتماع والائتلاف ، ونهى عن الفرقة والاختلاف ، ولم يأمر بطاعة الأئمة مطلقا، بل أمر بطاعتهم في طاعة الله دون معصيته ،وهذا يبين أن الأئمة الذين أمر بطاعتهم في طاعة الله ليسوا معصومين .
فإن قال أنا أردت بقولي أنها أهم المطالب في الدين وأشرف مسائل المسلمين التي تنازعت الأمة فيها بعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وهذه هي مسألة الإمامة . قيل له فلا لفظ فصيح، ولا معنى صحيح فإن ما ذكرته لا يدل على هذا المعنى ، بل مفهوم اللفظ ومقتضاه أنها أهم المطالب في الدين مطلقا ، وأشرف مسائل المسلمين مطلقا .
وبتقدير أن يكون هذا مرادك ، فهو معنى باطل ، فإن المسلمين تنازعوا بعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، في مسائل أشرف من هذه .
وبتقدير أن تكون هي الأشرف ، فالذي ذكرته فيها أبطل المذاهب ، وأفسد الطالب ، وذلك أن النزاع في الإمامة لم يظهر إلا في خلافة علي .
وأما على عهد الخلفاء الثلاثة فلم يظهر نزاع ، إلا ما جرى يوم السقيفة ، وما انفصلوا حتى اتفقوا ، ومثل هذا لا يعد نزاعا ، ولو قدّر أن النزاع فيها كان عقب موت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فليس كل ما تنوزع فيه عقب موته صلى الله تعالى عليه وسلم يكون أشرف مما تنوزع فيه بعد موته بدهر طويل .
وإذا كان كذلك فمعلوم أن مسائل التوحيد والصفات ،والإثبات والتنزيه ، والقدر، والتعديل ، والتجويز والتحسين والتقبيح، أهم وأشرف من مسائل الإمامة ، ومسائل الأسماء والأحكام والوعد والوعيد ، والشفاعة والتخليد ، أهم من مسائل الإمامة .
فإن كانت أهم مسائل الدين وهم لم ينتفعوا بالمقصود منها ، فقد فاتهم من الدين أهمه وأشرفه ، وحينئذ فلا ينتفعون بما حصل لهم من التوحيد ، والعدل لأنه يكون ناقصا بالنسبة إلى مقصود الإمامة، فيستحقون العذاب .
كيف وهم يسلمون أن مقصود الإمامة في الفروع الشرعية ، وأما الأصول العقلية فلا يحتاج فيها إلى الإمام ، وتلك هي أهم وأشرف ، ثم بعد هذا كله فقولكم في الإمامة من أبعد الأقوال عن الصواب ، ولو لم يكن فيه إلا أنكم أوجبتم الإمامة ، لما فيها من مصلحة الخلق ، في دينهم ودنياهم ، وإمامكم صاحب الوقت ، لم يحصل لكم من جهته مصلحة ، لا في الدين ولا في الدنيا .
فأي سعى أضل من سعى من يتعب التعب الطويل ، ويكثر القال والقيل ، ويفارق جماعة المسلمين ، ويلعن السابقين والتابعين، ويعاون الكفار والمنافقين ، ويحتال بأنواع الحيل ، ويسلك ما أمكنه من السبل ويعتض بشهود الزور ، ويدلى أتباعه بحبل الغرور ، ويفعل ما يطول وصفه ، ومقصوده بذلك أن يكون له إمام يدله على أمر الله ونهيه ، ويعرّفه ما يقربه إلى الله تعالى ، ثم إنه لما علم اسم ذلك الإمام ونسبه لم يظفر بشيء من مطلوبه ، ولا وصل إليه شيء من تعليمه وإرشاده ، ولا أمره ولا نهيه ، ولا حصل له من جهته منفعة ، ولا مصلحة أصلا ، إلا إذهاب نفسه وماله ، وقطع الأسفار وطول الانتظار بالليل والنهار ، ومعاداة الجمهور ، لداخل في سرداب ، ليس له عمل ولا خطاب .
ولو كان موجودا بيقين لما حصل به منفعة لهؤلاء المساكين، فكيف وعقلاء الناس يعلمون أن ليس معهم إلا الإفلاس ، وأن الحسن بن علي العسكري لم ينسل ولم يعقب، كما ذكر ذلك محمد بن جرير الطبري ، وعبد الباقي بن قانع ، وغيرهما من أهل العلم بالنسب .
وهم يقولون أنه دخل في السرداب بعد موت أبيه ، وعمره إما سنتان وإما ثلاث وإما خمس ، وإما نحو ذلك ، ومثل هذا بنص القرآن يتيم، يجب أن يحفظ له ماله حتى يؤنس منه الرشد ، ويحضنه من يستحق حضانته من قرابته ، فإذا صار له سبع سنين أمر بالطهارة والصلاة .
فمن لا توضأ ولا صلى ، وهو تحت حجر وليه في نفسه وماله بنص القرآن لو كان موجودا يشهده العيان، فما جاز أن يكون هو إمام أهل الإيمان، فكيف إذا كان معدوما أو مفقودا مع طول هذه الغيبة .
والمرأة إذا غاب وليها زوّجها الحاكم أو الولي الحاضر ، لئلا تفوت مصلحة الإمامة مع طول هذه المدة ، مع هذا الإمام المفقود .
(فصــل)
قال الرافضي : لما بعث الله محمداً صلى الله تعالى عليه وسلم قام بثقل الرسالة ، ونص على أن الخليفة بعده علي بن أبي طالب عليه السلام ، ثم من بعده على ولده الحسن الزكي ، ثم على ولده الحسين الشهيد ، ثم على علي بن الحسين زين العابدين ، ثم على محمد بن علي الباقر ، ثم على جعفر بن محمد الصادق ، ثم على موسى بن جعفر الكاظم ، ثم على عليّ بن موسى الرضا ، ثم على محمد بن علي الجواد ، ثم على علي بن محمد الهادي ، ثم على الحسن بن علي العسكري ، ثم على الخلف الحجة محمد بن الحسن المهدي ، عليهم الصلاة والسلام وأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لم يمت إلا عن وصية بالإمامة ، وقال : وأهل السنّة ذهبوا إلى خلاف ذلك كله .
(فصــــل)
وأما قوله عن أهل السنّة أنهم يقولون إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لم ينص على إمامة أحد ، وأنه مات عن غير وصية .
فالجواب أن يقال ليس هذا قول جميعهم ، بل قد ذهبت طوائف من أهل السنّة إلى أن إمامة أبي بكر ثبتت بالنص ، والنزاع في ذلك معروف في مذهب أحمد وغيره ، من الأئمة .
وقد ذكر القاضي أبو يعلى وغيره في ذلك روايتين عن الإمام أحمد إحداهما أنها ثبتت بالأخبار قال وبهذا قال جماعة من أهل الحديث والمعتزلة والأشعرية وهذا اختيار القاضي أبي يعلى وغيره.
والثانية أنها ثبتت بالنص الخفي ، والإشارة قال وبهذا قال الحسن البصري ، وجماعة من أهل الحديث ، وبكر ابن أخت عبد الواحد ، والبيهسية من الخوارج.
قال شيخه أبو عبد الله بن حامد : فأما الدليل على استحقاق أبي بكر الخلافة دون غيره من أهل البيت ، والصحابة فمن كتاب الله وسنّة نبيه ، قال وقد اختلف أصحابنا في الخلافة هل أخذت من حيث النص أو الاستدلال ، فذهب طائفة من أصحابنا إلى أن ذلك بالنص ، وأنه صلى الله تعالى عليه وسلم ذكر ذلك نصا ، وقطع البيان على عينه حتما ، ومن أصحابنا من قال أن ذلك بالاستدلال الجلى .
قال ابن حامد والدليل على إثبات ذلك بالنص ، أخبار من ذلك ما أسنده البخاري ، عن جير بن مطعم قال : (( أتت امرأة إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه ، قالت أرأيت إن جئت فلم أجدك ، كأنها تريد الموت ، قال : إن لم تجديني فأتي أبا بكر ))( ) وذكر له سياقا آخر وأحاديث أُخر . قال وذلك نص على إمامته .
قال وحديث سفيان ، عن عبد الملك بن عمير ، عن ربعي ، عن حذيفة ابن اليمان ، قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : (( اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر ))( ) .
وأسند البخاري ، عن أبي هريرة ، قال سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. قال : (( بيّنا أنا نائم رأيتني على قليب عليها دلو ، فنزعت منها ما شاء الله ، ثم أخذها ابن أبي قحافة ، فنزع منها ذنوبا أو ذنوبين وفي نزعه ضعف ولله يغفر له ضعفه ، ثم استحالت غربا فأخذها عمر بن الخطاب فلم أر عبقريا من الناس ينزع نزع عمر ، حتى ضرب الناس بعطن ))( ) قال : وذلك نص في الإمامة .
قال : ويدل عليه ما أخبرنا أبو بكر بن مالك ، وروى عن مسند أحمد ، عن حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد بن جدعان ، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه ، قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوما: (( أيكم رأى رؤيا فقلت : أنا رأيت يا رسول الله كأن ميزانا دلي من السماء ، فوزنت بأبي بكر فرجحت بأبي بكر ، ثم وزن أبو بكر بعمر فرجح ، أبو بكر بعمر ثم وزن عمر بعثمان فرجح عمر بعثمان ثم رفع الميزان ، فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (( خلافة نبوه ، ثم يؤتي الله الملك لمن يشاء))( ).
قال وأسند أبو داود عن جابر الأنصاري ، قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : (( رأى الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله ، ونيط عمر بأبي بكر ، ونيط عثمان بعمر ))، قال جابر فلما قمنا من عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم . قلنا أما الصالح فرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وأما نوط بعضهم ببعض ، فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه .
قال : ومن ذلك حديث صالح بن كيسان ، عن الزهري ، عن عروة، عن عائشة –رضي الله عنها - ، قالت : دخل عليّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم .اليوم الذي بدئ فيه ، فقال(( ادعي لي أباك وأخاك ، حتى أكتب لأبي لكر كتابا ، ثم قال يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر ، وفي لفظ فلا يطمع في هذا الأمر طامع ))( ) .
و هذا الحديث في الصحيحين ورواه من طريق أبي داود الطيالسي ، عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة ، قالت : لما ثقل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : (( ادعي لي عبد الرحمن بن أبي بكر لأكتب لأبي بكر كتابا، لا يختلف عليه ثم قال معاذ الله أن يختلف المؤمنون في أبي بكر )) ، وذكر أحاديث تقديمه في الصلاة ، وأحاديث أُخر لم أذكرها لكونها ليست مما يثبته أهل الحديث .
وقال أبو محمد بن حزم في كتابه الملل والنحل : اختلف الناس في الإمامة بعد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، فقالت طائفة : إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لم يستخلف أحدا ، ثم اختلفوا فقال بعضهم : لكن لما استخلف أبا بكر على الصلاة كان ذلك دليلا على أنه أولاهم بالإمامة والخلافة على الأمر ، وقال بعضهم : لا ولكن كان أثبتهم فضلا ، فقدموه لذلك، وقالت طائفة : بل نص رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على استخلاف أبي بكر بعده ، على أمور الناس نصا جليا .
قال أبو محمد وبهذا نقول : لبراهين أحدها أطباق الناس كلهم ، وهم الذين قال الله فيهم : ِللفقراءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالَهُم َيبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ و َرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُم
الصَّادِقُون ( ) .
فقد اتفق هؤلاء الذين شهد الله لهم بالصدق ، وجميع إخوانهم من الأنصارم ، على أن سموه خليفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم .
ومعنى الخليفة في اللغة هو الذي يستخلفه المرء ، لا الذي يخلفه دون أن يستخلفه هو ، لا يجوز غير هذا البتة في اللغة بلا خلاف ، يقال : استخلف فلان فلانا يستخلفه فهو خليفته ومستخلفه ، فإن قام مكانه دون أن يستخلفه لم يقل إلا خلف فلان فلانا يخلفه فهو خالف .
قال : ومحال أن يعنوا بذلك الاستخلاف على الصلاة ، لوجهين ضروريين .
( أحدهما ): أنه لم يستحق أبو بكر قط هذا الاسم على الإطلاق في حياة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وهو حينئذ خليفته على الصلاة فصح يقينا أن خلافته المسمى بها هي غير خلافته على الصلاة .
(والثاني):أن كل من استخلفه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في حياته ، كعليّ في غزوة تبوك ، وابن أم مكتوم في غزوة الخندق ، وعثمان بن عفان في غزوة ذات الرقاع ، وسائر من استخلفه على البلاد باليمن ، والبحرين، والطائف ، وغيرها ، لم يستحق أحد منهم بلا خلاف بين أحد من الأئمة أن يسمى خليفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم -، فصح يقينا بالضرورة التي لا محيد عنها أنها الخلافة بعده ، على أمته .
ومن المحال أن يجمعوا على ذلك ، وهو لم يستخلفه نصا ، ولو لم يكن هاهنا إلا استخلافه في الصلاة ، لم يكن أبو بكر أولى بهذا الاسم من سائر من ذكرناه ، قال: وأيضا فإن الرواية قد صحت. أن امرأة قالت : يا رسول الله : أرأيت إن رجعت فلم أجدك ، كأنها تعني الموت ؟ قال : (( فأتي أبا بكر ))( ) قال: وهذا نص جلى على استخلاف أبي بكر .
قال : وأيضا فإن الخبر قد جاء من الطرق الثابتة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال لعائشة في مرضه الذي توفي فيه : (( لقد هممت أن أبعث إلى أبيك وأخيك وأكتب كتابا وأعهد عهدا لكيلا يقول قائل : أنا أحق أو يتمنى متمنى ، ويأبى الله ورسوله والمؤمنون إلا أبا بكر ))( ) .
وروى أيضا – ويأبى الله والنبيون إلا أبا بكر – قال : فهذا نص جلى على استخلافه صلى الله تعالى عليه وسلم – أبا بكر على ولاية الأمة بعده .
قال : واحتج من قال لم يستخلف بالخبر المأثور عن عبد الله بن عمر، عن عمر ، أنه قال إن استخلف فقد استخلف من هو خير مني يعني أبا بكر ، وإلا استخلف فلم يستخلف من هو خير مني ، يعني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ( ).وبما روى عن عائشةا ، أنها سئلت : من كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مستخلفا لو استخلف ؟( )
قال : ومن المحال أن يعارض إجماع الصحابة الذي ذكرنا عنهم ، والأثران الصحيحان المسندان إلى رسول الله صلى تعالى الله عليه وسلم ، من لفظه بمثل هذين الأثرين الموقوفين على عمر وعائشة ، مما لا تقوم به حجة ظاهرة . مع أن هذا الأثر خفى على عمر ، كما خفى عليه كثير من أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، كالاستئذان وغيره ، وأنه أراد استخلافا بعهد مكتوب ، ونحن نقر أن استخلافه لم يكن بعهد مكتوب ، وأما الخبر في ذلك عن عائشة ا فكذلك أيضا ، وقد يخرج كلاهما عن سؤال سائل. وإنما الحجة في روايتهما لا في قولهما .
(قلت ):الكلام في تثبيت خلافة أبي بكر و غيره مبسوط في غير هذا الموضع ،وإنما المقصود هنا البيان لكلام الناس في خلافته، هل حصل عليها نص خفى أو جلى، وهل تثبت بذلك أو بالاختيار،من أهل الحل والعقد فقد تبين أن كثيراً من السلف والخلف قالوا فيها بالنص الجلى،أو الخفى ،وحينئذ فقد بطل قدح الرافضي في أهل السنة بقوله:انهم يقولون ان النبي لم ينص إلى إمامة أحد،وانه مات عن غير وصية.
وكذلك ان هذا القول لم يقله جميعهم،فان كان حقا فقد قاله بعضهم،وان كان الحق هو نقيضه فقد قال بعضهم ذلك،فعلى التقديرين لم يخرج الحق عن أهل السنّة ، أيضا فلو قدر أن القول بالنص هو الحق لم يكن في ذلك حجة للشيعة فإن الرواندية تقول بالنص على العباس كما قالوا هم بالنص على علي.
قال القاضي أبو يعلى وغيره ، : واختلفت الرواندية فذهب جماعة منهم إلى أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم نص على العباس بعينه واسمه وأعلن ذلك وكشف وصرح به ، وأن الأمة جحدت هذا النص وارتدت . وخالفت أمر الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم عنادا ، ومنهم من قال : إن النص على العباس وولده من بعده إلى أن تقوم الساعة ، يعني هو نص خفي . فهذان قولان للرواندية ، كالقولين للشيعة ، فإن الإمامية تقول : أنه نص علي بن أبي طالب من طريق التصريح والتسمية ، بأن هذا هو الإمام من بعدي . فاسمعوا له وأطيعوا ، والزيدية تخالفهم في هذا .
ثم من الزيدية من يقول : إنما نص عليه بقوله : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى ، وأمثال ذلك من النص الخفي الذي يحتاج إلى تأمل لمعناه ، وحكي عن الجارودية من الزيدية : أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم نص على عليّ بصفة لم توجد إلا فيه ، لا من جهة التسمية ، فدعوى الرواندية في النص من جنس دعوى الرافضة، وقد ذكر في الإمامية أقوال أخرى .
والمقصود هنا أن أقوال الرافضة معارضة بنظيرها ، فإن دعواهم النص على عليّ كدعوى أولئك النص على العباس ، وكلا القولين مما يعلم فساده بالاضطرار ، ولم يقل أحد من أهل العلم شيئاً من هذين القولين ، وإنما ابتدعهما أهل الكذب كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه ، ولهذا لم يكن أهل الدين من ولد العباس وعلي يدّعون هذا ، ولا هذا بخلاف النص على أبي بكر فإن القائلين به طائفة من أهل العلم .
والمقصود هنا أن كثيراً من أهل السنّة يقولون : أن خلافته تثبت بالنص ، وهم يسندون ذلك إلى أحاديث معروفة صحيحة ، ولا ريب أن قول هؤلاء أوجه من قول من يقول أن خلافة علي أو العباس ثبتت بالنص.
فإن هؤلاء ليس معهم إلا مجرد الكذب والبهتان الذي يعلم بطلانه بالضرورة كل من كان عارفاً بأحوال الإسلام ، أو استدلال بألفاظ لا تدل على ذلك ، كحديث استخلافه في غزوة تبوك ، ونحوه مما سنتكلم عليه إن شاء الله تعالى .
فيقال لهذا : إن وجب أن يكون الخليفة منصوصا عليه ، كان القول بهذا النص أولى من القول بذلك ، وإن لم يجب هذا بطل ذاك . والتحقيق أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم دل المسلمين على استخلاف أبي بكر وأرشدهم إليه ، بأمور متعددة من أقواله وأفعاله ، وأخبر بخلافته أخبار راض بذلك حامدا له وعزم على أن يكتب بذلك عهدا ، ثم علم أن المسلمين يجتمعون عليه فترك الكتاب اكتفاء بذلك .
ثم عزم على ذلك في مرضه يوم الخميس ، ثم لما حصل لبعضهم شك هل ذلك القول من جهة المرض ، أو هو قول يجب اتباعه ، فترك الكتابة اكتفاء بما علم أن الله يختاره والمؤمنون من خلافة أبي بكر ، فلو كان التعيين مما يشتبه على الأمة لبينه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بيانا قاطعا للعذر ، لكن لما دلهم دلالات متعددة على أن أبا بكر هو المتعين وفهموا ذلك حصل المقصود .
ولهذا قال عمر بن الخطاب في خطبته التي خطبها بمحضر من المهاجرين والأنصار : (( وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر )) رواه البخاري ومسلم( ) وفي الصحيحين أيضا عنه أنه قال يوم السقيفة بمحضر من المهاجرين والأنصار : (( أنت خيرنا وسيدنا ، وأحبنا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ))( ) - ولم ينكر ذلك منهم منكر ، ولا قال أحد من الصحابة أن غير أبي بكر من المهاجرين أحق بالخلافة منه ، ولم ينازع أحد في خلافته ، إلا بعض الأنصار طمعا في أن يكون من الأنصار أمير ومن المهاجرين أمير ، وهذا مما ثبت بالنصوص المتواترة عنه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بطلانه .
ثم الأنصار جميعهم بايعوا أبا بكر إلا سعد بن عبادة لكونه هو الذي كان يطلب الولاية ، ولم يقل قط أحد من الصحابة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم نص على غير أبي بكر لا على العباس ولا على علي ، ولا غيرهما ، ولا ادعى العباس ولا علي –ولا أحد ممن يحبهما –الخلافة لواحدٍ منهما ، ولا أنه منصوص عليه ، بل ولا قال أحد من الصحابة أن في قريش من هو أحق بها من أبي بكر ، لا من بني هاشم ولا من غير بني هاشم ، وهذا كله مما يعلمه العلماء العالمون بالآثار والسنن والحديث ، وهو معلوم عندهم بالاضطرار.
فخلافة أبي بكر الصديق دلت النصوص الصحيحة على صحتها ، وثبوتها ورضا الله ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم له بها ، وانعقدت بمبايعة المسلمين له ، واختيارهم إياه ، اختياراً أسندوا فيه إلى ما علموه من تفضيل الله ورسوله ، وأنه أحقهم بهذا الأمر عند الله ورسوله .
فصارت ثابتة بالنص والإجماع جميعا لكن النص دل على رضا الله ورسوله بها وأنها حق وأن الله أمر بها وقدرها وأن المؤمنين يختارونها وكان هذا أبلغ من مجرد العهد بها لأنه حينئذ كان يكون طريق ثبوتها مجرد العهد .
وأما إذا كان المسلمون قد اختاروه من غير عهد ودلت النصوص على صوابهم فيما فعلوه ، ورضا الله ورسوله بذلك ، كان ذلك دليلا على أن الصديق كان فيه من الفضائل التي بان بها عن غيره ما علم المسلمون به أنه أحقهم بالخلافة ، فإن ذلك لا يحتاج فيه إلى عهد خاص ، كما قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم . لما أراد أن يكتب لأبي بكر فقال لعائشة : (( ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا فإني أخاف أن يتمنى متمنى ، ويقول قائل أنا أولى ،ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر ))( ) أخرجاه في الصحيحين وفي البخاري : (( لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه ، وأعهد أن يقول القائلون ، أو يتمنى المتمنون ، ويدفع الله ويأبى المؤمنون ))( ) فبين صلى الله تعالى عليه وسلم أنه يريد ان يكتب كتابا خوفا ثم علم أن الأمر واضح ظاهر ، ليس مما يقبل النزاع فيه ، والأمة حديثة عهد بنبيها ، وهم خير أمة أخرجت للناس ، وأفضل قرون هذه الأمة فلا يتنازعون في هذا الأمر الواضح الجلي .
فإن النزاع إنما يكون لخفاء العلم ، أو لسوء القصد وكلا الأمرين منتف ، فإن العلم بفضيلة أبي بكر جلى ، وسوء القصد لا يقع من جمهور الأمة الذين هم أفضل القرون ، ولهذا قال يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر ، فترك ذلك لعلمه بأن ظهور فضيلة أبى بكر الصديق واستخلافه لهذا الأمر يغني عن العهد ، فلا يحتاج إليه، فتركه لعدم الحاجة وظهور فضيلة الصديق ، واستحقاقه وهذا أبلغ من العهد .
(فصـــــل)
وأما قول الرافضي : إنهم يقولون الإمام بعد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم –أبو بكر بمبايعة عمر ، برضا أربعة ، فيقال له ليس هذا قول أئمة السنّة ، وإن كان بعض أهل الكلام يقول أن الإمامة تنعقد ببيعة أربعة ، كما قال بعضهم : تنعقد ببيعة اثنين ، وقال بعضهم: تنعقد ببيعة واحد ، فليس هذه أقوال أئمة السنّة ، بل الإمامة عندهم تثبت بموافقة أهل الشوكة عليها ، ولا يصير الرجل إماما حتى يوافقه ، أهل الشوكة الذين يحصل بطاعتهم له مقصود الإمامة ، فإن المقصود من الإمامة إنما يحصل بالقدرة والسلطان ، فإذا بويع بيعة حصلت بها القدرة والسلطان ، صار إماما ، ولهذا قال أئمة السنّة من صار له قدرة وسلطان ، يفعل بهما مقصود الولاية فهو من أولي الأمر ، الذين أمر الله بطاعتهم ، ما لم يأمروا بمعصبة الله، فالإمامة ملك وسلطان ، والملك لا يصير ملكا بموافقة واحد ولا اثنين ، ولا أربعة ، إلا أن تكون موافقة غيرهم بحيث يصير ملكا بذلك ، وهكذا كل أمر يفتقر إلى المعاونة عليه ، لا يحصل إلا بحصول من يمكنهم التعاون عليه ، ولهذا لما بويع علي وصار معه شوكة صار إماما .
وأما قوله : ثم عثمان بن عفان بنص عمر على ستة هو أحدهم فاختاره بعضهم ، فيقال أيضا عثمان لم يصر إماما باختيار بعضهم بل بمبايعة الناس له ، وجميع المسلمين بايعوا عثمان بن عفان لم يتخلف عن بيعته أحد .
قال الإمام أحمد في رواية حمدان بن علي : ما كان في القوم اوكد من بيعة عثمان كانت بإجماعهم .
فلما بايعه ذوو الشوكة والقدرة صار إماما ، وإلا لو قدر أن عبد الرحمن بايعه ولم يبايعه غيره علي ولا غيره من الصحابة أهل الشوكة لم يصر إماما .
ولكن عمر لما جعلها شورى في ستة : عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف ثم أنه خرج طلحة والزبير وسعد باختيارهم وبقي عثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف ، واتفق الثلاثة باختيارهم على أن عبد الرحمن بن عوف لا يتولى ويولى أحد الرجلين .
وأقام عبد الرحمن ثلاثا حلف أنه لم يغتمض فيها بكبير نوم، يشاور السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان ، ويشاور أمراء الأمصار وكانوا قد حجوا مع عمر ذلك العام ، فأشار عليه المسلمون بولاية عثمان.
و ذكرهم أنهم كلهم قدموا عثمان فبايعوه ، لا عن رغبة أعطاهم إياها ولا عن رهبة أخافهم بها ، ولهذا قال غير واحد من السلف والأئمة كأيوب السختياني وأحمد بن حنبل والدارقطني وغيرهم: من قدم علياً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، وهذا من الأدلة الدالة على ان عثمان أفضل لأنهم قدموه باختيارهم، واشتوارهم .
وأما قوله :ثم علي بمبايعة الخلق له فتخصيصه عليّا بمبايعة الخلق دون أبي بكر وعمر وعثمان كلام ظاهر البطلان ، وذلك أنه من المعلوم لكل من عرف سيرة القوم ، أن اتفاق الخلق ومبايعتهم لأبي بكر وعمر وعثمان أعظم من اتفاقهم على بيعة علي وعنهم أجمعين وكل أحد يعلم أنهم اتفقوا على بيعة عثمان أعظم من اتفاقهم على بيعة علي والذين بايعوا عثمان في أول الأمر أفضل من الذين بايعوا عليّا ، فإنه بايعه علي وعبد الرحمن بن عوف و طلحة والزبير بن العوام وعبد الله بن مسعود والعباس بن عبد المطلب وأبي بن كعب وأمثالهم مع سكينة وطمأنينة ، وبعد مشاورة المسلمين ثلاثة أيام ، وأما علي فإنه بويع عقب قتل عثمان ، والقلوب مضطربة ،مختلفة وأكابر الصحابة متفرقون وأحضر طلحة إحضاراً حتى قال من قال أنهم جاءوا به مكرها ، وأنه قال بايعت واللج على قفىّ وكان لأهل الفتنة بالمدينة شوكة لما قتلوا عثمان ، وماج الناس لقتله موجا عظيما ، وكثير من الصحابة لم يبايع عليّا كعبد الله بن عمر وأمثاله ، وكان الناس معه ثلاثة أصناف ، صنف قاتلوا معه ، وصنف قاتلوه ، وصنف لم يقاتلوه ولم يقاتلوا معه ، فكيف يجوز أن يقال في علي بمبايعة الخلق له ، ولا يقال مثل ذلك في مبايعة الثلاثة ولم يختلف عليهم أحد لما بايعهم الناس ، كلهم لا سيما عثمان .
وأما أبو بكر فتخلف عن بيعته سعد لأنهم كانوا قد عينوه للإمارة ، فبقي في نفسه ما يبقى في نفوس البشر ، ولكن هو مع هذا لم يعارض ، ولم يدفع حقا ، ولا أعان على باطل .
بل قد روى الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في مسند الصديق عن عثمان ، عن أبي معاوية عن داود بن عبد الله الأودي ، عن حميد بن عبد الرحمن هو الحميري فذكر حديث السقيفة وفيه : أن الصديق قال : (( ولقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال وأنت قاعد قريش ولاة هذا الأمر فبرّ الناس تبع لبرهم ، وفاجرهم تبع لفاجرهم ، قال ، فقال له سعد : صدقت نحن الوزراء وأنتم الأمراء ))( ) .
فهذا مرسل حسن ولعل حميدا أخذه عن بعض الصحابة الذين شهدوا بذلك ، وفيه فائدة جليلة جدا وهي أن سعد بن عبادة نزل عن مقامه الأول ، في دعوى الإمارة ، وأذعن للصديق بالإمارة فرضي الله عنهم أجمعين .
فإن قال : أردت أن أهل السنّة يقولون أن خلافته انعقدت بمبايعة الخلق له ، لا بالنص فلا ريب أن أهل السنّة وإن كانوا يقولون : إن النص على أن علياً من الخلفاء الراشدين لقوله خلافة النبوة ثلاثون سنة ، فهم يروون النصوص الكثيرة ، في صحة خلافة غيره وهذا أمر معلوم عند أهل الحديث يروون ، في صحة خلافة الثلاثة نصوصا كثيرة بخلاف خلافة علي ، فإن نصوصها قليلة .
فإن الثلاثة اجتمعت الأمة عليهم ، فحصل بهم مقصود الإمامة، وقوتل بهم الكفار وفتحت بهم الأمصار ، وخلافة علي لم يقاتل فيها كافر . ولا فتح مصر وإنما كان السيف بين أهل القبلة .
وأما النص الذي تدعيه الرافضة فهو كالنص الذي تدعيه الرواندية ، على العباس وكلاهما معلوم الفساد بالضرورة عند أهل العلم ، ولو لم يكن في إثبات خلافة علي إلا هذا لم تثبت له إمامة قط، كما لم تثبت للعباس إمامة بنظيره .
وأما قوله : ثم اختلفوا فقال بعضهم : أن الإمام بعده الحسن ، وبعضهم قال أنه معاوية ، فيقال أهل السنّة لم يتنازعوا في هذا بل هم يعلمون أن الحسن بايعه أهل العراق مكان أبيه،وأهل الشام كانوا مع معاوية قبل ذلك.
و قوله : ثم ساقوا الإمامة في بني أمية ثم في بني العباس . فيقال : أهل السنة لا يقولون أن الواحد من هؤلاء كان هو الذي يجب أن يولى دون من سواه،ولا يقولون أنه تجب طاعته في كل ما يأمر.
بل أهل السنة يخبرون بالواقع،ويأمرون بالواجب،فيشهدون بما وقع،ويأمرون بما أمر الله ورسوله،فيقولون هؤلاء هم الذين تولوا،وكان لهم سلطان وقدرة، ، يقدرون بها على مقاصد الولاية ، من إقامة الحدود ، وقسم الأموال ، وتولية الولاية ، وجهاد العدوّ، وإقامة الحج والأعياد ، والجمع وغير ذلك من مقاصد الولاية .
ويقولون : إن الواحد من هؤلاء ونوابهم وغيرهم لا يجوز أن يطاع في معصية الله تعالى – بل يشارك فيما يفعله من طاعة الله ، فيغزى معه الكفار، ويصلى معه الجمعة ، والعيدان ويحج معه، ويعاون في إقامة الحدود ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأمثال ذلك .
فيعاونون على البر والتقوى ولا يعاونون على الإثم والعدوان .
ويقولون : أنه قد تولى غير هؤلاء بالمغرب من بني أمية ، ومن بني علي .
ومن المعلوم أن الناس لا يصلحون إلا بولاة ، وأنه لو تولى من هو دون هؤلاء من الملوك الظلمة لكان ذلك خيرا من عدمهم .
كما يقال ستون سنة مع إمام جائر خير من ليلة واحدة بلا إمام ، ويروى عن علي أنه قال : ((لا بد للناس من إمارة ، برة كانت أو فاجرة ، قيل له هذه البرة قد عرفناها فما بال الفاجرة ؟ قال : يؤمن بها السبيل ، ويقام بها الحدود ، ويجاهد بها العدوّ ، ويقسم بها الفيء )) ذكره علي بن معبد في كتاب الطاعة والمعصية .
وكل من تولى كان خيرا من المعدوم المنتظر ، الذي تقول الرافضة أنه الخلف الحجة ، فإن هذا لم يحصل بإمامته شيء من المصلحة ، لا في الدنيا ولا في الدين أصلا ، ولا فائدة في إمامته ، إلا الاعتقادات الفاسدة ، والأماني الكاذبة ، والفتن بين الأمة وانتظار من لا يجيء فتطوى الأعمار ولم يحصل من فائدة هذه الإمامة شيء .
والناس لا يمكنهم بقاء أيام قليلة بلا ولاة أمور ، بل كانت أمورهم تفسد ، فكيف تصلح أمورهم إذا لم يكن لهم إمام إلا من لا يعرف ، ولا يدري ما يقول ، ولا يقدر على شيء من أمور الإمامة ، بل هو معدوم .
وأما آباؤه فلم يكن لهم قدرة وسلطان الإمامة ، بل كان لأهل العلم والدين منهم إمامة أمثالهم من جنس الحديث ، والفتيا ونحو ذلك ، لم يكن لهم سلطان لشوكة ، فكانوا عاجزين عن الإمامة ، سواء كانوا أولى بالولاية أو لم يكونوا أولى .
فبكل حال ما مكنوا ولا ولوا ، ولا كان يحصل بهم المطلوب، من الولاية لعدم القدرة والسلطان ، ولو أطاعهم المؤمن لم يحصل له بطاعتهم المصالح التي تحصل بطاعة الأئمة من جهاد الأعداء ، وإيصال الحقوق إلى مستحقيها ، أو بعضهم وإقامة الحدود.
فإن قال القائل : إن الواحد من هؤلاء أو من غيرهم إمام أي ذو سلطان وقدرة ، يحصل بهما مقاصد الإمامة ، كان هذا مكابر للحس .
ولو كان ذلك كذلك لم يكن هناك متول يزاحمهم ، ولا يستبد الأمر دونهم ، وهذا لا يقوله أحد . وإن قال أنهم أئمة بمعنى أنهم هم الذين يجب أن يولوا ، وأن الناس عصوا بترك توليتهم .
فهذا بمنزلة أن يقال فلان كان يستحق أن يولى القضاء ، ولكن لم يول ظلما وعدوانا .
ومن المعلوم أن أهل السنّة لا ينازعون في أنه كان بعض أهل الشوكة بعد الخلفاء الأربعة ، يولون شخصا وغيره أولى بالولاية منه ، وقد كان عمر بن عبد العزيز يختار أن يولى القاسم بن محمد بعده لكنه لم يطق ذلك ، لأن أهل الشوكة لم يكونوا موافقين على ذلك . وحينئذ فأهل الشوكة الذين قدّموا المرجوح وتركوا الراجح ، والذي تولى بقوّته وقوة أتباعه ظلما وبغيا ، فيكون إثم هذه الولاية على من ترك الواجب مع قدرته على فعله ، أو أعان على الظلم .
وأما من لم يظلم ولا أعان ظالما وإنما أعان على البر والتقوى فليس عليه من هذا شيء . ومعلوم أن صالحي المؤمنين لا يعاونون الولاة إلا على البر والتقوى ، لا يعاونونهم على الإثم والعدوان .
وأهل السنّة يقولون ينبغي أن يولى الاصلح للولاية ، إذا أمكن إما وجوبا عند أكثرهم ، وإما استحبابا عند بعضهم ، وإن من عدل عن الأصلح مع قدرته لهواه فهو ظالم ، ومن كان عاجزا عن تولية الأصلح مع محبته لذلك فهو معذور .
ويقولون : من تولى فإنه يستعان به على طاعة الله بحسب الإمكان ، ولا يعان إلا على طاعة الله ، ولا يستعان به على معصية الله ، ولا يعان على معصية الله تعالى .
أفليس قول أهل السنّة في الإمامة خيرا من قول من يأمر بطاعة معدوم ، أو عاجز لا يمكنه الإعانة المطلوبة من الأئمة ، ولهذا كانت الرافضة لما عدلت عن مذهب أهل السنّة في معونة أئمة المسلمين والاستعانة بهم ، دخلوا في معاونة الكفار والاستعانة بهم .
فهم يدعون إلى الإمام المعصوم ، ولا يعرف لهم إمام موجود ، يأتمون به ، إلا كفور أو ظلوم ، فهم كالذي يحيل بعض العامة على أولياء الله رجال الغيب ، ولا رجال للغيب عنده إلا أهل الكذب والمكر ، الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ، ويصدّون عن سبيل الله ، أو الجن أو الشياطين الذين يحصل بهم لبعض الناس أحوال شيطانية .
فلو قدر أن ما تدّعيه الرافضة من النص هو حق موجود ، وأن الناس لم يولوا المنصوص عليه لكانوا قد تركوا من يجب توليته ، ولولوا غيره وحينئذ فالإمام الذي قام بمقصود الإمامة هو هذا المولى ، دون الممنوع المقهور .
نعم ذاك يستحق أن يولى ، لكن ما ولى ، فالإثم على من ضيع حقه ، وعدل عنه لا على من لم يضع حقه ولم يتعد . وهم يقولون : أن الإمام وجب نصبه ، لأن لطف ومصلحة للعباد ، فإذا كان الله ورسوله يعلم أن الناس لا يولون هذا المعين إذا أمروا بولايته كان أمرهم بولاية من يولونه وينتفعون بولايته أولى ، من أمرهم بولاية من لا يولونه ، ولا ينتفعون بولايته .
كما قيل في إمامة الصلاة والقضاء ، وغير ذلك ، فكيف إذا كان ما يدعونه من النص من أعظم الكذب والافتراء؟ والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم قد أخبر أمته بما سيكون ، وما يقع بعده ، من التفرق فإذا نص لأمته على إمامة شخص يعلم أنهم لا يولونه ، بل يعدلون عنه ويولون غيره –يحصل لهم بولايته مقصود الولاة – وأنه إذا أفضت النوبة إلى المنصوص حصل من سفك دماء الأمة ما لم يحصل بغير المنصوص ، ولم يحصل من مقاصد الولاية ما حصل بغير المنصوص ، كان الواجب العدول عن المنصوص .
مثال ذلك أن ولىّ الأمر إذا كان عنده شخصان ، ويعلم أنه إن ولى أحدهما أطيع وفتح البلاد ، وأقام الجهاد ، وقهر الأعداء ، وأنه إذا ولى الآخر لم يطع ، ولم يفتح شيئا من البلاد ، بل يقع في الرعية الفتنة والفساد ، كان من المعلوم لكل عاقل أنه ينبغي أن يولي من يعلم أنه إذا ولاه حصل به الخير والمنفعة ، لا من إذا ولاه لم يطع وحصل بينه وبين الرعية الحرب والفتنة . فكيف مع علم الله ورسوله بحال ولاية الثلاثة؟ وما حصل فيها من مصالح الأمة ، في دينها ودنياها ، لا ينص عليها وينص على ولاية من لا يطاع بل يحارب ويقاتل ، حتى لا يمكنه قهر الأعداء ولا إصلاح الأولياء .
وهل يكون من ينص على ولاية هذا دون ذاك إلا جاهلا إن لم يعلم الحال أو ظالما مفسدا . إن علم . والله ورسوله بريء من الجهل والظلم .
وهم يضيفون إلى الله ورسوله العدول عما فيه مصلحة العباد، إلى ما ليس فيه إلا الفساد .
وإذا قيل إن الفساد حصل من معصيتهم لا من تقصيره . قيل أفليس ولاية من يطيعونه فتحصل المصلحة أولى من ولاية من يعصونه ، فلا تحصل المصلحة بل المفسدة ؟
ولو كان للرجل ولد وهناك مؤدبان إذا أسلمه إلى أحدهما تعلم وتأدب ، وإذا أسلمه إلى الآخر فرّ وهرب ، أفليس إسلامه إلى ذاك أولى ؟ ولو قدر أن ذاك افضل ، فأيّ منفعة في فضيلته إذا لم يحصل للولد به منفعة لنفوره عنه .
ولو خطب المرأة رجلان أحدهما افضل من الآخر لكن المرأة تكرهه، وإن تزوجت به لم تطعه ، بل تخاصمه وتؤذيه ، فلا تنتفع به ولا ينتفع هو بها، والآخر تحبه ويحصل به مقاصد النكاح ، أفليس تزويجها بهذا المفضول أولى باتفاق العقلاء ؟ ونص من ينص على تزويجها بهذا أولى من النص على تزويجها بهذا .
فكيف يضاف إلى الله ورسوله ما لا يرضاه إلا ظالم ، أو جاهل ، وهذا ونحوه مما يعلم به بطلان النص بتقدير أن يكون علي هو الأفضل الأحق ، بالإمارة ، لكن لا يحصل بولايته إلا ما حصل ، وغيره ظالم يحصل به ما حصل من المصالح ، فكيف إذا لم يكن الأمر كذلك ، لا في هذا ولا في هذا .
فقول أهل السنّة خبر صادق وقول حكيم ، وقول الرافضة خبر كاذب وقول سفه ، فأهل السنّة يقولون الأمير والإمام والخليفة ذو السلطان الموجود ، الذي له القدرة على عمل مقصود الولاية ، كما أن إمام الصلاة هو الذي يصلي بالناس ، وهم يأتمون به ليس إمام الصلاة من يستحق أن يكون إماما وهو لا يصلي بأحد ، لكن هذا ينبغي أن يكون إماما ، والفرق بين الإمام وبين من ينبغي أن يكون هو الإمام لا يخفى على الطغام .
ويقولون أنه يعاون على البر والتقوى ، دون الإثم والعدوان ، ويطاع في طاعة الله دون معصيته ، ولا يخرج عليه بالسيف ، وأحاديث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إنما تدل على هذا .
كما في الصحيحين ، عن ابن عباس –رضي الله عنهما – عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال:((من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه ، فإنه ليس أحد من الناس يخرج عن السلطان شبرا فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية ))( ) فجعل المحذور هو الخروج عن السلطان ومفارقة الجماعة وأمر بالصبر على ما يكره من الأمير لم يخص بذلك سلطاناً معيناً ولا أميرا معينا ولا جماعة معينة .
(قال الرافضي الفصل الثاني في أن مذهب الإمامية واجب الاتباع)
ومضمون ما ذكره أن الناس اختلفوا بعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيجب النظر في الحق واعتماد الإنصاف ، ومذهب الإمامية واجب الاتباع لأربعة وجوه ، لأنه أحقها ، وأصدقها ، ولأنهم باينوا جميع الفرق في أصول العقائد ، ولأنهم جازمون بالنجاة لأنفسهم ، ولأنهم أخذوا دينهم عن الأئمة المعصومين ، وهذا حكاية لفظه .
قال الرافضي : أنه لما عمت البلية بموت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم –واختلف الناس بعده ، وتعددت آراؤهم ، بحسب تعدد أهوائهم ، فبعضهم طلب الأمر لنفسه بغير حق ، وبايعه أكثر الناس للدنيا ، كما اختار عمرو بن سعد ملك الرى أياما يسيرة ، لما خير بينه وبين قتل الحسين مع علمه ، بأن من قتله في النار ، واختياره ذلك في شعره حيث يقول :
فوالله ما أدري وإني لصـادق أفـكرفي أمـرعلى خطرين
أاترك ملك الرىّ والرى منيتي أم أصبـح مأثوما بقتل حسين
وفي قتله النار التي ليس دونها حجاب وملك الرىّ قرة عيني
وبعضهم اشتبه الأمر عليه ، ورأى لطالب الدنيا مبايعا ، فقلده وبايعه وقصر في نظره ، فخفى عليه الحق فاستحق المؤاخذة من الله تعالى بإعطاء الحق لغير مستحقه بسبب إهمال النظر ، وبعضهم قلد لقصور فطنته ، ورأى الجم الغفير فتابعهم ، وتوهم أن الكثرة تستلزم الصواب ، وغفل عن قوله تعالى : وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ( ) وَقَلِيلُ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُور ( ) وبعضهم طلب الأمر لنفسه بحق له وبايعه الأقلون الذين أعرضوا عن الدنيا وزينتها ، ولم يأخذهم في الله لومة لائم بل أخلصوا لله واتبعوا ما أمروا به من طاعة من يستحق التقديم .
وحيث حصل للمسلمين هذه البلية ، وجب على كل أحد النظر في الحق واعتماد الإنصاف ، وأن يقر الحق مستقره ، ولا يظلم مستحقه ، فقد قال تعالى : أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِين ( ) و إنما كان مذهب الإمامية واجب الاتباع لوجوه هذا لفظه .
فيقال: أنه قد جعل المسلمين بعد نبيهم أربعة أصناف ،، وهذا من أعظم الكذب فإنه لم يكن من في الصحابة المعروفين أحد من هذه الأصناف الأربعة، فضلا عن أن لا يكون فيهم أحد إلا من هذه الأصناف .
إما طالب للأمر بغير حق كأبي بكر في زعمه . وإما طالب للأمر بحق كعلي في زعمه .
وهذا كذب على علي ، وعلى أبي بكر ، فلا علي طلب الأمر لنفسه قبل قتل عثمان ، ولا أبو بكر طلب الأمر لنفسه فضلا عن أن يكون طلبه بغير حق .
وجعل القسمين الآخرين إما مقلدا لأجل الدنيا، وإما مقلدا لقصوره في النظر، وذلك أن الإنسان يجب عليه ان يعرف الحق وأن يتبعه ، وهو الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم ، من النبيين والصديقين ، والشهداء والصالحين ، غير المغضوب عليهم ، ولا الضالين . وهذا هو الصراط الذي أمرنا أن نسأله هدايتنا إياه ، في كل صلاة بل في كل ركعة .
وهذه الأمة خير الأمم ، وخيرها القرن الأول ، كان القرن الأول أكمل الناس في العلم النافع ، والعمل الصالح .
وهؤلاء المفترون وصفوهم بنقيض ذلك ، بأنهم لم يكونوا يعلمون الحق ويتبعونه ، بل كان أكثرهم عندهم يعلمون الحق ويخالفونه ، كما يزعمون في الخلفاء الثلاثة ، وجمهور الصحابة ، والأمة ، وكثير منهم عندهم لا يعلم الحق ، بل اتبع الظالمين تقليداً لعدم نظرهم المفضى إلى العلم ، والذي لم ينظر قد يكون تركه النظر لأجل الهوى وطلب الدنيا ، وقد يكون لقصوره ونقص إدراكه .
وادعى أن منهم من طلب الأمر لنفسه بحق يعني علياً ، وهذا مما علمنا بالاضطرار أنه لم يكن ، فلزم من ذلك على قول هؤلاء أن تكون الأمة كلها كانت ضالة ، بعد نبيها ليس فيها مهتد .
فتكون اليهود ولنصارى بعد النسخ والتبديل خيراً منهم ، لأنهم كما قال تعالى: وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةً يَهْدُونَ بِالحَقِّ وَهُمْ يَعْدِلُون ( ) . وقد أخبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن اليهود والنصارى افترقت على أكثرمن سبعين فرقة ، فيها واحدة ناجية ، وهذه الأمة على موجب ما ذكروه لم يكن فيهم بعد موت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أمة تقوم بالحق ولا تعدل به، وإذا لم يكن ذلك في خيار قرونهم ففيما بعد ذلك أولى .
فيلزم من ذلك ان يكون اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل خيرا من خير أمة أخرجت للناس ، فهذا لازم لما يقوله هؤلاء المفترون ، فإذا كان هذا في حكايته لما جرى عقب موت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من اختلاف الأمة ، فكيف سائر ما ينقله ويستدل به ، ونحن نبين ما في هذه الحكاية من الأكاذيب من وجوه كثيرة، فنقول :
ما ذكره هذا المفترى من قوله : أنه لما عمت البلية على كافة المسلمين بموت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم . واختلف الناس بعده ، وتعددت آراؤهم بحسب تعدد أهوائهم ، فبعضهم طلب الأمر لنفسه ، وتابعه أكثر الناس طلباً للدنيا ، كما اختار عمر بن سعد ، ملك الرى أياما يسيرة لما خير بينه وين قتل الحسين ، مع علمه بان في قتله النار واختياره ذلك في شعره .
فيقال في هذا الكلام من الكذب ، والباطل وذم خيار الأمة ، بغير حق ما لا يخفى من وجوه . (أحدهما ) :قوله تعددت آراؤهم بحسب تعدد أهوائهم ، فيكون كلهم متبعين أهوائهم ، ليس فيهم طالب حق ، ولا مريد لوجه الله تعالى والدار الآخرة ، ولا من كان قوله عن اجتهاد واستدلال .
وعموم لفظه يشمل علياً وغيره ، وهؤلاء الذين وصفهم بهذا ، هم الذين أثنى الله عليهم هو ورسوله ، ورضي الله عنهم ووعدهم الحسنى ، كما قال تعالى : وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرينَ وَالأَنْصَار الَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانم وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتها الأَنْهَار خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيم ( ) .وقال تعالى : ُمُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءَ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءَ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُم في وُجُوهِهِم مِنْ أَثَرِ السُّجُودْ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ في التَّوْرَاةِ ، وَمَثَلُهُمْ في الِإنْجِيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ ِبِهم الكُفَّار ، وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيمًا ( ) .
وقال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ في سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أَوْلَئِكَ بَعضُهم أَوْلِيَاءَ بَعْض –إلى قوله –أُوْلَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُم مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيم وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعد وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُم فَأُوْلَئِكَ مِنْكُم ( ) .
وقال تعالى : لاَ يَسْتَوِي مِنْكُم مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَل أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْد وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى ( ) .
وقال تعالى : ِللفقراءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِم يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضوانًا وَيَنْصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُم الصَّادِقُون وَالَّذِينَ تَبَوّؤا الدَّارَ وَالإِيمَان مِن قَبْلِهِم يُحِبُّون مَن هَاجَرَ إِلَيْهِم وَلاَ يَجِدُونَ في صُدُورِهِم حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفسِهِم وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِم يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَان وَلاَ تَجْعَلْ في قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيم ( ) .
وهذه الآيات تتضمن الثناء على المهاجرين ، والأنصار ، وعلى الذين جاءوا من بعدهم ، يستغفرون لهم ويسألون الله أن لا يجعل في قلوبهم غلا لهم ، وتتضمن أن هؤلاء الأصناف هم المستحقون للفيء .
ولا ريب أن هؤلاء الرافضة خارجون من الأصناف الثلاثة فإنهم لم يستغفروا للسابقين ، وفي قلوبهم غل عليهم ، ففي الآيات الثناء على الصحابة، وعلى أهل السنّة الذين يتولونهم ، وإخراج الرافضة من ذلك ، وقد روى ابن بطة وغيره من حديث أبي بدر ، قال : حدثنا عبد الله بن زيد ، عن طلحة بن مصرف ، عن مصعب بن سعد ، عن سعد بن أبي وقاص ، قال : ((الناس على ثلاث منازل فمضت منزلتان وبقيت واحدة ، فأحسن ما أنتم عليه كائنون، أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت .
ثم قرأ للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، هؤلاء المهاجرون ، وهذه منزلة قد مضت، ثم قرا والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا . ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصا صة .
ثم قال هؤلاء الأنصار وهذه منزلة قد مضت .
ثم قرأ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ ، يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَان ، وَلا تَجْعَلْ في قُلُوبِنَا غُلاًّ للَّذِينَ آمَنُوا، رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ( ) ، فقد مضت هاتان وبقيت هذه المنزلة ، فأحسن ما أنتم عليه كائنون أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت أن تستغفروا لهم ))( ) .
وروى أيضا بإسناده عن مالك بن أنس أنه قال:(( من سب السلف فليس له في الفيء نصيب )) لأن الله تعالى يقول : وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِم ( )
-الآية – وهذا معروف عن مالك ، وغير مالك من أهل العلم كأبي عبيد القاسم بن سلام( ) .
وكذلك ذكره أبو حكيم النهرواني ، من أصحاب أحمد وغيره من الفقهاء، وروى أيضا عن الحسن بن عمارة ، عن الحكيم عن مقسم عن ابن عباسما . قال : (( أمر الله بالاستغفار لأصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وهو يعلم أنهم يقتتلون ))( ) .
وقال عروة قالت لي عائشةا : (( يا ابن أختي أمروا بالاستغفار لأصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم . فسبوهم ))( ) .
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال . قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : (( لا تسبوا أصحابي فلو ان أحدهم أنفق مثل أُحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه))( ) .
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : (( لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أُحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ))( ) .
وفي صحيح مسلم أيضاً عن جابر بن عبد الله قال : قيل لعائشة : (( إن ناسا يتناولون أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، حتى أبا بكر وعمر ، فقالت وما تعجبون من هذا ، انقطع عنهم العمل ، فأحب الله أن لا يقطع عنهم الأجر ))( ) .
وروى ابن بطة بالإسناد الصحيح عن عبد الله بن أحمد قال حدثني أبي . حدثنا معاوية . حدثنا رجاء عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : (( لا تسبوا أصحاب محمد فإن الله تعالى قد أمرنا بالاستغفار لهم وهو يعلم أنهم سيقتلون ))( ).
ومن طريق أحمد ، عن عبد الرحمن بن مهدي ، وطريق غيره عن وكيع ، وأبي نعيم ثلاثتهم ، عن الثوري ، عن نسير بن ذعلوق ، سمعت عبد الله بن عمر يقول : (( لا تسبوا أصحاب محمد ، فلمقام أحدهم ساعة يعني مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم خير من عمل أحدكم أربعين سنة )).
وفي رواية وكيع ( خير من عبادة أحدكم عمره ) .
وقال تعالى : َلقد رَضِيَ اللهُ عَنِ الُمُؤمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَة فَعَلِمَ مَا في قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِم وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيمًا وَعَدَكُم اللهُ مَغَانِمَ كَثِيَرةً تَأخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُم هَذِهِ وَكَفَّ أيدي النَّاسِ عَنْكُم وَلِتَكُونَ آيةً للمُؤمِنِين وَيهْديكُم صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللهُ بِهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرًا ( )
وقد أخبر الله أنه سبحانه وتعالى رضي عنهم ، وأنه علم ما في قلوبهم ، وأنه أثابهم فتحا قريبا .
وهؤلاء هم أعيان من بايع أبا بكر وعمر وعثمان ، بعد موت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، لم يكن في المسلمين من يتقدم عليهم ، بل كان المسلمون كلهم يعرفون فضلهم عليهم ، لأن الله تعالى بين فضلهم في القرآن بقوله : لاَ يَسْتَوِي مِنْكُم مَن أَنْفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذينَ أَنْفَقُوا مِن بَعدُ وَقَاتَلوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى ( ) .
ففضل المنفقين المقاتلين قبل الفتح ، والمراد بالفتح هنا صلح الحديبية ، ولهذا سئل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (( أو فتح هو ؟ فقال : نعم ))( ).
وأهل العلم يعلمون أن فيه أنزل الله تعالى : إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتَمَ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَينْصُرَكَ اللهُ نَصْرًا عَزِيزاً . فقال بعض المسلمين : يا رسول الله هذا لك ، فما لنا ؟ يا رسول الله . فأنزل الله تعالى : ُهوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ في قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِم .
وهذه الآية نص في تفضيل المنفقين المقاتلين قبل الفتح على المنفقين بعده، ولهذا ذهب جمهورالعلماء إلى أن السابقين في قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَار ( ) هم هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح قاتلوا ، وأهل بيعة الرضوان كلهم منهم ،وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة ، وقد ذهب بعضهم إلى أن السابقين الأوّلين، هم من صلى إلى القبلتين ، وهذا ضعيف ، فإن الصلاة إلى القبلة المنسوخة ليس بمجرده فضيلة، ولأن النسخ ليس من فعلهم ، الذي يفضلون به ، ولأن التفضيل بالصلاة إلى القبلتين لم يدل عليه دليل شرعي ، كما دل على التفضيل بالسبق إلى الإنفاق والجهاد ، والمبايعة تحت الشجرة .
وقد علم بالاضطرار أنه كان في هؤلاء السابقين الأولين أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وطلحة ، والزبير ، وبايع النبي بيده عن عثمان ، لأنه كان غائبا قد أرسله إلى أهل مكة ليبلغهم رسالته ، وبسببه بايع النبي الناس ، لما بلغه أنهم قتلوه : وقد ثبت في صحيح مسلم، عن جابر بن عبد الله أنه قال : (( لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة ))( )، وقال تعالى: َلقدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِي وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَار الَّذِينَ اتّبَعُوهُ في سَاعَةِ العُسْرَة مِن بَعْدِ مَا كَانَ يَزِيغُ قُلُوبَ فَرِيقٍ مِنْهَمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِم إِنَّهُ بِهِم رَءُوفٌ رَحِيم( ) .فجمع بينهم وبين رسول الله في التوبة . وقال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِم وَأَنْفُسِهِم في سَبِيلِ الله ، وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُم أَوْلِيَاءَ بَعْض ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا –إلى قوله تعالى –وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعد وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُم فَأُوْلَئِكَ مِنْكُم ( ) فأثبت الموالاة بينهم وقال للمؤمنين: َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتِّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضهُم أَوْلِيَاءَ بَعْض وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُم إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِين –إلى قوله – إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُون ، وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ َحِزْبَ اللهِ هُمُ الغَالِبُون ( ) . وقال تعالى : وَالمُؤمِنُونَ و َالمُؤمِنَات بَعْضَهُم أَوْلِيَاء بَعْض ( ).
فأثبت الموالاة بينهم، وأمرهم بموالاتهم ، والرافضة تتبرأ منهم ولا تتولاهم ،وأصل الموالاة المحبة ، وأصل المعاداة البغض ،وهم يبغضونهم ولا يحبونهم .
وقد وضع بعض الكذابين حديثا مفترى ، أن هذه الآية نزلت في علي لما تصدق بخاتمه في الصلاة ، وهذا كذب بإجماع أهل العلم بالنقل ، وكذبه بيّن من وجوه كثيرة .
منها أن قوله الذين صيغة جمع . وعلي واحد .
ومنها أن الواو ليست واو الحال إذ لو كان كذلك لكان لا يسوغ أن يتولى إلا من أعطى الزكاة في حال الركوع . فلا يتولى سائر الصحابة والقرابة .
ومنها ان المدح إنما يكون بعمل واجب أو مستحب ، وإيتاء الزكاة في نفس الصلاة ليس واجب ولا مستحب ، باتفاق علماء الملة ، فإن الصلاة شغلا.
ومنها أنه لو كان إيتاؤها في الصلاة حسنا لم يكن فرق بين حال الركوع وغير الركوع ، بل إيتاؤها في القيام و القعود أمكن .
ومنها أن عليا لم يكن عليه زكاة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنها أن إيتاء غير الخاتم في الزكاة خير من إيتاء الخاتم ، فإن أكثر الفقهاء يقولون لا يجزئ إخراج الخاتم في الزكاة .
ومنها أن هذا الحديث فيه أنه أعطاه السائل ،والمدح في الزكاة أن يخرجها ابتداء ويخرجها على الفور ، لا ينتظر أن يسأله سائل .
ومنها أن الكلام في سياق النهي عن موالاة الكفار ، والأمر بموالاة المؤمنين ، كما يدل عليه سياق الكلام ، وسيجيء إن شاء الله تعالى تمام الكلام على هذه الآية ، فإن الرافضة لا يكادون يحتجون بحجة إلا كانت حجة عليهم لا لهم ، كاحتجاجهم بهذه الآية على الولاية التي هي الإمارة ، وإنما هي في الولاية التي هي ضد العداوة .
والرافضة مخالفون لها ، والإسماعيلية والنصيرية ونحوهم يوالون الكفار ، من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين ، ويعادون المؤمنين من المهاجرين والأنصار والذين اتبوعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وهذا أمر مشهور .
يعادون خيار عباد الله المؤمنين ويوالون اليهود والنصارى والمشركين من الترك وغيرهم ، وقال تعالى : َيا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِين( ) . أي الله كافيك ومن اتبعك من المؤمنين ، والصحابة أفضل من اتبعه من المؤمنين، وأولهم و قال تعالى : إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْح وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ في دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا .
والذين رآهم النبي يدخلون في دين الله أفواجا هم الذين كانوا على عصره ، وقال تعالى : ُهوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ( ) . و إنما أيده في حياته بالصحابة ، و قال تعالى :
وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ المتُّقُون لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِين لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُم أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُون ( ) .
وهذا الصنف الذي يقول الصدق ، ويصدق به خلاف الصنف الذي يفتري الكذب أو يكذب بالحق ، لما جاءه كما سنبسط القول فيهما إن شاء الله تعالى .
والصحابة الذين كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وأن القرآن حق ، هم أفضل من جاء بالصدق وصدق به ، بعد الأنبياء وليس في الطوائف المنتسبة إلى القبلة أعظم افتراء للكذب على الله وتكذيبا بالحق من المنتسبين إلى التشيع . ولهذا لا يوجد الغلو في طائفة أكثر مما يوجد فيهم .
ومنهم من ادعى إلهية البشر ، وادعى النبوة في غير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وادعى العصمة في الأئمة ، ونحو ذلك مما هو أعظم مما يوجد في سائر الطوائف ، واتفق أهل العلم أن الكذب ليس في طائفة من المنتسبين إلى القبلة أكثر منه فيهم ، وقال تعالى : ُ قلِ الْحَمْدُ ِللهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى . قال طائفة من السلف هم أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ،ولا ريب أنهم أفضل المصطفين من هذه الأمة ، التي قال الله فيها : ُثمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُم ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُقْتَصِد وَمِنْهُم سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ الله ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِير جَنَّات عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُم فِيها حَرِير وَقَالوا الْحَمْدُ ِللهِ الَّذي أَذْهَبَ عَنَّا الحَزَن إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُور الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ المُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لاَ يَمَسّنَا فيها نَصبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فيها لُغُوب ( ) .
فأمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم الذين أورثوا الكتاب بعد الأمتين قبلهم اليهود والنصارى .
وقد أخبر الله تعالى أنهم الذين اصطفى .
وتواتر عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : (( خير القرون القرن الذي بعثت فيه ، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ))، ومحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه هم المصطفون ، من المصطفين من عباد الله وقال تعالى : ُمحمدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءَ عَلَى الْكُفَّارُ رُحَمَاءَ بَيْنَهُم ( ) إلى آخر السورة . وقال تعالى وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم في الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُم وَلَيُبْدِلَنَّهُم مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُون ( ) . فقد وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالاستخلاف ، كما وعدهم في تلك الآية مغفرة وأجرا عظيما ، والله لا يخلف الميعاد .
فدل ذلك أن الذين استخلفهم كما استخلف الذين من قبلهم ومكن لهم دين الإسلام ، وهو الدين الذي ارتضاه لهم ، كما قال تعالى : وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دينًا ( ) وبدلهم بعد خوفهم أمنا لهم ( ) المغفرة والأجر العظيم .
وهذا يستدل به على وجهين : على أن المستخلفين مؤمنون عملوا الصالحات ، لأن الوعد لهم لا لغيرهم ، ويستدل به على ان هؤلاء مغفور لهم، ولهم أجر عظيم ، لأنهم آمنوا وعملوا الصالحات ، فتناولتهم الآيتان – آية النور وآية الفتح .
من المعلوم أن هذه النعوت منطبقة على الصحابة على زمن أبي بكر وعمر وعثمان ، فإنه إذ ذاك حصل الاستخلاف ، وتمكن الدين والأمن ، بعد الخوف لما قهروا فارس والروم وفتحوا الشام والعراق ، ومصر وخراسان ، وأفريقية .
ولما قتل عثمان وحصلت الفتنة لم يفتحوا شيئا من بلاد الكفار ، بل طمع فيهم الكفار بالشام وخراسان ، وكان بعضهم يخاف بعضاً .
وحينئذ قد دل القرآن على إيمان أبي بكر وعمر وعثمان ،ومن كان معهم في زمن الاستخلاف والتمكين والأمن ، والذين كانوا في زمن الاستخلاف والتمكين والأمن أدركوا زمن الفتنة كعلي وطلحة وأبي موسى الأشعري ، ومعاوية وعمرو بن العاص ، دخلوا في الآية لأنهم استخلفوا ومكنوا ، وأمنوا .
و أما من حدث في زمن الفتنة كالرافضة الذين حدثوا في الإسلام ، في زمن الفتنة والافتراق ، وكالخوارج المارقين ،فهؤلاء لم يتناولهم النص ، فلم يدخلوا فيمن وصف بالإيمان والعمل الصالح ، المذكورين في هذه الآية ، لأنهم أولا ليسوا من الصحابة المخاطبين بهذا .
ولم يحصل لهم من الاستخلاف والتمكين والأمن بعد الخوف ما حصل للصحابة ، بل لا يزالون خائفين مقلقلين غير ممكنين .
فإن قيل لما قال وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم ولم يقل وعدهم كلهم . قيل كما قال وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ، ولم يقل وعدكم .
و"من" تكون لبيان الجنس فلا يقتضي أن يكون قد بقي من المجرور بها شيء خارج ، عن ذلك الجنس كما في قوله تعالى : َفاجتنبوْا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَان ( ) فإنه لا يقتضى أن يكون من الأوثان ما ليس برجس ، وإذا قلت ثوبا من حرير ، فهو كقولك ثوب حرير ، وكذلك قولك باب من حديد فهو، كقولك باب حديد ، وذلك لا يقتضي أن يكون هناك حرير وحديد غير المضاف إليه ، وإن كان الذي يتصوره كليا ، فإن الجنس الكلي ، هو ما لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه ، وإن لم يكن مشتركاً فيه في الوجود .
فإذا كانت من بيان الجنس ، كان التقدير وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات من هذا الجنس ، وإن كان الجنس كلهم مؤمنين صالحين ، وكذلك إذا قال وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات من هذا الجنس والصنف مغفرة وأجراً عظيما ، لم يمنع ذلك أن يكون جميع هذا الجنس مؤمنين صالحين .
ولما قال لأزواج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ للهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ( ) لم يمنع أن يكون كل منهن تقنت لله ورسوله ، وتعمل صالحا ، ولما قال تعالى : وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَليَكُم كَتَبَ رَبُّكُم عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُم سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( ) لم يمنع أن يكون كل منهم متصفاً بهذه الصفة ، ولا يجوز ان يقال أنهم لو عملوا سوءاً بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا لم يغفر إلا لبعضهم.
ولهذا تدخل من هذه في النفي لتحقيق نفي الجنس كما في قوله تعالى :
وَمَا التَّنَاهُم مِن عَمَلِهِم مِن شَيء( ) وقوله تعالى: وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ الله( ) فَمَا مِنْكُم مِن أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِين ( ) .
ولهذا إذا دخلت في النفي تحقـيقا أو تقديرا أفادت نفـي الجنس قطعاً ، (فالتحقيق ما ذكر والتقدير كقوله تعالى: لا إله إلا الله وقوله: لاَرَيْبَ فيه ونحو ذلك بخلاف ما إذا لم تكن "من"موجودة كقولك (( ما رأيت رجلا )) فإنها ظاهرة لنفي الجنس ، ولكن قد يجوز أن ينفي بها الواحد من الجنس ، كما قال سيبويه : يجوز أن يقال ما رأيت رجلا ، بل رجلين .
فتبين أنه يجوز إرادة الواحد ، وإن كان الظاهر نفي الجنس ، بخلاف ما إذا دخلت (من ) فإنه ينفي الجنس قطعا ، ولهذا لو قال لعبيده من أعطاني منكم ألفا فهو حر فأعطاه كل واحد ألفا عتقوا كلهم .
وكذلك لو قال واحد لنسائه من أبرأتني منكن من صداقها فهي طالق فأبرأنه كلهن ، طلقن كلهن .
فإن المقصود بقوله منكن بيان جنس المعطى والمبرئ لا إثبات هذا الحكم لبعض العبيد والأزواج .
فإن قيل فهذا كما لا يمنع أن يكون كل المذكور متصفا بهذه الصفة فلا يوجب ذلك أيضا ، فليس في قوله وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات ما يقتضي أن يكونوا كلهم كذلك .
قيل : نعم ونحن لا ندعي أن مجرد هذا اللفظ دل على ان جميعهم موصوفون بالإيمان والعمل الصالح ، ولكن مقصودنا أن (من ) لا ينافى شمول هذا الوصف لهم فلا يقول قائل ان الخطاب دل على ان المدح شملهم وعمهم بقوله محمد رسول الله والذين معه إلى آخر الكلام ، ولا ريب أن هذا مدح لهم بما ذكر ، من الصفات ، وهو الشدة على الكفار ، والرحمة بينهم والركوع والسجود يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، والسيما في وجوههم من أثر السجود ، وانهم يبتدئون من ضعف إلى كمال القوة والاعتدال ، كالزرع والوعد بالمغفرة والأجر العظيم ، ليس على مجرد هذه الصفات بل على الإيمان والعمل الصالح .
فذكر ما به يستحقون الوعد ، وإن كانوا كلهم بهذه الصفة ، ولولا ذكر ذلك لكان يظن انهم بمجرد ما ذكر يستحقون المغفرة والأجر العظيم ولم يكن فيه بيان سبب الجزاء ، بخلاف ما إذا ذكر الإيمان والعمل الصالح .
فإن الحكم إذا علق باسم مشتق مناسب كان ما منه الاشتقاق سبب الحكم.
فإن قيل فالمنافقون كانوا في الظاهر مسلمين ، قيل المنافقون لم كونوا متصفين بهذه الصفات ، ولم يكونوا مع الرسول والمؤمنين ولم يكونوا منهم ، كما قال الله تعالى : َفعسى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا في أَنْفُسِهِم نَادِمِين ، وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنوا أَهَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِم إِنَّهُم لَمَعَكُم حَبطت أَعْمَالُهُم فَاَصْبَحُوا خَاسِرِين ( ) وقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذوى في اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابَ اللهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولن إِنَّا مَعَكُم أَوَ لَيْسَ الله بِأَعْلَم بِمَا في صُدُور العَالَمِين وَلَيَعْلَمَنَّ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُم وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِين ( ) .
فأخبرأن المنافقين ليسوا من المؤمنين ، ولا من أهل الكتاب .
هؤلاء لا يجدون في طائفة من المتظاهرين بالإسلام ، أكثر منهم في الرافضة ، ومن انطوى إليهم . فدل هذا على ان المنافقين لم يكونوا من الذين آمنوا معه ، والذين كانوا منافقين منهم من تاب عن نفاقه وانتهى عنه ، وهم الغالب بدليل قوله تعالى : َلئنْ لَمْ يَنْتَهِ المْنُافِقُونَ وَالَّذِينَ في قُلُوبِهِم مَرَضٌ وَالْمُرْجَفُونَ في الْمَدِينَةِ ِلنُغْرِيَنَّكَ بِهِم ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إلاَّ قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً ( ) .
فلما لم يغره الله بهم ، ولم يقتلهم تقتيلا ، بل كانوا يجاورونه بالمدينة فدل ذلك على أنهم انتهوا ، والذين كانوا معه بالحديبية كلهم بايعوه تحت الشجرة ، إلا الجد بن قيس فإنه اختبأ خلف جمل أحمر .
وكذا حاء في الحديث كلهم يدخل الجنة إلا صاحب الجمل الأحمر ، وبالجملة فلا ريب أن المنافقين كانوا مغمورين مقهورين ، أذلاء ، لا سيما في آخر أيام الرسول . وفي غزوة تبوك لأن الله تعالى قال : َيقولون لئن رَجعنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيَخْرُجَنَّ الأَعَزَّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلله العِزَّةُ َلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤمِنِين وِلَكِن الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُون( ) .
فأخبر أن العزة للمؤمنين ، لا للمنافقين ، فعلم أن العزة والقوة كانت في المؤمنين ، وأن المنافقين كانوا أذلاء بينهم .
فيمتنع أن تكون الصحابة الذين كانوا أعز المسلمين من المنافقين ، بل ذلك يقتضى أن من كان أعز كان أعظم إيمانا .
ومن المعلوم أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، الخلفاء الراشدين وغيرهم كانوا اعز الناس ، وهذا كله مما يبين أن المنافقين كانوا ذليلين في المؤمنين .
فلا يجوز أن يكون الأعزاء من الصحابة منهم ، ولكن هذا الوصف مطابق للمتصفين به من الرافضة وغيرهم ،والنفاق والزندقة في الرافضة أكثر منه في سائر الطوائف .
بل لا بد لكل منهم من شعبة نفاق ، فإن أساس النفاق الذي بني عليه ، الكذب ، وأن يقول الرجل بلسانه ما ليس في قلبه ، كما اخبر الله تعالى عن المنافقين أنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم .
والرافضة تجعل هذا من أصول دينها وتسميه التقية وتحكى هذا عن أئمة أهل البيت الذين برأهم الله عن ذلك ، حتى يحكوا ذلك عن جعفر الصادق أنه قال التقية ديني ودين آبائي و قد نزه الله المؤمنين من أهل البيت وغيرهم عن ذلك.
بل كانوا من أعظم الناس صدقا وتحقيقا للإيمان ، وكان دينهم التقوى لا التقية ، وقول الله تعالى : لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِين وَمَنْ يَفْعَل ذَلِكَ فَلَيْسمِنَ اللهِ في شَيء إلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُم تُقَاه( ).إنما هو الأمر بالاتقاء من الكافرين ، لا الأمر بالنفاق والكذب .
والله تعالى قد أباح لمن أكره على كلمة الكفر أن يتكلم بها ، إذا كان قلبه مطمئنا بالإيمان ، لكن لم يكره أحداً من أهل البيت على شيء من ذلك ، حتى أن أبا بكر لم يكره أحدا لا منهم، ولا من غيرهم على متابعته، فضلا على ان يكرههم على مدحه ، والثناء عليه.
بل كان علي وغيره من أهل البيت يظهرون ذكر فضائل الصحابة والثناء عليهم والترحم عليهم والدعاء لهم ولم يكن أحد يكرههم على شيء منه باتفاق الناس .
وقد كان زمن بني أمية وبني العباس خلق عظيم دون عليّ وغيره في الإيمان والتقوى يكرهون منهم أشياء ولا يمدحونهم ولا يثنون عليهم ، ولا يقربونهم ، ومع هذا لم يكن هؤلاء يخافونهم ، ولم يكن أولئك يكرهونهم مع أن الخلفاء الراشدين كانوا باتفاق الخلق أبعد عن قهر الناس وعقوبتهم على طاعتهم ، من هؤلاء .
فإذا كان لم يكن الناس مع هؤلاء مكرهين على ان يقولوا بألسنتهم خلاف ما في قلوبهم ، فكيف يكونون مكرهين مع الخلفاء على ذلك ، بل على الكذب وشهادة الزور وإظهار الكفر ، كما تقوله الرافضة من غير ان يكرههم أحد على ذلك .
فعلم أن ما تتظاهر به الرافضة هو من باب الكذب والنفاق ، وأنهم يقولوا بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، لا من باب ما يكره المؤمن عليه ، من التكلم بالكفر وهؤلاء أسرى المسلمين ، في بلاد الكفار غالبهم يظهرون دينهم،والخوارج مع تظاهرهم بتكفير الجمهور، وتكفير عثمان وعلي ومن ولاهما يتظاهرون بدينهم.
وإذا سكنوا بين الجماعة ، سكنوا على الموافقة والمخالفة ، والذي يسكن في مدائن الرافضة فلا يظهر الرفض وغايته إذا ضعف ان يسكت عن ذكر مذهبه لا يحتاج أن يتظاهر بسب الخلفاء والصحابة، إلا أن يكونوا قليلا .
فكيف يظن بعلي وغيره من أهل البيت أنهم كانوا اضعف دينا من الأسرى في بلاد الكفر ، ومن عوام أهل السنة ، ومن النواصب ، مع أنا قد علمنا بالتواتر أن أحدا لم يكره عليّا ولا أولاده على ذكر فضائل الخلفاء ، والترحم عليهم ، بل كانوا يقولون ذلك من غير إكراه ، ويقوله أحدهم لخاصته كما ثبت ذلك بالنقل المتواتر .
وأيضا فقد يقال في قوله تعالى : وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُم وَعَمِلوا الصَّالِحَات أن ذلك وصف الجملة بصفة تتضمن حالهم عند الاجتماع كقوله تعالى : وَمَثَلُهُم في الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِه يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغيظَ بِهِم الكُفَّار والمغفرة والأجر في الآخرة يحصل لكل واحد واحد ، فلا بد ان يتصف بسبب ذلك ، وهو الإيمان والعمل الصالح، إذ قد يكون في الجملة منافقا .
وفي الجملة ما في القرآن من خطاب المؤمنين والمتقين والمحسنين ، ومدحهم والثناء عليهم ، فهم أول من دخل في ذلك من هذه الأمة ، وأفضل من دخل في ذلك من هذه الأمة كما استفاض عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من غير وجه أنه قال : (( خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ))( ) .
(الوجه الثاني ) : في بيان كذبه وتحريفه فيما نقله عن حال الصحابة بعد موت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم .
(قوله : فبعضهم طلب الأمر لنفسه بغير حق ، وبايعه اكثر الناس طلبا للدنيا ) .
وهذا إشارة إلى أبي بكر فإنه هو الذي بايعه أكثر الناس ، ومن المعلوم أن أبا بكر لم يطلب الأمر لنفسه ، لا بحق ولا بغير حق ، بل قال: قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين ، إما عمر بن الخطاب وإما أبا عبيدة .
قال عمر : فوالله لأن أقدم فتضرب عنقي لا يقرّبني ذلك إلى إثم أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر ، وهذا اللفظ في الصحيحين( ) .
وقد روى عنه انه قال : أقيلوني، أقيلوني ، فالمسلمون اختاروه وبايعوه ، لعلمهم بأنه خيرهم ، كما قال له عمر يوم السقيفة بمحضر المهاجرين والأنصار أنت سيدنا وخيرنا ، وأحبنا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولم ينكر ذلك أحد ، وهذا أيضا في الصحيحين( ) .
والمسلمون اختاروه كما قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في الحديث الصحيح لعائشة : (( ادعى لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا، لا يختلف عليه الناس من بعدي ، ثم قال يأبى الله والمؤمنون أن يتولى غير أبي بكر ))( ) فالله هو ولاه قدرا ، وشرعا ، وأمر المؤمنين ، بولايته ، وهداهم إلى أن ولوه من غير أن يكون طلب ، ذلك لنفسه .
(الوجه الثالث ) : أن يقال فهب أنه طلبها وبايعه أكثر الناس فقولكم : أن ذلك طلب للدنيا كذب ظاهر .
فإن أبا بكر لم يعطهم دنيا ، وكان قد أنفق ماله في حياة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، ولما رغب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في الصدقة جاء بماله كله ، فقال له:((ما تركت لأهلك . قال :تركت لهم الله ، ورسوله ))( )
والذين بايعوه هم أزهد الناس في الدنيا ، وهم الذين أثنى الله عليهم.
وقد علم الخاص والعام زهد عمر ، وأبي عبيدة ، وأمثالهما ، وإنفاق الأنصار أموالهم كأسيد بن حضير ، وأبي طلحة ، وأبي أيوب وأمثالهم .
ولم يكن عند موت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لهم بيت مال يعطيهم ما فيه ، ولا كان هناك ديوان للعطاء يفرض لهم فيه ، والأنصار كانوا في أملاكهم ، وكذلك المهاجرون من كان له شيء من مغنم أو غيره فقد كان له .
وكانت سيرة أبي بكر في قسم الأموال التسوية ، وكذلك سيرة علي ، فلو بايعوا عليّا أعطاهم ما أعطاهم أبو بكر ، مع كون قبيلته أشرف القبائل ، وكون بني عبد مناف وهم أشراف قريش الذين هم اقرب العرب من بني أمية وغيرهم إذ ذلك كأبي سفيان بن حرب وغيره ، وبني هاشم كالعباس وغيره ، كانوا معه .
فقد أراد أبو سفيان وغيره أن تكون الإمارة في بني عبد مناف ، على عادة الجاهلية فلم يجبه إلى ذلك علي ولا عثمان ، ولا غيرهما لعلمهم ، أو دينهم فأيّ رياسة ، وأي مال كان لجمهور المسلمين بمبايعة أبي بكر ، لا سيما وهو يسوّي بين السابقين والأولين ، وبين آحاد المسلمين في العطاء ، ويقول : إنما أسلموا لله وأجورهم على الله ،وإنما هذا المتاع بلاغ .
وقال لعمر لما أشارعليه بالتفضيل في العطاء : أفأشتري منهم إيمانهم ؟
فالسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم أولا ، كعمر وأبي عبيدة وأسيد بن حضير وغيرهم ، سوّى بينهم وبين الطلقاء الذين أسلموا عام الفتح ، وبين من أسلم بعد موت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، فهل حصل لهؤلاء من الدنيا بولايته شيء .
(الوجه الرابع ) : أن يقال : أهل السنّة مع الرافضة كالمسلمين مع النصارى ، فإن المسلمين يؤمنون بأن المسيح عبد الله ورسوله ، ولا يغلون فيه غلو النصارى ، ولا يجفون جفاء اليهود .
والنصارى تدعى فيه الإلهية وتريد أن تفضله على محمد وإبراهيم وموسى ، بل تفضل الحواريين على هؤلاء الرسل .
كما تريد الروافض أن تفضل من قاتل مع علي كمحمد بن أبي بكر والأشتر النخعي على أبي بكر وعمر وعثمان وجمهور المهاجرين والأنصار ، فالمسلم إذا ناظر النصراني لا يمكنه أن يقول في عيسى إلا الحق ، لكن إذا أردت أن تعرف جهل النصراني وأنه لا حجة له فقدّر المناظرة بينه وبين اليهود .
فإن النصراني لا يمكنه أن يجيب عن شبهة اليهودي( ) إلا بما يجيب به المسلم، فإن لم يدخل في دين الإسلام وإلا كان منقطعا مع اليهودي ، فإنه إذا أمر بالإيمان بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم .
فإن قدح في نبوته بشيء من الأشياء ، لم يمكنه أن يقول شيئا إلا قال اليهودي في المسيح ما هو أعظم من ذلك ، فإن البينات لمحمد أعظم من البينات للمسيح .
وبعد أمره عن الشبهة ، أعظم من بعد المسيح عن الشبهة ، فإن جاز القدح فيما دليله أعظم وشبهته أبعد عن الحق ، فالقدح فيما دونه أولى .
وإن كان القدح في المسيح باطلا فالقدح في محمد أولى بالبطلان ، فإنه إذا بطلت الشبهة القوية فالضعيفة أولى بالبطلان ، وإذا ثبتت الحجة التي غيرها أقوى منها فالقوية أولى بالإثبات .
ولهذا كان مناظرة كثير من المسلمين للنصارى من هذا الباب كالحكاية المعروفة عن القاضي أبي بكر بن الطيب ، لما أرسله المسلمون إلى ملك النصارى بالقسطنطينية ، فإنهم عظموه ، وعرف النصارى قدره ، فخافوا أن لا يسجد للملك إذا دخل ، فأدخلوه من باب صغير ليدخل منحنيا ، ففطن لمكرهم ، فدخل مستدبرا متلقيا لهم بعجزه .
ففعل نقيض ما قصدوه ، ولما جلس وكلموه ، أراد بعضهم القدح في المسلمين ، فقال له ما قيل في عائشة امرأة نبيكم ، يريد إظهار قول الإفك الذي يقوله من يقول من الرافضة ، أيضا .
فقال القاضي ثنتان قدح فيهما ورميتا بالزنا إفكا وكذبا ، مريم وعائشة فأما مريم فجاءت بالولد تحمله من غير زوج ، وأما عائشة فلم تأت بولد مع أنه كان لها زوج ، فأبهت النصارى .
وكان مضمون كلامه أن ظهور براءة عائشة أعظم من ظهور براءة مريم ، وأن الشبهة إلى مريم أقرب منها إلى عائشة ، فإذا كان مع هذا قد ثبت كذب القادحين في مريم ، فثبوت قدح الكاذبين في عائشة أولى .
ومثل هذه المناظرة أن يقع التفضيل بين طائفتين ، ومحاسن إحداهما أكثر وأعظم ومساويها أقل وأصغر ، فإذا ذكر ما فيها من ذلك عورض بأن مساوئ تلك أعظم ، كقوله تعالى : يسئلونكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٌ فِيه قُل قِتَالٌ فيهِ كَبِيرثم قال : وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرَ عِنْدَ الله وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرَ مِنَ الْقَتْل ( ) فإن الكفار عيروا سرية من سرايا المسلمين بأنهم قتلوا ابن الحضرمي في الشهر الحرام ، فقال تعالى هذا كبير وما عليه المشركون من الكفر بالله والصد عن سبيله وعن المسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله ، فإن هذا صد عما لا تحصل النجاة والسعادة إلا به ، وفيه من انتهاك المسجد الحرام ما هو أعظم من انتهاك الشهر الحرام.
لكن في هذا النوع قد اشتملت كل من الطائفتين على ما يذم ، وأما النوع الأول فيكون كل من الطائفتين لا يستحق الذم ، بل هناك شبه في الموضعين ، وأدلة في الموضعين وأدلة أحد الصنفين أقوى وأظهر ، وشبهته أضعف وأخفى ، فيكون أولى بثبوت الحق مما تكون أدلته أضعف ، وشبهته أقوى .
هذا حال النصارى واليهود مع المسلمين ، وهو حال أهل البدع مع أهل السنّة لاسيما الرافضة ، وهكذا أمر أهل السنّة مع الرافضة في أبي بكر وعلي، فإن الرافضي لا يمكنه أن يثبت إيمان علي وعدالته وأنه من أهل الجنة فضلا عن إمامته إن لم يثبت ذلك لأبي بكر وعمر وعثمان .
وإلا فمتى أراد إثبات ذلك لعلي وحده لم تساعده الأدلة ، كما أن النصراني إذا أراد إثبات نبوة المسيح دون محمد لم تساعده الأدلة .
فإذا قالت له الخوارج الذين يكفرون عليّا ، أو النواصب الذين يفسقونه أنه كان ظالما طالبا للدنيا ، وأنه طلب الخلافة لنفسه ، وقاتل عليها بالسيف وقتل على ذلك ألوفا من المسلمين ، حتى عجز عن انفراده بالأمر ، وتفرق عليه أصحابه وظهروا عليه فقتلوه ، فهذا الكلام إن كان فاسد ففساد كلام الرافضي في أبي بكر وعمر أعظم ،وإن كان ما قاله في أبي بكر وعمر متوجها مقبولا ، فهذا أولى بالتوجيه والقبول .
لأنه من المعلوم للخاصة والعامة أن من ولاه الناس باختيارهم ورضاهم من غير أن يضرب أحدا بالسيف ولا عصى ولا أعطى أحدا ممن ولاه من مال واجتمعوا عليه فلم يول أحد من أقاربه ، وعترته ، ولا خلف لورثته مالاً من مال المسلمين ، وكان له مال قد أنفقه في سبيل الله ، فلم يأخذ بدله ، وأوصى أن يرد إلى بيت مالهم ما كان عنده لهم ، وهو جرد قطيفة ، وبكر وأمة سوداء ، ونحو ذلك .
حتى قال عبد الرحمن بن عوف لعمر : أتسلب هذا آل أبي بكر ، قال كلا والله لا يتحنث فيها أبو بكر وأتحملها أنا ، وقال يرحمك الله يا أبا بكر لقد أتعبت الأمراء بعدك .
ثم مع هذا لم يقتل مسلما على ولايته ، ولا قاتل مسلما بمسلم ، بل قاتل بهم المرتدين عن دينهم ، والكفار حتى شرع بهم في فتح الأمصار واستخلف القوي الأمين العبقري ، الذي فتح الأمصار ونصب الديوان ، وعم بالعدل والإحسان .
فإن جاز للرافضي أن يقول إن هذا كان طالبا للمال والرياسة ، أمكن الناصبي أن يقول : كان علي ظالما طالبا للمال والرياسة ، قاتل على الولاية حتى قتل المسلمون بعضهم بعضا ،ولم يقاتل كافراً ولم يحصل للمسلمين في مدة ولايته إلا شر وفتنة في دينهم ودنياهم .
فإن جاز أن يقال : علي كان مريدا لوجه الله ، والتقصير من غيره من الصحابة ، أو يقال كان مجتهداً مصيباً ، وغيره مخطئ مع هذه الحالة فإنه يقال كان أبو بكر وعمر مريدين وجه الله مصيبين والرافضة مقصرون في معرفة حقهم مخطئون في ذمهم بطريق الأولى والأحرى .
فإن أبا بكر وعمر كان بعدهما عن شبة طلب المال والرياسة أشد من بعد علي عن ذلك ،وشبهة الخوارج الذين ذموا عليّا وعثمان وكفروهما أقرب من شبهة الرافضة الذين ذموا أبا بكر وعمر وكفروهما ، فكيف بحال الصحابة والتابعين الذين تخلفوا عن بيعته أو قاتلوه فشبهتهم أقوى من شبهة من قدح في أبي بكر وعمر وعثمان ، فإن أولئك قالوا ما يمكننا أن نبايع إلا من يعدل علينا ،ويمنعنا ممن ظلمنا ، ويأخذ حقنا ممن ظلمنا ، فإذا لم يفعل هذا كان عاجزاً أو ظالما ، وليس علينا أن نبايع عاجزا أو ظالما .
وهذا الكلام إذا كان باطلا ، فبطلان قول من يقول أن أبا بكر وعمر كانا ظالمين طالبين للرياسة والمال أبطل وأبطل ، وهذا الأمر لا يستريب فيه من له بصر ومعرفة ، وأين شبهة مثل أبي موسى الأشعري الذي وافق عمرو على عزل علي ومعاوية ، وأن يجعل الأمر شورى في المسلمين ، من شبهة عبد الله بن سبأ وأمثاله الذين يدعون أنه إمام معصوم ، وأنه إله أو نبي .
بل أين شبهة الذين رأوا أن يولوا معاوية من شبهة الذين يدعون أنه إله أو نبي ، فإن هؤلاء كفار باتفاق المسلمين بخلاف أولئك ، ومما يبين هذا أن الرافضة تعجز عن إثبات إيمان علي وعدالته ، مع كونهم على مذهب الرافضة ، ولا يمكنهم ذلك إلا إذا صاروا من أهل السنة ، فإذا قالت لهم الخوارج وغيرهم ممن تكفره ، أو تفسقه ، لا نسلم أنه كان مؤمناً ، بل كان كافرا أو ظالما ، كما يقولون هم في أبي بكر وعمر لم يكن لهم دليل على إيمانه وعدله ، إلا وذاك الدليل على أبي بكر وعمر وعثمان أدل .
فإن احتجوا بما تواتر من إسلامه وهجرته وجهاده فقد تواتر ذلك عن هؤلاء ، بل تواتر إسلام معاوية ويزيد وخلفاء بني أمية وبني العباس وصلاتهم وصيامهم ، وجهادهم للكفار فإن ادعوا في واحد من هؤلاء النفاق ، أمكن الخارجى أن يدعى النفاق فيه( ) .
وإذا ذكروا شبهة ، ذكر ما هو أعظم منها ، وإذا قالوا ما تقوله أهل الفرية ، من أن أبا بكر وعمر كانا منافقين في الباطن ، عدوين للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم . أفسدا دينه ، بحسب الإمكان أمكن الخارجى ان يقول ذلك في علي ويوجه ذلك بأن يقول : كان يحسد ابن عمه وأنه كان يريد إفساد دينه فلم يتمكن من ذلك في حياته وحياة الخلفاء الثلاثة حتى سعى في قتل الخليفة الثالث ، وأوقد الفتنة ، حتى غلى في قتل أصحاب محمد ، وأمته بغضا له وعداوة ، وأنه كان مباطناً للمنافقين الذين ادعوا فيه الإلهية والنبوة ، وكان يظهر خلاف ما يبطن ، لأن دينه التقية ، فلما أحرقهم بالنار، أظهر إنكار ذلك ، وإلا فكان في الباطن معهم .
ولهذا كانت الباطنية من اتباعه ،وعندهم سره ، وهم ينقلون عنه الباطن الذي ينتحلونه ، ويقول الخارجى مثل هذا الكلام الذي يروج على كثير من الناس أعظم ، مما يروج كلام الرافضة في الخلفاء الثلاثة ، لأن شبهة الرافضة أظهر فسادا من شبهة الخوارج ، وهم أصح منهم عقلا ، ومقصدا .
والرافضة أكذب وأفسد دينا ، وإن أرادوا إثبات إيمانه وعدالته بنص القرآن عليه ، قيل القرآن عام وتناوله له ليس بأعظم من تناوله لغيره ، وما من آية يدعون اختصاصها به إلا أمكن أن يدعى اختصاصها أو اختصاص مثلها أو أعظم منها بأبي بكر وعمر .
فباب الدعوى بلا حجة ممكنة ، والدعوى في فضل الشيخين أمكن منها في فضل غيرهما ، وإن قالوا ثبت ذلك بالنقل والرواية ، فالنقل والرواية في أولئك أكثر وأشهد ، فإن ادعوا تواتراً ، فالتواتر هناك أصح ، وإن اعتمدوا على نقل الصحابة فنقلهم لفضائل أبي بكر وعمر أكثر ، ثم هم يقولون : أن الصحابة ارتدوا إلا نفرا قليلا فكيف تقبل رواية هؤلاء في فضيلة أحد ، ولم يكن في الصحابة رافضة كثيرون ، يتواتر نقلهم ، فطريق النقل مقطوعا عليهم، إن لم يسلكوا طريق أهل السنة ، كما هو مقطوع على النصارى في إثبات نبوة المسيح إن لم يسلكوا طريق المسلمين .
وهذا كمن أراد أن يثبت فقه ابن عباس دون علي ، أو فقه علقمة والأسود دون ابن مسعود ، ونحو ذلك من الأمور التي يثبت فيها للشيء حكم دون ما هو أولى بذلك الحكم منه ، فإن هذا تناقض ممتنع عند من سلك طريق العلم والعدل .
ولهذا كانت الرافضة من أجهل الناس وأضلهم ، كما أن النصارى من أجهل الناس ، والرافضة من أخبث الناس ، كما أن اليهود من أخبث الناس ، ففيهم نوع من ضلال النصارى ،ونوع من خبث اليهود .
(الوجه الخامس): أن يقال : تمثيل هذا بقصة عمر بن سعد طالبا للرياسة والمال مقدما على المحرّم لأحل ذلك فيلزم أن يكون السابقون الأولون بهذه الحال ، وهذا أبوه سعد بن أبي وقاص، كان من أزهد الناس في الإمارة والولاية ، ولما وقعت الفتنة اعتزل الناس في قصره بالعقيق ، وجاءه عمر ابنه هذا فلامه على ذلك ، وقال له الناس في المدينة يتنازعون الملك وأنت ههنا؟ فقال : (( اذهب فإني سمعت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقول إن الله يحب العبد التقي الغني الخفيّ ))( ) .
هذا ولم يكن قد بقي أحد من أهل الشورى غيره وغير علي رضي الله عنهما ، وهو الذي فتح العراق ، وأذل جنود كسرى وهو آخر العشرة موتا.
فإذا لم يحسن أن يشبه بابنه عمر أيشبه به أبو بكر وعمر وعثمان ، هذا وهم لا يجعلون محمد بن أبي بكر بمنزلة أبيه ، بل يفضلون محمداً ويعظمونه ، ويتولونه لكونه آذى عثمان وكان من خواص أصحاب علي لأنه كان ربيبه ، ويسبون أباه أبا بكر ويلعنونه ، فلو أن النواصب فعلوا بعمر بن سعد مثل ذلك فمدحوه على قتل الحسين ، لكونه كان من شيعة عثمان ، ومن المنتصرين له ، وسبوا أباه سعد لكونه تخلف عن القتال مع معاوية والانتصار لعثمان ، هل كانت النواصب لو فعلت ذلك إلا من جنس الرافضة .
بل الرافضة شر منهم ، فإن أبا بكر أفضل من سعد ، وعثمان كان أبعد عن استحقاق القتل من الحسين ، وكلاهما مظلوم وشهيد رضي الله تعالى عنهما ، ولهذا كان الفساد الذي حصل في الأمة بقتل عثمان أعظم من الفساد الذي حصل في الأمة بقتل الحسين .
وعثمان من السابقين الأولين وهو خليفة مظلوم طلب منه أن ينعزل بغير حق فلم ينعزل ولم يقاتل عن نفسه حتى قتل ، والحسين لم يكن متوليا وإنما كان طالبا للولاية ، حتى رأى أنها متعذرة وطلب منه ليستأسر ليحمل إلى يزيد مأسورا ، فلم يجب إلى ذلك وقاتل حتى قتل مظلوما ، شهيدا ، فظلم عثمان كان أعظم وصبره وحلمه كان أكمل ، وكلاهما مظلوم شهيد ، ولو مثل ممثل طلب علي والحسين للأمر بطلب الإسماعيلية كالحاكم وأمثاله وقال إن علي والحسين كانا ظالمين طالبين للرياسة من غير حق ، بمنزلة الحاكم وأمثاله من ملوك بني عبيد ، أما كان يكون كاذبا مفتريا في ذلك لصحة إيمان الحسن والحسين ، ودينهما وفضلهما ، ولنفاق هؤلاء وإلحادهم .
وكذلك من شبه عليا والحسين ببعض من قام من الطالبيين أو غيرهم بالحجاز ، أو الشرق أو الغرب يطلب الولاية بغير حق ، ويظلم الناس في أموالهم وأنفسهم ، أما كان يكون ظالما كاذبا ؟ فالمشبه بأبي بكر وعمر بعمر بن سعد أولى بالكذب والظلم ، ثم غاية عمر بن سعد وأمثاله ، أن يعترف بأنه طلب الدنيا بمعصية يعترف أنها معصية ، وهذا ذنب كثير وقوعه من المسلمين .
وأما الشيعة فكثيرمنهم يعترفون بأنهم إنما قصدوا بالملك إفساد دين الإسلام ، ومعاداة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما يعرف ذلك من خطاب الباطنية وأمثالهم ، من الداخلين في الشيعة ، فإنهم يعترفون بأنهم في الحقيقة لا يعتقدون دين الإسلام ، وإنما يتظاهرون بالتشيع لقلة عقل الشيعة وجهلهم ليتوصلوا بهم إلى أغراضهم .
وأوّل هؤلاء ، بل خيارهم هو المختار بن أبي عبيد الكذاب ، فإنه كان أمير الشيعة ، وقتل عبيد الله بن زياد ، وأظهر الانتصار للحسين ، حتى قتل قاتله وتقرب بذلك إلى محمد بن الحنفية وأهل البيت ، ثم ادعى النبوة وأن جبريل يأتيه ، وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : (( سيكون في ثقيف كذاب ومبير ))( ) .
فكان الكذاب هو المختار بن أبي عبيد ، وكان المبير هو الحجاج بن يوسف الثقفي ، ومن المعلوم أن عمر بن سعد أمير السرية التي قتلت الحسين، مع ظلمه وتقديمه الدنيا على الدين ، لم يصل في المعصية إلى فعل المختار بن أبي عبيد ، الذي أظهر الانتصار للحسين ، وقتل قاتله بل كان هذا أكذب وأعظم ذنبا من عمر بن سعد .
فهذا الشيعي شر من ذلك الناصبي ، بل والحجاج بن يوسف خير من المختار بن أبي عبيد ، فإن الحجاج كان مبيرا كما سماه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم –يسفك الدماء بغير حق ، والمختار كان كذابا يدعى الوحي وإتيان جبريل إليه ، وهذا الذنب أعظم من قتل النفوس ، فإن هذا كفر وإن لم يتب منه كان مرتدا ، والفتنة أعظم من القتل .
وهذا باب مطرد لا تجد أحداً ممن تذمه الشيعة بحق أو باطل إلا وفيهم من هو شر منه ، ولا تجد أحداً ممن تمدحه الشيعة إلا وفيمن تمدحه الخوارج من هو خير منه ، فإن الروافض شر من النواصب ،والذين تكفرهم أو تفسقهم الروافض ، هم أفضل من الذين تكفرهم أو تفسقهم النواصب .
وأما أهل السنة فيتولون جمع لمؤمنين ، ويتكلمون بعلم وعدل ليسوا من أهل الجهل ، ولا من أهل الأهواء ، ويتبرءون من طريقة الروافض والنواصب جميعا ، ويتولون السابقين الأولين كلهم ،ويعرفون قدر الصحابة ، وفضلهم ، ومناقبهم ،ويرعون حقوق أهل البيت التي شرعها الله لهم ، ولا يرضون بما فعله المختار ونحو من الكذابين ، ولا ما فعل الحجاج ونحوه من الظالمين .
ويعلمون مع هذا مراتب السابقين الأولين ، فيعلمون أن لأبي بكر وعمر من التقدم والفضائل ما لم يشاركهما فيهما أحد ، من الصحابة لا عثمان ولا علي ولا غيرهما ، وهذا كان متفقا عليه في الصدر الأول ، إلا أن يكون خلاف شاذ لا يعبأ به .
حتى إن الشيعة الأولى أصحاب علي لم يكونوا يرتابون في تقديم أبي بكر وعمر عليه ، فكيف وقد ثبت عنه من وجوه متواترة أنه كان يقول : خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر ، ولكن كان طائفة من شيعة علي ، تقدمه على عثمان ، وهذه المسألة أخفى من تلك ، ولهذا كان أئمة أهل السنة متفقين على تقديم أبي بكر وعمر كما في مذهب أبي حنيفة ، والشافعي ، ومالك ، وأحمد بن حنبل ، والثورى ، والأوزاعي ، والليث بن سعد ، وسائر أئمة المسلمين ، من أهل الفقه والحديث والزهد والتفسير من المتقدمين والمتأخرين.
وأما عثمان وعلي فكان طائفة من أهل المدينة يتوقفون فيهما ، وهي إحدى الروايتين عن سفيان الثوري ، ثم قيل إنه رجع عن ذلك لما اجتمع به أيوب السختياني ، وقال من قدم عليا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار ، وسائر أئمة السنة على تقديم عثمان وهو مذهب جماهير أهل الحديث وعليه يدل النص ، والإجماع والاعتبار .
وأما ما يحكى عن بعض المتقدمين من تقديم جعفر أو تقديم طلحة أو نحو ذلك فذلك في أمور مخصوصة لا تقديما عاما ، و كذلك ما ينقل عن بعضهم في علي .
وأما قوله : فبعضهم اشتبه الأمرعليه ورأى لطالب الدنيا مبايعا فقلده ،
وبايعه وقصر في نظره فخفي عليه الحق فاستحق المؤاخذة من الله تعالى ، بإعطاء الحق لغير مستحقه ، قال : وبعضهم قلد لقصور فطنته ، ورأى الجم الغفير فتابعهم ، وتوهم أن الكثرة تستلزم الصواب ، وغفل عن قوله تعالى :
وَقَلِيلٌ مَا هُم ( ) ، وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُور ( ) .
فيقال لهذا المفترى : الذي جعل الصحابة الذين بايعوا أبا بكر ثلاثة أصناف أكثرهم طلبوا الدنيا وصنف قصروا في النظر ، وصنف عجزوا عنه، لأن الشر إما أن يكون لفساد القصد . وإما أن يكون للجهل ، والجهل إما أن يكون لتفريط في النظر ، وإما أن يكون لعجز عنه .
وذكر أنه كان في الصحابة وغيرهم من قصر في النظر حين بايع أبا بكر ، ولو نظر لعرف الحق ، وهذا يؤاخذ على تفريطه ، بترك النظر الواجب، وفيهم من عجز عن النظر ، فقلد الجم الغفير ، يشير بذلك إلى سبب مبايعة أبي بكر .
فيقال له هذا من الكذب الذي لا يعجز عنه أحد ، والرافضة قوم بهت فلو طلب من هذا المفتري دليل على ذلك لم يكن له على ذلك دليل ، والله تعال قد حرم القول بغير علم ، فكيف إذا كان المعروف ضد ما قاله فلو لم نكن نحن عالمين بأحوال الصحابة لم يجز أن نشهد عليهم بما لا نعلم من فساد القصد ، والجهل بالمستحق . قال تعالى : ولا تقفُ ما ليس لك به علم إنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أولئِكَ كان عنهُ مَسئولاً ( ) وقال تعالى : َها أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمُ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْم ( ) فكيف إذا كنا نعلم أنهم كانوا أكمل هذه الأمة عقلا ، وعلما ، ودينا ، كما قال فيهم عبد الله بن مسعود : (( من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات ، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة ، أولئك أصحاب محمد كانوا والله أفضل هذه الأمة ، وأبرها قلوبا ، وأعمقها علما وأقلها تكلفا ، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه ، وإقامة دينه، فأعرفوا لهم فضلهم ، واتبعوهم ، في آثارهم وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ، ودينهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم ))( ) . رواه غير واحد منهم ابن بطة ، عن قتادة .
وروى هو وغيره بالأسانيد المعروفة إلى زر بنت حبيش ، قال : قال عبد الله بن مسعود : (( إن الله تبارك وتعالى نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه ، وابتعثه برسالته ، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه ، يقاتلون على دينه ، فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ، وما رآه المسلمون سيئاً فهو عند الله سيء ))( ) .
وفي رواية قال أبو بكر بن عياش الراوي لهذا الأثر ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود ، وقد رأى أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جميعاً أن يستخلفوا أبا بكر .
فقول عبد الله بن مسعود كانوا أبر هذه الأمة قلوبا ، وأعمقها علما ، وأقلها تكلفا ، كلام جامع بين فيه حسن قصدهم ونياتهم ، ببر القلوب وبين فيه كمال المعرفة ودقتها بعمق العلم ، وبين فيه تيسر ذلك عليهم وامتناعهم من القول بلا علم ، بقلة التكلف وهذا خلاف ما قاله هذا المفترى الذي وصف أكثرهم بطلب الدنيا ، وبعضهم بالجهل ، إما عجزا وإما تفريطا والذي قاله عبد الله حق فإنهم خير هذه الأمة ، كما تواترت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حيث قال : (( خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ))( ) .وهم أفضل الأمة الوسط الشهداء على الناس ، الذين هداهم الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، فليسوا من المغضوب عليهم الذين يتبعون أهواءهم ، ولا من الضالين الجاهلين ، كما قسمهم هؤلاء المفترون ، إلى ضلال وغواة ، بل لهم كمال العلم ،وكمال القصد .
إذ لو لم يكن كذلك للزم أن لا تكون هذه الأمة خير الأمم ،وأن لا يكونوا خير الأمة وكلاهما خلاف الكتاب والسنة ، وأيضا فالاعتبار العقلي يدل على ذلك ، فإن من تأمل أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ، وتأمل أحوال اليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين ، تبين له من فضيلة هذه الأمة على سائر الأمم في العلم النافع ،والعمل الصالح ، ما يضيق هذا الموضع عن بسطه .
والصحابة أكمل الأمة في ذلك بدلالة الكتاب والستة والإجماع ، والاعتبار ولهذا لا تجد أحدا من أعيان الأمة إلا وهو معترف بفضل الصحابة عليه ، وعلى أمثاله ، وتجد من ينازع في ذلك كالرافضة من أجهل الناس ، ولهذا لا يوجد في أئمة الفقه الذين يرجع إليهم رافضي ، ولا في أئمة الحديث ولا في أئمة الزهد والعبادة ، ولا في أئمة الجيوش المؤيدة المنصورة رافضي، ولا في الملوك الذين نصروا الإسلام وأقاموه وجاهدوا عدوه من هو رافضي، ولا في الوزراء الذين لهم سيرة محمودة من هو رافضي .
وأكثر ما تجد الرافضة إما في الزنادقة المنافقين الملحدين ، وإما في جهال ليس لهم علم بالمنقولات ولا بالمعقولات ، قد نشأ بالبوادي والجبال ، وتجبروا على المسلمين ، فلم يجالسوا أهل العلم والدين ، وإما في ذوي الأهواء ممن قد حصل له بذلك رياسة ومال ، أوله نسب يتعصب به كفعل أهل الجاهلية ، وأما من هو عند المسلمين من أهل العلم والدين ، فليس في هؤلاء رافضي ، لظهور الجهل والظلم في قولهم ، و تجد ظهور الرفض في شر الطوائف كالنصيرية والاسماعيلية ، والملاحدة الطرقية ، وفيهم من الكذب والخيانة وإخلاف الوعد ما يدل على نفاقهم ، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : (( آية المنافق ثلاث ،إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان ))( )– زاد مسلم – (( وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم )) وأكثر ما توجد هذه الثلاث في طوائف أهل القبلة في الرافضة.
وأيضا فيقال لهذا المفترى :هب أن الذين بايعوا الصديق كانوا كما ذكرت إما طالب دنيا وإما جاهل ، فقد جاء بعد أولئك في قرون الأمة ، من يعرف كل أحد زكاءهم ، وذكاءهم .
مثل سعيد بن المسيب ، الحسن البصري ، وعطاء بن أبي رباح ، وإبراهيم النخعي ، وعلقمة ، والأسود ، وعبيدة السلماني ، وطاوس ، ومجاهد، وسعيد بن جبير ، وأبي الشعثاء جابر بن زيد ، وعلي بن زيد ، وعلي بن الحسين ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، وعروة بن الزبير ، والقاسم بن محمد بن أبي بكر ، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام ، ومطرف بن الشخير ، ومحمد بن واسع ، وحبيب العجمى ، ومالك بن دينار، ومكحول ، والحكم بن عتبة ، ويزيد بن أبي حبيب ، ومن لا يحصي عددهم إلا الله .
ثم بعدهم أيوب السختياني ، وعبد الله بن عون ، ويونس بن عبيد ، وجعفر بن محمد ، والزهري، وعمرو بن دينار ، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وربيعة بن أبي عبد الرحمن ، وأبو الزناد ، ويحيى بن أبي كثير ، وقتادة ، ومنصور بن المعتمر ، والأعمش ، وحماد بن أبي سليمان ، وهشام الدستوائي، وسعيد بن أبي عروبة .
ومن بعد هؤلاء مثل ، مالك بن انس ، وحماد بن زيد ، وحماد بن سلمة ، والليث بن سعد ، والأوزاعي ، وأبي حنيفة ، وابن أبي ليلى ، وشريك، وابن أبي ذئب ، وابن الماجشون .
ومن بعدهم ، مثل يحيى بن سعيد القطان ، وعبد الرحمن بن مهدي ، ووكيع بن الجراح ، وعبد الرحمن بن القاسم ، وأشهب بن عبد العزيز ، وأبي يوسف ، ومحمد بن الحسن ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وإسحق بن راهويه ، وأبي عبيد ، وأبي ثور ، ومن لا يحصى عدده إلا الله تعالى ،ممن ليس لهم غرض في تقديم غير الفاضل لا لأجل رياسة ،ولا مال .
وممن هم اعظم الناس نظرا في العلم وكشفا لحقائقه ، وهم كلهم متفقون على تفضيل أبي بكر وعمر .
بل الشيعة الأولى الذين كانوا على عهد علي كانوا يفضلون أبا بكر وعمر ، قال أبي القاسم سألت مالكا عن أبي بكر وعمر، فقال : مارأيت أحدا ممن اقتدى به يشك في تقديمهما. يعني على علي وعثمان فحكى إجماع أهل المدينة على تقديمهما.
وأهل المدينة لم يكونوا مائلين الى بني أمية كما كان أهل الشام ، بل قد خلعوا بيعة يزيد ، وحاربهم عام الحرة وجرى بالمدينة ما جرى .
ولم يكن أيضا قتل علي منهم أحدا كما قتل من أهل البصرة ومن أهل الشام ، بل كانوا يعدّونه من علماء المدينة ، إلى أن خرج منها ، وهم متفقون على تقديم أبي بكر وعمر .
وروى البيهقي بإسناده عن الشافعي . قال : لم يختلف الصحابة والتابعون في تقديم أبي بكر وعمر ، وقال شريك بن أبي نمر : وقال له قائل أيما أفضل أبو بكر أو علي ؟ فقال له : أبو بكر . فقال له السائل : تقول هذا و أنت من الشيعة ؟ فقال: نعم إنما الشيعيّ من يقول هذا ، والله لقد رقى علىّ هذه الأعواد، فقال : ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر أفكنا نردّ قوله، أفكنا نكذبه ، والله ما كان كذابا( ) .
وذكر هذا القاضي عبد الجبار في كتاب تثبت النبوة له ، وعزاه إلى كتاب أبي القاسم البلخي ، الذي صنفه في النقض على ابن الرواندي اعتراضه على الجاحظ( ) .
فكيف يقال مع هذا أن الذين بايعوه كانوا طلاب الدنيا ،أو جهالا،ولكن هذا وصف الطاعن فيهم ، فإنك لا تجد في طوائف القبلة أعظم جهلا من الرافضة، ولا أكثر حرصا على الدنيا ، وقد تدبرتهم فوجدتهم لا يضيفون إلى الصحابة عيبا إلا وهم أعظم الناس اتصافا به ، والصحابة ابعد عنه ، فهم أكذب الناس بلا ريب كمسيلمة الكذاب ، إذ قال : أنا نبي صادق، ولهذايصفون أنفسهم بالإيمان ، ويصفون الصحابة بالنفاق ،وهم أعظم الطوائف نفاقا ، والصحابة أعظم الخلق إيمانا .
وأما قوله : وبعضهم طلب الأمر لنفسه بحق وبايعه الأقلون الذين اعرضوا عن الدنيا وزينتها ، ولم تأخذهم بالله لومة لائم ، بل أخلصوا لله واتبعوا ما أمروا به من طاعة من يستحق التقديم ، وحيث حصل للمسلمين هذه البلية ،وجب على كل أحد النظر في الحق واعتماد الإنصاف ، وأن يقر الحق مقره، ولا يظلم مستحقه ، فقد قال تعالى: َأَلاَ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الظَّالِمِين ( ) .
فيقال له أولا : قد كان الواجب أن يقال لما ذهب طائفة إلى كذا ، وطائفة إلى كذا ، وجب أن ينظر أي القولين أصح ، فأما إذا رضيت إحدى الطائفتين باتباع الحق ، والأُخرى باتباع الباطل ، فإن كان هذا قد تبين فلا حاجة إلى النظر ، وإن لم يتبين بعد لم يذكر حتى يتبين .
ويقال له ثانيا : قولك : أنه طلب الأمر لنفسه بحق ، وبايعه الأقلون كذب على علي ، فإنه لم يطلب الأمر لنفسه في خلافة أبي بكر ، وعمر وعثمان ،وإنما طلبه لما قتل عثمان وبويع وحينئذ فأكثر الناس كانوا معه ، لم يكن معه الأقلون وقد اتفق أهل السنة والشيعة على أن عليا لم يدع إلى مبايعته في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان ، ولا بايعه على ذلك أحد.
ولكن الرافضة تدعى أنه كان يريد ذلك ، وتعتقد أنه الإمام المستحق للإمامة ، دون غيره ، لكن كان عاجزا عنه وهذا لو كان حقا لم يفدهم ، فإنه لم يطلب الأمر لنفسه ، ولا تابعه أحد على ذلك ، فكيف إذا كان باطلا.
وكذلك قوله بايعه الأقلون ، كذب على الصحابة فإنه لم يبايع منهم أحد لعلي على عهد الخلفاء الثلاثة ، ولا يمكن أحد أن يدعي هذا ، ولكن غاية ما يقول القائل انه كان فيهم من يختار مبايعته ، ونحن نعلم أن عليا لما تولى كان كثير من الناس يختار ولاية معاوية ، وولاية غيرهما ، ولما بويع عثمان كان في نفوس بعض الناس ميل إلى غيره ، فمثل هذا لا يخلو من الوجود .
وقد كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالمدينة وبها وما حولها منافقون ، كما قال تعالى : وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِنَ الأَعْرَاب مُنَافِقُون وَمِن أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُم نَحْنُ نَعْلَمُهُم ( ) وقد قال تعالى عن المشركين : وَقَالُوا لَوْلاَ نَزَلَ هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم ( )
فأحبوا أن ينزل القرآن على من يعظمونه من أهل مكة والطائف ، قال تعالى : أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَعِيشَتَهُم في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُم فَوْقَ بَعْض دَرَجَات ( ) .
وأما ما وصفه لهؤلاء بأنهم الذين أعرضوا عن الدنيا وزينتها ، وأنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم ، فهذا من أبين الكذب ، فإنه لم ير الزهد والجهاد في طائفة أقل منه في الشيعة ، والخوارج المارقون كانوا أزهد منهم وأعظم قتالا ، حتى يقال في المثل حملة خارجية وحروبهم مع جيوش بني أمية وبني العباس وغيرهما بالعراق والجزيرة وخراسان والمغرب وغيرهما معروفة ، وكانت لهم ديار يتحيزون فيها لا يقدر عليهم أحد .
وأما الشيعة فهم دائما مغلوبون ، مقهورون منهزمون ، وحبهم للدنيا وحرصهم عليها ظاهر ، ولهذا كاتبوا الحسين ، فلما أرسل إليهم ابن عمه، ثم قدم بنفسه غدروا به ، وباعوا الآخرة بالدنيا ، وأسلموه إلى عدوه ، وقاتلوه مع عدوه ، فأي زهد عند هؤلاء ، وأي جهاد عندهم .
وقد ذاق منهم علي بن أبي طالب من الكاسات المرة ما لا يعلمه إلا الله ، حتى دعا عليهم ، فقال: اللهم إني سئمتهم وسئموني فأبدلني بهم خيرا منهم ، وأبدلهم بي شرا مني ، وقد كانوا يغشونه ويكاتبون من يحاربه ، ويخونونه في الولايات ، والأموال ، هذا ولم يكونوا بعد صاروا رافضة ، إنما سمعوا شيعة علي لما افترق الناس فرقتين ، فرقة شايعت أولياء عثمان ، وفرقة شايعت أولياء عليا رضى الله عنهما ، فأولئك خيار الشيعة ، وهم من شر الناس معاملة لعلي بن أبي طالب ، وابنيه سبطى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وريحانته في الدنيا الحسن والحسين ، وهم أعظم الناس قبولا للوم اللائم في الحق ، وأسرع الناس إلى الفتنة ، وأعجزهم عنها ، يغرون من يظهرون نصره من أهل البيت ، حتى إذا اطمأن إليهم ولامهم عليه اللائم ، خذلوه وأسلموه وآثروا عليه الدنيا ، ولهذا أشار عقلاء المسلمين ونصحاؤهم على الحسين أن لا يذهب إليهم ، مثل عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر ، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام وغيرهم ، لعلمهم بأنهم يخذلونه ، ولا ينصرونه ، ولا يوفون له بما كتبوا به إليه ، وكان الأمر كما رأى هؤلاء ، ونفذ فيهم دعاء عمر بن الخطاب ، ثم دعاء علي بن أبي طالب.
حتى سلط الله عليهم الحجاج بن يوسف ، كان لا يقبل من محسنهم ، ولا يتجاوز عن مسيئهم ، ودب شرهم إلى من لم يكن منهم، حتى عم الشر ، وهذه كتب المسلمين التي ذكر فيها زهاد الأمة ليس فيهم رافضي .
كيف والرافضي من جنس المنافقين ، مذهبه التقية فهل هذا حال من لا تأخذه بالله لومة لائم ، إنما هذه حال من نعته الله في كتابه بقوله : َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرتَدّ مِنْكُمْ عَنْ دِيِنهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهَ بِقَومٍ يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِين يُجَاهِدُونَ في سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمْ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاء وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيم ( ) .
وهذه حال من قاتل المرتدين ، وأولهم الصديق ، ومن اتبعه إلى يوم القيامة ، فهم الذين جاهدوا المرتدين ، كأصحاب مسيلمة الكذاب ، ومانعي الزكاة ، وغيرهما وهم الذين فتحوا الأمصار، وغلبوا فارس والروم ، وكانوا أزهد الناس ، كما قال عبد الله بن مسعود لأصحابه : أنتم أكثر صلاة وصياما من أصحاب محمد ، وهم كانوا خيرا منكم ، قالوا : لما يا أبا عبد الرحمن ، قال: لأنهم كانوا ، أزهد في الدنيا ، وأرغب في الآخرة ، فهؤلاء هم الذين لاتأخذهم في الله لومة لائم .
بخلاف الرافضة ، فإنهم أشد الناس خوفا من لوم اللائم ،ومن عدوّهم، وهم كما قال تعالى : َيحسبونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِم هُم الْعَدُوّ فَاحْذَرْهُم قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُون ( ) .ولا يعيشون في أهل القبلة إلا من جنس اليهود في أهل الملل . ثم يقال : من هؤلاء الذين زهدوا في الدنيا ، ولم تأخذهم في الله لومة لائم ، ممن لم يبايع أبا بكر وعمر وعثمانم ، وبايع عليا، فإنه من المعلوم أن في زمن الثلاثة لم يكن أحد منحازا عن الثلاثة مظهراً لمخالفتهم ومبايعة علي ، بل كل الناس كانوا مبايعين لهم فغاية ما يقال أنهم كانوا يكتمون تقديم علي وليست هذه حال من لا تأخذه في الله لومة لائم .
وأما في حال ولاية علي فقد كان من أكثر الناس لوما لمن معه على قلة جهادهم ، ونكولهم عن القتال ، فأين هؤلاء الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم ، من هؤلاء الشيعة ، وإن كذبوا على أبي ذر من الصحابة وسلمان وعمار وغيرهم ، فمن المتواتر أن هؤلاء كانوا من أعظم الناس تعظيما لأبي بكر وعمر ، واتباعاً لهما ، وإنما ينقل عن بعضهم التعنت على عثمان ، لا على أبي بكر وعمر ، وسيأتي الكلام على ما جرى لعثمان .
ففي خلافة أبي بكر وعمر وعثمان ، لم يكن أحد يسمى من الشيعة ، ولا تضاف الشيعة إلى أحد لا عثمان ولا علي ولا غيرهما ، فلما قتل عثمان تفرق المسلمون ، فمال قوم إلى عثمان ، ومال قوم إلى علي واقتتلت الطائفتان، وقتل حينئذ شيعة عثمان شيعة علي ، وفي صحيح مسلم عن سعد بن هشام أنه أراد أن يغزو في سبيل الله وقدم المدينة فأراد أن يبيع عقارا له فيها فيجعله في السلاح والكراع ، ويجاهد الروم حتى يموت ، فلما قدم المدينة لقي أناسا من أهل المدينة ، فنهوه عن ذلك وأخبروه أن رهطاً ستة أرادوا ذلك في حياة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم نهاهم نبي الله صلى الله تعالى عليه وسلم . وقال : (( أليس لكم بي أسوة ؟)) ، فلما حدثوه بذلك راجع امرأته ، وقد كان طلقها وأشهد على رجعتها . فأتى ابن عباس وسأله عن وتر رسول الله صلى لله تعالى عليه وسلم . فقال ابن عباس : ألا أدلك علىأعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ؟ فقال من ؟ قال : عائشة رضى الله عنها ، فأتها فاسألها ثم ائتني فاخبرني ، بردها عليك ، قال فانطلقت إليها فأتيت على حكيم بن افلح فاستلحقته إليها فقال : ما أنا بقاربها لأني نهيتها أن تقول في هاتين الشيعتين شيئا فأبت فيهما لا مضيا .
قال : فأقسمت عليه فجاء فانطلقنا إلى عائشة رضى الله عنها و ذكرا
الحديث ( )، وقال معاوية لابن عباس أنت على ملة علي ، فقال لا على ملة علي ، ولا على ملة عثمان ، أنا على ملة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم .
وكانت الشيعة أصحاب علي يقدمون عليه أبا بكر وعمر ، وإنما كان النزاع في تقديمه على عثمان ،ولم يكن حينئذ يسمى أحد لا إماميا ولا رافضيا وإنما سموا رافضة ، وصاروا رافضة ، لما خرج زيد بن علي بن الحسين بالكوفة ، في خلافة هشام ، فسألته الشيعة عن أبي بكر وعمر ، فترحم عليهما فرفضه قوم ، فقال رفضتموني رفضتموني . فسموا رافضة ، وتولاه قوم فسموا زيدية ، لانتسابهم إليه .
ومن حينئذ انقسمت الشيعة ، إلى رافضة إمامية وزيدية ، وكلما زادوا في البدعة زادوا في الشر ، فالزيدية خير من الرافضة ، أعلم وأصدق وأزهد ، وأشجع .
ثم بعد أبي بكر ، عمر بن الخطاب هو الذي لم تكن تأخذه في الله لومة لائم ، وكان أزهد الناس باتفاق الخلق كما قيل فيه رحم الله عمر لقد تركه الحق ما له من صديق .
ونحن لا ندعي العصمة لكل صنّف من أهل السنّة ، وإنما ندعي أنهم لا يتفقون على ضلالة ، وأن كل مسألة اختلف فيها أهل السنّة والجماعة والرافضة ، فالصواب فيها مع أهل السنّة .
وحيث تصيب الرافضة ، فلا بد أن يوافقهم على الصواب بعض أهل السنّة، وللروافض خطأ لا يوافقهم أحد عليه من أهل السنّة ، وليس للرافضة مسألة واحدة لا يوافقهم فيها أحد فانفردوا بها عن جميع أهل السنّة والجماعة إلا وهم مخطئون فيها كإمامة الإثنى عشر ، وعصمتهم .
(فصـــل )
قال الرافضي : (( وذهب جميع من عدا الإمامية والاسماعيلية إلى أن الأنبياء والأئمة غير معصومين ، فجوّزوا بعثة من يجوز عليه الكذب والسهو والخطأ والسرقة ، فأي وثوق يبقى للعامة في أقوالهم ، وكيف يحصل الانقياد إليهم ، وكيف يجب اتباعهم مع تجويز أن يكون ما يأمرون به خطأ ؟ ولم يجعلوا الأئمة محصورين في عدد معين ، بل كان من بايع قرشيا انعقدت إمامته عندهم ، ووجب طاعته على جميع الخلق إذا كان مستور الحال ، وإن كان على غاية من الكفر والفسوق والنفاق )).
فيقال :الكلام على هذا من وجوه :
أحدها : أن يقال : ما ذكرته عن الجمهور من نفي العصمة عن الأنبياء وتجويز الكذب والسرقة والأمر بالخطأ عليهم ، فهذا كذب على الجمهور ، فإنهم متفقون على أن الأنبياء معصومون في تبليغ الرسالة ، ولا يجوز أن يستقر في شيء من الشريعة خطأ باتفاق المسلمين ، وكل ما يبلّغونه عن الله عز وجل من الأمر والنهي يجب طاعتهم فيه باتفاق المسلمين ، وما أخبروا به وجب تصديقهم فيه بإجماع المسلمين ، وما أمروهم به ونهوهم عنه وجبت طاعتهم فيه عند جميع فرق الأمة ، إلا عند طائفة من الخوارج يقولون: إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم معصوم فيما يبلّغه عن الله ، لا فيما يأمر هو به وينهى عنه . وهؤلاء ضُلاّل باتفاق أهل السنّة والجماعة .
وقد ذكرنا غير مرة أنه إذا كان في بعض المسلمين من قال قولا خطأ لم يكن ذلك قدحا في المسلمين ، ولو كان كذلك لكان خطأ الرافضة عيبا في دين المسلمين ، فلا يُعرف في الطوائف أكثر خطأ وكذبا منهم ، وذلك لا يضر المسلمين شيئا ، فكذلك لا يضرهم وجود مخطئ آخر غير الرافضة.
وأكثر الناس – أو كثير منهم – لا يجوِّزون عليهم الكبائر ، والجمهور
الذين يجوزون الصغائر – هم ومن يجوِّز الكبائر – يقولون : إنهم لا يُقَرُّون عليها ، بل يحصل لهم بالتوبة منها من المنزلة أعظم مما كان قبل ذلك ، كما تقدم التنبيه عليه .
وبالجملة فليس في المسلمين من يقول : أنه يجب طاعة الرسول مع جواز أن يكون أمره خطأ ، بل هم متفقون على أن الأمر الذي يجب طاعته لا يكون إلا صوابا . فقوله : (( كيف يجب اتباعهم مع تجويز أن يكون ما يأمرون به خطأ ؟ قول لا يلزم أحدا من الأمة .
وللناس في تجويز الخطأ عليهم في الاجتهاد قولان معروفان ، وهم متفقون على أنهم لا يقرُّون عليه ، وإنما يطاعون فيما أقرُّوا عليه ، لا فيما غيَّره الله ونهى عنه ، ولم يأمر بالطاعة فيه .
وأما عصمة الأئمة فلم يَقُل بها – إلا كما قال – الإمامية والإسماعيلية. وناهيك بقول لم يوافقهم عليه إلا الملاحدة المنافقون ، الذين شيوخهم الكبار أكفر من اليهود والنصارى والمشركين !. وهذا دأب الرافضة دائما يتجاوزون عن جماعة المسلمين إلى اليهود والنصارى والمشركين في الأقوال والموالاة والمعاونة والقتال وغير ذلك .
فهل يوجد أضل من قوم يعادون السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، ويوالون الكفار والمنافقين ؟ وقد قال الله تعالى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِنْكُم وَلا َمِنْهُم وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُون . أَعَدَّ اللهُ لَهُم عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُم سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون ، اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُم جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ فَلَهُم عَذَابٌ مُهِين . لَن تُغْنِي عَنْهُم أَمْوَالَهُم وَلاَ أَوْلاَدهُم مِنَ اللهِ شَيئًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون . يَوْمَ يَبْعَثُهُم اللهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُم وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم عَلَى شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُم هُمُ الكَاذِبون . اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَان فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ الله أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَان أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُون . إِنَّ الَّذِينَ يُحَادّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ في الأَذَلّين . كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسِلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيز، لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِر يُوَادّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُم أَو أَبْنَاءَهُم أو إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِم الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْه وَيُدْخِلُهُم جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارَ خَالِدِينَ فِيهام وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الله أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُون ( ).
فهذه الآيات نزلت في المنافقين ، وليس المنافقون في طائفة أكثر منهم في الرافضة ، حتى أنه ليس في الروافض إلا من فيه شعبة من شعب النفاق .
كما فال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : (( أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من خصل النفاق حتى يدعها : إذا حدّث كذب ، وإذا اؤتمن خان ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر)) أخرجاه في الصحيحين( ) .
قال تعالى : َترَىَ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُم أَنْفُسُهُم أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُم خَالِدُون . وَلَو كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُم أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُون ( ) وقال تعالى : ُلعنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُون . كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ، تَرَى كَثِيرًا مِنْهُم يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ( ) .
وهم غالبا لا يتناهون عن منكر فعلوه ، بل ديارهم أكثر البلاد منكرا من الظلم والفواحش وغير ذلك ، وهم يتولون الكفار الذين غضب الله عليهم ، فليسوا مع المؤمنين ولا مع الكفار ، كما قال تعالى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ مَا هُم مِنْكُم وَلاَ مِنْهُم ( ) .
ولهذا هم عند جماهير المسلمين نوع آخر ، حتى إن المسلمين لما قاتلوهم بالجبل الذي كانوا عاصين فيه بساحل الشام ، يسفكون دماء المسلمين، ويأخذون أموالهم ، ويقطعون الطريق ، استحلالا لذلك وتدينا به ، فقاتلهم صنف من التركمان ، فصاروا يقولون : نحن مسلمون ، فيقولون :لا ، أنتم جنس آخر خارجون عن المسلمين لامتيازهم عنهم .
وقد قال الله تعالى: وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُون ( ) .
وهذا حال الرافضة ،وكذلك: َاتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله إلى قوله : لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَه ...الآية ( ) وكثير منهم يواد الكفار من وسط قلبه أكثر من موادّته للمسلمين . ولهذا لما خرج الترك الكفار من جهة المشرق فقاتلوا المسلمين وسفكوا دماءهم ، ببلاد خراسان والعراق والشام والجزيرة وغيرها ، كانت الرافضة معاونة لهم على قتال المسلمين ، ووزير بغداد المعروف بالعلقمي هو وأمثاله كانوا من أعظم الناس معاونة لهم على المسلمين ، وكذلك الذين كانوا بالشام بحلب وغيرها من الرافضة كانوا من أشد الناس معاونة لهم على قتال المسلمين . وكذلك النصارى الذين قاتلهم المسلمون بالشام كانت الرافضة من أعظم أعوانهم ، وكذلك إذا صار لليهود دولة بالعراق وغيره تكون الرافضة من أعظم أعوانهم ، فهم دائما يوالون الفار من المشركين واليهود والنصارى ، ويعاونونهم على قتال المسلمين ومعاداتهم .
ثم إن هذا ادّعى عصمة الأئمة دعوى لم يقم عليها حجة ، إلا ما تقدم من أن الله لم يخل العالم من أئمة معصومين لما في ذلك من المصلحة واللطف، ومن المعلوم المتيقن أن هذا المنتظر الغائب المفقود لم يحصل به شيء من المصلحة واللطف ، سواء كان ميتا ، كما يقوله الجمهور ، أو كان حيا ، كما تظنه الإمامية . وكذلك أجداده المتقدمون لم يحصل بهم شيء من المصلحة واللطف الحاصلة من إمام معصوم ذي سلطان ، كما كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بالمدينة بعد الهجرة ، فإنه كان إمام المؤمنين الذي يجب عليهم طاعته ، ويحصل بذلك سعادتهم ، ولم يحصل بعده أحد له سلطان تُدعى له العصمة إلا علي ّ زمن خلافته .
ومن المعلوم بالضرورة أن حال اللطف و المصلحة التي كان المؤمنون فيها زمن الخلفاء الثلاثة ، أعظم من اللطف والمصلحة الذي كان في خلافة علي زمن القتال و الفتنة والافتراق ، فإذا لم يوجد من يدعي الإمامية فيه أنه معصوم وحصل له السلطان بمبايعة ذي الشوكة إلا عليّ وحده ، وكان مصلحة المكلفين واللطف الذي حصل لهم في دينهم ودنياهم في ذلك الزمان أقل منه في زمن الخلفاء الثلاثة ،عُلم بالضرورة أن ما يدّعونه من اللطف والمصلحة الحاصلة بالأئمة المعصومين باطل قطعا.
وهو من جنس الهدى والإيمان الذي يُدَّعى في رجال الغيب بجبل لبنان وغيره من الجبال مثل جبل قاسيون بدمشق ، ومغارة الدم ، وجبل الفتح بمصر ، ونحو ذلك من الجبال والغيران ، فإن هذه المواضع يسكنها الجن ، ويكون بها شياطين ، ويتراءون أحيانا لبعض الناس ، ويغيبون عن الأبصار في أكثر الأوقات ، فيظن الجهال أنهم رجال من الإنس ، وإنما هم رجال من الجن .
كما قال تعالى : وَإِنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ( ) .
وهؤلاء يؤمن بهم وبمن ينتحلهم من المشايخ طوائف ضالون ، لكن المشايخ الذين ينتحلون رجال الغيب لا يحصل بهم من الفساد ما يحصل بالذين يدّعون الإمام المعصوم ، بل المفسدة والشر الحاصل في هؤلاء أكثر ، فإنهم يدّعون الدعوة إلى إمام معصوم ، ولا يوجد لهم أئمة ذووا سيف يستعينون بهم ، إلا كافر أو فاسق أو منافق أو جاهل ، لا تخرج رؤوسهم عن هذه الأقسام .
والإسماعيلية شر منهم ، فإنهم يدعون إلى الإمام المعصوم ، ومنتهى دعوتهم إلى رجال ملاحدة منافقين فسّاق ، ومنهم من هو شر في الباطن من اليهود والنصارى .
فالداعون إلى المعصوم لا يدعون إلى سلطان معصوم ، بل إلى سلطان كفور أو ظلوم ، وهذا أمر مشهور يعرفه كل من له خبرة بأحوالهم .
وقد قال تعالى : َ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِر ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ( )، فأمر الله المؤمنين عند التنازع بالرد إلى الله والرسول ، ولو كان للناس معصوم غير الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم لأمرهم بالرد إليه ، فدل القرآن على أنه لا معصوم إلا الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم .
(فصـــل )
وأما قوله : (( ولم يجعلوا الأئمة محصورين في عدد معين )) فهذا حق . وذلك أن الله تعالى قال : َ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُم ، ولم يوقّتهم بعدد معين .
وكذلك قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في الأحاديث الثابتة عنه المستفيضة لم يوقِّت ولاة الأمور في عدد معين . ففي الصحيحين عن أبي ذر قال : (( إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع وإن كان عبدا حبشيا مجدّع الأطراف ))( ).
( فصـــل )
وأما قوله عنهم ((كل من بايع قرشيا انعقدت إمامته ووجبت طاعته على جميع الخلق إذا كان مستور الحال ، وإن كان على غاية من الفسق والكفر والنفاق )) .
فجوابه من وجوه :
أحدها : أن هذا ليس من قول أهل السنة والجماعة ، وليس مذهبهم أنه بمجرد مبايعة واحد قرشي تنعقد بيعته ، ويجب على جميع الناس طاعته ، وهذا وإن كان قد قاله بعض أهل الكلام ، فليس هو قول أهل السنة والجماعة، بل قد قال عمر بن الخطاب : (( من بايع رجلا بغير مشورة المسلمين ، فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغِرَّة أن يُقتلا )). الحديث رواه البخاري ، وسيأتي بكماله إن شاء الله تعالى .
الوجه الثاني : أنهم لا يوجبون طاعة الإمام في كل ما يأمر به ، بل لا يوجبون طاعته إلا فيما تسوغ طاعته فيه في الشريعة ، فلا يجوّزون طاعته في معصية الله وإن كان إماما عادلاً ، وإذا أمرهم بطاعة الله فأطاعوه: مثل ان يأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، والصدق والعدل والحج والجهاد في سبيل الله ، فهم في الحقيقة إنما أطاعوا الله ، والكافر والفاسق إذا أمر بما هو طاعة لله لم تحرم طاعة الله ولا يسقط وجوبها لأجل أمر ذلك الفاسق بها ، كما أنه إذا تكلم بحق لم يجز تكذيبه ولا يسقط وجوب اتباع الحق لكونه قد قاله فاسق ، فأهل السنة لا يطيعون ولاة الأمور مطلقا ، إنما يطيعونهم في ضمن طاعة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم .
كما قال تعالى: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُم( )
فأمر بطاعة الله مطلقا ، وأمر بطاعة الرسول لأنه لا يأمر إلا بطاعة الله َمنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله ( ) و جعل طاعة أولي الأمر داخلة في ذلك ، فقال : (وَأُوليِ الأَمْرِ مِنْكُم ) ولم يذكر لهم طاعة ثالثة ، لأن ولي الأمر لا يطاع طاعة مطلقة ، إنما يطاع في المعروف.
كما قال النبي صلى الله تعالىعليه وسلم:((إنما الطاعة في المعروف))( ) وقال:(( لا طاعة في معصية الله ))( )و((لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق))( ) وقال : (( من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه ))( ) .
وقال هؤلاء الرافضة المنسوبين إلى شيعة علي ّ أنه تجب طاعة غير الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم مطلقا في كل ما أمر به ، أفسد من قول من كان منسوبا إلى شيعة عثمان من أهل الشام من أنه يجب طاعة ولي الأمر مطلقا ، فإن أولئك كانوا يطيعون ذا السلطان وهو موجود ، وهؤلاء يوجبون طاعة معصوم مفقود .
وأيضا فأولئك لم يكونوا يدّعون في أئمتهم العصمة التي تدعيها الرافضة ،بل كانوا يجعلونهم كالخلفاء الراشدين وأئمة العدل الذين يقلدون فيما لا تعرف حقيقة أمره ، أو يقولون : إن الله يقبل منهم الحسنات ويتجاوز عن السيئات . وهذا أهون ممن يقول : أنهم معصومون ولا يخطئون .
فتبين ان هؤلاء المنسوبين إلى النصب من شيعة عثمان ، وإن كان فيهم خروج عن بعض الحق والعدل ، فخروج الإمامية عن الحق والعدل أكثر وأشد ، فكيف بقول أئمة السنة الموافق للكتاب والسنة ،وهو الأمر بطاعة ولي الأمر فيما يأمر به من طاعة الله ، دون ما يأمر به من معصية الله .
( فصـل )
قال الرافضي : (( وذهب الجميع منهم إلى القول بالقياس ، والأخذ بالرأي ، فأدخلوا في دين الله ما ليس منه ، وحرّفوا أحكام الشريعة ، وأحدثوا مذاهب أربعة لم تكن في زمن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا زمن صحابته ، وأهملوا أقاويل الصحابة ، مع أنهم نصُّوا على ترك القياس ، وقالوا : أول من قاس إبليس )) .
فيقال الجواب عن هذا من وجوه :
أحدها : أن دعواه على جميع أهل السنة المثبتين لإمامة الخلفاء الثلاثة أنهم يقولون بالقياس دعوى باطلة ، قد عُرف فيهم طوائف لا يقولون بالقياس ، كالمعتزلة البغداديين ، وكالظاهرية كداود وابن حزم وغيرهما ، وطائفة من أهل الحديث والصوفية .
وأيضا ففي الشيعة من يقول بالقياس كالزيدية . فصار النزاع فيه بين الشيعية كما هو بين أهل السنة والجماعة .
الثاني : أن يقال : القياس ولو قيل : إنه ضعيف هو خير من تقليد من لم يبلغ في العلم مبلغ المجتهدين ، فإن كل من له علم وإنصاف يعلم أن مثل مالك والليث بن سعد والأوْزاعي وأبي حنيفة والثَّوري وابن أبى ليلى ، ومثل الشافعي وأحمد إسحاق وأبى عبيد وأبى ثَوْر أعلم وأفقه من العسكريين أمثالهما.
وأيضا فهؤلاء خير من المنتظر الذي لا يعلم ما يقول ، فإن الواحد من هؤلاء إن كان عنده نص منقول عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فلا ريب أن النص الثابت عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مقدَّم على القياس بلا ريب ، وإن لم يكن عنده نص ولم يقل بالقياس كان جاهلا ، فالقياس الذي يفيد الظن خير من الجهل الذي لا علم معه ولا ظن ، فإن قال هؤلاء كل ما يقولونه هو ثابت عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان هذا أضعف من قول من قال كل ما يقوله المجتهد فإنه قول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، فإن هذا يقوله طائفة من أهل الرأي ، وقولهم أقرب من قول الرافضة ، فإن قول أولئك كذب صريح .
وأيضا فهذا كقول من يقول : عمل أهل المدينة متلقى عن الصحابة وقول الصحابة متلقى عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وقول من يقول : ما قاله الصحابة في غير مجاري القياس فإنه لا يقوله إلا توقيفا عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وقوله من يقول : قول المجتهد أو الشيخ العارف هو إلهام من الله ووحي يجب اتباعه .
فإن قال : هؤلاء تنازعوا .
قيل وأولئك تنازعوا ، فلا يمكن أن تدَّعي دعوى باطلة إلا أمكن معارضتهم بمثلها أو بخير منها ولا يقولون حقًّا إلا كان في أهل السنة والجماعة من يقول مثل ذلك الحق أو ما هو خير منه ، فإن البدعة مع السنة كالكفر مع الإيمان . وقد قال تعالى : وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً( ) .
الثالث : أن يقال الذين أدخلوا في دين الله ما ليس منه وحرّفوا أحكام الشريعة ، ليسوا في طائفة أكثر منهم في الرافضة ، فإنهم أدخلوا في دين الله من الكذب على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما لم يكذبه غيرهم ، وردّوا من الصدق ما لم يرده غيرهم ، وحرّفوا القرآن تحريفاً لم يحرّفه أحد غيرهم مثل قولهم : إن قوله تعالى : إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُون ( ) نزلت في عليّ لما تصدق بخاتمه في الصلاة .
وقوله تعالى : َمرَجَ الْبَحْرَيْنِ ( ) : علي وفاطمة ، َيخرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَان ( ) : الحسن والحسين ، وَكُلُّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِين ( )
علي بن أبي طالب إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيم وَآلَ عِمْرَانَ ( )
هم آل أبي طالب واسم أبي طالب عمران ، َفقاتلوا أَئِمَّةَ الْكُفْر( ) :طلحة والزبير، وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآن ( ) هم بنو أمية ، إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُم أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَة( ) :عائشة و َلئنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( ) :لئن أ شركت بين أبي بكر وعلي في الولاية .
وكل هذا وأمثاله وجدته في كتبهم . ثم من هذا دخلت الإسماعيلية والنصيرية في تأويل الواجبات والمحرّمات ، فهم أئمة التأويل ، الذي هو تحريف الكلم عن مواضعه ، ومن تدبر ما عندهم وجد فيه من الكذب في المنقولات ، والتكذيب بالحق منها والتحريف لمعانيها ، مالا يوجد في صنف من المسلمين ، فهم قطعا أدخلوا في دين الله ما ليس منه أكثر من كل أحد ، وحرّفوا كتابه تحريفا لم يصل غيرهم إلى قريب منه .
الوجه الرابع : قوله : ((وأحدثوا مذاهب أربعة لم تكن في زمن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا زمن صحابته ، وأهملوا أقاويل الصحابة )).
فيقال له : متى كان مخالفة الصحابة والعدول عن أقاويلهم منكراً عند الإمامية ؟ وهؤلاء متفقون على محبة الصحابة وموالاتهم وتفضيلهم على سائر القرون وعلى أن إجماعهم حجة ، وعلى أنه ليس لهم الخروج عن إجماعهم ، بل عامة الأئمة المجتهدين يصرّحون بأنه ليس لنا أن نخرج عن أقاويل الصحابة ، فكيف يطعن عليهم بمخالفة الصحابة من يقول : إن إجماع الصحابة ليس بحجة ، وينسبهم إلى الكفر والظلم ؟
فإن كان إجماع الصحابة حجة فهو حجة على الطائفتين ، وإن لم يكن حجة فلا يحتج به عليهم .
وإن قال : أهل السنة يجعلونه حجة ، وقد خالفوه .
قيل : أما أهل السنة فلا يتصور أن يتفقوا على مخالفة إجماع الصحابة ، وأما الإمامية فلا ريب أنهم متفقون على مخالفة إجماع العترة النبوية ، مع مخالفة إجماع الصحابة ، فإن لم يكن في العترة النبوية –بنو هاشم – على عهد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رصى الله عنهم من يقول بإمامة الاثنى عشر ولا بعصمة أحد بعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، ولا بكفر الخلفاء الثلاثة ، بل ولا من يطعن في إمامتهم ، بل ولا من ينكر الصفات ، ولا من يكذب بالقدر .
فالإمامية بلا ريب متفقون على مخالفة إجماع العترة النبوية ، مع مخالفتهم لإجماع الصحابة ، فكيف ينكرون على من لم يخالف لا إجماع الصحابة ولا إجماع العترة ؟ .
الوجه الخامس : أن قوله : (( أحدثوا مذاهب أربعة لم تكن على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم )). إن أراد بذلك أنهم اتفقوا على أن يحدثوا هذه المذاهب مع مخالفة الصحابة فهذا كذب عليهم ، فإن هؤلاء الأئمة لم يكونوا في عصر واحد ، بل أبو حنيفة توفى سنة خمسين ومائة ومالك سنة تسع وسبعين ومائة ، والشافعي سنة أربع ومائتين ، وأحمد بن حنبل سنة إحدى وأربعين ومائتين ، وليس في هؤلاء من يقلد الآخر ، ولا من يأمر باتّباع الناس له ، بل كل منهم يدعو إلى متابعة الكتاب والسنة ، وإذا قال غيره قولا يخالف الكتاب والسنة عنده رده ،ولا يوجب على الناس تقليده.
وإن قلت ان هذه المذاهب اتّبعهم الناس ، فهذا لم يحصل بموطأة ، بل اتفق أن قوما اتّبعوا هذا ، وقوما اتبعوا هذا ، كالحجاج الذين طلبوا من يدلهم على الطريق ، فرأى قوم هذا الدليل خبيراً فاتّبعوه ، وكذلك الآخرون .
وإذا كان كذلك لم يكن في ذلك اتفاق أهل السنة على باطل ، بل كل قوم منهم ينكرون ما عند غيرهم من الخطأ ، فلم يتفقوا على أن الشخص المعيّن عليه أن يقبل من كل من هؤلاء ما قاله ، بل جمهورهم لا يأمرون العاميّ بتقليد شخص معيّن غير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في كل ما يقوله.
والله تعالى قد ضمن العصمة للامة ، فمن تمام العصمة أن يجعل عدداً من العلماء إن أخطأ الواحد منهم في شيء كان الآخر قد أصاب فيه حتى لا يضيع الحق ، ولهذا لما كان في قول بعضهم من الخطأ مسائل ، كبعض المسائل التي أوردها ، كان الصواب في قول الآخر ، فلم يتفق أهل السنة على ضلالة أصلا ، وأما خطأ بعضهم في بعض الدين ، فقد قدّمنا في غير مرة أن هذا لا يضر ، كخطأ بعض المسلمين . وأما الشيعة فكل ما خالفوا فيه أهل السنة كلهم فهم مخطئون فيه ، كما أخطأ اليهود والنصارى في كل ما خالفوا فيه المسلمين .
الوجه السادس : أن يُقال : قوله : (( إن هذه المذاهب لم تكن في زمن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا الصحابة ))إن أراد أن الأقوال التي
لهم لم تنقل عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا عن الصحابة ، بل تركوا قول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والصحابة وابتدعوا خلاف ذلك ، فهذا كذب عليهم ، فإنهم لم يتفقوا على مخالفة الصحابة ، بل هم – وسائر أهل السنة – متبعون للصحابة في أقوالهم ، وإن قدّر أن بعض أهل السنّة خالف الصحابة لعدم علمه بأقاويلهم ، فالباقون يوافقون ويثبتون خطأ من يخالفهم ، وإن أراد أن نفس أصحابها لم يكونوا في ذلك الزمان ، فهذا لا محذور فيه . فمن المعلوم أن كل قرن يأتي يكون بعد القرن الأول .
الوجه السابع : قوله : (( وأهملوا أقاويل الصحابة )) كذب منه ، بل كتب أرباب المذاهب مشحونة بنقل أقاويل الصحابة والاستدلال بها ، وإن كان عند كل طائفة منها ما ليس عند الأخرى . وإن قال : أردت بذلك أنهم لا يقولون : مذهب أبي بكر وعمر ونحو ذلك ، فسبب ذلك أن الواحد من هؤلاء جمع الآثار وما استنبطه منها ، فأضيف ذلك إليه ، كما تضاف كتب الحديث إلى من جمعها ، كالبخاري ومسلم وأبي داود ، ، وكما تضاف القراءات إلى من اختارها ، كنافع وابن كثير .
وغالب ما يقوله هؤلاء منقول عمن قبلهم ، وفي قول بعضهم ما ليس منقولا عمن قبله ، لكنه استنبطه من تلك الأصول . ثم قد جاء بعده من تعقب أقواله فبيّن منها ما كان خطأ عنده ، كل ذلك حفظا لهذا الدين ، حتى يكون أهله كما وصفهم الله به َيأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر ( ) فمتى وقع من أحدهم منكر خطأ أو عمداً أنكره عليه غيره .
وليس العلماء بأعظم من الأنبياء ، وقد قال تعالى : وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْم وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِين . فَفَهَّمْناهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْمًا ( ) .
وثبت في الصحيحين عن ابن عمرما أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال لأصحابه عام الخندق : ((لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة ، فأدركتهم صلاة العصر في الطريق ، فقال بعضهم:لم يُرد منا تفويت الصلاة ، فصلُّوا في الطريق . وقال بعضهم : لا نصلي إلا في بني قريظة ،فصلوا العصر بعد ماغربت الشمس،فما عنّف واحدة من الطائفتين ))( ) فهذا دليل على أن المجتهدين يتنازعون في فهم كلام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وليس كل واحد منهم آثماً .
الوجه الثامن : أن أهل السنة لم يقل أحد منهم إن إجماع الأئمة الأربعة حجة معصومة ، ولا قال : إن الحق منحصر فيها ، وإن ما خرج عنها باطل ، بل إذا قال من ليس من أتباع الأئمة ، كسفيان الثوري والأوزاعي واللَيْث بن سعد ومن قبلهم ومن بعدهم من المجتهدين قولا يخالف قول الأئمة الأربعة ، رُدَّ ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله ، وكان القول الراجح هو القول الذي قام عليه الدليل .
الوجه التاسع : قوله : (( الصحابة نصوا على ترك القياس )) . يقال [له] : الجمهور الذين يثبتون القياس قالوا: قد ثبت عن الصحابة أنهم قالوا بالرأي واجتهاد الرأي وقاسوا ، كما ثبت عنهم ذم ما ذموه من القياس . قالوا: وكلا القولين صحيح ، فالمذموم القياس المعارض للنص ، كقياس الذين قالوا : إنما البيع مثل الربا ، وقياس إبليس الذي عارض به أمر الله له بالسجود لآدم ، وقياس المشركين الذين قالوا: أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتله الله ؟ قال الله تعالى : وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُم المُشْرِكُون ( ) .
وكذلك القياس الذي لا يكون الفرع فيه مشاركا للأصل في مناط الحكم، فالقياس يُذم إما لفوات شرطه ،وهو عدم المساواة في مناط الحكم، وإما لوجود مانعه ، وهو النص الذي يجب تقديمه عليه ، وإن كانا متلازمَيْن في نفس الأمر ، فلا يفوت الشرط إلا والمانع موجود ، ولا يوجد المانع إلا والشرط مفقود .
فأما القياس الذي يستوي فيه الأصل والفرع في مناط الحكم ولم يعارضه ماهو أرجح منه ، فهذا هو القياس الذي يتبع .
ولا ريب أن القياس فيه فاسد ، وكثير من الفقهاء قاسوا أقيسة فاسدة ، بعضها باطل بالنص ، وبعضها مما اتفق على بطلانه ، لكن بطلان كثير من القياس لا يقتضي بطلان جميعه ، كما أن وجود الكذب في كثير من الحديث لا يوجب كذب جميعه .
(فـصـــل)
قال الرافضي : (( الوجه الثاني : في الدلالة على وجوب اتّباع مذهب الإمامية : ما قاله شيخنا الإمام الأعظم خواجه نصير الملة والحق والدين محمد بن الحسن الطوسي ، قدّس الله روحه ، وقد سألته عن المذاهب فقال : بحثنا عنها وعن قول رسول الله : (( ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقه ،منها فرقة ناجية ، والباقي فى النار))( ) ، وقد عين الفرقة الناجية والهالكة في حديث أخر صحيح متفق عليه ، وهو قوله : (( مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح : من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق )) ، فوجدنا الفرقه الناجية هي فرقة الإمامية، لأنهم باينوا جميع المذاهب، وجميع المذاهب
قد اشتركت في أصول العقائد )).
فيقال : الجواب من وجوه:
أحدها : أن هذا الإمامي قد كَّفر من قال : ان الله موجب بالذات ، كما تقدم من قوله : يلزم أن يكون الله موجباً بذاته لا مختارا فيلزم الكفر .
وهذا الذي جعله شيخه الأعظم واحتج بقوله، هو ممن يقول بأن الله موجب بالذات ، ويقول بقدم العالم،كما ذكرذلك فى كتاب ((شرح الإشارات)) له. فيلزم على قوله أن يكون شيخه هذا الذي احتج به كافراً، والكافر لا يُقبل قوله في دين المسلمين .
الثاني: أن هذا الرجل قد اشتهر عند الخاص والعام أنه كان وزير الملاحدة الباطنية الإسماعيلية بالألموت( ) ، ثم لما قدم الترك المشركون الى بلاد المسلمين ، وجاءوا الى بغداد ،دار الخلافة ، كان هذا منجما مشيرا لملك الترك المشركين هولاكو أشار عليه بقتل الخليفة ، وقتل أهل العلم والدين، واستبقاء أهل الصناعات والتجارات الذين ينفعونه في الدنيا ، وأنه استولى على الوقف الذي للمسلمين ، وكان يعطي منه ما شاء الله لعلماء المشركين وشيوخهم من البخشية السحرة وأمثالهم وأنه لما بنى الرَّصد الذي بمراغة على طريق الصابئة المشركين ، كان أبخس الناس نصيبا منه من كان إلى أهلِ الملل أقرب ، وأوفرهم نصيبا من كان أبعدهم عن الملل ، مثل الصابئة المشركين ومثل المعطّلة وسائر المشركون ، وإن ارتزقوا بالنجوم والطب ونحو ذلك .
ومن المشهور عنه وعن أتباعه الاستهتار بواجبات الإسلام ومحرَّماته، لا يحافظون على الفرائض كالصلوات ، ولا ينزعون من محارم الله من الفواحش والخمر وغير ذلك من المنكرات ، حتى أنهم في شهر رمضان يُذكر عنهم من إضاعة الصلوات ، وارتكاب الفواحش ، وشرب الخمر –ما يعرفه أهل الخبرة بهم ، ولم يكن لهم قوة وظهور إلا مع المشركين ، الذين دينهم شر من دين اليهود والنصارى .
ولهذا كان كلما قوى الإسلام في المغل وغيرهم من ترك ، ضعف أمر هؤلاء لفرط معاداتهم للإسلام وأهله . ولهذا كانوا من أنقص الناس منزلة عند الأمير نوروز المجاهد في سبيل الله الشهيد ، الذي دعا ملك المغل غازان إلى الإسلام ، والتزم له أن ينصره إذا أسلم ، وقتل المشركين الذين لم يسلموا من البخشية السحرة وغيرهم ، وهدم البذخانات ، وكسر الأصنام ومزق سدنتها كل ممزق ، وألزم اليهود والنصارى بالجزية والصغار ، وبسببه ظهر الإسلام في المغل وأتباعهم .
وبالجملة فأمر هذا الطوسى وأتباعه عند المسلمين أشهر وأعرف من أن يعرف ويوصف . ومع هذا فقد قيل : إنه كان آخر عمره يحافظ على الصلوات الخمس ويشتغل بتفسير البغوى والفقه ونحو ذلك . فإن كان قد تاب من الإلحاد فالله يقبل التوبة عن عباده ، ويعفو عن السيئات . والله تعالى يقول: َيا عباِديَ الَّذِينَ أَسْرَفوا عَلَى أنفسِهِمْ لا تَقْنَطوا مِن رَّحْمَة الله إنَّ اللهَ يَغْفِر الذُنوبَ جميعا ( ) .
لكن ما ذكره عن هذا ، إن كان قبل التوبة لم يُقبل قوله ، وإن كان بعد التوبة لم يكن قد تاب من الرفض ، بل من الإلحاد وحده . وعلى التقديرين فلا يُقبل قوله . والأظهر أنه إنما كان يجتمع به وبأمثاله لما كان منجما للمغل المشركين ، والإلحاد معروف من حاله إذ ذلك .
فمن يقدح في مثل أبي بكر وعمر وعثمان ، وغيرهم من السابقين الأوَّلين من المهاجرين والأنصار ، ويطعن على مثل مالك والشافعي وأي حنيفة وأحمد بن حنبل وأتباعهم ، ويعيرهم بغلطات بعضهم في مثل إباحة الشطرنج والغناء ، كيف يليق به أن يحتج لمذهبه بقول مثل هؤلاء الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، ولا يحرِّمون ما حرم الله ورسوله ، ولا يدينون دين الحق ، ويستحلون المحرَّمات المجمع على تحريمها ، كالفواحش والخمر ، في مثل شهر رمضان ، الذين أضاعوا الصلاة واتّبعوا الشهوات ، وخرقوا سياج الشرائع ، واستخفّوا بحرمات الدين ، وسلكوا غير طريق المؤمنين ، فهم كما قيل فيهم :
الدين يشكو بليــة من فرقة فلسفـية
لا يشهدون صـلاة إلا لأجـل التقيـة
ولا ترى الشرع إلا سياسـة مـدنـية
ويؤثـرون عليـه مناهجـافلسـفيـة
ولكن هذا حال الرافضة : دائما يعادون أولياء الله المتقين ـ من السابقين الأولين ،من المهاجرين والأنصار ، والذين اتّبعوا بإحسان ، ويوالون الكفّار والمنافقين . فإن أعظم الناس نفاقا في المنتسبين إلى الإسلام هم الملاحدة الباطنية الإسماعيلية ، فمن احتج بأقوالهم في نصرة قوله ، مع ما تقدم من طعنه على أقوال أئمة المسلمين – كان من أعظم الناس موالاة لأهل النفاق ، ومعاداة لأهل الإيمان .
ومن العجب أن هذا المصنف الرافضي الخبيث الكذّاب المفتري ، يذكر أبا بكر وعمر وعثمان ، وسائر السابقين والأوَّلين والتابعين ، وسائر أئمة المسلمين ، من أهل العلم والدين بالعظائم التي يفتريها عليهم هو وإخوانه، ويجيء إلى من قد اشتُهر عند المسلمين بمحادته لله ورسوله ، فيقول : ((قال شيخنا الأعظم )) ، ويقول ((قدس الله روحه )) مع شهادته بالكفر عليه وعلى أمثاله ،ومع لعنة طائفته لخيار المؤمنين من الأولين والآخرين .
وهؤلاء داخلون في معنى قوله تعالى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً . أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ
لَهُ نَصِيرًا ( ).
فإن هؤلاء الإمامية أوتوا نصيبا من الكتاب ، إذ كانوا مقرِّين ببعض ما في الكتاب المنزَّل ، وفيهم شعبة من الإيمان بالجبت وهو السحر ، والطاغوت وهو كل ما يعبد من دون الله ، فإنهم يعظِّمون الفلسفة المتضمنة لذلك ، ويرون الدعاء والعبادة للموتى ، واتخاذ المساجد على القبور ، ويجعلون السفر إليها حجا له مناسك ، ويقولون : (( مناسك حج المشاهد )).
وحدثني الثقات أن فيهم من يرون الحج إليها أعظم من الحج إلى البيت العتيق، فيرون الإشراك بالله أعظم من عبادة الله ، وهذا من أعظم الإيمان بالطاغوت .
وهم يقولون لمن يقرُّون بكفره من القائلين بقدم العالم ودعوة الكواكب، والمسوِّغين للشرك : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ، فإنهم فضّلوا هؤلاء الملاحدة المشركين على السابقين الأوَّلين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان. وليس هذا ببدع من الرافضة ، فقد عُرف من موالاتهم لليهود والنصارى والمشركين ،ومعاونتهم على قتال المسلمين ، ما يعرفه الخاص والعام ، حتى قيل : أنه ما اقتتل يهودي ومسلم ، ولا مشرك ومسلم – إلا كان الرافضي مع اليهودي والنصراني والمشرك.
الوجه الثالث : أنه قد عرف كل أحد أن الإسماعيلية والنصيرية هم من الطوائف الذين يظهرون التشيع ، وإن كانوا في الباطن كفّاراً منسلخين عن كل ملة ، والنصيرية هم من غلاة الرافضة الذين يدّعون إلهية عليّ وهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى باتفاق المسلمين .
والإسماعيلية الباطنية أكفر منهم ، فإن حقيقة قولهم التعطيل . أما أصحاب الناموس الأكبر والبلاغ الأعظم ، الذي هو آخر المراتب عندهم ، فهم من الدهرية القائلين بأن العالم لا فاعل له : لا علة ولا خالق . ويقولون : ليس بيننا وبين الفلاسفة خلاف إلا في واجب الوجود ، ، فإنهم يثبتونه ، وهو شيء لا حقيقة له ، ويستهزئون بأسماء الله عز وجل ، ولا سيما هذا الاسم الذي هو الله ، فإن منهم من يكتبه على أسفل قدميه ويطؤه .
وأما من هو دون هؤلاء فيقول بالسابق وبالتالي ، الذين عبّروا بهما عن العقل والنفس عند الفلاسفة ، وعن النور والظلمة عند المجوس ، وركَّبوا لهم مذهبا من مذاهب الصابئة والمجوس ظاهره التشيع .
ولا ريب أن المجوس والصابئة شر من اليهود والنصارى ، ولكن تظاهروا بالتشيع .
قالوا :لأن الشيعة أسرع الطوائف استجابة لنا ، لما فيهم من الخروج عن الشريعة ، ولما فيهم من الجهل وتصديق المجهولات .
ولهذا كان أئمتهم في الباطن فلاسفة ، كالنصير الطوسي هذا ، وكسنان البصري الذي كان بحصونهم بالشام ، وكان يقول : قد رَفَعت عنهم الصوم والصلاة والحج والزكاة .
فإذا كانت الإسماعيلية إنما يتظاهرون في الإسلام بالتشيع ، ومنه دخلوا وبه ظهروا ، وأهله هم المهاجرين إليهم ، لا إلى الله ورسوله ، وهم أنصارهم لا أنصار الله ورسوله – عُلم أن شهادة الإسماعيلية للشيعة بأنهم على حق شهادة مردودة باتفاق العقلاء .
فإن هذا الشاهد : إن كان يعرف أن ما هو عليه مخالف لدين الإسلام في الباطن ، وإنما أظهر التشيع لينفق به عند المسلمين ، فهو محتاج إلى تعظيم التشيع ، وشهادته له شهادة المرء نفسه ، فهو كشهادة الآدمي لنفسه ، لكنه في هذه الشهادة يعلم أنه يكذب ، وإنما كذب فيها كما كذب في سائر أحواله ، وإن كان يعتقد دين الإسلام في الباطن ، ويظن أن هؤلاء على دين الإسلام ، كان أيضا شاهداً لنفسه ، لكن مع جهله وضلاله .
وعلى التقديرين فشهادة المرء لنفسه لا تُقبل ، سواء علم كذب نفسه أو اعتقد صدق نفسه . كما في السنن عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : (( لا تُقبل شهادة خصم ولا ظنين ولا ذي غمر على أخيه ))( ) . وهؤلاء خصمان أظِنّاء متهمون ذو غمر على أهل السنة والجماعة ، فشهادتهم مردودة بكل طريق .
الوجه الرابع : أن يُقال : أولا أنتم قوم لا تحتجون بمثل هذه الأحاديث، فإن هذا الحديث إنما يرويه أهل السنة بأسانيد أهل السنة ، والحديث نفسه ليس في الصحيحين ، بل قد طعن فيه بعض أهل الحديث كابن حزم وغيره ، ولكن قد رواه أهل السنن ، كأبي داود والترمذي وابن ماجة ، ورواه أهل المسانيد ، كالإمام أحمد وغيره( ) .
فمن أين لكم على أصولكم ثبوته حتى تحتجوا به ؟ وبتقدير ثبوته فهو من أخبار الآحاد ، فكيف يجوز أن تحتجوا في أصل من أصول الدين وإضلال جميع المسلمين – إلا فرقة واحدة – بأخبار الآحاد التي لا يحتجون هم بها في الفروع العملية ؟!.
وهل هذا إلا من أعظم التناقض والجهل ؟!
الوجه الخامس : أن الحديث روى تفسيره فيه من وجهين : أحدهما : أنه صلى الله تعالى عليه وسلم سأل عن الفرقة الناجية ، فقال : (( من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي )) وفي الرواية الأخرى قال : (( هم الجماعة )). وكل من التفسيرين يناقض قول الإمامية ، ويقتضي أنهم خارجون عن الفرقة الناجية ، فإنهم خارجون عن جماعة المسلمين : يكفرون أو يفسِّقون أئمة الجماعة ، كأبي بكر وعمر وعثمان ، دع معاوية وملوك بني أمية وبني العباس ، وكذلك يكفِّرون أو يفسِّقون علماء الجماعة وعبّادهم ، كمالك والثوري والأوزاعي والليث بن سعد وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وإبراهيم بن أدهم والفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي وأمثال هؤلاء ، وهم أبعد الناس عن معرفة سير الصحابة والإقتداء بهم ، لا في حياة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا بعده ، فإن هذا إنما يعرفه أهل العلم بالحديث والمنقولات ، والمعرفة بالرجال الضعفاء والثقات ، وهم من أعظم الناس جهلا بالحديث وبغضا له ، ومعاداة لأهله ، فإذا كان وصف الفرقة الناجية : أتباع الصحابة على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وذلك شعار السنة والجماعة – كانت الفرقة الناجية هم أهل السنة والجماعة ، فالسنة ما كان صلى الله تعالى عليه وسلم هو وأصحابه عليه في عهده ، مما أمرهم به وأقرَّهم عليه أو فعله هو ، والجماعة هم المجتمعون الذين ما فرَّقوا دينهم وكانوا شيعا ، فالذين فرَّقوا دينهم وكانوا شيعا خارجون عن الجماعة قد برَّأ الله نبيه منهم ، فعُلم بذلك أن هذا وصف أهل السنة و الجماعة ، لا وصف الرافضة، وأن هذا الحديث وصف الفرقة الناجية باتّباع سنته التي كان عليها هو وأصحابه ، وبلزوم جماعة المسلمين .
فإن قيل : فقد قال في الحديث : (( من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي )) ، فمن خرج عن تلك الطريقة بعده لم يكن على طريقة الفرقة الناجية ، وقد ارتد ناس بعده فليسوا من الفرقة الناجية .
قلنا : نعم وأشهر الناس بالردة خصوم أبي بكر الصديق وأتباعه كمسيلمة الكذَّاب وأتباعه وغيرهم . وهؤلاء تتولاهم الرافضة كما ذكر ذلك غير واحد من شيوخهم ، مثل هذا الإمامي وغيره ، ويقولون : إنهم كانوا على حق ، وأن الصديق قاتلهم بغير حق . ثم مِن أظهر الناس ردة الغالية الذين حرَّقهم علي ّ بالنار لما ادّعوا فيه الإلهية وهم السبائية أتباع عبد الله بن سبأ الذين أظهروا سب أبي بكر وعمر .
وأول من ظهر عنه دعوى النبوة من المنتسبين إلى الإسلام المختار بن أبي عبيد وكان من الشيعة ، فعُلم أن أعظم الناس ردة هم في الشيعة أكثر منهم في سائر الطوائف ، ولهذا لا يُعرف ردة أسوأ حالا من ردة الغالية كالنصيرية ، ومن ردة الإسماعيلية الباطنية ونحوهم ، وأشهر الناس بقتال المرتدين هو أبو بكر الصديق ، فلا يكون المرتدون في طائفة أكثر منها في خصوم أبي بكر الصديق ، فدل ذلك على أن المرتدين الذين لم يزالوا مرتدين على أعقابهم ، هم بالرافضة أوْلى منهم بأهل السنة والجماعة .
وهذا بيِّن يعرفه كل عاقل يعرف الإسلام وأهله ، ولا يستريب أحد أن جنس المرتدين في المنتسبين إلى التشيع أعظم وأفحش كفرا من جنس المرتدين المنتسبين إلى أهل السنة والجماعة ، إن كان فيهم مرتد.
الوجه السادس : أن يقال : هذه الحجة التي احتج بها الطوسي على أن الإمامية هم الفرقة الناجية كذب في وصفها ، كما هي باطلة في دلالتها . وذلك أن قوله : (( باينوا جميع المذاهب ، وجميع المذاهب قد اشتركت في أصول العقائد )) إن أراد بذلك أنهم باينو جميع المذاهب فيما اختصوا به ، فهذا شأن جميع المذاهب ، فإن الخوارج أيضا باينوا جميع المذاهب فيما اختصوا به من التكفير بالذنوب ، ومن تكفير علي ، ومن إسقاط طاعة الرسول فيما لم يخبر به عن الله ، وتجويز الظلم عليه في قسْمهِ والجور في حكمه ، وإسقاط اتّباع السنة المتواترة التي تخالف ما يُظن أنه ظاهر القرآن ، كقطع السارق من المنكب وأمثال ذلك .
الوجه السابع : أن يُقال : مباينتهم لجميع المذاهب هو على فساد قولهم أدل منه على صحة قولهم ؛ فإن مجرد انفراد طائفة عن جميع الطوائف لا يدل على أنه هو الصواب ، واشتراك أولئك في قول لا يدل على أنه باطل.
فإن قيل : إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم جعل أمته ثلاثا وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ، فدل على أنها لا بد أن تفارق هذه الواحدة سائر الاثنتين وسبعين فرقة .
قلنا : نعم . وكذلك يدل الحديث على مفارقة الثنتين وسبعين بعضها بعضا ، كما فارقت هذه الواحدة . فليس في الحديث ما يدل على اشتراك الثنتين والسبعين في أصول العقائد ، بل ليس في ظاهر الحديث إلا مباينة الثلاث والسبعين كل طائفة للأخرى . وحينئذ فمعلوم أن جهة الافتراق جهة ذم لا جهة مدح ، فإن الله تعالى أمر بالجماعة والائتلاف ، وذم التفريق والاختلاف، فقال تعالى : واْعتَصِموا بِحَبْلِ اللهِ جميعًا وَلا تَفَرَّقوا ( ) وقال : وَلاَ تَكُونوا كالَّذينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّنَاتْ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظيمٌ . يَوْمَ تَبْيَضْ وُجوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجوهٌ فَأَمّا الَّذينَ اسْوَدَّتْ وُجوهُهُم ( ) .
قال ابن عباس وغيره : تبيض وجوه أهل السنة وتسودُّ وجوه أهل البدعة والفرقة . وقال تعالى : إنَّ الَّذينَ فَرَّقوا دِينَهُمْ وَكانوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ في شَيْءٍ ( ) وقال : وَما اخْتَلَفَ فيهِ إِلاّ الَّذينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيِّناتُ بَغْيًا بَينَهُم ( ) وقال: وَما تَفَرَّقَ الَّذينَ اُوتوا الكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعدِ ما جاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ ( ) .
وإذا كان كذلك فأعظم الطوائف مفارقة للجماعة و افتراقا في نفسها أولى الطوائف الذم ، و أقلها افتراقا ومفارقة للجماعة أقربها إلى الحق . وإذا كانت الإمامية أوْلى بمفارقة سائر طوائف الأمة فهم أبعد عن الحق ، لا سيما وهم في أنفسهم أكثر اختلافا من جميع فرق الأمة ، حتى يقال : إنهم ثنتان وسبعون فرقة . وهذا القدر فيما نقله عن هذا الطوسي بعضُ أصحابه، وقال : كان يقول : الشيعة تبلغ فرقهم ثنتين وسبعين فرقة ، أو كما قال . وقد صنَّف الحسن بن موسى النوبختي وغيره في تعديد فرق الشيعة .
وأما أهل الجماعة فهم أقل اختلافا في أصول دينهم من سائر الطوائف، وهم أقرب إلى كل طائفة من كل طائفة إلى ضدّها ، فهم الوسط في أهل الإسلام كما أن أهل الإسلام هم الوسط في أهل الملل : هم وسط في باب صفات الله بين أهل التعطيل وأهل التمثيل .
وقال صلى الله تعالى عليه وسلم : (( خير الأمور أوسطها )) وحينئذ أهل السنة والجماعة خير الفرق.
وفي باب القدر بين أهل التكذيب به وأهل الاحتجاج به ، وفي باب الأسماء والأحكام بين الوعيدية والمرجئة ، وفي باب الصحابة بين الغلاة والجفاة ، فلا يغلون في عليّ غلو الرافضة ، ولا يكفِّرونه تكفير الخوارج ، ولا يكفِّرون أبا بكر وعثمان كما تكفِّرهم الروافض ، ولا يكفِّرون عثمان وعليا كما يُكفرهما الخوارج .
الوجه الثامن : أن يقال : إن الشيعة ليس لهم قول واحد اتفقوا عليه ، فإن القول الذي ذكره هذا قول من أقوال الإمامية ، ومن الإمامية طوائف تخالف هؤلاء في التوحيد والعدل ، كما تقدم حكايته . وجمهور الشيعة تخالف الإمامية في الاثنى عشر ، فالزيدية والإسماعيلية وغيرهم متفقون على إنكار إمامة الاثنى عشر.
وهؤلاء الإمامية الاثنا عشرية يقولون : إن أصول الدين أربعة : التوحيد ، والعدل ، والنبوة ، والإمامة. وهم مختلفون في التوحيد والعدل والإمامة . وأما النبوة فغايتهم أن يكونوا مقرِّين بها كإقرار سائر الأمة. واختلافهم في الإمامة أعظم من اختلاف سائر الأمة ، فإن قالت الاثنا عشرية : نحن أكثر من هذه الطوائف ، فيكون الحق معنا دونهم . قيل لهم : وأهل السنة أكثر منكم ، فيكون الحق معهم دونكم ، فغايتكم أن تكون سائر فرق الإمامية معكم بمنزلتكم مع سائر المسلمين ، والإسلام هو دين الله الذي يجمع أهل الحق .
(فصـــل )
قال الرافضي : ((الوجه الثالث:أن الإمامية جازمون بحصول النجاة لهم ولأئمتهم ، قاطعون بذلك ، وبحصول ضدها لغيرهم . وأهل السنة لا يجيزون ولا يجزمون بذلك لا لهم ولا لغيرهم . فيكون اتّباع أولئك أوْلى ، لأنَّا لو فرضنا مثلا خروج شخصين من بغداد يريدان الكوفة ، فوجدا طريقين سلك كل منهما طريقا ، فخرج ثالث يطلب الكوفة : فسأل أحدهما : إلى أين تذهب؟ فقال إلى الكوفة . فقال له : هل طريقك توصلك إليها ؟ وهل طريقك آمن أم مخوف ؟ وهل طريق صاحبك تؤديه إلى الكوفة ؟ وهل هو آمن أم مخوف ؟ فقال : لا أعلم شيئا من ذلك . ثم سأل صاحبه فقال أعلم أن طريقي يوصِّلني إلى الكوفة ، وأنه آمن ، وأعلم أن طريق صاحبي لا يؤديه إلى الكوفة ، وأنه ليس بآمن ، فإن الثالث إن تابع الأول عدَّه العقلاء سفيها ، وإن تابع الثاني نُسب إلى الأخذ بالحزم )) .
هكذا ذكره في كتابه ، والصواب أن يُقال : وسأل الثاني فقال له الثاني: لا أعلم أن طريقي تؤديني إلى الكوفة ولا أعلم أنه آمن أم مخوف .
والجواب على هذا من وجوه :
أحدها :أن يُقال : إن كان اتّباع الأئمة الذين تُدَّعى لهم الطاعة المطلقة، وأن ذلك يوجب لهم النجاة واجبا ، كان اتّباع خلفاء بني أمية الذين كانوا يوجبون طاعة أئمتهم طاعة مطلقة ويقولون : إن ذلك يوجب النجاة مصيبين على الحق ، وكانوا في سبِّهم عليا وغيره وقتالهم لمن قاتلوه من شيعة عليّ مصيبين ، لأنهم كانوا يعتقدون أن طاعة الأئمة واجبة في كل شيء ، وأن الإمام لا يؤاخذه الله بذنب ، وأنه لا ذنب لهم فيما أطاعوا فيه الإمام ، بل أولئك أوْلى بالحجة من الشيعة ، لأنهم كانوا مطيعين أئمة أقامهم الله ونصيهم وأيّدهم وملّكهم ، فإذا كان مذهب القدرية أن الله لا يفعل إلا ما هو الأصلح لعباده ،كان تولية أولئك الأئمة مصلحة لعباده .
ومعلوم ان اللطف والمصلحة التي حصلت بهم أعظم من اللطف والمصلحة التي حصلت بإمام معدوم أو عاجز . ولهذا حصل لاتّباع خلفاء بني أمية من المصلحة في دينهم ودنياهم ، أعظم مما حصل لاتّباع المنتظر ؛ فإن هؤلاء لم يحصل لهم إمام يأمرهم بشيء من المعروف ، ولا ينهاهم عن شيء من المنكر ، ولا يعينهم على شيء من مصلحة دينهم ولا دنياهم ، بخلاف أولئك ؛ فإنهم انتفعوا بأئمتهم منافع كثيرة في دينهم ودنياهم ، أعظم مما انتفع هؤلاء بأئمتهم .
فتبين أنه إن كانت حجة هؤلاء المنتسبين إلى مشايعة علي ّ صحيحة ، فحجة أولئك المنتسبين إلى مشايعة عثمان أوْلى بالصحة ، وإن كانت باطلة فهذه أبطل منها . فإذا كان هؤلاء الشيعة متفقين مع سائر أهل السنة على أن جزم أولئك بنجاتهم إذا أطاعوا أولئك الأئمة طاعة مطلقة خطأ وضلال ، فخطأ هؤلاء وضلالهم إذا جزموا بنجاتهم لطاعتهم لمن يدّعي أنه نائب المعصوم – والمعصوم لا عين له ولا أثر – أعظم وأعظم ؛ فإن الشيعة ليس لهم أئمة يباشرونهم بالخطاب ، إلا شيوخهم الذين يأكلون أموالهم بالباطل، ويصدّونهم عن سبيل الله.
الوجه الثاني : أن هذا المثل إنما كان يكون مطابقاً لو ثبت مقدمتان : إحداهما : أن لنا إماما معصوماً. والثانية : أنه أمر بكذا وكذا . وكلتا المقدمتين غير معلومة ، بل باطلة . دع المقدمة الأولى ، بل الثانية ، فإن الأئمة الذين يدّعى فيهم العصمة قد ماتوا منذ سنين كثيرة ، والمنتظر له غائب أكثر من أربعمائة وخمسين سنة ، وعند آخرين هو معدوم لم يوجد . والذين يُطاعون شيوخ من شيوخ الرافضة ، أو كتب صنّفها بعض شيوخ الرافضة ، وذكروا أن ما فيها منقول عن أولئك المعصومين . وهؤلاء الشيوخ المصنِّفون ليسوا معصومين بالاتفاق ، ولا مقطوعاً لهم بالنجاة .
فإذاً الرافضة لا يتّبعون إلا أئمة لا يقطعون بنجاتهم ولا سعادتهم ، فلم يكونوا قاطعين لا بنجاتهم ، ولا بنجاة أئمتهم الذين يباشرونهم بالأمر والنهي ، وهم أئمتهم ، وإنما هم في انتسابهم إلى أولئك الأئمة ، بمنزلة كثير من أتباع شيوخهم الذين ينتسبون إلى شيخ قد مات من مدة ،ولا يدرون بماذا أمر ، ولا عماذا نهى ، بل له اتباع يأكلون أموالهم بالباطل ويصدون عن سبيل الله ، يأمرونهم بالغلو في ذلك الشيخ وفي خلفائه ، وأن يتخذوهم أربابا ، وكما تأمر شيوخ الشيعة أتباعهم ، وكما تأمر شيوخ النصارى أتباعهم ، فهم يأمرونهم بالإشراك بالله وعبادة غير الله ، ويصدونهم عن سبيل الله ، فيخرجون عن حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله وان محمداً رسول الله ، فإن التوحيد أن نعبد الله وحده ، فلا يُدعى إلا هو ، ولا يُخشى إلا هو ، ولا يتقى إلا هو ، ولا يتوكل إلا عليه ، ولا يكون الدين إلا له ، لا لأحد من الخلق ، وأن لا نتخذ الملائكة والنبيين أرباباً ، فكيف بالأئمة والشيوخ والعلماء والملوك وغيرهم !؟
والرسول صلى الله تعالى عليه وسلم هو المبلِّغ عن الله أمره ونهيه ، فلا يُطاع مخلوق طاعة مطلقة إلا هو ، فإذا جُعل الغمام والشيخ كأنه إله يُدعى مع مغيبه وبعد موته ، ويُستغاث به ، ويُطلب منه الحوائج ، والطاعة إنما هي لشخص حاضر يأمر بما يريد ، وينهى عمّا يريد كان الميت مشبَّها بالله تعالى، والحي مشبهاً برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، فيخرجون عن حقيقة الإسلام الذي أصله شهادة أن لا إله إلا الله ، وشهادة أن محمداً رسول الله .
ثم إن كثيراً منهم يتعلّقون بحكايات تُنقل عن ذلك الشيخ ، وكثير منها كذب عليه ، وبعضها خطأ منه ، فيَعدِلون عن النقل الصدق عن القائل المعصوم إلى نقل غير مصدَّق عن قائل غير معصوم . فإذا كان هؤلاء مخطئين في هذا ، فالشيعة أكثر وأعظم خطأ ، لأنهم أعظم كذبا فيما ينقلونه عن الأئمة ، وأعظم غلوا في دعوى عصمة الأئمة .
الوجه الثالث : منع الحكم في هذا المثال الذي ضربه وجعله أصلا قاس عليه،فان الرجل إذا قال له أحد الرجلين:طريقى آمن يوصلني،وقال له الآخر:لا علم لي بأن طريقي آمن يوصلني،أو قال ذلك الأول ، لم يحسن في العقل تصديق الأول بمجرد قوله ، بل يجوز عند العقلاء أن يكون هذا محتالا عليه ، يكذب حتى يصحبه في الطريق فيقتله ويأخذ ماله ، ويجوز أن يكون جاهلا لا يعرف ما في الطريق من الخوف ، وأما ذاك الرجل فلم يضمن للسائل شيئا ، بل رده إلى نظره ، فالحزم في مثل هذا أن ينظر الرجل أيّ الطريقين أولى بالسلوك : أحد ذينك الطريقين أو غيرهما .
فتبين أن مجرد الإقدام على الحزم لا يدل على علم صاحبه ولا على صدقه، وأن التوقف والإمساك حتى يتبين الدليل هو عادة العقلاء .
الوجه الرابع : أن يقال : قوله : (( إنهم جازمون بحصول النجاة لهم دون أهل السنة )) كذب ، فإنه إن أراد بذلك أن كل واحد ممن اعتقد اعتقادهم يدخل الجنة ، وإن تَرَك الواجبات وفَعَل المحرمات ، فليس هذا قول الإمامية ، ولا يقوله عاقل .
وإن كان حب عليّ حسنة لا يضر معها سيئة ، فلا يضره ترك الصلوات ، ولا الفجور بالعلويّات ، ولا نيل أغراضه بسفك دماء بني هاشم إذا كان يحب عليًّا .
فإن قالوا : المحبة الصادقة تستلزم الموافقة ، عاد الأمر إلى أنه لا بد من أداء الواجبات وترك المحرمات . وإن أراد بذلك أنهم يعتقدون أن كل من اعتقد الاعتقاد الصحيح ، وأدى الواجبات ، وترك المحرّمات يدخل الجنة – فهذا اعتقاد أهل السنة ؛ فإنهم يجزمون بالنجاة لكل من اتّقى الله ، كما نطق به القرآن.
وإنما يتوقفون في الشخص المعين لعدم العلم بدخوله في المتيقن ، فإنه إذا علم أنه مات على التقوى عُلم أنه من أهل الجنة . ولهذا يشهدون بالجنة لمن شهد له الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ، ولهم فيمن استفاض في الناس حسن الثناء عليه قولان .
فتبين أنه ليس في الإمامية جزم محمود اختُصوا به عن أهل السنة والجماعة . وإن قالوا : إنّا نجزم لكل شخص رأيناه ملتزماً للواجبات عندنا تاركاً للمحرمات ، بأنه من أهل الجنة ، من غير أن يخبرنا بباطنه معصوم . قيل : هذه المسألة لا تتعلق بالإمامية ، بل إن كان إلى هذا طريق صحيح فهو لأهل السنة ، وهم بسلوكه أحذق ، وإن لم يكن هنا طريق صحيح إلى ذلك ، كان ذلك قولا بلا علم ، فلا فضيلة فيه ، بل في عدمه .
ففي الجملة لا يدّعون علما صحيحا إلا وأهل السنة أحق به ، وما ادّعوه من الجهل فهو نقص وأهل السنة أبعد عنه .
الوجه الخامس : أن أهل السنة يجزمون بحصول النجاة لأئمتهم أعظم من جزم الرافضة . وذلك أن أئمتهم بعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم هم السابقون الأوَّلون من المهاجرين والأنصار ، وهم جازمون بحصول النجاة لهؤلاء ، فإنهم يشهدون ان العشرة في الجنة ، ويشهدون أن الله قال لأهل بدر: (( اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم )) ، بل يقولون : إنه ((لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة )) كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم( ) . فهؤلاء أكثر من ألف وأربعمائة إمام لأهل السنة ، يشهدون أنه لا يدخل النار منهم أحد ، وهي شهادة بعلم ، كما دل على ذلك الكتاب والسنة.
الوجه السادس : أن يقال : أهل السنة يشهدون بالنجاة : إما مطلقا ، وإما معينا ، شهادة مستندة إلى علم . وأما الرافضة فإنهم إن شهدوا شهدوا بما لا يعلمون ، أو شهدوا بالزور الذي يعلمون أنه كذب ، فهم كما قال الشافعي رحمه الله : ما رأيت قوما أشهد بالزور من الرافضة .
الوجه السابع : أن الإمام الذي شهد له بالنجاة : إما أن يكون هو المطاع في كل شيء وإن نازعه غيره من المؤمنين ، أو هو مطاع فيما يأمر به من طاعة الله ورسوله ، وفيما يقوله باجتهاده إذا لم يعلم أن غيره أوْلى منه، ونحو ذلك . فإن كان الإمام هو الأول ، فلا إمام لأهل السنة بهذا الاعتبار إلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وهم يقولون كما قال مجاهد والحاكم ومالك وغيرهم : كل أحد يُؤخذ من قوله ويُترك إلا رسول الله عليه السلام . وهم يشهدون لإمامهم أنه خير الخلائق ، ويشهدون ان كل من ائتم به ، ففعل ما أُمر به وترك ما نُهى عنه ، دخل الجنة . وهذه الشهادة بهذا وهذا هم فيها أتم من الرافضة من شهادتهم للعسكريِيْن وأمثالهما بأنه من أطاعهم دخل الجنة .
فثبت أن إمام أهل السنة أكمل ، وشهادتهم له ولهم إذا أطاعوه أكمل ، ولا سواء .
ولكن قال الله تعالى : ءآلله خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكون ( ) ،فعند المقابلة يُذكر الخير المحض على الشر المحض ، وإن كان الشر المحض لا خير فيه .
وإن أرادوا بالإمام الإمام المقيَّد ، فذاك لا يُوجب أهل السنة طاعته ، إن لم يكن ما أمر به موافقا لأمر الإمام المطلق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وهم إذا أطاعوه فيما أمر الله بطاعته فيه ، فإنما هم مطيعون لله ورسوله ، فلا يضرهم توقفهم في الإمام المقيَّد : هل هو في الجنة أم لا ؟ .
الوجه الثامن : أن يُقال : إن الله قد ضمن السعادة لمن أطاعه وأطاع رسوله ، وتوعّد بالشقاء لمن لم يفعل ذلك ، فمناط السعادة طاعة الله ورسوله . كما قال تعالى : وَمَن يُطِعْ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلئِكَ مَعَ الَّذينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقينَ والشُّهَداءْ وَالصَّالِحينَ وَحَسَنَ أولَئِكَ رَفيقًا ( ) وأمثال ذلك .
وإذا كان كذلك والله تعالى يقول : فاتَّقوا الله ما اسْتَطَعْتُمْ ( ) فمن اجتهد في طاعة الله ورسوله بحسب استطاعته كان من أهل الجنة .
فقول الرافضة : لن يدخل الجنّة إلا من كان إماميا ، كقول اليهود والنصارى : َلنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ، تِلْكَ أَمَانِّيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين ، بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ ِللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون ( ) .
ومن المعلوم أن المنتظر الذي يدّعيه الرافضي لا يجب على أحد طاعته ، فإنه لا يُعلم له قول منقول عنه ، فإذاً من أطاع الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم دخل الجنة وإن لم يؤمن بهذا الإمام ، ومن آمن بهذا الإمام لم يدخل الجنة إلا إذا أطاع الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ، فطاعة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم هي مدار السعادة وجودا وعدما ، وهي الفارقة بين أهل الجنة والنار ، ومحمد صلى لله تعالى عليه وسلم فرّق بين الناس ، والله سبحانه وتعالى قد دل الخلق على طاعته بما بينه لهم ، فتبين أن أهل السنة جازمون بالسعادة والنجاة لمن كان من أهل السنّة .
(فصـــل)
قال الرافضي: الوجه الرابع : أن الإمامية أخذوا مذهبهم عن الأئمة المعصومين المشهورين بالفضل والعلم ولزهد والورع ، والاشتغال في كل وقت بالعبادة والدعاء وتلاوة القرآن ،والمداومة على ذلك من زمن الطفولة إلى آخر العمر ، ومنهم من يعلم الناس العلوم ، ونزل في حقهم : هلْ أَتَى وآية الطهارة ، وإيجاب المودة لهم ، وآية الابتهال وغير ذلك . وكان علي ّ يصلّي في كل يوم وليلة ألف ركعة ، ويتلو القرآن مع شدّة ابتلائه بالحروب والجهاد .
فأولهم عليّ بن أبي طالب كان أفضل الخلق بعد رسول الله وجعله الله نفس رسول الله حيث قال: وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ( ) وواخاه رسول الله وزوّجه ابنته ، وفَضْلُهُ لا يخفى وظهرت منه معجزات كثيرة ، حتى ادَّعى قوم فيه الربوبية وقتلهم ، وصار إلى مقالتهم آخرون إلى هذه الغاية كالغلاة والنصيرية . وكان ولداه سبطا رسول الله سيدا شباب أهل الجنة ، إمامين بنص النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وكانا أزهد الناس وأعلمهم في زمانهما ، وجاهدا في الله حق جهاده حتى قتلا ، ولبس الحسن الصوف تحت ثيابه الفاخرة من غير أن يشعر أحد بذلك ، وأخذ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يوما الحسين على فخذه الأيمن ، وإبراهيم على فخذه الأيسر ، فنزل جبرائيل عليه السلام وقال: إن الله تعالى لم يكن ليجمع لك بينهما ، فاختر من شئت منهما ، فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : إذا مات الحسين بكيت أنا وعليّ وفاطمة ، وإذا مات إبراهيم بكيت أنا عليه ، فاختار موت إبراهيم فمات بعد ثلاثة أيام ، وكان إذا جاء الحسين بعد ذلك يقبله ويقول : أهلا ومرحبا بمن فديته بابني إبراهيم .
وكان علي بن الحسين زين العابدين يصوم نهاره ويصوم ليله ، ويتلو الكتاب العزيز ، ويصلّي كل يوم وليلة ألف ركعة ، ويدعو كل ركعتين بالأدعية المنقولة عنه وعن آبائه ثم يرمي الصحيفة كالمتضجر ، ويقول : أنّى لي بعبادة عليّ ، وكان يبكي كثيراً حتى أخذت الدموع من لحم خديه ، وسجد حتى سمى ذا الثَفِنات ، وسماه رسول الله سيد العابدين .
وكان قد حج هشام بن عبد الملك فاجتهد أن يستلم الحجر فلم يمكنه من الزحام ، فجاء زين العابدين فوقف الناس له وتَنَحَّوْا عن الحجر حتى استلمه ، ولم يبق عند الحجر سواه ، فقال هشام بن عبد الملك : من هذا فقال الفرزدق وذكر أبيات الشعر المشهورة فبعث إليه الإمام زين العابدين بألف دينار ، فردها ، وقال: إنما قلت هذا غضباً لله ولرسوله ، فما آخذ عليه أجرا ، فقال عي بن الحسين : نحن أهل بيت لا يعود إلينا ما خرج منا فقبلها الفرزدق .
وكان بالمدينة قوم يأتيهم رزقهم ليلا ولا يعرفون ممن هو ، فلما مات زين العابدين ، انقطع ذلك عنهم وعرفوا أنه كان منه .
وكان ابنه محمد الباقر أعظم الناس زهداً وعبادة ، بَقَرَ السجودُ جبهتَه، وكان أعلم أهل وقته ، سمَّاه رسول الله الباقر ، وجاء جابر بن عبد الله الأنصاري إليه وهو صغير في الكُتَّاب ، فقال له : جدّك رسول الله يسلّم عليك . فقال : وعلى جدّي السلام . فقيل لجابر كيف هو ؟ قال كنت جالساً عند رسول الله والحسين في حجره وهو يلاعبه ، فقال : يا جابر يولد له ولد اسمه عليٌّ إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ : ليقم سيد العابدين ، فيقوم ولده ،ثم يولد له مولود اسمه محمد الباقر ، يبقر العلم بقرا ، فإذا رأيته فاقرئه مني السلام . وروى عنه أبي حنيفة وغيره .
وكان ابنه الصادق عليه السلام أفضل أهل زمانه وأعبدهم ، قال علماء السيرة : إنه اشتغل بالعبادة عن طلب الرياسة ، وقال عمر بن أبي المقدام: كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد الصادق علمت أنه من سلالة النبيين ،وهو الذي نشر فقه الإمامية ، والمعارف الحقيقية ، والعقائد اليقينية ، وكان لا يخبر بأمر إلا وقع ، وبه سمُّوه الصادق الأمين .
وكان عبد الله بن الحسن جمع أكابر العلويين للبيعة لولديه ، فقال الصادق : هذا الأمر لا يتم ، فاغتاظ من ذلك ، فقال : إنه لصاحب القباء الأصفر ، وأشار بذلك إلى المنصور ، فلما سمع المنصور بذلك فرح لعلمه بوقوع ما يُخبر به ، وعلم أن الأمر يصل إليه ، ولما هرب كان يقول : أين قول صادقهم ؟ وبعد ذلك انتهى الأمر إليه .
وكان ابنه موسى الكاظم يُدْعى بالعبد الصالح ، وكان أعبد أهل زمانه، يقوم الليل ويصوم النهار ، وسمِّي الكاظم لأنه كان إذ بلغه عن أحد شيء بعث إليه بمال . ونقل فضله الموافق والمخالف . قال ابن الجوزي من الحنابلة: روي عن شقيق البلخي قال : خرجت حاجّا سنة تسع وأربعين ومائة ، فنزلت القادسية فإذا شاب حسن الوجه شديد السمرة ، عليه ثياب صـوف مشتمل
بشملة ، في رجليه نعلان ، وقد جلس منفرداً عن الناس ، فقلت في نفسي : هذا الفتى من الصوفية يريد أن يكون كَلاًّ على الناس ، والله لأمضين إليه أوبِّخه ، فدنوت منه فلما رآني مقبلا قال: يا شقيق اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم .
فقلت في نفسي : هذا عبد صالح قد نطق على ما في خاطري ، لألحقنه ولأسألنَّه أن يحاللني ، فغاب على عيني ، فلما نزلنا واقصة إذا به يصلي ، وأعضاؤه تضطرب ، ودموعه تتحادر ، فقلت : أمضي إليه وأعتذر، فأوجز في صلاته ، ثم قال : يا شقيق : وَإِنِّي غَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ( ) فقلت : هذا من الإبدال ، قد تكلم على سرِّي مرتين . فلما نزلنا زبالة إذا به قائم على البئر وبيده ركوة يريد ان يسقي ماء فسقطت الركوة من يده في البئر فرفع طرفه إلى السماء وقال :
أنت ربي إذا ظمئت إلى الما ء وقوتي إذا أردت الطعاما
يا سيدي مالي سواها قال شقيق : فوالله لقد رأيت البئر قد ارتفع ماؤها فاخذ الركوة وملأها وتوضأ وصلى أربع ركعات ، ثم مال إلى كثيب رمل هناك ، فجعل يقبض بيده ويطرحه في الركوة ويشرب فقلت : أطعمني من فضل ما رزقك الله أو ما أنعم الله عليك ، فقال : يا شقيق لم تزل نعم الله علينا ظاهرة وباطنة فأحسن ظنك بربك ، ثم ناولني الركوة فشربت منها فإذا هو سويق وسكر ، ما شربت والله ألذ منه ولا أطيب منه ريحا فشبعت ورويت . وأقمت أياما لا أشتهي طعاما ولا شرابا ، ثم لم أره حتى دخلت مكة ، فرأيته ليلة إلى جانب قبة الميزاب نصف الليل يصلِّي بخشوع وأنين وبكاء ، فلم يزل كذلك حتى ذهب الليل ، فلما طلع الفجر جلس في مصلاه يسبح ، ثم قام إلى صلاة الفجر ، وطاف بالبيت أسبوعا ، وخرج فتبعته ، فإذا له حاشية وأموال وغلمان، وهو على خلاف ما رأيته في الطريق ، ودار به الناس يسلِّمون عليه ويتبركون به ، فقلت لهم : من هذا ؟ قالوا موسى بن جعفر ، فقلت : قد عجبت أن تكون هذه العجائب إلا لمثل هذا السيد . هذا رواه الحنبلي .
وعلى يده تاب بشر الحافي لأنه عليه السلام اجتاز على داره ببغداد ، فسمع الملاهي وأصوات الغناء والقصب يخرج من تلك الدار ، فخرجت جارية وبيدها قمامة البقل ، فرمت بها في الدرب ، فقال لها : يا جارية ، صاحب هذا الدار حرٌّ أم عبد ؟ فقالت : بل حر ، فقال : صدقت لو كان عبدا لخاف من مولاه . فلما دخلت الجارية قال مولاها وهو على مائدة السكر : ما أبطأك علينا ؟ قالت : حدثني رجل بكذا وكذا ، فخرج حافيا حتى لقى مولانا موسى بن جعفر فتاب على يده .
والجواب عنه من وجوه : أحدها : أن يقال : لا نسلم أن الإمامية أخذوا مذهبهم عن أهل البيت : لا الاثنا عشرية ولا غيرهم ، بل هم مخالفون لعليّ وأئمة أهل البيت في جميع أصولهم التي فارقوا فيها أهل السنة والجماعة : توحيدهم ، وعدلهم ، وإمامتهم ، فإن الثابت عن علي و أئمة أهل البيت من إثبات الصفات لله ، وإثبات القدر ، وإثبات خلافة الخلفاء الثلاثة ، وإثبات فضيلة أبي بكر وعمرما ، وغير ذلك من المسائل كله يناقض مذهب الرافضة.
والنقل بذلك ثابت مستفيض في كتب أهل العلم ، بحيث إن معرفة المنقول في هذا الباب عن أئمة أهل البيت يوجب علما ضروريا بأن الرافضة مخالفون لهم لا موافقون لهم .
الثاني : أن يقال : قد عُلم أن الشيعة مختلفون اختلافا كثيرا في مسائل الإمامة والصفات والقدر ، وغير ذلك من مسائل أصول دينهم . فأي قول لهم والمأخوذ عن الأئمة المعصومين ، حتى مسائل الإمامة ، قد عُرف اضطرابهم فيها .
وقد تقدم بعض اختلافهم في النص وفي المنتظر فهم في الباقي المنتظر على أقوال : منهم من يقول ببقاء جعفر بن محمد ، ومنهم من يقول ببقاء ابنه موسى بن جعفر ، ومنهم من يقول ببقاء محمد بن عبد الله بن حسن، ومنهم من يقول ببقاء محمد بن الحنفية ، وهؤلاء يقولون : نص عليٌّ على الحسن والحسين ، وهؤلاء يقولون على محمد بن الحنفية ، وهؤلاء يقولون : أوصى عليٌّ بن الحسين إلى ابنه أبي جعفر ، وهؤلاء يقولون : إلى ابنه عبد الله ، وهؤلاء يقولون : أوصى إلى محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين ، وهؤلاء يقولون : إن جعفر أوصى إلى ابنه إسماعيل ، وهؤلاء يقولون : إلى ابنه محمد بن إسماعيل ، وهؤلاء يقولون : إلى ابنه محمد ، وهؤلاء يقولون : إلى ابنه عبد الله ، وهؤلاء يقولون : إلى ابنه موسى ، وهؤلاء يسوقون النص إلى محمد بن الحسن ، وهؤلاء يسوقون النص إلى بني عبيد الله بن ميمون القدّاح الحاكم وشيعته ، وهؤلاء يسوقون النص من بني هاشم إلى بني العباس، ويمتنع ان تكون هذه الأقوال المتناقضة مأخوذة عن معصوم ، فبطل قولهم : إن أقوالهم مأخوذة عن معصوم .
الوجه الثالث : أن يُقال : هب أن عليّاً كان معصوما ، فإذا كان الاختلاف بين الشيعة هذا الاختلاف ، وهم متنازعون هذا التنازع ، فمن أين يُعلم صحة بعض هذه الأقوال عن عليّ دون الآخر ، وكل منهم يدَّعي أن ما يقوله إنما أخذه عن المعصومين ؟ وليس للشيعة أسانيد أهل السنة حتى يُنظر في الإسناد وعدالة الرجال . بل إنما هي منقولات منقطعة عن طائفة عُرف فيها كثرة الكذب وكثرة التناقض في النقل فهل يثق عاقل بذلك ؟
وإن ادعوا تواتر نصّ هذا على هذا ، ونصّ هذا على هذا كان هذا معارضاً بدعوى غيرهم مثل هذا التواتر ، فإن سائر القائلين بالنص إذا ادعوا مثل هذه الدعوى لم يكن بين الدعويين فرق .
فهذه الوجوه وغيرها تبين أن بتقدير ثبوت عصمة عليّ فمذهبهم ليس مأخوذا عنه ، فنفس دعواهم العصمة في عليّ مثل دعوى النصارى الإلهية في المسيح . مع أن ما هم عليه ليس مأخوذا عن المسيح .
الوجه الرابع : أنهم في مذهبهم محتاجون إلى مقدمتين : إحداهما : عصمة من يضيفون المذهب إليه من الأئمة ، والثانية ثبوت ذلك النقل عن الإمام . وكلتا المقدمتين باطلة ، فإن المسيح ليس بإله ، بل هو رسول كريم ، وبتقدير ان يكون إلها أو رسولا كريما فقوله حق ، لكن ما تقوله النصارى ليس من قوله ، ولهذا كان في علي ِّ شبه من المسيح : قوم غلوا فيه فوق قدره ، وقوم نقصوه دون قدره فهم كاليهود ، هؤلاء يقولون عن المسيح : إنه إله . وهؤلاء يقولون : كافر ولد بغيِّة . وكذلك عليّ : هؤلاء يقولون : إنه إله، وهؤلاء يقولون : إنه كافر ظالم .
الوجه الخامس : أن يقال: قد ثبت لعليّ بن أبي طالب، والحسن ، والحسين ، وعلي بن الحسين ، وابنه محمد ، وجعفر بن محمد من المناقب والفضائل ما لم يذكره هذا المصنف الرافضي.وذكر أشياء من الكذب تدل على جهل ناقلها ، مثل قوله : نزل في حقهم : هلْ أَتَى فإن سورة هَل أَتىَ مكّية باتفاق العلماء ، وعليّ إنما تزوج فاطمة بالمدينة بعد الهجرة ، ولم يدخل بها إلا بعد غزوة بدر ، ووُلد له الحسن في السنة الثالثة من الهجرة ، والحسين في السنة الرابعة من الهجرة بعد نزول : هل أتى بسنين كثيرة .
فقول القائل : إنها نزلت فيهم ، من الكذب الذي لا يخفى على من له علم بنزول القرآن وعلم بأحوال هؤلاء السادة الأخيار .
وأما آية الطهارة فليس فيها إخبار بطهارة أهل البيت وذهاب الرجس عنهم ، وإنما فيها الأمر لهم بما يوجب طهارتهم وذهاب الرجس عنهم . فإن قوله إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا( ) كقوله تعالى : َما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُم( ) وقوله: ُيرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُم وَيَهْدِيَكُم سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُم وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيم . وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا . يُريدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُم وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا ( ) .
فالإرادة هنا متضمنة للأمر والمحبة والرضا ، وليست هي المشيئة المستلزمة لوقوع المراد ؛ فإنه لو كان كذلك لكان قد طهَّر كل من أراد الله طهارته . وهذا على قول هؤلاء القدرية الشيعة أوجه ، فإن عندهم أن الله يريد ما لا يكون ، ويكون ما لا يريد .
فقوله : إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجزَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً إذا كان هذا بفعل المأمور وترك المحظور ، كان ذلك متعلقا بإرادتهم وأفعالهم ، فإن فعلوا ما أُمروا به طُهِّروا وإلا فلا .
وهم يقولون :إن الله لا يخلق أفعالهم ، ولا يقدر على تطهيرهم وإذهاب الرجز عنهم . وأما المثبتون للقدر فيقولون : إن الله قادر على ذلك ، فإذا ألهمهم فعل ما أَمَرَ وترك ما حَظَر حصلت الطهارة وذهاب الرجس .
ومما يبين أن هذا مما أُمروا به لا مما أُخبروا بوقوعه ، ما ثبت في الصحيح أن النبي أدار الكساء على عليّ وفاطمة وحسن وحسين ، ثم قال : (( اللهم هؤلاء أهل بيتي ،فأذهب عنهم الجس وطهِّرهم تطهيرا )). وهذا الحديث رواه مسلم في صحيحه عن عائشة ، ورواه أهل السنن عن أم سلمة ( ) .
وهو يدل على ضد قول الرافضة من وجهين : أحدهما : أنه دعا لهم بذلك ،وهذا دليل على أن الآية لم تخبر بوقوع ذلك ، فإنه لو كان قد وقع لكان يثنى على الله بوقوعه ويشطره على ذلك ، لا يقتصر على مجرد الدعاء به .
الثاني : أن هذا يدل على أن الله قادر على إذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم ، وذلك يدل على أنه خالق أفعال العباد . ومما يبين ان الآية متضمنة للأمر والنهي قوله في سياق الكلام : َيا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْن وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا . وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ ِللهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا . يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا .وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا . وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ( ) .
وهذا السياق يدل على ان ذلك أمر ونهي ، ويدل على أن أزواج النبي من أهل بيته ، فإن السياق إنما هو في مخاطبتهن ، و يدل على أن قوله :
لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ عمّ غير أزواجه ، كعلي وفاطمة وحسن وحسين رضى الله عنهم لانه ذكره بصيغة التذكير لما اجتمع المذكر والمؤنث، وهؤلاء خُصُّوا بكونهم من أهل البيت بالأولى من أزواجه ، فلهذا خصَّهم بالدعاء لما أدخلهم في الكساء ، كما أن مسجد قُباء أسس على التقوى ، ومسجده أيضا أسس على التقوى وهو أكمل في ذلك ، فلما نزل قوله تعالى: َلمسجدٌ أُسّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيه رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِرِين ( ) بسبب مسجد قباء ، تناول اللفظ لمسجد قباء ولمسجده بطريق الأولى .
وكذلك قوله في إيجاب المودة لهم غلط . فقد ثبت في الصحيح عن سعيد بن جبير أن ابن عباس رضى الله عنهما سئل عن قوله تعالى :ُقلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ( ) قال: فقلت : إلا أن تودّوا ذوى قربى محمد . فقال ابن عباس : عَجلتَ ، إنه لم يكن بطن من قريش إلا لرسول الله منهم قرابة . فقال : قل لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوني في القرابة التي بيني وبينكم .
فابن عباس كان من كبار أهل البيت وأعلمهم بتفسير القرآن ، وهذا تفسيره الثابت عنه . ويدل على ذلك أنه لم يقل : إلا المودة لذوى القربى . و لكن قال : إلا المودة في القربى . ألا ترى أنه لما أراد ذوى قرباه قال :
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى( ) ، ولا يُقال : المودة في ذوى القربى . وإنما يقال : المودة لذوى القربى . فكيف وقد قال قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ؟!
ويبين ذلك ان الرسول لا يسال أجراً أصلاً إنما أجره على الله ، وعلى المسلمين موالاة أهل البيت لكن بأدلة أخرى غير هذه الآية ، وليست موالاتنا أهل البيت من أجر النبي في شيء.
وأيضاً فإن هذه الآية مكية ، ولم يكن عليٌّ قد تزوج بفاطمة ولا وُلد له أولاد .
وأما آية الابتهال ففي الصحيح أنها لما نزلت أخذ النبي بيد عليٍّ وفاطمة وحسن وحسين ليباهل بهم( )، لكن خصّهم بذلك لأنهم كانوا أقرب إليه من غيرهم ، فإنه لم يكن له ولد ذكر إذ ذاك يمشي معه .ولكن كان يقول عن الحسن:(( إن ابني هذا سيد )) فهما ابناه ونساؤه إذ لم يكن قد بقي له بنت إلا فاطمةا، فإن المباهلة كانت لما قدم وفد نجران ،وهم نصارى ، وذلك كان بعد فتح مكة ، بل كان سنة تسع ، فهذه الآية تدل على كمال اتّصالهم برسول الله ، كما دل على ذلك حديث الكساء ، ولكن هذا لا يقتضي أن يكون الواحد منهم أفضل من سائر المؤمنين ولا أعلم منهم ، لأن الفضيلة بكمال الإيمان والتقوى لا بقرب النسب .
كما قال تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُم ( ) وقد ثبت ان الصديق كان أتقى الأمة بالكتاب والسنة ، وتواترعن النبي أنه قال:(( لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ))( ) ، وهذا بسوط في موضعه .
وأما ما نقله عن عليّ أنه كان يصلّي كل يوم وليلة ألف ركعة ، فهذا يدل على جهله بالفضيلة وجهله بالواقع . أما أوّلا فلأن هذا ليس بفضيلة ، فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي أنه كان لا يزيد في الليل على ثلاث عشرة ركعة( ). وثبت عنه في الصحيح أنه قال : (( أفضل القيام قيام داود ، كان ينام نصف الليل ، ويقوم ثلثه ، وينام سدسه))( ).
وأيضا فقوله : إن علي بن أي طالب كان أفضل الخلق بعد رسول الله دعوى مجردة ، ينازعه فيها جمهور المسلمين من الأوّلين والآخرين .
وقوله: جعله الله نفس رسول الله حيث قال : وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ وواخاه .
فيقال : أما حديث المؤاخاه فباطل موضوع ، فإن النبي لم يؤاخ أحدا ، ولا آخى بين المهاجرين بعضهم مع بعض ،ولا بين الأنصار بعضهم مع بعض ، ولكن آخى بين المهاجرين والأنصار ، كما آخى بين سعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف ، وآخى بين سلمان الفارسي وأبي الدرداء ، كما ثبت ذلك في الصحيح . وأما قوله: وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ فهذا مثل قوله : َ لوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِم خَيْرًا ( )
نزلت في قصة عائشةا في الإفك ، فإن الواحد من المؤمنين من أنفس المؤمنين والمؤمنات .
وأما تزويجه فاطمة ففضيلة لعليّ ، كما أن تزويجه عثمان بابنتيه فضيلة لعثمان أيضا ، ولذلك سُمِّي ذو النورين . وكذلك تزوجه بنت أبي بكر وبنت عمر فضيلة لهما ، فالخلفاء الأربعة أصهاره ورضي الله عنهم .
وأما قوله : (( وظهرت منه معجزات كثيرة )) فكأنه يسمّى كرامات الأولياء معجزات ، وهذا إصلاح لكثير من الناس . فيقال : عليّ أفضل من كثير ممن له كرامات ، والكرامات متواترة عن كثير من عوام أهل السنة الذين يفضلون أبا بكر وعمر على عليّ ، فكيف لا تكون الكرامات ثابتة لعليّ ؟ وليس في مجرد الكرامات ما يدل على أنه أفضل من غيره .
وأما قوله : ((حتى ادّعى قوم فيه الربوبية و قتلهم )) .
فهذه مقالة جاهل في غاية الجهل لوجوه : أحدها : أن معجزات النبي أعظم بكثير وما ادّعى فيه أحد من الصحابة الإلهية .
الثاني : أن معجزات الخليل وموسى أعظم بكثير وما ادّعى أحد فيهما الإلهية .
الثالث : إن معجزات نبينا ومعجزات موسى أعظم من معجزات المسيح ، وما ادُّعيت فيهما الإلهية كما ادعيت في المسيح .
الرابع : أن المسيح ادعيت فيه الإلهية أعظم مما ادعيت في محمد وإبراهيم وموسى ، ولم يدل ذلك لا على أنه أفضل منهم ولا على أن معجزاته أبهر .
الخامس : أن دعوى الإلهية فيهما دعوى باطلة تقابلها دعوى باطلة ، وهي دعوى اليهود في المسيح ، ودعوى الخوارج في عليّ ؛ فإن الخوارج كفَّروا عليّاً ، فإن جاز أن يُقال : إنما ادّعيت فيه الإلهية لقوة الشبهة . وجاز أن يقال ، إنما ادّعى فيه الكفر لقوة الشبهة ، وجاز أن يقال ، صدرت منه ذنوب اقتضت أن يكفّره بها الخوارج .
والخوارج أكثر وأعقل وأدين من الذين ادّعوا فيه الإلهية ، فإن جاز الاحتجاج بمثل هذا ، وجُعلت هذه الدعوى منقبة ، كان دعوى المبغضين له ودعوى الخوارج مثلبة أقوى وأقوى ، وأين الخوارج من الرافضة الغالية ؟!
فالخوارج من أعظم الناس صلاة وصياما وقراءة للقرآن ، ولهم جيوش وعساكر ، وهم متدينون بدين الإسلام باطناً و ظاهراً . والغالية المدّعون للإلهية إما أن يكونوا من أجهل الناس ، وإما أن يكونوا من أكفر الناس ، والغالية كفّار بإجماع العلماء ، وأما الخوارج فلا يكفّرهم إلا من يكفّر الإمامية ، وعلي لم يكن يكفّرهم ، ولا أمر بقتل الواحد المقدور عليه منهم، كما أمر بتحريق الغالية ، بل لم يقاتلهم حتى قتلوا عبد الله بن خبّاب وأغاروا على سرح الناس .
فثبت بالإجماع من عليّ ومن سائر الصحابة والعلماء أن الخوارج خير من الغالية ، فإن جاز لشيعته أن تجعل دعوى الغالية الإلهية فيه حجة على فضيلته كان لشيعة عثمان ان يجعلوا دعوى الخوارج لكفره حجة على نقيضه بطريق الأوْلى ، فعلم أن هذه الحجة إنما يحتج بها جاهل ، ثم أنها تعود عليه لا له ، ولهذا كان الناس يعلمون أن الرافضة أجهل وأكذب من الناصبة .
وأما قوله : (( وكان ولده سبطا رسول الله سيدا شباب أهل الجنة إمامين بنص النبي )) .
فيقال : الذي ثبت بلا شك عن النبي في الصحيح أنه قال عن الحسن : (( إن ابني هذا سيد ، وإن الله سيصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ))( ) . وثبت عنه في الصحيح أنه كان يقعده وأسامة بن زيد على فخذه ويقول : (( اللهم إني أحبهما فأحبهما وأحب من يحبهما ))( )
وهذا يدل على أن ما فعله الحسن من ترك القتال على الإمامة ، وقصد الإصلاح بين المسلمين كان محبوبا يحبه الله ورسوله ولم يكن ذلك معصية ، بل كان ذلك أحب إلى الله ورسوله من اقتتال المسلمين ، ولهذا أحبه وأحب أسامة بن زيد ودعا لهما ، فإن كلاهما كان يكره القتال في الفتنة ،فأما أسامة فلم يقاتل لا مع علي ولا مع معاوية ، والحسن كان دائماً يشير على عليّ بترك القتال، وهذا نقيض ما عليه الرافضة من أن ذلك الصلح كان مصيبة وكان ذلا ، ولو كان هناك إمام معصوم يجب على كل أحد طاعته ، ومن تولّى غيره كانت ولايته باطلة لا يجوز أن يجاهد معه ولا يصلي خلفه ، لكان ذلك الصلح من أعظم المصائب على أمة محمد وفيه فساد دينها ، فأي فضيلة كانت تكون للحسن بذلك حتى يُثنى عليه به ؟ وإنما غايته أن يُعذر لضعفه عن القتال الواجب والنبي جعل الحسن في الصلح سيدا محمودا ، ولم يجعله عاجزا معذوراً ، ولم يكن الحسن أعجز عن القتال من الحسين بل كان أقدر على القتال من الحسين ، والحسين قاتل حتى قُتل ، فإن كان ما فعله الحسين هو الأفضل الواجب ، كان ما فعله الحسن تركا للواجب أو عجزا عنه ، وإن كان ما فعله الحسن هو الأفضل الأصلح ، دل على أن ترك القتال هو الأفضل الأصلح ، وأن الذي فعله الحسن أحب إلى الله ورسوله مما فعله غيره ، والله يرفع درجات المؤمنين المتقين بعضهم على بعض ، وكلهم في الجنة ، رضى الله عنهم أجمعين .
ثم إن كان النبي جعلهما إمامين لم يكونا قد استفادا الإمامة بنصّ عليّ ، ولاستفادها الحسين بنص الحسن عليه ، ولا ريب أن الحسن والحسين ريحانتا النبي في الدنيا . وقد ثبت أنه أدخلهما مع أبويهما تحت الكساء ، وقال: (( اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهِّرهم تطهيرا )) وأنه دعالهما في المباهلة ، وفضائلهما كثيرة ، وهما من أجلاء سادات المؤمنين . وأما كونهما أزهد الناس وأعلمهم في زمانهم فهذا قول بلا دليل .
وأما قوله : (( وجاهدا في الله حق جهاده حتى قتلا )).
فهذا كذب عليهما ، فإن الحسن تخلّى عن الأمر وسلَّمه إلى معاوية ومعه جيوش العراق ، وما كان يختار قتال المسلمين قط ، وهذا متواتر من سيرته .
وأما موته ، فقد قيل : إنه مات مسموما ، وهذه شهادة له وكرامة في حقّه ، لكن لم يمت مقاتلا .
والحسين ما خرج يريد القتال ، ولكن ظن أن الناس يطيعونه ، فلما رأى انصرافهم عنه ، طلب الرجوع إلى وطنه أو الذهاب إلى الثغر ، أو إتيان يزيد ، فلم يمكّنه أولئك الظلمة لا من هذا ولا من هذا ، وطلبوا أن يأخذوه أسيرا إلى يزيد ، فامتنع من ذلك وقاتل حتى قُتل مظلومًا شهيداً ، لم يكن قصده ابتداءً أن يُقاتل .
وأما قوله عن الحسن : إنه لبس الصوف تحت ثيابه الفاخرة .
فهذا من جنس قوله في علي : إنه كان يصلي ألف ركعة ، فإن هذا لا فضيلة فيه ، وهو كذب . وذلك أن لبس الصوف تحت ثياب القطن وغيره لو كان فاضلا لكان النبي شرعه لأمته ، إما بقوله أو بفعله ، أو كان يفعله أصحابه على عهده ، فلما لم يفعله هو ولا أحد من أصحابه على عهده ، ولا رغب فيه ، دل على أنه لا فضيلة فيه ، ولكن النبي لبس في السفر جبة صوف فوق ثيابه .
وأما الحديث الذي رواه أن النبي أخذ يوماً الحسين على فخذه الأيمن وولده إبراهيم على فخذه الأيسر ، فنزل جبريل وقال: إن الله تعالى لم يكن ليجمع لك بينهما فاختر من شئت منهما . فقال النبي : (( إذا مات الحسن بكيت أنا وعلي وفاطمة ، وإذا مات إبراهيم بكيت أنا عليه )) فاختار موت إبراهيم ، فمات بعد ثلاثة أيام . وكان إذا جاء الحسين بعد ذلك يقبّله ويقول : أهلاً ومرحباً بمن فديته بابني إبراهيم )) .
فيقال : هذا الحديث لم يروه أحد من أهل العلم ، ولا يُعرف له إسنادا ولا يُعرف في شيء من كتب الحديث . وهذا الناقل لم يذكر له إسنادا ، ولا عزاه إلى كتاب حديث ، ولكن ذكره على عادته في روايته أحاديث مسيَّبة بلا زمام ولا خطام .
ومن المعلوم أن المنقولات لا يُميّز بين صدقها وكذبها إلا بالطرق الدالة على ذلك ، وإلا فدعوى النقل المجرد بمنزلة سائر الدعاوى .
ثم يقال: هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث ، وهو من أحاديث الجهَّال ، فإن الله تعالى ليس في جمعه بين إبراهيم والحسين أعظم مما في جمعه بين الحسن والحسين على مقتضى الحديث ، فإن موت الحسن أو الحسين إذا كان أعظم من موت إبراهيم ، فبقاء الحسن أعظم من بقاء إبراهيم، وقد بقى الحسن مع الحسين .
(فصــــل)
أما عليّ بن الحسين فمن كبار التابعين وساداتهم علما ودينا .
قال يحيى بن سعيد : (( هو أفضل هاشمي رأيته في المدينة )) . وقال محمد بن سعد في (( الطبقات ))(( كان ثقة مأمونا كثير الحديث عاليا رفيعا)). وروى عن حمَّاد بن زيد عن يحيى بن سعيد الأنصاري قال : (( سمعت عليًّ بن الحسين ، وكان أفضل هاشمي أدركته ، يقول : يا أيها الناس أحبونا حب الإسلام ، فما برح بنا حبكم حتى صار عاراً علينا )) .
وأما ما ذكره من قيام ألف ركعة ، فقد تقدّم أن هذا لا يمكن إلا على وجه يكره في الشريعة ، أو لا يمكن بحال ، فلا يصلح ذكر مثل هذا في المناقب . وكذلك ما ذَكَرَه من تسمية رسول الله صلى لله عليه وسلم له سيد العابدين هو شيء لا أصل له ، ولم يروه أحد من أهل العلم والدين .
وكذلك أبو جعفر محمد بن عليّ من خيار أهل العلم والدين . وقيل إنما سمى الباقر لأنه بَقَرَ العلم ، لا لأجل بقر السجود جبهته . وأما كونه أعلم أهل زمانه فهذا يحتاج إلى دليل ، والزهري من أقرانه ، وهو عند الناس أعلم منه، ونَقْلُ تسميته بالباقر عن النبي لا أصل له عند أهل العلم ، بل هو من الأحاديث الموضوعة . وكذلك حديث تبليغ جابر له السلام هو من الموضوعات عند أهل العلم بالحديث .
وجعفر الصادق من خيار أهل العلم والدين .وقال عمرو بن أبي المقدام :(( كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد علمت أنه من سلالة النبيين)).
وأما قوله (( اشتغل بالعبادة عن الرياسة )) .
وهذا تناقض من الإمامية ، لأن الإمامة عندهم واجب عليه أن يقوم بها وبأعبائها ، فإنه لا إمام في وقته إلا هو ، فالقيام بهذا الأمر العظيم لو كان واجبا لكان أوْلى من الاشتغال بنوافل العبادات .
وأما قوله : إنه : (( هو الذي نشر فقه الإمامية ، والمعارف الحقيقية، والعقائد اليقينية )).
فهذا الكلام يستلزم أحد أمرين : إما أنه ابتدع في العلم ما لم يكن يعلمه من قبله .وإما أن يكون الذين قبله قصّروا فيما يجب عليهم من نشر العلم . وهل يشك عاقل أن النبي بيَّن لأمته المعارف الحقيقية والعقائد اليقينية أكمل بيان ؟ وأن أصحابه تلقّوا ذلك عنه وبلَّغوه إلى المسلمين؟
وهذا يقتضي القدح : إما فيه ، وإما فيهم . بل كُذِب على جعفر الصادق أكثر مما كُذِب على من قبله ، فالآفة وقعت من الكذَّابين عليه لا منه . ولهذا نُسب إليه أنواع من الأكاذيب ، مثل كتاب ((البطاقة )) و((الجَفْر)) و ((الهَفْت )) والكلام في النجوم .
(فصـــل)
وأما من بعد جعفر فموسى بن جعفر ، قال فيه أبو حاتم الرازي :
(( ثقة صدوق إمام من أئمة المسلمين )). قلت : موسى ولد بالمدينة سنة بضع وعشرين ومائة ،وأقدمه المهدي إلى بغداد ثم رده إلى المدينة ، وأقام بها إلى أيام الرشيد ، فقدم هارون منصرفا من عُمْرةٍ ، فحمل موسى معه إلى بغداد ، وحبسه بها إلى أن تُوفي في محبسه .
وأما من بعد موسى فلم يؤخذ عنهم من العلم ما يذكر به أخبارهم في كتب المشهورين بالعلم وتواريخهم ، ولا هم في التفسير وغيره أقوال معروفة، ولكن لهم من الفضائل والمحاسن ما هم له أهل ،م أجمعين ، وموسى بن جعفر مشهور بالعبادة والنسك .
وأما الحكاية المذكورة عن شقسق البلخى فكذب ، فإن هذه الحكاية تخالف المعروف من حال موسى بن جعفر .
أما قوله : (( تاب على يديه بشر الحافي )) فمن أكاذيب من لا يعرف حاله ولا حال بشر ، فإن موسى بن جعفر لما قدم به الرشيد إلى العراق حبسه ، فلم يكن ممن يجتاز على دار بشر وأمثاله من العامة .
(فصـــل)
قال الرافضي: (( وكان ولده عليّ الرضا أزهد أهل زمانه وكان أعلمهم وأخذ عنه فقهاء الجمهور كثيرا ، وولاّه المأمون لعلمه بما هو عليه من الكمال والفضل . ووعظ يوما أخاه زيداً ، فقال : يا زيد ما أنت قائل لرسول الله إذا سَفَكْتَ الدماء ، وأخذت الأموال من غير حلها وأخفت السبل ، وغرّك حمقى أهل الكوفة؟ وقد قال رسول الله : إن فاطمة أحصنت فرجها ، فحرم الله ذريتها على النار وفي رواية : إن عليا قال : يا رسول الله لم سميت فاطمة ؟ قال : لأن الله فطمها وذريتها من النار ، فلا يكون الإحصان سببا لتحريم ذريتها على النار وأنت تظلم . والله ما نالوا ذلك إلا بطاعة لله ، فإن أردت أن تنال بمعصية الله ما نالوا بطاعته ، إنك إذاً لأكرم على الله منهم .
وضرب المأمون اسمه على الدراهم والدنانير ، وكتب إلى أهل الآفاق ببيعته ، وطرح السواد ولبس الخضرة )) .
فيقال : من المصائب التي ابتُلي بها ولد الحسين انتساب الرافضة إليهم و تعظيمهم ومدحهم لهم ، فإنهم يُمدحون بما ليس بمدح ، ويدّعون لهم دعاوى لا حجة لها ، ويذكرون من الكلام ما لو لم يُعرف فضلهم من غير كلام الرافضة ، لكان ما تذكره الرافضة بالقدح أشبه منه في المدح ، فإن علي بن موسى له من المحاسن والمكارم المعروفة، والممادح المناسبة لحاله اللائقة به ، ما يعرفه بها أهل المعرفة . وأما هذا الرافضي فلم يذكر له فضيلة واحدة بحجة .
وأما قوله : (( إن كان أزهد الناس وأعلمهم )) فدعوى مجردة بلا دليل ، فكل من غلا في شخص أمكنه أن يدّعى له هذه الدعوى . كيف والناس يعلمون أنه كان في زمانه من هو أعلم منه ، ومن هو أزهد منه ، كالشافعي وإسحاق بن راهوية وأحمد بن حنبل وأشهب بن عبد العزيز ، وأبي سليمان الداراني ، ومعروف الكرخي ،وأمثال هؤلاء .
وأما قوله : (( إنه أخذ عن فقهاء الجمهور كثيراً )) فهذا من أظهر الكذب . هؤلاء فقهاء الجمهور المشهورين لم يأخذوا عنه ما هو معروف ، وإن أخذ عنه بعض من لا يُعرف من فقهاء الجمهور فهذا لا يُنكر ، فإن طلبة الفقهاء قد يأخذون من المتوسطين في العلم ، ومن هم دون المتوسطين .
وما ذكره بعض الناس من أن معروفا الكرخي كان خادماًله ، وأنه أسلم على يديه ، أو أن الخرقة متصلة منه إليه ، فكله كذب باتفاق من يعرف هذا الشأن .
والحديث الذي ذكره عن النبي عن فاطمة هو كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث ، ويظهر كذبه لغير أهل الحديث أيضا ؛ فإن قوله : (( إن فاطمة أحصنت فرجها فحرَّم الله ذريتها على النار )) يقتضي أن إحصان فرجها هو السبب لتحريم ذريتها على النار وهذا باطل قطعا ، فإن سارَّة أحصنت فرجها ، ولم يحرِّم الله جميع ذريتها على النار .
وأيضا فتسمية جبريل رسول الله إلى محمد خادماً له عبارة من لا يعرف قدر الملائكة ، وقدر إرسال الله لهم إلى الأنبياء .و لكن الرافضة غالب حججهم أشعار تليق بجهلهم وظلمهم ، وحكايات مكذوبة تليق بجهلهم وكذبهم ، وما يُثْبِت أصول الدين بمثل هذه الأشعار ، إلا ليس معدوداً من أولي الأبصار.
(فصـــل)
قال الرافضي : (( وكان ولده محمد بن علي الجواد على منهاج أبيه في العلم والتقى والجود ، ولما مات أبوه الرضا شغف بحبه المأمون لكثرة علمه ودينه ووفور عقله مع صغر سنه ،وأراد أن يزوِّجه ابنته أم الفضل ، وكان قد زوَّج أباه الرضا عليه السلام بابنته أم حبيب ، فغلظ ذلك على العباسيين واستنكروه وخافوا أن يخرج الأمر منهم ، وأن يبايعه كما بايع أباه ، فاجتمع الأدنون منهم وسألوه ترك ذلك ، وقالوا : إنه صغير السن لا علم عنده، فقال : أنا أعرف منكم به ، فإن شئتم فامتحنوه ، فرضوا بذلك ، وجعلوا للقاضي يحيى بن أكثم مالاً كثيرا على امتحانه في مسألة يعجزه فيها ، فتواعدوا إلى يوم ، وأحضره المأمون وحضر القاضي وجماعة العباسيين ، فقال القاضي : أسألك عن شيء ؟ فقال عليه السلام سل فقال: ما تقول في مُحْرِم قتل صيدا؟ فقال له عليه السلام قتله في حل أو حرم ، عالما كان أو جاهلا ، مبتدئا بقتله أو عائذا ، من صغار الصيد كان أم من كبارها ، عبدا كان المُحرم أو حرًّا ، صغيرا كان أو كبيرا ، من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها ؟ فتحير يحيى بن أكثم ، وبان العجز في وجهه ، حتى عرف جماعة أهل المجلس أمره ، فقال المأمون لأهل بيته : عرفتم الآن ما كنتم تنكرونه ، ثم أقبل الإمام فقال : أتخطب ؟ قال : نعم فقال : أخطب لنفسك خطبة النكاح ، فخطب وعقد على خمسمائة درهم جياداً كمهر جدته فاطمة عليها السلام ، ثم تزوج بها .
والجواب أن يقال : إن محمد بن عليّ الجواد كان من أعيان بني هاشم، وهو معروف بالسخاء والسؤدد . ولهذا سُمِّيَ الجواد ، ومات وهو شاب ابن خمس وعشرين سنة ، ولد سنة خمس وتسعين ومات سنة عشرين أو سنة تسع عشرة ، وكان المأمون زوَّجه بابنته ، وكان يرسل إليه في السنة ألف ألف درهم ، واستقدمه المعتصم إلى بغداد ، ومات بها .
وأما ما ذكره فإنه من نمط ما قبله ، فإن الرافضة ليس لهم عقل صريح ولا نقل صحيح ، ولا يقيمون حقا ،ولا يهدمون باطلا ، لا بحجة وبيان ، ولا بيد وسنان ، فإنه ليس فيما ذكره ما يثبت فضيلة محمد بن عليّ ، فضلا عن ثبوت إمامته ، فإن هذه الحكاية التي حكاها عن يحيى بن أكثم من الأكاذيب التي لا يفرح بها إلا الجهال ، ويحيى بن أكثم كان أفقه وأعلم وأفضل من أن يطلب تعجيز شخص بأن يسأله عن مُحْرِم قتل صيدا ، فإن صغار الفقهاء يعلمون حكم هذه المسألة ، فليست من دقائق العلم ولا غرائبه ،ولا مما يختص به المبرِّزون في العلم .
( فصـــل )
قال الرافضي :(( وكان ولده عليّ الهادي ، ويُقال له: العسكري ، لأن المتوكل أشخصه من المدينة إلى بغداد ، ثم منها إلى سُرَّ من رأى ، فأقام بموضع عندها يقال له العسكر، ثم انتقل إلى سُرَّ من رأى فأقام بها عشرين سنة وتسعة أشهر ، وإنما أشخصه المتوكل لأنه كان يبغض عليًّا ، فبلّغه مقام عليّ بالمدينة ، وميل الناس إليه ، فخاف منه ، فدعا يحيى بن هبيرة وأمره بإحضاره ، فضج أهل المدينة لذلك خوفا عليه ، لأنه كان محسنا إليهم ، ملازماً للعبادة في المسجد ، فحلف يحيى أنه لا مكروه عليه ، ثم فتَّش منزله فلم يجد فيه سوى مصاحف وأدعية وكتب العلم ، فعظم في عينه ، وتولى خدمته بنفسه ، فلما قدم بغداد بدأ بإسحاق بن إبراهيم الطائي وإلى بغداد. فقال له : يا يحيى هذا الرجل قد ولده رسول الله ، والمتوكل من تَعْلَم ، فإن حرضته عليه قتله ، وكان رسول الله خصمك يوم القيامة ، فقال له يحيى : والله ما وقعت منه إلا على خير . قال : فلما دخلت على المتوكل أخبرته بحسن سيرته وورعه وزهده فأكرمه المتوكل ، ثم مرض المتوكل فنذر إن عوفيَ تصدّق بدراهم كثيرة ، فسأل الفقهاء عن ذلك فلم يجد عندهم جوابا فبعث إلى عليّ الهادي ، فسأله فقال : تصدّق بثلاثة وثمانين درهما ، فسأله
المتوكل عن السبب، فقال: لقوله تعالى:َلقدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةً ( ) وكانت لمواطن هذه الجملة ، فإن النبي غزا سبعاً وعشرين غزاة ، وبعث ستا وخمسين سرية . قال المسعودي : نُمى إلى المتوكل بعليّ بن محمد أن في منزله سلاحا من شيعته من أهل قُم وأنه عازم على الملك ، فبعث إليه جماعة من الأتراك ، فهجموا داره ليلا فلم يجدوا فيها شيئا ، ووجدوه في بيت مغلق عليه وهو يقرأ وعليه مُدرعة من صوف ، وهو جالس على الرمل والحصى متوجها إلى الله تعالى يتلو القرآن ، فحُمل على حالته تلك إلى المتوكل ، وأُدخل عليه وهو في مجلس الشراب ، والكأس في يد المتوكل ، فعظَّمه وأجلسه إلى جانبه ، وناوله الكأس ، فقال : والله ما خامر لحمي ودمي قط فأعفني، فأعفاه وقال له: أسمعني صوتا، فقال:َكمْ تَرَكوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُوُن. الآيات( ) فقال: أنشدنى شعراً، فقال: إني قليل الرواية للشعر ، فقال لا بد من ذلك ، فأنشده :
باتوا على قلـل الأجبال تحرسهم غُلْبُ الرجــال فما أغنتهـم القُلَـلُ
واستُنزلوا بعد عـزٍمـن معاقلهم وأسكنوا حفـراً يا بئس ما نـزلـوا
ناداهُمُ صـارخ من بـعد دفنهم أيـن الأسـرَّة والتيـجان والحـلـل
أيـن الوجـوه التي كانت منعَّمة من دونـها تُضرب الأستار والكِلـلُ
فـأفصح القبر عنهُمْ حين ساءَلُهُمْ تلك الوجـوهُ عليهـا الـدود يقتتـل
قد طال ما أكلوا دهرا وما شربوا فأصبحوا بعد طول الأكـل قد أُكلـوا
فبكى المتوكل حتى بلت دموعه لحيته )) .
فيقال : هذا الكلام من جنس ما قبله ، لم يذكر منقبة بحجة صحيحة ، بل ذكر ما يعلم العلماء أنه من الباطل ، فإنه ذكر في الحكاية أن والي بغداد كان إسحاق بن إبراهيم الطائي ، وهذا من جهله، فإن إسحاق بن إبراهيم هذا خزاعي معروف هو وأهل بيته،كانوا من خزاعة،فإنه إسحاق بن إبراهيم بن الحسين بن مصعب ، ، وابن عمه عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب أمير خراسان المشهورالمعلومة سيرته ، وابن هذا محمد بن عبد الله بن طاهر كان نائبا على بغداد في خلافة المتوكل وغيره ، وهو الذي صلَّى على أحمد بن حنبل لما مات ، وإسحاق بن إبراهيم هذا كان نائبا لهم في إمارة المعتصم والواثق وبعض أيام المتوكل ،وهؤلاء كلهم من خزاعة ليسوا من طيئ وهم أهل بيت مشهورون .
وأما الفُتيا التي ذكرها من أن المتوكل نذر إن عُوفِيَ يتصدّق بدراهم كثيرة ، وأنه سأل الفقهاء عن ذلك فلم يجد عندهم جوابا ، وأن عليّ بن محمد أمره أن يتصدق بثلاثة وثمانين درهما ، لقوله تعالى : لقدْ نَصَرَكُمْ الله في مَواطِنَ كَثيرَةً ( ) ، وأن المواطن كانت هذه الجملة ، فإن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم غزا سبعاً وعشرين غزاة ، وبعث ستاً وخمسين سرية ، فهذه الحكاية أيضا تحكى عن عليّ بن موسى مع المأمون ، وهي دائرة بين أمرين: إما أن تكون كذبا ، وإما أن تكون جهلا ممن أفتى بذلك .
فإن قول القائل: له عليَّ دراهم كثيرة ، أو والله لأعطين فلانا دراهم كثيرة ، أو لأتصدقن بدراهم كثيرة ، لا يُحمل على ثلاث وثمانين عند أحد من علماء المسلمين .
والحجة المذكورة باطلة لوجــوه :
أحدها : أن قول القائل : إن المواطن كانت سبعا وعشرين غزاة وستا وخمسين سرية ، ليس بصحيح ، فإن النبي لم يغز سبعا وعشرين غزاة باتفاق أهل العلم بالسير، بل أقل من ذلك.
الثاني : أن هذه الآية نزلت يوم حنين ، والله قد أخبر بما كان قبل ذلك، فيجب أن يكون ما تقدَّم قبل ذلك مواطن كثيرة ، وكان بعد يوم حنين غزوة الطائف وغزوة تبوك ، وكثير من السرايا كانت بعد يوم حنين كالسرايا التي كانت بعد فتح مكة مثل إرسال جرير بن عبد الله إلى ذي الخلصة وأمثال ذلك.
وجرير إنما أسلم قبل موت النبي بنحو سنة ، وإذا كان كثير من الغزوات والسرايا كانت بعد نزول هذه الآية ، امتنع أن تكون هذه الآية المخبرة عن الماضي إخبارا بجميع المغازي والسرايا .
الثالث : أن الله لم ينصرهم في جميع المغازي ، بل يوم أحد تولوا ، وكان يوم بلاء وتمحيص . وكذلك يوم مؤتة وغيرها من السرايا لم يكونوا منصورين فيها ، فلو كان مجموع المغازي والسرايا ثلاثا وثمانين فإنهم لم ينصروا فيها كلها ، حتى يكون مجموع ما نصروا فيه ثلاثا وثمانين .
الرابع : أنه بتقدير أن يكون المراد بالكثير في الآية ثلاثا وثمانين ، فهذا لا يقتضي اختصاص هذا القدر بذلك ؛ فإن لفظ ((الكثير)) لفظ عام يتناول الألف والألفين والآلاف ، وإذا عمَّ أنواعا من المقادير ، فتخصيص بعض المقادير دون بعض تحكّم .
الخامس : أن الله تعالى قال: َمنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَة ( ) ، والله يضاعف الحسنة إلى سبعمائة ضعف بنص القرآن ، وقد ورد أنه يضاعفها ألفى ألف حسنة ، فقد سمَّى هذه الأضعاف كثيرة ، وهذه المواطن كثيرة .
وقد قال تعالى : َكمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِين ( ) والكثرة ههنا تتناول أنواعا من المقادير ، لأن الفئات المعلومة مع الكثرة لا تحصر في عدد معين ، وقد تكون الفئة القليلة ألفا والفئة الكثيرة ثلاثة آلاف ، فهي قليلة بالنسبة إلى كثرة عدد الأخرى .
( فصــــل)
قال الرافضي : (( وولده مولانا المهدي محمد عليه السلام .روى ابن الجوزى بإسناده إلى ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( يخرج في آخر الزمان رجل من ولدي ، اسمه كاسمي وكنيته كنيتي ، يملأ الأرض عدلا ، كما ملئت جورا ، فذلك هو المهدي )).
فيقال : قد ذكر محمد بن جرير الطبري وعبد الباقي بن قانع وغيرهما من أهل العلم بالأنساب والتواريخ : أن الحسن بن عليّ العسكري لم يكن له نسل ولا عقب . والإمامية الذين يزعمون أنه كان له ولد يدّعون أنه دخل السرداب بسامرّا وهو صغير ، منهم من قال : عمره سنتان ، ومنهم من قال: عمره ثلاث ، ومنهم من قال: خمس سنين وهذا لو كان موجودا معلوما ، لكن الواجب في حكم الله الثابت بنص القرآن والسنة والإجماع أن يكون محضونا عند من يحضنه في بدنه ، كأمه ،وأم أمه ، ونحوهما من أهل الحضانة ، وأن يكون ماله عند من يحفظه : أما وصى أبيه إن كان له وصى ، وإما غير الوصى : إما قريب ، وإما نائب لدى السلطان ، فإنه يتيم لموت أبيه .
والله تعالى يقول : وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُم رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِم أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا ( ) . فهذا لا يجوز تسليم ماله إليه حتى يبلغ النكاح ويؤنس منه الرشد ، كما ذكر الله تعالى ذلك في كتابه ، فكيف يكون من يستحق الحجر عليه في بدنه وماله إماما لجميع المسلمين معصوما ، لا يكون أحدا مؤمنا إلا بالإيمان به ؟!
ثم إن هذا باتفاق منهم : سواء قُدِّر وجوده أو عدمه ، لا ينتفعون به لا في دين ولا في دنيا ، ولا علَّمَ أَحداً شيئا ، ولا يعرف له صفة من صفات الخير ولا الشر ، فلم يحصل به شيء من مقاصد الإمامة ولا مصالحها ، لا الخاصة ولا العامة ، بل إن قدِّر وجوده فهو ضرر على أهل الأرض بلا نفع أصلا ، فإن المؤمنين به لم ينتفعوا به ، ولا حصل لهم به لطف ولا مصلحة، والمكذِّبون به يعذَّبون عندهم على تكذيبهم به ، فهو شر محض لا خير فيه ، وخلق مثل هذا ليس من فعل الحكيم العادل .
وإذا قالوا : إن الناس بسبب ظلمهم احتجب عنهم .
قيل: أولا : كان الظلم موجودا في زمن آبائه ولم يحتجبوا .
وقيل : ثانيا : فالمؤمنون به طبَّقوا الأرض فهلاَّ اجتمع بهم في بعض الأوقات أو أرسل إليهم رسولا يعلِّمهم شيئا من العلم والدين ؟!
وقيل : ثالثا : قد كان يمكنه أن يأوي إلى كثير من المواضع التي فيها شيعته ، كجبال الشام التي كان فيها الرافضة عاصية ، وغير ذلك من المواضع العاصية .
وقيل : رابعا : فإذا كان هو لا يمكنه أن يذكر شيئا من العلم والدين لأحد ، لأجل هذا الخوف ، لم يكن في وجوده لطف ولا مصلحة ، فكان هذا مناقضا لما أثبتوه .بخلاف من أرسل من الأنبياء وكُذِّب، فإنه بلَّغ الرسالة ، وحصل لمن آمن به من اللطف والمصلحة ما هو من نعم الله عليه . وهذا المنتَظَر لم يحصل به لطائفته إلا الانتظار لمن لا يأتي ، ودوام الحسرة والألم، ومعاداة العالم ، والدعاء الذي لا يستجيبه الله ، لأنهم يدعون له بالخروج والظهور من مدة أكثر من أربعمائة وخمسين سنة لم يحصل شيء من هذا . ثم إن عمر واحد من المسلمين هذه المدة أمر يعرف كذبه بالعادة المطَّردة في أمة محمد ، فلا يُعرف أحد وُلد في دين الإسلام وعاش مائة وعشرين سنة ، فضلا عن هذا العمر . وقد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال في آخر عمره : (( أرأيتكم ليلتكم هذه ، فإنه على رأس مائة سنة منها لا يبقى على وجه الأرض ممن هو اليوم عليها أحد ))( ) .
فمن كان في ذلك الوقت له سنة ونحوها لم يعش ؟أكثر من مائه سنة قطعا . وإذا كانت الأعمار في ذلك العصر لا تتجاوز هذا الحد ، فما بعده من الأعصار أوْلى بذلك في العادة الغالبة العامة ، فإن أعمار بني آدم في الغالب كلما تأخر الزمان قصرت ولم تطل ، فإن نوحا عليه السلام لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما ، وآدم عليه السلام عاش ألف سنة ، كما ثبت ذلك في حديث صحيح رواه الترمذي وصحَّحَه( ) ، فكان العمر في ذلك الزمان طويلا ، ثم أعمار هذه الأمة ما بين الستين إلى السبعين ، وأقلهم من يَجوز ذلك ، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح( ) .
واحتجاجهم بحياة الخضر احتجاج باطل ، فمن الذي يسلِّم لهم بقاء الخضر . والذي عليه سائر العلماء المحققون أنه مات ، وبتقدير بقائه فليس هو من هذه الأمة .
ولهذا يوجد كثير من الكذَّابين من الجن والإنس ممن يدَّعي أنه الخضر ويظن من رآه أنه الخضر ، وفي ذلك من الحكايات الصحيحة التي نعرفها ما يطول وصفها هنا .
وكذلك المنتظر محمد بن الحسن ، فإن عددا كثيرا من الناس يدَّعي كل واحد منهم أنه محمد بن الحسن ،منهم من يظهر ذلك لطائفة من الناس ، ومنهم من يكتم ذلك ولا يظهره إلا للواحد أو الاثنين ، وما من هؤلاء إلا من يَظْهَرُ كذبه كما يظهر كذب من يدَّعي أنه الخضر .
( فصـــــل )
وقوله : روى ابن الجوزي بإسناده إلى ابن عمر : قال : قال رسول الله : (( يخرج في آخر الزمان رجل من ولدي ، اسمه كاسمي، وكنيته كنيتي ، يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا،فذلك هو المهدي))
فيقال : الجواب من وجوه :
أحدها : إنكم لا تحتجون بأحاديث أهل السنة ، فمثل هذا الحديث لا يفيدكم فائدة . وإن قلتم : هو حجة على أهل السنة ، فنذكر كلامهم فيه .
الثاني :إن هذا من أخبار الآحاد ، فكيف يثبت به أصل الدين الذي لا يصح الإيمان إلا به ؟
الثالث :أن لفظ الحديث حجة عليكم لا لكم ، فإن لفظه : ((يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي )) فالمهدي الذي أخبر به النبي اسمه محمد بن عبد الله لا محمد بن الحسن . وقد رُوي عن عليّ أنه قال : هو من ولد الحسن بن عليّ ، لا من ولد الحسين بن عليّ .
وأحاديث المهدي معروفة ، رواها الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم ، كحديث عبد الله بن مسعود عن النبي أنه قال : (( لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطوَّل الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلا من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي ، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا ))( ) .
الرابع : أن الحديث الذي ذكره ، وقوله : (( اسمه كاسمي ، وكنيته كنيتي )) ولم يقل : (( يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي )) فلم يروه أحد من أهل العلم بالحديث في كتب الحديث المعروفة، بهذا اللفظ . فهذا الرافضي لم يذكر الحديث بلفظه المعروف في كتب الحديث ، مثل مسند أحمد ، وسنن أبي داود والترمذي ، وغير ذلك من الكتب . وإنما ذكره بلفظ مكذوب لم يروه أحد منهم .
وقوله : إن ابن الجوزي رواه بإسناده : إن أراد العالم المشهور صاحب المصنَّفات الكثيرة أبا الفرج ، فهو كذب عليه . وإن أراد سبطه يوسف بن قز أوغلى صاحب التاريخ المسمى (( بمرآة الزمان )) وصاحب الكتاب المصنَّف في ((الإثنى عشر ))الذي سمَّاه (( إعلام الخواص )) فهذا الرجل يذكر في مصنفاته أنواعا من الغثّ والسمين ، ويحتجّ في أغراضه بأحاديث كثيرة ضعيفة وموضوعة ، وكان يصنِّف بحسب مقاصد الناس : يصنِّف للشيعة ما يناسبهم ليعوِّضوه بذلك ، ويصنِّف على مذهب أبي حنيفة لبعض الملوك لينال بذلك أغراضه ، فكانت طريقته طريقة الواعظ الذي قيل له : ما مذهبك ؟ قال : في أي مدينة ؟
ولهذا يوجد في بعض كتبه ثلب الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم لأجل مداهنة من قصد بذلك من الشيعة ، ويوجد في بعضها تعظيم الخلفاء الراشدين وغيرهم .
( فصــــل)
قال الرافضي : (( فهؤلاء الأئمة الفضلاء المعصومون ، الذين بلغوا الغاية في الكمال ، ولم يتخذوا ما اتخذ غيرهم من الأئمة المشتغلين بالملك وأنواع المعاصي والملاهي ، وشرب الخمور والفجور ، حتى فعلوا بأقاربهم على ما هو المتواتر بين الناس . قالت الإمامية : فالله يحكم بيننا وبين هؤلاء ، وهو خير الحاكمين )).
قال : (( وما أحسن قول الشاعر:
إذا شئت أن ترضي لنفسك مذهبا وتعلم أن الناس في نقل أخــبار
فدع عنك قول الشافعي ومالــك وأحمد والمروىّ عن كـعب أحبار
ووال أناسـا قولهـم وحديثهـم روى جدنا عن جبرئيل عن الباري))
والجواب من وجوه :
أحدها : أن يقال : أما دعوى العصمة في هؤلاء فلم تذكر عليها حجة إلا ما ادّعيته من أنه يجب على الله أن يجعل للناس إماما معصوما ، ليكون لطفا ومصلحة في التكليف ، وقد تبين فساد هذه الحجة من وجوه : أدناها أن هذا مفقود لا موجود ، فإنه لم يوجد إمام معصوم حصل به لطف ولا مصلحة، ولو لم يكن في الدليل على انتفاء ذلك إلا المنتظر الذي قد عُلم بصريح العقل أنه لم ينتفع به أحد ، لا في دين ولا في دنيا ، ولا حصل لأحد من المكلَّفين به مصلحة ولا لطف ، لكان هذا دليلا على بطلان قولهم ، فكيف مع كثرة الدلائل على ذلك ؟
الوجه الثاني : أن قوله : (( كل واحد من هؤلاء قد بلغ الغاية في الكمال )) هو قول مجرد عن الدليل ،والقول بلا علم يمكن كل أحد أن يقابله بمثله . وإذا ادّعى المدّعي هذا الكمال فيمن هو أشهر في العلم والدين من العسكريين وأمثالهما من الصحابة والتابعين ، وسائر أئمة المسلمين ، لكان ذلك أوْلى بالقبول . ومن طالع أخبار الناس علم أن الفضائل العلمية والدينية المتواترة عن غير واحد من الأئمة أكثر مما ينقل عن العسكريين وأمثالهما من الكذب، دع الصدق .
الثالث : أن قوله : (( هؤلاء الأئمة )) إن أراد بذلك أنهم كانوا ذوى سلطان وقدرة معهم السيف ، فهذا كذب ظاهر ، وهم لا يدَّعون ذلك ، بل يقولون : إنهم عاجزون ممنوعون مغلوبون مع الظالمين ، لم يتمكن أحد منهم من الإمامة ، إلاّ عليّ بن أبي طالب ، مع أن الأمور استصعبت عليه ، ونصف الأمة – أو أقل أو أكثر – لم يبايعوه ، بل كثير منهم قاتلوه وقاتلهم ، وكثير منهم لم يقاتلوه ولم يقاتلوا معه ، وفي هؤلاء من هو أفضل من الذين قاتلوه وقاتلوا معه ، وكان فيهم من فضلاء المسلمين من لم يكن مع عليّ مثلهم، بل الذين تخلَّفوا عن القتال معه وله كانوا أفضل ممن قاتله وقاتل معه .
وإن أراد أنه كان لهم علم ودين يستحقون به أو كانوا أئمة ، فهذه الدعوى إذا صحت لا تُوجب كونهم أئمة يجب على الناس طاعتهم ، كما أن استحقاق الرجل أن يكون إمام مسجد لا يجعله إماما ، واستحقاقه أن يكون قاضيا لا يصيِّره قاضيا ، واستحقاقه أن يكون أمير الحرب لا يجعله أمير الحرب . والصلاة لا تصح إلا خلف من يكون إماما . وكذلك الحكم بين الناس إنما يفصله ذو سلطان وقدرة لا من يستحق أن يولَّى القضاء ، وكذلك الجند إنما يقاتلون مع أمير عليهم لا مع من لم يؤمَّر وإن كان يستحق أن يؤمَّر .
الوجه الرابع :أن يقال ما تعنون بالاستحقاق ؟ أتعنون أن الواحد من هؤلاء كان يجب أن يولى الإمامة دون سائر قريش ؟ أم تريدون أن الواحد منهم من جملة من يصلح للخلافة ؟ فإن أردتم الأول فهو ممنوع مردود ، وإن أردتم الثاني فذلك قدر مشترك بينهم و بين خلق كثير من قريش .
الوجه الخامس : أن يقال الإمام هو الذى يؤتم به وذلك على وجهين : أحدها : أن يرجع إليه في العلم و الدين بحيث يطاع باختيار المطيع ، لكونه عالما بأمر الله عزوجل آمرا به ، فيطيعه المطيع لذلك ، وإن كان عاجزا عن إلزامه الطاعة .
والثاني : أن يكون صاحب يد وسيف ، بحيث يطاع طوعا وكرها لكونه قادرا على إلزام المطيع بالطاعة .
الوجه السادس : أن يقال : قوله : (( لم يتخذوا ما اتخذه غيرهم من الأئمة المشتغلين بالملك والمعاصي )) كلام باطل . وذلك أنه إن أراد أهل السنة يقولون : إنه يؤتم بهؤلاء الملوك فيما يفعلونه من معصية الله ، فهذا كذب عليهم . فإن علماء أهل السنة المعروفين بالعلم عند أهل السنة متفقون على أنه لا يُقتدى بأحد في معصية الله ، ولا يُتخذ إماما في ذلك .
وإن أراد ان أهل السنة يستعينون بهؤلاء الملوك فيما يُحتاج إليهم فيه من طاعة الله ، ويعاونونهم على ما يفعلونه من طاعة الله ، فيقال لهم : إن كان اتخاذهم أئمة بهذا الاعتبار محذوراً ، فالرافضة أدخل منهم في ذلك ، فإنهم دائما يستعينون بالكفّار والفجّار على مطالبهم ، ويعاونون الكفّار والفجّار على كثير من مآربهم ، وهذا أمر مشهود في كل زمان ومكان ، ولو لم يكن إلا صاحب هذا الكتاب (( منهاج الندامة )) وإخوانه ، فإنهم يتخذون المغل والكفار أو الفسَّاق أو الجهال أئمة بهذا الاعتبار .
الوجه السابع : أن يقال الأئمة الذين هم مثل هؤلاء الذين ذكرهم في كتابه وادّعى عصمتهم ، ليس لهم سلطان تحصل به مقاصد الإمامة ، ولا يكفي الائتمام بهم في طاعة الله ، ولا في تحصيل ما لا بد منه مما يعين على طاعة الله ، فإن لم يكن لهم ملك ولا سلطان لم يمكن أن تصلّي خلفهم جمعة ولا جماعة ، ولا يكونون أئمة في الجهاد ولا في الحج ، ولا تُقام بهم الحدود ، ولا تُفصل بهم الخصومات ، ولا يستوفي الرجل بهم حقوقه التي عند الناس والتي في بيت المال ، ولا يؤمَّن بهم السبل ، فإن هذه الأمور كلها تحتاج إلى قادر يقوم بها ، ولا يكون قادراً إلاّ من له أعوان على ذلك ، بل القادر على ذلك كان غيرهم ، فمن طلب هذه الأمور من إمام عاجز عنها كان جاهلا ظالما ، ومن استعان عليها بمن هو قادر عليها كان عالما مهتديا مسدَّدا ، فهذا يحصِّل مصلحة دينه ودنياه ، والأول تفوته مصلحة دينه ودنياه .
الوجه الثامن : أن يقال: دعوى كون جميع الخلفاء كانوا مشتغلين بما ذكره من الخمور والفجور كذب عليهم ، والحكايات المنقولة في ذلك فيها ما هو كذب ، وقد عُلم أن فيهم العدْل الزاهد كعمر بن عبد العزيز والمهدى بالله ، وأكثرهم لم يكن مظهراً لهذه المنكرات من خلفاء بني أمية وبني العباس ، وإن كان أحدهم قد يُبتلى ببعض الذنوب ،وقد يكون تاب منها ، وقد يكون له حسنات كثيرة تمحو تلك السيئات ، وقد يُبتلى بمصائب تكفِّر عنه خطاياه . ففي الجملة الملوك حسناتهم كبار وسيئاتهم كبار ، والواحد من هؤلاء وإن كان له ذنوب ومعاص لا تكون لآحاد المؤمنين ، فلهم من الحسنات ما ليس لآحاد المسلمين : من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإقامة الحدود ، وجهاد العدو ، وإيصال كثير من الحقوق إلى مستحقيها ، ومنع كثير من الظلم ، وإقامة كثير من العدل .
ونحن لا نقول : إنهم كانوا سالمين من المظالم والذنوب ، كما لا نقول: إن أكثر المسلمين كانوا سالمين من ذلك ، لكن نقول : وجود الظلم والمعاصي من بعض المسلمين وولاة أمورهم وعامتهم لا يمنع أن يشارك فيما يعمله من طاعة الله .
وإن قال : مرادى بهؤلاء الأئمة الاثنا عشر . قيل له : ما رواه عليّ بن الحسين وأبو جعفر وأمثالهما من حديث جدهم ، فمقبول منهم كما يرويه أمثاله . ولولا أن الناس وجدوا عند مالك والشافعي وأحمد أكثر مما وجدوه عند موسى بن جعفر ، وعلي بن موسى ، ومحمد بن علي ، لما عدلوا عن هؤلاء إلى هؤلاء . وإلا فأي غرض لأهل العلم والدين أن يعدلوا عن موسى بن جعفر إلى مالك بن أنس ، وكلاهما من بلد واحد ، في عصر واحد ؟
فإن زعم زاعم أنه كان عندهم من العلم المخزون ما ليس عند أولئك لكن كانوا يكتمونه ، فأي فائدة للناس في علم يكتمونه ؟ فعلم لا يَقال به ككنز لا يُنفق منه ،وكيف يأتم الناس بمن لا يبين لهم العلم المكتوم ، كالإمام المعدوم ، وكلاهما لا يُنتفع به ، ولا يحصل به لطف ولا مصلحة . وإن قالوا : بل كانوا يبينون ذلك لخواصّهم دون هؤلاء الأئمة . قيل : أولا : هذا كذب عليهم، فإن جعفر بن محمد لم يجيء بعده مثله . وقد أخذ العلم عنه هؤلاء الأئمة ، كمالك ، وابن عيينة ، والثوري ، وابن جريج ، ويحيى بن سعيد ، وأمثالهم من العلماء المشاهير الأعيان .
ثم من ظن بهؤلاء السادة أنهم يكتمون علمهم ويخصّون به قوما مجهولين ليس لهم في الأمة لسان صدق ، فقد أساء الظن بهم ؛ فإن في هؤلاء من المحبة لله ولرسوله ، والطاعة له ، والرغبة في حفظ دينه وتبليغه ، وموالاة من والاه ، ومعاداة من عاداه ، وصيانته عن الزيادة والنقصان ، ما لا يوجد قريب منه لأحد من شيوخ الشيعة .وهذا أمر معلوم بالضرورة لمن عرف هؤلاء وهؤلاء . واعتبر هذا مما تجده في كل زمان من شيوخ السنة وشيوخ الرافضة ، كمصنِّف هذا الكتاب ، فإنه عند الإمامية أفضلهم في زمانه، بل يقول بعض الناس : ليس في بلاد المشرق أفضل منه في جنس العلوم مطلقا .ومع هذا فكلامه يدل على أنه من أجهل خلق الله بحال النبي وأقواله وأعماله ، فيروى الكذب الذي يظهر أنه كذب من وجوه كثيرة ، فإن كان عالما بأنه كذب ، فقد ثبت عنه أنه قال : (( من حدَّث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين )) وإن كان جاهلا بذلك دلّ على أنه من أجهل الناس بأحوال النبي كما قيل :
فإن كنت لا تدري فتلـك مصيبـة وإن كنت تـدري فالمصيبة أعظـم
(فصـــل)
قال الرافضي : (( وما أظن أحدا من المحصِّلين وقف على هذه المذاهب واختار غير مذهب الإمامية باطنا ، وإن كان في الظاهر يصير إلى غيره طلبا لدنيا ، حيث وُضعت لهم المدارس والربط والأوقاف حتى تستمر لبني العباس الدعوة ويُشيدوا للعامة اعتقاد إمامتهم )).
فيقال : هذا الكلام لا يقوله إلا من هو من أجهل الناس بأحوال أهل السنة ، أو من هو من أعظم الناس كذبا وعنادا ، وبطلانه ظاهر من وجوه كثيرة ؛ فإنه من المعلوم أن السنة كانت قبل أن تُبنى المدارس أقوى وأظهر ، فإن المدارس إنما بُنيت في بغداد في أثناء المائة الخامسة : بنيت النظامية في حدود الستين والأربعمائة ، وبنيتا على مذهب واحد من الأئمة الأربعة . والمذاهب الأربعة طبقت المشرق والمغرب ، وليس لأحد منهم مدرسة ، والمالكية في المغرب لا يُذكر عندهم ولد العباس.
ثم السنة كانت قبل دولة بني العباس أظهر منها وأقوى في دولة بني العباس ، فإن بني العباس دخل في دولتهم كثير من الشيعة وغيرهم من أهل أبدع . ثم أن أهل السنة متفقون على أن الخلافة لا تختص ببني العباس ، وإنه لو تولاهما بعض العلويين أو الأموييين أو غيرهم من بطون قريش جاز ، ثم من المعلوم أن علماء السنة ، كمالك وأحمد وغيرهما ، من أبعد الناس عن مداهنة الملوك أو مقاربتهم ، ثم إن أهل السنة إنما يعظِّمون الخلفاء الراشدين ، وليس فيهم أحد من بني العباس .
ثم من المعلوم لكل عاقل أنه ليس في علماء المسلمين المشهورين أحد رافضي ، بل كلهم متفقون على تجهيل الرافضة وتضليلهم ، وكتبهم كلها شاهدة بذلك ، وهذه كتب الطوائف كلها تنطق بذلك ، مع أنه لا أحد يلجئهم إلى ذكر الرافضة ، وذكر جهلهم وضلالهم .
وهم دائما يذكون من جهل الرافضة وضلالهم ما يُعلم معه بالاضطرار أنهم يعتقدون أن الرافضة من أجهل الناس وأضلهم ، وأبعد طوائف الأمة عن الهدى . كيف ومذهب هؤلاء الإمامية قد جمع عظائم البدع المنكرة ، فإنهم جهمية قدرية رافضة ،وكلام السلف والعلماء في ذم كل صنف من هذه الأصناف لا يحصيه إلا الله ، والكتب مشحونة بذلك ، ككتب الحديث والآثار والفقه والتفسير والأصول والفروع وغير ذلك ، وهؤلاء الثلاثة شر من غيرهم من أهل البدع كالمرجئة والحرورية .
والله يعلم أني مع كثرة بحثي وتطلعي إلى معرفة أقوال الناس ومذاهبهم ما علمت رجلا له في الأمة لسان صدق يُتهم بمذهب الإمامية ، فضلا عن أن يُقال : إنه يعتقده في الباطن .
وقد اتُّهم بمذهب الزيدية الحسن بن الصالح بن حيّ ، وكان فقيها صالحا زاهدا، وقيل : إن ذلك كذب عليه ، ولم ينقل أحد عنه : إنه طعن في أبي بكر وعمر ، فضلا عن أن يشك في إمامتهما ، واتُّهم طائفة من الشيعة الأولى بتفضيل عليّ على عثمان ، ولم يُتهم أحد من الشيعة الأولى بتفضيل عليّ على أبي بكر وعمر ، بل كانت عامة الشيعة الأولى الذين يحبون عليًّا يفضِّلون عليه أبا بكر وعمر ، لكن كان فيهم طائفة ترجِّحه على عثمان ، وكان الناس في الفتنة صاروا شيعتين : شيعة عثمانية ، وشيعة علوية . وليس كل من قاتل مع عليّ كان يفضله على عثمان ، بل كان كثير منهم يفضّل عثمان على عليّ ، كما هو قول سائر أهل السنة .
( فصــــل)
قال الرافضي : (( وكثيرا ما رأينا من يتدين في الباطن بمذهب الإمامية ، ويمنعه عن إظهار حبّ الدنيا وطلب الرياسة ، وقد رأيت بعض أئمة الحنابلة يقول : إني على مذهب الإمامية فقلت : لم تدرس على مذهب الحنابلة ؟ فقال : ليس في مذهبكم البغلات والمشاهرات . وكان أكبر مدرسي الشافعية في زماننا حيث توفي أوصى أن يتولى أمره في غُسله وتجهيزه بعض المؤمنين ، وأن يُدفن في مشهد مولانا الكاظم ، وأشهد عليه أنه كان على مذهب الإمامية )).
والجواب : أن قوله : (( وكثيرا ما رأينا )) هذا كذب ، بل قد يوجد في بعض المنتسبين إلى مذهب الأئمة الأربعة من هو في الباطن رافضي ، كما يوجد في المظهرين للإسلام من هو في الباطن منافق ، فإن الرافضة لما كانوا من جنس المنافقين يخفون أمرهم احتاجوا أن يتظاهروا بغير ذلك ، كما احتاج المنافقون أن يتظاهروا بغير الكفر ، ولا يوجد هذا إلا فيمن هو جاهل بأحوال النبي وأمور المسلمين كيف كانت في أول الإسلام. وأما من عرف الإسلام كيف كان ، وهو مقرٌّ بأن محمداً رسول الله باطنا وظاهرا ، فإنه يمتنع أن يكون في الباطن رافضيا ، ولا يُتصور أن يكون في الباطن رافضيا إلا زنديق منافق ، أو جاهل بالإسلام كيف كان مُفرط في الجهل .
والحكاية التي ذكرها عن بعض الأئمة المدرسين ذكر لي بعض البغداديين أنها كذب مفترى ، فإن كان صادقا فيما نقله عن بعض المدرسين من هؤلاء وهؤلاء ، فلا يُنكر أن يكون في المنتسبين إلى الأئمة الأربعة من هو زنديق ملحد مارق من الإسلام ،فضلا عن أن يكون رافضيا . ومن استدل بزندقة بعض الناس في الباطن على أن علماء المسلمين كلهم زنادقة ، كان من أجهل الناس، كذلك من استدل برفض بعض الناس في الباطن .
( فصــــل )
قال الرافضي : ((الوجه الخامس : في بيان وجوب اتباع مذهب الإمامية أنهم لم يذهبوا إلى التعصب في غير الحق ، بخلاف غيرهم ، فقد ذكر الغزالي والماوردي ، وهما إمامان للشافعية ، أن تسطيح القبور هي المشروع، لكن لما جعلته الرافضة شعارا لهم عدلنا عنه إلى التسنيم ، وذكر الزمخشري ، وكان من أئمة الحنفية ، في تفسير قوله تعالى : ُهوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُم وَمَلاَئِكَتَهُ ( ) أنه يجوز بمقتضى هذه الآية أن يُصلَّى على آحاد المسلمين ، لكن لما اتخذت الرافضة ذلك في أئمتهم منعناه . وقال مصنف (( الهداية )) من الحنفية: إن المشروع التختم في اليمين ، ولكن لما اتخذته الرافضة جعلنا التختم في اليسار ، وأمثال ذلك كثير فانظر إلى من يغيّر الشريعة ويبدِّل الأحكام التي ورد بها النص عن النبي ويذهب إلى ضد الصواب معاندة لقوم معينين ، فهل يجوز اتّباعه والمصير إلى أقواله ؟))
والجواب من طريقتين : أحدهما : أن هذا الذي ذكره هو بالرافضة ألصق .
والثاني : أن أئمة السنة براء من هذا .
أما الطريق الأول فيقال : لا نعلم طائفة أعظم تعصبا في الباطل من الرافضة ، حتى إنهم دون سائر الطوائف عُرف منهم شهادة الزور لموافقهم على مخالفهم ، وليس في التعصب أعظم من الكذب ، وحتى أنهم في التعصب جعلوا للبنت جميع الميراث ، ليقولوا : إن فاطمة رضى الله عنها ورثت رسول الله دون عمه العباس ، وحتى أن فيهم من حرَّم لحم الجمل لأن عائشة قاتلت على جمل ، فخالفوا كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الصحابة والقرابة لأمر لا يناسب ذلك ، فإن ذلك الجمل الذي ركبته عائشة رضى الله عنها مات ،ولو فرض أنه حيّ فركوب الكفّار على الجمال لا يوجب تحريمها، وما زال الكفّار يركبون جمالا ويغنمها المسلمون منهم ، ولحمها حلال لهم ، فأي شيء في ركوب عائشة للجمل مما يوجب تحريم لحمه ؟وغاية ما يفرضون أن بعض من يجعلونه كافرا ركب جملا ، مع أنهم كاذبون مفترون فيما يرمون به أم المؤمنين رضى الله عنها .
ومن تعصبهم أنهم لا يذكرون اسم (( العشرة )) بل يقولون تسعة وواحد ، وإذا بنوا أعمدة أو غيرها لا يجعلونها عشرة ، وهم يتحرُّون ذلك في كثير من أمورهم .
ومن تعصبهم أنهم إذا وجدوا مسمّى بعليّ أو جعفر أو الحسن أو الحسين بادروا إلى إكرامه ، مع أنه قد يكون فاسقا ، وقد يكون في الباطن سنياً ، فإن أهل السنة يسمُّون بهذه الأسماء . كل هذا من التعصب والجهل ، ومن تعصبهم وجهلهم أنهم يُبغضون بني أمية كلهم لكون بعضهم كان ممن يبغض عليًّا .
وقد كان في بني أمية قوم صالحون ماتوا قبل الفتنة ، وكان بنو أمية اكثر القبائل عمَّالا للنبي ، فإنه لما فتح مكة استعمل عليها عتّاب ابن أسيد بن أبي العاصي بن أمية، واستعمل خالد بن سعيد بن العاص بن أمية ، وأخويه أَبان بن سعيد وسعيد بن سعيد على أعمال أُخر ، واستعمل أبا سفيان بن حرب بن أمية على نجران أو ابنه يزيد ، ومات وهو عليها ، وصاهر نبي الله ببناته الثلاث لبني أمية ، ،فزوّج أكبر بناته زينب بأبي العاص بن الربيع بن أمية بن عبد شمس ، وحمد صهره لما أراد عليٌّ أن يتزوج ببنت أبي جهل ، فذكر صهراً له من بني أمية بن عبد شمس فأثنى عليه في مصاهرته ، وقال:((حدثني فصدقني ، ووعدني فوفَّى لي)). وزوَّج ابنتيه لعثمان بن عفان ، واحدة بعد واحدة ، وقال:(( لو كانت عندنا ثالثة لزوجناها عثمان)) .
وكذلك من جهلهم وتعصبهم أنهم يبغضون أهل الشام ، لكونهم كان فيهم أولا من يبغض عليًّا . ومعلوم أن مكة كان فيها كفّار ومؤمنون ، وكذلك المدينة كان فيها مؤمنون ومنافقون ، والشام في هذه الأعصار لم يبق فيه من يتظاهر ببغض عليّ ، ولكن لفرط جهلهم يسحبون ذيل البغض .وكذلك من جهلهم أنهم يذمون من ينتفع بشيء من آثار بني أمية ، كالشرب من نهر يزيد، ويزيد لم يحفره ولكن وسَّعه ، وكالصلاة في جامع بناه بنو أمية . ومن المعلوم أن النبي كان يصلِّي إلى الكعبة التي بناها المشركون ، وكان يسكن في المساكن التي بنوها ، وكان يشرب من ماء الآبار التي حفروها ، ويلبس من الثياب التي نسجوها ، ويعامل بالدراهم التي ضربوها . فإذا كان ينتفع بمساكنهم وملابسهم ، والمياه التي أنبطوها ، والمساجد التي بنوها ، فكيف بأهل القبلة ؟ !
فلو فرض أن يزيد كان حافراً وحفر نهرا ، لم يكره الشرب منه بإجماع المسلمين ،ولكن لفرط تعصبهم كرهوا ما يضاف إلى من يبغضونه .
ولقد حدثني ثقة أنه كان لرجل منهم كلب فدعاه آخر منهم : بكير ، فقال صاحب الكلب : أتسمي كلبي بأسماء أصحاب النار ؟ فاقتتلا على ذلك حتى جرى بينهما دم . فهل يكون أجهل من هؤلاء ؟!
وأما الطريق الثاني في الجواب فنقول : الذي عليه أئمة الإسلام إن كان مشروعاً لم يُترك لمجرد فعل أهل البدع : لا الرافضة ولا غيرهم . وأصول الأئمة كلهم توافق هذا ، منها مسألة التسطيح الذي ذكرها ، فإن مذهب أبي حنيفة وأحمد أن تسنيم القبور أفضل ، كما ثبت في الصحيح أن قبر النبي كان مسنَّماً ، ولأن ذلك أبعد عن مشابهة أبنية الدنيا، وأمنع عن القعود على القبور .والشافعي يستحب التسطيح لما رُوى من الأمر بتسوية القبور ، فرأى أن التسوية هي التسطيح . ثم إن بعض أصحابه قال : إن هذا شعار الرافضة فيُكره ذلك ، فخالفه جمهور الأصحاب وقالوا : بل هو المستحب وإن فعلته الرافضة .
وكذلك الجهر بالبسملة هو مذهب الرافضة ، وبعض الناس تكلَّم في الشافعي بسببها ، وبسبب القنوت ،ونسبه إلى قول الرافضة والقدرية ، لأن المعروف في العراق إن الجهر كان من شعار الرافضة ، وأن القنوت في الفجر كان من شعار القدرية الرافضة ، حتى أن سفيان الثوري وغيره من الأئمة يذكرون في عقائدهم ترك الجهر بالبسملة ، لأنه كان عندهم من شعار الرافضة ، كما يذكرون المسح على الخفين لأن تركه كان من شعار الرافضة، ومع هذا فالشافعي لما رأى أن هذا هو السنة كان ذلك مذهبه وإن وافق قول الرافضة .
وكذلك إحرام أهل العراق من العقيق يستحب عنده ، وإن كان ذلك مذهب الرافضة ، ونظائر هذا كثيرة .
(فصــــل )
قال الرافضي : (( مع أنهم ابتدعوا أشياء ، واعترفوا بأنها بدعة ، وأن النبي قال : (( كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة فإن مصيرها النار )). وقال : (( من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو ردّ ))، ولو ردوا عنها كرهته نفوسهم ونفرت قلوبهم ، كذكر الخلفاء في خطبهم ، مع أنه بالإجماع لم يكن في زمن النبي ، ولا في زمن أحد من الصحابة والتابعين ، ولا في زمن بني أمية ، ولا في صدور ولاية العباسيين ، بل شيء أحدثه المنصور لما وقع بينه وبين العلوية خلاف،فقال:والله لأرغمن أنفي وأنوفهم وأرفع عليهم بني تيم وعدي ،وذكر الصحابة في خطبته ، واستمرت هذه البدعة إلى هذا الزمان )).
فيقال : الجواب من وجوه : أحدها : أن ذكر الخلفاء على المنبر كان على عهد عمر بن عبد العزيز ، بل قد رُوى أنه كان على عهد عمر بن الخطاب .
الوجه الثاني : أنه قيل : أن عمر بن عبد العزيز ذكر الخلفاء الأربعة لما كان بعض بني أمية يسبُّون عليا ، فعوَّض عن ذلك بذكر الخلفاء والترضّي عنهم ، ليمحو تلك السنة الفاسدة .
الوجه الثالث : أن ما ذكره من إحداث المنصور وقصده بذلك باطل ، فإن أبا بكر وعمرما توليا الخلافة قبل المنصور وقبل بني أمية، فلم يكن في ذكر المنصور لهما إرغام لأنفه ولا لأنوف بني عليّ، إلا لو كان بعض بني تيْم أو بعض بني عدي ينازعهم الخلافة ، ولم يكن أحد من هؤلاء ينازعهم فيها .
الوجه الرابع : أن أهل السنة لا يقولون : إن ذكر الخلفاء الأربعة في الخطبة فرضٌ ، بل يقولون : إن الاقتصار على عليّ وحده ، أو ذكر الاثنى عشر هو البدعة المنكرة التي لم يفعلها أحد ، لا من الصحابة ، ولا من التابعين ، ولا من بني أمية ، ولا من بني العباس . كما يقولون : إن سب عليّ أو غيره من السلف بدعة منكرة ، فإن كان ذكر الخلفاء الأربعة بدعة ، مع أن كثيراً من الخلفاء فعلوا ذلك ، فالاقتصار على عليّ ، مع أنه لم يسبق إليه أحد من الأمة أوْلى أن يكون بدعة ، وإن كان ذكر عليٍّ لكونه أمير المؤمنين مستحبا ، فذكر الأربعة الذين هم الخلفاء الراشدون أوْلى بالاستحباب ، لكن الرافضة من المطففين : يرى أحدهم القَذَاة في عيون أهل السنة ، ولا يرى الجذع المعترض في عينه .
ومن المعلوم أن الخلفاء الثلاثة اتفق عليهم المسلمون ، وكان السيف في زمانهم مسلولا على الكفار ، مكفوفاً عن أهل الإسلام . وأما عليّ فلم يتفق المسلمون على مبايعته ، بل وقعت الفتنة تلك المدة ، وكان السيف في تلك المدة مكفوفا عن الكفار مسلولاً على أهل الإسلام ، فاقتصار المقتصر على ذكر عليّ وحده دون من سبقه ، هو ترك لذكر الأئمة وقت اجتماع المسلمين وانتصارهم على عدوهم ، واقتصار على ذكر الإمام الذي كان إماما وقت افتراق المسلمين وطلب عدوهم لبلادهم .
( فصــــل)
قال الرافضي : (( وكمسح الرجلين الذي نصّ الله تعالى عليه في كتابه العزيز فقال :َ فاْغسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُم إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْن ( ) ، وقال ابن عباس : (( عضوان مغسولان، وعضوان ممسوحان ، فغيروه وأوجبوا الغسل )) .
فيقال : الذين نقلوا عن النبي الوضوء قولا وفعلا، والذين تعلّموا الوضوء منه وتوضؤوا على عهده ، وهو يراهم ويقرهم عليه ونقلوه إلى من بعدهم ، أكثر عددا من الذين نقلوا لفظ هذه الآية ، فإن جميع المسلمين كانوا يتوضؤون على عهده ، ولم يتعلموا الوضوء إلا منه ؛ فإن هذا العمل لم يكن معهوداً عندهم في الجاهلية ، وهم قد رأوه يتوضأ ما لا يحصى عدده إلا الله تعالى ، ونقلوا عنه ذكر غسل الرجلين فيما شاء الله من الحديث ، حتى نقلوا عنه من غير وجه في الصحاح وغيرها أنه قال : (( ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار)) ، مع أن الفرض إذا كان مسح ظهر القدم ، كان غسل الجميع كلفة لا تدعو إليها الطباع ، كما تدعو الطباع إلى طلب الرئاسة والمال فإن جاز أن يقال : إنهم كذبوا وأخطؤوا فيما نقلوه عنه من ذلك ، كان الكذب والخطأ فيما نُقل من لفظ الآية أقرب إلى الجواز .
وإن قيل بل لفظت الآية بالتواتر الذي لا يمكن الخطأ فيه ، فثبوت التواتر في نقل الوضوء عنه أوْلى وأكمل ،ولفظ الآية لا يخالف ما تواتر من السنَّة ، فإن المسح جنس تحته نوعان : الإسالة ، وغير الإسالة ، كما تقول العرب : تمسَّحت للصلاة ، فما كان بالإسالة فهو الغسل ، وإذا خص أحد النوعين باسم الغسل فقد يخص النوع الآخر باسم المسح ، فالمسح يُقال على المسح العام الذي يندرج فيه الغسل ، ويُقال على الخاص الذي لا يندرج فيه الغسل.
وفي القرآن ما يدل على أنه لم يُرد بمسح الرجلين المسح الذي هو قسيم الغسل ، بل المسح الذي الغسل قسم منه ؛ فإنه قال : إلى الكعبين ولم يقل : إلى الكعاب ، كما قال : إلى المرافق ، فدل على أنه ليس في كل رجل كعب واحد ، كما في كل يد مرفق واحد ، بل في كل رجل كعبان ، فيكون تعالى قد أمر بالمسح إلى العظمين الناتئين ، وهذا هو الغسل ، فإن من يمسح المسح الخاص يجعل المسح لظهور القدمين ، وفي ذكره الغسل في العضوين الأوَّليْن والمسح في الآخرين ، التنبيه على أن هذين العضوين يجب فيهما المسح العام ، فتارة يُجزئ المسح الخاص ، كما في مسح الرأس والعمامة والمسح على الخفين ، وتارة لا بد من المسح الكامل الذي هو غسل، كما في الرجلين المكشوفتين .
وقد تواترت السنة عن النبي بالمسح على الخفين وبغسل الرجلين ، والرافضة تخالف هذه السنة المتواترة، كما تخالف الخوارج نحو ذلك ، مما يتوهمون أنه مخالف لظاهر القرآن ، بل تواتر غسل الرجلين والمسح على الخفين عن النبي أعظم من تواتر قطع اليد في ربع دينار، أو ثلاثة دراهم ، أو عشرة دراهم ، أو نحو ذلك .
وفي الجملة فالقرآن ليس فيه نفي إيجاب الغسل ، بل فيه إيجاب المسح، فلو قدِّر أن السنة أوجبت قدراً زائدا على ما أوجبه القرآن لم يكن في هذا رفعا لموجب القرآن ، فكيف إذا فسَّرته وبيَّنت معناه ؟ وهذا مبسوط في موضعه .
( فصــــل )
قال الرافضي : (( وكالمتعتين اللتين ورد بهما القرآن ، فقال في متعة الحج : َفمنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي ( ) وتأسّف النبي على فواتها لما حجَّ قارنا، وقال لو ((استقبلت من أمرى ما استدبرت لما سقت الهدى )) وقال في متعة النساء : َفما اْستَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَأْتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَة ( ) واستمرت فعلهما مدة زمان النبي ومدة خلافة أبي بكر ، وبعض خلافة عمر ، إلى أن صعد المنبر ، وقال: (( متعتان كانتا محللتين على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما )) .
والجواب أن يقال : أما متعة الحج فمتفق على جوازها بين أئمة المسلمين ، ودعواه أن أهل السنة ابتدعوا تحريمها كذب عليهم ، بل أكثر علماء السنة يستحبون المتعة ويرجّحونها أو يوجبونها . والمتعة اسم جامع لمن اعتمر في أشهر الحج وجمع بينها وبين الحج في سفر واحد ، سواء حلّ من إحرامه بالعمرة ثم أحرم بالحج ، أو أحرم بالحج قبل طوافه بالبيت وصار قارنا ، أو بعد طوافه بالبيت وبين الصفا والمروة قبل التحلل من إحرامه لكونه ساق الهدى ، أو مطلقا. وقد يراد بالمتعة مجرد العمرة في أشهر الحج .
وأكثر العلماء ، كأحمد وغيره من فقهاء الحديث ، وأبي حنيفة وغيره من فقهاء العراق ، والشافعي في أحد قوْلَيه ، وغيره من فقهاء مكة: يستحبون المتعة .
وأما متعة النساء المتنازع فيها فليس في الآية نصٌّ صريح بحلها ، فإنه تعالى قال : وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُم أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِين فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَة إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا . وَمَنْ لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ ( ) الآية . فقوله : فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ يتناول كل من دخل بها من النساء، فإنه أمر بأن يعطى جميع الصداق ، بخلاف المطلّقة قبل الدخول التي لم يستمتع بها فإنها لا تستحق إلا نصفه .
وهذا كقوله تعالى : وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ( ) . فجعل الإفضاء مع العقد موجبا لاستقرار الصداق ، يبيّن ذلك أنه ليس لتخصيص النكاح المؤقت بإعطاء الأجر فيه دون النكاح المؤبد معنى ، بل إعطاء الصداق كاملا في المؤبد أوْلى ، فلا بد أن تدل الآية على المؤبد : إما بطريق التخصيص ، وإما بطريق العموم .
يدل على ذلك أنه ذكر بعد هذا نكاح الإماء ، فعُلم أن ما ذُكر كان في نكاح الحرائر مطلقا . فإن قيل : ففي قراءة طائفة من السلف : َفما اْستَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى قيل : أوّلا : ليست هذه القراءة متواترة، وغايتها أن تكون كأخبار الآحاد . ونحن لا ننكر أن المتعة أحلت في أوّل الإسلام ، لكن الكلام في دلالة القرآن على ذلك .
الثاني : أن يقال: هذا الحرف إن كان نزل ، فلا ريب أنه ليس ثابتا من القراءة المشهورة ، فيكون منسوخا ، ويكون نزوله لما كانت المتعة مباحة، فلما حُرِّمت نسخ هذا الحرف ، ويكون الأمر بالإيتاء في الوقت تنبيها على الإيتاء في النكاح المطلق . وغاية ما يقال إنهما قراءتان ،وكلاهما حق.والأمر بالإيتاء في الاستمتاع إلى أجل مسمَّى واجب إذا كان ذلك حلالا ، وإنما يكون ذلك إذا كان الاستمتاع إلى أجل مسمَّى حلالا ، وهذا كان في أول الإسلام ، فليس في الآية ما يدل على أن الاستمتاع بها إلى أجل مسمَّى حلال ، فإنه لم يقل : وأحل لكم أن تستمتعوا بهن إلى أجل مسمَّى ، بل قال : َفما اْستَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فهذا يتناول ما وقع من الاستمتاع : سواء كان حلالا ، أو كان في وطء شبهة .
ولهذا يجب المهر في النكاح الفاسد بالسنة والاتفاق . والمتمتع إذا اعتقد حلّ المتعة وفَعَلَها فعليه المهر ، وأما الاستمتاع المحرّم فلم تتناوله الآية؛ فإنه لو استمتع بالمرأة من غير عقد مع مطاوعتها ، لكان زنا ، ولا مهر فيه . وإن كانت مستكرهة ، ففيه نزاع مشهور .
وأما ما ذكره من نهي عمر عن متعة النساء ، فقد ثبت عن النبي أنه حرَّم متعة النساء بعد الإحلال . هكذا رواه الثقات في الصحيحين وغيرهما عن الزهري عن عبد الله والحسن ابنى محمد بن الحنفية عن أبيهما محمد بن الحنفية، عن علي بن أبي طالب ، أنه قال لابن عباس لما أباح المتعة : إنك امرؤ تائه ، إن رسول الله حرَّم المتعة ولحوم الحمر الأهلية عام خيبر( ) ، رواه عن الزهري أعلم أهل زمانه بالسنة وأحفظهم لها ، أئمة الإسلام في زمنهم ، مثل مالك بن أنس وسفيان بن عيينة وغيرهما ، ممن اتفق المسلمون على علمهم وعدلهم وحفظهم ، ولم يختلف أهل العلم بالحديث في أن هذا حديث صحيح متلقى بالقبول ، ليس في أهل العلم من طعن فيه .
وكذلك ثبت في الصحيح أنه حرَّمها في غزاة الفتح إلى يوم القيامة( ) . وقد تنازع رواة حديث علي ّ : هل قوله : ((عام خيبر )) توقيت لتحريم الحُمُر فقط أو له ولتحريم المتعة ؟ فالأول قول ابن عيينة وغيره ، قالوا : إنما حرّمت عام الفتح . ومن قال بالآخر قال : إنها حرّمت ثم أحلّت ثم حرّمت . وادعت طائفة ثالثة أنها أحلّت بعد ذلك ، ثم حرّمت في حجة الوداع.
فالروايات المستفيضة المتواترة متواطئة على أنه حرّم المتعة بعد إحلالها . والصواب أنها بعد أن حرّمت لم تُحل ، وأنها إنما حرّمت عام فتح مكة ولم تُحل بعد ذلك ، ولم تحرّم عام خيبر، بل عام خيبر حرّمت لحوم الحُمُر الأهلية . وكان ابن عباس يبيح المتعة ولحوم الحُمُر فأنكر علي بن أبي طالب ذلك عليه ، وقال له : إن رسول الله حرّم متعة النساء وحرّم لحوم الحمر يوم خيبر، فقرن علي ّ بينهما في الذكر لما روى ذلك لابن عباس رضى الله عنهمما ، لأن ابن عباس كان يبيحهما . وقد روى عن ابن عباس أنه رجع عن ذلك لما بلغه حديث النهي عنهما .
فأهل السنة اتبعوا عليا وغيره من الخلفاء الراشدين فيما رووه عن النبي .
والشيعة خالفوا عليًّا فيما رواه عن النبي ، واتبعوا قول من خالفه .
وأيضا فإن الله تعالى إنما أباح في كتابه الزوجة وملك اليمين ، والمتمتع بها ليست واحدة منهما ، فإنها لو كانت زوجة لتوارثا ، ولوجبت عليها عدة الوفاة، ولحقها الطلاق الثلاث ؛ فإن هذه أحكام الزوجة في كتاب الله تعالى ، فلما انتفى عنها لوازم النكاح دل على انتفاء النكاح فإن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم . والله تعالى إنما أباح في كتابه الأزواج وملك اليمين ، وحرَّم ما زاد على ذلك بقوله تعالى : وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُون. إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِين . فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُون ( ) .
والمستمتع بها بعد التحريم ليست زوجة ولا ملك يمين ، فتكون حراما بنص القرآن . أما كونها ليست مملوكة فظاهر ، وأما كونها ليست زوجة فلانتفاء لوازم النكاح فيها ، فإن من لوازم النكاح كونه سببا للتوارث وثبوت عدة الوفاة فيه ، والطلاق الثلاث ، وتنصيف المهر بالطلاق قبل الدخول ، وغير ذلك من اللوازم .
( فصـــل )
قال الرافضي : (( ومنع أبو بكر فاطمة إرثها فقالت يا ابن أبي قحافة أترث أباك ولا أرث أبي ؟ والتجأ في ذلك إلى رواية انفرد بها – وكان هو الغريم لها ، لأن الصدقة تحل ّله – لأن النبي قال: (( نحن معاشر الأنبياء لا نُورث ، ما تركناه صدقة )) على أن ما رووه عنه فالقرآن يخالف ذلك ، لأن الله تعالى قال: ُيوصيكمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَينْ ( ) .ولم يجعل الله ذلك خاصا بالأمة دونه ، وكذّب روايتهم فقال تعالى : وَوَرِثَ سُلَيْمَانَ دَاوُد ( ) ، وقال تعالى عن زكريا : وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَّدُنْكَ وَلِيًّا . يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوب ( ) .
والجواب عن ذلك من وجوه : أحدها : أن ما ذكر من قول فاطمة رضى الله عنها : أترث أباك ولا أرث أبي ؟ لا يُعلم صحته عنها ، وإن صح فليس فيه حجة ، لأن أباها صلوات الله وسلامه عليه لا يُقاس بأحد من البشر ، وليس أبو بكر أوْلى بالمؤمنين من أنفسهم كأبيها ، ولا هو ممن حرَّم الله عليه صدقة الفرض والتطوع كأبيها ، ولا هو أيضا ممن جعل الله محبته مقدمة على محبة الأهل والمال ، كما جعل أباها كذلك .
والفرق بين الأنبياء وغيرهم أن الله تعالى صان الأنبياء على أن يورَّثوا دنيا ، لئلا يكون ذلك شبهة لمن يقدح في نبوتهم بأنهم طلبوا الدنيا وخلَّفوا لورثتهم . وأما أبو بكر الصديق وأمثاله فلا نبوة لهم يُقدح فيها بمثل ذلك ، كما صان الله تعالى نبينا عن الخط والشعر صيانة لنبوّته عن الشبهة ، وإن كان غيره لم يحتج إلى هذه الصيانة .
الثاني : أن قوله : (( والتجأ في ذلك إلى رواية انفرد بها )) كذب ؛ فإن قول النبي : (( لا نُورَثُ ما تركنا فهو صدقة )) رواه عنه أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف والعباس بن عبد المطلب وأزواج النبي وأبو هريرة، والرواية عن هؤلاء ثابتة في الصحاح والمسانيد ، مشهورة يعلمها أهل العلم بالحديث( ) فقول القائل : إن أبا بكر انفرد بالرواية ، يدل على فرط جهله أو تعمده الكذب .
الثالث : قوله : (( وكان هو الغريم لها )) كذب ، فإن أبا بكر لم يدع هذا المال لنفسه ولا لأهل بيته ، وإنما هو صدقة لمستحقيها كما أن المسجد حق للمسلمين .
الرابع : أن الصديق لم يكن من أهل هذه الصدقة ، بل كان مستغنيا عنها ، ولا انتفع هو ولا أحد من أهله بهذه الصدقة ؛ فهو كما لو شهد قوم من الأغنياء على رجل أنه وصّى بصدقة للفقراء ؛ فإن هذه شهادة مقبولة بالاتفاق .
الخامس : أن هذا لو كان فيه ما يعود نفعه على الراوي له من الصحابة لقُبلت روايته لأنه من باب الرواية لا من باب الشهادة ، والمحدِّث إذا حدَّث بحديث في حكومة بينه وبين خصمه قُبلت روايته للحديث ، لأن الرواية تتضمن حكما عاما يدخل فيه الراوي وغيره .وهذا من باب الخير ، كالشهادة برؤية الهلال ؛ فإن ما أمر به النبي يتناول الراوي وغيره، وكذلك ما نهى عنه ، وكذلك ما أباحه .
وهذا الحديث تضمَّن رواية بحكم شرعي ، ولهذا تضمن تحريم الميراث على ابنة أبي بكر عائشةا ، وتضمن تحريم شرائه لهذا الميراث من الورثة واتّهابه لذلك منهم ، وتضمن وجوب صرف هذا المال في مصارف الصدقة .
السادس : أن قوله : (( على ما رووه فالقرآن يخالف ذلك ، لأن الله تعالى قال: ُيوصيكمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلَّذَكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْن ( ) ولم يجعل الله ذلك خاصا بالأُمَّة دونه .
فيقال: أولا : ليس في عموم لفظ الآية ما يقتضي أن النبي يورث ، فإن الله تعالى قال : ُيوصيكمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلَّذَكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْن فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَك وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كاَنَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُدُس ( ) وفي الآية الأخرى : وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لمَ ْيَكُن لَهُنَّ وَلَد فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْن –إلى قوله- منْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غيرَ مُضَارٍّ ( ) .
وهذا الخطاب شامل للمقصودين بالخطاب وليس فيه ما يوجب أن النبي مخاطب بها .
الوجه التاسع : أن يقال : كون النبي لا يُورث ثبت بالسنة المقطوع بها وبإجماع الصحابة وكل منهما دليل قطعي ، فلا يُعارض ذلك بما يُظن أنه العموم ، وإن كان عموما فهو مخصوص ، لأن ذلك لو كان دليلا لما كان إلا ظنيا ، فلا يعارض القطعي ؛ إذ الظنى لا يعارض القطعي .
وذلك أن هذا الخبر رواه غير واحد من الصحابة في أوقات ومجالس، وليس فيهم من ينكره ، بل كلهم تلقّاه بالقبول والتصديق . ولهذا لم يُصرّ أحد من أزواجه على طلب الميراث ،ولا أصرّ العم على طلب الميراث ،بل من طلب من ذلك شيئا فأخبر بقول النبي رجع عن طلبه. واستمر الأمر على ذلك على عهد الخلفاء الراشدين إلى عليّ ، فلم يغير شيئا من ذلك ولا قسم له تركة .
الوجه العاشر : أن يقال : إن أبا بكر وعمر قد أعطيا عليّا وأولاده من المال أضعاف أضعاف ما خلّفه النبي من المال . والمال الذي خلّفه النبي لم ينتفع واحد منهما منه بشيء ، بل سلَّمه عمر إلى العباسم يليانه ويفعلان فيه ما كان النبي يفعله . وهذا مما يوجب انتفاء التهمة عنهما في ذلك .
الوجه الحادىعشر: أن قوله تعالى وَوَرِثَ سُلَيْمَانَ دَاوُد ( ).وقوله
تعالىعن زكريا:َ فهبْ لِي مِنْ لَّدُنْكَ وَلِيًّا . يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوب ( )
.لا يدل على محل النزاع . لأن الإرث اسم جنس تحته أنواع ، والدال على ما به الاشتراك لا يدل على ما به الامتياز . فإذا قيل : هذا حيوان ، لا يدل على أنه إنسان أو فرس أو بعير .
وذلك أن لفظ ((الإرث )) يُستعمل في إرث العلم والنبوة والملك وغير ذلك من أنواع الانتقال. قال تعالى : ُثمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ( ) .
وقال تعالى : أُوْلَئِكَ هُمُ الوَارِثُونَ . الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هَمْ فِيهَا خَالِدُون ( ). وغيرها كثير في القرآن .
وقال النبي : (( إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ، وإنما ورثوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظ وافر )) رواه أبو داود وغيره( ) .
الوجه الثالث عشر : أن يقال : المراد بهذا الإرث إرث العلم والنبوة ونحو ذلك لا إرث المال . وذلك لأنه قال : وَوَرِثَ سُلَيْمَانَ دَاوُد ، ومعلوم أن داود كان له أولاد كثيرون غير سليمان ، فلا يختص سليمان بماله .
وأيضا فليس في كونه ورث ماله صفة مدح ،لا لداود ولا لسليمان ، فإن اليهودي والنصراني يرث ابنه ماله ، والآية سيقت في بيان المدح لسليمان،وما خصه الله به من النعمة .
وأيضا فإرث المال هو من الأمور العادية المشتركة بين الناس ، كالأكل، والشرب ، ودفن الميت . ومثل هذا لا يُقصُّ عن الأنبياء إذ لا فائدة فيه ، وإنما يُقصُّ ما فيه عبرة وفائدة تستفاد ، وإلا فقول القائل : ((مات فلان وورث ابنُه ماله )) مثل قوله : (( ودفنوه )) ومثل قوله : (( أكلوا وشربوا وناموا )) ونحو ذلك مما لا يحسن أن يُجعل من قصص القرآن .
(فصــــل)
قال الرافضي : (( ولما ذكرت فاطمة أن أباها رسول الله وهبها فدَك قال لها : هات أسودا وأحمر يشهد لك بذلك ، فجاءت بأم أيمن ، فشهدت لها بذلك ، فقال: امرأة لا يقبل قولها . وقد رووا جميعا أن رسول الله قال: أم أيمن امرأة من أهل الجنة ، فجاء أمير المؤمنين فشهد لها بذلك ، فقال : هذا بعلك يجرّه إلى نفسه ولا نحكم بشهادته لك ، وقد رووا جميعا أن رسول الله قال : عليٌّ مع الحق ، والحق معه يدور معه حيث دار لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، فغضبت فاطمة عليها السلام عند ذلك وانصرفت ، وحلفت أن لا تكلمه ولا صاحبه حتى تلقى أباها وتشكو إليه ، فلما حضرتها الوفاة أوصت عليًّا أن يدفنها ليلا ولا يدع أحدا منهم يصلِّي عليها ، وقد رووا جميعا أن النبي قال : يا فاطمة إن الله تعالى يغضب لغضبك ويرضى لرضاك، ورووا جميعا أنه قال فاطمة بضعة مني ، من آذاها فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله . ولو كان هذا الخبر صحيحا حقا لما جاز له ترك البغلة التي خلفها النبي وسيفه وعمامته عند أمير المؤمنين عليّ ، ولما حكم له بها لما ادّعاها العباس ، ولكان أهل البيت الذين طهّرهم الله في كتابه من الرجس مرتكبين ما لا يجوز ، لأن الصدقة عليهم محرّمة . وبعد ذلك جاء إليه مال البحرين وعنده جابر بن عبد الله الأنصاري ، فقال له : إن النبي قال لي : إذا أتى مال البحرين حثوث لك ، ثم حثوت لك ، ثلاثا، فقال له : تقدم فخذ بعددها ، فأخذ من بيت مال المسلمين من غير بيِّنة بل بمجرد قوله )) .
والجواب : أن في هذا الكلام من الكذب والبهتان والكلام الفاسد ما لا يكاد يحصى إلا بكلفة ،ولكن سنذكر من ذلك وجوها إن شاء الله تعالى .
أحدها : أن ما ذكر من ادّعاء فاطمة رضى الله عنها فَدَاك فإن هذا يناقض كونها ميراثا لها ، فإن كان طلبها بطريق الإرث امتنع أن يكون بطريق الهبة ، وإن كان بطريق الهبة امتنع أن يكون بطريق الإرث ، ثم إن كانت هذه هبة في مرض الموت ، فرسول الله منزّه ، إن كان يُورث كما يورث غيره ، أن يوصى لوارث أو يخصه في مرض موته بأكثر من حقه ، وإن كان في صحته فلا بد أن تكون هذه هبة مقبوضة ، وإلا إذا وهب الواهب بكلامه ولم يقبض الموهوب شيئا حتى مات الواهب كان ذلك باطلا عند جماهير العلماء ، فكيف يهب النبي فَدَك لفاطمة ولا يكون هذا أمرا معروفا عند أهل بيته والمسلمين ، حتى تختص بمعرفته أم أيمن أو علي رضى الله عنهما ؟
الوجه الثاني : أن ادعاء فاطمة ذلك كذب على فاطمة ، وقد قال الإمام أبو العباس بن سريج في الكتاب الذي صنَّفه في الرد على عيسى بن أبان لما تكلَّم معه في باب اليمين والشاهد ، واحتجّ بما احتجّ ، وأجاب عمَّا عارض به عيسى بن أبان ، قال : وأما حديث البحتري بن حسَّان عن زيد بن علي أن فاطمة ذكرت لأبي بكر أن رسول الله أعطاها فَدَك ، وأنها جاءت برجل وامرأة ، فقال : رجل مع رجل ، وامرأة مع امرأة، فسبحان الله ما أعجب هذا ! قد سألت فاطمة أبا بكر ميراثها وأخبرها عن رسول الله أنه قال : لا نُورث ، وما حكى في شيء من الأحاديث أن فاطمة ادّعتها بغير الميراث ، ولا أن أحدا شهد بذلك .
ولقد روى جرير عن مغيرة عن عمر بن عبد العزيز أنه قال في فَدَك: (( إن فاطمة سألت النبي أن يجعلها لها فأبى ، وأن النبي كان ينفق منها ويعود على ضَعَفَة بني هاشم ويزوّج منه أيِّمِهم، وكانت كذلك حياة الرسول أمر صدقة وقبلت فاطمة الحق ، وإني أُشهدكم أني رددتها إلى ما كانت عليه في عهد رسول الله .
ولم يُسمع أن فاطمة رضى الله عنها ادّعت أن النبي أعطاها إياها في حديث ثابت متصل ، ولا أن شاهداً شهد لها . ولو كان ذلك لحُكي ، لأنها خصومة وأمر ظاهر تنازعت فيه الأمة وتحادثت فيه ، فلم يقل أحد من المسلمين : شهدت النبي أعطاها فاطمة ولا سمعت فاطمة تدّعيها حتى جاء البحتري بن حسّان يحكى عن زيد شيئا لا ندري ما أصله ، ولا من جاء به ، وليس من أحاديث أهل العلم : فضل بن مرزوق عن البحتري عن زيد ، وقد كان ينبغي لصاحب الكتاب أن يكف عن بعض هذا الذي لا معنى له ، وكان الحديث قد حسن بقول زيد : لو كنت أنا لقضيت بما قضى أبو بكر . وهذا مما لا يثبت على أبي بكر ولا فاطمة لو لم يخالفه أحد ، ولو لم تجر فيه المناظرة ويأتي فيها الرواية ، فكيف وقد جاءت ؟ وأصل المذهب أن الحديث إذا ثبت عن رسول الله ، ثم قال أبو بكر بخلافه ، إن هذا من أبي بكر رحمه الله كنحو ما كان منه في الجدّة ، وأنه متى بلغه الخبر رجع إليه .
ولو ثبت هذا الحديث لم يكن فيه حجة ، لأن فاطمة لم تقل : إني أحلف مع شاهدي فمنعت . ولم يقل أبو بكر : إني لا أرى اليمين مع الشاهد .
قالوا : وهذا الحديث غلط ؛ لأن أسامة بن زيد يروى عن الزهري عن مالك بن أوس بن الحَدَثان قال : كانت لرسول الله ثلاث صفايا: بنو النضير ، وخيبر وفدك . فأما بنو النضير فكانت حُبساً لنوائبه . وأما فَدَك فكانت حُبُساً لأبناء السبيل ، وأما خيبر فجزَّأها رسول الله ثلاثة أجزاء : جزئين بين المسلمين ، وجزءاً نفقة لأهله ، فما فَضَلَ عن نفقة أهله جعله بين فقراء المهاجرين جزئين .
وروى الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أنها أخبرته أن فاطمة بنت رسول الله أرسلت إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها من رسول الله مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر،فقال أبو بكر:إن رسول الله قال:لا نورث ما تركنا صدقة،وإنما يأكل آل محمد من هذا المال،وإنى والله لا أغير شيئا من صدقة رسول الله عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله ، ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئا( ).
وقد روى عن أنس أن أبا بكر قال لفاطمة وقد قرأت عليه إني أقرأ مثل ما قرأت ولا يبلغن علمي أن يكون قاله كله . قالت فاطمة : هو لك ولقرابتك ؟ قال : لا وأنت عندي مصدَّقة أمينة ، فإن كان رسول الله عهد إليك في هذا ، أو وعدك فيه موعداً أو أوجبه لكم حقًّا صدَّقتك. فقالت:لاغيرأن رسول الله قال حين أنزل عليه : (( أبشروا يا آل محمد وقد جاءكم الله عز وجل بالغنى )). قال أبو بكر : صدق الله ورسوله وصدقت ، فلكم الفيء ، ولم يبلغ علمي بتأويل هذه أن أستلم هذا السهم كله كاملا إليكم ،ولكن الفيء الذي يسعكم . وهذا يبيِّن أن أبا بكر كان يقبل قولها ، فكيف يرده ومعه شاهد وامرأة؟ ولكنه يتعلق بشيء يجده .
الوجه الثالث : أن يقال : إن كان النبي يُورث فالخصم فيذلك أزواجه وعمه ، ولا تُقبل عليهم شهادة امرأة واحدة ولا رجل واحد بكتاب الله وسنة رسوله واتفاق المسلمين ، وإن كان لا يُورث فالخصم في ذلك المسلمون ، فكذلك لا يقبل عليهم شهادة امرأة واحدة ولا رجل واحد باتفاق المسلمين ، ولا رجل وامرأة . نعم يُحكم في مثل ذلك بشهادة ويمين الطالب عند فقهاء الحجاز وفقهاء أصحاب الحديث . وشهادة الزوج لزوجته فيها قولان مشهوران للعلماء ، هما روايتان عن أحمد : إحداهما : لا تُقبل ، وهي مذهب أبي حنيفة ومالك والليث بن سعد والأوزاعي وإسحاق وغيرهم .
والثانية : تُقبل ، وهي مذهب الإمام الشافعي وأبي ثور وابن المنذر وغيرهم . فعلى هذا لو قدِّر صحة هذه القصة لم يجز للإمام أن يحكم بشهادة رجل واحد وامرأة واحدة باتفاق المسلمين ، لا سيما وأكثرهم لا يجيزون شهادة الزوج ، ومن هؤلاء من لا يحكم بشاهد ويمين ، ومن يحكم بشاهد ويمين لم يحكم للطالب حتى يحلّفه .
الوجه الرابع : قوله : (( فجاءت بأم أيمن فشهدت لها بذلك ، فقال : امرأة لا يُقبل قولها . وقد رووا جميعا أن رسول الله قال: (( أم أيمن امرأة من أهل الجنة )) .
الجواب : أن هذا احتاج جاهل مفرط في الجهل يريد أن يحتج لنفسه فيحتج عليها ، فإن هذا القول لو قاله الحجّاج بن يوسف والمختار بن أبي عبيد وأمثالهما لكان قد قال حقّاً ، فإن امرأة واحدة لا يُقبل قولها في الحكم بالمال لمدعٍ يريد أن يأخذ ما هو في الظاهر لغيره ، فكيف إذا حُكى مثل هذا عن أبي بكر الصديق ؟!
وأما الحديث الذي ذكره وزعم أنهم رووه جميعا ، فهذا الخبر لا يعرف في شيء من دواوين الإسلام ولا يُعرف عالم من علماء الحديث رواه . وأم أيمن هي أم أسامة بن زيد ، وهي حاضنة النبي ، وهي من المهاجرات، ولها حق وحرمة ، لكن الرواية عن النبي لا تكون بالكذب عليه وعلى أهل العلم . وقول القائل : ((رووا جميعا )) لا يكون إلا في خبر متواتر ، فمن ينكر حديث النبي أنه لا يُورث ، وقد رواه أكابر الصحابة ، ويقول : إنهم جميعا رووا هذا الحديث ، إنما يكون من أجهل الناس وأعظمهم جحداً للحق .
الوجه الخامس : قوله :((إن عليًّا شهد لها فردّ شهادته لكونه زوجها)) فهذا مع أنه كذب لو صح ليس يقدح ، إذ كانت شهادة الزوج مردودة عند أكثر العلماء ، ومن قبلها منهم لم يقبلها حتى يتم النصاب إما برجل آخر وإما بامرأة مع امرأة ، وأما الحكم بشهادة رجل وامرأة مع عدم يمين المدّعي فهذا لا يسوغ .
الوجه السادس : قوله : إنهم رووا جميعا أن رسول الله قال : ((عليّ مع الحق ، والحق معه يدور حيث دار ،ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض )) من أعظم الكلام كذبا وجهلا ، فإن هذا الحديث لم يروه أحد عن النبي : لا بإسناد صحيح ولا ضعيف . فكيف يقال : إنهم جميعا رووا هذا الحديث ؟ وهل يكون أكذب ممن يروى عن الصحابة والعلماء أنهم رووا حديثا،والحديث لا يُعرف عن واحد منهم أصلا ؟ بل هذا من أظهر الكذب . ولو قيل رواه بعضهم ، وكان يمكن صحته لكان ممكنا ، فكيف وهو كذب قطعا على النبي ؟!
بخلاف إخباره أن أم أيمن في الجنة ، فهذا يمكن أنه قاله ، فإن أم أيمن امرأة صالحة من المهاجرات ، فإخباره أنها في الجنة لا يُنكر ، بخلاف قوله عن رجل من أصحابه أنه مع الحق وأن الحق يدور معه حيثما دار ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ؛ فإنه كلام ينزَّه عنه رسول الله .
أما أولا : فلأن الحوض إنما يَرِدُه عليه أشخاص ، كما قال للأنصار : (( اصبروا حتى تلقوني على الحوض ))( ) ، وقال : (( إن حوضي لأبعد من بين أيلة إلى عدن ، وإن أول الناس وروداً فقراء المهاجرين الشعث رؤوسا الدنس ثيابا الذين لا ينكحون المتنعّمات ولا تفتح لهم أبواب السدد ، يموت أحدهم وحاجته في صدره لا يجد لها قضاء )) رواه مسلم وغيره( ) .
وأما الحق فليس من الأشخاص الذين يردون الحوض . وقد روى أنه قال : (( إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتى أهل بيتي ، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض )) . فهو من هذا النمط ، وفيه كلام يذكر في موضعه إن شاء الله .
الوجه السابع : أن ما ذكره عن فاطمة أمر لا يليق بها ، ولا يحتج بذلك إلا رجل جاهل يحسب أنه يمدحها وهو يجرحها ؛ فإنه ليس فيما ذكره ما يوجب الغضب عليه ، إذ لم يحكم –لو كان ذلك صحيحا – إلا بالحق الذي لا يحل لمسلم أن يحكم بخلافه . ومن طلب أن يُحكم له بغير حكم الله ورسوله فغضب وحلف أن لا يكلِّم الحاكم ولا صاحب الحاكم ، لم يكن هذا مما يُحْمد عليه ولا مما يذم به الحاكم ، بل هذا إلى أن يكون جرحا أقرب منه إلى أن يكون مدحا . ونحن نعلم أن ما يحكى عن فاطمة وغيرها من الصحابة من القوادح كثير منها كذب وبعضها كانوا فيه متأولين . وإذا كان بعضها ذنبا فليس القوم معصومين ، بل هم مع كونهم أولياء الله ومن أهل الجنة لهم ذنوب يغفرها الله لهم .
وكذلك ما ذكره من إيصائها أن تُدفن ليلا ولا يُصلِّى عليها أحد منهم ، لا يحكيه عن فاطمة ويحتج به إلا رجلٌ جاهل يطرق على فاطمة ما لا يليق بها ، وهذا لو صح لكان بالذنب المغفور أوْلى منه بالسعي المشكور ، فإن صلاة المسلم على غيره زيادة خير تصل إليه ، ولا يضر أفضل الخلق أن يصلِّي عليه شر الخلق ، وهذا رسول الله يصلى عليه ويسلم عليه الأبرار والفجار بل والمنافقون ،وهذا إن لم ينفعه لم يضره ، وهو يعلم أن في أمته منافقين ولم ينه أحد من أمته عن الصلاة عليه .
وأما قوله : (( ورووا جميعا أن النبي قال : يا فاطمة إن الله يغضب لغضبك ، ويرضى لرضاك )) فهذا كذب منه ، ما رووا هذا عن النبي ، ولا يُعرف هذا في شيء من كتب الحديث المعروفة ، ولا له إسناد معروف عن النبي : لا صحيح ولا حسن . ونحن إذا شهدنا لفاطمة بالجنة ،وبأن الله يرضى عنها ، فنحن لأبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وطلحة والزبير وسعيد وعبد الرحمن بن عوف بذلك نشهد ، ونشهد بان الله تعالى أخبر برضاه عنهم في غير موضع، كقوله تعالى : وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارَ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍمْ وَرَضُوا عَنْه ( ) ، وقوله تعالى : َلقدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَة ( ) .وقد ثبت أن النبي توفى و هو عنهم راض ، ومن رضى الله عنه ورسوله لا يضره غضب أحد من الخلق عليه كائنا من كان.
وأما قوله : (( رووا جميعا أن فاطمة بضعة مني من آذاها آذاني ، ومن آذاني آذى الله )) فإن هذا الحديث لم يرو بهذا اللفظ ، بل روى بغيره ، كما روى في سياق حديث خطبة عليّ لابنة أبي جهل ، لما قام النبي خطيبا فقال : (( إن ابني هشام بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم عليّ بن أبي طالب ، وإني لا آذن ، ثم لا آذن، ثم لا آذن ، إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ، ويؤذيني ما آذاها ، إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم )).
الوجه الثامن : أن قوله :(( لو كان هذا الخبر صحيحاً حقاًّ لما جاز له ترك البغلة والسيف و العمامة عند عليّ والحكم له بها لما ادّعاها العباس )).
فيقال : ومن نقل أن أبا بكر وعمر حكما بذلك لأحد ، أو تركا ذلك عند أحد على أن ذلك ملك له ، فهذا من أبْيَن الكذب عليهما ، بل غاية ما في هذا أن يُترك عند من يُترك عنده ، كما ترك صدقته عند عليّ والعباس ليصرفاها في مصارفها الشرعية .
وأما قوله : (( ولكان أهل البيت الذين طهّرهم الله في كتابه مرتكبين ما لا يجوز )) .
فيقال له : أولاً : إن الله تعالى لم يخبر أنه طهّر جميع أهل البيت وأذهب عنهم الرجس ، فإن هذا كذب على الله . كيف ونحن نعلم أن في بني هاشم من ليس بمطهّر من الذنوب ،ولا أذهب عنهم الرجس ، لا سيما عند الرافضة ، فإن عندهم كل من كان من بني هاشم يحب أبا بكر عمرما فليس بمطهِّر ، والآية إنما قال فيها : َما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون ( )وقوله:ُيرِيدُ اللهُ ِليُبَين لَكُم وَيَهْدِيَكُم سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُم وَيَتُوبَ عَلَيْكُم ( ) ، ونحو ذلك مما فيه بيان أن الله يحب ذلك لكم،ويرضاه لكم،ويأمركم به فمن فعلة حصل له هذا المراد المحبوب المرضي ، ومن لم يفعله لم يحصل له ذلك
وأما قوله : ((لأن الصدقة محرمة عليهم )) .
فيقال له :أولا المحرم عليهم صدقة الفرض ، وأما صدقات التطوع فقد كانوا يشربون من المياه المسبّلة بين مكة والمدينة ، ويقولون : إنما حرّم علينا الفرض ، ولم يحَرّم علينا التطوع. وإذا جاز أن ينتفعوا بصدقات الأجانب التي هي تطوع ، فانتفاعهم بصدقة النبي أولى وأحرى؛ فإن هذه الأموال لم تكن زكاة مفروضة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أوساخ الناس التي حرّمت عليهم ، وإنما هي من الفيء الذي أفاءه الله على رسوله ، والفيء حلال لهم، والنبي جعل ما جعله الله له من الفيء صدقة ، إذ غايته أن يكون ملكا للنبي تصدّق به على المسلمين ، وأهل بيته أحق بصدقته ؛ فإن الصدقة على المسلمين صدقة ، والصدقة على القرابة صدقة وصلة .
الوجه التاسع : في معارضته بحديث جابر فيقال : جابر لم يدّع حقا لغيره يُنتزع من ذلك الغير ويُجعل له ، وإنما طلب شيئا من بيت المال يجوز للإمام أن يعطيه إياه ، ولو لم يعده به النبي ، فإذا وعده به كان أوْلى بالجواز ، فلهذا لم يفتقر إلى بيِّنة .
أما قصة فاطمة رضى الله عنها فما ذكروه من دعواها الهبة والشهادة المذكورة ونحو ذلك ، لو كان صحيحاً لكان بالقدح فيمن يحتجون له أشبه منه بالمدح .
(فصــــل)
قال الرافضي: (( وقد روى عن الجماعة كلهم أن النبي قال في حق أبي ذر : ((ما أقلَّت الغبراء ، ولا أظلَّت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر )) ، ولم يسمُّوه صدِّيقا ، وسمُّوا أبا بكر بذلك مع أنه لم يرد مثل ذلك في حقه )).
فيقال : هذا الحديث لم يروه الجماعة كلهم ، ولا هو في الصحيحين ، ولا هو في السنن ،بل هو مروي في الجملة وبتقدير صحته و ثبوته ، فمن المعلوم ان هذا الحديث لم يرد به أن أبا ذر أصدق من جميع الخلق ، فإن هذا يلزم منه أن يكون أصدق من النبي ، ومن سائر النبيين ، ومن عليّ بن أبي طالب وهذا خلاف إجماع المسلمين كلهم من السنة والشيعة، فعُلم أن هذه الكلمة معناها أن أبا ذر صادق ، ليس غيره أكثر تحرّيا للصدق منه . و لا يلزم إذا كان بمنزلة غيره في تحرّي الصدق ، أن يكون بمنزلته في كثرة الصدق والتصديق بالحق ، وفي عظم الحق الذي صَدَقَ فيه وصدّق به . وذلك أنه يقال : فلان صادق اللهجة إذا تحرّى الصدق ، وإن كان قليل العلم بما جاءت به الأنبياء ، والنبي لم يقل : ما أقلت الغبراء أعظم تصديقا من أبي ذر . بل قال : أصدق لهجة ، والمدح للصدّيق الذي صدَّق الأنبياء ليس بمجرد كونه صادقاً، بل في كونه مصدِّقاً للأنبياء . وتصديقه للنبي هو صدق خاص ، فالمدح بهذا التصديق –الذي هو صدق خاص –نوع ، والمدح بنفس كونه صادقاً من نوع آخر . فكل صدّيق صادق ، وليس كل صادق صدِّيقاً .
(فصـــــل )
قال الرافضي : (( وسمّوه خليفة رسول الله ، ولم يستخلفه في حياته ولا بعد وفاته عندهم ، ولم يسمّوا أمير المؤمنين خليفة رسول الله مع أنه استخلف في عدة مواطن ، منها : أنه استخلفه على المدينة المنورة في غزوة تبوك ، وقال له : إن المدينة لا تصلح إلا بي أو بك ، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي .
وأمّر أسامة بن زيد على الجيش الذين فيهم أبو بكر وعمر ، ومات ولم يعزله ، ولم يسمّوه خليفة ، ولما تولى أبو بكر غضب أسامة ، وقال : إن رسول الله أمّرني عليك ، فمن استخلفك عليّ ؟ فمشى إليه هو وعمر حتى استرضياه ، وكانا يسمّيانه مدة حياته أميراً )) .
والجواب من وجوه : أحدها : أن الخليفة إما أن يكون معناه : الذي يخلف غيره وإن كان لم يستخلفه ، كما هو المعروف في اللغة ، وهو قول الجمهور . وإما أن يكون معناه : من استخلفه غيره ، كما قاله طائفة من أهل الظاهر و الشيعة ونحوهم .فإن كان هو الأوّل ؛ فأبو بكر خليفة رسول الله ، لأنه خلفه بعد موته ، ولم يخلف رسول الله أحد بعد موته إلا أبو بكر ن فكان هو الخليفة دون غيره ضرورة ، فإن الشيعة وغيرهم لا ينازعون في أنه هو الذي صار وليّ الأمر بعده ، وصار خليفة له يصلّي بالمسلمين ، ويقيم فيهم الحدود ، ويقسم بينهم الفيء ، ويغزو بهم العدو ، ويولِّي عليهم العمال والأمراء ، وغير ذلك من الأمور التي يفعلها ولاة الأمور .
فهذه باتفاق الناس إنما باشرها بعد موته أبو بكر ، فكان هو الخليفة للرسول فيها قطعا . لكن أهل السنة يقولون : خلفه وكان هو أحق بخلافته والشيعة يقولون : عليّ كان هو الأحق لكن تصح خلافة أبي بكر ، ويقولون : ما كان يحلّ له أن يصير هو الخليفة ، لكن لا ينازعون في أنه صار خليفة بالفعل ، وهو مستحق لهذا الاسم ، إذ كان الخليفة من خَلَفَ غيره على كل تقدير.
وأما إن قيل : إن الخليفة من استخلفه غيره ، كما قاله بعض أهل السنة وبعض الشيعة ، فمن قال هذا من أهل السنة فإنه يقول : إن النبي استخلف أبا بكر إما بالنص الجليّ ، كما قال بعضهم ، وإما بالنص الخفيّ . كما أن الشيعة القائلين بالنص على عليّ منهم من يقول بالنص الجليّ ، كما تقوله الإمامية ، ومنهم من يقول بالنص الخفيّ ، كما تقوله الجارودية من الزيدية . ودعوى أولئك للنص الجليّ أو الخفيّ على أبي بكر أقوى وأظهر بكثير من دعوى هؤلاء للنص على عليّ ، لكثرة النصوص الدالّة على ثبوت خلافة أبي بكر، وأن عليّاً لم يدل على خلافته إلا ما يُعلم أنه كذب، أو يُعلم أنه لا دلالة فيه .
وعلى هذا التقدير فلم يستخلف بعد موته أحداً إلا أبا بكر ، فلهذا كان هو الخليفة ، فإن الخليفة المطلق هو من خلفه بعد موته ، أو استخلفه بعد موته. وهذان الوصفان لم يثبتا إلا لأبي بكر ؛ فلهذا كان هو الخليفة .
وأما استخلافه لعليّ على المدينة ، فذلك ليس من خصائصه ، فإن النبي كان إذا خرج في غزاة استخلف على المدينة رجلا من أصحابه ، كما استخلف ابن أم مكتوم تارة ، وعثمان ابن عفان تارة .
وإذا كان قد استخلف غير عليّ على أَكثر وأفضل مما استخلف عليه عليّاً ، وكان ذلك استخلافاً مقيّداً على طائفة معينة في مغيبه ، ليس هو استخلافاً مطلقاً بعد موته على أمته ، لم يطلق على أحد من هؤلاء أنه خليفة رسول الله إلا مع التقييد . وإذا سمّيَ عليّ بذلك فغيره من الصحابة المستخلفين أوْلى بهذا الاسم ، فلم يكن هذا من خصائصه .
وأيضا فالذي يخلف المَطاع بعد موته لا يكون إلا أفضل الناس . وأما الذي يخلفه في حال غزوه لعدوه ، فلا يجب أن يكون أفضل الناس ، بل العادة جارية بأنه يستصحب في خروجه لحاجته إليه في المغازي من يكون عنده أفضل ممن يستخلفه على عياله ، لأن الذي ينفع في الجهاد هو شريكه فيما يفعله ، فهو أعظم ممن يخلفه على العيال ، فإن نفع ذاك ليس كنفع المشارك له في الجهاد .
والنبي إنما شبه عليّاً بهارون في أصل الاستخلاف لا في كماله ، ولعليّ شركاء في هذا الاستخلاف . يبين ذلك أن موسى لما ذهب إلى ميقات ربه لم يكن معه أحد يشاركه في ذلك ، فاستخلف هارون على جميع قومه . والنبي لما ذهب إلى غزوة تبوك أخذ معه جميع المسلمين إلا المعذور ، ولم يستخلف عليّاً إلا على العيال وقليل من الرجال ، فلم يكن استخلافه كاستخلاف موسى لهارون ، بل ائتمنه في حال مغيبه ، كما ائتمن موسى هارون في حال مغيبه ، فبيّن له النبي أن الاستخلاف ليس لنقص مرتبة المستخلَف ، بل قد يكون لأمانته كما استخلف موسى هارون على قومه ، وكان عليّ خرج إليه يبكي وقال : أتذرني مع الصبيان والنساء ؟ كأنه كره أن يتخلف عنه .
وأما قوله : (( إنه قال له : إن المدينة لا تصلح إلا بي أو بك )) فهذا كذب على النبي لا يُعرف في كتب العلم المعتمدة . ومما يبين كذبه أن النبي خرج من المدينة غير مرة ومعه عليّ. وليس بالمدينة لا هو ولا عليّ. فكيف يقول : إن المدينة لا تصلح إلا بي أو بك ؟
والرافضة من فرط جهلهم يكذبون الكذب الذي لا يخفى على من له بالسيرة أدنى علم .
وأما قوله : (( إنه أمّر أسامة على الجيش الذين فيهم أبو بكر وعمر )) .
فمن الكذب الذي يعرفه من له أدنى معرفة بالحديث ؛ فإن أبا بكر لم يكن في ذلك الجيش ، بل كان النبي يستخلفه في الصلاة من حين مرض إلى أن مات ، وأسامة قد رُوي أنه قد عقد له الراية قبل مرضه ، ثم لما مرض أمر أبا بكر أن يصلِّي بالناس ، فصلى بهم إلى أن مات النبي ، فلو قدر أنه أُمر بالخروج مع أسامة قبل المرض لكن أمره له بالصلاة تلك المدة ، مع إذنه لأسامة أن يسافر في مرضه ، موجبا لنسخ إمرة أسامة عنه ، فكيف إذا لم يؤمَّر عليه أسامة بحال ؟
وقوله : (( ومات ولم يعزله )).
فأبو بكر أنفذ جيش أسامة بعد أن أشار الناس عليه برده خوفا من العدو . وقال : والله لا أحلَ راية عقدها رسول الله ، مع أنه كان يملك عزله ، كما كان يملك ذلك رسول الله ، لأنه قام مقامه ، فيعمل ما هو أصلح للمسلمين .
وأما ما ذكره من غضب أسامة لما تولَّى أبو بكر ، فمن الأكاذيب السمجة ، فإن محبة أسامة لأبي بكر وطاعته له أشهر وأعرف من أن تُنكر ، وأسامة من أبعد الناس عن الفرقة والاختلاف ، فإنه لم يقاتل لا مع عليّ ولا مع معاوية واعتزل الفتنة . وأسامة لم يكن من قريش ، ولا ممن يصلح للخلافة ، ولا يخطر بقلبه أن يتولاها ، فأي فائدة له في أن يقول مثل هذا القول لأيّ من تولى الأمر ، مع علمه أنه لا يتولّى الأمر أحد إلا كان خليفة عليه ، ولو قدِّر أن النبي أمّره على أبي بكر ثم مات ، فبموته صار الأمر إلى الخليفة من بعده ، وإليه الأمر في إنفاذ الجيش أو حبسه ، وفي تأمير أسامة أو عزله . وإذا قال : أمّرني عليك فمن استخلفك عليّ ؟ قال : من استخلفني على جميع المسلمين ، وعلى من هو أفضل منك . وإذا قال : أنا أمَّرني عليك . قال : أمَّرك عليّ قبل أن أُستخلف، فبعد أن صرت خليفة صرت أنا الأمير عليك .
ومثل هذا لا ينكره إلا جاهل . وأسامة أعقل وأتقى وأعلم من أن يتكلم بمثل هذا الهذيان لمثل أبي بكر .
وأعجب من هذا قول هؤلاء المفترين : أنه مشى هو وعمر إليه حتى استرضياه ، مع قولهم : إنهما قهرا عليّاً وبني هاشم وبني عبد مناف ،ولم يسترضياهم ،وهم أعز وأقوى وأكثر وأشرف من أسامة ، فأي حاجة بمن قهروا بني هاشم وبني أمية وسائر بني عبد مناف ، وبطون قريش والأنصار والعرب ، إلى أن يسترضوا أسامة بن زيد ، وهو من أضعف رعيتهم ، ليس له قبيلة ولا عشيرة ، ولا معه مال ولا رجال ، ولولا حب النبي إياه وتقديمه له لم يكن إلا كأمثاله من الضعفاء ؟.
فإن قلتم : إنهما استرضياه لحب النبي له . فأنتم تقولون : إنهم بدّلوا عهده ، وظلموا وصيَّه وغصبوه ، فمن عصى الأمر الصحيح ، وبدل العهد البيّن ، وظلم واعتدى وقهر ، ولم يلتفت إلى طاعة الله ورسوله ، ولم يرقب في آل محمد إلاًّ ولا ذمة ، يراعى مثل أسامة بن زيد ويسترضيه ؟ وهو قد ردّ شهادة أم أيمن ولم يسترضيها ، وأغضب فاطمة وآذاها ، وهي أحق بالاسترضاء . فمن يفعل هذا أي حاجة به إلى استرضاء أسامة بن زيد ؟ وإنما يُسترضى الشخص للدين أو للدنيا ، فإذا لم يكن عندهم دين يحملهم على استرضاء من يجب استرضاؤه ، ولا هم محتاجون في الدنيا إليه ، فأي داع يدعوهم إلى استرضائه ؟! والرافضة من جهلهم وكذبهم يتناقضون تناقضا كثيراً بيِّناً إذ هم في قول مختلف ، يُوفك عنه من أُفك.
( فصــــل )
قال الرافضي : (( وسمّوا عمر الفاروق ، ولم يسموا عليّاً عليه السلام بذلك ، مع أن رسول الله قال فيه : هذا فاروق أمتي يفرق بين أهل الحق والباطل . وقال ابن عمر : ما كنا نعرف المنافقين على عهد النبي إلا ببغضهم عليّاً عليه السلام )) .
فيقال : أوّلا : أما هذان الحديثان فلا يستريب أهل المعرفة بالحديث أنهما حديثان موضوعان مكذوبان على النبي ولم يرو واحدٌ منهما في شيء من كتب العلم المعتمدة ، ولا لواحد منهما إسناد معروف.
ويقال : ثانيا : من احتج في مسألة فرعية بحديث فلا بد ان يسنده ، فكيف في مسائل أصول الدين ؟ وإلا فمجرد قول القائل : (( قال رسول الله )) ليس حجة باتفاق أهل العلم . ولو كان حجة لكان كل حديث قال فيه واحد من أهل السنة : (( قال رسول الله )) حجة ، ونحن نقنع في هذا الباب بأن يُرْوى الحديثُ بإسناد معروفون بالصدق من أي طائفة كانوا .
لكن إذا لم يكن الحديث له إسناد ، فهذا الناقل له ، وإن كان لم يكذبه بل نقله من كتاب غيره ، فذلك الناقل لم يعرف عمّن نقله . ومن المعروف كثرة الكذب في هذا الباب وغيره ، فكيف يجوز لأحد أن يشهد على رسول الله بما لم يعرف إسناده ؟
ويقال : ثالثا : من المعلوم لكل من له خبرة أن أهل الحديث أعظم الناس بحثاً عن أقوال النبي ، وطلبا لعلمها ، وأرغب الناس في اتّباعها ، وأبعد الناس عن اتّباع هوىً يخالفها ، فلو ثبت عندهم أن النبي قال لعليّ هذا ، لم يكن أحد من الناس أوْلى منهم باتّباع قوله ، فإنهم يتّبعون قوله إيماناً به ، ومحبة لمتابعته ، ولا لغرض لهم في الشخص الممدوح .
فلو ثبت عندهم أن النبي – قال لعليّ : هذا فاروق أمتي ، لقبلوا ذلك ،ونقلوه ، كما نقلوا قوله لأبي عبيدة: (( هذا أمين هذه الأمة ))( )وقوله للزبير:(( إن لكل نبي حوارىّ وحوارىّ الزبير ))( ) وكما قبلوا ونقلوا قوله لعليّ (( لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله ))( ) وحديث الكساء لما قال لعليّ وفاطمة وحسن وحسين :(( اللهم هؤلاء أهل بيتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهِّرهم تطهيراً ))( ) وأمثال ذلك .
ويقال : رابعا : كلٌّ من الحديثين يُعلم بالدليل أنه كذب ، لا يجوز نسبته إلى النبي . فإنه يقال : ما المعنى بكون عليّ أو غيره فاروق هذه الأمة يفرق بين الحق والباطل ؟ إن عنى بذلك أنه يميّز بين أهل الحق والباطل، فيميّز بين المؤمنين والمنافقين ، فهذا أمر لا يقدر عليه أحدٌ من البشر: لا نبي ولا غيره . وقد قال تعالى: ِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُم نَحْنُ نَعْلَمُهُم ( ) كان النبي لا يعلَم عينَ كل منافق في مدينته وفيما حولها ، فكيف يعلم ذلك غيره ؟
ومحبة الرافضة لعليّ باطلة ، فإنهم يحبّون ما لم يوجد ، وهو الإمام المعصوم المنصوص على إمامته ، الذي لا إمام بعد النبي إلا هو ، الذي كان يعتقد أن أبا بكر وعمر رضى الله عنهما ظالمان معتديان أو كافران ، فإذا تبيّن لهم يوم القيامة أن عليّاً لم يكن أفضل من واحد من هؤلاء ، وإنما غايته أن يكون قريباً من أحدهم ، وأنه كان مقرّاً بإمامتهم وفضلهم ، ولم يكن معصوما لا هو ولا هم ولا كان منصوصا على إمامته ، تبين لهم أنهم لم يكونوا يحبون عليّاً ، بل هم من أعظم الناس بغضاً لعلي ّ في الحقيقة ، فإنهم يبغضون من اتصف بالصفات التي كانت في عليّ أكمل منها في غيره : من إثبات إمامة الثلاثة وتفضيلهم ، فإن عليًّا كان يفضّلهم ويقرُّ بإمامتهم . فتبيَّن أنهم مبغضون لعليّ قطعا .
وبهذا يتبين الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عليّ أنه قال: إنه لعهد النبي الأميّ إليّ أنه((لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلامنافق ))( )إن كان هذا محفوظا ثابتا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الرافضة لا تحبه على ما هو عليه ، بل محبتهم من جنس محبة اليهود لموسى والنصارى لعيسى ، بل الرافضة تبغض نعوت عليّ وصفاته ، كما تبغض اليهود والنصارى نعوت موسى وعيسى ، فإنهم يبغضون من أقر نبوة محمد ، وكانا مقرين بها صلى الله عليهم أجمعين .
(فصـــــل)
قال الرافضي : (( وأعظموا أمر عائشة على باقي نسوانه ، مع أنه عليه السلام كان يكثر من ذكر خديجة بنت خويلد ، وقالت له عائشة : إنك تكثر من ذكرها ، وقد أبدلك الله خيرا منها . فقال : والله ما بُدِّلت بها ما هو خير منها ؛ صدَّقتني إذ كذبني الناس ، وآوتني إذ طردني الناس ، وأسعدتني بمالها ، ورزقني الله الولد منها ، ولم أرزق من غيرها )).
والجواب أولا : أن يقال : إن أهل السنة ليسوا مجمعين على أن عائشة أفضل نسائه ، بل قد ذهب إلى ذلك كثير من أهل السنة ، واحتجوا بما في الصحيحين عن أبي موسى وعن أنس رضى الله عنهما أن النبي قال:((فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ))( ).
والثريد هو أفضل الأطعمة لأنه خبز ولحم ، كما قال الشعر :
إذا مـا الخـبز تأدمــه بلحــم فـذاك أمـانـة الله الثــريـد
وذلك أن البُرّ أفضل الأقوات ، واللحم أفضل الآدام ، كما في الحديث الذي رواه ابن قتيبة وغيره عن النبي أنه قال : (( سيد إدام أهل الدنيا والآخرة اللحم ))( ). فإذا كان اللحم سيد الآدام ، والبُرُّ سيد الأقوات ، ومجموعها الثريد ، لكان الثريد أفضل الطعام . وقد صح من غير وجه عن الصادق المصدوق أنه قال : (( فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام )).
وفي الصحيح عن عمرو بن العاص قال : قلت يا رسول الله : أي الناس أحب إليك ؟ قال : (( عائشة )) . قلت : من الرجال ؟ قال : (( أبوها )) . قلت : ثم من ؟ قال : ((عمر)) وسمّى رجالا( ) .
وهؤلاء يقولون : قوله لخديجة : (( ما أبدلني الله بخير منها )) : إن صح معناه: ما أبدلني بخير لي منها ؛ لأن خديجة نفعته في أول الإسلام نفعا لم يقم غيرها فيه مقامها ، فكانت خيرا له من هذا الوجه ، لكونها نفعته وقت الحاجة ، لكن عائشة صحبته في آخر النبوة وكمال الدين ، فحصل لها من العلم والإيمان ما لم يحصل لمن لم يدرك إلا أول زمن النبوة ، فكانت أفضل بهذه الزيادة ، فإن الأمة انتفعت بها أكثر مما انتفعت بغيرها ،وبلغت من العلم والسنة ما لم يبلغه غيرها ، فخديجة كان خيرها مقصورا على نفس النبي ، لم تبلِّغ عنه شيئاً ، ولم تنتفع بها الأمة كما انتفعوا بعائشة ، ولا كان الدين قد كمل حتى تعلمه ويحصل لها من كمال الإيمان به ما حصل لمن علمه وآمن به بعد كماله .
( فصـــــل)
قال الرافضي : (( وأذاعت سر رسول الله صلى لله عليه وسلم ، وقال لها النبي : إنك تقاتلين عليًّا وأنت ظالمة له ، ثم إنها خالفت أمر الله في قوله تعالى : وقرن في بيوتكن ، وخرجت في ملأ من الناس لتقاتل عليًّا على غير ذنب ، لأن المسلمين أجمعوا على قتل عثمان ، وكانت هي في كل وقت تأمر بقتله ، وتقول اقتلوا نعثلا ، قتل الله نعثلا ، ولما بلغها قتله فرحت بذلك، ثم سألت : من تولى الخلافة ؟ فقالوا عليّ. فخرجت لقتاله على دم عثمان ، فأي ذنب كان لعليّ على ذلك ؟ وكيف استجاز طلحة والزبير وغيرهما مطاوعتها على ذلك ؟ وبأي وجه يلقون رسول الله ؟ مع أن الواحد منا لو تحدث مع امرأة غيره وأخرجها من منزلها وسافر بها كان أشد الناس عداوة له ، وكيف أطاعها على ذلك عشرات ألوف من المسلمين ، وساعدوها على حرب أمير المؤمنين ، ولم ينصر أحد منهم بنت رسول الله لما طلبت حقها من أبي بكر ، ولا شخص واحد كلَّمه بكلمة واحدة )) .
والجواب : أن يقال : أما أهل السنة فإنهم في هذا الباب وغيره قائمون بالقسط شهداء لله ، وقولهم حق وعدل لا يتناقض . وأما الرافضة وغيرهم من أهل البدع ففي أقوالهم من الباطل والتناقض ما ننبِّه إن شاء الله تعالى على بعضه ، وذلك أن أهل السنة عندهم أن أهل بدر كلهم في الجنة ، وكذلك أمّهات المؤمنين : عائشة وغيرها ، وأبو بكر وعمر وعثمان وعليّ وطلحة والزبير هم سادات أهل الجنة بعد الأنبياء ، وأهل السنة يقولون : إن أهل الجنة ليس من شرطهم سلا متهم عن الخطأ ، بل ولا عن الذنب ، بل يجوز أن يذنب الرجل منهم ذنبا صغيراً أو كبيراً ويتوب منه . وهذا متفق عليه بين المسلمين ، ولو لم يتب منه فالصغائر مغفورة باجتناب الكبائر عند جماهيرهم، بل وعند الأكثرين منهم أن الكبائر قد تمحى بالحسنات التي هي أعظم منها ، وبالمصائب المكفِّرة وغير ذلك .
وإذا كان هذا أصلهم فيقولون : ما يذكر عن الصحابة من السيّئات كثير منه كذب ، وكثير منه كانوا مجتهدين فيه ، ولكن لم يعرف كثير من الناس وجه اجتهادهم ، وما قُدِّر أنه كان فيه ذنب من الذنوب لهم فهو مغفور لهم : إما بتوبة ، وإما بحسنات ماحية ، وإما بمصائب مكفِّرة ، وإما بغير ذلك؛ فإنه قد قام الدليل الذي يجب القول بموجبه : إنهم من أهل الجنة فامتنع أن يفعلوا ما يوجب النار لا محالة ، وإذا لم يمت أحد منهم ، على موجب النار لم يقدح ما سوى ذلك في استحقاقهم للجنة . ونحن قد علمنا أنهم من أهل الجنة، ولو لم يُعلم أن أولئك المعيَّنين في الجنة لم يجز لنا أن نقدح في استحقاقهم للجنة بأمور لا نعلم أنها توجب النار ، فإن هذا لا يجوز في آحاد المؤمنين الذين لم يُعلم أنهم يدخلون الجنة ، ليس لنا أن نشهد لأحد منهم بالنار لأمور محتملة لا تدل على ذلك ، فكيف يجوز مثل ذلك في خيار المؤمنين ، والعلم بتفاصيل أحوال كل واحد واحد منهم باطنا وظاهرا ، وحسناته وسيئاته واجتهاداته ، أمر يتعذر علينا معرفته ؟! فكان كلامنا في ذلك كلاماً فيما لا نعلمه ،والكلام بلا علم حرام ، فلهذا كان الإمساك عمّا شجر بين الصحابة خيراً من الخوض في ذلك بغير علم بحقيقة الأحوال ، إذ كان كثير من الخوض في ذلك – أو أكثره – كلاماً بلا علم ، وهذا حرام لو لم يكن فيه هوىً ومعارضة الحق المعلوم ، فكيف إذا كان كلاماً بهوىً يطلب فيه دفع الحق المعلوم؟
وأما قوله : (( وأذاعت سرَّ رسول الله )) فلا ريب أن الله تعالى يقول : وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنيَِ الْعَلِيمُ الْخَبِير( ) .
وقد ثبت في الصحيح عن عمر أنها عائشة وحفصة( ) .
فيقال : أولا : هؤلاء يعمدون إلى نصوص القرآن التي فيها ذكر ذنوبٍ ومعاصٍ بيّنة لمن نصّت عنه من المتقدمين يتأوّلون النصوص بأنواع التأويلات ، وأهل السنة يقولون : بل أصحاب الذنوب تابوا منها ورفع الله درجاتهم بالتوبة .
وهذه الآية ليست أوْلى في دلالتها على الذنوب من تلك الآيات ، فإن كان تأويل تلك سائغا كان تأويل هذه كذلك ، وإن كان تأويل هذه باطلا فتأويل تلك أبطل .
ويقال: ثانيا : بتقدير أن يكون هناك ذنب لعائشة وحفصة ، فيكونان قد تابتا منه. وهذا ظاهر لقوله تعالى : إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما ، فدعاهما الله تعالى إلى التوبة ، فلا يظن بهما أنهما لم يتوبا ، مع ما ثبت من علو درجتهما ، وأنهما زوجتا نبيّنا في الجنة ، وأن الله خيرهن بين الحياة الدنيا وزينتها وبين الله ورسوله والدار الآخرة ، فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة ، ولذلك حرّم الله عليه أن يتبَدّل بهن غيرهن ، وحرم عليه أن يتزوج عليهن ،واختُلف في إباحة ذلك له بعد ذلك ،ومات عنهن وهن أمهات المؤمنين بنص القرآن . ثم قد تقدَّم أن الذنب يُغفر ويُعفى عنه بالتوبة وبالحسنات الماحية وبالمصائب المكفرة .
ويقال : ثالثا : المذكور عن أزواجه كالمذكور عمّن شُهد له بالجنة من أهل بيته وغيرهم من الصحابة ، فإن عليًّا لما خطب ابنة أبي جهل على فاطمة، وقام النبي خطيبا فقال : (( إن بني المغيرة استأذنوني أن ينكحوا عليًّا ابنتهم ، وإني لا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن ، إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي ويتزوج ابنتهم ، إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها )) فلا يُظن بعلي أنه ترك الخطبة في الظاهر فقط ، بل تركها بقلبه وتاب بقلبه عما كان طلبه وسعى فيه.
وأما الحديث الذي رواه وهو قوله لها:((تقاتلين عليًّا وأنت ظالمة له )) فهذا لا يُعرف في شيء من كتب العلم المعتمدة ، ولا له إسناد معروف ،وهو بالموضوعات المكذوبات أشبه منه بالأحاديث الصحيحة ، بل هو كذب قطعاً ، فإن عائشة لم تقاتل ولم تخرج لقتال ، وإنما خرجت لقصد الإصلاح بين المسلمين ، وظنت أن في خروجها مصلحة للمسلمين ، ثم تبين لها فيما بعد أن ترك الخروج كان أوْلى ، فكانت إذا ذكرت خروجها تبكي حتى تبل خمارها .
وأما قوله : (( وخالفت أمر الله في قوله تعالى : وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى( ) .فهي لم تتبرج تبرج الجاهلية الأولى. والأمر بالاستقرار في البيوت لا ينافي الخروج لمصلحة مأمور بها ، كما لو خرجت للحج وللعمرة أو خرجت مع زوجها في سفره ، فإن هذه الآية قد نزلت في حياة النبي ، وقد سافر بهن رسول الله بعد ذلك كما سافر في حجة الوداع بعائشة رضى الله عنها وغيرها ، وأرسلها مع عبد الرحمن أخيها فأردفها خلفه ، وأعمرها من التنعيم .
وأما قوله :(( إنها خرجت في ملأ من الناس تقاتل عليًّا من غير ذنب)) .
فهذا أولا : كذب عليها . فإنها لم تخرج لقصد القتال ، ولا كان أيضا طلحة والزبير قصدهما قتال عليّ ، ولو قدر أنهم قصدوا القتال ، فهذا هو القتال المذكور في قوله تعالى : وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيء إِلَى أَمْرِ الله فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين . إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُم ( ) فجعلهم مؤمنين أخوة مع الاقتتال. وإذا كان هذا ثابتا لمن هو دون أولئك المؤمنين فهم به أوْلى وأحرى.
وأما قوله : (( إن المسلمين أجمعوا على قتل عثمان )) .
فجوابه من وجوه : أحدها : أن يقال : أولا : هذا من أظهر الكذب وأَبينه ؛ فإن جماهير المسلمين لم يأمروا بقتله ، ولا شاركوا في قتله ، ولا رضوا بقتله .
أما أولا : فلأن أكثر المسلمين لم يكونوا بالمدينة ، بل كانوا بمكة واليمن والشام والكوفة والبصرة ومصر وخراسان ، وأهل المدينة بعض المسلمين .
وأما ثانيا : فلأن خيار المسلمين لم يدخل واحد منهم في دم عثمان لا قتل ولا أمر بقتله ، وإنما قتله طائفة من المفسدين في الأرض من أوباش القبائل وأهل الفتن ، وكان علي ّ يحلف دائما : (( إني ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله )) ويقول : (( اللهم العن قتلة عثمان في البر والبحر والسهل والجبل )) . وغاية ما يقال : إنهم لن ينصروه حق النصرة ، وأنه حصل نوع من الفتور والخذلان ، حتى تمكن أولئك المفسدون . ولهم في ذلك تأويلات ، وما كانوا يظنون أن الأمر يبلغ إلى ما بلغ ، ولو علموا ذلك لسدّوا الذريعة وحسموا مادة الفتنة .
الثاني : أن هؤلاء الرافضة في غاية التناقض والكذب ؛ فإنه من المعلوم أن الناس أجمعوا على بيعة عثمان ما لم يجمعوا على قتله ؛ فإنهم كلهم بايعوه في جميع الأرض . فإن جاز الاحتجاج بالإجماع الظاهر ، فيجب أن تكون بيعته حقاًّ لحصول الإجماع عليها . وإن لم يجز الاحتجاج به ، بطلت حجتهم بالإجماع على قتله . لا سيما ومن المعلوم أنه لم يباشر قتله إلا طائفة قليلة . ثم إنهم ينكرون الإجماع على بيعته، ويقولون : إنما بايع أهل الحق منهم خوفا وكرها . ومعلوم أنهم لو اتفقوا كلهم على قتله ، وقال قائل : كان أهل الحق كارهين لقتله لكن سكتوا خوفا وتقيَّة على أنفسهم ، لكان هذا أقرب إلى الحق ، لأن العادة قد جرت بأن من يريد قتل الأئمة يخيف من ينازعه ، بخلاف من يريد مبايعة الأئمة ، فإنه لا يخيف المخالف ، كما يخيف من يريد قتله ، فإن المريدين للقتل أسرع إلى الشر وسفك الدماء وإخافة الناس من المريدين للمبايعة . فقول أهل السنّة خبر صادق وقول حكيم ، وقول الرافضة خبر كاذب وقول سفه ، فأهل السنّة يقولون الأمير والإمام والخليفة ذو السلطان الموجود ، الذي له القدرة على عمل مقصود الولاية ، كما أن إمام الصلاة هو الذي يصلي بالناس ، وهم يأتمون به ليس إمام الصلاة من يستحق أن يكون إماما وهو لا يصلي بأحد ، لكن هذا ينبغي أن يكون إماما ، والفرق بين الإمام وبين من ينبغي أن يكون هو الإمام لا يخفى على الطغام .
ويقولون أنه يعاون على البر والتقوى ، دون الإثم والعدوان ، ويطاع في طاعة الله دون معصيته ، ولا يخرج عليه بالسيف ، وأحاديث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إنما تدل على هذا .
كما في الصحيحين ، عن ابن عباس –رضي الله عنهما – عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال:((من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبرعليه ، فإنه ليس أحد من الناس يخرج عن السلطان شبرا فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية ))( ) فجعل المحذور هو الخروج عن السلطان ومفارقة الجماعة وأمر بالصبر على ما يكره من الأمير لم يخص بذلك سلطاناً معيناً ولا أميرا معينا ولا جماعة معينة .
(قال الرافضي الفصل الثاني في أن مذهب الإمامية واجب الاتباع)
ومضمون ما ذكره أن الناس اختلفوا بعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيجب النظر في الحق واعتماد الإنصاف ، ومذهب الإمامية واجب الاتباع لأربعة وجوه ، لأنه أحقها ، وأصدقها ، ولأنهم باينوا جميع الفرق في أصول العقائد ، ولأنهم جازمون بالنجاة لأنفسهم ، ولأنهم أخذوا دينهم عن الأئمة المعصومين ، وهذا حكاية لفظه .
قال الرافضي : أنه لما عمت البلية بموت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم –واختلف الناس بعده ، وتعددت آراؤهم ، بحسب تعدد أهوائهم ، فبعضهم طلب الأمر لنفسه بغير حق ، وبايعه أكثر الناس للدنيا ، كما اختار عمرو بن سعد ملك الرى أياما يسيرة ، لما خير بينه وبين قتل الحسين مع علمه ، بأن من قتله في النار ، واختياره ذلك في شعره حيث يقول :
فوالله ما أدري وإني لصادق أفـكرفي أمـر على خطرين
أاترك ملك الرىّ والرى منيتي أم أصبـح مأثوما بقتل حسين
وفي قتله النار التي ليس دونها حجاب وملك الرىّ قرة عيني
وبعضهم اشتبه الأمر عليه ، ورأى لطالب الدنيا مبايعا ، فقلده وبايعه وقصر في نظره ، فخفى عليه الحق فاستحق المؤاخذة من الله تعالى بإعطاء الحق لغير مستحقه بسبب إهمال النظر ، وبعضهم قلد لقصور فطنته ، ورأى الجم الغفير فتابعهم ، وتوهم أن الكثرة تستلزم الصواب ، وغفل عن قوله تعالى : وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ( ) وَقَلِيلُ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُور ( ) وبعضهم طلب الأمر لنفسه بحق له وبايعه الأقلون الذين أعرضوا عن الدنيا وزينتها ، ولم يأخذهم في الله لومة لائم بل أخلصوا لله واتبعوا ما أمروا به من طاعة من يستحق التقديم .
وحيث حصل للمسلمين هذه البلية ، وجب على كل أحد النظر في الحق واعتماد الإنصاف ، وأن يقر الحق مستقره ، ولا يظلم مستحقه ، فقد قال تعالى : أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِين ( ) و إنما كان مذهب الإمامية واجب الاتباع لوجوه هذا لفظه .
فيقال: أنه قد جعل المسلمين بعد نبيهم أربعة أصناف ،، وهذا من أعظم الكذب فإنه لم يكن من في الصحابة المعروفين أحد من هذه الأصناف الأربعة، فضلا عن أن لا يكون فيهم أحد إلا من هذه الأصناف .
إما طالب للأمر بغير حق كأبي بكر في زعمه . وإما طالب للأمر بحق كعلي في زعمه .
وهذا كذب على علي ، وعلى أبي بكر ، فلا علي طلب الأمر لنفسه قبل قتل عثمان ، ولا أبو بكر طلب الأمر لنفسه فضلا عن أن يكون طلبه بغير حق .
وجعل القسمين الآخرين إما مقلدا لأجل الدنيا، وإما مقلدا لقصوره في النظر، وذلك أن الإنسان يجب عليه ان يعرف الحق وأن يتبعه ، وهو الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم ، من النبيين والصديقين ، والشهداء والصالحين ، غير المغضوب عليهم ، ولا الضالين . وهذا هو الصراط الذي أمرنا أن نسأله هدايتنا إياه ، في كل صلاة بل في كل ركعة .
وهذه الأمة خير الأمم ، وخيرها القرن الأول ، كان القرن الأول أكمل الناس في العلم النافع ، والعمل الصالح .
وهؤلاء المفترون وصفوهم بنقيض ذلك ، بأنهم لم يكونوا يعلمون الحق ويتبعونه ، بل كان أكثرهم عندهم يعلمون الحق ويخالفونه ، كما يزعمون في الخلفاء الثلاثة ، وجمهور الصحابة ، والأمة ، وكثير منهم عندهم لا يعلم الحق ، بل اتبع الظالمين تقليداً لعدم نظرهم المفضى إلى العلم ، والذي لم ينظر قد يكون تركه النظر لأجل الهوى وطلب الدنيا ، وقد يكون لقصوره ونقص إدراكه .
وادعى أن منهم من طلب الأمر لنفسه بحق يعني علياً ، وهذا مما علمنا بالاضطرار أنه لم يكن ، فلزم من ذلك على قول هؤلاء أن تكون الأمة كلها كانت ضالة ، بعد نبيها ليس فيها مهتد .
فتكون اليهود ولنصارى بعد النسخ والتبديل خيراً منهم ، لأنهم كما قال تعالى: وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةً يَهْدُونَ بِالحَقِّ وَهُمْ يَعْدِلُون ( ) . وقد أخبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن اليهود والنصارى افترقت على أكثرمن سبعين فرقة ، فيها واحدة ناجية ، وهذه الأمة على موجب ما ذكروه لم يكن فيهم بعد موت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أمة تقوم بالحق ولا تعدل به، وإذا لم يكن ذلك في خيار قرونهم ففيما بعد ذلك أولى .
فيلزم من ذلك ان يكون اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل خيرا من خير أمة أخرجت للناس ، فهذا لازم لما يقوله هؤلاء المفترون ، فإذا كان هذا في حكايته لما جرى عقب موت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من اختلاف الأمة ، فكيف سائر ما ينقله ويستدل به ، ونحن نبين ما في هذه الحكاية من الأكاذيب من وجوه كثيرة، فنقول :
ما ذكره هذا المفترى من قوله : أنه لما عمت البلية على كافة المسلمين بموت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم . واختلف الناس بعده ، وتعددت آراؤهم بحسب تعدد أهوائهم ، فبعضهم طلب الأمر لنفسه ، وتابعه أكثر الناس طلباً للدنيا ، كما اختار عمر بن سعد ، ملك الرى أياما يسيرة لما خير بينه وين قتل الحسين ، مع علمه بان في قتله النار واختياره ذلك في شعره .
فيقال في هذا الكلام من الكذب ، والباطل وذم خيار الأمة ، بغير حق ما لا يخفى من وجوه . (أحدهما ) :قوله تعددت آراؤهم بحسب تعدد أهوائهم ، فيكون كلهم متبعين أهوائهم ، ليس فيهم طالب حق ، ولا مريد لوجه الله تعالى والدار الآخرة ، ولا من كان قوله عن اجتهاد واستدلال .
وعموم لفظه يشمل علياً وغيره ، وهؤلاء الذين وصفهم بهذا ، هم الذين أثنى الله عليهم هو ورسوله ، ورضي الله عنهم ووعدهم الحسنى ، كما قال تعالى : وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرينَ وَالأَنْصَار الَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانم وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتها الأَنْهَار خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيم ( ) .وقال تعالى : ُمُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءَ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءَ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُم في وُجُوهِهِم مِنْ أَثَرِ السُّجُودْ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ في التَّوْرَاةِ ، وَمَثَلُهُمْ في الِإنْجِيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ ِبِهم الكُفَّار ، وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيمًا ( ) .
وقال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ في سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أَوْلَئِكَ بَعضُهم أَوْلِيَاءَ بَعْض –إلى قوله –أُوْلَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُم مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيم وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعد وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُم فَأُوْلَئِكَ مِنْكُم ( ) .
وقال تعالى : لاَ يَسْتَوِي مِنْكُم مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَل أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْد وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى ( ) .
وقال تعالى : ِللفقراءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِم يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضوانًا وَيَنْصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُم الصَّادِقُون وَالَّذِينَ تَبَوّؤا الدَّارَ وَالإِيمَان مِن قَبْلِهِم يُحِبُّون مَن هَاجَرَ إِلَيْهِم وَلاَ يَجِدُونَ في صُدُورِهِم حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفسِهِم وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِم يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَان وَلاَ تَجْعَلْ في قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيم ( ) .
وهذه الآيات تتضمن الثناء على المهاجرين ، والأنصار ، وعلى الذين جاءوا من بعدهم ، يستغفرون لهم ويسألون الله أن لا يجعل في قلوبهم غلا لهم ، وتتضمن أن هؤلاء الأصناف هم المستحقون للفيء .
ولا ريب أن هؤلاء الرافضة خارجون من الأصناف الثلاثة فإنهم لم يستغفروا للسابقين ، وفي قلوبهم غل عليهم ، ففي الآيات الثناء على الصحابة، وعلى أهل السنّة الذين يتولونهم ، وإخراج الرافضة من ذلك ، وقد روى ابن بطة وغيره من حديث أبي بدر ، قال : حدثنا عبد الله بن زيد ، عن طلحة بن مصرف ، عن مصعب بن سعد ، عن سعد بن أبي وقاص ، قال : ((الناس على ثلاث منازل فمضت منزلتان وبقيت واحدة ، فأحسن ما أنتم عليه كائنون، أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت .
ثم قرأ للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، هؤلاء المهاجرون ، وهذه منزلة قد مضت، ثم قرا والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا . ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصا صة .
ثم قال هؤلاء الأنصار وهذه منزلة قد مضت .
ثم قرأ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ ، يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَان ، وَلا تَجْعَلْ في قُلُوبِنَا غُلاًّ للَّذِينَ آمَنُوا، رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ( ) ، فقد مضت هاتان وبقيت هذه المنزلة ، فأحسن ما أنتم عليه كائنون أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت أن تستغفروا لهم ))( ) .
وروى أيضا بإسناده عن مالك بن أنس أنه قال:(( من سب السلف فليس له في الفيء نصيب )) لأن الله تعالى يقول : وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِم ( )
-الآية – وهذا معروف عن مالك ، وغير مالك من أهل العلم كأبي عبيد القاسم بن سلام( ) .
وكذلك ذكره أبو حكيم النهرواني ، من أصحاب أحمد وغيره من الفقهاء، وروى أيضا عن الحسن بن عمارة ، عن الحكيم عن مقسم عن ابن عباس رضى الله عنهما . قال : (( أمر الله بالاستغفار لأصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وهو يعلم أنهم يقتتلون ))( ) .
وقال عروة قالت لي عائشة رضى الله عنها: (( يا ابن أختي أمروا بالاستغفار لأصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم . فسبوهم ))( ) .
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال . قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم (( لا تسبوا أصحابي فلو ان أحدهم أنفق مثل أُحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه))( ) .
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : (( لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أُحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ))( ) .
وفي صحيح مسلم أيضاً عن جابر بن عبد الله قال : قيل لعائشة : (( إن ناسا يتناولون أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، حتى أبا بكر وعمر ، فقالت وما تعجبون من هذا ، انقطع عنهم العمل ، فأحب الله أن لا يقطع عنهم الأجر ))( ) .
وروى ابن بطة بالإسناد الصحيح عن عبد الله بن أحمد قال حدثني أبي . حدثنا معاوية . حدثنا رجاء عن مجاهد عن ابن عباس رضى الله عنهما قال : (( لا تسبوا أصحاب محمد فإن الله تعالى قد أمرنا بالاستغفار لهم وهو يعلم أنهم سيقتلون ))( ).
ومن طريق أحمد ، عن عبد الرحمن بن مهدي ، وطريق غيره عن وكيع ، وأبي نعيم ثلاثتهم ، عن الثوري ، عن نسير بن ذعلوق ، سمعت عبد الله بن عمر يقول : (( لا تسبوا أصحاب محمد ، فلمقام أحدهم ساعة يعني مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم خير من عمل أحدكم أربعين سنة )).
وفي رواية وكيع ( خير من عبادة أحدكم عمره ) .
وقال تعالى : َلقد رَضِيَ اللهُ عَنِ الُمُؤمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَة فَعَلِمَ مَا في قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِم وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيمًا وَعَدَكُم اللهُ مَغَانِمَ كَثِيَرةً تَأخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُم هَذِهِ وَكَفَّ أيدي النَّاسِ عَنْكُم وَلِتَكُونَ آيةً للمُؤمِنِين وَيهْديكُم صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللهُ بِهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرًا ( )
وقد أخبر الله أنه سبحانه وتعالى رضي عنهم ، وأنه علم ما في قلوبهم ، وأنه أثابهم فتحا قريبا .
وهؤلاء هم أعيان من بايع أبا بكر وعمر وعثمان ، بعد موت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، لم يكن في المسلمين من يتقدم عليهم ، بل كان المسلمون كلهم يعرفون فضلهم عليهم ، لأن الله تعالى بين فضلهم في القرآن بقوله : لاَ يَسْتَوِي مِنْكُم مَن أَنْفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذينَ أَنْفَقُوا مِن بَعدُ وَقَاتَلوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى ( ) .
ففضل المنفقين المقاتلين قبل الفتح ، والمراد بالفتح هنا صلح الحديبية ، ولهذا سئل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم (( أو فتح هو ؟ فقال : نعم ))( ).
وأهل العلم يعلمون أن فيه أنزل الله تعالى : إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتَمَ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَينْصُرَكَ اللهُ نَصْرًا عَزِيزاً . فقال بعض المسلمين : يا رسول الله هذا لك ، فما لنا ؟ يا رسول الله . فأنزل الله تعالى : ُهوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ في قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِم .
وهذه الآية نص في تفضيل المنفقين المقاتلين قبل الفتح على المنفقين بعده،ولهذا ذهب جمهور العلماء إلى أن السابقين في قوله تعالى : وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَار ( )هم هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح قاتلوا ، وأهل بيعة الرضوان كلهم منهم ،وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة ، وقد ذهب بعضهم إلى أن السابقين الأوّلين، هم من صلى إلى القبلتين ، وهذا ضعيف ، فإن الصلاة إلى القبلة المنسوخة ليس بمجرده فضيلة، ولأن النسخ ليس من فعلهم ، الذي يفضلون به ، ولأن التفضيل بالصلاة إلى القبلتين لم يدل عليه دليل شرعي ، كما دل على التفضيل بالسبق إلى الإنفاق والجهاد ، والمبايعة تحت الشجرة .
وقد علم بالاضطرار أنه كان في هؤلاء السابقين الأولين أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وطلحة ، والزبير ، وبايع النبي بيده عن عثمان ، لأنه كان غائبا قد أرسله إلى أهل مكة ليبلغهم رسالته ، وبسببه بايع النبي الناس ، لما بلغه أنهم قتلوه : وقد ثبت في صحيح مسلم ، عن جابر بن عبد الله أنه قال : (( لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة ))( ) ، و قال تعالى : َلقدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِي وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَار الَّذِينَ اتّبَعُوهُ في سَاعَةِ العُسْرَة مِن بَعْدِ مَا كَانَ يَزِيغُ قُلُوبَ فَرِيقٍ مِنْهَمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِم إِنَّهُ بِهِم رَءُوفٌ رَحِيم ( ) .فجمع بينهم وبين رسول الله في التوبة . وقال تعالى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِم وَأَنْفُسِهِم في سَبِيلِ الله ، وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُم أَوْلِيَاءَ بَعْض ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا –إلى قوله تعالى –وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعد وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُم فَأُوْلَئِكَ مِنْكُم ( ) فأثبت الموالاة بينهم وقال للمؤمنين: َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتِّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضهُم أَوْلِيَاءَ بَعْض وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُم إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِين –إلى قوله – إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُون ، وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ َحِزْبَ اللهِ هُمُ الغَالِبُون ( ) . وقال تعالى : وَالمُؤمِنُونَ و َالمُؤمِنَات بَعْضَهُم أَوْلِيَاء بَعْض ( ).
فأثبت الموالاة بينهم، وأمرهم بموالاتهم ، والرافضة تتبرأ منهم ولا تتولاهم ،وأصل الموالاة المحبة ، وأصل المعاداة البغض ،وهم يبغضونهم ولا يحبونهم .
وقد وضع بعض الكذابين حديثا مفترى ، أن هذه الآية نزلت في علي لما تصدق بخاتمه في الصلاة ، وهذا كذب بإجماع أهل العلم بالنقل ، وكذبه بيّن من وجوه كثيرة .
منها أن قوله الذين صيغة جمع . وعلي واحد .
ومنها أن الواو ليست واو الحال إذ لو كان كذلك لكان لا يسوغ أن يتولى إلا من أعطى الزكاة في حال الركوع . فلا يتولى سائر الصحابة والقرابة .
ومنها ان المدح إنما يكون بعمل واجب أو مستحب ، وإيتاء الزكاة في نفس الصلاة ليس واجب ولا مستحب ، باتفاق علماء الملة ، فإن الصلاة شغلا.
ومنها أنه لو كان إيتاؤها في الصلاة حسنا لم يكن فرق بين حال الركوع وغير الركوع ، بل إيتاؤها في القيام و القعود أمكن .
ومنها أن عليا لم يكن عليه زكاة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنها أن إيتاء غير الخاتم في الزكاة خير من إيتاء الخاتم ، فإن أكثر الفقهاء يقولون لا يجزئ إخراج الخاتم في الزكاة .
ومنها أن هذا الحديث فيه أنه أعطاه السائل ،والمدح في الزكاة أن يخرجها ابتداء ويخرجها على الفور ، لا ينتظر أن يسأله سائل .
ومنها أن الكلام في سياق النهي عن موالاة الكفار ، والأمر بموالاة المؤمنين ، كما يدل عليه سياق الكلام ، وسيجيء إن شاء الله تعالى تمام الكلام على هذه الآية ، فإن الرافضة لا يكادون يحتجون بحجة إلا كانت حجة عليهم لا لهم ، كاحتجاجهم بهذه الآية على الولاية التي هي الإمارة ، وإنما هي في الولاية التي هي ضد العداوة .
والرافضة مخالفون لها ، والإسماعيلية والنصيرية ونحوهم يوالون الكفار ، من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين ، ويعادون المؤمنين من المهاجرين والأنصار والذين اتبوعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وهذا أمر مشهور .
يعادون خيار عباد الله المؤمنين ويوالون اليهود والنصارى والمشركين من الترك وغيرهم ، وقال تعالى : َيا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِين( ) . أي الله كافيك ومن اتبعك من المؤمنين ، والصحابة أفضل من اتبعه من المؤمنين، وأولهم و قال تعالى : إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْح وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ في دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا .
والذين رآهم النبي يدخلون في دين الله أفواجا هم الذين كانوا على عصره ، وقال تعالى : ُهوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ( ) . و إنما أيده في حياته بالصحابة ، و قال تعالى :
وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ المتُّقُون لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِين لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُم أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُون ( ) .
وهذا الصنف الذي يقول الصدق ، ويصدق به خلاف الصنف الذي يفتري الكذب أو يكذب بالحق ، لما جاءه كما سنبسط القول فيهما إن شاء الله تعالى .
والصحابة الذين كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وأن القرآن حق ، هم أفضل من جاء بالصدق وصدق به ، بعد الأنبياء وليس في الطوائف المنتسبة إلى القبلة أعظم افتراء للكذب على الله وتكذيبا بالحق من المنتسبين إلى التشيع . ولهذا لا يوجد الغلو في طائفة أكثر مما يوجد فيهم .
ومنهم من ادعى إلهية البشر ، وادعى النبوة في غير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وادعى العصمة في الأئمة ، ونحو ذلك مما هو أعظم مما يوجد في سائر الطوائف ، واتفق أهل العلم أن الكذب ليس في طائفة من المنتسبين إلى القبلة أكثر منه فيهم ، وقال تعالى : ُ قلِ الْحَمْدُ ِللهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى . قال طائفة من السلف هم أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ،ولا ريب أنهم أفضل المصطفين من هذه الأمة ، التي قال الله فيها : ُثمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُم ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُقْتَصِد وَمِنْهُم سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ الله ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِير جَنَّات عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُم فِيها حَرِير وَقَالوا الْحَمْدُ ِللهِ الَّذي أَذْهَبَ عَنَّا الحَزَن إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُور الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ المُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لاَ يَمَسّنَا فيها نَصبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فيها لُغُوب ( ) .
فأمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم الذين أورثوا الكتاب بعد الأمتين قبلهم اليهود والنصارى .
وقد أخبر الله تعالى أنهم الذين اصطفى .
وتواتر عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : (( خير القرون القرن الذي بعثت فيه ، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ))، ومحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه هم المصطفون ، من المصطفين من عباد الله وقال تعالى : ُمحمدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءَ عَلَى الْكُفَّارُ رُحَمَاءَ بَيْنَهُم ( ) إلى آخر السورة . وقال تعالى : وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم في الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُم وَلَيُبْدِلَنَّهُم مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُون ( ) . فقد وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالاستخلاف ، كما وعدهم في تلك الآية مغفرة وأجرا عظيما ، والله لا يخلف الميعاد .
فدل ذلك أن الذين استخلفهم كما استخلف الذين من قبلهم ومكن لهم دين الإسلام ، وهو الدين الذي ارتضاه لهم ، كما قال تعالى : وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دينًا ( ) وبدلهم بعد خوفهم أمنا لهم ( ) المغفرة والأجر العظيم .
وهذا يستدل به على وجهين : على أن المستخلفين مؤمنون عملوا الصالحات ، لأن الوعد لهم لا لغيرهم ، ويستدل به على ان هؤلاء مغفور لهم، ولهم أجر عظيم ، لأنهم آمنوا وعملوا الصالحات ، فتناولتهم الآيتان – آية النور وآية الفتح .
من المعلوم أن هذه النعوت منطبقة على الصحابة على زمن أبي بكر وعمر وعثمان ، فإنه إذ ذاك حصل الاستخلاف ، وتمكن الدين والأمن ، بعد الخوف لما قهروا فارس والروم وفتحوا الشام والعراق ، ومصر وخراسان ، وأفريقية .
ولما قتل عثمان وحصلت الفتنة لم يفتحوا شيئا من بلاد الكفار ، بل طمع فيهم الكفار بالشام وخراسان ، وكان بعضهم يخاف بعضاً .
وحينئذ قد دل القرآن على إيمان أبي بكر وعمر وعثمان ،ومن كان معهم في زمن الاستخلاف والتمكين والأمن ، والذين كانوا في زمن الاستخلاف والتمكين والأمن أدركوا زمن الفتنة كعلي وطلحة وأبي موسى الأشعري ، ومعاوية وعمرو بن العاص ، دخلوا في الآية لأنهم استخلفوا ومكنوا ، وأمنوا .
و أما من حدث في زمن الفتنة كالرافضة الذين حدثوا في الإسلام ، في زمن الفتنة والافتراق ، وكالخوارج المارقين ،فهؤلاء لم يتناولهم النص ، فلم يدخلوا فيمن وصف بالإيمان والعمل الصالح ، المذكورين في هذه الآية ، لأنهم أولا ليسوا من الصحابة المخاطبين بهذا .
ولم يحصل لهم من الاستخلاف والتمكين والأمن بعد الخوف ما حصل للصحابة ، بل لا يزالون خائفين مقلقلين غير ممكنين .
فإن قيل لما قال وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم ولم يقل وعدهم كلهم . قيل كما قال وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ، ولم يقل وعدكم .
و"من" تكون لبيان الجنس فلا يقتضي أن يكون قد بقي من المجرور بها شيء خارج ، عن ذلك الجنس كما في قوله تعالى : َفاجتنبوْا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَان ( ) فإنه لا يقتضى أن يكون من الأوثان ما ليس برجس ، وإذا قلت ثوبا من حرير ، فهو كقولك ثوب حرير ، وكذلك قولك باب من حديد فهو، كقولك باب حديد ، وذلك لا يقتضي أن يكون هناك حرير وحديد غير المضاف إليه ، وإن كان الذي يتصوره كليا ، فإن الجنس الكلي ، هو ما لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه ، وإن لم يكن مشتركاً فيه في الوجود .
فإذا كانت من بيان الجنس ، كان التقدير وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات من هذا الجنس ، وإن كان الجنس كلهم مؤمنين صالحين ، وكذلك إذا قال وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات من هذا الجنس والصنف مغفرة وأجراً عظيما ، لم يمنع ذلك أن يكون جميع هذا الجنس مؤمنين صالحين .
ولما قال لأزواج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ للهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ( ) لم يمنع أن يكون كل منهن تقنت لله ورسوله ، وتعمل صالحا ، ولما قال تعالى : وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَليَكُم كَتَبَ رَبُّكُم عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُم سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( ) لم يمنع أن يكون كل منهم متصفاً بهذه الصفة ، ولا يجوز ان يقال أنهم لو عملوا سوءاً بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا لم يغفر إلا لبعضهم.
ولهذا تدخل من هذه في النفي لتحقيق نفي الجنس كما في قوله تعالى :
وَمَا التَّنَاهُم مِن عَمَلِهِم مِن شَيء( ) وقوله تعالى: وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ الله( ) فَمَا مِنْكُم مِن أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِين ( ) .
ولهذا إذا دخـلت في النفي تحقيقا أو تقديرا أفـادت نفي الجنس قطعاً ،
(فالتحقيق ما ذكر والتقدير كقوله تعالى: لا إله إلا اللهوقوله: لاَرَيْبَ فيه ونحو ذلك بخلاف ما إذا لم تكن "من"موجودة كقولك (( ما رأيت رجلا )) فإنها ظاهرة لنفي الجنس ، ولكن قد يجوز أن ينفي بها الواحد من الجنس ، كما قال سيبويه : يجوز أن يقال ما رأيت رجلا ، بل رجلين .
فتبين أنه يجوز إرادة الواحد ، وإن كان الظاهر نفي الجنس ، بخلاف ما إذا دخلت (من ) فإنه ينفي الجنس قطعا ، ولهذا لو قال لعبيده من أعطاني منكم ألفا فهو حر فأعطاه كل واحد ألفا عتقوا كلهم .
وكذلك لو قال واحد لنسائه من أبرأتني منكن من صداقها فهي طالق فأبرأنه كلهن ، طلقن كلهن .
فإن المقصود بقوله منكن بيان جنس المعطى والمبرئ لا إثبات هذا الحكم لبعض العبيد والأزواج .
فإن قيل فهذا كما لا يمنع أن يكون كل المذكور متصفا بهذه الصفة فلا يوجب ذلك أيضا ، فليس في قوله وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات ما يقتضي أن يكونوا كلهم كذلك .
قيل : نعم ونحن لا ندعي أن مجرد هذا اللفظ دل على ان جميعهم موصوفون بالإيمان والعمل الصالح ، ولكن مقصودنا أن (من ) لا ينافى شمول هذا الوصف لهم فلا يقول قائل ان الخطاب دل على ان المدح شملهم وعمهم بقوله محمد رسول الله والذين معه إلى آخر الكلام ، ولا ريب أن هذا مدح لهم بما ذكر ، من الصفات ، وهو الشدة على الكفار ، والرحمة بينهم والركوع والسجود يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، والسيما في وجوههم من أثر السجود ، وانهم يبتدئون من ضعف إلى كمال القوة والاعتدال ، كالزرع والوعد بالمغفرة والأجر العظيم ، ليس على مجرد هذه الصفات بل على الإيمان والعمل الصالح .
فذكر ما به يستحقون الوعد ، وإن كانوا كلهم بهذه الصفة ، ولولا ذكر ذلك لكان يظن انهم بمجرد ما ذكر يستحقون المغفرة والأجر العظيم ولم يكن فيه بيان سبب الجزاء ، بخلاف ما إذا ذكر الإيمان والعمل الصالح .
فإن الحكم إذا علق باسم مشتق مناسب كان ما منه الاشتقاق سبب الحكم.
فإن قيل فالمنافقون كانوا في الظاهر مسلمين ، قيل المنافقون لم كونوا متصفين بهذه الصفات ، ولم يكونوا مع الرسول والمؤمنين ولم يكونوا منهم ، كما قال الله تعالى : َفعسى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا في أَنْفُسِهِم نَادِمِين ، وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنوا أَهَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِم إِنَّهُم لَمَعَكُم حَبطت أَعْمَالُهُم فَاَصْبَحُوا خَاسِرِين ( ) وقوله تعالى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُو ذوى في اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابَ اللهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولن إِنَّا مَعَكُم أَوَ لَيْسَ الله بِأَعْلَم بِمَا في صُدُور العَالَمِين وَلَيَعْلَمَنَّ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُم وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِين ( )
فأخبرأن المنافقين ليسوا من المؤمنين ، ولا من أهل الكتاب .
هؤلاء لا يجدون في طائفة من المتظاهرين بالإسلام ، أكثر منهم في الرافضة ، ومن انطوى إليهم . فدل هذا على ان المنافقين لم يكونوا من الذين آمنوا معه ، والذين كانوا منافقين منهم من تاب عن نفاقه وانتهى عنه ، وهم الغالب بدليل قوله تعالى : َلئنْ لَمْ يَنْتَهِ المْنُافِقُونَ وَالَّذِينَ في قُلُوبِهِم مَرَضٌ وَالْمُرْجَفُونَ في الْمَدِينَةِ ِلنُغْرِيَنَّكَ بِهِم ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إلاَّ قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً ( ) .
فلما لم يغره الله بهم ، ولم يقتلهم تقتيلا ، بل كانوا يجاورونه بالمدينة فدل ذلك على أنهم انتهوا ، والذين كانوا معه بالحديبية كلهم بايعوه تحت الشجرة ، إلا الجد بن قيس فإنه اختبأ خلف جمل أحمر .
وكذا حاء في الحديث كلهم يدخل الجنة إلا صاحب الجمل الأحمر ، وبالجملة فلا ريب أن المنافقين كانوا مغمورين مقهورين ، أذلاء ، لا سيما في آخر أيام الرسول . وفي غزوة تبوك لأن الله تعالى قال : َيقولون لئن رَجعنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيَخْرُجَنَّ الأَعَزَّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلله العِزَّةُ َلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤمِنِين وِلَكِن الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُون( ) .
فأخبر أن العزة للمؤمنين ، لا للمنافقين ، فعلم أن العزة والقوة كانت في المؤمنين ، وأن المنافقين كانوا أذلاء بينهم .
فيمتنع أن تكون الصحابة الذين كانوا أعز المسلمين من المنافقين ، بل ذلك يقتضى أن من كان أعز كان أعظم إيمانا .
ومن المعلوم أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، الخلفاء الراشدين وغيرهم كانوا اعز الناس ، وهذا كله مما يبين أن المنافقين كانوا ذليلين في المؤمنين .
فلا يجوز أن يكون الأعزاء من الصحابة منهم ، ولكن هذا الوصف مطابق للمتصفين به من الرافضة وغيرهم ،والنفاق والزندقة في الرافضة أكثر منه في سائر الطوائف .
بل لا بد لكل منهم من شعبة نفاق ، فإن أساس النفاق الذي بني عليه ، الكذب ، وأن يقول الرجل بلسانه ما ليس في قلبه ، كما اخبر الله تعالى عن المنافقين أنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم .
والرافضة تجعل هذا من أصول دينها وتسميه التقية وتحكى هذا عن أئمة أهل البيت الذين برأهم الله عن ذلك ، حتى يحكوا ذلك عن جعفر الصادق أنه قال التقية ديني ودين آبائي و قد نزه الله المؤمنين من أهل البيت وغيرهم عن ذلك.
بل كانوا من أعظم الناس صدقا وتحقيقا للإيمان ، وكان دينهم التقوى لا التقية ، وقول الله تعالى : لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِين وَمَنْ يَفْعَل ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ في شَيء إلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُم تُقَاه( ).
إنما هو الأمر بالاتقاء من الكافرين ، لا الأمر بالنفاق والكذب .
والله تعالى قد أباح لمن أكره على كلمة الكفر أن يتكلم بها ، إذا كان قلبه مطمئنا بالإيمان ، لكن لم يكره أحداً من أهل البيت على شيء من ذلك ، حتى أن أبا بكر لم يكره أحدا لا منهم، ولا من غيرهم على متابعته، فضلا على ان يكرههم على مدحه ، والثناء عليه.
بل كان علي وغيره من أهل البيت يظهرون ذكر فضائل الصحابة والثناء عليهم والترحم عليهم والدعاء لهم ولم يكن أحد يكرههم على شيء منه باتفاق الناس .
وقد كان زمن بني أمية وبني العباس خلق عظيم دون عليّ وغيره في الإيمان والتقوى يكرهون منهم أشياء ولا يمدحونهم ولا يثنون عليهم ، ولا يقربونهم ، ومع هذا لم يكن هؤلاء يخافونهم ، ولم يكن أولئك يكرهونهم مع أن الخلفاء الراشدين كانوا باتفاق الخلق أبعد عن قهر الناس وعقوبتهم على طاعتهم ، من هؤلاء .
فإذا كان لم يكن الناس مع هؤلاء مكرهين على ان يقولوا بألسنتهم خلاف ما في قلوبهم ، فكيف يكونون مكرهين مع الخلفاء على ذلك ، بل على الكذب وشهادة الزور وإظهار الكفر ، كما تقوله الرافضة من غير ان يكرههم أحد على ذلك .
فعلم أن ما تتظاهر به الرافضة هو من باب الكذب والنفاق ، وأنهم يقولوا بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، لا من باب ما يكره المؤمن عليه ، من التكلم بالكفر وهؤلاء أسرى المسلمين ، في بلاد الكفار غالبهم يظهرون دينهم،والخوارج مع تظاهرهم بتكفير الجمهور، وتكفير عثمان وعلي ومن ولاهما يتظاهرون بدينهم.
وإذا سكنوا بين الجماعة ، سكنوا على الموافقة والمخالفة ، والذي يسكن في مدائن الرافضة فلا يظهر الرفض وغايته إذا ضعف ان يسكت عن ذكر مذهبه لا يحتاج أن يتظاهر بسب الخلفاء والصحابة، إلا أن يكونوا قليلا .
فكيف يظن بعلي وغيره من أهل البيت أنهم كانوا اضعف دينا من الأسرى في بلاد الكفر ، ومن عوام أهل السنة ، ومن النواصب ، مع أنا قد علمنا بالتواتر أن أحدا لم يكره عليّا ولا أولاده على ذكر فضائل الخلفاء ، والترحم عليهم ، بل كانوا يقولون ذلك من غير إكراه ، ويقوله أحدهم لخاصته كما ثبت ذلك بالنقل المتواتر .
وأيضا فقد يقال في قوله تعالى : وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُم وَعَمِلوا الصَّالِحَات أن ذلك وصف الجملة بصفة تتضمن حالهم عند الاجتماع كقوله تعالى : وَمَثَلُهُم في الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِه يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغيظَ بِهِم الكُفَّار والمغفرة والأجر في الآخرة يحصل لكل واحد واحد ، فلا بد ان يتصف بسبب ذلك ، وهو الإيمان والعمل الصالح، إذ قد يكون في الجملة منافقا .
وفي الجملة ما في القرآن من خطاب المؤمنين والمتقين والمحسنين ، ومدحهم والثناء عليهم ، فهم أول من دخل في ذلك من هذه الأمة ، وأفضل من دخل في ذلك من هذه الأمة كما استفاض عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من غير وجه أنه قال : (( خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ))( ) .
(الوجه الثاني ) : في بيان كذبه وتحريفه فيما نقله عن حال الصحابة بعد موت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم .
(قوله : فبعضهم طلب الأمر لنفسه بغير حق ، وبايعه اكثر الناس طلبا للدنيا ) .
وهذا إشارة إلى أبي بكر فإنه هو الذي بايعه أكثر الناس ، ومن المعلوم أن أبا بكر لم يطلب الأمر لنفسه ، لا بحق ولا بغير حق ، بل قال: قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين ، إما عمر بن الخطاب وإما أبا عبيدة .
قال عمر : فوالله لأن أقدم فتضرب عنقي لا يقرّبني ذلك إلى إثم أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر ، وهذا اللفظ في الصحيحين( ) .
وقد روى عنه انه قال : أقيلوني، أقيلوني ، فالمسلمون اختاروه وبايعوه ، لعلمهم بأنه خيرهم ، كما قال له عمر يوم السقيفة بمحضر المهاجرين والأنصار أنت سيدنا وخيرنا ، وأحبنا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولم ينكر ذلك أحد ، وهذا أيضا في الصحيحين( ) .
والمسلمون اختاروه كما قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في الحديث الصحيح لعائشة : (( ادعى لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا، لا يختلف عليه الناس من بعدي ، ثم قال يأبى الله والمؤمنون أن يتولى غير أبي بكر ))( ) فالله هو ولاه قدرا ، وشرعا ، وأمر المؤمنين ، بولايته ، وهداهم إلى أن ولوه من غير أن يكون طلب ، ذلك لنفسه .
(الوجه الثالث ) : أن يقال فهب أنه طلبها وبايعه أكثر الناس فقولكم : أن ذلك طلب للدنيا كذب ظاهر .
فإن أبا بكر لم يعطهم دنيا ، وكان قد أنفق ماله في حياة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، ولما رغب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في الصدقة جاء بماله كله ، فقال له:((ما تركت لأهلك . قال :تركت لهم الله ، ورسوله ))( )
والذين بايعوه هم أزهد الناس في الدنيا ، وهم الذين أثنى الله عليهم.
وقد علم الخاص والعام زهد عمر ، وأبي عبيدة ، وأمثالهما ، وإنفاق الأنصار أموالهم كأسيد بن حضير ، وأبي طلحة ، وأبي أيوب وأمثالهم .
ولم يكن عند موت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لهم بيت مال يعطيهم ما فيه ، ولا كان هناك ديوان للعطاء يفرض لهم فيه ، والأنصار كانوا في أملاكهم ، وكذلك المهاجرون من كان له شيء من مغنم أو غيره فقد كان له .
وكانت سيرة أبي بكر في قسم الأموال التسوية ، وكذلك سيرة علي ، فلو بايعوا عليّا أعطاهم ما أعطاهم أبو بكر ، مع كون قبيلته أشرف القبائل ، وكون بني عبد مناف وهم أشراف قريش الذين هم اقرب العرب من بني أمية وغيرهم إذ ذلك كأبي سفيان بن حرب وغيره ، وبني هاشم كالعباس وغيره ، كانوا معه .
فقد أراد أبو سفيان وغيره أن تكون الإمارة في بني عبد مناف ، على عادة الجاهلية فلم يجبه إلى ذلك علي ولا عثمان ، ولا غيرهما لعلمهم ، أو دينهم فأيّ رياسة ، وأي مال كان لجمهور المسلمين بمبايعة أبي بكر ، لا سيما وهو يسوّي بين السابقين والأولين ، وبين آحاد المسلمين في العطاء ، ويقول : إنما أسلموا لله وأجورهم على الله ،وإنما هذا المتاع بلاغ .
وقال لعمر لما أشارعليه بالتفضيل في العطاء أفأشتري منهم إيمانهم؟ فالسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم أولا ، كعمر وأبي عبيدة وأسيد بن حضير وغيرهم ، سوّى بينهم وبين الطلقاء الذين أسلموا عام الفتح ، وبين من أسلم بعد موت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، فهل حصل لهؤلاء من الدنيا بولايته شيء .
(الوجه الرابع ) : أن يقال : أهل السنّة مع الرافضة كالمسلمين مع النصارى ، فإن المسلمين يؤمنون بأن المسيح عبد الله ورسوله ، ولا يغلون فيه غلو النصارى ، ولا يجفون جفاء اليهود .
والنصارى تدعى فيه الإلهية وتريد أن تفضله على محمد وإبراهيم وموسى ، بل تفضل الحواريين على هؤلاء الرسل .
كما تريد الروافض أن تفضل من قاتل مع علي كمحمد بن أبي بكر والأشتر النخعي على أبي بكر وعمر وعثمان وجمهور المهاجرين والأنصار ، فالمسلم إذا ناظر النصراني لا يمكنه أن يقول في عيسى إلا الحق ، لكن إذا أردت أن تعرف جهل النصراني وأنه لا حجة له فقدّر المناظرة بينه وبين اليهود .
فإن النصراني لا يمكنه أن يجيب عن شبهة اليهودي( ) إلا بما يجيب به المسلم ، فإن لم يدخل في دين الإسلام وإلا كان منقطعا مع اليهودي ، فإنه إذا أمر بالإيمان بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم .
فإن قدح في نبوته بشيء من الأشياء ، لم يمكنه أن يقول شيئا إلا قال اليهودي في المسيح ما هو أعظم من ذلك ، فإن البينات لمحمد أعظم من البينات للمسيح .
وبعد أمره عن الشبهة ، أعظم من بعد المسيح عن الشبهة ، فإن جاز القدح فيما دليله أعظم وشبهته أبعد عن الحق ، فالقدح فيما دونه أولى .
وإن كان القدح في المسيح باطلا فالقدح في محمد أولى بالبطلان ، فإنه إذا بطلت الشبهة القوية فالضعيفة أولى بالبطلان ، وإذا ثبتت الحجة التي غيرها أقوى منها فالقوية أولى بالإثبات .
ولهذا كان مناظرة كثير من المسلمين للنصارى من هذا الباب كالحكاية المعروفة عن القاضي أبي بكر بن الطيب ، لما أرسله المسلمون إلى ملك النصارى بالقسطنطينية ، فإنهم عظموه ، وعرف النصارى قدره ، فخافوا أن لا يسجد للملك إذا دخل ، فأدخلوه من باب صغير ليدخل منحنيا ، ففطن لمكرهم ، فدخل مستدبرا متلقيا لهم بعجزه .
ففعل نقيض ما قصدوه ، ولما جلس وكلموه ، أراد بعضهم القدح في المسلمين ، فقال له ما قيل في عائشة امرأة نبيكم ، يريد إظهار قول الإفك الذي يقوله من يقول من الرافضة ، أيضا .
فقال القاضي ثنتان قدح فيهما ورميتا بالزنا إفكا وكذبا ، مريم وعائشة فأما مريم فجاءت بالولد تحمله من غير زوج ، وأما عائشة فلم تأت بولد مع أنه كان لها زوج ، فأبهت النصارى .
وكان مضمون كلامه أن ظهور براءة عائشة أعظم من ظهور براءة مريم ، وأن الشبهة إلى مريم أقرب منها إلى عائشة ، فإذا كان مع هذا قد ثبت كذب القادحين في مريم ، فثبوت قدح الكاذبين في عائشة أولى .
ومثل هذه المناظرة أن يقع التفضيل بين طائفتين ، ومحاسن إحداهما أكثر وأعظم ومساويها أقل وأصغر ، فإذا ذكر ما فيها من ذلك عورض بأن مساوئ تلك أعظم ، كقوله تعالى : يسئلونكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٌ فِيه قُل قِتَالٌ فيهِ كَبِيرثم قال : وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرَ عِنْدَ الله وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرَ مِنَ الْقَتْل ( ) فإن الكفار عيروا سرية من سرايا المسلمين بأنهم قتلوا ابن الحضرمي في الشهر الحرام ، فقال تعالى هذا كبير وما عليه المشركون من الكفر بالله والصد عن سبيله وعن المسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله ، فإن هذا صد عما لا تحصل النجاة والسعادة إلا به ، وفيه من انتهاك المسجد الحرام ما هو أعظم من انتهاك الشهر الحرام.
لكن في هذا النوع قد اشتملت كل من الطائفتين على ما يذم ، وأما النوع الأول فيكون كل من الطائفتين لا يستحق الذم ، بل هناك شبه في الموضعين ، وأدلة في الموضعين وأدلة أحد الصنفين أقوى وأظهر ، وشبهته أضعف وأخفى ، فيكون أولى بثبوت الحق مما تكون أدلته أضعف ، وشبهته أقوى .
هذا حال النصارى واليهود مع المسلمين ، وهو حال أهل البدع مع أهل السنّة لاسيما الرافضة ، وهكذا أمر أهل السنّة مع الرافضة في أبي بكر وعلي، فإن الرافضي لا يمكنه أن يثبت إيمان علي وعدالته وأنه من أهل الجنة فضلا عن إمامته إن لم يثبت ذلك لأبي بكر وعمر وعثمان .
وإلا فمتى أراد إثبات ذلك لعلي وحده لم تساعده الأدلة ، كما أن النصراني إذا أراد إثبات نبوة المسيح دون محمد لم تساعده الأدلة .
فإذا قالت له الخوارج الذين يكفرون عليّا ، أو النواصب الذين يفسقونه أنه كان ظالما طالبا للدنيا ، وأنه طلب الخلافة لنفسه ، وقاتل عليها بالسيف وقتل على ذلك ألوفا من المسلمين ، حتى عجز عن انفراده بالأمر ، وتفرق عليه أصحابه وظهروا عليه فقتلوه ، فهذا الكلام إن كان فاسد ففساد كلام الرافضي في أبي بكر وعمر أعظم ،وإن كان ما قاله في أبي بكر وعمر متوجها مقبولا ، فهذا أولى بالتوجيه والقبول .
لأنه من المعلوم للخاصة والعامة أن من ولاه الناس باختيارهم ورضاهم من غير أن يضرب أحدا بالسيف ولا عصى ولا أعطى أحدا ممن ولاه من مال واجتمعوا عليه فلم يول أحد من أقاربه ، وعترته ، ولا خلف لورثته مالاً من مال المسلمين ، وكان له مال قد أنفقه في سبيل الله ، فلم يأخذ بدله ، وأوصى أن يرد إلى بيت مالهم ما كان عنده لهم ، وهو جرد قطيفة ، وبكر وأمة سوداء ، ونحو ذلك .
حتى قال عبد الرحمن بن عوف لعمر : أتسلب هذا آل أبي بكر ، قال كلا والله لا يتحنث فيها أبو بكر وأتحملها أنا ، وقال يرحمك الله يا أبا بكر لقد أتعبت الأمراء بعدك .
ثم مع هذا لم يقتل مسلما على ولايته ، ولا قاتل مسلما بمسلم ، بل قاتل بهم المرتدين عن دينهم ، والكفار حتى شرع بهم في فتح الأمصار واستخلف القوي الأمين العبقري ، الذي فتح الأمصار ونصب الديوان ، وعم بالعدل والإحسان .
فإن جاز للرافضي أن يقول إن هذا كان طالبا للمال والرياسة ، أمكن الناصبي أن يقول : كان علي ظالما طالبا للمال والرياسة ، قاتل على الولاية حتى قتل المسلمون بعضهم بعضا ،ولم يقاتل كافراً ولم يحصل للمسلمين في مدة ولايته إلا شر وفتنة في دينهم ودنياهم .
فإن جاز أن يقال : علي كان مريدا لوجه الله ، والتقصير من غيره من الصحابة ، أو يقال كان مجتهداً مصيباً ، وغيره مخطئ مع هذه الحالة فإنه يقال كان أبو بكر وعمر مريدين وجه الله مصيبين والرافضة مقصرون في معرفة حقهم مخطئون في ذمهم بطريق الأولى والأحرى .
فإن أبا بكر وعمر كان بعدهما عن شبة طلب المال والرياسة أشد من بعد علي عن ذلك ،وشبهة الخوارج الذين ذموا عليّا وعثمان وكفروهما أقرب من شبهة الرافضة الذين ذموا أبا بكر وعمر وكفروهما ، فكيف بحال الصحابة والتابعين الذين تخلفوا عن بيعته أو قاتلوه فشبهتهم أقوى من شبهة من قدح في أبي بكر وعمر وعثمان ، فإن أولئك قالوا ما يمكننا أن نبايع إلا من يعدل علينا ،ويمنعنا ممن ظلمنا ، ويأخذ حقنا ممن ظلمنا ، فإذا لم يفعل هذا كان عاجزاً أو ظالما ، وليس علينا أن نبايع عاجزا أو ظالما .
وهذا الكلام إذا كان باطلا ، فبطلان قول من يقول أن أبا بكر وعمر كانا ظالمين طالبين للرياسة والمال أبطل وأبطل ، وهذا الأمر لا يستريب فيه من له بصر ومعرفة ، وأين شبهة مثل أبي موسى الأشعري الذي وافق عمرو على عزل علي ومعاوية ، وأن يجعل الأمر شورى في المسلمين ، من شبهة عبد الله بن سبأ وأمثاله الذين يدعون أنه إمام معصوم ، وأنه إله أو نبي .
بل أين شبهة الذين رأوا أن يولوا معاوية من شبهة الذين يدعون أنه إله أو نبي ، فإن هؤلاء كفار باتفاق المسلمين بخلاف أولئك ، ومما يبين هذا أن الرافضة تعجز عن إثبات إيمان علي وعدالته ، مع كونهم على مذهب الرافضة ، ولا يمكنهم ذلك إلا إذا صاروا من أهل السنة ، فإذا قالت لهم الخوارج وغيرهم ممن تكفره ، أو تفسقه ، لا نسلم أنه كان مؤمناً ، بل كان كافرا أو ظالما ، كما يقولون هم في أبي بكر وعمر لم يكن لهم دليل على إيمانه وعدله ، إلا وذاك الدليل على أبي بكر وعمر وعثمان أدل .
فإن احتجوا بما تواتر من إسلامه وهجرته وجهاده فقد تواتر ذلك عن هؤلاء ، بل تواتر إسلام معاوية ويزيد وخلفاء بني أمية وبني العباس وصلاتهم وصيامهم ، وجهادهم للكفار فإن ادعوا في واحد من هؤلاء النفاق ، أمكن الخارجى أن يدعى النفاق فيه( ) .
وإذا ذكروا شبهة ، ذكر ما هو أعظم منها ، وإذا قالوا ما تقوله أهل الفرية ، من أن أبا بكر وعمر كانا منافقين في الباطن ، عدوين للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم . أفسدا دينه ، بحسب الإمكان أمكن الخارجى ان يقول ذلك في علي ويوجه ذلك بأن يقول : كان يحسد ابن عمه وأنه كان يريد إفساد دينه فلم يتمكن من ذلك في حياته وحياة الخلفاء الثلاثة حتى سعى في قتل الخليفة الثالث ، وأوقد الفتنة ، حتى غلى في قتل أصحاب محمد ، وأمته بغضا له وعداوة ، وأنه كان مباطناً للمنافقين الذين ادعوا فيه الإلهية والنبوة ، وكانيظهر خلاف ما يبطن ، لأن دينه التقية ، فلما أحرقهم بالنار، أظهر إنكار ذلك ، وإلا فكان في الباطن معهم .
ولهذا كانت الباطنية من اتباعه ،وعندهم سره ، وهم ينقلون عنه الباطن الذي ينتحلونه ، ويقول الخارجى مثل هذا الكلام الذي يروج على كثير من الناس أعظم ، مما يروج كلام الرافضة في الخلفاء الثلاثة ، لأن شبهة الرافضة أظهر فسادا من شبهة الخوارج ، وهم أصح منهم عقلا ، ومقصدا .
والرافضة أكذب وأفسد دينا ، وإن أرادوا إثبات إيمانه وعدالته بنص القرآن عليه ، قيل القرآن عام وتناوله له ليس بأعظم من تناوله لغيره ، وما من آية يدعون اختصاصها به إلا أمكن أن يدعى اختصاصها أو اختصاص مثلها أو أعظم منها بأبي بكر وعمر .
فباب الدعوى بلا حجة ممكنة ، والدعوى في فضل الشيخين أمكن منها في فضل غيرهما ، وإن قالوا ثبت ذلك بالنقل والرواية ، فالنقل والرواية في أولئك أكثر وأشهد ، فإن ادعوا تواتراً ، فالتواتر هناك أصح ، وإن اعتمدوا على نقل الصحابة فنقلهم لفضائل أبي بكر وعمر أكثر ، ثم هم يقولون : أن الصحابة ارتدوا إلا نفرا قليلا فكيف تقبل رواية هؤلاء في فضيلة أحد ، ولم يكن في الصحابة رافضة كثيرون ، يتواتر نقلهم ، فطريق النقل مقطوعا عليهم ، إن لم يسلكوا طريق أهل السنة ، كما هو مقطوع على النصارى في إثبات نبوة المسيح إن لم يسلكوا طريق المسلمين .
وهذا كمن أراد أن يثبت فقه ابن عباس دون علي ، أو فقه علقمة والأسود دون ابن مسعود ، ونحو ذلك من الأمور التي يثبت فيها للشيء حكم دون ما هو أولى بذلك الحكم منه ، فإن هذا تناقض ممتنع عند من سلك طريق العلم والعدل .
ولهذا كانت الرافضة من أجهل الناس وأضلهم ، كما أن النصارى من أجهل الناس ، والرافضة من أخبث الناس ، كما أن اليهود من أخبث الناس ، ففيهم نوع من ضلال النصارى ،ونوع من خبث اليهود .
(الوجه الخامس): أن يقال : تمثيل هذا بقصة عمر بن سعد طالبا للرياسة والمال مقدما على المحرّم لأحل ذلك فيلزم أن يكون السابقون الأولون بهذه الحال ، وهذا أبوه سعد بن أبي وقاص، كان من أزهد الناس في الإمارة والولاية ، ولما وقعت الفتنة اعتزل الناس في قصره بالعقيق ، وجاءه عمر ابنه هذا فلامه على ذلك ، وقال له الناس في المدينة يتنازعون الملك وأنت ههنا؟ فقال : (( اذهب فإني سمعت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقول إن الله يحب العبد التقي الغني الخفيّ ))( ) .
هذا ولم يكن قد بقي أحد من أهل الشورى غيره وغير علي رضى الله عنهما ، وهو الذي فتح العراق ، وأذل جنود كسرى وهو آخر العشرة موتا.
فإذا لم يحسن أن يشبه بابنه عمر أيشبه به أبو بكر وعمر وعثمان ، هذا وهم لا يجعلون محمد بن أبي بكر بمنزلة أبيه ، بل يفضلون محمداً ويعظمونه ، ويتولونه لكونه آذى عثمان وكان من خواص أصحاب علي لأنه كان ربيبه ، ويسبون أباه أبا بكر ويلعنونه ، فلو أن النواصب فعلوا بعمر بن سعد مثل ذلك فمدحوه على قتل الحسين ، لكونه كان من شيعة عثمان ، ومن المنتصرين له ، وسبوا أباه سعد لكونه تخلف عن القتال مع معاوية والانتصار لعثمان ، هل كانت النواصب لو فعلت ذلك إلا من جنس الرافضة .
بل الرافضة شر منهم ، فإن أبا بكر أفضل من سعد ، وعثمان كان أبعد عن استحقاق القتل من الحسين ، وكلاهما مظلوم وشهيد رضي الله تعالى عنهما ، ولهذا كان الفساد الذي حصل في الأمة بقتل عثمان أعظم من الفساد الذي حصل في الأمة بقتل الحسين .
وعثمان من السابقين الأولين وهو خليفة مظلوم طلب منه أن ينعزل بغير حق فلم ينعزل ولم يقاتل عن نفسه حتى قتل ، والحسين لم يكن متوليا وإنما كان طالبا للولاية ، حتى رأى أنها متعذرة وطلب منه ليستأسر ليحمل إلى يزيد مأسورا ، فلم يجب إلى ذلك وقاتل حتى قتل مظلوما ، شهيدا ، فظلم عثمان كان أعظم وصبره وحلمه كان أكمل ، وكلاهما مظلوم شهيد ، ولو مثل ممثل طلب علي والحسين للأمر بطلب الإسماعيلية كالحاكم وأمثاله وقال إن علي والحسين كانا ظالمين طالبين للرياسة من غير حق ، بمنزلة الحاكم وأمثاله من ملوك بني عبيد ، أما كان يكون كاذبا مفتريا في ذلك لصحة إيمان الحسن والحسين ، ودينهما وفضلهما ، ولنفاق هؤلاء وإلحادهم .
وكذلك من شبه عليا والحسين ببعض من قام من الطالبيين أو غيرهم بالحجاز ، أو الشرق أو الغرب يطلب الولاية بغير حق ، ويظلم الناس في أموالهم وأنفسهم ، أما كان يكون ظالما كاذبا ؟ فالمشبه بأبي بكر وعمر بعمر بن سعد أولى بالكذب والظلم ، ثم غاية عمر بن سعد وأمثاله ، أن يعترف بأنه طلب الدنيا بمعصية يعترف أنها معصية ، وهذا ذنب كثير وقوعه من المسلمين .
وأما الشيعة فكثيرمنهم يعترفون بأنهم إنما قصدوا بالملك إفساد دين الإسلام ، ومعاداة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما يعرف ذلك من خطاب الباطنية وأمثالهم ، من الداخلين في الشيعة ، فإنهم يعترفون بأنهم في الحقيقة لا يعتقدون دين الإسلام ، وإنما يتظاهرون بالتشيع لقلة عقل الشيعة وجهلهم ليتوصلوا بهم إلى أغراضهم .
وأوّل هؤلاء ، بل خيارهم هو المختار بن أبي عبيد الكذاب ، فإنه كان أمير الشيعة ، وقتل عبيد الله بن زياد ، وأظهر الانتصار للحسين ، حتى قتل قاتله وتقرب بذلك إلى محمد بن الحنفية وأهل البيت ، ثم ادعى النبوة وأن جبريل يأتيه ، وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : (( سيكون في ثقيف كذاب ومبير ))( ) .
فكان الكذاب هو المختار بن أبي عبيد ، وكان المبير هو الحجاج بن يوسف الثقفي ، ومن المعلوم أن عمر بن سعد أمير السرية التي قتلت الحسين، مع ظلمه وتقديمه الدنيا على الدين ، لم يصل في المعصية إلى فعل المختار بن أبي عبيد ، الذي أظهر الانتصار للحسين ، وقتل قاتله بل كان هذا أكذب وأعظم ذنبا من عمر بن سعد .
فهذا الشيعي شر من ذلك الناصبي ، بل والحجاج بن يوسف خير من المختار بن أبي عبيد ، فإن الحجاج كان مبيرا كما سماه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم –يسفك الدماء بغير حق ، والمختار كان كذابا يدعى الوحي وإتيان جبريل إليه ، وهذا الذنب أعظم من قتل النفوس ، فإن هذا كفر وإن لم يتب منه كان مرتدا ، والفتنة أعظم من القتل .
وهذا باب مطرد لا تجد أحداً ممن تذمه الشيعة بحق أو باطل إلا وفيهم من هو شر منه ، ولا تجد أحداً ممن تمدحه الشيعة إلا وفيمن تمدحه الخوارج من هو خير منه ، فإن الروافض شر من النواصب ،والذين تكفرهم أو تفسقهم الروافض ، هم أفضل من الذين تكفرهم أو تفسقهم النواصب .
وأما أهل السنة فيتولون جمع لمؤمنين ، ويتكلمون بعلم وعدل ليسوا من أهل الجهل ، ولا من أهل الأهواء ، ويتبرءون من طريقة الروافض والنواصب جميعا ، ويتولون السابقين الأولين كلهم ،ويعرفون قدر الصحابة ، وفضلهم ، ومناقبهم ،ويرعون حقوق أهل البيت التي شرعها الله لهم ، ولا يرضون بما فعله المختار ونحو من الكذابين ، ولا ما فعل الحجاج ونحوه من الظالمين .
ويعلمون مع هذا مراتب السابقين الأولين ، فيعلمون أن لأبي بكر وعمر من التقدم والفضائل ما لم يشاركهما فيهما أحد ، من الصحابة لا عثمان ولا علي ولا غيرهما ، وهذا كان متفقا عليه في الصدر الأول ، إلا أن يكون خلاف شاذ لا يعبأ به .
حتى إن الشيعة الأولى أصحاب علي لم يكونوا يرتابون في تقديم أبي بكر وعمر عليه ، فكيف وقد ثبت عنه من وجوه متواترة أنه كان يقول : خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر ، ولكن كان طائفة من شيعة علي ، تقدمه على عثمان ، وهذه المسألة أخفى من تلك ، ولهذا كان أئمة أهل السنة متفقين على تقديم أبي بكر وعمر كما في مذهب أبي حنيفة ، والشافعي ، ومالك ، وأحمد بن حنبل ، والثورى ، والأوزاعي ، والليث بن سعد ، وسائر أئمة المسلمين ، من أهل الفقه والحديث والزهد والتفسير من المتقدمين والمتأخرين.
وأما عثمان وعلي فكان طائفة من أهل المدينة يتوقفون فيهما ، وهي إحدى الروايتين عن سفيان الثوري ، ثم قيل إنه رجع عن ذلك لما اجتمع به أيوب السختياني ، وقال من قدم عليا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار ، وسائر أئمة السنة على تقديم عثمان وهو مذهب جماهير أهل الحديث وعليه يدل النص ، والإجماع والاعتبار .
وأما ما يحكى عن بعض المتقدمين من تقديم جعفر أو تقديم طلحة أو نحو ذلك فذلك في أمور مخصوصة لا تقديما عاما ، و كذلك ما ينقل عن بعضهم في علي .
وأما قوله : فبعضهم اشتبه الأمرعليه ورأى لطالب الدنيا مبايعا فقلده ،
وبايعه وقصر في نظره فخفي عليه الحق فاستحق المؤاخذة من الله تعالى ، بإعطاء الحق لغير مستحقه ، قال : وبعضهم قلد لقصور فطنته ، ورأى الجم الغفير فتابعهم ، وتوهم أن الكثرة تستلزم الصواب ، وغفل عن قوله تعالى :
وَقَلِيلٌ مَا هُم ( ) ، وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُور ( ) .
فيقال لهذا المفترى : الذي جعل الصحابة الذين بايعوا أبا بكر ثلاثة أصناف أكثرهم طلبوا الدنيا وصنف قصروا في النظر ، وصنف عجزوا عنه، لأن الشر إما أن يكون لفساد القصد . وإما أن يكون للجهل ، والجهل إما أن يكون لتفريط في النظر ، وإما أن يكون لعجز عنه .
وذكر أنه كان في الصحابة وغيرهم من قصر في النظر حين بايع أبا بكر ، ولو نظر لعرف الحق ، وهذا يؤاخذ على تفريطه ، بترك النظر الواجب، وفيهم من عجز عن النظر ، فقلد الجم الغفير ، يشير بذلك إلى سبب مبايعة أبي بكر .
فيقال له هذا من الكذب الذي لا يعجز عنه أحد ، والرافضة قوم بهت فلو طلب من هذا المفتري دليل على ذلك لم يكن له على ذلك دليل ، والله تعال قد حرم القول بغير علم ، فكيف إذا كان المعروف ضد ما قاله فلو لم نكن نحن عالمين بأحوال الصحابة لم يجز أن نشهد عليهم بما لا نعلم من فساد القصد ، والجهل بالمستحق . قال تعالى : ولا تقفُ ما ليس لك به علم إنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أولئِكَ كان عنهُ مَسئولاً ( ) وقال تعالى : َها أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمُ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْم ( ) فكيف إذا كنا نعلم أنهم كانوا أكمل هذه الأمة عقلا ، وعلما ، ودينا ، كما قال فيهم عبد الله بن مسعود : (( من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات ، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة ، أولئك أصحاب محمد كانوا والله أفضل هذه الأمة ، وأبرها قلوبا ، وأعمقها علما وأقلها تكلفا ، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه ، وإقامة دينه، فأعرفوا لهم فضلهم ، واتبعوهم ، في آثارهم وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ، ودينهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم ))( ) . رواه غير واحد منهم ابن بطة ، عن قتادة .
وروى هو وغيره بالأسانيد المعروفة إلى زر بنت حبيش ، قال : قال عبد الله بن مسعود : (( إن الله تبارك وتعالى نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه ، وابتعثه برسالته ، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه ، يقاتلون على دينه ، فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ، وما رآه المسلمون سيئاً فهو عند الله سيء ))( ) .
وفي رواية قال أبو بكر بن عياش الراوي لهذا الأثر ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود ، وقد رأى أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جميعاً أن يستخلفوا أبا بكر .
فقول عبد الله بن مسعود كانوا أبر هذه الأمة قلوبا ، وأعمقها علما ، وأقلها تكلفا ، كلام جامع بين فيه حسن قصدهم ونياتهم ، ببر القلوب وبين فيه كمال المعرفة ودقتها بعمق العلم ، وبين فيه تيسر ذلك عليهم وامتناعهم من القول بلا علم ، بقلة التكلف وهذا خلاف ما قاله هذا المفترى الذي وصف أكثرهم بطلب الدنيا ، وبعضهم بالجهل ، إما عجزا وإما تفريطا والذي قاله عبد الله حق فإنهم خير هذه الأمة ، كما تواترت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حيث قال : (( خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ))( ) .وهم أفضل الأمة الوسط الشهداء على الناس ، الذين هداهم الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، فليسوا من المغضوب عليهم الذين يتبعون أهواءهم ، ولا من الضالين الجاهلين ، كما قسمهم هؤلاء المفترون ، إلى ضلال وغواة ، بل لهم كمال العلم ،وكمال القصد .
إذ لو لم يكن كذلك للزم أن لا تكون هذه الأمة خير الأمم ،وأن لا يكونوا خير الأمة وكلاهما خلاف الكتاب والسنة ، وأيضا فالاعتبار العقلي يدل على ذلك ، فإن من تأمل أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ، وتأمل أحوال اليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين ، تبين له من فضيلة هذه الأمة على سائر الأمم في العلم النافع ،والعمل الصالح ، ما يضيق هذا الموضع عن بسطه .
والصحابة أكمل الأمة في ذلك بدلالة الكتاب والستة والإجماع ، والاعتبار ولهذا لا تجد أحدا من أعيان الأمة إلا وهو معترف بفضل الصحابة عليه ، وعلى أمثاله ، وتجد من ينازع في ذلك كالرافضة من أجهل الناس ، ولهذا لا يوجد في أئمة الفقه الذين يرجع إليهم رافضي ، ولا في أئمة الحديث ولا في أئمة الزهد والعبادة ، ولا في أئمة الجيوش المؤيدة المنصورة رافضي، ولا في الملوك الذين نصروا الإسلام وأقاموه وجاهدوا عدوه من هو رافضي، ولا في الوزراء الذين لهم سيرة محمودة من هو رافضي .
وأكثر ما تجد الرافضة إما في الزنادقة المنافقين الملحدين ، وإما في جهال ليس لهم علم بالمنقولات ولا بالمعقولات ، قد نشأ بالبوادي والجبال ، وتجبروا على المسلمين ، فلم يجالسوا أهل العلم والدين ، وإما في ذوي الأهواء ممن قد حصل له بذلك رياسة ومال ، أوله نسب يتعصب به كفعل أهل الجاهلية ، وأما من هو عند المسلمين من أهل العلم والدين ، فليس في هؤلاء رافضي ، لظهور الجهل والظلم في قولهم ، و تجد ظهور الرفض في شر الطوائف كالنصيرية والاسماعيلية ، والملاحدة الطرقية ، وفيهم من الكذب والخيانة وإخلاف الوعد ما يدل على نفاقهم ، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : (( آية المنافق ثلاث ،إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان ))( ) – زاد مسلم – (( وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم )) وأكثر ما توجد هذه الثلاث في طوائف أهل القبلة في الرافضة.
وأيضا فيقال لهذا المفترى :هب أن الذين بايعوا الصديق كانوا كما ذكرت إما طالب دنيا وإما جاهل ، فقد جاء بعد أولئك في قرون الأمة ، من يعرف كل أحد زكاءهم ، وذكاءهم .
مثل سعيد بن المسيب ، الحسن البصري ، وعطاء بن أبي رباح ، وإبراهيم النخعي ، وعلقمة ، والأسود ، وعبيدة السلماني ، وطاوس ، ومجاهد، وسعيد بن جبير ، وأبي الشعثاء جابر بن زيد ، وعلي بن زيد ، وعلي بن الحسين ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، وعروة بن الزبير ، والقاسم بن محمد بن أبي بكر ، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام ، ومطرف بن الشخير ، ومحمد بن واسع ، وحبيب العجمى ، ومالك بن دينار، ومكحول ، والحكم بن عتبة ، ويزيد بن أبي حبيب ، ومن لا يحصي عددهم إلا الله .
ثم بعدهم أيوب السختياني ، وعبد الله بن عون ، ويونس بن عبيد ، وجعفر بن محمد ، والزهري، وعمرو بن دينار ، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وربيعة بن أبي عبد الرحمن ، وأبو الزناد ، ويحيى بن أبي كثير ، وقتادة ، ومنصور بن المعتمر ، والأعمش ، وحماد بن أبي سليمان ، وهشام الدستوائي، وسعيد بن أبي عروبة .
ومن بعد هؤلاء مثل ، مالك بن انس ، وحماد بن زيد ، وحماد بن سلمة ، والليث بن سعد ، والأوزاعي ، وأبي حنيفة ، وابن أبي ليلى ، وشريك، وابن أبي ذئب ، وابن الماجشون .
ومن بعدهم ، مثل يحيى بن سعيد القطان ، وعبد الرحمن بن مهدي ، ووكيع بن الجراح ، وعبد الرحمن بن القاسم ، وأشهب بن عبد العزيز ، وأبي يوسف ، ومحمد بن الحسن ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وإسحق بن راهويه ، وأبي عبيد ، وأبي ثور ، ومن لا يحصى عدده إلا الله تعالى ،ممن ليس لهم غرض في تقديم غير الفاضل لا لأجل رياسة ،ولا مال .
وممن هم اعظم الناس نظرا في العلم وكشفا لحقائقه ، وهم كلهم متفقون على تفضيل أبي بكر وعمر .
بل الشيعة الأولى الذين كانوا على عهد علي كانوا يفضلون أبا بكر وعمر ، قال أبي القاسم سألت مالكا عن أبي بكر وعمر، فقال : مارأيت أحدا ممن اقتدى به يشك في تقديمهما. يعني على علي وعثمان فحكى إجماع أهل المدينة على تقديمهما.
وأهل المدينة لم يكونوا مائلين الى بني أمية كما كان أهل الشام ، بل قد خلعوا بيعة يزيد ، وحاربهم عام الحرة وجرى بالمدينة ما جرى .
ولم يكن أيضا قتل علي منهم أحدا كما قتل من أهل البصرة ومن أهل الشام ، بل كانوا يعدّونه من علماء المدينة ، إلى أن خرج منها ، وهم متفقون على تقديم أبي بكر وعمر .
وروى البيهقي بإسناده عن الشافعي . قال : لم يختلف الصحابة والتابعون في تقديم أبي بكر وعمر ، وقال شريك بن أبي نمر : وقال له قائل أيما أفضل أبو بكر أو علي ؟ فقال له : أبو بكر . فقال له السائل : تقول هذا و أنت من الشيعة ؟ فقال: نعم إنما الشيعيّ من يقول هذا ، والله لقد رقى علىّ هذه الأعواد، فقال : ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر أفكنا نردّ قوله، أفكنا نكذبه ، والله ما كان كذابا( ) .
وذكر هذا القاضي عبد الجبار في كتاب تثبت النبوة له ، وعزاه إلى كتاب أبي القاسم البلخي ، الذي صنفه في النقض على ابن الرواندي اعتراضه على الجاحظ( ) .
فكيف يقال مع هذا أن الذين بايعوه كانوا طلاب الدنيا ،أو جهالا،ولكن هذا وصف الطاعن فيهم ، فإنك لا تجد في طوائف القبلة أعظم جهلا من الرافضة، ولا أكثر حرصا على الدنيا ، وقد تدبرتهم فوجدتهم لا يضيفون إلى الصحابة عيبا إلا وهم أعظم الناس اتصافا به ، والصحابة ابعد عنه ، فهم أكذب الناس بلا ريب كمسيلمة الكذاب ، إذ قال : أنا نبي صادق، ولهذايصفون أنفسهم بالإيمان ، ويصفون الصحابة بالنفاق ،وهم أعظم الطوائف نفاقا ، والصحابة أعظم الخلق إيمانا .
وأما قوله : وبعضهم طلب الأمر لنفسه بحق وبايعه الأقلون الذين اعرضوا عن الدنيا وزينتها ، ولم تأخذهم بالله لومة لائم ، بل أخلصوا لله واتبعوا ما أمروا به من طاعة من يستحق التقديم ، وحيث حصل للمسلمين هذه البلية ،وجب على كل أحد النظر في الحق واعتماد الإنصاف ، وأن يقر الحق مقره، ولا يظلم مستحقه ، فقد قال تعالى: َأَلاَ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الظَّالِمِين ( ) .
فيقال له أولا : قد كان الواجب أن يقال لما ذهب طائفة إلى كذا ، وطائفة إلى كذا ، وجب أن ينظر أي القولين أصح ، فأما إذا رضيت إحدى الطائفتين باتباع الحق ، والأُخرى باتباع الباطل ، فإن كان هذا قد تبين فلا حاجة إلى النظر ، وإن لم يتبين بعد لم يذكر حتى يتبين .
ويقال له ثانيا : قولك : أنه طلب الأمر لنفسه بحق ، وبايعه الأقلون كذب على علي ، فإنه لم يطلب الأمر لنفسه في خلافة أبي بكر ، وعمر وعثمان ،وإنما طلبه لما قتل عثمان وبويع وحينئذ فأكثر الناس كانوا معه ، لم يكن معه الأقلون وقد اتفق أهل السنة والشيعة على أن عليا لم يدع إلى مبايعته في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان ، ولا بايعه على ذلك أحد.
ولكن الرافضة تدعى أنه كان يريد ذلك ، وتعتقد أنه الإمام المستحق للإمامة ، دون غيره ، لكن كان عاجزا عنه وهذا لو كان حقا لم يفدهم ، فإنه لم يطلب الأمر لنفسه ، ولا تابعه أحد على ذلك ، فكيف إذا كان باطلا.
وكذلك قوله بايعه الأقلون ، كذب على الصحابة فإنه لم يبايع منهم أحد لعلي على عهد الخلفاء الثلاثة ، ولا يمكن أحد أن يدعي هذا ، ولكن غاية ما يقول القائل انه كان فيهم من يختار مبايعته ، ونحن نعلم أن عليا لما تولى كان كثير من الناس يختار ولاية معاوية ، وولاية غيرهما ، ولما بويع عثمان كان في نفوس بعض الناس ميل إلى غيره ، فمثل هذا لا يخلو من الوجود .
وقد كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالمدينة وبها وما حولها منافقون ، كما قال تعالى : وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِنَ الأَعْرَاب مُنَافِقُون وَمِن أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُم نَحْنُ نَعْلَمُهُم ( ) وقد قال تعالى عن المشركين : وَقَالُوا لَوْلاَ نَزَلَ هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم ( )
فأحبوا أن ينزل القرآن على من يعظمونه من أهل مكة والطائف ، قال تعالى : أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَعِيشَتَهُم في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُم فَوْقَ بَعْض دَرَجَات ( ) .
وأما ما وصفه لهؤلاء بأنهم الذين أعرضوا عن الدنيا وزينتها ، وأنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم ، فهذا من أبين الكذب ، فإنه لم ير الزهد والجهاد في طائفة أقل منه في الشيعة ، والخوارج المارقون كانوا أزهد منهم وأعظم قتالا ، حتى يقال في المثل حملة خارجية وحروبهم مع جيوش بني أمية وبني العباس وغيرهما بالعراق والجزيرة وخراسان والمغرب وغيرهما معروفة ، وكانت لهم ديار يتحيزون فيها لا يقدر عليهم أحد .
وأما الشيعة فهم دائما مغلوبون ، مقهورون منهزمون ، وحبهم للدنيا وحرصهم عليها ظاهر ، ولهذا كاتبوا الحسين ، فلما أرسل إليهم ابن عمه، ثم قدم بنفسه غدروا به ، وباعوا الآخرة بالدنيا ، وأسلموه إلى عدوه ، وقاتلوه مع عدوه ، فأي زهد عند هؤلاء ، وأي جهاد عندهم .
وقد ذاق منهم علي بن أبي طالب من الكاسات المرة ما لا يعلمه إلا الله ، حتى دعا عليهم ، فقال: اللهم إني سئمتهم وسئموني فأبدلني بهم خيرا منهم ، وأبدلهم بي شرا مني ، وقد كانوا يغشونه ويكاتبون من يحاربه ، ويخونونه في الولايات ، والأموال ، هذا ولم يكونوا بعد صاروا رافضة ، إنما سمعوا شيعة علي لما افترق الناس فرقتين ، فرقة شايعت أولياء عثمان ، وفرقة شايعت أولياء عليا رضى الله عنهما ، فأولئك خيار الشيعة ، وهم من شر الناس معاملة لعلي بن أبي طالب ، وابنيه سبطى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وريحانته في الدنيا الحسن والحسين ، وهم أعظم الناس قبولا للوم اللائم في الحق ، وأسرع الناس إلى الفتنة ، وأعجزهم عنها ، يغرون من يظهرون نصره من أهل البيت ، حتى إذا اطمأن إليهم ولامهم عليه اللائم ، خذلوه وأسلموه وآثروا عليه الدنيا ، ولهذا أشار عقلاء المسلمين ونصحاؤهم على الحسين أن لا يذهب إليهم ، مثل عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر ، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام وغيرهم ، لعلمهم بأنهم يخذلونه ، ولا ينصرونه ، ولا يوفون له بما كتبوا به إليه ، وكان الأمر كما رأى هؤلاء، ونفذ فيهم دعاء عمر بن الخطاب ، ثم دعاء علي بن أبي طالب .
حتى سلط الله عليهم الحجاج بن يوسف ، كان لا يقبل من محسنهم ، ولا يتجاوز عن مسيئهم ، ودب شرهم إلى من لم يكن منهم، حتى عم الشر ، وهذه كتب المسلمين التي ذكر فيها زهاد الأمة ليس فيهم رافضي .
كيف والرافضي من جنس المنافقين ، مذهبه التقية فهل هذا حال من لا تأخذه بالله لومة لائم ، إنما هذه حال من نعته الله في كتابه بقوله : َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرتَدّ مِنْكُمْ عَنْ دِيِنهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهَ بِقَومٍ يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِين يُجَاهِدُونَ في سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمْ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاء وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيم ( ) .
وهذه حال من قاتل المرتدين ، وأولهم الصديق ، ومن اتبعه إلى يوم القيامة ، فهم الذين جاهدوا المرتدين ، كأصحاب مسيلمة الكذاب ، ومانعي الزكاة ، وغيرهما وهم الذين فتحوا الأمصار، وغلبوا فارس والروم ، وكانوا أزهد الناس ، كما قال عبد الله بن مسعود لأصحابه : أنتم أكثر صلاة وصياما من أصحاب محمد ، وهم كانوا خيرا منكم ، قالوا : لما يا أبا عبد الرحمن ، قال: لأنهم كانوا ، أزهد في الدنيا ، وأرغب في الآخرة ، فهؤلاء هم الذين لاتأخذهم في الله لومة لائم .
بخلاف الرافضة ، فإنهم أشد الناس خوفا من لوم اللائم ،ومن عدوّهم، وهم كما قال تعالى : َيحسبونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِم هُم الْعَدُوّ فَاحْذَرْهُم قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُون ( ) .ولا يعيشون في أهل القبلة إلا من جنس اليهود في أهل الملل . ثم يقال : من هؤلاء الذين زهدوا في الدنيا ، ولم تأخذهم في الله لومة لائم ، ممن لم يبايع أبا بكر وعمر وعثمان رضى الله عنهم ، وبايع عليا، فإنه من المعلوم أن في زمن الثلاثة لم يكن أحد منحازا عن الثلاثة مظهراً لمخالفتهم ومبايعة علي ، بل كل الناس كانوا مبايعين لهم فغاية ما يقال أنهم كانوا يكتمون تقديم علي وليست هذه حال من لا تأخذه في الله لومة لائم .
وأما في حال ولاية علي فقد كان من أكثر الناس لوما لمن معه على قلة جهادهم ، ونكولهم عن القتال ، فأين هؤلاء الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم ، من هؤلاء الشيعة ، وإن كذبوا على أبي ذر من الصحابة وسلمان وعمار وغيرهم ، فمن المتواتر أن هؤلاء كانوا من أعظم الناس تعظيما لأبي بكر وعمر ، واتباعاً لهما ، وإنما ينقل عن بعضهم التعنت على عثمان ، لا على أبي بكر وعمر ، وسيأتي الكلام على ما جرى لعثمان .
ففي خلافة أبي بكر وعمر وعثمان ، لم يكن أحد يسمى من الشيعة ، ولا تضاف الشيعة إلى أحد لا عثمان ولا علي ولا غيرهما ، فلما قتل عثمان تفرق المسلمون ، فمال قوم إلى عثمان ، ومال قوم إلى علي واقتتلت الطائفتان، وقتل حينئذ شيعة عثمان شيعة علي ، وفي صحيح مسلم عن سعد بن هشام أنه أراد أن يغزو في سبيل الله وقدم المدينة فأراد أن يبيع عقارا له فيها فيجعله في السلاح والكراع ، ويجاهد الروم حتى يموت ، فلما قدم المدينة لقي أناسا من أهل المدينة ، فنهوه عن ذلك وأخبروه أن رهطاً ستة أرادوا ذلك في حياة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم نهاهم نبي الله صلى الله تعالى عليه وسلم . وقال : (( أليس لكم بي أسوة ؟)) ، فلما حدثوه بذلك راجع امرأته ، وقد كان طلقها وأشهد على رجعتها . فأتى ابن عباس وسأله عن وتر رسول الله صلى لله تعالى عليه وسلم . فقال ابن عباس : ألا أدلك علىأعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ؟ فقال من ؟ قال : عائشةا ، فأتها فاسألها ثم ائتني فاخبرني ، بردها عليك ، قال فانطلقت إليها فأتيت على حكيم بن افلح فاستلحقته إليها فقال : ما أنا بقاربها لأني نهيتها أن تقول في هاتين الشيعتين شيئا فأبت فيهما لا مضيا .
قال : فأقسمت عليه فجاء فانطلقنـا إلى عائشة رضى الله عنها وذكرا
الحديث( )، وقال معاوية لابن عباس أنت على ملة علي ، فقال لا على ملة علي ، ولا على ملة عثمان ، أنا على ملة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم .
وكانت الشيعة أصحاب علي يقدمون عليه أبا بكر وعمر ، وإنما كان النزاع في تقديمه على عثمان ،ولم يكن حينئذ يسمى أحد لا إماميا ولا رافضيا وإنما سموا رافضة ، وصاروا رافضة ، لما خرج زيد بن علي بن الحسين بالكوفة ، في خلافة هشام ، فسألته الشيعة عن أبي بكر وعمر ، فترحم عليهما فرفضه قوم ، فقال رفضتموني رفضتموني . فسموا رافضة ، وتولاه قوم فسموا زيدية ، لانتسابهم إليه .
ومن حينئذ انقسمت الشيعة ، إلى رافضة إمامية وزيدية ، وكلما زادوا في البدعة زادوا في الشر ، فالزيدية خير من الرافضة ، أعلم وأصدق وأزهد ، وأشجع .
ثم بعد أبي بكر ، عمر بن الخطاب هو الذي لم تكن تأخذه في الله لومة لائم ، وكان أزهد الناس باتفاق الخلق كما قيل فيه رحم الله عمر لقد تركه الحق ما له من صديق .
ونحن لا ندعي العصمة لكل صنّف من أهل السنّة ، وإنما ندعي أنهم لا يتفقون على ضلالة ، وأن كل مسألة اختلف فيها أهل السنّة والجماعة والرافضة ، فالصواب فيها مع أهل السنّة .
وحيث تصيب الرافضة ، فلا بد أن يوافقهم على الصواب بعض أهل السنّة، وللروافض خطأ لا يوافقهم أحد عليه من أهل السنّة ، وليس للرافضة مسألة واحدة لا يوافقهم فيها أحد فانفردوا بها عن جميع أهل السنّة والجماعة إلا وهم مخطئون فيها كإمامة الإثنى عشر ، وعصمتهم .
(فصـــل )
قال الرافضي : (( وذهب جميع من عدا الإمامية والاسماعيلية إلى أن الأنبياء والأئمة غير معصومين ، فجوّزوا بعثة من يجوز عليه الكذب والسهو والخطأ والسرقة ، فأي وثوق يبقى للعامة في أقوالهم ، وكيف يحصل الانقياد إليهم ، وكيف يجب اتباعهم مع تجويز أن يكون ما يأمرون به خطأ ؟ ولم يجعلوا الأئمة محصورين في عدد معين ، بل كان من بايع قرشيا انعقدت إمامته عندهم ، ووجب طاعته على جميع الخلق إذا كان مستور الحال ، وإن كان على غاية من الكفر والفسوق والنفاق )).
فيقال :الكلام على هذا من وجوه :
أحدها : أن يقال : ما ذكرته عن الجمهور من نفي العصمة عن الأنبياء وتجويز الكذب والسرقة والأمر بالخطأ عليهم ، فهذا كذب على الجمهور ، فإنهم متفقون على أن الأنبياء معصومون في تبليغ الرسالة ، ولا يجوز أن يستقر في شيء من الشريعة خطأ باتفاق المسلمين ، وكل ما يبلّغونه عن الله عز وجل من الأمر والنهي يجب طاعتهم فيه باتفاق المسلمين ، وما أخبروا به وجب تصديقهم فيه بإجماع المسلمين ، وما أمروهم به ونهوهم عنه وجبت طاعتهم فيه عند جميع فرق الأمة ، إلا عند طائفة من الخوارج يقولون: إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم معصوم فيما يبلّغه عن الله ، لا فيما يأمر هو به وينهى عنه . وهؤلاء ضُلاّل باتفاق أهل السنّة والجماعة .
وقد ذكرنا غير مرة أنه إذا كان في بعض المسلمين من قال قولا خطأ لم يكن ذلك قدحا في المسلمين ، ولو كان كذلك لكان خطأ الرافضة عيبا في دين المسلمين ، فلا يُعرف في الطوائف أكثر خطأ وكذبا منهم ، وذلك لا يضر المسلمين شيئا ، فكذلك لا يضرهم وجود مخطئ آخر غير الرافضة.
وأكثر الناس – أو كثير منهم – لا يجوِّزون عليهم الكبائر ، والجمهور
الذين يجوزون الصغائر – هم ومن يجوِّز الكبائر – يقولون : إنهم لا يُقَرُّون عليها ، بل يحصل لهم بالتوبة منها من المنزلة أعظم مما كان قبل ذلك ، كما تقدم التنبيه عليه .
وبالجملة فليس في المسلمين من يقول : أنه يجب طاعة الرسول مع جواز أن يكون أمره خطأ ، بل هم متفقون على أن الأمر الذي يجب طاعته لا يكون إلا صوابا . فقوله : (( كيف يجب اتباعهم مع تجويز أن يكون ما يأمرون به خطأ ؟ قول لا يلزم أحدا من الأمة .
وللناس في تجويز الخطأ عليهم في الاجتهاد قولان معروفان ، وهم متفقون على أنهم لا يقرُّون عليه ، وإنما يطاعون فيما أقرُّوا عليه ، لا فيما غيَّره الله ونهى عنه ، ولم يأمر بالطاعة فيه .
وأما عصمة الأئمة فلم يَقُل بها – إلا كما قال – الإمامية والإسماعيلية. وناهيك بقول لم يوافقهم عليه إلا الملاحدة المنافقون ، الذين شيوخهم الكبار أكفر من اليهود والنصارى والمشركين !. وهذا دأب الرافضة دائما يتجاوزون عن جماعة المسلمين إلى اليهود والنصارى والمشركين في الأقوال والموالاة والمعاونة والقتال وغير ذلك .
فهل يوجد أضل من قوم يعادون السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، ويوالون الكفار والمنافقين ؟ وقد قال الله تعالى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِنْكُم وَلا َمِنْهُم وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُون . أَعَدَّ اللهُ لَهُم عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُم سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون ، اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُم جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ فَلَهُم عَذَابٌ مُهِين . لَن تُغْنِي عَنْهُم أَمْوَالَهُم وَلاَ أَوْلاَدهُم مِنَ اللهِ شَيئًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون . يَوْمَ يَبْعَثُهُم اللهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُم وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم عَلَى شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُم هُمُ الكَاذِبون . اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَان فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ الله أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَان أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُون . إِنَّ الَّذِينَ يُحَادّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ في الأَذَلّين . كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسِلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيز، لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِر يُوَادّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُم أَو أَبْنَاءَهُم أو إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِم الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْه وَيُدْخِلُهُم جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارَ خَالِدِينَ فِيهام وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الله أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُون ( ).
فهذه الآيات نزلت في المنافقين ، وليس المنافقون في طائفة أكثر منهم في الرافضة ، حتى أنه ليس في الروافض إلا من فيه شعبة من شعب النفاق .
كما فال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : (( أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من خصل النفاق حتى يدعها : إذا حدّث كذب ، وإذا اؤتمن خان ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر)) أخرجاه في الصحيحين( ) .
قال تعالى : َترَىَ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُم أَنْفُسُهُم أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُم خَالِدُون . وَلَو كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُم أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُون ( ) وقال تعالى : ُلعنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُون . كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ، تَرَى كَثِيرًا مِنْهُم يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ( ) .
وهم غالبا لا يتناهون عن منكر فعلوه ، بل ديارهم أكثر البلاد منكرا من الظلم والفواحش وغير ذلك ، وهم يتولون الكفار الذين غضب الله عليهم ، فليسوا مع المؤمنين ولا مع الكفار ، كما قال تعالى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ مَا هُم مِنْكُم وَلاَ مِنْهُم ( ) .
ولهذا هم عند جماهير المسلمين نوع آخر ، حتى إن المسلمين لما قاتلوهم بالجبل الذي كانوا عاصين فيه بساحل الشام ، يسفكون دماء المسلمين، ويأخذون أموالهم ، ويقطعون الطريق ، استحلالا لذلك وتدينا به ، فقاتلهم صنف من التركمان ، فصاروا يقولون : نحن مسلمون ، فيقولون :لا ، أنتم جنس آخر خارجون عن المسلمين لامتيازهم عنهم .
وقد قال الله تعالى: وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُون ( ) .
وهذا حال الرافضة ،وكذلك: وَاتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله إلى قوله : لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَه ….الآية ( ) وكثير منهم يواد الكفار من وسط قلبه أكثر من موادّته للمسلمين . ولهذا لما خرج الترك الكفار من جهة المشرق فقاتلوا المسلمين وسفكوا دماءهم ، ببلاد خرسان والعراق والشام والجزيرة وغيرها ، كانت الرافضة معاونة لهم على قتال المسلمين ، ووزير بغداد المعروف بالعلقمي هو وأمثاله كانوا من أعظم الناس معاونة لهم على المسلمين ، وكذلك الذين كانوا بالشام بحلب وغيرها من الرافضة كانوا من أشد الناس معاونة لهم على قتال المسلمين . وكذلك النصارى الذين قاتلهم المسلمون بالشام كانت الرافضة من أعظم أعوانهم ، وكذلك إذا صار لليهود دولة بالعراق وغيره تكون الرافضة من أعظم أعوانهم ، فهم دائما يوالون الفار من المشركين واليهود والنصارى ، ويعاونونهم على قتال المسلمين ومعاداتهم .
ثم إن هذا ادّعى عصمة الأئمة دعوى لم يقم عليها حجة ، إلا ما تقدم من أن الله لم يخل العالم من أئمة معصومين لما في ذلك من المصلحة واللطف، ومن المعلوم المتيقن أن هذا المنتظر الغائب المفقود لم يحصل به شيء من المصلحة واللطف ، سواء كان ميتا ، كما يقوله الجمهور ، أو كان حيا ، كما تظنه الإمامية . وكذلك أجداده المتقدمون لم يحصل بهم شيء من المصلحة واللطف الحاصلة من إمام معصوم ذي سلطان ، كما كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بالمدينة بعد الهجرة ، فإنه كان إمام المؤمنين الذي يجب عليهم طاعته ، ويحصل بذلك سعادتهم ، ولم يحصل بعده أحد له سلطان تُدعى له العصمة إلا علي ّ زمن خلافته .
ومن المعلوم بالضرورة أن حال اللطف و المصلحة التي كان المؤمنون فيها زمن الخلفاء الثلاثة ، أعظم من اللطف والمصلحة الذي كان في خلافة علي زمن القتال و الفتنة والافتراق ، فإذا لم يوجد من يدعي الإمامية فيه أنه معصوم وحصل له السلطان بمبايعة ذي الشوكة إلا عليّ وحده ، وكان مصلحة المكلفين واللطف الذي حصل لهم في دينهم ودنياهم في ذلك الزمان أقل منه في زمن الخلفاء الثلاثة ،عُلم بالضرورة أن ما يدّعونه من اللطف والمصلحة الحاصلة بالأئمة المعصومين باطل قطعا.
وهو من جنس الهدى والإيمان الذي يُدَّعى في رجال الغيب بجبل لبنان وغيره من الجبال مثل جبل قاسيون بدمشق ، ومغارة الدم ، وجبل الفتح بمصر ، ونحو ذلك من الجبال والغيران ، فإن هذه المواضع يسكنها الجن ، ويكون بها شياطين ، ويتراءون أحيانا لبعض الناس ، ويغيبون عن الأبصار في أكثر الأوقات ، فيظن الجهال أنهم رجال من الإنس ، وإنما هم رجال من الجن .
كما قال تعالى : وَإِنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ( ) .
وهؤلاء يؤمن بهم وبمن ينتحلهم من المشايخ طوائف ضالون ، لكن المشايخ الذين ينتحلون رجال الغيب لا يحصل بهم من الفساد ما يحصل بالذين يدّعون الإمام المعصوم ، بل المفسدة والشر الحاصل في هؤلاء أكثر ، فإنهم يدّعون الدعوة إلى إمام معصوم ، ولا يوجد لهم أئمة ذووا سيف يستعينون بهم ، إلا كافر أو فاسق أو منافق أو جاهل ، لا تخرج رؤوسهم عن هذه الأقسام .
والإسماعيلية شر منهم ، فإنهم يدعون إلى الإمام المعصوم ، ومنتهى دعوتهم إلى رجال ملاحدة منافقين فسّاق ، ومنهم من هو شر في الباطن من اليهود والنصارى .
فالداعون إلى المعصوم لا يدعون إلى سلطان معصوم ، بل إلى سلطان كفور أو ظلوم ، وهذا أمر مشهور يعرفه كل من له خبرة بأحوالهم .
وقد قال تعالى : َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِر ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ( )، فأمر الله المؤمنين عند التنازع بالرد إلى الله والرسول ، ولو كان للناس معصوم غير الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم لأمرهم بالرد إليه ، فدل القرآن على أنه لا معصوم إلا الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم .
(فصـــل )
وأما قوله : (( ولم يجعلوا الأئمة محصورين في عدد معين )) فهذا حق . وذلك أن الله تعالى قال : َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُم ، ولم يوقّتهم بعدد معين .
وكذلك قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في الأحاديث الثابتة عنه المستفيضة لم يوقِّت ولاة الأمور في عدد معين . ففي الصحيحين عن أبي ذر قال : (( إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع وإن كان عبدا حبشيا مجدّع الأطراف ))( ) .
( فصـــل )
وأما قوله عنهم ((كل من بايع قرشيا انعقدت إمامته ووجبت طاعته على جميع الخلق إذا كان مستور الحال ، وإن كان على غاية من الفسق والكفر والنفاق )) .
فجوابه من وجوه :
أحدها : أن هذا ليس من قول أهل السنة والجماعة ، وليس مذهبهم أنه بمجرد مبايعة واحد قرشي تنعقد بيعته ، ويجب على جميع الناس طاعته ، وهذا وإن كان قد قاله بعض أهل الكلام ، فليس هو قول أهل السنة والجماعة، بل قد قال عمر بن الخطاب : (( من بايع رجلا بغير مشورة المسلمين ، فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغِرَّة أن يُقتلا )). الحديث رواه البخاري ، وسيأتي بكماله إن شاء الله تعالى .
الوجه الثاني : أنهم لا يوجبون طاعة الإمام في كل ما يأمر به ، بل لا يوجبون طاعته إلا فيما تسوغ طاعته فيه في الشريعة ، فلا يجوّزون طاعته في معصية الله وإن كان إماما عادلاً ، وإذا أمرهم بطاعة الله فأطاعوه: مثل ان يأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، والصدق والعدل والحج والجهاد في سبيل الله ، فهم في الحقيقة إنما أطاعوا الله ، والكافر والفاسق إذا أمر بما هو طاعة لله لم تحرم طاعة الله ولا يسقط وجوبها لأجل أمر ذلك الفاسق بها ، كما أنه إذا تكلم بحق لم يجز تكذيبه ولا يسقط وجوب اتباع الحق لكونه قد قاله فاسق ، فأهل السنة لا يطيعون ولاة الأمور مطلقا ، إنما يطيعونهم في ضمن طاعة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم .
كما قال تعالى: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُم ( )
فأمر بطاعة الله مطلقا ، وأمر بطاعة الرسول لأنه لا يأمر إلا بطاعة الله َمنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله ( ) و جعل طاعة أولي الأمر داخلة في ذلك ، فقال : وَأُوليِ الأَمْرِ مِنْكُم ولم يذكر لهم طاعة ثالثة ، لأن ولي الأمر لا يطاع طاعة مطلقة ، إنما يطاع في المعروف.
كما قال النبي صلى الله تعالىعليه وسلم:((إنما الطاعة في المعروف))( ) وقال: (( لا طاعة في معصية الله ))( ) و ((لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق))( ) وقال : (( من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه ))( ) .
وقال هؤلاء الرافضة المنسوبين إلى شيعة علي ّ أنه تجب طاعة غير الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم مطلقا في كل ما أمر به ، أفسد من قول من كان منسوبا إلى شيعة عثمان من أهل الشام من أنه يجب طاعة ولي الأمر مطلقا ، فإن أولئك كانوا يطيعون ذا السلطان وهو موجود ، وهؤلاء يوجبون طاعة معصوم مفقود .
وأيضا فأولئك لم يكونوا يدّعون في أئمتهم العصمة التي تدعيها الرافضة ،بل كانوا يجعلونهم كالخلفاء الراشدين وأئمة العدل الذين يقلدون فيما لا تعرف حقيقة أمره ، أو يقولون : إن الله يقبل منهم الحسنات ويتجاوز عن السيئات . وهذا أهون ممن يقول : أنهم معصومون ولا يخطئون .
فتبين ان هؤلاء المنسوبين إلى النصب من شيعة عثمان ، وإن كان فيهم خروج عن بعض الحق والعدل ، فخروج الإمامية عن الحق والعدل أكثر وأشد ، فكيف بقول أئمة السنة الموافق للكتاب والسنة ،وهو الأمر بطاعة ولي الأمر فيما يأمر به من طاعة الله ، دون ما يأمر به من معصية الله .
( فصـل )
قال الرافضي : (( وذهب الجميع منهم إلى القول بالقياس ، والأخذ بالرأي ، فأدخلوا في دين الله ما ليس منه ، وحرّفوا أحكام الشريعة ، وأحدثوا مذاهب أربعة لم تكن في زمن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا زمن صحابته ، وأهملوا أقاويل الصحابة ، مع أنهم نصُّوا على ترك القياس ، وقالوا : أول من قاس إبليس )) .
فيقال الجواب عن هذا من وجوه :
أحدها : أن دعواه على جميع أهل السنة المثبتين لإمامة الخلفاء الثلاثة أنهم يقولون بالقياس دعوى باطلة ، قد عُرف فيهم طوائف لا يقولون بالقياس ، كالمعتزلة البغداديين ، وكالظاهرية كداود وابن حزم وغيرهما ، وطائفة من أهل الحديث والصوفية .
وأيضا ففي الشيعة من يقول بالقياس كالزيدية . فصار النزاع فيه بين الشيعية كما هو بين أهل السنة والجماعة .
الثاني : أن يقال : القياس ولو قيل : إنه ضعيف هو خير من تقليد من لم يبلغ في العلم مبلغ المجتهدين ، فإن كل من له علم وإنصاف يعلم أن مثل مالك والليث بن سعد والأوْزاعي وأبي حنيفة والثَّوري وابن أبى ليلى ، ومثل الشافعي وأحمد إسحاق وأبى عبيد وأبى ثَوْر أعلم وأفقه من العسكريين أمثالهما.
وأيضا فهؤلاء خير من المنتظر الذي لا يعلم ما يقول ، فإن الواحد من هؤلاء إن كان عنده نص منقول عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فلا ريب أن النص الثابت عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مقدَّم على القياس بلا ريب ، وإن لم يكن عنده نص ولم يقل بالقياس كان جاهلا ، فالقياس الذي يفيد الظن خير من الجهل الذي لا علم معه ولا ظن ، فإن قال هؤلاء كل ما يقولونه هو ثابت عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان هذا أضعف من قول من قال كل ما يقوله المجتهد فإنه قول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، فإن هذا يقوله طائفة من أهل الرأي ، وقولهم أقرب من قول الرافضة ، فإن قول أولئك كذب صريح .
وأيضا فهذا كقول من يقول : عمل أهل المدينة متلقى عن الصحابة وقول الصحابة متلقى عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وقول من يقول : ما قاله الصحابة في غير مجاري القياس فإنه لا يقوله إلا توقيفا عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وقوله من يقول : قول المجتهد أو الشيخ العارف هو إلهام من الله ووحي يجب اتباعه .
فإن قال : هؤلاء تنازعوا .
قيل وأولئك تنازعوا ، فلا يمكن أن تدَّعي دعوى باطلة إلا أمكن معارضتهم بمثلها أو بخير منها ولا يقولون حقًّا إلا كان في أهل السنة والجماعة من يقول مثل ذلك الحق أو ما هو خير منه ، فإن البدعة مع السنة كالكفر مع الإيمان . وقد قال تعالى : وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً( ) .
الثالث : أن يقال الذين أدخلوا في دين الله ما ليس منه وحرّفوا أحكام الشريعة ، ليسوا في طائفة أكثر منهم في الرافضة ، فإنهم أدخلوا في دين الله من الكذب على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما لم يكذبه غيرهم ، وردّوا من الصدق ما لم يرده غيرهم ، وحرّفوا القرآن تحريفاً لم يحرّفه أحد غيرهم مثل قولهم : إن قوله تعالى : إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُون ( ) نزلت في عليّ لما تصدق بخاتمه في الصلاة .
وقوله تعالى : َمرَجَ الْبَحْرَيْنِ ( ) : علي وفاطمة ، َيخرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَان ( ) : الحسن والحسين ، وَكُلُّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِين ( )علي بن أبي طالب إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيم وَآلَ عِمْرَانَ ( )هم آل أبي طالب واسم أبي طالب عمران،َفقاتلواأَئِمَّةَ الْكُفْر( ) :طلحة والزبير، وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآن ( ) هم بنو أمية ، إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُم أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَة( ) :عائشة و َلئنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ( ) : لئن أشركت بين أبي بكر وعلي في الولاية .
وكل هذا وأمثاله وجدته في كتبهم . ثم من هذا دخلت الإسماعيلية والنصيرية في تأويل الواجبات والمحرّمات ، فهم أئمة التأويل ، الذي هو تحريف الكلم عن مواضعه ، ومن تدبر ما عندهم وجد فيه من الكذب في المنقولات ، والتكذيب بالحق منها والتحريف لمعانيها ، مالا يوجد في صنف من المسلمين ، فهم قطعا أدخلوا في دين الله ما ليس منه أكثر من كل أحد ، وحرّفوا كتابه تحريفا لم يصل غيرهم إلى قريب منه .
الوجه الرابع : قوله : ((وأحدثوا مذاهب أربعة لم تكن في زمن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا زمن صحابته ، وأهملوا أقاويل الصحابة )).
فيقال له : متى كان مخالفة الصحابة والعدول عن أقاويلهم منكراً عند الإمامية ؟ وهؤلاء متفقون على محبة الصحابة وموالاتهم وتفضيلهم على سائر القرون وعلى أن إجماعهم حجة ، وعلى أنه ليس لهم الخروج عن إجماعهم ، بل عامة الأئمة المجتهدين يصرّحون بأنه ليس لنا أن نخرج عن أقاويل الصحابة ، فكيف يطعن عليهم بمخالفة الصحابة من يقول : إن إجماع الصحابة ليس بحجة ، وينسبهم إلى الكفر والظلم ؟
فإن كان إجماع الصحابة حجة فهو حجة على الطائفتين ، وإن لم يكن حجة فلا يحتج به عليهم .
وإن قال : أهل السنة يجعلونه حجة ، وقد خالفوه .
قيل : أما أهل السنة فلا يتصور أن يتفقوا على مخالفة إجماع الصحابة ، وأما الإمامية فلا ريب أنهم متفقون على مخالفة إجماع العترة النبوية ، مع مخالفة إجماع الصحابة ، فإن لم يكن في العترة النبوية –بنو هاشم – على عهد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضى الله عنهم من يقول بإمامة الاثنى عشر ولا بعصمة أحد بعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، ولا بكفر الخلفاء الثلاثة ، بل ولا من يطعن في إمامتهم ، بل ولا من ينكر الصفات ، ولا من يكذب بالقدر .
فالإمامية بلا ريب متفقون على مخالفة إجماع العترة النبوية ، مع مخالفتهم لإجماع الصحابة ، فكيف ينكرون على من لم يخالف لا إجماع الصحابة ولا إجماع العترة ؟ .
الوجه الخامس : أن قوله : (( أحدثوا مذاهب أربعة لم تكن على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم )). إن أراد بذلك أنهم اتفقوا على أن يحدثوا هذه المذاهب مع مخالفة الصحابة فهذا كذب عليهم ، فإن هؤلاء الأئمة لم يكونوا في عصر واحد ، بل أبو حنيفة توفى سنة خمسين ومائة ومالك سنة تسع وسبعين ومائة ، والشافعي سنة أربع ومائتين ، وأحمد بن حنبل سنة إحدى وأربعين ومائتين ، وليس في هؤلاء من يقلد الآخر ، ولا من يأمر باتّباع الناس له ، بل كل منهم يدعو إلى متابعة الكتاب والسنة ، وإذا قال غيره قولا يخالف الكتاب والسنة عنده رده ،ولا يوجب على الناس تقليده.
وإن قلت ان هذه المذاهب اتّبعهم الناس ، فهذا لم يحصل بموطأة ، بل اتفق أن قوما اتّبعوا هذا ، وقوما اتبعوا هذا ، كالحجاج الذين طلبوا من يدلهم على الطريق ، فرأى قوم هذا الدليل خبيراً فاتّبعوه ، وكذلك الآخرون .
وإذا كان كذلك لم يكن في ذلك اتفاق أهل السنة على باطل ، بل كل قوم منهم ينكرون ما عند غيرهم من الخطأ ، فلم يتفقوا على أن الشخص المعيّن عليه أن يقبل من كل من هؤلاء ما قاله ، بل جمهورهم لا يأمرون العاميّ بتقليد شخص معيّن غير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في كل ما يقوله.
والله تعالى قد ضمن العصمة للامة ، فمن تمام العصمة أن يجعل عدداً من العلماء إن أخطأ الواحد منهم في شيء كان الآخر قد أصاب فيه حتى لا يضيع الحق ، ولهذا لما كان في قول بعضهم من الخطأ مسائل ، كبعض المسائل التي أوردها ، كان الصواب في قول الآخر ، فلم يتفق أهل السنة على ضلالة أصلا ، وأما خطأ بعضهم في بعض الدين ، فقد قدّمنا في غير مرة أن هذا لا يضر ، كخطأ بعض المسلمين . وأما الشيعة فكل ما خالفوا فيه أهل السنة كلهم فهم مخطئون فيه ، كما أخطأ اليهود والنصارى في كل ما خالفوا فيه المسلمين .
الوجه السادس : أن يُقال : قوله : (( إن هذه المذاهب لم تكن في زمن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا الصحابة ))إن أراد أن الأقوال التي
لهم لم تنقل عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا عن الصحابة ، بل تركوا قول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والصحابة وابتدعوا خلاف ذلك ، فهذا كذب عليهم ، فإنهم لم يتفقوا على مخالفة الصحابة ، بل هم – وسائر أهل السنة – متبعون للصحابة في أقوالهم ، وإن قدّر أن بعض أهل السنّة خالف الصحابة لعدم علمه بأقاويلهم ، فالباقون يوافقون ويثبتون خطأ من يخالفهم ، وإن أراد أن نفس أصحابها لم يكونوا في ذلك الزمان ، فهذا لا محذور فيه . فمن المعلوم أن كل قرن يأتي يكون بعد القرن الأول .
الوجه السابع : قوله : (( وأهملوا أقاويل الصحابة )) كذب منه ، بل كتب أرباب المذاهب مشحونة بنقل أقاويل الصحابة والاستدلال بها ، وإن كان عند كل طائفة منها ما ليس عند الأخرى . وإن قال : أردت بذلك أنهم لا يقولون : مذهب أبي بكر وعمر ونحو ذلك ، فسبب ذلك أن الواحد من هؤلاء جمع الآثار وما استنبطه منها ، فأضيف ذلك إليه ، كما تضاف كتب الحديث إلى من جمعها ، كالبخاري ومسلم وأبي داود ، ، وكما تضاف القراءات إلى من اختارها ، كنافع وابن كثير .
وغالب ما يقوله هؤلاء منقول عمن قبلهم ، وفي قول بعضهم ما ليس منقولا عمن قبله ، لكنه استنبطه من تلك الأصول . ثم قد جاء بعده من تعقب أقواله فبيّن منها ما كان خطأ عنده ، كل ذلك حفظا لهذا الدين ، حتى يكون أهله كما وصفهم الله به َيأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر ( ) فمتى وقع من أحدهم منكر خطأ أو عمداً أنكره عليه غيره .
وليس العلماء بأعظم من الأنبياء ، وقد قال تعالى : وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْم وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِين . فَفَهَّمْناهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْمًا ( ) .
وثبت في الصحيحين عن ابن عمرما أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال لأصحابه عام الخندق : (( لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة، فأدركتهم صلاة العصر في الطريق ، فقال بعضهم : لم يُرد منا تفويت الصلاة، فصلُّوا في الطريق . وقال بعضهم : لا نصلي إلا في بني قريظة،فصلوا العصر بعد ماغربت الشمس،فما عنّف واحدة من الطائفتين ))( ) فهذا دليل على أن المجتهدين يتنازعون في فهم كلام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وليس كل واحد منهم آثماً .
الوجه الثامن : أن أهل السنة لم يقل أحد منهم إن إجماع الأئمة الأربعة حجة معصومة ، ولا قال : إن الحق منحصر فيها ، وإن ما خرج عنها باطل ، بل إذا قال من ليس من أتباع الأئمة ، كسفيان الثوري والأوزاعي واللَيْث بن سعد ومن قبلهم ومن بعدهم من المجتهدين قولا يخالف قول الأئمة الأربعة ، رُدَّ ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله ، وكان القول الراجح هو القول الذي قام عليه الدليل .
الوجه التاسع : قوله : (( الصحابة نصوا على ترك القياس )) . يقال [له] : الجمهور الذين يثبتون القياس قالوا: قد ثبت عن الصحابة أنهم قالوا بالرأي واجتهاد الرأي وقاسوا ، كما ثبت عنهم ذم ما ذموه من القياس . قالوا: وكلا القولين صحيح ، فالمذموم القياس المعارض للنص ، كقياس الذين قالوا : إنما البيع مثل الربا ، وقياس إبليس الذي عارض به أمر الله له بالسجود لآدم ، وقياس المشركين الذين قالوا: أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتله الله ؟ قال الله تعالى : وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُم المُشْرِكُون ( ) .
وكذلك القياس الذي لا يكون الفرع فيه مشاركا للأصل في مناط الحكم، فالقياس يُذم إما لفوات شرطه ،وهو عدم المساواة في مناط الحكم، وإما لوجود مانعه ، وهو النص الذي يجب تقديمه عليه ، وإن كانا متلازمَيْن في نفس الأمر ، فلا يفوت الشرط إلا والمانع موجود ، ولا يوجد المانع إلا والشرط مفقود .
فأما القياس الذي يستوي فيه الأصل والفرع في مناط الحكم ولم يعارضه ماهو أرجح منه ، فهذا هو القياس الذي يتبع .
ولا ريب أن القياس فيه فاسد ، وكثير من الفقهاء قاسوا أقيسة فاسدة ، بعضها باطل بالنص ، وبعضها مما اتفق على بطلانه ، لكن بطلان كثير من القياس لا يقتضي بطلان جميعه ، كما أن وجود الكذب في كثير من الحديث لا يوجب كذب جميعه .
(فـصـــل)
قال الرافضي : (( الوجه الثاني : في الدلالة على وجوب اتّباع مذهب الإمامية : ما قاله شيخنا الإمام الأعظم خواجه نصير الملة والحق والدين محمد بن الحسن الطوسي ، قدّس الله روحه ، وقد سألته عن المذاهب فقال : بحثنا عنها وعن قول رسول الله :(( ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقه ،منها فرقة ناجية ، والباقي فى النار))( ) ، وقد عين الفرقة الناجية والهالكة في حديث أخر صحيح متفق عليه ، وهو قوله : (( مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح : من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق )) ، فوجدنا الفرقه الناجية هي فرقة الإمامية، لأنهم باينوا جميع المذاهب، وجميع المذاهب
قد اشتركت في أصول العقائد )).
فيقال : الجواب من وجوه:
أحدها : أن هذا الإمامي قد كَّفر من قال : ان الله موجب بالذات ، كما تقدم من قوله : يلزم أن يكون الله موجباً بذاته لا مختارا فيلزم الكفر .
وهذا الذي جعله شيخه الأعظم واحتج بقوله، هو ممن يقول بأن الله موجب بالذات ، ويقول بقدم العالم،كما ذكرذلك فى كتاب ((شرح الإشارات)) له. فيلزم على قوله أن يكون شيخه هذا الذي احتج به كافراً، والكافر لا يُقبل قوله في دين المسلمين .
الثاني: أن هذا الرجل قد اشتهر عند الخاص والعام أنه كان وزير الملاحدة الباطنية الإسماعيلية بالألموت( ) ، ثم لما قدم الترك المشركون الى بلاد المسلمين ، وجاءوا الى بغداد ،دار الخلافة ، كان هذا منجما مشيرا لملك الترك المشركين هولاكو أشار عليه بقتل الخليفة ، وقتل أهل العلم والدين، واستبقاء أهل الصناعات والتجارات الذين ينفعونه في الدنيا ، وأنه استولى على الوقف الذي للمسلمين ، وكان يعطي منه ما شاء الله لعلماء المشركين وشيوخهم من البخشية السحرة وأمثالهم وأنه لما بنى الرَّصد الذي بمراغة على طريق الصابئة المشركين ، كان أبخس الناس نصيبا منه من كان إلى أهلِ الملل أقرب ، وأوفرهم نصيبا من كان أبعدهم عن الملل ، مثل الصابئة المشركين ومثل المعطّلة وسائر المشركون ، وإن ارتزقوا بالنجوم والطب ونحو ذلك .
ومن المشهور عنه وعن أتباعه الاستهتار بواجبات الإسلام ومحرَّماته، لا يحافظون على الفرائض كالصلوات ، ولا ينزعون من محارم الله من الفواحش والخمر وغير ذلك من المنكرات ، حتى أنهم في شهر رمضان يُذكر عنهم من إضاعة الصلوات ، وارتكاب الفواحش ، وشرب الخمر –ما يعرفه أهل الخبرة بهم ، ولم يكن لهم قوة وظهور إلا مع المشركين ، الذين دينهم شر من دين اليهود والنصارى .
ولهذا كان كلما قوى الإسلام في المغل وغيرهم من ترك ، ضعف أمر هؤلاء لفرط معاداتهم للإسلام وأهله . ولهذا كانوا من أنقص الناس منزلة عند الأمير نوروز المجاهد في سبيل الله الشهيد ، الذي دعا ملك المغل غازان إلى الإسلام ، والتزم له أن ينصره إذا أسلم ، وقتل المشركين الذين لم يسلموا من البخشية السحرة وغيرهم ، وهدم البذخانات ، وكسر الأصنام ومزق سدنتها كل ممزق ، وألزم اليهود والنصارى بالجزية والصغار ، وبسببه ظهر الإسلام في المغل وأتباعهم .
وبالجملة فأمر هذا الطوسى وأتباعه عند المسلمين أشهر وأعرف من أن يعرف ويوصف . ومع هذا فقد قيل : إنه كان آخر عمره يحافظ على الصلوات الخمس ويشتغل بتفسير البغوى والفقه ونحو ذلك . فإن كان قد تاب من الإلحاد فالله يقبل التوبة عن عباده ، ويعفو عن السيئات . والله تعالى يقول: َيا عباِديَ الَّذِينَ أَسْرَفوا عَلَى أنفسِهِمْ لا تَقْنَطوا مِن رَّحْمَة الله إنَّ اللهَ يَغْفِر الذُنوبَ جميعا ( ) .
لكن ما ذكره عن هذا ، إن كان قبل التوبة لم يُقبل قوله ، وإن كان بعد التوبة لم يكن قد تاب من الرفض ، بل من الإلحاد وحده . وعلى التقديرين فلا يُقبل قوله . والأظهر أنه إنما كان يجتمع به وبأمثاله لما كان منجما للمغل المشركين ، والإلحاد معروف من حاله إذ ذلك .
فمن يقدح في مثل أبي بكر وعمر وعثمان ، وغيرهم من السابقين الأوَّلين من المهاجرين والأنصار ، ويطعن على مثل مالك والشافعي وأي حنيفة وأحمد بن حنبل وأتباعهم ، ويعيرهم بغلطات بعضهم في مثل إباحة الشطرنج والغناء ، كيف يليق به أن يحتج لمذهبه بقول مثل هؤلاء الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، ولا يحرِّمون ما حرم الله ورسوله ، ولا يدينون دين الحق ، ويستحلون المحرَّمات المجمع على تحريمها ، كالفواحش والخمر ، في مثل شهر رمضان ، الذين أضاعوا الصلاة واتّبعوا الشهوات ، وخرقوا سياج الشرائع ، واستخفّوا بحرمات الدين ، وسلكوا غير طريق المؤمنين ، فهم كما قيل فيهم :
الدين يشكـو بليـة من فرقة فلسـفية
لا يشهدون صـلاة إلا لأجـل التقيـة
ولا ترى الشرع إلا سياسـة مدنيــة
ويؤثـرون عليــه منـاهجا فلسفـية
ولكن هذا حال الرافضة : دائما يعادون أولياء الله المتقين ـ من السابقين الأولين ،من المهاجرين والأنصار ، والذين اتّبعوا بإحسان ، ويوالون الكفّار والمنافقين . فإن أعظم الناس نفاقا في المنتسبين إلى الإسلام هم الملاحدة الباطنية الإسماعيلية ، فمن احتج بأقوالهم في نصرة قوله ، مع ما تقدم من طعنه على أقوال أئمة المسلمين – كان من أعظم الناس موالاة لأهل النفاق ، ومعاداة لأهل الإيمان .
ومن العجب أن هذا المصنف الرافضي الخبيث الكذّاب المفتري ، يذكر أبا بكر وعمر وعثمان ، وسائر السابقين والأوَّلين والتابعين ، وسائر أئمة المسلمين ، من أهل العلم والدين بالعظائم التي يفتريها عليهم هو وإخوانه، ويجيء إلى من قد اشتُهر عند المسلمين بمحادته لله ورسوله ، فيقول : ((قال شيخنا الأعظم )) ، ويقول ((قدس الله روحه )) مع شهادته بالكفر عليه وعلى أمثاله ،ومع لعنة طائفته لخيار المؤمنين من الأولين والآخرين .
وهؤلاء داخلون في معنى قوله تعالى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً . أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ
لَهُ نَصِيرًا ( ).
فإن هؤلاء الإمامية أوتوا نصيبا من الكتاب ، إذ كانوا مقرِّين ببعض ما في الكتاب المنزَّل ، وفيهم شعبة من الإيمان بالجبت وهو السحر ، والطاغوت وهو كل ما يعبد من دون الله ، فإنهم يعظِّمون الفلسفة المتضمنة لذلك ، ويرون الدعاء والعبادة للموتى ، واتخاذ المساجد على القبور ، ويجعلون السفر إليها حجا له مناسك ، ويقولون : (( مناسك حج المشاهد )).
وحدثني الثقات أن فيهم من يرون الحج إليها أعظم من الحج إلى البيت العتيق، فيرون الإشراك بالله أعظم من عبادة الله ، وهذا من أعظم الإيمان بالطاغوت .
وهم يقولون لمن يقرُّون بكفره من القائلين بقدم العالم ودعوة الكواكب، والمسوِّغين للشرك : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ، فإنهم فضّلوا هؤلاء الملاحدة المشركين على السابقين الأوَّلين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان. وليس هذا ببدع من الرافضة ، فقد عُرف من موالاتهم لليهود والنصارى والمشركين ،ومعاونتهم على قتال المسلمين ، ما يعرفه الخاص والعام ، حتى قيل : أنه ما اقتتل يهودي ومسلم ، ولا مشرك ومسلم – إلا كان الرافضي مع اليهودي والنصراني والمشرك.
الوجه الثالث : أنه قد عرف كل أحد أن الإسماعيلية والنصيرية هم من الطوائف الذين يظهرون التشيع ، وإن كانوا في الباطن كفّاراً منسلخين عن كل ملة ، والنصيرية هم من غلاة الرافضة الذين يدّعون إلهية عليّ وهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى باتفاق المسلمين .
والإسماعيلية الباطنية أكفر منهم ، فإن حقيقة قولهم التعطيل . أما أصحاب الناموس الأكبر والبلاغ الأعظم ، الذي هو آخر المراتب عندهم ، فهم من الدهرية القائلين بأن العالم لا فاعل له : لا علة ولا خالق . ويقولون : ليس بيننا وبين الفلاسفة خلاف إلا في واجب الوجود ، ، فإنهم يثبتونه ، وهو شيء لا حقيقة له ، ويستهزئون بأسماء الله عز وجل ، ولا سيما هذا الاسم الذي هو الله ، فإن منهم من يكتبه على أسفل قدميه ويطؤه .
وأما من هو دون هؤلاء فيقول بالسابق وبالتالي ، الذين عبّروا بهما عن العقل والنفس عند الفلاسفة ، وعن النور والظلمة عند المجوس ، وركَّبوا لهم مذهبا من مذاهب الصابئة والمجوس ظاهره التشيع .
ولا ريب أن المجوس والصابئة شر من اليهود والنصارى ، ولكن تظاهروا بالتشيع .
قالوا :لأن الشيعة أسرع الطوائف استجابة لنا ، لما فيهم من الخروج عن الشريعة ، ولما فيهم من الجهل وتصديق المجهولات .
ولهذا كان أئمتهم في الباطن فلاسفة ، كالنصير الطوسي هذا ، وكسنان البصري الذي كان بحصونهم بالشام ، وكان يقول : قد رَفَعت عنهم الصوم والصلاة والحج والزكاة .
فإذا كانت الإسماعيلية إنما يتظاهرون في الإسلام بالتشيع ، ومنه دخلوا وبه ظهروا ، وأهله هم المهاجرين إليهم ، لا إلى الله ورسوله ، وهم أنصارهم لا أنصار الله ورسوله – عُلم أن شهادة الإسماعيلية للشيعة بأنهم على حق شهادة مردودة باتفاق العقلاء .
فإن هذا الشاهد : إن كان يعرف أن ما هو عليه مخالف لدين الإسلام في الباطن ، وإنما أظهر التشيع لينفق به عند المسلمين ، فهو محتاج إلى تعظيم التشيع ، وشهادته له شهادة المرء نفسه ، فهو كشهادة الآدمي لنفسه ، لكنه في هذه الشهادة يعلم أنه يكذب ، وإنما كذب فيها كما كذب في سائر أحواله ، وإن كان يعتقد دين الإسلام في الباطن ، ويظن أن هؤلاء على دين الإسلام ، كان أيضا شاهداً لنفسه ، لكن مع جهله وضلاله .
وعلى التقديرين فشهادة المرء لنفسه لا تُقبل ، سواء علم كذب نفسه أو اعتقد صدق نفسه . كما في السنن عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : (( لا تُقبل شهادة خصم ولا ظنين ولا ذي غمر على أخيه ))( ) . وهؤلاء خصمان أظِنّاء متهمون ذو غمر على أهل السنة والجماعة ، فشهادتهم مردودة بكل طريق .
الوجه الرابع : أن يُقال : أولا أنتم قوم لا تحتجون بمثل هذه الأحاديث، فإن هذا الحديث إنما يرويه أهل السنة بأسانيد أهل السنة ، والحديث نفسه ليس في الصحيحين ، بل قد طعن فيه بعض أهل الحديث كابن حزم وغيره ، ولكن قد رواه أهل السنن ، كأبي داود والترمذي وابن ماجة ، ورواه أهل المسانيد ، كالإمام أحمد وغيره( ) .
فمن أين لكم على أصولكم ثبوته حتى تحتجوا به ؟ وبتقدير ثبوته فهو من أخبار الآحاد ، فكيف يجوز أن تحتجوا في أصل من أصول الدين وإضلال جميع المسلمين – إلا فرقة واحدة – بأخبار الآحاد التي لا يحتجون هم بها في الفروع العملية ؟!.
وهل هذا إلا من أعظم التناقض والجهل ؟!
الوجه الخامس : أن الحديث روى تفسيره فيه من وجهين : أحدهما : أنه صلى الله تعالى عليه وسلم سأل عن الفرقة الناجية ، فقال : (( من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي )) وفي الرواية الأخرى قال : (( هم الجماعة )). وكل من التفسيرين يناقض قول الإمامية ، ويقتضي أنهم خارجون عن الفرقة الناجية ، فإنهم خارجون عن جماعة المسلمين : يكفرون أو يفسِّقون أئمة الجماعة ، كأبي بكر وعمر وعثمان ، دع معاوية وملوك بني أمية وبني العباس ، وكذلك يكفِّرون أو يفسِّقون علماء الجماعة وعبّادهم ، كمالك والثوري والأوزاعي والليث بن سعد وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وإبراهيم بن أدهم والفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي وأمثال هؤلاء ، وهم أبعد الناس عن معرفة سير الصحابة والإقتداء بهم ، لا في حياة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا بعده ، فإن هذا إنما يعرفه أهل العلم بالحديث والمنقولات ، والمعرفة بالرجال الضعفاء والثقات ، وهم من أعظم الناس جهلا بالحديث وبغضا له ، ومعاداة لأهله ، فإذا كان وصف الفرقة الناجية : أتباع الصحابة على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وذلك شعار السنة والجماعة – كانت الفرقة الناجية هم أهل السنة والجماعة ، فالسنة ما كان صلى الله تعالى عليه وسلم هو وأصحابه عليه في عهده ، مما أمرهم به وأقرَّهم عليه أو فعله هو ، والجماعة هم المجتمعون الذين ما فرَّقوا دينهم وكانوا شيعا ، فالذين فرَّقوا دينهم وكانوا شيعا خارجون عن الجماعة قد برَّأ الله نبيه منهم ، فعُلم بذلك أن هذا وصف أهل السنة و الجماعة ، لا وصف الرافضة، وأن هذا الحديث وصف الفرقة الناجية باتّباع سنته التي كان عليها هو وأصحابه ، وبلزوم جماعة المسلمين .
فإن قيل : فقد قال في الحديث : (( من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي )) ، فمن خرج عن تلك الطريقة بعده لم يكن على طريقة الفرقة الناجية ، وقد ارتد ناس بعده فليسوا من الفرقة الناجية .
قلنا : نعم وأشهر الناس بالردة خصوم أبي بكر الصديق وأتباعه كمسيلمة الكذَّاب وأتباعه وغيرهم . وهؤلاء تتولاهم الرافضة كما ذكر ذلك غير واحد من شيوخهم ، مثل هذا الإمامي وغيره ، ويقولون : إنهم كانوا على حق ، وأن الصديق قاتلهم بغير حق . ثم مِن أظهر الناس ردة الغالية الذين حرَّقهم علي ّ بالنار لما ادّعوا فيه الإلهية وهم السبائية أتباع عبد الله بن سبأ الذين أظهروا سب أبي بكر وعمر .
وأول من ظهر عنه دعوى النبوة من المنتسبين إلى الإسلام المختار بن أبي عبيد وكان من الشيعة ، فعُلم أن أعظم الناس ردة هم في الشيعة أكثر منهم في سائر الطوائف ، ولهذا لا يُعرف ردة أسوأ حالا من ردة الغالية كالنصيرية ، ومن ردة الإسماعيلية الباطنية ونحوهم ، وأشهر الناس بقتال المرتدين هو أبو بكر الصديق ، فلا يكون المرتدون في طائفة أكثر منها في خصوم أبي بكر الصديق ، فدل ذلك على أن المرتدين الذين لم يزالوا مرتدين على أعقابهم ، هم بالرافضة أوْلى منهم بأهل السنة والجماعة .
وهذا بيِّن يعرفه كل عاقل يعرف الإسلام وأهله ، ولا يستريب أحد أن جنس المرتدين في المنتسبين إلى التشيع أعظم وأفحش كفرا من جنس المرتدين المنتسبين إلى أهل السنة والجماعة ، إن كان فيهم مرتد.
الوجه السادس : أن يقال : هذه الحجة التي احتج بها الطوسي على أن الإمامية هم الفرقة الناجية كذب في وصفها ، كما هي باطلة في دلالتها . وذلك أن قوله : (( باينوا جميع المذاهب ، وجميع المذاهب قد اشتركت في أصول العقائد )) إن أراد بذلك أنهم باينو جميع المذاهب فيما اختصوا به ، فهذا شأن جميع المذاهب ، فإن الخوارج أيضا باينوا جميع المذاهب فيما اختصوا به من التكفير بالذنوب ، ومن تكفير علي ، ومن إسقاط طاعة الرسول فيما لم يخبر به عن الله ، وتجويز الظلم عليه في قسْمهِ والجور في حكمه ، وإسقاط اتّباع السنة المتواترة التي تخالف ما يُظن أنه ظاهر القرآن ، كقطع السارق من المنكب وأمثال ذلك .
الوجه السابع : أن يُقال : مباينتهم لجميع المذاهب هو على فساد قولهم أدل منه على صحة قولهم ؛ فإن مجرد انفراد طائفة عن جميع الطوائف لا يدل على أنه هو الصواب ، واشتراك أولئك في قول لا يدل على أنه باطل.
فإن قيل : إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم جعل أمته ثلاثا وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ، فدل على أنها لا بد أن تفارق هذه الواحدة سائر الاثنتين وسبعين فرقة .
قلنا : نعم . وكذلك يدل الحديث على مفارقة الثنتين وسبعين بعضها بعضا ، كما فارقت هذه الواحدة . فليس في الحديث ما يدل على اشتراك الثنتين والسبعين في أصول العقائد ، بل ليس في ظاهر الحديث إلا مباينة الثلاث والسبعين كل طائفة للأخرى . وحينئذ فمعلوم أن جهة الافتراق جهة ذم لا جهة مدح ، فإن الله تعالى أمر بالجماعة والائتلاف ، وذم التفريق والاختلاف، فقال تعالى : واْعتَصِموا بِحَبْلِ اللهِ جميعًا وَلا تَفَرَّقوا ( )وقال: وَلاَ تَكُونوا كالَّذينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّنَاتْ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظيمٌ.يَوْمَ تَبْيَضْ وُجوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجوهٌ فَأَمّا الَّذينَ اسْوَدَّتْ وُجوهُهُم( ).
قال ابن عباس وغيره : تبيض وجوه أهل السنة وتسودُّ وجوه أهل البدعة والفرقة . وقال تعالى : إنَّ الَّذينَ فَرَّقوا دِينَهُمْ وَكانوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ في شَيْءٍ ( ) وقال : وَما اخْتَلَفَ فيهِ إِلاّ الَّذينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيِّناتُ بَغْيًا بَينَهُم ( ) وقال: وَما تَفَرَّقَ الَّذينَ اُوتوا الكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعدِ ما جاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ ( ) .
وإذا كان كذلك فأعظم الطوائف مفارقة للجماعة و افتراقا في نفسها أولى الطوائف الذم ، و أقلها افتراقا ومفارقة للجماعة أقربها إلى الحق . وإذا كانت الإمامية أوْلى بمفارقة سائر طوائف الأمة فهم أبعد عن الحق ، لا سيما وهم في أنفسهم أكثر اختلافا من جميع فرق الأمة ، حتى يقال : إنهم ثنتان وسبعون فرقة . وهذا القدر فيما نقله عن هذا الطوسي بعضُ أصحابه، وقال : كان يقول : الشيعة تبلغ فرقهم ثنتين وسبعين فرقة ، أو كما قال . وقد صنَّف الحسن بن موسى النوبختي وغيره في تعديد فرق الشيعة .
وأما أهل الجماعة فهم أقل اختلافا في أصول دينهم من سائر الطوائف، وهم أقرب إلى كل طائفة من كل طائفة إلى ضدّها ، فهم الوسط في أهل الإسلام كما أن أهل الإسلام هم الوسط في أهل الملل : هم وسط في باب صفات الله بين أهل التعطيل وأهل التمثيل .
وقال صلى الله تعالى عليه وسلم : (( خير الأمور أوسطها )) وحينئذ أهل السنة والجماعة خير الفرق.
وفي باب القدر بين أهل التكذيب به وأهل الاحتجاج به ، وفي باب الأسماء والأحكام بين الوعيدية والمرجئة ، وفي باب الصحابة بين الغلاة والجفاة ، فلا يغلون في عليّ غلو الرافضة ، ولا يكفِّرونه تكفير الخوارج ، ولا يكفِّرون أبا بكر وعثمان كما تكفِّرهم الروافض ، ولا يكفِّرون عثمان وعليا كما يُكفرهما الخوارج .
الوجه الثامن : أن يقال : إن الشيعة ليس لهم قول واحد اتفقوا عليه ، فإن القول الذي ذكره هذا قول من أقوال الإمامية ، ومن الإمامية طوائف تخالف هؤلاء في التوحيد والعدل ، كما تقدم حكايته . وجمهور الشيعة تخالف الإمامية في الاثنى عشر ، فالزيدية والإسماعيلية وغيرهم متفقون على إنكار إمامة الاثنى عشر.
وهؤلاء الإمامية الاثنا عشرية يقولون : إن أصول الدين أربعة : التوحيد ، والعدل ، والنبوة ، والإمامة. وهم مختلفون في التوحيد والعدل والإمامة . وأما النبوة فغايتهم أن يكونوا مقرِّين بها كإقرار سائر الأمة. واختلافهم في الإمامة أعظم من اختلاف سائر الأمة ، فإن قالت الاثنا عشرية: نحن أكثر من هذه الطوائف ، فيكون الحق معنا دونهم . قيل لهم : وأهل السنة أكثر منكم ، فيكون الحق معهم دونكم ، فغايتكم أن تكون سائر فرق الإمامية معكم بمنزلتكم مع سائر المسلمين ، والإسلام هو دين الله الذي يجمع أهل الحق .
(فصـــل )
قال الرافضي : ((الوجه الثالث:أن الإمامية جازمون بحصول النجاة لهم ولأئمتهم ، قاطعون بذلك ، وبحصول ضدها لغيرهم . وأهل السنة لا يجيزون ولا يجزمون بذلك لا لهم ولا لغيرهم . فيكون اتّباع أولئك أوْلى ، لأنَّا لو فرضنا مثلا خروج شخصين من بغداد يريدان الكوفة ، فوجدا طريقين سلك كل منهما طريقا ، فخرج ثالث يطلب الكوفة : فسأل أحدهما : إلى أين تذهب؟ فقال إلى الكوفة . فقال له : هل طريقك توصلك إليها ؟ وهل طريقك آمن أم مخوف ؟ وهل طريق صاحبك تؤديه إلى الكوفة ؟ وهل هو آمن أم مخوف ؟ فقال : لا أعلم شيئا من ذلك . ثم سأل صاحبه فقال أعلم أن طريقي يوصِّلني إلى الكوفة ، وأنه آمن ، وأعلم أن طريق صاحبي لا يؤديه إلى الكوفة ، وأنه ليس بآمن ، فإن الثالث إن تابع الأول عدَّه العقلاء سفيها ، وإن تابع الثاني نُسب إلى الأخذ بالحزم )) .
هكذا ذكره في كتابه ، والصواب أن يُقال : وسأل الثاني فقال له الثاني: لا أعلم أن طريقي تؤديني إلى الكوفة ولا أعلم أنه آمن أم مخوف .
والجواب على هذا من وجوه :
أحدها :أن يُقال : إن كان اتّباع الأئمة الذين تُدَّعى لهم الطاعة المطلقة، وأن ذلك يوجب لهم النجاة واجبا ، كان اتّباع خلفاء بني أمية الذين كانوا يوجبون طاعة أئمتهم طاعة مطلقة ويقولون : إن ذلك يوجب النجاة مصيبين على الحق ، وكانوا في سبِّهم عليا وغيره وقتالهم لمن قاتلوه من شيعة عليّ مصيبين ، لأنهم كانوا يعتقدون أن طاعة الأئمة واجبة في كل شيء ، وأن الإمام لا يؤاخذه الله بذنب ، وأنه لا ذنب لهم فيما أطاعوا فيه الإمام ، بل أولئك أوْلى بالحجة من الشيعة ، لأنهم كانوا مطيعين أئمة أقامهم الله ونصيهم وأيّدهم وملّكهم ، فإذا كان مذهب القدرية أن الله لا يفعل إلا ما هو الأصلح لعباده ،كان تولية أولئك الأئمة مصلحة لعباده .
ومعلوم ان اللطف والمصلحة التي حصلت بهم أعظم من اللطف والمصلحة التي حصلت بإمام معدوم أو عاجز . ولهذا حصل لاتّباع خلفاء بني أمية من المصلحة في دينهم ودنياهم ، أعظم مما حصل لاتّباع المنتظر ؛ فإن هؤلاء لم يحصل لهم إمام يأمرهم بشيء من المعروف ، ولا ينهاهم عن شيء من المنكر ، ولا يعينهم على شيء من مصلحة دينهم ولا دنياهم ، بخلاف أولئك ؛ فإنهم انتفعوا بأئمتهم منافع كثيرة في دينهم ودنياهم ، أعظم مما انتفع هؤلاء بأئمتهم .
فتبين أنه إن كانت حجة هؤلاء المنتسبين إلى مشايعة علي ّ صحيحة ، فحجة أولئك المنتسبين إلى مشايعة عثمان أوْلى بالصحة ، وإن كانت باطلة فهذه أبطل منها . فإذا كان هؤلاء الشيعة متفقين مع سائر أهل السنة على أن جزم أولئك بنجاتهم إذا أطاعوا أولئك الأئمة طاعة مطلقة خطأ وضلال ، فخطأ هؤلاء وضلالهم إذا جزموا بنجاتهم لطاعتهم لمن يدّعي أنه نائب المعصوم – والمعصوم لا عين له ولا أثر – أعظم وأعظم ؛ فإن الشيعة ليس لهم أئمة يباشرونهم بالخطاب ، إلا شيوخهم الذين يأكلون أموالهم بالباطل، ويصدّونهم عن سبيل الله.
الوجه الثاني : أن هذا المثل إنما كان يكون مطابقاً لو ثبت مقدمتان : إحداهما : أن لنا إماما معصوماً. والثانية : أنه أمر بكذا وكذا . وكلتا المقدمتين غير معلومة ، بل باطلة . دع المقدمة الأولى ، بل الثانية ، فإن الأئمة الذين يدّعى فيهم العصمة قد ماتوا منذ سنين كثيرة ، والمنتظر له غائب أكثر من أربعمائة وخمسين سنة ، وعند آخرين هو معدوم لم يوجد . والذين يُطاعون شيوخ من شيوخ الرافضة ، أو كتب صنّفها بعض شيوخ الرافضة ، وذكروا أن ما فيها منقول عن أولئك المعصومين . وهؤلاء الشيوخ المصنِّفون ليسوا معصومين بالاتفاق ، ولا مقطوعاً لهم بالنجاة .
فإذاً الرافضة لا يتّبعون إلا أئمة لا يقطعون بنجاتهم ولا سعادتهم ، فلم يكونوا قاطعين لا بنجاتهم ، ولا بنجاة أئمتهم الذين يباشرونهم بالأمر والنهي ، وهم أئمتهم ، وإنما هم في انتسابهم إلى أولئك الأئمة ، بمنزلة كثير من أتباع شيوخهم الذين ينتسبون إلى شيخ قد مات من مدة ،ولا يدرون بماذا أمر ، ولا عماذا نهى ، بل له اتباع يأكلون أموالهم بالباطل ويصدون عن سبيل الله ، يأمرونهم بالغلو في ذلك الشيخ وفي خلفائه ، وأن يتخذوهم أربابا ، وكما تأمر شيوخ الشيعة أتباعهم ، وكما تأمر شيوخ النصارى أتباعهم ، فهم يأمرونهم بالإشراك بالله وعبادة غير الله ، ويصدونهم عن سبيل الله ، فيخرجون عن حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله وان محمداً رسول الله ، فإن التوحيد أن نعبد الله وحده ، فلا يُدعى إلا هو ، ولا يُخشى إلا هو ، ولا يتقى إلا هو ، ولا يتوكل إلا عليه ، ولا يكون الدين إلا له ، لا لأحد من الخلق ، وأن لا نتخذ الملائكة والنبيين أرباباً ، فكيف بالأئمة والشيوخ والعلماء والملوك وغيرهم !؟
والرسول صلى الله تعالى عليه وسلم هو المبلِّغ عن الله أمره ونهيه ، فلا يُطاع مخلوق طاعة مطلقة إلا هو ، فإذا جُعل الغمام والشيخ كأنه إله يُدعى مع مغيبه وبعد موته ، ويُستغاث به ، ويُطلب منه الحوائج ، والطاعة إنما هي لشخص حاضر يأمر بما يريد ، وينهى عمّا يريد كان الميت مشبَّها بالله تعالى، والحي مشبهاً برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، فيخرجون عن حقيقة الإسلام الذي أصله شهادة أن لا إله إلا الله ، وشهادة أن محمداً رسول الله .
ثم إن كثيراً منهم يتعلّقون بحكايات تُنقل عن ذلك الشيخ ، وكثير منها كذب عليه ، وبعضها خطأ منه ، فيَعدِلون عن النقل الصدق عن القائل المعصوم إلى نقل غير مصدَّق عن قائل غير معصوم . فإذا كان هؤلاء مخطئين في هذا ، فالشيعة أكثر وأعظم خطأ ، لأنهم أعظم كذبا فيما ينقلونه عن الأئمة ، وأعظم غلوا في دعوى عصمة الأئمة .
الوجه الثالث : منع الحكم في هذا المثال الذي ضربه وجعله أصلا قاس عليه،فان الرجل إذا قال له أحد الرجلين:طريقى آمن يوصلني،وقال له الآخر:لا علم لي بأن طريقي آمن يوصلني،أو قال ذلك الأول ، لم يحسن في العقل تصديق الأول بمجرد قوله ، بل يجوز عند العقلاء أن يكون هذا محتالا عليه ، يكذب حتى يصحبه في الطريق فيقتله ويأخذ ماله ، ويجوز أن يكون جاهلا لا يعرف ما في الطريق من الخوف ، وأما ذاك الرجل فلم يضمن للسائل شيئا ، بل رده إلى نظره ، فالحزم في مثل هذا أن ينظر الرجل أيّ الطريقين أولى بالسلوك : أحد ذينك الطريقين أو غيرهما .
فتبين أن مجرد الإقدام على الحزم لا يدل على علم صاحبه ولا على صدقه، وأن التوقف والإمساك حتى يتبين الدليل هو عادة العقلاء .
الوجه الرابع : أن يقال : قوله : (( إنهم جازمون بحصول النجاة لهم دون أهل السنة )) كذب ، فإنه إن أراد بذلك أن كل واحد ممن اعتقد اعتقادهم يدخل الجنة ، وإن تَرَك الواجبات وفَعَل المحرمات ، فليس هذا قول الإمامية ، ولا يقوله عاقل .
وإن كان حب عليّ حسنة لا يضر معها سيئة ، فلا يضره ترك الصلوات ، ولا الفجور بالعلويّات ، ولا نيل أغراضه بسفك دماء بني هاشم إذا كان يحب عليًّا .
فإن قالوا : المحبة الصادقة تستلزم الموافقة ، عاد الأمر إلى أنه لا بد من أداء الواجبات وترك المحرمات . وإن أراد بذلك أنهم يعتقدون أن كل من اعتقد الاعتقاد الصحيح ، وأدى الواجبات ، وترك المحرّمات يدخل الجنة – فهذا اعتقاد أهل السنة ؛ فإنهم يجزمون بالنجاة لكل من اتّقى الله ، كما نطق به القرآن.
وإنما يتوقفون في الشخص المعين لعدم العلم بدخوله في المتيقن ، فإنه إذا علم أنه مات على التقوى عُلم أنه من أهل الجنة . ولهذا يشهدون بالجنة لمن شهد له الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ، ولهم فيمن استفاض في الناس حسن الثناء عليه قولان .
فتبين أنه ليس في الإمامية جزم محمود اختُصوا به عن أهل السنة والجماعة . وإن قالوا : إنّا نجزم لكل شخص رأيناه ملتزماً للواجبات عندنا تاركاً للمحرمات ، بأنه من أهل الجنة ، من غير أن يخبرنا بباطنه معصوم . قيل : هذه المسألة لا تتعلق بالإمامية ، بل إن كان إلى هذا طريق صحيح فهو لأهل السنة ، وهم بسلوكه أحذق ، وإن لم يكن هنا طريق صحيح إلى ذلك ، كان ذلك قولا بلا علم ، فلا فضيلة فيه ، بل في عدمه .
ففي الجملة لا يدّعون علما صحيحا إلا وأهل السنة أحق به ، وما ادّعوه من الجهل فهو نقص وأهل السنة أبعد عنه .
الوجه الخامس : أن أهل السنة يجزمون بحصول النجاة لأئمتهم أعظم من جزم الرافضة . وذلك أن أئمتهم بعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم هم السابقون الأوَّلون من المهاجرين والأنصار ، وهم جازمون بحصول النجاة لهؤلاء ، فإنهم يشهدون ان العشرة في الجنة ، ويشهدون أن الله قال لأهل بدر: (( اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم )) ، بل يقولون : إنه ((لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة )) كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم( ) . فهؤلاء أكثر من ألف وأربعمائة إمام لأهل السنة ، يشهدون أنه لا يدخل النار منهم أحد ، وهي شهادة بعلم ، كما دل على ذلك الكتاب والسنة .
الوجه السادس : أن يقال : أهل السنة يشهدون بالنجاة : إما مطلقا ، وإما معينا ، شهادة مستندة إلى علم . وأما الرافضة فإنهم إن شهدوا شهدوا بما لا يعلمون ، أو شهدوا بالزور الذي يعلمون أنه كذب ، فهم كما قال الشافعي رحمه الله : ما رأيت قوما أشهد بالزور من الرافضة .
الوجه السابع : أن الإمام الذي شهد له بالنجاة : إما أن يكون هو المطاع في كل شيء وإن نازعه غيره من المؤمنين ، أو هو مطاع فيما يأمر به من طاعة الله ورسوله ، وفيما يقوله باجتهاده إذا لم يعلم أن غيره أوْلى منه، ونحو ذلك . فإن كان الإمام هو الأول ، فلا إمام لأهل السنة بهذا الاعتبار إلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وهم يقولون كما قال مجاهد والحاكم ومالك وغيرهم : كل أحد يُؤخذ من قوله ويُترك إلا رسول الله عليه السلام . وهم يشهدون لإمامهم أنه خير الخلائق ، ويشهدون ان كل من ائتم به ، ففعل ما أُمر به وترك ما نُهى عنه ، دخل الجنة . وهذه الشهادة بهذا وهذا هم فيها أتم من الرافضة من شهادتهم للعسكريِيْن وأمثالهما بأنه من أطاعهم دخل الجنة .
فثبت أن إمام أهل السنة أكمل ، وشهادتهم له ولهم إذا أطاعوه أكمل ، ولا سواء .
ولكن قال الله تعالى : ءآلله خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكون ( )،فعند المقابلة يُذكر الخير المحض على الشر المحض ، وإن كان الشر المحض لا خير فيه .
وإن أرادوا بالإمام الإمام المقيَّد ، فذاك لا يُوجب أهل السنة طاعته ، إن لم يكن ما أمر به موافقا لأمر الإمام المطلق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وهم إذا أطاعوه فيما أمر الله بطاعته فيه ، فإنما هم مطيعون لله ورسوله ، فلا يضرهم توقفهم في الإمام المقيَّد : هل هو في الجنة أم لا ؟ .
الوجه الثامن : أن يُقال : إن الله قد ضمن السعادة لمن أطاعه وأطاع رسوله ، وتوعّد بالشقاء لمن لم يفعل ذلك ، فمناط السعادة طاعة الله ورسوله . كما قال تعالى : وَمَن يُطِعْ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلئِكَ مَعَ الَّذينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقينَ والشُّهَداءْ وَالصَّالِحينَ وَحَسَنَ أولَئِكَ رَفيقًا ( ) وأمثال ذلك .
وإذا كان كذلك والله تعالى يقول : فاتَّقوا الله ما اسْتَطَعْتُمْ ( ) فمن اجتهد في طاعة الله ورسوله بحسب استطاعته كان من أهل الجنة .
فقول الرافضة : لن يدخل الجنّة إلا من كان إماميا ، كقول اليهود والنصارى : َلنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ، تِلْكَ أَمَانِّيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين ، بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ ِللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون ( ) .
ومن المعلوم أن المنتظر الذي يدّعيه الرافضي لا يجب على أحد طاعته ، فإنه لا يُعلم له قول منقول عنه ، فإذاً من أطاع الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم دخل الجنة وإن لم يؤمن بهذا الإمام ، ومن آمن بهذا الإمام لم يدخل الجنة إلا إذا أطاع الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ، فطاعة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم هي مدار السعادة وجودا وعدما ، وهي الفارقة بين أهل الجنة والنار ، ومحمد صلى لله تعالى عليه وسلم فرّق بين الناس ، والله سبحانه وتعالى قد دل الخلق على طاعته بما بينه لهم ، فتبين أن أهل السنة جازمون بالسعادة والنجاة لمن كان من أهل السنّة .
(فصـــل)
قال الرافضي: الوجه الرابع : أن الإمامية أخذوا مذهبهم عن الأئمة المعصومين المشهورين بالفضل والعلم ولزهد والورع ، والاشتغال في كل وقت بالعبادة والدعاء وتلاوة القرآن ،والمداومة على ذلك من زمن الطفولة إلى آخر العمر ، ومنهم من يعلم الناس العلوم ، ونزل في حقهم : هلْ أَتَى وآية الطهارة ، وإيجاب المودة لهم ، وآية الابتهال وغير ذلك . وكان علي ّ يصلّي في كل يوم وليلة ألف ركعة ، ويتلو القرآن مع شدّة ابتلائه بالحروب والجهاد .
فأولهم عليّ بن أبي طالب كان أفضل الخلق بعد رسول الله وجعله الله نفس رسول الله حيث قال:وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ( ) وواخاه رسول الله وزوّجه ابنته ، وفَضْلُهُ لا يخفى وظهرت منه معجزات كثيرة ، حتى ادَّعى قوم فيه الربوبية وقتلهم ، وصار إلى مقالتهم آخرون إلى هذه الغاية كالغلاة والنصيرية . وكان ولداه سبطا رسول الله سيدا شباب أهل الجنة ، إمامين بنص النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وكانا أزهد الناس وأعلمهم في زمانهما ، وجاهدا في الله حق جهاده حتى قتلا ، ولبس الحسن الصوف تحت ثيابه الفاخرة من غير أن يشعر أحد بذلك ، وأخذ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يوما الحسين على فخذه الأيمن ، وإبراهيم على فخذه الأيسر ، فنزل جبرائيل عليه السلام وقال: إن الله تعالى لم يكن ليجمع لك بينهما ، فاختر من شئت منهما ، فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : إذا مات الحسين بكيت أنا وعليّ وفاطمة ، وإذا مات إبراهيم بكيت أنا عليه ، فاختار موت إبراهيم فمات بعد ثلاثة أيام ، وكان إذا جاء الحسين بعد ذلك يقبله ويقول : أهلا ومرحبا بمن فديته بابني إبراهيم .
وكان علي بن الحسين زين العابدين يصوم نهاره ويصوم ليله ، ويتلو الكتاب العزيز ، ويصلّي كل يوم وليلة ألف ركعة ، ويدعو كل ركعتين بالأدعية المنقولة عنه وعن آبائه ثم يرمي الصحيفة كالمتضجر ، ويقول : أنّى لي بعبادة عليّ ، وكان يبكي كثيراً حتى أخذت الدموع من لحم خديه ، وسجد حتى سمى ذا الثَفِنات ، وسماه رسول الله سيد العابدين .
وكان قد حج هشام بن عبد الملك فاجتهد أن يستلم الحجر فلم يمكنه من الزحام ، فجاء زين العابدين فوقف الناس له وتَنَحَّوْا عن الحجر حتى استلمه ، ولم يبق عند الحجر سواه ، فقال هشام بن عبد الملك : من هذا فقال الفرزدق وذكر أبيات الشعر المشهورة فبعث إليه الإمام زين العابدين بألف دينار ، فردها ، وقال: إنما قلت هذا غضباً لله ولرسوله ، فما آخذ عليه أجرا ، فقال عي بن الحسين : نحن أهل بيت لا يعود إلينا ما خرج منا فقبلها الفرزدق .
وكان بالمدينة قوم يأتيهم رزقهم ليلا ولا يعرفون ممن هو ، فلما مات زين العابدين ، انقطع ذلك عنهم وعرفوا أنه كان منه .
وكان ابنه محمد الباقر أعظم الناس زهداً وعبادة ، بَقَرَ السجودُ جبهتَه، وكان أعلم أهل وقته ، سمَّاه رسول الله الباقر ، وجاء جابر بن عبد الله الأنصاري إليه وهو صغير في الكُتَّاب ، فقال له : جدّك رسول الله يسلّم عليك . فقال : وعلى جدّي السلام . فقيل لجابر كيف هو ؟ قال كنت جالساً عند رسول الله والحسين في حجره وهو فهذا لو قُدِّر أن جميع الناس ظهر منهم الأمر بقتله ، فكيف وجمهورهم أنكروا قتله ، ودافع عنه من دافع في بيته ، كالحسن بن عليّ وعبد الله بن الزبير وغيرهما ؟
ثم دعوى المدّعي الإجماع على قتل عثمان مع ظهور الإنكار من جماهير الأمة له وقيامهم في الانتصار له والانتقام ممن قتله،أظهر كذبا من دعوى المدّعى إجماع الأمة على قتل الحسين .
فلو قال قائل:إن الحسين قتل بإجماع الناس،لان الذين قاتلوه وقتلوه لم يدفعهم أحد عن ذلك،لم يكن كذبه بأظهر من كذب المدّعى للإجماع على قتل عثمان؛فإن الحسين لم يعظم إنكار الأمة لقتله،كما عظم إنكارهم لقتل عثمان،ولا انتصر له جيوش كالجيوش الذين انتصرت لعثمان،ولا انتقم أعوانه من أعدائه كما انتقم أعوان عثمان من أعدائه،ولا حصل بقتله من الفتنة والشر والفساد ما حصل بقتل عثمان، ولا كان قتله أعظم إنكاراً عند الله وعند رسوله وعند المؤمنين من قتل عثمان؛فإن عثمان من أعيان السابقين الأولين من المهاجرين من طبقة عليّ وطلحة والزبير ، وهو خليفة للمسلمين أجمعوا على بيعته ، بل لم يُشْهر في الأمة سيفاً ولا قتل على ولايته أحداً ، وكان يغزو بالمسلمين الكفّار بالسيف ، وكان السيف في خلافته كما كان في خلافة أبي بكر وعمر مسلولا على الكفَّار ، مكفوفا عن أهل القبلة .
وأما قوله : (( إن عائشة كانت في كل وقت تأمر بقتل عثمان ، وتقول في كل وقت:اقتلوا نعثلا ، قتل الله نعثلا ، ولما بلغها قتله فرحت بذلك)).
فيقال له : أولا : أين النقل الثابت عن عائشة بذلك ؟
ويقال : ثانيا : المنقول الثابت عنها يكذّب ذلك ، ويبين أنها أنكرت قتله ، وذمّت من قتله ، ودعت على أخيها محمد وغيره لمشاركتهم في ذلك .
ويقال : ثالثا : هب أن واحدا من الصحابة : عائشة أو غيرها قال في ذلك على وجه الغضب ، لإنكاره بعض ما ينكر ، فليس قوله حجة ، ولا يقدح ذلك لا في إيمان القائل ولا المقول له ، بل قد يكون كلاهما وليًّا لله تعالى من أهل الجنة ، ويظن أحدهما جواز قتل الآخر ، بل يظن كفره ، وهو مخطئ في هذا الظن .
والكلام في الناس يجب أن يكون في علم وعدل ، لا بجهل وظلم ، كحال أهل البدع ؛ فإن الرافضة تعمد إلى أقوام متقاربين في الفضيلة ، تريد أن تجعل أحدهما معصوماً من الذنوب والخطايا ، والآخر مأثوماً فاسقا أو كافرا ، فيظهر جهلهم وتناقضهم ، كاليهودي والنصراني إذا أراد أن يثبت نبوّة موسى أو عيسى ، مع قدحه في نبوة محمد ، فإنه يظهر عجزه وجهله وتناقضه .
وأما قوله : (( إنها سألت من تولّى الخلافة ؟ فقالوا : عليّ فخرجت لقتاله على دم عثمان فأي ذنب كان لعليّ في ذلك ؟)).
فيقال له : أولا : قول القائل إن عائشة وطلحة والزبير اتهموا عليًّا بأنه قتل عثمان وقاتلوه على ذلك –كذب بيّن ، بل إنما طلبوا القتلة الذين كانوا تحيّزوا إلى عليّ ،وهم يعلمون أن براءة عليّ من دم عثمان كبراءتهم وأعظم ، لكن القتلة كانوا قد أووا إليه ، فطلبوا قتل القتلة ، ولكن كانوا عاجزين عن ذلك هم وعليّ ، لأن القوم كانت لهم قبائل يذبُّون عنهم .
والفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء ، فصار الأكابر رضى الله عنهم عاجزين عن إطفاء الفتنة وكف أهلها . وهذا شأن الفتن كما قال تعالى : وَاتّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيَبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَةً ( ) .وإذا وقعت الفتنة لم يسلم من التلوث بها إلا من عصمه الله .
وأيضا قوله : (( أي ذنب كان لعليّ في قتله؟ )) .
تناقض منه ، فإنه يزعم أن عليًّا كان ممن يستحل قتله وقتاله ، وممن ألَّب عليه وقام في ذلك ، فإن عليًّا نسبه إلى قتل عثمان كثير من شيعته ومن شيعة عثمان ، هؤلاء لبغضهم لعثمان وهؤلاء لبغضهم لعليّ ، وأما جماهير المسلمين فيعلمون كذب الطائفتين عَلَى عليّ .
والرافضة تقول : إن عليّا كان ممن يستحل قتل عثمان ، بل وقتل أبي بكر وعمر ، وترى أن الإعانة على قتله من الطاعات والقربات . فكيف يقول من هذا اعتقاده : أيّ ذنب كان لعليّ على ذلك ؟ وإنما يليق هذا التنزيه لعليّ بأقوال أهل السنة ، لكن الرافضة من أعظم الناس تناقضا .
وأما قوله : (( وكيف استجاز طلحة والزبير وغيرهما مطاوعته على ذلك ؟ وبأي وجه يلقون رسول الله ؟ مع ان الواحد منا لو تحدث مع امرأة غيره وأخرجها من منزلها وسافر بها كان أشد الناس عداوة له )) .
فيقال : هذا من تناقض الرافضة وجهلهم ؛ فإنهم يرمون عائشة بالعظائم ، ثم منهم من يرميها بالفاحشة التي برَّأها الله منها ، وأنزل القرآن في ذلك .
ثم إنهم لفرط جهلهم يدّعون ذلك في غيرها من نساء الأنبياء ، فيزعمون أن امرأة نوح كانت بَغِيًّا ، وأن الابن الذي دعاه نوح لم يكن منه وإنما كان منها ، وأن معنى قوله : إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِح ( ) .أن هذا الولد من عملٍ غير صالح . ومنهم من يقرأ : وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ ( ) . يريدون : ابنها ، ويحتجون بقوله : إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ . و يتأوّلون قولـه تعالى :
ضرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا ( ) على أن امرأة نوح خانته في فراشه، وأنها كانت قَحبة .
وضاهوا في ذلك المنافقين والفاسقين أهل الإفك الذين رموا عائشة بالإفك والفاحشة ولم يتوبوا ، و فيهم خطب النبي فقال :(( يا أيها الناس من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي ، والله ما علمت على أهلي إلا خيرا،ولقد ذكروا رجلا ، والله ما علمت عليه إلا خيرا ))( ) .
ومن المعلوم أنه من أعظم أنواع الأذى للإنسان أن يكذب على امرأته رجل ويقول إنها بغى ويجعل الزوج زوج قحبة ، فإن هذا من أعظم ما يشتم به الناس بعضهم بعضا ، حتى أنهم يقولون في المبالغة : شتمه بالزاى والقاف مبالغة في شتمه .
والرمي بالفاحشة – دون سائر المعاصي – جعل الله فيه حد القذف ، لأن الأذى الذي يحصل به للمرمى لا يحصل مثله بغيره ،فإنه لو رُمِيَ بالكفر أمكنه تكذيب الرامي بما يظهره من الإسلام ، بخلاف الرمي بالفاحشة ؛ فإنه لا يمكنه تكذيب المفترى بما يضاد ذلك ، فإن الفاحشة تخفى وتكتم مع تظاهر الإنسان بخلاف ذلك ، وأما أهل السنة فعندهم أنه ما بغت امرأة نبي قط ، وأن ابن نوح كان ابنه . كما قال الله تعالى وهو أصدق القائلين : وَنَادَى نُوحٌ ابْنَه ، وكما قال نوح : َيا ُبنيَّ ارْكَبْ مَعَنَا ،وقال:إِنَّ ابْنِي مِن ْأَهْلِي.
فالله ورسوله يقولان : إنه ابنه ، وهؤلاء الكاذبون المفترون المؤذون للأنبياء يقولون : إنه ليس ابنه . والله تعالى لم يقل : إنه ليس ابنك، ولكن قال: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ .
ثم من جهل الرافضة أنهم يعظّمون أنساب الأنبياء : آباءهم وأبناءهم ويقدحون في أزواجهم ؛ كل ذلك عصبية واتّباع هوى حتى يعظّمون فاطمة والحسن والحسين ، ويقدحون في عائشة أم المؤمنين ، فيقولون – أو من يقول منهم - :إن آزر أبا إبراهيم كان مؤمنا ، وأن أبوي النبي كانا مؤمنَيْنِ، حتى لا يقولون : إن النبي يكون أبوه كافرا ، فإذا كان أبوه كافرا أمكن أن يكون ابنه كافراً ، فلا يكون في مجرد النسب فضيلة .
وأما قوله : (( كيف أطاعها على ذلك عشرات ألوف من المسلمين وساعدوها على حرب أمير المؤمنين ، ولم ينصر أحد منهم بنت رسول الله لما طلبت حقّها من أبي بكر ، ولا شخص واحد كلَّمه بكلمة واحدة )) .
فيقال : أولا : هذا من أعظم الحجج عليك ؛ فإنه لا يشك عاقل أن القوم كانوا يحبون رسول الله ويعظمونه ويعظمون قبيلته وبنته أعظم مما يعظمون أبا بكر وعمر،ولو لم يكن هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.فكيف إذا كان هو رسول الله الذي هو أحب إليهم من أنفسهم وأهليهم؟ولا يستريب عاقل أن العرب-قريشا وغير قريش-كانت تدين لبني عبد مناف وتعظّمهم أعظم مما يعظّمون بني تيم وعدي،ولهذا لما مات رسول الله وتولّى أبو بكر،قيل لأبي قحافة:مات رسول الله .فقال:حدث عظيم،فمن ولي بعده؟ قالوا أبو بكر. قال : أو رضيت بنو عبد مناف وبنو مخزوم ؟ قالوا : نعم . قال : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، أو كما قال .
ولهذا جاء أبو سفيان إلى عليّ فقال : أرضيتم أن يكون هذا الأمر في بني تيم ؟ فقال : يا أبا سفيان إن أمر الإسلام ليس كأمر الجاهلية ، أو كما قال.
فإذا كان المسلمون كلهم ليس فيهم من قال : إن فاطمة رضى الله عنها مظلومة ، ولا أن لها حقًا عند أبي بكر وعمر رضى الله عنهما ولا أنهما ظلماها ، ولا تكلّم أحد في هذا بكلمة واحدة-دل ذلك على أن القوم كانوا يعلمون أنها ليست مظلومة ، إذ لو علموا أنها مظلومة لكان تركهم لنصرتها : إما عجزا عن نصرتها ، وإما إهمالا وإضاعة لحقها ، وإما بغضا فيها ، إذ الفعل الذي يقدر عليه الإنسان إذا أراده إرادة جازمة فعله لا محالة ، فإذا لم يرده – مع قيام المقتضى لإرادته –فإما أن يكون جاهلا به ، أو له معارض يمنعه من إرادته ، فلو كانت مظلومة مع شرفها وشرف قبيلتها وأقاربها ، وأن أباها أفضل الخلق وأحبهم إلى أمته ، وهم يعلمون أنها مظلومة –لكانوا إما عاجزين عن نصرتها ، وإما أن يكون لهم معارض عارض إرادة النصر مع بغضها ، وكلا الأمرين باطل ؛ فإن القوم ما كانوا كلهم عاجزين أن يتكلم واحد منهم بكلمة حق ،وهم كانوا أقدر على تغيير ما هو أعظم من هذا .
وهذا وغيره مما يبيّن أن الأمر على نقيض ما تقوله الرافضة من أكاذيبهم ، وأن القوم كانوا يعلمون أن فاطمة لم تكن مظلومة أصلا ، فكيف ينتصر القوم لعثمان حتى سفكوا دماءهم ، ، ولا ينتصرون لمن هو أحب إليهم من عثمان ،وهو رسول الله وأهل بيته ؟!
(فصــــــل )
قال الرافضي : (( وسمّوها أم المؤمنين ولم يسمّوا غيرها بذلك ، ولم يسمّوا أخاها محمد بن أبي بكر- مع عظم شأنه وقربه من منزلة أبيه وأخته عائشة أم المؤمنين – فلم يسموه خال المؤمنين ، وسموا معوية بن أبي سفيان خال المؤمنين ، لأن أخته أم حبيبة بنت أبي سفيان إحدى زوجات النبي ، وأخت محمد بن أبي بكر وأبوه أعظم من أخت معاوية ومن أبيها )) .
والجواب أن يقال : أما قوله (( إنهم سموا عائشةرضى الله عنها أم المؤمنين ولم يسموا غيرها بذلك )).
فهذا من البهتان الواضح الظاهر لكل أحد ، وما أدرى هل هذا الرجل وأمثاله يتعمّدون الكذب ، أم أعمى الله أبصارهم لفرط هواهم ، حتى خفى عليهم أن هذا كذب ؟ وهم ينكرون على بعض النواصب أن الحسن لما قال لهم أما تعلمون أني ابن فاطمة بنت رسول الله ؟ قالوا : والله ما نعلم ذلك . وهذا لا يقوله ولا يجحد نسب الحسين إلا متعمداً للكذب والافتراء ، ومن أعمى الله بصيرته باتّباع هواه حتى يخفى عليه مثل هذا ؟ فإن عين الهوى عمياء . والرافضة أعظم جحداً للحق تعمدا ، وأعمى من هؤلاء ؛ فإن منهم – من المنتسبين إليهم – كالنصيرية وغيرهم من يقول : إن الحسن و الحسين ما كانا أولاد عليّ ، بل أولاد سلمان الفارسي . ومنهم من يقول : إن عليًّا لم يمت، وكذلك يقولون عن غيره .
ومنهم من يقول : إن أبا بكر وعمر ليسا مدفونين عند النبي صلى الله عليه وسلم،ومنهم من يقول:إن رقية وأم كلثوم زوجتى عثمان ليستا بنتى النبي صلى الله عليه وسلم،ولكن هما بنتا خديجة من غيره.ولهم في المكابرات وجحد العلومات بالضرورة أعظم مما لأولئك النواصب الذين قتلوا الحسين.وهذا مما يبين أنهم أكذب وأظلم وأجهل من قتلة الحسين.
وذلك أنه من المعلوم أن كل واحدة من أزواج النبي يقال لها ((أم المؤمنين))عائشة،وحفصة،و زينب بنت جحش ،وأم سلمة ،و سودة بنت زمعة،وميمونة بنت الحارث الهلالية،وجويرية بنت الحارث المصطلقية،وصفية بنت حي بن أخطب الهارونية،رضي الله عنهن.وقد قال الله تعالى:النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم( ) . وهذا أمر معلوم للأمة علما عاما،وقد أجمع المسلمون على تحريم نكاح هؤلاء بعد موته على غيره،وعلى وجوب احترامهن؛فهن أمهات المؤمنين في الحرمة والتحريم،ولسن أمهات المؤمنين في المحرمية،فلا يجوز لغير أقاربهن الخلوة بهن،ولا السفر بهن،كما يخلو الرجل ويسافر بذوات محارمه.
وأما قوله:((وعظم شأنه)).
فإن أراد عظم نسبه،فالنسب لاحرمة له عندهم،لقدحهم في أبيه وأخته.وأما أهل السنة فإنما يعظّمون بالتقوى،لا بمجرد النسب.قال تعالى:إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُم( ) . وإن أراد عظم شأنه لسابقته وهجرته ونصرته وجهاده ، فهو ليس من الصحابة : لا من المهاجرين ولا من الأنصار . وإن أراد بعظم شأنه أنه كان من أعلم الناس وأَدْيَنهم ، فليس الأمر كذلك .
وأما قوله : (( وأخت محمد وأبوه أعظم من أخت معاوية وأبيها )) .
فيقال : هذه الحجة باطلة على الأصلين . وذلك أن أهل السنة لا يفضلون الرجل إلا بنفسه ، فلا ينفع محمداً قربه من أبي بكر وعائشة ، ولا يضر معاوية أن يكون ذلك أفضل نسبا منه ، وهذا أصل معروف لأهل السنة، كما لم يضر السابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا ، كبلال وصهيب وخبّاب وأمثالهم ، أن يكون من تأخر عنهم من الطلقاء وغيرهم ، كأبي سفيان بن حرب وابنيه معاوية ويزيد وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب ونحوهم ، أعظم نسبا منهم .
(فصــــل)
قال الرافضي : (( مع أن رسول الله لعن معاوية الطليق بن الطليق اللعين بن اللعين ، وقال : إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه . وكان من المؤلفة قلوبهم ، وقاتل عليًّا وهو عندهم رابع الخلفاء ، إمام حق ، وكل من حارب إمام حق فهو باغ ظالم )) .
قال : (( وسبب ذلك محبة محمد بن أبي بكر لعليّ عليه السلام ، ومفارقته لأبيه ، وبغض معاوية لعليّ ومحاربته له . وسموه كاتب الوحي ولم يكتب له كلمة واحدة من الوحي ، بل كان يكتب له رسائل . وقد كان بين يدي النبي أربعة عشر نفسا يكتبون الوحي ، أولهم وأخصهم وأقربهم إليه عليّ بن أبي طالب عليه السلام،مع أن معاوية لم يزل مشركا بالله تعالى في مدة كون النبي مبعوثا يكذّب بالوحي ويهزأ بالشرع)).
والجواب:أن يقال((أما ما ذكره من أن النبي لعن معاوية وأمر بقتله إذا رؤى على المنبر ،فهذا الحديث ليس في شيء من كتب الإسلام التي يرجع إليها في علم النقل،وهو عند أهل المعرفة بالحديث كذب موضوع مختلق على النبي صلى الله عليه وسلم،وهذا الرافضي الراوي له لم يذكر له إسنادا حتى ينظر فيه،وقد ذكره أبو الفرج بن الجوزي في الموضوعات.
ومما يبيّن كذبه أن منبر النبي قد صعد عليه بعد معاوية من كان معاوية خيراً منه باتفاق المسلمين.فإن كان يجب قتل من صعد عليه لمجرد الصعود على المنبر،وجب قتل هؤلاء كلهم.ثم هذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام، فإن مجرد صعود المنبر لا يبيح قتل مسلم.وإن أمر بقتله لكونه تولّى الأمر وهو لا يصلح،فيجب قتل كل من تولّى الأمر بعد معاوية ممن معاوية أفضل منه.وهذا خلاف ما تواترت به السنن عن النبي من نهيه عن قتل ولاة الأمور وقتالهم،كما تقدم بيانه.
ثم الأمة متفقة على خلاف هذا ؛ فإنها لم تقتل كل من تولّى أمرها ولا استحلّت ذلك .ثم هذا يوجب من الفساد والهرج ما هو أعظم من ولاية كل ظالم ، فكيف يأمر النبي بشيء يكون فعله أعظم فسادا من تركه ؟ !
وأما قوله : (( إنه الطليق ابن الطليق )) .
فهذا ليس نعت ذم ، فإن الطلقاء هم مسلمة الفتح ، الذين أسلموا عام فتح مكة ، وأطلقهم النبي ، وكانوا نحواً من ألفَىْ رجل ، وفيهم من صار من خيار المسلمين ، كالحارث بن هشام ، وسهل بن عمرو ، وصفوان بن أميّة ، وعكرمة بن أبي جهل ، ويزيد بن أبي سفيان ، وحكيم بن حزام ، وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم النبي الذي كان يهجوه ثم حسن إسلامه، وعتّاب بن أسيد الذي ولاّه النبي مكة لما فتحها ، وغير هؤلاء ممن حَسُنَ إسلامه .
ومعاوية ممن حَسُن إسلامه باتفاق أهل العلم . ولهذا ولاّه عمر بن الخطاب موضع أخيه يزيد بن أبي سفيان لما مات أخوه يزيد بالشام ، وكان يزيد بن أبي سفيان من خيار الناس ، وكان أحد الأمراء الذين بعثهم أبو بكر وعمر لفتح الشام : يزيد بن أبي سفيان ، وشرحبيل بن حسنة ، وعمرو بن العاص ، مع أبي عُبيدة بن الجراح ، وخالد بن الوليد ، فلما توفي يزيد بن أبي سفيان ولّى عمر مكانه أخاه معاوية ، وعمر لم تكن تأخذه في الله لومة لائم ، وليس هو ممن يحابى في الولاية ، ولا كان ممن يحب أبا سفيان أباه ، بل كان من أعظم الناس عداوة لأبيه أبي سفيان قبل الإسلام ، حتى أنه لما جاء به العباس يوم فتح مكة كان عمر حريصا على قتله ، حتى جرى بينه وبين العباس نوع من المخاشنة بسبب بغض عمر لأبي سفيان . فتولية عمر لابنه معاوية ليس لها سبب دنيوي ، ولولا استحقاقه للإمارة لما أمّره .
وأما قوله : (( كان معاوية من المؤَلَّفة قلوبهم )) .
نعم وأكثر الطلقاء كلهم من المؤلفة قلوبهم ، كالحارث بن هشام ، وابن أخيه عكرمة بن أبي جهل ، وسهيل بن عمرو ، وصفوان بن أمية ، وحكيم بن حزام ، وهؤلاء من خيار المسلمين . والمؤلَّفة قلوبهم غالبهم حسُن إسلامه ، وكان الرجل منهم يُسلم أول النهار رغبة منه في الدنيا ، فلا يجيء آخر النهار إلا والإسلام أحب إليه مما طلعت عليه الشمس .
وأما قوله : (( وقاتل عليًّا وهو عندهم رابع لخلفاء إمام حق ، وكل من قاتل إمام حقٍ فهو باغ ظالم )) .
فيقال له : أولا : الباغي قد يكون متأوّلا معتقدا أنه على حق ، وقد يكون متعمدا يعلم أنه باغٍ ، وقد يكون بَغْيُهُ مركّبا من شبهة وشهوة ، وهو الغالب . وعلى كل تقدير فهذا لا يقدح فيما عليه أهل السنة ؛ فإنهم لا ينزّهون معاوية ولا من هو أفضل منه من الذنوب ، فضلا عن تنزيههم عن الخطأ في الإجتهاد ، بل يقولون : إن الذنوب لها أسباب تُدفع عقوبتها من التوبة والاستغفار ، والحسنات الماحية ، والمصائب المكفِّرة ، وغير ذلك .وهذا أمر يعم الصحابة وغيرهم .
ويقال لهم : ثانيا : أما أهل السنة فأصلهم مستقيم مطّرد في هذا الباب . وأما أنتم فمتناقضون . وذلك أن النواصب – من الخوارج وغيرهم – الذين يكفّرون عليًّا أو يفسِّقونه أو يشكّون في عدالته من المعتزلة والمروانية وغيرهم ، لو قالوا لكم : ما الدليل على إيمان عليّ وإمامته وعدله ؟ لم يكن لكم حجة ؛ فإنكم إن احتججتم بما تواتر من إسلامه وعبادته ، قالوا لكم : وهذا متواتر عن الصحابة ، والتابعين والخلفاء الثلاثة ، وخلفاء بني أمية كمعاوية ويزيد وعبد الملك وغيرهم ، وأنتم تقدحون في إيمانهم ، فليس قدحنا في إيمان عليّ وغيره إلا وقدحكم في إيمان هؤلاء أعظم ، والذين تقدحون أنتم فيهم أعظم من الذين نقدح نحن فيهم . وإن احتججتم بما في القرآن من الثناء والمدح . قالوا : آيات القرآن عامة تتناول أبا بكر وعمر وعثمان وغيرهم مثل ما تتناول عليًّا وأعظم من ذلك . وأنتم قد أخرجتم هؤلاء من المدح والثناء فإخراجنا عليًّا أيسر . وإن قلتم بما جاء عن النبي في فضائله : قالوا : هذه الفضائل روتها الصحابة الذين رووا فضائل أولئك ، فإن كانوا عدولا فاقبلوا الجميع ، وإن كانوا فسَّاقا فإن جاءكم فاسق بنبأٍ فتبيَّنوا ، وليس لأحد أن يقول في الشهود : إنهم إن شهدوا لي كانوا عدولا ، وإن شهدوا عليّ كانوا فسّاقا ، أو : إن شهدوا بمدح من أحببته كانوا عدولا ، وإن شهدوا بمدح من أبغضته كانوا فسَّاقا .
وأما قوله((إن سبب ذلك محبة محمد بن أبي بكر لعليّ ،ومفارقته لأبيه )) .
فكذب بيّن . وذلك أن محمد بن أبي بكر في حياة أبيه لم يكن إلا طفلا له أقل من ثلاث سنين ، وبعد موت أبيه كان من أشد الناس تعظيما لأبيه، وبه كان يتشرف ، وكانت له بذلك حرمة عند الناس .
وأما قوله : (( إن سبب قولهم لمعاوية : إنه خال المؤمنين دون محمد، إن محمداً هذا كان يحب عليًّا ،ومعاوية كان يبغضه )) .
فيقال : هذا كذب أيضا؛ فإن عبد الله بن عمر كان أحق بهذا المعنى من هذا وهذا ، وهو لم يقاتل لا مع هذا ولا مع هذا ، وكان معظِّما لعليّ ، محباً له ، يذكر فضائله ومناقبه ، وكان مبايعا لمعاوية لما اجتمع عليه الناس غير خارج عليه ، وأخته أفضل من أخت معاوية ، وأبوه أفضل من أبي معاوية ، والناس أ كثر محبة وتعظيماً له من معاوية ومحمد ،ومع هذا فلم يشتهر عنه أنه خال المؤمنين . فعُلم أنه ليس سبب ذلك ما ذكره .
( فصـــــل )
وأما قول الرافضي : ((وسمّوه كاتب الوحي ولم يكتب له كلمة واحدة من الوحي )) .
فهذا قول بلا حجة ولا علم ، فما الدليل على أنه لم يكتب كلمة واحدة من الوحي ، وإنما كان يكتب له رسائل ؟
وقوله : ((إن كتاب الوحي كانوا بضعة عشر أخصّهم وأقربهم إليه عليّ )) .
فلا ريب أن عليًّا كان ممن يكتب له أيضا ، كما كتب الصلح بينه وبين المشركين عام الحديبية . ولكن كان يكتب له أبو بكر وعمر أيضا ، ويكتب له زيد بن ثابت بلا ريب .
ففي الصحيحين أن زيد بن ثابت لما نزلت: لاَّ َيسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِين( ) .كتبها له( ) .وكتب له أبو بكر وعمر ، وعثمان ،وعليّ، وعامر بن فهيرة ، وعبد الله بن الأرقم ، وأبيّ بن كعب ، وثابت بن قيس ، وخالد بن سعيد بن العاص،وحنظلة بن الربيع الأسدي ،وزيد بن ثابت ومعاوية،وشُرحبيل بن حسنة رضى الله عنهم .
وأما قوله :(( إن معاوية لم يزل مشركاً مدة كون النبي مبعوثا)) .
فيقال : لا ريب أن معاوية وأباه وأخاه وغيرهم أسلموا عام فتح مكة ، قبل موت النبي بنحو من ثلاث سنين ، فكيف يكون مشركا مدة المبعث ، ومعاوية كان حين بُعث النبي صغيرا، كانت هند ترقِّصه . ومعاوية أسلم مع مسلمة الفتح ، مثل أخيه يزيد ، وسهيل بن عمرو ، وصفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل ، وأبي سفيان بن حرب وهؤلاء كانوا قبل إسلامهم أعظم كفراً ومحاربة للنبي من معاوية .
(فصــــــل)
قال الرافضي : (( وكان باليمن يوم الفتح يطعن على رسول الله ، وكتب إلى أبيه صخر بن حرب يعيّره بإسلامه ،ويقول : أَصَبَوْتَ إلى دين محمد؟ .
والجواب : أما قوله : (( كان باليمن يطعن على النبي وكتب إلى أبيه صخر بن حرب يعيّره بإسلامه)) .
فهذا من الكذب المعلوم ؛ فإن معاوية إنما كان بمكة ، لم يكن باليمن ، وأبوه أسلم قبل دخول النبي مكة بمر الظهران ليلة نزل بها ، وقال له العباس : إن أبا سفيان يحب الشرف . فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (( من دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، ومن ألقى السلاح فهو آمن ))( ) .
وأما قوله : (( إن الفتح كان في رمضان لثمان من مقدم النبي المدينة )) فهذا صحيح .
وأما قوله : (( إن معاوية كان مقيما على شِرْكِهِ هاربا من النبي ، لأنه كان قدر أهدر دمه، فهرب إلى مكة ، فلما لم يجد له مأوى صار إلى النبي مضطراً ، فأظهر الإسلام ، وكان إسلامه قبل موت النبي بخمسة أشهر )) .
فهذا من أظهر الكذب ؛ فإن معاوية أسلم عام الفتح باتفاق الناس، وقد تقدّم قوله: (( إنه من المؤلفة قلوبهم )) والمؤلفة قلوبهم أعطاهم النبي عام حنين من غنائم هَوَازن ، وكان معاوية ممن أعطاه منها ، والنبي كان يتألّف السادة المطاعين في عشائرهم ، فإن كان معاوية هاربا لم يكن من المؤلفة قلوبهم ، ولو لم يسلم إلا قبل موت النبي بخمسة أشهر لم يُعط شيئاً من غنائم حنين .
ومن كانت غايته أن يؤمن لم يحتج إلى تأليف .
ومما يبين كذب ما ذكره هذا الرافضي أنه لم يتأخر إسلام أحد من قريش إلى هذه الغاية ، وأهل السير والمغازى متفقون على أنه لم يكن معاوية ممن أُهدر دمه عام الفتح .
وأما قوله : (( إنه استحق أن يُوصف بذلك دون غيره )) .
ففرية على أهل السنة ؛ فإنه ليس فيهم من يقول : إن هذا من خصائص معاوية ، بل هو واحد من كتاب الوحي . وأما عبد الله بن سعد بن أبي سرح فارتد عن الإسلام ، وافترى على النبي ، ثم إنه عاد إلى الإسلام.
وأما قوله:(( إنه نزل فيه : ولكن مَّن شرح بالكفر صدراً ( ) الآية.
فهو باطل ؛ فإن هذه الآية نزلت بمكة ، لما أُكره عمَّار وبلال على الكفر . وردة هذا كانت بالمدينة بعد الهجرة ، ولو قُدِّر أنه نزلت فيه هذه الآية؛ فالنبي قَبِل إسلامه وبايعه .
وأما قوله : (( وقد روى عبد الله بن عمر قال : أتيت النبي فسمعته يقول : (( يطلع عليكم رجل يموت على غير سنتي )) فطلع معاوية . وقام النبي خطيبا ، فأخذ معاوية بيد ابنه يزيد وخرج ولم يسمع الخطبة ، فقال النبي : (( لعن الله القائد والمقود ، أي يوم يكون للأمة مع معاوية ذي الإساءة )) .
فالجواب أن يقال أولا : نحن نطالب بصحة الحديث ؛ فإن الاحتجاج بالحديث لا يجوز إلا بعد ثبوته . ونحن نقول هذا في مقام المناظرة ، وإلا فنحن نعلم قطعا أنه كذب .
ويقال ثانيا : هذا الحديث من الكذب الموضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث ، ولا يوجد في شيء من دواوين الحديث التي يُرجع إليها في معرفة الحديث ، ولا له إسناد معروف .
وهذا المحتج به لم يذكر له إسناد . ثم من جهله أن يروي مثل هذا عن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمر كان من أبعد الناس عن ثلب الصحابة، وأروى الناس لمناقبهم ، وقوله في مدح معاوية معروف ثابت عنه ، حيث يقول : ما رأيت بعد رسول الله أَسْوَد من معاوية . قيل له : ولا أبو بكر و عمر ؟ فقال : كان أبو بكر وعمر خيرا منه ، وما رأيت بعد رسول الله أسود من معاوية .
قال أحمد بن حنبل : السيد الحليم يعني معاوية ، وكان معاوية كريما حليما .
ثم إن خطب النبي لم تكن واحدة ، بل كان يخطب في الجمع والأعياد والحج وغير ذلك . ومعاوية وأبوه يشهدان الخطب، كما يشهدها المسلمون كلهم . افتراهما في كل خطبة كانا يقومان ويُمَكَّنان من ذلك ؟ هذا قدح في النبي وفي سائر المسلمين ، إذ يمكِّنون اثنين دائما يقومان ولا يحضران الخطبة ولا الجمعة . وإن كانا يشهدان كل خطبة ، فما بالهما يمتنعان من سماع خطبة واحدة قبل أن يتكلم بها ؟.
وأما قوله :(( إنه بالغ في محاربة علي )) .
فلا ريب أنه اقتتل العسكران : عسكر علي ومعاوية بصفين ، ولم يكن معاوية ممن يختار الحرب إبتداء ، بل كان من أشد الناس حرصا على أن لا يكون قتال ، وكان غيره أحرص على القتال منه .
(فصــــل)
إذا تبين هذا فيقال : قول الرافضة من أفسد الأقوال وأشدها تناقضا ؛ فإنهم يعظّمون الأمر على من قاتل عليًّا ، ويمدحون من قتل عثمان ، مع أن الذم والإثم لمن قتل عثمان أعظم من الذم والإثم لمن قتل عليًّا ، فإن عثمان كان خليفة اجتمع الناس عليه ، ولم يقتل مسلما ، وقد قتلوه لينخلع من الأمر ، فكان عذره في أن يستمر على ولايته أعظم من عذر عليّ في طلبه لطاعتهم له ، وصَبَرَ عثمان حتى قُتل مظلوما شهيدا من غير أن يدفع عن نفسه ، وعليّ بدأ بالقتال أصحاب معاوية ، ولم يكونوا يقاتلونه ، ولكن امتنع من بيعته .
وإن قيل : إن عثمان فعل أشياء أنكروها .
قيل : تلك الأشياء لم تبح خلعه ولا قتله ، وإن أباحت خلعه وقتله كان ما نقموه على عليّ أوْلى أن يبيح ترك مبايعته .
وأما قوله : (( الخلافة ثلاثون سنة )) ونحو ذلك . فهذه الأحاديث لم تكن مشهورة شهرة يعلمها مثل أولئك ؛ إنما هي من نقل الخاصة لا سيما وليست من أحاديث الصحيحين وغيرهما.وإذا كان عبد الملك بن مروان خَفِيَ عليه قول النبي لعائشة رضى الله عنها:(( لولا أن قومك حديثوعهد بالجاهلية لنقضت الكعبة، ولألصقتها بالأرض، ولجعلت لها بابين))( ) ونحو ذلك حتى هدم ما فعله ابن الزبير ، ثم لما بلغه ذلك قال : وددت أنّي وليته من ذلك ما تولاه . مع أن حديث عائشة رضى الله عنها ثابت صحيح متفق على صحته عند أهل العلم ، فلأن يخفى على معاوية وأصحابه قوله : (( الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تصير ملكا )) بطريق الأوْلى ، مع أن هذا في أول خلافة علي ّ لا يدل على عليّ عيناً ، وإنما عُلمت دلالته على ذلك لما مات ، مع أنه ليس نصّاً في إثبات خليفة معيّن . وهم يقولون :
إذا كان لا ينصفنا إما تأويلا منه وإما عجزا منه عن نصرتنا ، فليس علينا أن نبايع من نُظلم بولايته .
وأما قوله : (( إن معاوية قتل جمعاً كثيرا من خيار الصحابة )) .
فيقال : الذين قُتلوا قُتلوا من الطائفتين ؛ قتل هؤلاء من هؤلاء ، وهؤلاء من هؤلاء . وأكثر الذين كانوا يختارون القتال من الطائفتين لم يكونوا يطيعون لا عليّاً ولا معاوية ، وكان عليّ ومعاوية رضى الله عنهمما أطلب لكف الدماء من أكثر المقتتلين ، لكن غُلبا فيما وقع .والفتنة إذا ثارت عجز الحكماء عن إطفاء نارها ، وكان في العسكرين مثل الأشتر النخعي ، وهاشم بن عُتبة المرقال ، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، وأبي الأعور السلمى،ونحوهم من المحرضين على القتال : قوم ينتصرون لعثمان غاية الانتصار ، وقوم ينفِّرون عنه ، وقوم ينتصرون لعليّ وقوم ينفِّرون عنه .
وأما ما ذكره من لعن عليّ ، فإن التلاعن وقع من الطائفتين كما وقعت المحاربة ، وكان هؤلاء يلعنون رؤوس هؤلاء في دعائهم ، وهؤلاء يلعنون رؤوس هؤلاء في دعائهم . وقيل : إن كل طائفة كانت تقنت على الأخرى . والقتال باليد أعظم من التلاعن باللسان .
ثم من العجب أن الرافضة تنكر سب عليّ ، وهم يسبّون أبا بكر وعمر وعثمان ويكفِّرونهم ومن والاهم . ومعاوية وأصحابه ما كانوا يكفِّرون عليًّا، وإنما يكفِّره الخوارج المارقون ، والرافضة شر منهم .
ولا ريب أنه لا يجوز سب أحد من الصحابة : لا عليّ ولا عثمان ولا غيرهما ،ومن سب أبا بكر وعمر وعثمان فهو أعظم إثما ممن سب عليًّا ، وإن كان متأولا فتأويله أفسد من تأويل من سب عليًّا .
وأما قوله : (( إن معاوية سمّ الحســن )).
فهذا مما ذكره بعض الناس ، ولم يثبت ذلك ببيِّنة شرعية ، أو إقرار معتبر ، ولا بنقل يُجزم به . وهذا مما لا يمكن العلم به ، فالقول به قول بلا علم .
وأما قوله : (( وقتل ابنه يزيد مولانا الحسين ونهب نساءه )) .
فيقال : إن يزيد لم يأمر بقتل الحسين باتفاق أهل النقل ، ولكن كتب إلى ابن زياد أن يمنعه عن ولاية العراق . والحسين كان يظن أن أهل العراق ينصرونه ويفون له بما كتبوا إليه ، فأرسل إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل ، فلما قتلوا مسلما وغدروا به وبايعوا ابن زياد ، أراد الرجوع فأدركته السرية الظالمة ،فطلب أن يذهب إلى يزيد،أو يذهب إلى الثغر،أو يرجع إلى بلده ، فلم يمكّنوه من شيء من ذلك حتى يستأسر لهم ، فامتنع ، فقاتلوه حتى قُتل مظلوما ، ولما بلغ ذلك يزيد أظهر التوجّع على ذلك ، وظهر البكاء في داره ، ولم يسب له حريما أصلا ، بل أكرم أهل بيته ، وأجازهم حتى ردّهم إلى بلدهم .
وأما قوله : ((وكسر أبوه ثنيّة النبي ، وأكلت أمّه كبد حمزة عم النبي )) .
فلا ريب أن أبا سفيان بن حرب كان قائد المشركين يوم أُحُد ، وكُسرت ذلك اليوم ثنيّة النبي ، كسرها بعض المشركين . لكن لم يقل أحد : إن أبا سفيان باشر ذلك ، وإنما كسرها عُتبة بن أبي وقاص، وأخذت هند كبد حمزة فلاكتها ، فلم تستطع أن تبلعها فلفظتها .
وكان هذا قبل إسلامهم ، ثم بعد ذلك أسلموا وحسن إسلامهم وإسلام هند ، وكان النبي يكرمها ، والإسلام يَجُبٌّ ما قبله ، وقد قـال الله تعالى :
قُلْ ِللذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَر لَهُم مَا قَدْ سَلَفَ ( ) .
(فصــــل )
قال الرافضي : (( وسمّوا خالد بن الوليد سيف الله عناداً لأمير المؤمنين ، الذي هو أحق بهذا الاسم ، حيث قتل بسيفه الكفّار)) .
فيقال : أما تسمية خالد بن الوليد بسيف الله فليس هو مختصا به ، بل هو (( سيف من سيوف الله سلَّه الله على المشركين ))( ) هكذا جاء في الحديث عن النبي . والنبي هو أول من سمّاه بهذا الاسم ، كما ثبت في صحيح البخاري من حديث أيوب السختياني ، عن حميد بن هلال ، عن أنس بن مالك أن النبي نَعَى زيدا و جعفرا وابن رواحة للناس قبل أن يأتيه خبرهم، فقال : (( أخذ الراية زيد فأُصيب ، ثم أخذها جعفر فأُصيب ، ثم أخذها ابن رواحة فأُصيب وعيناه تذرفان، حتى أخذها سيف من سيوف الله خالد حتى فتح الله عليهم ))( ).
وأما قوله : (( عليّ أحق بهذا الاســم )).
فيقال : أولا : من الذي نازع في ذلك ؟ ومن قال : إن عليًّا لم يكن سيفا من سيوف الله وقول النبي الذي ثبت في الصحيح يدل على أن لله سيوفا متعددة ، ولا ريب أن عليًّا من أعظمها . وما في المسلمين من يفضِّل خالدا على عليّ ،حتى يقال : إنهم جعلوا هذا مختصًّا بخالد . والتسمية بذلك وقعت من النبي في الحديث الصحيح ، فهو الذي قال : إن خالدا سيف من سيوف الله.
ثم يقال : ثانيا : عليّ أجلّ قدرا من خالد ، وأجلّ من أن تجعل فضيلته أنه سيف من سيوف الله ؛ فإن عليًّا له من العلم والبيان والدين والإيمان والسابقة ما هو به أعظم من أن تُجعل فضيلته أنه سيف من سيوف الله ؛ فإن السيف خاصته القتال ،وعليّ كان القتال أحد فضائله ؛ بخلاف خالد فإنه كان هو فضيلته التي تميّز بها على غيره ،لم يتقدم بسابقة ولا كثرة علم ولا عظيم زهد ، وإنما تقدم بالقتال ؛ فلهذا عبّر عن خالد بأنه سيف من سيوف الله .
وقوله : (( إن عليّا قتل بسيفه الكفار )) .
فلا ريب أنه لم يقتل إلا بعض الكفّار .وكذلك سائر المشهورين بالقتال من الصحابة كعمر والزبير وحمزة والمقداد وأبي طلحة والبراء بن مالك وغيرهم رضى الله عنهم ، ما منهم من أحد إلا قتل بسيفه طائفة من الكفّار.والبراء بن مالك قتل مائة رجل مبارزة ، غير من شَرَكَ في دمه .
وأما قوله : (( وقال فيه رسول الله : عليّ سيف الله وسهم الله )).
فهذا الحديث لا يُعرف في شيء من كتب الحديث ، ولا له إسناد معروف ، ومعناه باطل ؛ فإن عليًّا ليس هو وحده سيف الله وسهمه . وهذه العبارة يقتضي ظاهرها الحصر.
وكذلك ما نقل عن عليّ أنه قال على المنبر : (( أنا سيف الله على أعدائه ورحمته لأوليائه )) .
فهذا لا إسناد له ، ولا يُعرف له صحة . لكن إن كان قاله فمعناه صحيح ، وهو قدر مشترك بينه وبين أمثاله .
وأما قوله : (( وخالد لم يزل عدواً لرسول الله مكذِّبا له )) .
فهذا كان قبل إسلامه ، كما كان الصحابة كلهم مكذِّبين له قبل الإسلام، من بني هاشم وغير بني هاشم ، مثل أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، وأخيه ربيعة ، وحمزة عمه ، وعقيل ،وغيره .
وقوله : (( وبعثة النبي إلى بني جَذِيمة ليأخذ منهم الصدقات ، فخانه وخالفه على أمره وقتل المسلمين ، فقام النبي خطيبا بالإنكار عليه رافعا يديه إلى السماء حتى شوهد بياض إبطيه، وهو يقول : (( اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد )) ثم أنفذ إليه بأمير المؤمنين لتلافى فارطه ، وأمره أن يسترضى القوم من فعله )) .
فيقال : هذا النقل فيه من الجهل والتحريف ما لا يخفى على من يعلم السيرة ؛ فإن النبي أرسله إليهم بعد فتح مكة ليسلموا ، فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا ، فقالوا : صبأنا صبأنا ، فلم يقبل ذلك منهم،وقال: إن هذا ليس بإسلام ، فقتلهم ، فأنكر ذلك عليه من معه من أعيان الصحابة ، كسالم مولى أبي حذيفة ، وعبد الله بن عمر ، وغيرهما . ولما بلغ ذلك النبي رفع يديه إلى السماء وقال : (( اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد )) . لأنه خاف أن يطالبه الله بما جرى عليهم من العدوان . وقد قال تعالى : َفإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ( )، ثم أرسل عليًّا ،وأرسل معه مالا ، فأعطاهم نصف الديات ، وضمن لهم ما تلف حتى مِيلَغَة الكلب ، ودفع إليهم ما بقي احتياطا لئلا يكون بقي شيء لم يعلم به .
ومع هذا فالنبي صلى الله لم يعزل خالدا عن الإمارة ، بل ما زال يؤمّره ويقدّمه ، لأن الأمير إذا جرى منه خطأ أو ذنب أُمر بالرجوع عن ذلك، وأُقرّ على ولايته ، ولم يكن خالدا معانداً للنبي ، بل كان مطيعا له ، ولكن لم يكن في الفقه والدين بمنزلة غيره ، فخفى عليه حكم هذه القضية .
ويُقال : إنه كان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية ، وكان ذلك مما حرّكه على قتلهم .وعليّ كان رسولا في ذلك .
وأما قوله : (( إنه أمره أن يسترضى القوم من فعله )) .
فكلامُ جاهل ؛ فإنما أرسله لإنصافهم وضمان ما تلف لهم ، لا لمجرد الاسترضاء .
وكذلك قوله عن خالد : (( إنه خانه وخالف أمره وقتل المسلمين )).
كذب على خالد ؛فإن خالدا لم يتعمد خيانة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا مخالفة أمره ، ولا قتل من هو مسلم معصوم عنده ، ولكنه أخطأ كما أخطأ أسامة بن زيد في الذي قتله بعد أن قال : لا إله إلا الله ، وقتل السرية لصاحب الغنَيمْةَ الذي قال : أنا مسلم ، فقتلوه وأخذوا غنمه .
(فصـــــل)
قال الرافضي : (( ولما قُبض النبي وأنفذه أبو بكر لقتال أهل اليمامة قتل منهم ألفا ومائتي نفر مع تظاهرهم بالإسلام ، وقتل مالك بن نويرة صبراً وهو مسلم ، وعرَّس بامرأته ، وسمّوا بني حنيفة أهل الردة لأنهم لم يحملوا الزكاة إلى أبي بكر لأنهم لم يعتقدوا إمامته ، واستحلّ دماءهم وأموالهم ونساءهم حتى أنكر عمر عليه ، فسمّوا مانع الزكاة مرتداً ، ولم يسمّوا من استحلّ دماء المسلمين ومحاربة أمير المؤمنين مرتداً ، مع أنهم سمعوا قول النبي : (( يا عليّ حربك حربي وسلمك سلمي ، ومحارب رسول الله كافر بالإجماع )) .
والجواب بعد أن يقال : الله أكبر على هؤلاء المرتدين المفترين ، أتباع المرتدّين الذين برزوا بمعاداة الله ورسوله وكتابه ودينه ، ومرقوا من الإسلام ونبذوه وراء ظهورهم ، وشاقّوا الله ورسوله وعباده المؤمنين ، وتولوا أهل الردة والشقاق ، فإن هذا الفصل وأمثاله من كلامهم يحقق أن هؤلاء القوم المتعصبين على الصدّيق وحزبه ، من جنس المرتدّين الكفار ، كالمرتدين الذين قاتلهم الصديق .
وذلك أن أهل اليمامة هم بنوا حنيفة الذين كانوا قد آمنوا بمسيلمة الكذاب ، الذي ادّعى النبوة في حياة النبي ، وكان قد قدم المدينة وأظهر الإسلام ، وقال : إن جعل محمد لي الأمر من بعده آمنت به . ثم لما صار إلى اليمامة ادّعى أنه شريك النبي في النبوّة، وأن النبي صدّقه على ذلك ، وشهد له الرَجَّال بن عُنْفُوة . وكان قد صنّف قرآنا يقول فيه : (( والطاحنات طحنا ، فالعاجنات عجنا ، فالخابزات خبزا ، إهالة وسمنا ، إن الأرض بيننا و بين قريش نصفين و لكن قريش قوم لا يعدلون )) . و منه قوله لعنه الله : (( يا ضفدع بنت ضفدعين ، نقّي كم تنقّين ، لا الماء تكدّرين . ولا الشارب تمنعين . رأسك في الماء وذنبك في الطين )) . ومنه قوله لعنه الله : (( الفيل وما أدراك ما الفيل ، له زلوم طويل ، إن ذلك من خلق ربنا الجليل )) ونحو ذلك من الهذيان السمج الذي قال فيه الصديق رضي الله عنه لقومه لما قرؤوه عليه : (( ويلكم أين يذهب بعقولكم ، إن هذا كلام لم يخرج من إله )) .
وكان هذا الكذّاب قد كتب للنبي : (( من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله. أما بعد فإني قد أُشركت في الأمر معك )) . فكتب إليه رسول الله : (( من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذّاب )) . فلما توفي رسول الله بعث إليه أبو بكر خالد بن الوليد فقاتله بمن معه من المسلمين ، بعد أن قاتل خالد بن الوليد طليحة الأسديّ ، الذي كان أيضا قد ادّعى النبوة ، واتبعه طوائف من أهل نجد ، فلما نصر الله المؤمنين على هؤلاء وهزموهم ، وقُتل ذلك اليوم عُكاشة بن محصن الأسدي ، وأسلم بعد ذلك طليحة الأسدي هذا ، ذهبوا بعد ذلك إلى مسيلمة الكذّاب باليمامة ، ولقى المؤمنون في حربه شدة عظيمة ، وقتل في حربه طائفة من خيار الصحابة مثل زيد بن الخطاب ، وثابت بن قيس بن الشمّاس ، وأُسيد بن حضير وغيرهم .
وفي الجملة فأمر مسيلمة الكذّاب وادعاؤه النبوة واتّباع بني حنيفة له باليمامة ، وقتال الصدّيق لهم على ذلك ، أمر متواتر مشهور ، قد علمه الخاص والعام ، كتواتر أمثاله . وليس هذا من العلم الذي تفرّد به الخاصّة ، بل علم الناس بذلك أظهر من علمهم بقتال الجمل وصفِّين ، فقد ذُكر عن بعض أهل الكلام أنه أنكر الجمل وصفِّين ، وهذا الإنكار – وإن كان باطلا – فلم نعلم أحدا أنكر قتال أهل اليمامة ، وأن مسيلمة الكذاب ادّعى النبوة ، وأنهم قاتلوه على ذلك .
لكن هؤلاء الرافضة من جحدهم لهذا وجهلهم به بمنزلة إنكارهم لكون أبي بكر وعمر دفنا عند النبي ، وإنكارهم لموالاة أبي بكر وعمر للنبي ، ودعواهم أنه نصَّ على عليّ بالخلافة . بل منهم من ينكر أن تكون زينب ورقيَّة وأم كلثوم من بنات النبي ، ويقولون : إنهن لخديجة من زوجها الذي كان كافرا قبل النبي .
ومنهم من يقول : إن عمر غصب بنت عليّ حتى زوّجه بها ، وأنه تزوج غصباً في الإسلام . ومنهم من يقول : إنهم بعجوا بطن فاطمة حتى أُسقطت ، وهدموا سقف بيتها على من فيه ، وأمثال هذه الأكاذيب التي يعلم من له أدنى علم ومعرفة أنها كذب ، فهم دائما يعمدون إلى الأمور المعلومة المتواترة ينكرونها ، وإلى الأمور المعدومة التي لا حقيقة لها يثبتونها . فلهم أوفر نصيب من قوله تعالى : وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ ( ) ، فهم يفترون الكذب ويكذّبون بالحق ، وهذا حال المرتدين .
وهم يدّعون أن أبا بكر وعمر ومن اتّبعهما ارتدّوا عن الإسلام . وقد علم الخاص والعام أن أبا بكر هو الذي قاتل المرتدّين ، فإذا كانوا يدّعون أن أهل اليمامة مظلومون قُتلوا بغير حق ، وكانوا منكرين لقتال أولئك متأوّلين لهم ، كان هذا مما يحقق أن هؤلاء الخلف تبع لهؤلاء السلف ، وأن الصدّيق وأتباعه يقاتلون المرتدّين في كل زمان.
وقوله : (( إنهم سمّوا بني حنيفة مرتدين ، لأنهم لم يحملوا الزكاة إلى أبي بكر )) .
فهذا من أظهر الكذب وأبْيَنه ؛ فإنه إنما قاتل بني حنيفة لكونهم آمنوا بمسيلمة الكذَّاب ، واعتقدوا نبوّته . وأما مانعوا الزكاة فكانوا قوما آخرين غير بني حنيفة . وهؤلاء كان قد وقع لبعض الصحابة شبهة في جواز قتالهم . وأما بنو حنيفة فلم يتوقف أحد في وجوب قتالهم . وأما مانعوا الزكاة فإن عمر بن الخطاب قال: يا خليفة رسول الله كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله : (( أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقّها وحسابهم على الله )) . فقال أبو بكر : ألم يقل : (( إلا بحقها )) فإن الزكاة من حقها . والله لو منعوني عَنَاقا أو عُقالا كانوا يؤدّونه إلى رسول الله لقاتلهم عليه ))( ).
وهؤلاء لم يقاتلوهم لكونهم لم يؤدوها إلى الصدّيق ؛ فإنهم لو أعطوها بأنفسهم لمستحقيها ولم يؤدوها إليه لم يقاتلهم . هذا قول جمهور العلماء ، كأبي حنيفة وأحمد وغيرهما .وقالوا : إذا قالوا : نحن نؤديها بأنفسنا ولا ندفعها إلى الإمام ، لم يكن له قتالهم . فإن الصدّيق لم يقاتل أحداً على طاعته ، ولا ألزم أحدا بمبايعته . ولهذا لما تخلّف عن بيعته سعد لم يكرهه على ذلك .
فقول القائل : (( سمّوا بني حنيفة أهل الردة لأنهم لم يحملوا الزكاة إلى أبي بكر ، لأنهم لم يعتقدوا إمامته )) من أظهر الكذب والفرية . وكذلك قوله : (( إن عمر أنكر قتال بني حنيفة )) .
وأما قوله : (( ولم يسمّوا من استحل دماء المسلمين ، ومحاربة أمير المؤمنين ، مرتداً ، مع أنهم سمعوا قول النبي : (( يا عليّ حربك حربي وسلمك سلمي ومحارب رسول الله كافر بالإجماع )) .
فيقال في الجواب : أولا : دعواهم أنهم سمعوا هذا الحديث من النبي أو عنه كذب عليهم ، فمن الذي نقل عنهم أنهم سمعوا ذلك ؟ وهذا الحديث ليس في شيء من كتب علماء الحديث المعروفة ، ولا رُوي بإسناد معروف . ولو كان النبي قاله لم يجب أن يكونوا قد سمعوه ، فإنه لم يسمع كلٌّ منهم كل ما قاله الرسول ، فكيف إذا لم يُعلم أن النبي قاله ، ولا روي بإسناد معروف ؟ بل كيف إذا عُلم أنه كذب موضوع على النبي باتفاق أهل العلم بالحديث ؟.
وعلي ّ لم يكن قتاله يوم الجمل وصفّين بأمر من النبي ، وإنما كان رأياً رآه .
وقال أبو داوُد في سننه : (( حدّثنا إسماعيل بن إبراهيم الهذلي ، حدثنا ابن عليّه ، عن يونس ، عن الحسن ، عن قيس بن عبّاد قال : قلت لعليّ : أخبرنا عن مسيرك هذا : أعهد عهده إليك رسول الله ، أم رأى رأيتَه ؟ قال: ما عهد إليَّ رسول الله شيئا ، ولكنه رأى رأيته ))( ).
ولو كان محارب عليّ محارباً لرسول الله مرتداً ، لكان عليّ يسير فيهم السيرة في المرتدين . وقد تواتر عن عليّ يوم الجمل لما قاتلهم أنه لم يتّبع مدبرهم ، ولم يُجهّز على جريحهم ، ولم يغنم لهم مالاً ، ولا سبى لهم ذرية ، وأمر مناديه ينادي في عسكره : أن لا يُتّبع لهم مُدبر ولا يُجهز على جريحهم ، ولا تُغنم أموالهم . ولو كانوا عنده مرتدّين لأجهز على جريحهم واتّبع مدبرهم. وكانت عائشة فيهم ، فإن قلتم : إنها ليست أمّنا كفرتم بكتاب الله، وإن قلتم : هي أمنا واستحللتم وطأها كفرتم بكتاب الله .
وإن كان أولئك مرتدين ، وقد نزل الحسن عن أمر المسلمين ، وسلّمه إلى كافر مرتد ، كان المعصوم عندهم قد سلّم أمر المسلمين إلى المرتدين . وليس هذا من فعل المؤمنين ، فضلا عن المعصومين .
وأيضا فإن كان أولئك مرتدّون ، والمؤمنون أصحاب عليّ ، لكان الكفار المرتدّون منتصرين على المؤمنين دائما .
والله تعالى يقول في كتابه :إنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يُقُومُ الأَشْهَاد ( )،وأيضا فإن الله تعالى يقول في كتابه : وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ( )،فقد جعلهم مؤمنين إخوة مع الاقتتال والبغي .
وأيضا فقد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال : (( تمرق مارقة على حين فُرقة من المسلمين تقتلهم أوْلى الطائفتين بالحق )) . وقال:(( إن ابني هذا سيد ، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)). و قال لعمّار: (( تقتلك الفئة الباغية )) لم يقل : الكافرة( ) .
وهذه الأحاديث صحيحة عند أهل العلم بالحديث ، وهي مروية بأسانيد متنوعة ، لم يأخذ بعضهم عن بعض . وهذا مما يوجب العلم بمضمونها . وقد أخبر النبي أن الطائفتين المفترقتين مسلمتان ، ومدح من أصلح الله به بينهما . وقد أخبر أنه تمرق مارقة وأنه تقتلها أدنى الطائفتين إلى الحق .
ثم يقال لهؤلاء الرافضة : لو قالت لكم النواصب : عليّ قد استحل دماء المسلمين ، وقاتلهم بغير أمر الله ورسوله على رياسته . وقد قال النبي : ((سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر))( ). وقال : (( لا ترجعوا بعدي كفَّارا يضرب بعضكم رقاب بعض ))( ) فيكون عليّ كافرا لذلك – لم تكن حجتكم أقوى من حجتهم ؛ لأن الأحاديث التي احتجّوا بها صحيحة .
وأيضا فيقولون : قتل النفوس فساد ، فمن قتل النفوس على طاعته كان مريدا للعلو في الأرض والفساد . و هذا حال فرعون والله تعالى يقول :
تلك الدارُ الآخرةُ نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين ( )؛ فمن أراد العلو في الأرض والفساد لم يكن من أهل السعادة في الآخرة . وليس هذا كقتال الصدّيق للمرتدين ولمانعي الزكاة ؛ فإن الصدّيق إنما قاتلهم على طاعة الله ورسوله ، لا على طاعته . فإن الزكاة فرضٌ عليهم ، فقاتلهم على الإقرار بها ، وعلى أدائها ، بخلاف من قاتل ليُطاع هو .
قال الرافضي:(( وقد احسن بعض الفضلاء في قوله : شر من ابليس من لم يسبقه في سالف طاعته , وجرى معه في ميدان معصيته. ولا شك بين العلماء ان ابليس كان اعبد من الملائكة , وكان يحمل العرش وحده ستة آلاف سنة, ولما خلق الله آدم وجعله خليفة في الارض , وامره بالسجود فاستكبر فاستحق اللعنة والطرد , ومعاوية لم يزل في الاشراك وعبادة الاصنام الى ان اسلم بعد ظهور النبي بمدة طويلة, ثم استكبر عن طاعة الله في نصب امير المؤمنين عليه اماما, وبايعه الكل بعد قتل عثمان وجلس مكانه , فكان شراً من ابليس )) .
فيقال:هذا الكلام فيه من الجهل والضلال والخروج عن دين الاسلام وكل دين بل وعن العقل الذي يكون لكثير من الكفار , ما لا يخفي على من تدبره.
اما اولا: فلأن ابليس اكفر من كل كافر , وكل من دخل النار فمن اتباعه. كما قال تعالى: لأملأنّ جهنّم منك وممن تبعك منهم أجمعين ( ). وهو الآمر لهم بكل قبيح المزيّن لهم فكيف يكون أحد شراً منه ؟ لا سيما من المسلمين , لا سيما من الصحابة؟
وقول هذا القائل: ((شر من ابليس من لم يسبقه في سالف طاعة , وجرى معه في ميدان المعصية)) يقتضي ان كل من عصى الله فهو شر من ابليس , لانه لم يسبقه في سالف طاعة, وجرى معه في ميدان المعصية . وحينئذ فيكون آدم وذريته شرا من ابليس , فإن النبي قال: (( كل بني آدم خطّاء , وخير الخطّائين التوابون))( ).
ثم هل يقول من يؤمن بالله واليوم الاخر : أن من أذنب ذنبا من المسلمين يكون شرا من إبليس ؟ أوليس هذا مما يعلم فساده بالاضطرار من دين الإسلام؟وقائل هذا كافر كفرا معلوما بالضرورة من الدين . وعلى هذا فالشيعة دائما يذنبون , فيكون كل منهم شرا من إبليس . ثم إذا قالت الخوارج: إن علياّ أذنب فيكون شرا من إبليس –لم يكن للروافض حجة إلا دعوى عصمته. وهم لا يقدرون أن يقيموا حجة على الخوارج بإيمانه وإمامته وعدالته , فكيف يقيمون حجة عليهم بعصمته؟ ولكن أهل السنة تقدر أن تقيم الحجة بإيمانه وإمامته, لأن ما تحتج به الرافضة منقوض ومعارض بمثله , فيبطل الاحتجاج به.
ثم إذا قام الدليل على قول الجمهور الذي دل عليه القرآن كقوله تعالى:
وعصى آدم ربّه فغوى( ), لزم أن يكون آدم شراً من ابليس .
وفي الجملة فلوازم هذا القول وما فيه من الفساد يفوق الحصر والتعداد.
وأما ثانيا: فهذا الكلام كلام بلا حجة , بل هو باطل في نفسه . فلم قلت: إن شرا من إبليس من لم يسبقه في سالف طاعة وجرى معه ميدان معصية؟ وذلك أن احدا لا يجري مع إبليس في ميدان معصيته كلها, فلا يتصور أن يكون في الآدميين من يساوي إبليس في معصيته , بحيث يضل الناس كلهم ويغويهم.
وأما طاعة إبليس المتقدمة فهي حابطة بكفره بعد ذلك , فإن الردة تحبط العمل, فما تقدم من طاعته : إن كان طاعة فهي حابطة بكفره وردته , وما يفعله من المعاصي لا يماثله أحد فيه ,فامتنع أن يكون أحد شرا منه, وصار نظير هذا المرتد الذي يقتل النفوس ويزني ويفعل عامة القبائح بعد سابق طاعاته, فمن جاء بعده ولم يسبقه إلى تلك الطاعات الحابطة , وشاركه في قليل من معاصيه , لا يكون شرا منه , فكيف يكون أحدا شرا من إبليس ؟؟
وهذا ينقض أصول الشيعة : حقها وباطلها , وأقل ما يلزمهم أن يكون أصحاب علي الذين قاتلوا معه, وكانوا أحيانا يعصونه , شرا من الذين امتنعوا عن مبايعته من الصحابة , لأن هؤلاء عبدوا الله قبلهم , وأولئك جروا معهم في ميدان المعصية.
ويقال ثالثا: ما الدليل على أن إبليس كان أعبد الملائكة ؟ وأنه كان يحمل العرش وحده ستة آلاف سنة؟ أو أنه كان من حملة العرش في الجملة؟ أو أنه كان طاووس الملائكة؟ أو أنه ما ترك في السماء رقعة ولا في الأرض بقعة إلا وله فيها سجدة وركعة؟ ونحو ذلك مما يقوله بعض الناس ؟ فإن هذا أمر إنما يعلم بالنقل الصادق , وليس في القرآن شيء من ذلك ولا في ذلك خبر صحيح عن النبي . وهل يحتج بمثل هذا في أصول الدين إلا من هو من أعظم الجاهلين؟!!
وأعجب من ذلك قوله: (( ولا شك بين العلماء أن إبليس كان أعبد الملائكة)) .
فيقال: من الذي قال هذا من علماء الصحابة والتابعين وغيرهم من علماء المسلمين ؟ فضلا عن أن يكون هذا متفقا عليه بين العلماء ؟ وهذا شيء لم يقله قط عالم يقبل قوله من علماء المسلمين , وهو أمر لا يعرف إلا بالنقل , ولم ينقل هذا أحد عن النبي لا بإسناد صحيح ولا ضعيف . فإن كان قاله بعض الوعّاظ أو المصنفين في الرقائق , أو بعض من ينقل في التفسير من الإسرائيليات مالا أسناد له, فمثل هذا لا يحتج به في جرزة بقل , فكيف يحتج به في جعل إبليس خيرا من كل من عصى الله من بني آدم ويجعل الصحابة من هؤلاء الذين إبليس خير منهم؟
وما وصف الله ولا رسوله إبليس بخير قط ولا بعبادة متقدمة ولا غيرها , مع أنه لو كان له عبادة لكانت قد حبطت بكفره وردته.
وأعجب من ذلك قوله: (( لا شك بين العلماء أنه كان يحمل العرش وحده ستة آلاف سنة)) فياسبحان الله ! هل قال ذلك أحد من علماء المسلمين المقبولين عند المسلمين؟ وهل يتكلم بذلك إلا مفرط في الجهل ؟ فإن هذا لا يعرف – لو كان حقا- إلا بنقل الأنبياء , وليس عن النبي في ذلك شيء .
ويقال : قد ثبت إسلام معاوية ، والإسلام يَجُبُّ ما قبله. فمن ادّعى أنه ارتدّ بعد ذلك كان مدّعيا دعوى بلا دليل لولم يُعلم كذب دعواه، فكيف إذا عُلم كذب دعواه ، وأنه ما زال على الإسلام إلى أن مات ، كما علم بقاء غيره على الإسلام ؟ فالطريق الذي يُعلم به بقاء إسلام أكثر الناس من الصحابة وغيرهم ، يُعلم به بقاء إسلام معاوية . والمدّعي لارتداد معاوية وعثمان وأبي بكر وعمر رضى الله عنهم ، ليس هو أظهر حجة من المدّعي لارتداد عليّ . فإن المدَّعي كان لارتداد عليّ كاذبا ، فالمدَّعي لارتداد هؤلاء أظهر كذبا ، لأن الحجة على بقاء إيمان هؤلاء أظهر ، وشبهة الخوارج أظهر من شبهة الروافض .
ويقال : هذه الدعوى إن كانت صحيحة ،ففيها من القدح والغضاضة بعليّ والحسن وغيرهما ما لا يخفي . وذلك أنه كان مغلوبا مع المرتدّين ، وكان الحسن قد سلَّم أمر المسلمين إلى المرتدّين ، فيكون نصر الله لخالد على الكفار أعظم من نصره لعليّ . والله سبحانه وتعالى عدل لا يظلم واحداً منهما، فيكون ما استحقه خالدا أعظم مما استحقه عليّ ، فيكون أفضل عند الله منه .
ويقال : قوله : (( وبايعه الكل بعد عثمان )) .
إن لم يكن هذا حجة فلا فائدة فيه ، وإن كان حجة فمبايعتهم لعثمان كان اجتماعهم عليها أعظم . وأنتم لا ترون الممتنع عن طاعة عثمان كافراً ، بل مؤمناً تقيّاً .
ويقال : اجتماع الناس على مبايعة أبي بكر كانت على قولكم أكمل ، وأنتم وغيركم تقولون : إن عليًّا تخلف عنها مدة . فيلزم على قولكم أن يكون عليّ مستكبراً عن طاعة الله في نصب أبي بكر عليه إماما ، فيلزم حينئذ كفر عليّ بمقتضى حجتكم ، أو بطلانها في نفسها . وكفر عليّ باطل ، فلزم بطلانها .
ويقال : قولكم : (( بايعه الكل بعد عثمان )) .
من أظهر الكذب ، فإن كثيرا من المسلمين : إما النصف ، وإما أقل أو أكثر لم يبايعوه ،ولم يبايعه سعد بن أبي وقاص ولا ابن عمر ولا غيرهما .
ويقال: قولكم : (( إنه جلس مكانــه )) .
كذب ؛ فإن معاوية لم يطلب الأمر لنفسه ابتداء ، ولا ذهب إلى عليّ لينزعه عن إمارته ، ولكن امتنع هو وأصحابه عن مبايعته ، وبقي على ما كان عليه والياً على من كان واليا عليه في زمن عمر وعثمان . ولما جرى حكم الحكمين إنما كان متولياً على رعيته فقط .فإن أريد بجلوسه في مكانه أنه استبد بالأمر دونه في تلك البلاد ، فهذا صحيح ، لكن معاوية يقول : إني لم أنازعه شيئا هو في يده ، ولم يثبت عندي ما يوجب عليّ دخولي في طاعته . وهذا الكلام سواء كان حقا أو باطلا لا يوجب كون صاحبه شرًّا من إبليس ، ومن جعل أصحاب رسول الله شرًّا من إبليس ، فما أبقى غاية في الافتراء على الله ورسوله والمؤمنين ، والعدوان على خير القرون في مثل هذا المقام ، والله ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ، والهوى إذا بلغ بصاحبه إلى هذا الحد فقد أخرج صاحبه عن ربقة العقل ، فضلا عن العلم والدين ، فنسأل الله العافية من كل بليّة ، وإن حقًّا على الله أن يذل أصحاب مثل هذا الكلام ،وينتصر لعباده المؤمنين – من أصحاب نبيه وغيرهم – من هؤلاء المفترين الظالمين .
(فصــــل )
قال الرافضي : (( وتمادى بعضهم في التعصب حتى اعتقد إمامة يزيد بن معاوية مع ما صدر عنه من الأفعال القبيحة من قتل الإمام الحسين ونهب أمواله وسبى نسائه ودورانهم في البلاد على الجمال بغير قتب ، ومولانا زين العابدين مغلول اليدين ، ولم يقنعوا بقتله حتى رضُّوا أضلاعه وصدره بالخيول، وحملوا رؤوسهم على القنا مع أن مشايخهم رووا أن يوم قتل الحسين مطرت السماء دما . وقد ذكر ذلك الرافعي في (( شرح الوجيز )) وذكر ابن سعد في (( الطبقات )) أن الحمرة ظهرت في السماء يوم قتل الحسين ولم تر قبل ذلك . وقال أيضا : ما رفع حجرا في الدنيا إلا وتحته دم عبيط ، ولقد مطرت السماء مطرا بقي أثره في الثياب مدة حتى تقطعت . قال الزهري : ما بقى أحد من قاتلي الحسين إلا وعوقب في الدنيا : إما بالقتل وإما بالعمى أو سواد الوجه أو زوال الملك في مدة يسيرة .
وكان رسول الله يكثر الوصية للمسلمين في ولديه الحسن والحسين ويقول لهم : هؤلاءوديعتي عندكم . وأنزل الله تعالى : قُل لاَّ أسأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجرًا إلاَّ الْمَوَدَّةَ في القُرْبَى ( ).
والجواب : أما قوله : (( وتمادى بعضهم في التعصب حتى اعتقد إمامة يزيد بن معاوية )) .
إن أراد بذلك أنه اعتقد أنه من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين ، كأبي بكر وعمر وعثمان وعليّ ، فهذا لم يعتقده أحد من علماء المسلمين . وإن اعتقد مثل هذا بعض الجهال ، كما يحكى عن بعض الجهال من الأكراد ونحوهم أنه يعتقد أن يزيد من الصحابة ، وعن بعضهم أنه من الأنبياء ، وبعضهم يعتقد أنه من الخلفاء الراشدين المهديين ، فهؤلاء ليسوا من أهل العلم الذين يحكى قولهم . وهم مع هذا الجهل خير من جهال الشيعة وملا حدتهم الذين يعتقدون إلاهية عليّ ، أو نبوته ، أو يعتقدون أن باطن الشريعة يناقض ظاهرها ، كما تقول الإسماعيلية والنصيرية وغيرهم من أنه يسقط عن خواصهم الصوم والصلاة والحج والزكاة ، وينكرون المعاد .
وأما علماء أهل السنة الذين لهم قول يُحكى فليس فيهم من يعتقد أن يزيد وأمثاله من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين ، كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضى الله عنهم ، بل أهل السنة يقولون بالحديث الذي في السنن : (( خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم تصير ملكا ))( ) .
وإن أراد باعتقادهم إمامة يزيد ، أنهم يعتقدون أنه كان ملك جمهور المسلمين وخليفتهم في زمانه صاحب السيف ، كما كان أمثاله من خلفاء بني أمية وبني العباس ، فهذا أمر معلوم لكل أحد ، ومن نازع في هذا كان مكابرا؛ فإن يزيد بويع بعد موت أبيه معاوية ، وصار متوليا على أهل الشام ومصر والعراق وخراسان وغير ذلك من بلاد المسلمين .
وهذا معنى كونه إماما وخليفة وسلطانا ، كما أن إمام الصلاة هو الذي يصلّي بالناس . فإذا رأينا رجلا يصلّي بالناس كان القول بأنه إمام أمرا مشهوداً محسوسا لا يمكن المكابرة فيه . وأما كونه برًّا أو فاجرا ، أو مطيعا أو عاصيا ، فذاك أمر آخر .
فأهل السنّة إذا اعتقدوا إمامة الواحد من هؤلاء : يزيد، أو عبد الملك ، أو المنصور ، أو غيرهم – كان بهذا الاعتبار . ومن نازع في هذا فهو شبيه بمن نازع في ولاية أبي بكر وعمر وعثمان ، وفي ملك كسرى وقيصر والنجاشي وغيرهم من الملوك .
وأما كون الواحد من هؤلاء معصوما ، فليس هذا اعتقاد أحد من علماء المسلمين ، وكذلك كونه عادلا في كل أموره ، مطيعا لله في جميع أفعاله ، ليس هذا اعتقاد أحد من أئمة المسلمين .
وأما مقتل الحسين فلا ريب أنه قُتل مظلوما شهيدا ، كما قُتل أشباهه من المظلومين الشهداء . وقتل الحسين معصية لله ورسوله ممن قتله أو أعان على قتله أو رضي بذلك ، وهو مصيبة أصيب بها المسلمون من أهله وغير أهله ، وهو في حقِّه شهادة له ، ورفع درجة ، وعلو منزلة ؛ فإنه وأخاه سبقت لهما من الله السعادة ، التي لا تُنال إلا بنوع من البلاء ، ولم يكن لهما من السوابق ما لأهل بيتهما ، فإنهما تربيا في حجر الإسلام ، في عز وأمان ، فمات هذا مسموما وهذا مقتولا ، لينالا بذلك منازل السعداء وعيش الشهداء .
وليس ما وقع من ذلك بأعظم من قتل الأنبياء ؛ فإن الله تعالى قد أخبر أن بني إسرائيل كانوا يقتلون النبيين بغير حق . وقتل النبي أعظم ذنبا ومصيبة، وكذلك قتل عليّ أعظم ذنبا ومصيبة ،وكذلك قتل عثمان أعظم ذنبا ومصيبة .إذا كان كذلك فالواجب عند المصائب الصبر والاسترجاع ، كما يحبه الله ورسوله .
( فصــــل)
وصار الشيطان بسبب قتل الحسين يُحدث للناس بدعتين : بدعة الحزن والنوح يوم عاشوراء ، من اللطم والصراخ والبكاء والعطش وإنشاد المراثي ، وما يُفضى إليه ذلك من سبّ السلف ولعنتهم ، وإدخال من لا ذنب له مع ذوي الذنوب ، حتى يسب السابقون الأولون ، وتقرأ أخبار مصرعه التي كثير منها كذب . وكان قصد من سنّ ذلك فتح باب الفتنة والفرقة بين الأمة ؛ فإن هذا ليس واجبا ولا مستحبا باتفاق المسلمين ، بل إحداث الجزع والنياحة للمصائب القديمة من أعظم ما حرّمه الله ورسوله . وكذلك بدعة السرور والفرح .
وأما ما ذكره من سبي نسائه والذرارى ، والدوران بهم في البلاد ، وحملهم على الجمال بغير أقتاب ، فهذا كذب وباطل : ما سبى المسلمون – ولله الحمد – هاشميةً قط ، ولا استحلت أمة محمد سبى بني هاشم قط ، ولكن أهل الهوى والجهل يكذبون كثيرا ، كما تقول طائفة منهم : إن الحجاج قتل الأشراف ، يعنون بني هاشم .
(فصـــــل)
قال الرافضي : (( وتوقف جماعة ممن لا يقول بإمامته في لعنه مع أنه عندهم ظالم بقتل الحسين ونهب حريمه . وقد قال الله تعالى : أَلا لَعْنَةُ اللهِ على اَلظَّاِلمينَ ( ).وقال أبو الفرج ابن الجوزي من شيوخ الحنابلة عن ابن عباس رضى الله عنهما قال : أوحى الله تعالى إلى محمد صلى الله عليه وسلم: إني قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفا ، وإني قاتل بابن بنتك سبعين ألفا وسبعين ألفا . وحكى السُدِّي وكان من فضلائهم قال : نزلت بكربلاء ومعي طعام للتجارة ، فنزلنا على رجل فتعشينا عنده ، وتذاكرنا قتل الحسين وقلنا : ما شرك أحد في قتل الحسين إلا ومات أقبح موته . فقال الرجل : ما أ كذبكم، أنا شركت في دمه وكنت ممن قتله فما أصابني شيء . قال : فلما كان من آخر الليل إذا أنا بصائح . قلنا مالخبر ؟ قالوا قام الرجل يصلح المصباح فاحترقت إصبعه ، ثم دب الحريق في جسده فاحترق . قال السدى : فأنا والله رأيته وهو حممة سوداء . وقد سأل مهنا بن يحيى أحمد بن حنبل عن يزيد ، فقال : هو الذي فعل ما فعل . قلت : وما فعل ؟ قال : نهب المدينة . وقال له صالح ولده يوماً : إن قومنا ينسبوننا إلى تولى يزيد . فقال : يا بني وهل يتولى يزيد أحد يؤمن بالله واليوم الآخر ؟ فقال : لم لا تلعنه . فقال : وكيف لا ألعن من لعنه الله في كتابه ؟ فقلت : وأين لعن يزيد ؟ فقال : في قوله تعالى : َفهلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمُ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ . أَوْلئِكَ الَّذينَ لَعَنَهُمْ اللهُ فأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ( ) ،فهل يكون فساد أعظم من القتل ونهب المدينة ثلاثة أيام وسبى أهلها ؟ وَقَتَلَ جمعا من وجوه الناس فيها من قريش والأنصار والمهاجرين من يبلغ عددهم سبعمائة ، وقتل من لم يعرف من عبدٍ أو حرٍ أو امرأة عشرة آلاف ، وخاض الناس في الدماء حتى وصلت الدماء إلى قبر رسول الله وامتلأت الروضة والمسجد ، ثم ضرب الكعبة بالمنجنيق وهدمها وأحرقها .
وقال رسول الله : (( إن قاتل الحسين في تابوت من نار عليه نصف عذاب أهل النار وقد شُدَّ يداه ورجلاه بسلاسل من نار ينكس في النار حتى يقع في قعر جهنم ، وله ريح يتعوذ أهل النار إلى ربهم من شدة نتن ريحه ، وهو فيها خالد وذائق العذاب الأليم ، كلما نضجت جلودهم بدَّل الله لهم الجلود حتى يذوقوا العذاب ، لا يفتّر عنهم ساعة ، ويسقى من حميم جهنم ، الويل لهم من عذاب الله عز وجل . وقال عليه الصلاة والسلام : اشتد غضب الله وغضبي على من أراق دم أهلي وآذاني في عترتي)).
والجواب : أن القول في لعنة يزيد كالقول في لعنة أمثاله من الملوك الخلفاء وغيرهم ، ويزيد خير من غيره :خير من المختار بن أبي عبيد الثقفي أمير العراق ، الذي أظهر الانتقام من قتلة الحسين ؛ فإن هذا ادّعى أن جبريل يأتيه . وخير من الحجاج بن يوسف ؛ فإنه أظلم من يزيد باتفاق الناس.
ومع هذا فيُقال : غاية يزيد وأمثاله من الملوك أن يكونوا فسّاقا ، فلعنة الفاسق المعيَّن ليست مأموراً بها ، إنما جاءت السنّة بلعنة الأنواع ، كقول النبي : (( لعن الله السارق ؛ يسرق البيضة فتقطع يده ))( ). وقوله : (( لعن الله من أحدث حَدَثا أو آوى محدثا ))( ).وقوله (( لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه))( ) وقوله : (( لعن الله المحَلِّلَ والمحَلَّلَ له ))( ) ، (( لعن الله الخمر وعاصرها ومعتصرها ، وحاملها والمحمولة إليه ، وساقيها ، وشاربها ، وآكل ثمنها ))( ).
وأما ما فعله بأهل الحرَّة ، فإنهم لما خلعوه وأخرجوا نوابه وعشيرته ، أرسل إليهم مرة بعد مرة يطلب الطاعة ، فامتنعوا ، فأرسل إليهم مسلم بن عقبة المرّى ، وأمره إذا ظهر عليهم أن يبيح المدينة ثلاثة أيام . وهذا هو الذي عظم إنكار الناس له من فعل يزيد . ولهذا قيل لأحمد : أتكتب الحديث عن يزيد ؟ قال : لا ولا كرامة . أو ليس هو الذي فعل بأهل المدينة ما فعل ؟
لكن لم يقتل جميع الأشراف ، ولا بلغ عدد القتلى عشرة آلاف ، ولا وصلت الدماء إلى قبر النبي ، ولا إلى الروضة ، ولا كان القتل في المسجد . وأما الكعبة فإن الله شرفها وعظّمها وجعلها محرَّمة ، فلم يمكِّن الله أحدا من إهانتها لا قبل الإسلام ولا بعده ، بل لما قصدها أهل الفيل عاقبهم الله العقوبة المشهورة .
وأما الحديث الذي رواه وقوله : (( إن قاتل الحسين في تابوت من نار عليه نصف عذاب أهل النار ، وقد شُدت يداه ورجلاه بسلاسل من نار ، يُنَكَّس في النار حتى يقع في قعر جهنم ، وله ريح يتعوّذ أهل النار إلى ربهم من شدة نتن ريحه ، وفيها خالد )) إلى آخره .
فهذا من أحاديث الكذّابين الذين لا يستحيون من المجازفة في الكذب على رسول الله ، فهل يكون على واحد نصف عذاب أهل النار ؟ أو يُقدِّر نصف عذاب أهل النار ؟ وأين عذاب آل فرعون وآل المائدة والمنافقين وسائر الكفار ؟ وأين قتلة الأنبياء ، وقتلة السابقين الأوَّلين ؟.
وقاتل عثمان أعظم إثما من قاتل الحسين . فهذا الغلو الزائد يقابل بغلو الناصبة ، اللذين يزعمون أن الحسين كان خارجيا ،وأنه كان يجوز قتله ، لقول النبي : (( من أتاكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرِّق جماعتكم ، فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان )).رواه مسلم( ) .
وأهل السنّة والجماعة يردّون غلو هؤلاء وهؤلاء ، ويقولون : إن الحسين قُتل مظلوما شهيدا،وإن الذين قتلوه كانوا ظالمين معتدين .وأحاديث النبي التي يأمر فيها بقتال المفارق للجماعة لم تتناوله ؛فإنه لم يفرّق الجماعة ، ولم يُقتل إلا وهو طالب للرجوع إلى بلده ، أو إلى الثغر ، أو إلى يزيد ، داخلا في الجماعة ، معرضا عن تفريق الأمة . ولو كان طالب ذلك أقل الناس لوجب إجابته إلى ذلك ، فكيف لا تجب إجابة الحسين إلى ذلك ؟ ولو كان الطالب لهذه الأمور من هو دون الحسين لم يجز حبسه ولا إمساكه ، فضلا عن أسره وقتله .
وكذلك قوله : اشتد غضب الله على من أراق دم أهلي وآذاني في عترتي .
كلام لا ينقله عن النبي ولا ينسبه إليه إلا جاهل . فإن العاصم لدم الحسن والحسين وغيرهما من الإيمان والتقوى أعظم من مجرد القرابة ،ولو كان الرجل من أهل بيت النبي وأتى بما يبيح قتله أو قطعه ، كان ذلك جائزا بإجماع المسلمين .
كما ثبت عنه في الصحيح أنه قال : (( إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد . وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ))( ) .فقد أخبر أن أعز الناس عليه من أهله لو أتى بما يوجب الحد لأقامه عليه ، فلو زنى الهاشمي وهو محصن رُجم حتى يموت باتفاق علماء المسلمين ، ولو قتل نفساً عمدا عدوانا محضا لجاز قتله به ، وإن كان المقتول من الحبشة أو الروم أو الترك أو الديلم .
فإن النبي قال: (( المسلمون تتكافأ دماؤهم ))( ) فدماء الهاشميين وغير الهاشميين سواء إذا كانوا أحراراً مسلمين باتفاق الأمة ، فلا فرق بين إراقة دم الهاشمي وغير الهاشمي إذا كان بحق ، فكيف يخص النبي أهله بأن يشتد غضب الله على من أراق دماءهم .
فإن الله حرَّم قتل النفس إلا بحق ، فالمقتول بحق لِمَ يشتد غضب الله على من قتله ، سواء كان المقتول هاشميا أو غير هاشمي؟ .
وإن قتل بغير حق ، فمن يَقْتُل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما . فالعاصم للدماء والمبيح لها يشترك فيها بنو هاشم وغيرهم ، فلا يضيف مثل هذا الكلام إلى رسول الله إلا منافق يقدح في نبوته ، أو جاهل لا يعلم العدل الذي بُعث به .
وكذلك قوله : (( من آذاني في عترتي )) فإن إيذاء رسول الله حرام في عترته وأمته وسنته وغير ذلك .
(فصــــل)
قال الرافضي : (( فلينظر العاقل أي الفريقين أحق بالأمن : الذي نزَّه الله وملائكته وأنبياءه وأئمته ؛ ونزَّه الشرع عن المسائل الردّية ، ومن يبطل الصلاة بإهمال الصلاة على أئمتهم ،ويذكر أئمة غيرهم ، أم الذي فعل ضد ذلك واعتقد خلافه ؟ )).
والجواب أن يقال : ما ذكرتموه من التنزيه إنما هو تعطيل وتنقيض لله ولأنبيائه . بيان ذلك أن قول الجهمية نفاة الصفات يتضمن وصف الله تعالى بسلب صفات الكمال التي يشابه فيها الجمادات والمعدومات ، فإذا قالوا : إنه لا تقوم به حياة ولا علم ولا قدرة ، ولا كلام ولا مشيئة ،ولا حب ولا بغض ، ولا رضا ولا سخط ، ولا يُرى ولا يفعل بنفسه فعلاً ، ولا يقدر أن يتصرف بنفسه ، كانوا قد شبّهوه بالجمادات المنقوصات ، وسلبوه صفات الكمال ، فكان هذا تنقيصا وتعطيلا لا تنزيها ، وإنما التنزيه أن ينزَّه عن النقائص المنافية لصفات الكمال ، فينزَّه عن الموت والسِّنة والنوم ، والعجز والجهل والحاجة ، كما نزَّه نفسه في كتابه ، فيُجمع له بين إثبات صفات الكمال ، ونفي النقائص المنافية للكمال ، وينزّه عن مماثلة شيء من المخلوقات له في شيء من صفاته ، وينزّه عن النقائص مطلقا ، وينزّه في صفات الكمال أن يكون له فيها مثلٌ من الأمثال .
وأما الأنبياء فإنكم سلبتموهم ما أعطاهم الله من الكمال وعلو الدرجات، بحقيقة التوبة والاستغفار ، والانتقال من كمال إلى ما هو أكمل منه، وكذّبتم ما أخبر الله به من ذلك وحرَّفتم الكلم عن مواضعه ، وظننتم أن انتقال الآدمي من الجهل إلى العلم ، ومن الضلال إلى الهدى ، ومن الغي إلى الرشاد ،تنقّصا ، ولم تعلموا أن هذا من أعظم نعم الله وأعظم قدرته ، حيث ينقل العباد من النقص إلى الكمال ، وأنه قد يكون الذي يذوق الشر والخير ويعرفهما ، يكون حبه للخير وبغضه للشر أعظم ممن لا يعرف إلا الخير . كما قال عمر بن الخطاب : (( إنما تُنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية )) .
وأما تنزيه الأئمة فمن الفضائح التي يُستحيا من ذكرها ، لا سيما الإمام المعدوم الذي لا يُنتفع به لا في دين ولا دنيا .
وأما تنزيه الشرع عن المسائل الردّية ، فقد تقدم أن أهل السنّة لم يتفقوا على مسألة ردّية ، بخلاف الرافضة ؛ فإن لهم من المسائل الردّية ما لا يوجد لغيرهم .
وأما قوله : (( ومن يبطل الصلاة بإهمال الصلاة على أئمتهم ، ويذكر أئمة غيرهم )) .
فإما أن يكون المراد بذلك أن تجب الصلاة على الأئمة الاثنى عشر ، أو على واحد معيّن غير النبي منهم أو من غيرهم .
وإما أن يكون المراد وجوب الصلاة على آل النبي .فإن أراد الأول فهذا من أعظم ضلالهم وخروجهم عن شريعة محمد ؛ فإنا نحن وهم نعلم بالاضطرار أن النبي لم يأمر المسلمين أن يصلّوا على الاثنى عشر : لا في الصلاة ، ولا في غير الصلاة ، ولا كان أحد من المسلمين يفعل شيئا من ذلك على عهده ، ولا نقل هذا أحد عن النبي : لا بإسناد صحيح ولا ضعيف،ولا كان يجب على أحد في حياة رسول الله أن يتخذ أحداً من الاثنى عشر إماما ،فضلا عن أن تجب الصلاة عليه في الصلاة.
وكانت صلاة المسلمين صحيحة في عهده بالضرورة والإجماع . فمن أوجب الصلاة على هؤلاء في الصلاة ، وأبطل الصلاة بإهمال الصلاة عليهم ، فقد غيَّر دين النبي محمد وبدَّله ، كما بدَّلت اليهود والنصارى دين الأنبياء.
وإن قيل:المراد أن يصلى على آل محمد،وهم منهم .
قيل:آل محمد يدخل فيهم بنو هاشم وأزواجه،وكذلك بنو المطلب على أحد القولين.وأكثر هؤلاء تذمّهم الإمامية؛ فإنهم يذمون ولد العباس ، لاسيما خلفاؤهم ، وهم من آل محمد ، ويذمّون من يتولى أبا بكر وعمر . وجمهور بني هاشم يتولون أبا بكر وعمر ، ولا يتبرأ منهم صحيح النسب من بني هاشم إلا نفر قليل بالنسبة إلى كثرة بني هاشم . وأهل العلم والدين منهم يتولون أبا بكر وعمر رضى الله عنهما .
ومن العجب من هؤلاء الرافضة أنهم يدَّعون تعظيم آل محمد عليه أفضل الصلاة والسلام ، وهم سعوا في مجيء التتر الكفّار إلى بغداد دار الخلافة ، حتى قتلت الكفار من المسلمين ما لا يحصيه إلا الله تعالى من بني هاشم وغيرهم وقتلوا بجهات بغداد ألف ألف وثمانمئة ألف ونيفا وسبعين ألفا وقتلوا الخليفة العباسي ، وسبوا النساء الهاشميات وصبيان الهاشميين .
فهذا هو البغض لآل محمد بلا ريب . وكان ذلك من فعل الكفار بمعاونة الرافضة ، وهم الذي سعوا في سبي الهاشميات ونحوهم إلى يزيد وأمثاله ، فما يعيبون على غيرهم بعيب إلا وهو فيهم أعظم.
(فصـــــل)
قال الرافضي : (( السادس: أن الإمامية لما رأوا فضائل أمير المؤمنين وكمالاته لا تحصى قد رواها المخالف والموافق ، ورأوا الجمهور قد نقلوا عن غيره من الصحابة مطاعن كثيرة ، ولم ينقلوا في عليّ طعنا ألبتة ، اتّبعوا قوله وجعلوه إماماً لهم حيث نزّهه المخالف والموافق ، وتركوا غيره ، حيث روى فيه من يعتقد إمامته من المطاعن ما يطعن في إمامته .ونحن نذكر هنا شيئا يسيرا مما هو صحيح عندهم ونقلوه في المعتمد من قولهم وكتبهم ، ليكون حجة عليهم يوم القيامة .
فمن ذلك ما رواه أبو الحسن الأندلسي في (( الجمع بين الصحاح الستة )) موطأ مالك وصحيحي البخاري ومسلم وسنن أبي داود وصحيح الترمذي وصحيح النسائي عن أم سلمة زوج النبي أن قوله تعالى : إِنَّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيًرا ( ).أنزلت في بيتها وأنا جالسة عند الباب ، فقلت : يا رسول الله ألست من أهل البيت ؟ فقال (( إنك على خير إنك من أزواج النبي . قالت: وفي البيت رسول الله وعليّ وفاطمة والحسن والحسين فجللهم بكساء ، وقال : اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا )) .
والجواب أن يقال : إن الفضائل الثابتة في الأحاديث الصحيحة لأبي بكر وعمر أكثر وأعظم من الفضائل الثابتة لعليّ ، والأحاديث التي ذكرها هذا وذكر أنها في الصحيح عند الجمهور ، وأنهم نقلوها في المعتمد من قولهم وكتبهم ، وهو من أبْيَنَ الكذب على علماء الجمهور ؛ فإن هذه الأحادي التي ذكرها أكثرها كذب أو ضعيف باتفاق أهل المعرفة بالحديث ، والصحيح الذي فيها ليس فيه ما يدل على إمامة عليّ ولا فضيلته عَلَى أبي بكر وعمر ، بل وليست من خصائصه ، بل هي من فضائل شاركه فيها غيره ، بخلاف ما ثبت من فضائل أبي بكر وعمر ؛ فإن كثيرا منها خصائص لهما ، لا سيما فضائل أبي بكر ، فإن عامتها خصائص لم يشركه فيها غيره .
وأما ما ذكره من المطاعن ، فلا يمكن أن يوجّه على الخلفاء الثلاثة من مطعن إلا وُجه عَلَى عليّ ما هو مثله وأعظم منه .
فتبين أن ما ذكره في هذا الوجه من أعظم الباطل ، ونحن نبيّن ذلك تفصيلا .
وأما قوله :(( إنهم جعلوه إماما لهم حيث نزَّهه المخالف والموافق،وتركوا غيره حيث روى فيه من يعتقد إمامته من المطاعن ما يطعن في إمامته )).
فيقال : هذا كذب بيّن ؛ فإن عليًّا لم ينزّهه المخالفون ، بل القادحون في عليّ طوائف متعددة ، وهم أفضل من القادحين في أبي بكر وعمر وعثمان ، والقادحون فيه أفضل من الغلاة فيه ، فإن الخوارج متفقون على كفره ، وهم عند المسلمين كلهم خير من الغلاة الذين يعتقدون إلاهيته أو نبوته ، بل هم – والذين قاتلوه من الصحابة والتابعين –خير عند جماهير المسلمين من الرافضة الاثنى عشرية ،الذين اعتقدوه إماما معصوما .
وأبو بكر وعمر وعثمان ليس في الأمة من يقدح فيهم إلا الرافضة ، والخوارج المكفِّرون لعليّ يوالون أبا بكر وعمر ويترضُّون عنهما ، والمروانية الذين يَنْسبون عليًّا إلى الظلم ، ويقولون : إنه لم يكن خليفة يوالون أبا بكر وعمر مع أنهما ليسا من أقاربهم ، فكيف يُقال مع هذا : إن عليًّا نزَّهه المؤالف والمخالف بخلاف الخلفاء الثلاثة ؟
ومن المعلوم أن المنزِّهين لهؤلاء أعظم وأكثر وأفضل ، وأن القادحين في عليّ –حتى بالكفر والفسوق والعصيان – طوائف معروفة ، وهم أعلم من الرافضة وأَدْيَن ، والرافضة عاجزون معهم علما ويداً ، فلا يمكن الرافضة أن تقيم عليهم حجة تقطعهم بها ، ولا كانوا معهم في القتال منصورين عليهم .
والذين قدحوا في علي ّ وجعلوه كافرا وظالما ليس فيهم طائفة معروفة بالردة عن الإسلام ، بخلاف الذين يمدحونه ويقدحون في الثلاثة ، كالغالية الذين يدّعون إلاهيته من النصيرية وغيرهم ، وكالإسماعيلية الملاحدة الذين هم شر من النصيرية ، وكالغالية الذين يدّعون نبوَّته ؛ فإن هؤلاء كفار مرتدُّون ، كفرهم بالله ورسوله ظاهر لا يخفى على عالم بدين الإسلام ، فمن اعتقد في بشر الإلهية ، أو اعتقد بعد محمد نبيا ، أو أنه لم يكن نبيا بل كان عليّ هو النبي دونه وإنما غلط جبريل ؛ فهذه المقالات ونحوها مما يظهر كفر أهلها لمن يعرف الإسلام أدنى معرفة .
بخلاف من يكفِّر عليًّا ويلعنه من الخوارج ، وممن قاتله ولعنه من أصحاب معاوية وبني مروان وغيرهم ؛ فإن هؤلاء مقرّين بالإسلام وشرائعه : يقيمون الصلاة ،ويؤتون الزكاة ، ويصومون رمضان ، ويحجون البيت العتيق، ويحرّمون ما حرم الله ورسوله ، وليس فيهم كفر ظاهر ، بل شعائر الإسلام وشرائعه ظاهرة فيهم معظمة عندهم ، وهذا أمر يعرفه كل من عرف أحوال الإسلام،فكيف يدّعى مع هذا أن جميع المخالفين نزّهوه دون الثلاثة؟
(فصـــــل)
وأما حديث الكساء فهو صحيح رواه أحمد والترمذي من حديث أم سلمة،ورواه مسلم في صحيحه من حديث عائشة.قالت:خرج النبي ذات غداة وعليه مرط مرحّل من شعر أسود،فجاء الحسن بن علي فأدخله،ثم جاء الحسين فأدخله معه،ثم جاءت فاطمة فأدخلها،ثم جاء علّي فأدخله،ثم قال: إِنَّمَا يُرِيد ُاللهَ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيراً ( ).
وهذا الحديث قد شركه فيه فاطمة وحسن وحسين رضى الله عنهم،فليس هو من خصائصه.ومعلوم أن المرأة لا تصلح للإمامة ، فعُلم أن هذه الفضيلة لا تختص بالأئمة ، بل يشركهم فيها غيرهم . ثم إن مضمون هذا لحديث أن النبي دعا لهم بأن يذهب عنهم الرجس ويطهّرهم تطهيرا . وغاية ذلك أن يكون دعا لهم بأن يكونوا من المتّقين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم ، واجتناب الرجس واجب على المؤمنين ، والطهارة مأمور بها كل مؤمن .
قال الله تعالى:ماْ يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيد ُلِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمَ ( ).
وقال : خذْ مِنْ أَمْوَالِهِم صَدَقةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ( ).
وقال تعالى : إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينْ ( ) .
فغاية هذا أن يكون هذا دعاء لهم بفعل المأمور وترك المحظور .
والصدّيق قد أخبر الله عنه بأنه :الأَتْقَى . الذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى. وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى . إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى . وَلَسَوْفَ يَرْضَى ( ) .
وأيضا فإن السابقين الأوَّلين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضى الله عنهم ورضوا عنه : وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيم ( ) .لا بد أن يكونوا قد فعلوا المأمور وتركوا المحظور ، فإن هذا الرضوان وهذا الجزاء إنما يُنال بذلك . وحينئذ فيكون ذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم من الذنوب بعض صفاتهم . فما دعا به النبي لأهل الكساء هو بعض ما وصف الله به السابقين الأوّلين .والنبي دعا لغير أهل الكساء بأن يصلّي الله عليهم ، ودعا لأقوام كثيرين بالجنة والمغفرة وغير ذلك ،مما هو أعظم من الدعاء بذلك ، ولم يلزم أن يكون من دعا له بذلك أفضل من السابقين الأوّلين .
ولكن أهل الكساء لما كان قد أوجب عليهم اجتناب الرجس وفعل التطهير ، دعا لهم النبي بأن يعينهم على فعل ما أمرهم به لئلا يكونوا مستحقين للذم والعقاب ، ولينالوا المدح والثواب.
(فصــــل)
قال الرافضي : (( في قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُول فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ( ). قال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب : لم يعمل بهذه الآية غيري ، وبي خفف الله عن هذه الأمة أمر هذه الآية )) .
والجواب أن يقال : الأمر بالصدقة لم يكن واجبا على المسلمين حتى يكونوا عصاة بتركه ، وإنما أُمر به من أراد النجوى إذ ذاك إلا عليّ، فتصدّق لأجل المناجاة .
وهذا كأمره بالهَدْىِ لمن تمتع بالعمرة إلى الحج ، وأمره بالهدي لمن أُحصر .
(فصـــــل)
قال الرافضي : (( وعن محمد بن كعب القرظي قال : افتخر طلحة بن شيبة من بني عبد الدار وعباس بن عبد المطلب وعليٌّ بن أبي طالب . فقال طلحة بن شيبة : معي مفاتيح البيت ، ولو أشاء بتُّ فيه . وقال العباس : أنا صاحب السقاية والقائم عليها ، ولو أشاء بتَّ في المسجد . وقال عليّ : ما أدري ما تقولان ، لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس ، وأنا صاحب الجهاد . فأنزل الله تعالى : أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرَ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين ( ) .
والجواب أن يقال : هذا اللفظ لا يعرف في شيء من كتب الحديث المعتمدة ، بل دلالات الكذب عليه ظاهرة . منها : أن طلحة بن شيبة لا وجود له ، وإنما خادم الكعبة هو شيبة بن عثمان بن طلحة . وهذا مما يبين لك أن الحديث لم يصح . ثم فيه قول العباس : (( لو أشاء بتُّ في المسجد )) فأيّ كبير أمره في مبيته في المسجد حتى يتبجح به ؟.
ثم فيه قول عليّ : (( صليت ستة أشهر قبل الناس )) فهذا مما يُعلم بطلانه بالضرورة ، فإن بين إسلامه وإسلام زيد وأبي بكر وخديجة يوماً أو نحوه ، فكيف يصلّي قبل الناس بستة أشهر ؟!
وأيضا فلا يقول : أنا صاحب الجهاد ،وقد شاركه فيه عدد كثير جداً .
(فصـــــل)
قال الرافضي : (( ومنها ما رواه أحمد بن حنبل عن أنس بن مالك ، قال : قلنا لسلمان : سل النبي من وصيه ، فقال له سلمان: يا رسول الله من وصيك ؟ فقال : يا سلمان من كان وصّى موسى ؟ فقال : يوشع بن نون . قال : فإن وصيي ووارثي يقضى ديْني وينجز موعدي عليّ بن أبي طالب)) .
والجواب : أن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث، ليس هو في مسند الإمام أحمد بن حنبل . وأحمد قد صنَّف كتابا في(( فضائل الصحابة )) ذكر فيه فضل أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وجماعة من الصحابة ، وذكر فيه ما رُوي في ذلك من صحيح وضعيف للتعريف بذلك ، وليس كل ما رواه يكون صحيحا . ثم إن في هذا الكتاب زيادات من رواية القطيعي عن شيوخه . وهذه الزيادات التي زادها القطيعي غالبها كذب ، كما سيأتي ذكر بعضها إن شاء الله ، وشيوخ القطيعي يروون عن من في طبقة أحمد .وهؤلاء الرافضة جهَّال إذا رأوا فيه حديثا ظنوا أن القائل لذلك أحمد بن حنبل ، ويكونه القائل لذلك هو القطيعى ، وذاك الرجل من شيوخ القطيعى الذين يروون عن من في طبقة أحمد .و وكذلك في المسند زيادات زادها ابنه عبد الله ، لاسيما في مسند عليّ بن أبي طالب ، فإنه زاد زيادات كثيرة .
(فصــــل)
قال الرافضي : (( وعن يزيد بن أبي مريم عن علي ّ : قال : انطلقت أنا ورسول الله حتى أتينا الكعبة ، فقال لي رسول الله : اجلس ، فصعد على منكبى ، فذهبت لأنهض به ، فرأى مني ضعفا ، فنزل وجلس بي نبي الله وقال : اصعد على منكبى ، فصعدت على منكبه . قال : فنهض بي .قال : فإنه تخيل لي أني لو شئت لنلت أفق السماء ، حتى صعدت عَلَى البيت وعليه تمثال صفر أو نحاس ، فجعلت أزاوله عن يمينه وعن شماله وبين يديه ومن خلفه ، حتى استمكنت منه قال لي رسول الله : اقذف به فقذفت به فتكسر كما تنكسر القوارير ، ثم نزلت فانطلقت أنا ورسول الله نستبق حتى توارينا في البيوت خشية أن يلقانا أحد من الناس )) .
والجواب : أن هذا الحديث إن صح فليس فيه شيء من خصائص الأئمة ولا خصائص عليّ ؛ فإن النبي كان يصلّي وهو حامل أمامة بنت أبي العاص بن الربيع على منكبه ، إذا قام حملها ، وإذا سجد وضعها .وكان إذا سجد جاء الحسن فارتحله ، ويقول : (( إن ابني ارتحلني))( ) وكان يقبل زبيبة الحسن . فإذا كان يحمل الطفلة والطفل لم يكن في حمله لعلي ما يوجب أن يكون ذلك من خصائصه ، بل قد أشركه فيه غيره و إنما حمله لعجز عليّ عن حمله ، فهذا يدخل في مناقب رسول الله ، وفضيلة من يحمل النبي أعظم من فضيلة من يحمله النبي ، كما حمله يوم أحد من حمله من الصحابة ، مثل طلحة بن عبيد الله ، فإن هذا نفع النبي ، وذاك نفعه النبي ، ومعلوم أن نفعه بالنفس والمال أعظم من انتفاع الإنسان بنفس النبي وماله .
(فصـــــل)
قال الرافضي : (( وعن ابن أبي ليلى قال : قال رسول الله : الصدّيقون ثلاثة: حبيب النجارمؤمن آل ياسين ، وحزقيل مؤمن آل فرعون ،
وعليّ بن أبي طالب وهو أفضلهم )) .
والجــواب: أن هذا كذب على رسول الله ، فإنه قد ثبت عنه في الصحيح أنه وصف أبا بكر بأنه صدّيق . وفي الصحيح عن ابن مسعود عن النبي أنه قال : (( عليكم بالصدق ، فإن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة ، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صدِّيقا . وإياكم والكذب ؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار ، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرّى الكذب حتى يُكتب هند الله كذابا ))( ) .فهذا يبيّن أن الصدِّيقون كثيرون .
وأيضا فقد قال تعالى عن مريم ابنة عمران إنها صدِّيقة ، وهي امرأة. وقال النبي :(( كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا أربع))( ).فالصديقون من الرجال كثيرون .
فصــــل)
قال الرافضي : (( وعن رسول الله أنه قال لعلي: (( أنت مني وأنا منك )).
والجواب : أن هذا حديث صحيح أخرجاه في الصحيحين من حديث البراء بن عازب ، لمّا تنازع عليّ وجعفر وزيد في ابنة حمزة ، فقضى بها لخالتها ، وكانت تحت جعفر ، وقال لعليّ : (( أنت مني وأنا منك )) . وقال لجعفر : (( أشبهت خَلْقِي وخُلُقي )).وقال ليزيد : (( أنت أخونا ومولانا ))( ) .
لكن هذا اللفظ قد قاله النبي لطائفة من أصحابه ، كما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري أن النبي قال : (( إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قلت نفقة عيالهم في المدينة جمعوا ما كان معهم في ثوب واحد ، ثم قسموه بينهم بالسوية . هم مني وأنا منهم ))( ).
وكذلك قال عن جليبيب : (( هو مني وأنا منه )) فروى مسلم في صحيحه عن أبي برزة قال : كنا مع النبي في مغزى له. فأفاء الله عليه ، فقال لأصحابه : (( هل تفقدون من أحد ؟)). قالوا : نعم ، فلانا وفلانا . ثم قال : (( هل تفقدون من أحد ؟ )) قالوا: نعم ، فلانا وفلانا وفلانا . ثم قال : ((هل تفقدون من أحد ؟)) قالوا : لا .قال: ((لكني أفقد جُلَيْبِيبًا ، فاطلبوه)) فطلبوه في القتلى ، فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه فأتى النبي فوقف عليه فقال (( قتل سبعة ثم قتلوه . هذا مني وأنا منه ، هذا مني وأنا منه )) قال : فوضعه على ساعديه ، ليس له إلا ساعدا النبي . قال : فحفر له فوضع في قبره ، ولم يذكر غسلا ))( ).
فتبيّن أن قوله لعليّ : (( أنت مني وأنا منك )) ليس من خصائصه ، بل قال ذلك للأشعريين ، وقاله لجليبيب . وإذا لم يكن من خصائصه ، بل قد شاركه في ذلك غيره من دون الخلفاء الثلاثة في الفضيلة ، لم يكن دالاًّ على الأفضلية ولا على الإمامة .
(فصـــــل )
قال الرافضي : (( وعن عمرو بن ميمون قال: لعليّ بن أبي طالب عشر فضائل ليست لغيره . قال له النبي :((لأبعثن رجلا لا يخزيه الله أبدا، يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، فاستشرف إليها من استشرف . قال : أين عليّ بن أبي طالب ؟ . قالوا : هو أرمد في الرحى يطحن . قال : وما كان أحدهم يطحن . قال : فجاء وهو أرمد لا يكد أن يبصر .قال : فنفثت في عينيه ثم هز الراية ثلاثا وأعطاها إياه ، فجاء بصفية بنت حييّ . قال : ثم بعث أبا بكر بسورة التوبة ، فبعث عليًّا خلفه فأخذها منه وقال : لا يذهب بها إلا رجل هو مني وأنا منه )).
وقال لبني عمه : أيكم يواليني في الدنيا والآخرة ؟ قال : وعليّ معهم جالس فأبَوْا ، فقال عليّ : أنا أواليك في الدنيا والآخرة .قال : فتركه ،ثم أقبل على رجل رجل منهم ، فقال : أيكم يواليني في الدنيا والآخرة ؟ فأَبَوْا ، فقال عليّ : أنا أواليك في الدنيا والآخرة ، فقال : أنت وليي في الدنيا والآخرة .
قال : وكان عليّ أول من أسلم من الناس بعد خديجة . قال : وأخذ رسول الله ثوبه فوضعه على عليّ وفاطمة والحسن والحسين ، فقال: إِنَّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيًرا ( ).
قال : وشرى عليّ نفسه ولبس ثوب رسول الله ثم نام مكانه ، وكان المشركون يرمونه بالحجارة .
وخرج النبي بالناس في غزاة تبوك ، فقال له عليّ : أخرج معك ؟ قال : لا فبكى عليٌّ ، فقال له : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟ ألا أنك لست بنبي ، لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي .
وقال له رسول الله : أنت وليي في كل مؤمن بعدي .
قال : وسدّ أبواب المسجد إلا باب عليّ . قال : وكان يدخل المسجد جُنبا ، وهو طريقه ليس له طريق غيره .
وقال له : من كنت مولاه فعليّ مولاه .
وعن النبي مرفوعا أنه بعث أبا بكر في براءة إلى مكة ، فسار بها ثلاثا ثم قال لعليّ : ((الحقه فردّه وبلغها أنت ، ففعل . فلما قدم أبو بكر على النبي بكى وقال : يا رسول الله حدث فيّ شيء ؟ قال : لا ، ولكن أمرت أن لا يبلغها إلا أنا أو رجل مني )) .
والجواب : أن هذا ليس مسندا بل هو مرسل لو ثبت عن عمرو بن ميمون ، وفيه ألفاظ هي كذب على رسول الله ، كقوله : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، غير أنك لست بنبي ، لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي . فإن النبي ذهب غير مرة وخليفته على المدينة غير عليّ ، كما اعتمر عمرة الحديبية وعليّ معه وخليفته غيره ، وغزا بعد ذلك خيبر ومعه عليّ وخليفته بالمدينة غيره ، وغزا غزوة الفتح وعليّ معه وخليفته في المدينة غيره ، وغزا حُنَيْنا والطائف وعليّ معه وخليفته بالمدينة غيره ، وحج حجة الوداع وعليّ معه وخليفته بالمدينة غيره ، وغزا غزوة بدر ومعه عليّ وخليفته بالمدينة غيره .
وكل هذا معلوم بالأسانيد الصحيحة وباتفاق أهل العلم بالحديث ، وكان عليّ معه في غالب الغزوات وإن لم يكن فيها قتال .
فإن قيل: استخلافه يدل على انه لا يستخلف إلا الأفضل ، لزم أن يكون عليٌّ مفضولا في عامة الغزوات ، وفي عمرته وحجته، لا سيما وكل مرة كان يكون الاستخلاف على رجال مؤمنين ، وعام تبوك ما كان الاستخلاف إلا على النساء والصبيان ومن عَذَرَ الله ، وعلى الثلاثة الذين خُلِّفوا أو مُتَّهم بالنفاق ، وكانت المدينة آمنة لا يُخاف على أهلها ، ولا يحتاج المستخلِف إلى جهاد، كما يحتاج في أكثر الاستخلافات .
وكذلك قوله : (( وسد الأبواب كلها إلاَّ باب عليّ )) فإن هذا مما وضعته الشيعة على طريق المقابلة ، فإن الذي في الصحيح عن أبي سعيد عن النبي أنه قال في مرضه الذي مات فيه (( إن أمّن الناس علىّ في ماله وصحبته أبو بكر ، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربّي لاتخذت أبا بكر خليلاً ، ولكن أخوة الإسلام ومودّته ، لا يبقين في المسجد خَوْخة إلا سُدت إلا خوخة أبي بكر ))( ) . رواه ابن عباس أيضاً في الصحيحين . ومثل قوله : (( أنت وليي في كل مؤمن بعدي )) فإن هذا موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث ، والذي فيه من الصحيح ليس هو من خصائص الأئمة ، بل ولا من خصائص عليّ ، بل قد شاركه فيه غيره ، مثل كونه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، ومثل استخلافه وكونه منه بمنزلة هارون من موسى ، ومثل كون عليّ مولى مَن النبي مولاه فإن كل مؤمن موالٍ لله ورسوله ، ومثل كون ((براءة )) لا يبلِّغها إلا رجل من بني هاشم ؛ فإن هذا يشترك فيه جميع الهاشميين ، لما رُوى أن العادة كانت جارية بأن لا ينقض العهود ولا يحلّها إلا رجل من قبيلة المطاع .
(فصــــــل)
قال الرافضي : (( ومنها ما رواه أخطب خوارزم عن النبي أنه قال : يا عليّ لو أن عبداً عبد الله عز وجل مثل ما قام نوح في قومه ، وكان له مثل أُحُد ذهباً فأنفقه في سبيل الله ، ومدّ في عمره حتى حج ألف عام على قدميه ، ثم قُتل بين الصفا والمروة مظلوما ، ثم لم يوالك يا علي، لم يشم رائحة الجنة ولم يدخلها .
وقال رجل لسلمان : ما أشدّ حبك لعليّ . قال : سمعت رسول الله يقول : من أحب عليًّا فقد أحبني ، ومن أبغض عليًّا فقد أبغضني . وعن أنس قال : قال رسول الله : (( خلق الله من نور وجه عليّ سبعين ألف مَلَك يستغفرون له ولمحبيه إلى يوم القيامة)) .
وعن ابن عمر قال : قال رسول الله : من أحب عليًّا قبل الله عنه صلاته وصيامه وقيامه واستجاب دعاءه . ألا ومن أحب عليًّا أعطاه الله بكل عرق من بدنه مدينة في الجنة : ألا ومن أحب آل محمد أمن من الحساب والميزان والصراط . ألا ومن مات على حب آل محمد فأنا كفيله في الجنة مع الأنبياء ألا ومن أبغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه : ((آيس من رحمة الله )).
وعن عبد الله بن مسعود قال : سمعت رسول الله يقول : من زعم أنه آمن بي وبما جئت به وهو يبغض عليًّا فهو كاذب ليس بمؤمن .
وعن أبي برزة قال: قال رسول الله ونحن جلوس ذات يوم : والذي نفسي بيده لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأله الله تبارك وتعالى عن أربع: عن عمره فيمَ أفناه ، وعن جسده فيمَ أبلاه ، وعن ماله ممَّ اكتسبه وفيمَ أنفقه ، وعن حُبنا أهل البيت . فقال له عمر : فما آية حبكم من بعدكم ؟ فوضع يده على رأس عليّ بن أبي طالب وهو إلى جانبه فقال : إن حبي من بعدي حب هذا .
وعن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله وقد سئل : بأي لغة خاطبك ربك ليلة المعراج ؟ فقال : خاطبني بلغة عليّ ، فألهمني أن قلت : يا رب خاطبتني أم عليّ ؟ فقال : يا محمد أنا شيء لست كالأشياء ، لا أقاس بالناس ولا أوصف بالأشياء ، خلقتك من نوري وخلقت عليًّا من نورك فاطلعت عَلَى سرائر قلبك ، فلم أجد إلى قلبك أحبَّ من عليّ ، فخاطبتك بلسانه كيما يطمئن قلبك .
وعن ابن عباس قال : قال رسول الله : لو أن الرياض أقلام ، والبحر مداد ، والجنّ حسّاب ، والإنس كتّاب ما أحصوا فضائل عليّ بن أبي طالب .
وبالإسناد قال :قال رسول الله : إن الله تعالى جعل الأجر عَلَى فضائل عليّ لا يُحصى كثرة ، فمن ذكر فضيلة من فضائله مقرًّا بها غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر ، ومن كتب فضيلة من فضائله لم تزل الملائكة تستغفر له ما بقي لتلك الكتابة رسم ، ومن استمع فضيلة من فضائله غفر الله له الذنوب التي اكتسبها بالاستماع ، ومن نظر إلى كتاب من فضائله غفر الله له الذنوب التي اكتسبها بالنظر ، ثم قال : النظر إلى وجه أمير المؤمنين عليّ عبادة ، وذكره عبادة ، لا يقبل الله إيمان عبدٍ إلاّ بولايته والبراءة من أعدائه .
وعن حكيم بن حزام عن أبيه عن جده عن النبي أنه قال : لَمُبارزة عليّ لعمرو بن عبد ودّ يوم الخندق أفضل من عمل أمتي إلى يوم القيامة .
وعن سعد بن أبي وقاص قال : أمر معاوية بن أبي سُفيان سعداً بالسبّ فأبى ، فقال : ما منعك أن تسبّ عليّ بن أبي طالب ؟ قال : ثلاث قالهن رسول الله فلن أسبّه ، لأن يكون لي واحدة منهن أحب إليّ من حمر النعم : سمعت رسول الله يقول لعليّ وقد خلّفه في بعض مغازيه ، فقال له عليٌّ : تخلفني مع النساء والصبيان ؟ فقال له رسول الله : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟ إلا أنه لا نبي بعدي . وسمعته يقول يوم خيبر : لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله . قال : فتطاولنا فقال : ادعوا لي عليًّا ، فأتاه وبه رمد ، فبصق في عينيه و دفع الراية إليه ، ففتح الله عليه . وأنزلت هذه الآية : فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبنَاءَكُمْ ( ). دعا رسول الله عليًّا وفاطمة والحسن والحسين فقال : ((هؤلاء أهلي)).
والجواب : أن أخطب خوارزم هذا له مصنّف في هذا الباب فيه من الأحاديث المكذوبة ما لا يخفى كذبه على من له أدنى معرفة بالحديث ، فضلاً عن علماء الحديث ، وليس هو من علماء الحديث ولا ممن يُرجع إليه في هذا الشأن البتة . وهذه الأحاديث مما يعلم أهل المعرفة بالحديث أنها من المكذوبات . وهذا الرجل قد ذكر أنه يذكر ما هو صحيح عندهم ، ونقلوه في المعتمد من قولهم وكتبهم ، فكيف يذكر ما أجمعوا على أنه كذب موضوع ، ولم يُرو في شيء من كتب الحديث المعتمدة ، ولا صححه أحد من أئمة الحديث .
فالعشرة الأول كلها كذب إلى آخر حديث : قتله لعمرو بن عبد ودّ . وأما حديث سعد لما أمره معاوية بالسبّ فأبى ، فقال : ما منعك أن تسبّ عليّ بن أبي طالب ؟ فقال : ثلاث قالهن رسول الله فلن أسبّه ، لأن يكون لي واحدة منهن أحب إليَّ من حمر النعم.. الحديث . فهذا صحيح رواه مسلم في صحيحه( ) وفيه ثلاث فضائل لعليِّ لكن ليست من خصائص الأئمة ولا من خصائص عليّ ، فإن قوله وقد خلّفه في بعض مغازيه فقال له عليّ : يا رسول الله تخلّفني مع النساء والصبيان ؟ فقال له رسول الله : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟ ألا أنه لا نبي بعدي ، ليس من خصائصه ؛ فإنه استخلف عَلَى المدينة غير واحد ، ولم يكن هذا الاستخلاف أكمل من غيره . ولهذا قال له عليّ : أتخلفني مع النساء والصبيان ؟ لأن النبي كان في كل غزاة يترك بالمدينة رجالا من المهاجرين والأنصار ، إلا في غزوة تبوك فإنه أمر المسلمين جميعهم بالنفير ، فلم يتخلف بالمدينة إلا عاصٍ أو معذور غير النساء والصبيان . ولهذا كره عليّ الاستخلاف ، وقال : أتخلفني مع النساء والصبيان ؟ يقول تتركني مخلفا لا تستصحبني معك ؟ فبيّن له النبي أن الاستخلاف ليس نقصا ولا غضاضة ؛ فإن موسى استخلف هارون على قومه لأمانته عنده ، وكذلك أنت استخلفتك لأمانتك عندي ، لكن موسى استخلف نبيًّا وأنا لا نبي بعدي . وهذا تشبيه في أصل الاستخلاف ، فإن موسى استخلف هارون على جميع بني إسرائيل ، والنبي استخلف عليًّا على قليل من المسلمين ،وجمهورهم استصحبهم في الغزاة. وتشبيه بهارون ليس بأعظم من تشبيه أبي بكر وعمر : هذا بإبراهيم وعيسى ، وهذا بنوح وموسى ؛ فإن هؤلاء الأربعة أفضل من هارون ، وكل من أبي بكر وعمر شبه باثنين لا بواحد ؛ فكان هذا التشبيه أعظم من تشبيه عليّ ، مع أن استخلاف عليّ له فيه أشباه وأمثال من الصحابة .
(فصـــــل)
قال الرافضي : (( وعن عامر بن واثلة قال : كنت مع عليّ عليه السلام يوم الشورى يقول لهم : لأحتجنّ عليكم بما لا يستطيع عربيّكم ولا عجميّكم تغيير ذلك ، ثم قال : أنشدكم بالله أيها النفر جميعا ، أفيكم أحد وحّد الله تعالى قبلي ؟ قالوا اللهم لا . قال : فأنشدكم بالله هل فيكم أحد له أخ مثل أخي جعفر الطيَّار في الجنة مع الملائكة غيري ؟ قالوا : اللهم لا . قال : فأنشدكم بالله : هل فيكم أحد له عمّ مثل عمي حمزة أسد الله وأسد رسوله سيد الشهداء غيري ؟ قالوا : اللهم لا . قال : فأنشدكم بالله هل فيكم أحد له زوجة مثل زوجتي فاطمة بنت محمد سيدة نساء أهل الجنة غيري ؟ قالوا : اللهم لا . قال : فأنشدكم بالله هل فيكم أحد له سبطان مثل سبطيّ الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة غيري ؟ قالوا : اللهم لا . قال : فأنشدكم بالله هل فيكم أحد ناجى رسول الله عشر مرات قدّم بين يدي نجواه صدقة غيري ؟ قالوا: اللهم لا . قال : فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، ليبلغ الشاهد الغائب غيري ؟ قالوا : اللهم لا . قال : فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله : اللهم ائتني بأحب خلقك إليك وإليّ يأكل معي من هذا الطير ، فأتاه فأكل معه غيري؟ قالوا : اللهم لا . قال : فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله : لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه إذ رجع غيري منهزما غيري؟ قالوا : اللهم لا . قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله لبني وكيعة : لتنتهنّ أو لأبعثنّ إليكم رجلا نفسه كنفسي وطاعته كطاعتي ، ومعصيته كمعصيتي يفصلكم بالسيف غيري ؟ قالوا : اللهم لا . قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله كذب من زعم أنه يحبني ويبغض هذا غيري ؟ قالوا : اللهم لا . قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد سلَّم عليه في ساعة واحدة ثلاثة آلاف من الملائكة : جبرائيل وميكائيل وإسرافيل حيث جئت بالماء إلى رسول الله من القليب غيري ؟ قالوا:اللهم لا . قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد نودي به من السماء: لا سيف إلا ذو الفقار ، ولا فتى إلا عليّ غيري؟ قالوا : اللهم لا . قال : قال: فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له جبريل هذه هي المواساة ، فقال له رسول الله : إنه مني وأنا منه . فقال جبريل : وأنا منكما غيري؟ قالوا : اللهم لا . قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: تقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين ، على لسان النبي غيري ؟ قالوا: اللهم لا . قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله : إني قاتلت على تنزيل القرآن وأنت تقاتل على تأويله غيري ؟ قالوا : اللهم لا . قال : فأنشدكم بالله هل فيكم أحد رُدّت عليه الشمس حتى صلى العصر في وقتها غيري ؟ قالوا : اللهم لا . قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد أمره رسول الله أن يأخذ ((براءة )) من أبي بكر، فقال له أبو بكر : يا رسول الله أنزل فيّ شيء ؟ فقال له رسول الله : إنه لا يؤدّي عني إلا عليّ غيري ؟ قالوا : اللهم لا .
قال:فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق كافر غيري؟ قالوا : اللهم لا .
قال:فأنشدكم بالله هل تعلمون أنه أمر بسدّ أبوابكم وفتح بابي فقلتم في ذلك ، فقال رسول الله : ما أنا سددت أبوابكم ولا فتحت بابه ، بل الله سد أبوابكم وفتح بابه غيري؟ قالوا : اللهم لا .
قال:فأنشدكم بالله أتعلمون أنه ناجاني يوم الطائف دون الناس فأطال ذلك ، فقلتم : ناجاه دوننا ، فقال : ما أنا انتجيته بل الله انتجاه غيري ؟ قالوا : اللهم نعم .
قال:فأنشدكم بالله أتعلمون أن رسول الله قال : الحق مع عليّ وعليّ مع الحق يزول الحق مع عليّ كيفما زال ؟ قالوا : اللهم نعم .
قال:فأنشدكم بالله أتعلمون أن رسول الله قال : إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، لن تضلوا ما استمسكتم بهما ، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ؟ قالوا : اللهم نعم .
قال:فأنشدكم بالله هل فيكم أحد وقى رسول الله بنفسه من المشركين واضطجع في مضجعه غيري ؟ قالوا : اللهم لا .
قال:فأنشدكم بالله هل فيكم أحد بارز عمر بن عبد ودّ العامري حيث دعاكم إلى البراز غيري ؟ قالوا : اللهم لا.
قال:فأنشدكم بالله هل فيكم أحد نزل فيه آية التطهير حيث يقول إِنّمَا يُريدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيًرا( )غيري ؟ قالوا : اللهم لا.
قال:فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت سيد المؤمنين غيري؟ قالوا : اللهم لا .
قال:فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما سألت الله شيئا إلا وسألت لك مثله غيري ؟ قالوا : اللهم لا .
ومنها ما رواه أبو عمرو الزاهد عن ابن عباس قال : لعليّ أربع خصال ليست لأحد من الناس غيره ، هو أوّل عربي وعجمي صلّى مع النبي ، وهو الذي كان لواؤه معه في كل زحف ، وهو الذي صبر معه يوم حنين، وهو الذي غسَّله وأدخله قبره .
وعن النبي قال : مررت ليلة المعراج بقوم تُشرشر أشداقهم ، فقلت: يا جبريل من هؤلاء ؟ قال : قوم يقطعون الناس بالغيبة . قال : ومررت بقوم وقد ضوضؤا ، فقلت : يا جبريل من هؤلاء ؟ قال: هؤلاء الكفار. قال : ثم عدلنا عن الطريق فلما انتهينا إلى السماء الرابعة رأيت عليّا يصلّي ، فقلت : يا جبريل هذا عليّ قد سبقنا . قال : لا ليس هذا عليًّا . قلت : فمن هو ؟ قال : إن الملائكة المقرَّبين والملائكة الكروبيين لما سمعت فضائل عليّ وخاصته وسمعت قولك فيه : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ، اشتاقت إلى عليّ ، فخلق الله تعالى مَلَكا على صورة عليّ ، فإذا اشتاقت إلى عليّ جاءت إلى ذلك المكان ، فكأنها قد رأت عليًّا .
وعن ابن عباس قال : إن المصطفى قال : ذات يوم وهو نشيط : أنا الفتى ابن الفتى أخو الفتى . قال : فقوله : أنا الفتى ، يعني هو فتى العرب، وقوله ابن الفتى، يعني إبراهيم من قوله تعالى: سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ( )، وقوله أخو الفتى ، يعني عليًّا ، وهو معنى قول جبريل في يوم بدر وقد عرج إلى السماء وهو فرح وهو يقول : لا سيف إلا ذو الفقار ولافتى إلا عليّ.
وعن ابن عباس قال: رأيت أبا ذر وهو متعلق بأستار الكعبة وهو يقول من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا أبو ذر ، لو صمتم حتى تكونوا كالأوتار ، وصليتم حتى تكونوا كالحنايا ، ما نفعكم ذلك حتى تحبوا عليًّا )).
والجواب : أما قوله عن عامر بن واثلة وما ذكره يوم الشورى ، فهذا كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث ، ولم يقل علي ّ يوم الشورى شيئا من هذا ولا ما يشابهه ، بل قال له عبد الرحمن بن عوف : لئن أمرتك لتعدلنّ ؟ قال : نعم . قال : وإن بايعت عثمان لتسمعن وتطيعن ؟ قال : نعم . وكذلك قال لعثمان . ومكث عبد الرحمن ثلاثة أيام يشاور المسلمين .
ففي الصحيحين 0 وهذا لفظ البخاري( ) - عن عمرو بن ميمون في مقتل عمر بن الخطاب : (( فلما فُرغَ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط فقال عبد الرحمن : اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم . قال الزبير : قد جعلت أمري إلى عليّ . وقال طلحة : قد جعلت أمري إلى عثمان . وقال سعد : قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن . فقال عبد الرحمن : أيكم تبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه ؟ فأُسْكِتَ الشيخان . فقال عبد الرحمن : أتجعلونه إليَّ والله عَلَيَّ أن لا آلو عن أفضلكم . قالا : نعم ، فأخذ بيد أحدهما فقال : لك قرابة من رسول الله والقدم في الإسلام ما قد علمت ، فالله عليك لئن أمَّرتك لتعدلن ولئن أمَّرت عليك لتسمعن ولتطيعن . ثم خلا بالآخر فقال له مثل ذلك ، فلما أخذ الميثاق قال : ارفع يدك يا عثمان )) .
وفي هذا الحديث الذي ذكره الرافضي أنواع من الأكاذيب التي نزّه الله عليًّا عنها ، مثل احتجاجه بأخيه وعمه وزوجته ، وعليّ أفضل من هؤلاء ، وهو يعلم أن أكرم الخلق عند الله أتقاهم . ولو قال العباس : هل فيكم مثل أخي حمزة ومثل أولاد إخوتي محمد وعلي وجعفر ؟! لكانت هذه الحجة من جنس تلك ، بل احتجاج الإنسان ببني إخوته أعظم من احتجاجه بعمه . ولو قال عثمان : هل فيكم من تزوج بنتَى نبي لكان من جنس قول القائل : هل فيكم من زوجته كزوجتي ؟ وكانت فاطمة قد ماتت قبل الشورى كما ماتت زوجتا عثمان ، فإنها ماتت بعد موت النبي
بنحو ستة أشهر .
وكذلك قوله : (( هل فيكم مَنْ له ولد كولدي ؟)) .
وفيه أكاذيب متعددة ، مثل قوله (( ما سألت الله شيئاً إلا وسألت لك مثله )) . وكذلك قوله : (( لا يؤدّي عني إلا عليّ )) من الكذب .
وقال الخطابي في كتاب (( شعار الدين )) : ((وقوله : لا يؤدّي عني إلا رجل من أهل بيتي )) هو شيء جاء به أهل الكوفة عن زيد بن يُثَيْع ، وهو متهم في الرواية منسوب إلى الرفض . وعامة من بلّغ عنه غير أهل بيته ، فقد بعث رسول الله أسعد بن زرارة إلى المدينة يدعوا الناس إلى الإسلام ، ويعلّم الأنصار القرآن ، ويفقههم في الدين . وبعث العلاء بن الحضرمي إلى البحرين في مثل ذلك ، وبعث معاذاً وأبا موسى إلى اليمن ، وبعث عتاب بن أسيد إلى مكة . فأين قول من زعم أنه لا يبلِّغ عنه إلا رجل من أهل بيته ؟!
وأما حديث ابن عباس ففيه أكاذيب : منها قوله : كان لواؤه معه في كل زحف ، فإن هذا من الكذب المعلوم ، إذ لواء النبي كان يوم أُحد مع مصعب بن عمير باتفاق الناس ، ولواؤه يوم الفتح كان مع الزبير بن العوام ، وأمره رسول الله أن يركز رايته بالحجون ، فقال العباس للزبير بن العوام: أهاهنا أمرك رسول الله أن تركز الراية ؟ أخرجه البخاري في صحيحه( ) .
وكذلك قوله : (( وهو الذي صبر معه يوم حُنين )) .
وقد عُلم أنه لم يكن أقرب إليه من العباس بن عبد المطلب ، وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، والعباس آخذ بلجام بغلته ، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بركابه ، وقال له النبي : (( ناد أصحاب السمرة )) قال : فقلت بأعلى صوتي : أين أصحاب السمرة ؟ فوالله كأن عطفتهم عليّ حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها ، فقالوا : يالبيك يالبيك . والنبي يقول : (( أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب )) ونزل عن بغلته وأخذ كفًّا من حصى فرمى بها القوم وقال : (( انهزموا ورب الكعبة )) قال العباس : (( فوالله ما هو إلا أن رماهم فمازلت أرى حدّهم كليلا وأمرهم مدبرا ، حتى هزمهم الله)) أخرجاه في الصحيحين . وفي لفظ البخاري قال : (( وأبو سفيان آخذ بلجام بغلته )) وفيه : (( قال العباس: لزمت أنا وأبو سفيان رسول الله يوم حُنين فلم نفارقه))( ).
وأما غُسله وإدخاله قبره ، فاشترك فيه أهل بيته ، كالعباس وأولاده، ومولاه شقران ، وبعض الأنصار، لكن عليٌّ كان يباشر الغسل ، والعباس حاضر لجلالة العباس ، وأن عليًّا أولاهم بمباشرة ذلك .
وكذلك قوله : (( هو أوّل عربي وعجمي صلّى )) يناقض ما هو المعروف عن ابن عباس .
(فصــــل)
وأما حديث المعراج وقوله فيه : إن الملائكة المقرَّبين والملائكة الكروبيين لما سمعت فضائل عليّ وخاصته وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (( أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟ )) اشتاقت إلى علي فخلق الله لها مَلَكاً على صورة عليّ )) .
فالجواب : أن هذا من كذب الجُهّال الذين لا يحسنون أن يكذبوا ، فإن المعراج كان بمكة قبل الهجرة بإجماع الناس ، كما قال تعالى : ُسبحانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير ( ) . وكان الإسراء من المسجد الحرام .
وقال : وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى . مَا ضَلَّ صَاحِبُكُم وَمَا غَوَى.وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ( ) إلى قوله : َ أفتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى .عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى( )إلى قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُم الَّلات َوَالْعُزَّى ( ).وهذا كله نزل بمكة بإجماع الناس .
وقوله : (( أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟ )) قاله في غزوة تبوك ، وهي آخر الغزوات عام تسعٍ من الهجرة . فكيف يُقال : إن الملائكة ليلة المعراج سمعوا قوله : (( أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟))
(فصــــل)
وكذلك الحديث المذكور عن ابن عباس : أن المصطفى قال ذات يوم وهو نشيط :(( أنا الفتى ابن الفتى أخو الفتى )) قال : فقوله : أنا الفتى: يعني فتى العرب ، وقوله : ابن الفتى ، يعني إبراهيم الخليل صلوات الله عليه ، من قوله : َ سمعنا فتىً يَذْكُرُهُم يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيم ( )، وقوله أخو الفتى : يعني عليًّا ، وهو معنى قول جبريل في يوم بدر وقد عرج إلى السماء وهو فرح وهو يقول: لا سيف إلا ذو الفقار ، ولا فتى إلا عليّ)) .
فإن هذا الحديث من الأحاديث المكذوبة الموضوعة باتفاق أهل المعرفة بالحديث ، وكذبه معروف من غير جهة الإسناد من وجوه .
منها :أن لفظ ((الفتى )) في الكتاب والسنّة ولغة العرب ليس هو من أسماء المدح ، كما ليس هو من أسماء الذم ، ولكنه بمنزلة اسم الشاب والكهل والشيخ ونحو ذلك ، والذين قالوا عن إبراهيم : سمعنا فتى يذكرهم يُقال له إبراهيم ، هم الكفار ،ولم يقصدوا مدحه بذلك ، وإنما الفتى كالشاب الحَدَث .
ومنها : أن النبي أجلُّ من أن يفتخر بجده ، وابن عمه .
ومنها: أن النبي لم يؤاخ عليًّا ولا غيره ، وحديث المؤاخاة لعليّ ، ومؤاخاة أبي بكر لعمر من الأكاذيب . وإنما آخى بين المهاجرين والأنصار ، ولم يؤاخ بين مهاجريّ ومهاجريّ.
ومنها: أن هذه المناداة يوم بدر كذب .
ومنها : أن ذا الفقار لم يكن لعليّ ، وإنما كان سيفا من سيوف أبي جهل غنمه المسلمون منه يوم بدر ، فلم يكن يوم بدر ذو الفقار من سيوف المسلمين ، بل من سيوف الكفّار ، كما روى ذلك أهل السنن . فروى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة عن ابن عباس أن النبي تنفل سيفه ذا الفَقَار يوم بدر( ) .
ومنها : أن النبي كان بعد النبوة كهلا قد تعدّى سن الفتيان .
(فصـــــل)
وأما حديث أبي ذر الذي رواه الرافضي فهو موقوف عليه ليس مرفوعا ، فلا يحتج به ، مع أن نقله عن أبي ذر فيه نظر ، ومع هذا فحب عليّ واجب ،وليس ذلك من خصائصه ، بل علينا أن نحبه ، كما علينا أن نحب عثمان وعمر وأبا بكر ، وأن نحب الأنصار .
ففي الصحيح عن النبي أنه قال : ((آية الإيمان حب الأنصار ، وآية النفاق بغض الأنصار ))( ) وفي صحيح مسلم عن عليّ أنه قال : (( إنه لعهد النبي الأمّي إليّ أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق ))( ).
(فصـــــل)
قال الرافضي : (( ومنها ما نقله صاحب (( الفردوس )) في كتابه عن معاذ بن جبل عن النبي أنه قال : (( حب عليّ حسنة لا تضر معها سيئة وبغضه سيئة لا ينفع معها حسنة )).
والجواب : أن كتاب ((الفردوس )) فيه من الأحاديث الموضوعات ما شاء الله ، ومصنفه شيرويه بن شهردار الديلمي وإن كان من طلبة الحديث ورواته ، فإن هذه الأحاديث التي جمعها وحذف أسانيدها ، نقلها من غير اعتبار لصحيحها وضعيفها وموضوعها ؛ فلهذا كان فيه من الموضوعات أحاديث كثيرة جداً .
وهذا الحديث مما يشهد المسلم بأن النبي لا يقوله؛ فإن حب الله ورسوله أعظم من حب عليّ ، والسيئات تضر مع ذلك . وقد قال النبي يضرب عبد الله بن حمار في الخمر ، وقال: (( إنه يحب الله ورسوله )).وكل مؤمن فلابد أن يحب الله ورسوله ، والسيئات تضره . وقد أجمع المسلمون وعُلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الشرك يضر صاحبه ولا يغفره الله لصاحبه ، ولو أحب عليّ بن أبي طالب ؛ فإن أباه أبا طالب كان يحبه وقد ضره الشرك حتى دخل النار ، والغالية يقولون إنهم يحبونه وهم كفّار من أهل النار .
وبالجملة فهذا القول كفر ظاهر يُستتاب صاحبه ، ولا يجوز أن يقول هذا من يؤمن بالله واليوم الآخر.
وكذلك قوله : (( وبغضه سيئة لا ينفع معها حسنة )) فإن من أبغضه إن كان كافرا فكفره هو الذي أشقاه ، وإن كان مؤمنا نفعه إيمانه وإن أبغضه .
وكذلك الحديث الذي ذكره عن ابن مسعود أن النبي قال : (( حب آل محمد يوماً خير من عبادة سنة ، ومن مات عليه دخل الجنة . وقوله عن عليّ : أنا وهذا حجة الله على خلقه –هما حديثان موضوعان عند أهل العلم بالحديث . وعبادة سنة فيها الإيمان والصلوات الخمس كل يوم وصوم شهر رمضان ، وقد أجمع المسلمون على أن هذا لا يقوم مقامه حب آل محمد شهراً ، فضلا عن حبهم يوما .
وكذلك حجة الله على عباده قامت بالرسل فقط . كما قال تعالى: لئلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل ( ).ولم يقل : بعد الرسل والأئمة أو الأوصياء أو غير ذلك .
وكذلك قوله: (( لو اجتمع الناس عَلَى حب عليّ لم يخلق الله النار )) من أبين الكذب باتفاق أهل العلم والإيمان ، ولو اجتمعوا على حب عليّ لم ينفعهم ذلك حتى يؤمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويعملوا صالحا ، وإذا فعلوا ذلك دخلوا الجنة ، وإن لم يعرفوا عليًّا بالكلية ، ولم يخطر بقلوبهم لا حبه ولا بغضه .
(فصـــــل)
وكذلك الحديث الذي ذكره في العهد الذي عهده الله في علي، وأنه راية الهدى وإمام الأولياء ، وهو الكلمة التي ألزمها للمتقين … الخ .
فإن هذا كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث والعلم . ومجرد رواية صاحب (( الحلية )) ونحوه لا تفيد ولا تدل على الصحة ؛ فإن صاحب ((الحلية )) قد روى في فضائل أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ والأولياء وغيرهم أحاديث ضعيفة بل موضوعة باتفاق العلماء ، وهو وأمثاله من الحفاظ الثقات أهل الحديث ثقات فيما يروونه عن شيوخهم، لكن الآفة ممن هو فوقهم. وكذلك حديث عمَّار وابن عباس كلاهما من الموضوعات .
(فصــــــل)
قال الرافضي : (( وأما المطاعن في الجماعة فقد نقل الجمهور منها أشياء كثيرة : حتى صنَّف الكلبي كتابا ((في مثالب الصحابة )) ولم يذكر فيه منقصة واحدة لأهل البيت )) .
والجواب أن يقال : قبل الأجوبة المفصلة عن ما يُذكر من المطاعن أن ما يُنقل عن الصحابة من المثالب فهو نوعان : أحدهما : ما هو كذب : إما كذب كله ، وإما محرَّف قد دخله من الزيادة والنقصان ما يُخرجه إلى الذم والطعن . وأكثر المنقول من المطاعن الصريحة هو من هذا الباب يرويها الكذّابون المعروفون بالكذب ، مثل أبي مخنف لوط بن يحيى ،ومثل هشام بن محمد بن السائب الكلبي وأمثالهما من الكذّابين . ولهذا استشهد هذا الرافضي بما صنّفه هشام الكلبي في ذلك ، وهو من أكذب الناس ، وهو شيعي يروى عن أبيه وعن أبي مخنف ، وكلاهما متروك كذّاب .
النوع الثاني : ما هو صدق . وأكثر هذه الأمور لهم فيها معاذير تخرجها عن أن تكون ذنوبا ،وتجعلها من موارد الاجتهاد ، التي إن أصاب المجتهد فيها فله أجران وإن أخطأ فله أجر . وعامة المنقول الثابت عن الخلفاء الراشدين من هذا الباب ، وما قُدِّر من هذه الأمور ذنبا محققا فإن ذلك لا يقدح فيما عُلم من فضائلهم وسوابقهم وكونهم من أهل الجنة ، لأن الذنب المحقق يرتفع عقابه في الآخرة بأسباب متعددة .
منها : التوبة الماحية . وقد ثبت عن أئمة الإمامية أنهم تابوا من الذنوب المعروفة عنهم .
ومنها : الحسنات الماحية للذنوب ؛ فإن الحسنات يذهبن السيئات . وقد قال تعالى : إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرُ عَنْكُم سَيِّئَاتِكُم ( ).
ومنها : المصائب المكفِّرة .
ومنها : دعاء المؤمنين بعضهم لبعض ، وشفاعة نبيهم ، فما من سبب يسقط به الذم والعقاب عن أحد من الأمة إلا والصحابة أحق بذلك ، فهم أحق بكل مدح ،ونفي كل ذم ممن بعدهم من الأمة .
قال الرافضي : (( وقد ذكر غيره منها أشياء كثيرة ، ونحن نذكر منها شيئا يسيرا . منها ما رووه عن أبي بكر أنه قال على المنبر : إن النبي كان يعتصم بالوحي ، وإن لي شيطانا يعتريني ، فإن استقمت فأعينوني ، فإن زغت فقوموني ، وكيف يجوز إمامة من يستعين بالرعية على تقويمه ، مع أن الرعية تحتاج إليه ؟)).
والجواب أن يقال : هذا الحديث من أكبر فضائل الصديق وأدلها على أنه لم يكن يريد علوًا في الأرض ولا فسادا ، فلم يكن طالب رياسة ،ولا كان ظالما ، وإنه إنما كان يأمر الناس بطاعة الله ورسوله فقال لهم : إن استقمت على طاعة الله فأعينوني عليها ، وإن زغت عنها فقوّموني . كما قال أيضا : أيها الناس … أطيعوني ما أطعت الله ، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم .
والشيطان الذي يعتريه يعتري جميع بني آدم ؛ فإنه ما من أحد إلا وقد وكَّل الله به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن .
ومقصود الصديق بذلك: إني لست معصوماً كالرسول صلى الله عليه وسلم. وهذا حق. وقول القائل:كيف تجوز إمامة من يستعين على تقويمه بالرعية؟كلام جاهل بحقيقة الإمامة.فإن الإمام ليس هو ربًّا لرعيته حتى يستغني عنهم، ولا هو رسول الله إليهم حتى يكون هو الواسطة بينهم وبين الله. وإنما هو والرعية شركاء يتعاونون هم وهو على مصلحة الدين والدنيا؛ فلا بد له من إعانتهم ، ولا بد لهم من إعانته ، كأمير القافلة الذي يسير بهم في الطريق : إن سلك بهم الطريق اتّبعوه ، وإن أخطأ عن الطريق نبّهوه وأرشدوه، وإن خرج عليهم صائل يصول عليهم تعاون هو وهم على دفعه . لكن إذا كان أكملهم علما وقدرة ورحمة كان ذلك أصلح لأحوالهم .
(فصـــــل)
قال الرافضي : ((وقال : أقيلوني فلست بخيركم ، وعليٌّ فيكم . فإن كانت إمامته حقًّا كانت استقالته منها معصية ، وإن كانت باطلة لزم الطعن )).
والجواب : أن هذا كذب ، ليس فيه شيء من كتب الحديث ، ولا له إسناد معلوم .
فإنه لم يقل ((وعليٌّ فيكم ))بل الذي ثبت عنه في الصحيح أنه قال يوم السقيفة : بايعوا أحد هذين الرجلين : عمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح . فقال له عمر : بل أنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله . قال عمر : كنت والله لأن أُقدَّم فتُضرب عنقي ، لا يقرّبني ذلك إلى إثم، أحب إليّ من تأمُّري على قوم فيهم أبو بكر( ) .
ثم لو قال : (( وعليٌّ فيكم )) لاستخلفه مكان عمر ؛ فإن أمره كان مطاعا.
وأما قوله : (( إن كانت إمامته حقًّا كانت استقالته منها معصية )) .
فيقال : إن ثبت أنه قال ذلك ، فإن كونها حقا إما بمعنى كونها جائزة ، والجائز يجوز تركه . وإما بمعنى كونها واجبة إذا لم يولّوا غيره ولم يقيلوه . وأما إذا أقالوه وولُّوا غيره لم تكن واجبة عليه .
والإنسان قد يعقد بيعا أو إجارة ، و يكون العقد حقا ، ثم يطلب الإقالة، وهو لتواضعه و ثقل الحمل عليه قد يطلب الإقالة ، و إن لم يكن هناك من هو أحق بها منه . و تواضع الإنسان لا يسقط حقه .
(فصـــــل)
قال الرافضي : (( وقال عمر : كانت بيعة أبي بكر فَلْتة وقى الله المسلمين شرها ، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه . ولو كانت إمامته صحيحة لم يستحق فاعلها القتل ، فيلزم تطرق الطعن إلى عمر . وإن كانت باطلة ، لزم الطعن عليهما معا )) .
والجواب : أن لفظ الحديث سيأتي . قال فيه : (( فلا يغترن امرؤ أن يقول : (( إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة فتمت . ألا وإنّها قد كانت كذلك ، ولكن وقى اللهُ شرَّها ، وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر )) . ومعناه أن بيعة أبي بكر بودر إليها من غير تريث ولا انتظار ، لكونه كان متعيّنا لهذا الأمر . كما قال عمر : (( ليس فيكم من تُقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر )).
وكان ظهور فضيلة أبي بكر على من سواه ، وتقديم رسول الله له على سائر الصحابة أمراً ظاهرا معلوما . فكانت دلالة النصوص على تعيينه تُغنى عن مشاورة وانتظار وتريث ، بخلاف غيره ؛ فإنه لا تجوز مبايعته إلا بعد المشاورة والانتظار والتريث . فمن بايع غير أبي بكر عن غير انتظار وتشاور لم يكن له ذلك .
(فصــــــل)
قال الرافضي : (( وقال أبو بكر عند موته : ليتني كنت سألت رسول الله هل للأنصار في هذا الأمر حق ؛ وهذا يدل على أنه في شكٍ من إمامته ولم تقع صوابا )) .
والجواب : أن هذا كذب على أبي بكر ، وهو لم يذكر له إسنادا .ومعلوم أن من احتج في أي مسألة كانت بشيء من النقل ، فلابد أن يذكر إسنادا تقوم به الحجة . فكيف بمن يطعن في السابقين الأوّلين بمجرد حكاية لا إسناد لها ؟
ثم يقال : هذا يقدح فيما تدّعونه من النص على عليّ ؛ فإنه لو كان قد نصّ على عليّ لم يكن للأنصار فيه حق ، ولم يكن في ذلك شك .
(فصــــــل)
قال الرافضي : ((وقال عند احتضاره : ليت أمي لم تلدني ! يا ليتني كنت تبنة في لبنة . مع أنهم قد نقلوا عن النبي أنه قال : ما من محتضر يحتضر إلا ويرى مقعده من الجنة والنار )).
والجواب : أن تكلمه بهذا عند الموت غير معروف ، بل هو باطل بلا ريب . بل الثابت عنه أنه لما احتُضر ، وتمثلت عنده عائشة بقول الشاعر :
لعُمرك ما يغني الثراءُ عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بهاالصدرُ
فكشف عن وجهه ، وقال : ليس كذلك ، ولكن قولي : وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ( ).
ولكن نقل عنه أنه قال في صحته : ليت أمي لم تلدني ! ونحو هذا قاله خوفاً – إن صح النقل عنه . ومثل هذا الكلام منقول عن جماعة أنهم قالوه خوفاً وهيبة من أهوال يوم القيامة ، حتى قال بعضهم : لو خُيِّرت بين أن أحاسب وأدخل الجنة ، وبين أن أصير ترابا، لاخترت أن أصير ترابا . وروى الإمام أحمد عن أبي ذر أنه قال : والله لوددت أني شجرة تعضد .
(فصـــــل)
قال الرافضي : (( وقال أبو بكر : ليتني في ظلة بني ساعدة ضربت بيدي على يد أحد الرجلين ، فكان هو الأمير وكنت الوزير )). قال : ((وهو يدل على أنه لم يكن صالحاً يرتضى لنفسه الإمامة )).
والجواب : أن هذا إن كان قاله فهو أدلّ دليل على أن عليًّا لم يكن هو الإمام ؛ وذلك أن قائل هذا إنما يقوله خوفاً من الله أن يضيع حق الولاية ، وأنه إذا ولَّى غيَره ، وكان وزيرا له ، كان أبرأ لذمته . فلو كان عليّ هو الإمام ، لكانت توليته لأحد الرجلين إضاعة للإمامة أيضا ، وكان يكون وزيرا لظالم غيره ، وكان قد باع آخرته بدنيا غيره . وهذا لا يفعله من يخاف الله ، ويطلب براءة ذمته .
(فصـــــل)
قال الرافضي : (( وقال رسول الله في مرض موته ، مرة بعد أخرى ، مكرراً لذلك : أنفذوا جيش أسامة ، لعن الله المتخلف عن جيش أسامة. وكان الثلاثة معه ، ومنع عمر أبو بكر من ذلك )).
والجواب : أن هذا من الكذب المتفق على أنه كذب عند كل من يعرف السيرة ، ولم ينقل أحد من أهل العلم أن النبي أرسل أبو بكر أو عثمان في جيش أسامة . وإنما رُوى ذلك في عمر . وكيف يرسل أبا بكر في جيش أسامة ، وقد استخلفه يصلّي بالمسلمين مدة مرضه . وكان ابتداء مرضه من يوم الخميس إلى الخميس إلى يوم الاثنين ، اثنى عشر يوما ، ولم يقدّم في الصلاة بالمسلمين إلا أبا بكر بالنقل المتواتر ، ولم تكن الصلاة التي صلاَّها أبو بكر بالمسلمين في مرض النبي صلاةً ولا صلاتين ، ولا صلاة يوم ولا يومين ، حتى يُظَنّ ما تدعيه الرافضة من التلبيس ، وأن عائشة قدّمته بغير أمره ، بل كان يصلِّي بهم مدة مرضه ؛ فإن الناس متفقون على أن النبي لم يصل بهم في مرض موته ولم يصل بهم إلا أبو بكر ، وعلى أنه صلّى بهم عدة أيام . وأقل ما قيل : أنّه صلّى بهم سبع عشرة صلاة ؛ صلَّى بهم صلاة العشاء الآخرة ليلة الجمعة ، وخطب بهم يوم الجمعة . هذا ما تواترت به الأحاديث الصحيحة ، ولم يزل يصلّي بهم إلى فجر يوم الاثنين . صلَّى بهم صلاة الفجر ، وكشف النبي الستارة ، فرآهم يصلّون خلف أبي بكر ، فلما رأوه كادوا يفتنون في صلاتهم ، ثُم أرخى الستارة . وكان ذلك آخر عهدهم به، وتوفي يوم الاثنين حين اشتد الضحى قريبا من الزوال .
(فصـــــل)
قال الرافضي : (( وأيضا لمْ يُوَلِّ النبي أبا بكر البتة عملا في وقته، بل ولَّى عليه عمرو بن العاص تارة وأسامة أخرى . ولما أنفذه بسورة ((براءة )) ردّه بعد ثلاثة أيام بوحي من الله ، وكيف يرتضي العاقل إمامة من لا يرتضيه النبي بوحي من الله لأداء عشر آيات من ((براءة ))؟!)).
والجواب : أن هذا من أَبْيَن الكذب ؛ فإنه من المعلوم المتواتر عند أهل التفسير والمغازى والسير والحديث والفقه وغيرهم : أن النبي استعمل أبا بكر على الحج عام تسع ، وهو أول حج كان في الإسلام من مدينة رسول الله ، ولم يكن قبله حج في الإسلام ، إلا الحجة التي أقامها عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية من مكة ؛ فإن مكة فتحت سنة ثمان ، وأقام الحج ذلك العام عتاب بن أسيد ، الذي استعمله النبي على أهل مكة ثم أمّر أبا بكر سنة تسع للحج ، بعد رجوع النبي من غزوة تبوك ، وفيها أَمَر أبا بكر بالمناداة في الموسم : أن لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عُريان. ولم يؤمِّر النبي غير أبي بكر على مثل هذه الولاية ؛ فولاية أبي بكر كانت من خصائصه ، فإن النبي لم يؤمِّر على الحج أحدا كتأمير أبي بكر ، ولم يستخلف على الصلاة أحداً كاستخلاف أبي بكر ، وكان عليٌّ من رعيته في هذه الحجة ؛ فإنه لحقه فقال : أمير أو مأمور ؟ فقال عليّ: بل مأمور . وكان عليّ يصلّي خلف أبي بكر مع سائر المسلمين في هذه الولاية ، ويأتمر لأمره كما يأتمر له سائر من معه ، ونادى عليٌّ مع الناس في هذه الحجة بأمر أبي بكر .
وأما ولاية غير أبي بكر فكان يشاركه فيها غيره ، كولاية عليّ وغيره؛ فلم يكن لعليّ ولاية إلا ولغيره مثلها ، بخلاف ولاية أبي بكر ، فإنها من خصائصه ، ولم يولِّ النبي على أبي بكر لا أسامة بن زيد ولا عمرو بن العاص .
فأما تأمير أسامة عليه فمن الكذب المتفق على كذبه .
وأما قصة عمرو بن العاص ، فإن النبي كان أرسل عَمْراً في سرية ، وهي غزوة ذات السلاسل ، وكانت إلى بني عذرة ، وهم أخوال عمرو ، فأمَّر عمراً ليكون ذلك سبباً لإسلامهم ، للقرابة التي له منهم . ثم أردفه بأبي عبيدة ، ومعه أبو بكر وعمر و غيرهما من المهاجرين . و قال :
(( تطاوعا ولا تختلفا )) فلما لحق عَمْراً قال : أصلّي بأصحابي وتصلّي بأصحابك . قال : بل أنا أصلّي بكم ؛ فإنما أنت مدد لي . فقال له أبو عبيدة : إن رسول الله أمرني أن أطاوعك ، فإن عصيتني أطعتك. قال : فإني أعصيك . فأراد عمرو أن ينازعه في ذلك ، فأشار عليه أبو بكر أن لا يفعل . ورأى أبو بكر أن ذلك أصلح للأمر ، فكانوا يصلّون خلف عمرو، مع علم كل أحد أن أبا بكر وعمر وأبا عبيدة أفضل من عمرو .
وأما قول الرافضي : إنه لما أنفذه ببراءة ردّه بعد ثلاثة أيام ؛ فهذا من الكذب المعلوم ؟أنه كذب . فإن النبي لما أمَّر أبا بكر على الحج ، ذهب كما أمره ، وأقام الحج في ذلك العام ، عام تسع ، للناس ، ولم يرجع إلى المدينة حتى قضى الحج ، وأنفذ فيه ما أمره به النبي ، فإن المشركين كانوا يحجون البيت ، وكانوا يطوفون بالبيت عراة ، وكان بين النبي وبين المشركين عهود مطلقة ، فبعث أبا بكر وأمره أن ينادي : أن لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عُريان. فنادى بذلك من أمره أبو بكر بالنداء ذلك العام ، وكان عليّ بن أبي طالب من جملة من نادى بذلك في الموسم بأمر أبي بكر ، ولكن لما خرج أبو بكر أردفه النبي بعليّ بن أبي طالب لينبذ إلى المشركين العهود .
قالوا : وكان من عادة العرب أن لا يعقد العهود ولا يفسخها إلا المطاع ، أو رجل من أهل بيته . فَبَعَث عليًّا لأجل فسخ العهود التي كانت مع المشركين خاصة ، لم يبعثه لشيء آخر . ولهذا كان عليّ يصلّي خلف أبي بكر ، ويدفع بدفعه في الحج ، كسائر رعية أبي بكر الذين كانوا معه في الموسم.
(فصـــل)
قال الرافضي: ((وقطع يسار سارق ، ولم يعلم أن القطع لليد اليمنى)).
والجواب : أن قول القائل : إن أبا بكر يجهلُ هذا ، من أظهر الكذب . ولوقدِّر أن أبا بكركان يجيز ذلك ، لكان ذلك قولا سائغاً ؛ لأن القرآن ليس في ظاهره ما يعيِّن اليمين ، لكن تعيين اليمين في قراءة ابن مسعود : فاقطعوا أيمانهما وبذلك مضت السنة .ولكن أين النقل بذلك عن أبي بكر أنه قطع اليسرى ؟ وأين الإسناد الثابت بذلك ؟ وهذه كتب أهل العلم بالآثار موجودة ليس فيها ذلك ، ولا نقل أهل العلم بالاختلاف ذلك قولا ، مع تعظيمهم لأبي بكر .
(فصـــل)
قال الرافضي : (( وأحرق الفجاءة السلمى بالنار، وقد نهى النبي عن الإحراق بالنار )).
الجواب : أن الإحراق بالنار عن عليّ أشهر وأظهر منه عن أبي بكر. وأنه قد ثبت في الصحيح أن عليًّا أُتِيَ بقوم زنادقة من غلاة الشيعة ، فحرَّقهم بالنار ، فبلغ ذلك ابن عباس، فقال : لو كنت أنا لم أحرِّقهم بالنار ، لنهي النبي أن يُعَذَّب بعذاب الله ، ولضربت أعناقهم ، لقول النبي : (( من بدَّل دينه فاقتلوه )). فبلغ ذلك عليًّا فقال : ويح ابن أم الفضل ما أسقطه عَلَى الهنات( ) .
فعليّ حرق جماعة بالنار . فإن كان ما فعله أبو بكر منكراً ، ففعل عليّ أنكر منه ، وإن كان فعل عليّ مما لا يُنكر مثله على الأئمة ، فأبو بكر أوْلى أن لا يُنكر عليه .
(فصـــل)
قال الرافضي : (( وَخَفِيَ عليه أكثر أحكام الشريعة ، فلم يعرف حكم الكلالة ، وقال : أقول فيها برأيي ، فأن يك صوابا فمن الله ، وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان . وقضى بالجد بسبعين قضية . وهو يدل على قصوره في العلم )).
والجواب : أن هذا من أعظم البهتان . كيف يخفى عليه أكثر أحكام الشريعة ، ولم يكن بحضرة النبي من يقضى ويُفتى إلا هو ؟! ولم يكن النبي أكثر مشاورة لأحدٍ من الصحابة منه له ولعمر . ولم يكن أحدٌ أعظم اختصاصاً بالنبي منه ثم عمر .
وقد ذكر غير واحد ، مثل منصور بن عبد الجبّار السمعاني وغيره ، إجماع أهل العلم على أن الصدّيق أعلم الأمة . وهذا بيِّنٌ ، فإن الأمة لم تختلف في ولايته في مسألة إلا فصلَّها هو بعلم يبيِّنه لهم ، وحجة يذكرها لهم من الكتاب والسنة . كما بيَّن لهم موت النبي ، وتثبيتهم على الإيمان ، وقراءته عليهم الآية ، ثم بيَّن لهم موضع دفنه ، وبيَّن لهم قتال مانعي الزكاة لما استراب فيه عمر ، وبيَّن لهم أن الخلافة في قريش في سقيفة بني ساعدة ، لمّا ظن من ظن أنها تكون في غير قريش .
وقد استعمله النبي على أول حجة حجت من مدينة النبي . وعِلْمُ المناسك أدقّ ما في العبادات ، لولا سعة علمه بها لم يستعمله . وكذلك الصلاة استخلفه فيها ، ولولا علمه بها لم يستخلفه . ولم يستخلف غيره لا في حج ولا في صلاة .
وكتاب الصدقة التي فرضها رسول الله أخذه أنس من أبي بكر . وهو أصح ما رُوى فيها ، وعليه اعتمد الفقهاء .
وفي الجملة لا يُعرف لأبي بكر مسألة من الشريعة غلط فيها ، وقد عُرف لغيره مسائل كثيرة ، كما بسط في موضعه .
وأما قول الرافضي : ((لم يعرف حكم الكلالة حتى قال فيها برأيه )).
فالجواب : أن هذا من أعظم علمه . فإن هذا الرأي الذي رآه في الكلالة قد اتفق عليه جماهير العلماء بعده ؛ فإنهم أخذوا في الكلالة بقول أبي بكر ، وهو من لا ولد له ولا والد ، والقول بالرأي هو معروف عن سائر الصحابة ، كأبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وابن مسعود وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل ، لكن الرأي الموافق للحق هو الذي يكون لصاحبه أجران ، كرأي الصدِّيق ، فإن هذا خير من الرأي الذي غاية صاحبه أن يكون له أجر واحد .
وقد قال قيس بن عُبَاد لعليّ : أرأيت مسيرك هذا : ألعهد عهده إليك رسول الله أم رأى رأيته ؟ فقال : بل رأى رأيته . رواه أبو داود وغيره( ).
فإن كان مثل هذا الرأي الذي حصل به من سفك الدماء ما حصل ، لا يمنع صاحبه أن يكون إماماً ، فكيف بذلك الرأي الذي اتفق جماهير العلماء على حسنه .
وأما ما ذكره من قضائه في الجد بسبعين قضية ، فهذا كذب . وليس هو قول أبي بكر ، ولا نُقل هذا عن أبي بكر بل نقل هذا عن أبى بكر يدل على غاية جهل هؤلاء الروافض وكذبهم .
(فصـــل)
قال الرافضي : فأي نسبة له بمن قال : (( سلوني قبل أن تفقدوني ، سلوني عن طرق السماء فإني أعرف بها من طرق الأرض )).
قال أبو البحتري : رأيت عليًّا صعد المنبر بالكوفة ، وعليه مدرعة كانت لرسول الله متقلداً لسيف رسول الله متعمما بعمامة رسول الله . وفي أصبعه خاتم رسول الله فقعد على المنبر ، وكشف عن بطنه ، فقال : سلوني من قبل أن تفقدوني ، فإنما بين الجوانح منى علم جم ، هذا سفط العلم ، هذا لعاب رسول الله ، هذا ما زقّني رسول الله زقًّا من غير وحي إليّ ، فوالله لو ثُنيت لي وسادة فجلست عليها لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم ، وأهل الإنجيل بإنجيلهم ، حتى يُنطق الله التوراة والإنجيل فتقول : صدق عليّ ، قد أفتاكم بما أنزل الله فيَّ ، وأنتم تتلون الكتاب، أفلا تعقلون )).
والجواب : أما قول عليّ : (( سلوني )) فإنما كان يخاطب بهذا أهل الكوفة ليعلّمهم العلم والدين ؛ فإن غالبهم كانوا جُهَّالاً لم يدركوا النبي . وأما أبو بكر فكان الذين حول منبره هم أكابر أصحاب النبي ، الذين تعلَّموا من رسول الله العلم والدين ، فكانت رعية أبي بكر أعلم الأمة وأَدْيَنها . وأما الذين كان عليّ يخاطبهم فهم من جملة عوام الناس التابعين ، وكان كثير منهم من شرار التابعين . ولهذا كان علي ّ يذمّهم ويدعو عليهم ، وكان التابعون بمكة والمدينة والشام والبصرة خيراً منهم .
وقد جمع الناس الأقضية والفتاوى المنقولة عن أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ ، فوجدوا أَصْوَبَها وأدلّها على علم صاحبها أمور أبي بكر ثم عمر . ولهذا كان ما يُوجد من الأمور التي وُجد نصٌ يخالفها عن عمر أقل مما وُجد عن عليّ ، وأما أبو بكر فلا يكاد يوجد نصّ يخالفه ، وكان هو الذي يفصل الأمور المشتبهة عليهم، ولم يكن يُعرف منهم اختلاف على عهده.وعامة ما تنازعوا فيه من الأحكام كان بعد أبي بكر .
والحديث المذكور عن عليّ كذب ظاهر لا تجوز نسبة مثله إلى عليّ ؛ فإن عليًّا أعلم بالله وبدين الله من أن يحكم بالتوراة والإنجيل ، إذ كان المسلمون متفقين على أنه لا يجوز لمسلم أن يحكم بين أحد إلا بما أنزل الله في القرآن . وإذا تحاكم اليهود والنصارى إلى المسلمين لم يجز لهم أن يحكموا بينهم إلا بما أنزل الله في القرآن .
وإذا كان من المعلوم بالكتاب والسنة والإجماع ، أن الحاكم بين اليهود والنصارى لا يجوز أن يحكم بينهم إلا بما أنزل الله على محمد ، سواء وافق ما بأيديهم من التوراة والإنجيل أو لم يوافقه ، كان من نسب عليًّا إلى أنه يحكم بالتوراة والإنجيل بين اليهود والنصارى ، أو يفتيهم بذلك ، ويمدحه بذلك: إما أن يكون من أجهل الناس بالدين ، وبما يُمدح به صاحبه ، وإما أن يكون زنديقا ملحداً أراد القدح في عليّ بمثل هذا الكلام الذي يستحق صاحبه الذم والعقاب ، دون المدح والثواب .
( فصـــل)
قال الرافضي : (( وروى البيهقي بإسناده عن رسول الله أنه قال : من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه ، وإلى نوح في تقواه، وإلى إبراهيم في حلمه ، وإلى موسى في هيبته ، وإلى عيسى في عبادته ، فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب ، فأثبت له ما تفرَّق فيهم )).
والجواب أن يقال أولا : أين إسناد هذا الحديث ؟ والبيهقي يروي في الفضائل أحاديث كثيرة ضعيفة ، بل موضوعة ، كما جرت عادة أمثاله من أهل العلم .
ويقال ثانيا : هذا الحديث كذب موضوع على رسول الله بلا ريب عند أهل العلم بالحديث ، ولهذا لا يذكره أهل العلم بالحديث ، وإن كانوا حراصا على جمع فضائل عليّ ، كالنسائي ؛ فإنه قصد أن يجمع فضائل عليّ في كتاب سماه (( الخصائص )) ، والترمذي قد ذكر أحاديث متعددة في فضائله ، وفيها ما هو ضعيف بل موضوع ، ومع هذا لم يذكروا هذا ونحوه .
(فصـــل)
قال الرافضي : (( قال أبو عمر الزاهد : قال أبو العباس : لا نعلم أحداً قال بعد نبيه : ((سلوني )) من شيثٍ إلى محمدٍ إلا عليّ ، فسأله الأكابر : أبو بكر وعمر وأشباههما ، حتى انقطع السؤال . ثم قال بعد هذا : يا كُمَيْل بن زياد ، إن ههنا لعلما جما لو أصبت له حملة )).
والجواب : أن هذا النقل إن صح عن ثعلب ؛ فثعلب لم يذكر له إسنادا حتى يُحتج به . وليس ثعلب من أئمة الحديث الذين يعرفون صحيحه من سقيمه ، حتى يُقال : قد صح عنده . كما إذا قال ذلك أحمد أو يحيى بن معين أو البخاري ونحوهم . بل من هو أعلم من ثعلب من الفقهاء يذكرون أحاديث كثيرة لا أصل لها ، فكيف ثعلب ؟! وهو قد سمع هذا من بعض الناس الذين لا يذكرون ما يقولون عن أحد .
وعلي ّ لم يكن يقول هذا بالمدينة ، لا في خلافة أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ، وإنما كان يقول هذا في خلافته في الكوفة ، ليعلم أولئك الذين لم يكونوا يعلمون ما ينبغي لهم علمه . وكان هذا لتقصيرهم في طلب العلم ، وكان علي ّ يأمرهم بطلب العلم والسؤال .
وحديث كُمَيْل بن زياد يدل على هذا ؛ فإن كميلا من التابعين لم يصحبه إلا بالكوفة ، فدل عَلَى أنه كان يرى تقصيراً من أولئك عن كونهم حملة للعلم ، ولم يكن يقول هذا في المهاجرين والأنصار ، بل كان عظيم الثناء عليهم .
وأما أبو بكر فلم يسأل عليًّا قط عن شيء . وأما عمر فكان يشاور الصحابة : عثمان وعليًّا وعبد الرحمن وابن مسعود وزيد بن ثابت وغيرهم . فكان عليّ من أهل الشورى .
( فصـــل)
قال الرافضي : (( وأهمل حدود الله فلم يقتص من خالد بن الوليد ولا حدَّه حيث قتل مالك بن نويرة ، وكان مسلما ، وتزوج امرأته في ليلة قتله وضاجعها . وأشار عليه عمر بقتله فلم يفعل )).
والجواب أن يقال أولاً: إن كان ترك قتل قاتل المعصوم مما يُنكر على الأئمة ، كان هذا من أعظم حجة شيعة عثمان عَلَى عليّ ؛ فإن عثمان خير من ملء الأرض من مثل مالك بن نويرة ، وهو خليفة المسلمين ، وقد قُتل مظلوماً شهيداً بلا تأويل مسوِّغ لقتله . وعليّ لم يقتل قَتَلَته ، وكان هذا من أعظم ما امتنعت به شيعة عثمان عن مبايعة عليّ ، فإنْ كان عليّ له عذر شرعي في ترك قتل قتلة عثمان ، فعذر أبي بكر في ترك قتل قاتل مالك بن نويرة أقوى ، وإن لم يكن لأبي بكر عذر في ذلك فعليّ أَوْلى أن لا يكون له عذر في ترك قتل قتلة عثمان .
وأما ما تفعله الرافضة من الإنكار على أبي بكر في هذه القضية الصغيرة ، وترك إنكار ما هو أعظم منها عَلَى عليّ ، فهذا من فرط جهلهم وتناقضهم .
وكذلك إنكارهم عَلَى عثمان كونه لم يقتل عُبيد الله بن عمر بالهرمزان، هو من هذا الباب .
وإذا قال القائل : عليّ كان معذورا في ترك قتل قتلة عثمان ، لأن شروط الاستيفاء لم توجد : إما لعدم العلم بأعيان القَتَلة ، وإما لعجزه عن القوم لكونهم ذوى شوكة ، ونحو ذلك .
قيل : فشروط الاستيفاء لم توجد في قتل قاتل مالك بن نويرة ، وقتل قاتل الهرمزان ، لوجود الشبهة في ذلك .والحدود تُدرأ بالشّبهات .
وإذا قالوا : عمر أشار عَلَى أبي بكر بقتل خالد بن الوليد ، وعليّ أشار عَلَى عثمان بقتل عبيد الله بن عمر .
قيل : وطلحة والزبير وغيرهما أشاروا عَلَى عليّ بقتل قتلة عثمان ، مع أن الذين أشاروا عَلَى أبي بكر بالقَوَد ، أقام عليهم حجّة سلّموا لها : إما لظهور الحق معه ، وإما لكون ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد.
وعليّ لما يوافق الذين أشاروا عليه بالقود ، جرى بينه وبينهم من الحروب ما قد عُلم . وقتل قتلة عثمان أهون مما جرى بالجمل وصفِّين فإذا كان في هذا اجتهاد سائغ ، ففي ذلك أوْلى .
وإن قالوا : عثمان كان مباح الدم .
قيل لهم : فلا يشك أحد في أن إباحة دم مالك بن نُويرة أظهر من إباحة دم عثمان ، بل مالك بن نويرة لا يُعرف أنه كان معصوم الدم ، ولم يثبت ذلك عندنا . وأما عثمان فقد ثبت بالتواتر ونصوص الكتاب والسنة أنه كان معصوم الدم . وبين عثمان ومالك بن نويرة من الفرق ما لا يحصى عدده إلا الله تعالى .
ومن قال : إن عثمان كان مباح الدم ، لم يمكنه أن يجعل عليًّا معصوم الدم ، ولا الحسين ؛ فإن عصمة دم عثمان أظهر من عصمة دم عليّ والحسين. وعثمان أبعد عن موجبات القتل من علي والحسين . وشُبهة قَتَلة عثمان أضعف بكثير من شبهة قَتَلَة عليّ والحسين ؛ فإن عثمان لم يقتل مسلما، ولا قاتل أحداً على ولايته ولم يطلب قتال أحد على ولايته أصلا؛ فإن وجب أن يُقال : من قتل خلقا من المسلمين على ولايته إنه معصوم الدم ، وإنه مجتهد فيما فعله ، فَلأَن يُقال : عثمان معصوم الدم ، وإنه مجتهد فيما فعله من الأموال والولايات بطريق الأوْلى والأحرى .
ثم يُقال : غاية ما يُقال في قصة مالك بن نويرة : إنه كان معصوم الدم وإن خالدا قتله بتأويل ، وهذا لا يبيح قتل خالد ، كما أن أسامة بن زيد لما قتل الرجل الذي قال: لا إله إلا الله . وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (( يا أسامة أقتلته بعد أن قال : لا إله إلا الله ؟ يا أسامة أقتلته بعد أن قال : لا إله إلا الله ؟يا أسامة أقتلته بعد أن قال : لا إله إلا الله ؟))( ) فأنكر عليه قتله ، ولم يوجب عليه قَوَداً ولا دِية ولا كفَّارة .
وأما ما ذكره من تزوجه بامرأته ليلة قتله , فهذا مما لم يعرف ثبوته . ولو ثبت لكان هناك تأويل يمنع الرجم . والفقهاء مختلفون في عدة الوفاة : هل تجب للكافر ؟ على قولين . وكذلك تنازعوا هل يجب على الذميّة عدة الوفاة ؟ على قولين مشهورين للمسلمين . بخلاف عدة الطلاق , فإن تلك سببها الوطء, فلا بد من براءة الرحم . وأما عدة الوفاة فتجب بمجرد العقد , فإذا مات قبل الدخول بها فهل تعتد من الكافر أم لا ؟ فيه نزاع .و كذلك إن دخل بها , وقد حاضت بعد الدخول حيضة .
هذا إذا كان الكافر أصليا . وأما المرتد إذا قتل , أو مات على ردته . ففي مذهب الشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد ليس عليها عدة وفاة بل عدة فرقة بائنة , لأن النكاح بطل بردة الزوج . وهذه الفرقة ليست طلاقاً عند الشافعي وأحمد , وهي طلاق عند مالك وأبي حنيفة , ولهذا لم يوجبوا عليها عدة وفاة , بل عدة فرقة بائنة , فإن كان لم يدخل بها فلا عدة عليها, كما ليس عليها عدة من طلاق .
ومعلوم أن خالداً قتل مالك بن نويرة لأنه رآه مرتدا , فإذا كان لم يدخل بإمرأته فلا عدة عليها عند عامة العلماء , وإن كان قد دخل بها فإنه يجب عليه استبراء بحيضة لا بعدة كاملة في أحد قوليهم , وفي الآخر بثلاث حيض . وإن كان كافراً أصلياً فليس على امرأته عدة وفاة في أحد قوليهم . وإذا كان الواجب استبراء بحيضة فقد تكون حاضت . ومن الفقهاء من يجعل بعض الحيضة استبراء , فإذا كانت في آخر الحيض جعل ذلك استبراءً لدلالته على براءة الرحم.
وبالجملة فنحن لم نعلم أن القضية وقعت على وجه لا يسوغ فيها الاجتهاد والطعن بمثل ذلك من قول من يتكلم بلا علم , وهذا مما حرّمه الله ورسوله.
(فصـــل)
قال الرافضي : (( وخالف أمر النبي في توريث بنت النبي ومنعها فدكاً , وتسمّى بخليفة رسول الله من غير أن يستخلفه)) .
الجــواب: اما الميراث فجميع المسلمين مع أبي بكر في ذلك , ما خلا بعض الشيعة , وقد تقدم الكلام في ذلك , وبيّنا أن هذا من العلم الثابت عن النبي , وأن قول الرافضة باطل قطعاً .
وكذلك ما ذكر من فدك , والخلفاء بعد أبي بكر على هذا القول . وأبو بكر وعمر لم يتعلقا من فدك ولا غيرها من العقار بشيء ولا أعطيا أهلهما من ذلك شيئاً . وقد أعطيا بني هاشم أضعاف اضعاف ذلك .
ثم لو احتج محتج بان علياً كان يمنع المال ابن عباس وغيره من بني هاشم , حتى اخذ ابن عباس بعض مال البصرة وذهب به . لم يكن الجواب عن علي إلا بأنه إمام عادل .
وهذا الجواب هو في حق أبي بكر بطريق الأولى والأحرى . وأبو بكر أعظم محبة لفاطمة ومرعاة لها من علي لابن عباس . وابن عباس بعلي أشبه من فاطمة بأبي بكر , فإن فضل أبي بكر على فاطمة أعظم من فضل عليّ على ابن عباس .
(فصـــل)
وأما تسميته بخليفة رسول الله ؛ فإن المسلمين سمّوه بذلك . فإن كان الخليفة هو المستخلَف ، كما ادّعاه هذا ، كان رسول الله قد استخلفه ، كما يقول ذلك من يقوله من أهل السنّة . وإن كان الخليفة هو الذي خَلَفَ غيرَه – وإن كان لم يستخلفه ذلك الغير كما يقوله الجمهور – لم يحتج في هذا الاسم إلى الاستخلاف .
والاستعمال الموجود في الكتاب والسنة يدل على أن هذا الاسم يتناول كل من خَلَفَ غيره : سواء استخلفه أو لم يستخلفه ، كقوله تعالى: ثمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ في الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلونَ ( ).
(فصـــل)
قال الرافضي : (( ومنها ما رووه عن عمر . روى أبو نُعيم الحافظ في كتابه (( حلية الأولياء )) أنه قال لما احتُضر قال : يا ليتني كنت كبشا لقومي فسمنّوني ما بدا لهم ، ثم جاءهم أحب قومهم إليهم فذبحوني ، فجعلوا نصفي شواءً ونصفي قديدا ، فأكلوني ، فأكون عذرة ولا أكون بشرا . وهل هذا إلا مساوٍ لقول الكافر : يا لَيْتَني كُنْتُ تُرابًا ( ).
قال : (( وقال لابن عباس عند احتضاره : لو أن لي ملء الأرض ذهباومثله معه لافتديت به نفسي من هول المطلع.وهذا مثل قوله:وَلَوْ أَنَّ للذِّينَ ظَلَمُوا مَا في الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ( ). فلينظر المنصف العاقل قولَ الرجلين عند احتضارهما ، وقول عليّ :
متى ألقى الأحبة ..؟ محمداً وحزبه متى ألقاها ..؟ متى يُبعث أشقاها
وقوله حين قتله ابن ملجم : فزت ورب الكعبة )) .
والجواب : أن في هذا الكلام من الجهالة ما يدل على فرط جهل قائله؛ وذلك أن ما ذكره عن عليّ قد نُقل مثله عمَّن هو دون أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ ، بل نُقل مثله عمَّن يكفِّر عليّ بن أبي طالب من الخوارج . كقول بلال عتيق أبي بكر عند الاحتضار ، وامرأته تقول : واحرباه ، وهو يقول : واطرباه غداً ألقى الأحبة محمداً وحزبه .
وكان عمر قد دعا لما عارضوه في قسمة الأرض فقال : (( اللهم اكفني بلالاً وذويه ))فما حال الحَوْل وفيهم عين تَطْرِفُ.
وروى أبو نُعيم في (( الحلية )): ((حدثنا القطيعى ، حدثنا الحسن بن عبد الله ، حدثنا عامر بن سيّار ، حدثنا عبد الحميد بن بهرام ، عن شهر بن حوشب ، عن عبد الرحمن بن غنم ، عن الحارث بن عمير ، قال : طُعن معاذ وأبو عبيدة وشُرحبيل بن حسنة وأبو مالك الأشعري في يوم واحد . فقال معاذ: إنه رحمة ربكم ، ودعوة نبيكم ، وقبض الصالحين قبلكم . اللهم آت آل معاذ النصيب الأوفر من هذه الرحمة . فما أمسى حتى طُعن ابنه عبد الرحمن بِكْرُه الذي كان يُكنَّى به ، وأحب الخلق إليه . فرجع من المسجد فوجده مكروبا . فقال : يا عبد الرحمن كيف أنت ؟ قال : يا أبتِ الحق من ربك فلا تكونن من الممترين .قال : وأنا إن شاء الله ستجدني من الصابرين . فأمسكه لَيْلَهُ ثم دفنه من الغد . وطُعن معاذ ، فقال حين اشتدَّ به النزع ، نزع الموت ، فنزع نزعاً لم ينزعه أحد ، وكان كلما أفاق فتح طرفه ، وقال : رب أخنقني خَنْقَك ، فوعزتك إنك لتعلم أن قلبي يحبك ))( ).
وكذلك قوله : فزت ورب الكعبة . قد قالها من هو دون عليّ ، قالها عامر بن فُهيرة مَوْلَى أبي بكر الصديق لما قُتل يوم بئر معونة . وكان قد بعثه النبي مع سرية قِبَل نجد .قال العلماء بالسير : طعنه جبّار بن سَلْمى فأنفذه. فقال عامر : فزت والله . فقال جبّار : ما قوله فزت والله ؟ قال عروة بن الزبير: يرون أن الملائكة دفنته( ) .
وشبيب الخارجي لما طُعن دخل في الطعنة ، وجعل يقول : وعجلت إليك ربِ لترضى .
واعرف شخصاً من أصحابنا لما حضرته الوفاة جعل يقول : حبيبي هاقد جئتك ، حتى خرجت نفسه . ومثل هذا كثير .
وأما خوف عمر وخشيته من الله لكمال علمه ؛ فإن الله تعالى يقول : إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ( ).
وقد كان النبي يصلِّي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء( ).
وأما قول الرافضي : (( وهل هذا إلا مساوٍ لقول الكافر : يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً ( ).
فهذا جهل منه ؛ فإن الكافر يقول ذلك يوم القيامة ، حين لا تُقبل توبة ، ولا تنفع حسنة . وأما من يقول ذلك في الدنيا ، فهذا يقوله في دار العمل على وجه الخشية لله ، فيُثاب على خوفه من الله .
وقد قالت مريم : ياَلَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ( ).ولم يكن هذا كتمنِّي الموت يوم القيامة .
ولا يُجعل هذا كقول أهل النار ، كما أخبر الله عنهم بقوله : وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ( ). وكذلك قوله : وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا في الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنُ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ( )؛ فهذا إخبار عن حالهم يوم القيامة حين لا ينفع توبة ولا خشية .
وأما في الدنيا ، فالعبد إذا خاف ربَّه كان خوفه مما يثيبه الله عليه ، فمن خاف الله في الدنيا أمّنه يوم القيامة ، ومن جعل خوف المؤمن من ربه في الدنيا كخوف الكافر في الآخرة ، فهو كمن جعل الظلمات كالنور ، والظل كالحرور ، والأحياء كالأموات .
(فصـــل)
قال الرافضي : (( وروى أصحاب الصحاح الستة من مسند ابن عباس أن رسول الله قال في مرض موته:ائتوني بدواة و بياض، أكتب لكم كتابا لا تضلُّون به من بعدي . فقال عمر : إن الرجل لَيَهْجُر، حسبُنا كتاب الله . فكثر اللَّغَط . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخْرُجُوا عني ، لا ينبغي التنازع لديّ . فقال ابن عباس : الرزية كل الرزية ما حال بيننا وبين كتاب رسول الله . وقال عمر لما مات رسول الله : ما مات محمد ولا يموت حتى يقطع أيدي رجال وأرجلهم . فلما نهاه أبو بكر وتلا عليه : إنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ( )، وقوله : َأفَإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ( )قال : كأني ما سمعت هذه الآية )).
والجواب : أن يقال : أما عمر فقد ثبت من علمه وفضله ما لم يثبت لأحد غير أبي يكر . ففي صحيح مسلم عن عائشة عن النبي أنه كان يقول: (( قد كان في الأمم قبلكم مُحَدِّثون ، فإن يكن في أمتي أحد فعمر )).قال ابن وهب : تفسير (( محدِّثون )) : ملهمون( ) .
وروى البخاري عن أبي هريرة عن النبي قال :
(( إنه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدِّثون ، وإنه إن كان في أمتي هذه منهم فإنه عمر بن الخطاب )) وفي لفظ للبخاري : (( لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلِّمون من غير أن يكونوا أنبياء فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر ))( ).
وفي الصحيح عن ابن عمر عن النبي قال: (( بينا أنا نائم إذ رأيت قدحا أتيت به فيه لبن ، فشربت منه حتى أني لأرى الرِّيَّ يخرج من أظفاري ، ثم أعطيت فضلى عمر بن الخطاب )). قالوا : فما أوَّلته يا رسول الله ؟ قال : (( العلم ))( ) .
وفي الصحيحين عن أبي سعيد قال : قال رسول الله : (( بينا أنا نائم رأيت الناس يُعرضون عليَّ وعليهم قمص ، منها ما يبلغ الثدي ، ومنها ما يبلغ دون ذلك ، ومر عمر بن الخطاب وعليه قميص يجرُّه)).قالوا:ما أوّلت ذلك يا رسول الله ؟قال: (( الدين ))( ) .
وأما قصة الكتاب الذي كان رسول الله يريد أن يكتبه ، فقد جاء مبيَّنا ، كما في الصحيحين عن عائشةا قالت : قال رسول الله في مرضه:(( ادعى لي أباك وأخاك حتى أكتب كتابا ، فإني أخاف أن يتمنى متمنٍّ ويقول قائل : أنا أوْلَى ، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر ))( ) .
وفي صحيح البخاري عن القاسم بن محمد ، قال : قالت عائشة : ((وارأساه . فقال رسول الله : (( لو كان وأنا حيّ فاستغفر لك وأدعو لك )) . قالت عائشة : (( واثكلاه ، والله إني لأظنك تحب موتى ، فلو كان ذلك لظللت آخر يومك مُعَرِّساً ببعض أزواجك .فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( بل أنا وارأساه . لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه وأعهد: أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنُّون ، ويدفع الله ويأبى المؤمنون ))( ).
وأما عمر فاشتبه عليه هل كان قول النبي من شدة المرض ، أو كان من أقواله المعروفة . والمرض جائز على الأنبياء .ولهذا قال : (( ماله ؟ أهجر ؟ )) فشكَّ في ذلك ولم يجزم بأنه هجر . والشك جائز على عمر ، فإنه لا معصوم إلا النبي . لا سيما وقد شك بشبهة ؛ فإن النبي كان مريضا ، فلم يدر أكلامه كان من وهج المرض ، كما يعرض للمريض ، أو كان من كلامه المعروف الذي يجب قبوله . وكذلك ظن أنه لم يمت حتى تبين أنه قد مات .
والنبي قد عزم على أن يكتب الكتاب الذي ذكره لعائشة ، فلما رأى أن الشك قد وقع ، علم أن الكتاب لا يرفع الشك ، فلم يبق فيه فائدة ، وعلم أن الله يجمعهم على ما عزم عليه ، كما قال:(( ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر)) .
وقول ابن عباس : (( إن الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب الكتاب )) يقتضي أن هذا الحائل كان رزية ، وهو رزية في حق من شك في خلافة الصدِّيق ، أو اشتبه عليه الأمر ؛ فإنه لو كان هناك كتاب لزال هذا الشك . فأما من علم أن خلافته حق فلا رزّية في حقه ، ولله الحمد .
ومن توهّم أن هذا الكتاب كان بخلافة عليّ فهو ضال باتفاق عامة الناس من علماء السنة والشيعة . أما أهل السنة فمتفقون على تفضيل أبي بكر وتقديمه . وأما الشيعة القائلون بأن عليًّا كان هو المستحق للإمامة ، فيقولون : إنه قد نصّ على إمامته قبل ذلك نصًّا جليا ظاهرا معروفا ، وحينئذ فلم يكن يحتاج إلى كتاب .
وإن قيل: أن الأمة جحدت النص المعلوم المشهور ، فلأن تكتم كتابا حضره طائفة قليلة أوْلى وأحرى.
وأيضا فلم يكن يجوز عندهم تأخير البيان إلى مرض موته ، ولا يجوز له ترك الكتاب لشك من شك ، فلو كان ما يكتبه في الكتاب مما يجب بيانه وكتابته ، لكان النبي يبيّنه ويكتبه ، ولا يلتفت إلى قول أحدٍ ، فإنه أطوع الخلق له ، فعُلم أنه لما ترك الكتاب لم يكن الكتاب واجبا ، ولا كان فيه من الدين ما تجب كتابته حينئذ ، إذ لو وجب لفعله ، ولو أن عمر اشتبه عليه أمر ، ثم تبيّن له أوشك في بعض الأمور ، فليس هو أعظم ممن يفتى ويقضى بأمور ويكون النبي قد حكم بخلافها، مجتهدا في ذلك ، ولا يكون قد علم حكم النبي صل الله عليه وسلم ؛ فإن الشك في الحق أخف من الجزم بنقيضه .
وكل هذا إذا كان باجتهاد سائغ كان غايته أن يكون من الخطأ الذي رفع الله المؤاخذة به . كما قضى عليٌّ في الحامل المتوفّى عنها زوجها أنها تعتدّ أبعد الأجلين ، مع ما ثبت في الصحاح عن النبي أنه لما قيل له : إن أبا السنابل بن بعكك أفتى بذلك لسبيعة الأسلمية . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((كذب أبو السنابل ، بل حللتِ فانكحي من شئت))( ).فقد كذّب النبي هذا الذي أفتى بهذا . وأبو السنابل لم يكن من أهل الاجتهاد ، وما كان له أن يفتِيَ بهذا مع حضور النبي .
وأما عليّ وابن عباس رضى الله عنهما وإن كانا أفتيا بذلك ، لكن كان ذلك عن اجتهاد ، وكان ذلك بعد موت النبي ، ولم يكن بلغهما قصة سُبَيْعة .
(فصـــل)
قال الرافضي : (( ولما وعظت فاطمة أبا بكر في فَدَك ، كتب لها كتابا بها ، وردها عليها ، فخرجت من عنده ، فلقيها عمر بن الخطاب فحرق الكتاب ، فدعت عليه بما فعله أبو لؤلؤة به وعطّل حدود الله فلم يحدّ المغيرة بن شعبة ، وكان يعطي أزواج النبي من بيت المال أكثر مما ينبغي ، وكان يعطي عائشة وحفصة في كل سنة عشرة آلاف درهم . وغيَّر حكم الله في المنفيين ، وكان قليل المعرفة في الأحكام )).
والجواب : أن هذا من الكذب الذي لا يستريب فيه عالم ، ولم يذكر هذا أحد من أهل العلم بالحديث ، ولا يُعرف له إسناد . وأبو بكر لم يكتب فَدَكا قط لأحد : لا لفاطمة ولا غيرها ، ولا دعت فاطمة على عمر .
وما فعله أبو لؤلؤة كرامة في حق عمر ، وهو أعظم ممّا فعله ابن ملجم بعلي ّ ، وما فعله قتلة الحسين به . فإن أبا لؤلؤة كافرٌ قتل عمر كما يقتل الكافر المؤمن . وهذه الشهادة أعظم من شهادة من يقتله مسلم ؛ فإن قتيل الكافر أعظم درجةً من قتيل المسلمين ، وقتل أبي لؤلؤة لعمر كان بعد موت فاطمة ، بمدة خلافة أبي بكر وعمر إلا ستة أشهر ، فمن أين يُعرف أن قتله كان بسبب دعاء حصل في تلك المدة.
والداعي إذا دعا عَلَى مسلم بأن يقتله كافر ، كان ذلك دعاء له لا عليه، كما كان النبي يدعو لأصحابه بنحو ذلك ، كقوله : (( يغفر الله لفلان )) فيقولون : لو أمتعتنا به ! وكان إذا دعا لأحد بذلك استُشهد( ).
ولو قال قائل أن عليًّا ظلم أهل صفِّين والخوارج حتى دعوا عليه بما فعله ابن ملجم ، لم يكن هذا أبعد عن المعقول من هذا . وكذلك لو قال إن آل سفيان بن حرب دعوا على الحسين بما فُعل به .
وأما قول الرافضي: ((وعطّل حدود الله فلم يحدّ المغيرة بن شعبة)).
فالجواب:أن جماهير العلماء على ما فعله عمر في قصة المغيرة.وأن البيّنة إذا لم تكمل حدّ الشهود.ومن قال بالقول الآخر لم ينازع في أن هذه مسألة اجتهاد. وقد تقدّم أن ما يرد على علي بتعطيل إقامة القصاص والحدود على قتلة عثمان أعظم. فإذا كان القادح في علّي مبطلا،فالقادح في عمر أولى بالبطلان.
وقوله: ((وكان يعطي أزواج النبي من بيت المال أكثر مما ينبغي.وكان يعطي عائشة وحفصة من المال في كل سنة عشرة آلاف درهم)).
فالجواب:أما حفصة فكان ينقصها من العطاء لكونها ابنته،كما نقص عبد الله بن عمر.وهذا من كمال احتياطه في العدل،وخوفه مقام ربه،ونهيه نفسه عن الهوى.وهو كان يرى التفضيل في العطاء بالفضل،فيعطي أزواج النبي أعظم مما يعطي غيرهن من النساء،كما كان يعطي بني هاشم من آل أبي طالب وآل العباس أكثر مما يعطي من عداهم من سائر القبائل.فإذا فضّل شخصاً كان لأجل اتصاله برسول الله صلى الله عليه وسلم،أو لسابقته واستحقاقه.وكان يقول:ليس أحد أحق بهذا المال من أحد،وإنما هو الرجل وغناؤه، والرجل وبلاؤه ، والرجل وسابقته ، والرجل وحاجته . فما كان يعطي من يُتهم على إعطائه بمحاباة في صداقة أو قرابة ، بل كان ينقص ابنه وابنته ونحوهما عن نظرائهم في العطاء ، وإنما كان يفضِّل بالأسباب الدينية المحضة ، ويفضِّل أهل بيت النبي على جميع البيوتات ويقدِّمهم .
وهذه السيرة لم يسرها بعده مثله لا عثمان ولا عليّ ولا غيرهما . فإن قُدح فيه بتفضيل أزواج النبي ، فليُقدح فيه بتفضيل رجال أهل بيت رسول الله ، بل وتقديمهم على غيرهم .
(فصـــل)
وأما قوله : (( وغيَّر حكم الله في المنفيين )).
فالجواب : أن التغيير لحكم الله بما يناقض حكم الله ، مثل إسقاط ما أوجبه الله ، وتحريم ما أحلّه الله . والنفي في الخمر كان من باب التعزير الذي يسوغ فيه الاجتهاد . وذلك أن الخمر لم يقدِّر النبي حدَّها: لا قَدْرُهُ ولا صفتُهُ ، بل جوّز فيها الضرب بالجريد والنعال ، وأطراف الثياب وعُثْكول النخل . والضرب في حد القذف والزنا إنما يكون بالسوط . وأما العدد في الخمر فقد ضرب الصحابة أربعين ، وضربوا ثمانين . وقد ثبت في الصحيح عن علي ّ أنه قال : ((وكُلٌّ سُنَّة ))( ).
(فصـــل)
قال الرافضي: (( وكان قليل المعرفة بالأحكام : أمر برجم حامل . فقال له عليّ: إن كان لك عليها سبيل ، فلا سبيل لك على ما في بطنها . فأمسك . وقال : لولا عليّ لهلك عمر )).
والجواب : أن هذه القصة إن كانت صحيحة ، فلا تخلو من أن يكون عمر لم يعلم أنها حامل ، فأخبره عليٌّ بحملها . ولا ريب أن الأصل عدم العلم، والإمام إذا لم يعلم أن المستحقة للقتل أو الرجم حامل ، فعرَّفه بعض الناس بحالها ، كان هذا من جملة إخباره بأحوال الناس المغيَّبات ،ومن جنس ما يشهد به عنده الشهود . وهذا أمر لا بد منه مع كل أحد من الأنبياء والأئمة وغيرهم ، وليس هذا من الأحكام الكلية الشرعية .
وإما أن يكون عمر قد غاب عنه كون الحامل لا ترجم ، فلما ذكَّره عليّ ذكر ذلك ، ولهذا أمسك . ولو كان رأيه أن الحامل ترجم لرجمها ، ولم يرجع إلى رأي غيره . و قد مضت سنة النبي في الغامدية ، لما قالت :
(( إني حبلى من الزنا فقال لها النبي (( اذهبي حتى تضعيه ))( ).ولو قدِّر أنه خفى عليه علم هذه المسألة حتى عرفه، لم يقدح ذلك فيه ، لأن عمر ساس المسلمين وأهل الذمّة ، يعطي الحقوق ، ويقيم الحدود ، ويحكم بين الناس كلهم. وفي زمنه انتشر الإسلام ، وظهر ظهورا لم يكن قبله مثله ، وهو دائما يقضى ويُفتى ، ولولا كثرة علمه لم يُطق ذلك . فإذا خفيت عليه قضية من مائة ألف قضية ثم عرفها ،أو كان نسيها فذكرها ، فأي عيب في ذلك ؟!
وعلي ّ قد خَفِيَ عليه من سنة رسول الله أضعاف ذلك ، ومنها ما مات ولم يعرفه .
(فصـــل)
قال الرافضي : (( وأمر برجم مجنونة ، فقال له عليّ: إن القلم رُفع عن المجنون حتى يفيق ، فأمسك. وقال: لولا عليّ لهلك عمر )).
والجواب : أن هذه الزيادة ليست معروفة في هذا الحديث . ورجم المجنونة لا يخلو : إما أن يكون لم يعلم بجنونها فلا يقدح ذلك في علمه بالأحكام ، أو كان ذاهلا عن ذلك فذُكِّر بذلك ، أو يظن الظان أن العقوبات لدفع الضرر في الدنيا . والمجنون قد يُعاقب لدفع عدوانه على غيره من العقلاء والمجانين . والزنا هو من العدوان ، فيُعاقب على ذلك حتى يتبين له أن هذا من باب حدود الله تعالى التي لا تقام إلا على المكلف .
والشريعة قد جاءت بعقوبة الصبيان على ترك الصلاة ،كما قال : ((مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر،وفرِّقوا بينهم في المضاجع))( ).
والمجنون إذا صال ولم يندفع صياله إلا بقتله قُتل ، بل البهيمة إذا صالت ولم يندفع صيالها إلا بقتلها قُتلت ، وإن كانت مملوكة لم يكن على قاتلها ضمان للمالك عند جمهور العلماء ، كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم .
وبالجملة فما ذكره من المطاعن في عمر وغيره يرجع إلى شيئين : إما نقص العلم ، وإما نقص الدين . ونحن الآن في ذكره . فما ذكره من منع فاطمة ومحاباته في القَسْم ودرء الحد ونحو ذلك يرجع إلى أنه لم يكن عادلا بل كان ظالما . ومن المعلوم للخاص والعام أن عدل عمر ملأ الآفاق ، وصار يُضرب به المثل ، كما قيل : سيرة العمرين ، وأحدهما عمر بن الخطاب ، والآخر قيل : إنه عمر بن عبد العزيز ، وهو قول أحمد بن حنبل وغيره من أهل العلم والحديث وقيل : هو أبو بكر وعمر ، وهو قول أبي عبيدة وطائفة من أهل اللغة والنحو .
فهرس الجزء الأول لمختصر منهاج السنة
الموضوع الصفحة
سبب تأليف الكتاب ...................................................
الرافضة أكذب الناس وأكثرهم تصديقا للكذب واتباعا للباطل ..........
وجوب إظهار العلم ولا سيما عندما يعلن آخر هذه الأمة أولها
مشابهة الرافضة لليهود من وجوه كثيرة .................................
متى سميت الرافضة بهذا الإسم, وكذا الزيدية وبذلك يعرف كذب
الأحاديث التي فيها لفظ الرافضة ......................................
بعض حماقات الرافضة .................................................
لا ينكر في مسائل الاجتهاد إلا إذا كانت شعاراً لأمر لا يجوز.............
بعض حماقاتهم في إمامهم المنتظر.........................................
بعض حماقاتهم في التمثيل لم يبغضونه وغير ذلك .........................
عبد الرحمن بن مالك بن مغول ومقاتل بن سليمان والواقدي ونحوهم
تصلح رواياتهم للإعتضاد والمتابعة......................................
الرافضة أكذب الناس وهذا فيهم قديم , وليسوا أهل علم ..............
أصول الرافضة التي بنوا عليها دينهم ..................................
الموضوع الصفحة
زعم الرافضة أن الإمامة من أهم أصول الدين . وهذا كفر ..............
وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم مطلقا في كل شيء
وعلى كل حال في كل مستطاع .......................................
يلزم الرافضة في قولهم في المنتظر أن الخلق أشقياء جميعا وهم اشقاهم .....
لا وجود للخضر . والقطب والغوث ..................................
شرك بعض الصوفية والرافضة حتى الربوبية ............................
تناقض الرافضة في الإمام بين القول والتطبيق ...........................
لا يحصل بمعرفة الإمام خير إن لم يعمل صالحا ...........................
ليست الإمامة من واجبات الدين ......................................
بطلان دعوى إمامة ابن العسكري , المعدوم ............................
هل كان استخلاف أبي بكر بنص أو اجتهاد ؟ ..........................
الأمير والملك لا يصير ملكا إلا بمبايعة أهل الشوكة والقوة ..............
انظر دليل مبايعة سعد بن عبادة للصديق رضي الله عنهما ...............
مقارنة بين قول أهل السنة والرافضة في الإمام المتولى....................
دعوى الرافضي بأن مذهب الإمامية واجب الاتباع ....................
الموضوع الصفحة
بعض النصوص الدالة على أن الصحابة هم أفضل هذه الأمة
وأن الله قد رضي عنهم................................................
من هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ......................
بيان كذب حديث أن عليا تصدق بخاتمه وهو راكع ....................
(( من )) المفيدة لبيان الجنس ..........................................
بيان أن المنافقين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم قد
انتهوا عن النفاق......................................................
التقية التي يزعم الرافضة أنها من أصول دينهم هي كذب ...............
قصة أبي الطيب الباقلاني مع ملك النصارى ............................
الملاحدة يتظاهرون بالتشيع لقلة عقل الشيعة ومقصدهم إفساد الدين ...
تقسيم الرافضي الصحابة إلى أصحاب هوى أو جهل ظالم أو مقلد لظالم ..
الرافضة يوالون الكفار ويعادون المؤمنين . ويعاونون الكفار
على المسلمين.........................................................
ولاة الأمور يطاعون في طاعة الله ورسوله, ولا يطاعون في المعصية.......
دعوى الرافضي إبطال القياس , وعيب أهل السنة بالقول به ...........
دعوى الرافضي رجحان مذهب الرافضة وأحقيته, والرد عليه .........
الموضوع الصفحة
ذكر بعض ما صنعه هولاكو بالمسلمين بإشارة الطوسي الرافضي..........
استدلال الرافضي بشذوذ مذهبهم على أنهم على الحق والرد عليه .......
دعوى الرافضي أن طائفته هم اهل الحق لأنهم جازمون بنجاتهم ..........
الرافضة اتخذوا أئمتهم ومشايخهم أربابا من دون الله فعبدوهم ...........
أهل السنة أعظم جزما بنجاة أئمتهم كالعشرة وأهل بدر, وأهل بيعة الرضوان..............................................................
مناط السعادة طاعة الله ورسوله , ومناط الشقاوة معصية الله ورسوله ....
دعوى الرافضي انهم أخذوا مذهبهم عن الأئمة المعصومين................
أكاذيب ملفقة في تزيين مذهب الرفض وأئمته...........................
معنى قوله تعالى: (( إلا مودة في القربى )) والرد على الرافضي
في كونها دليلا على إمامة علي .........................................
جهل الرافضي في استدلاله على إمامة عليّ بأنه كان يصلي كل ليلة
الف ركعة وكذبه في ذلك ............................................
جهل الرافضي في قوله جعله الله نفس رسوله – يعني علي ابن أبي طالب..
قول علي بن الحسين للرافضة : ((ما زال حبكم بنا حتى صار
عار علينا ))...........................................................
الموضوع الصفحة
من المصائب التي ابتلي بها ولد الحسين انتساب الرافضة إليهم
فمدحوهم بما يقدح فيهم ...........................................
ذكر الرافضي حكاية امتحان محمد بن علي الجواد وسؤال يحيى بن أكثم
له , وهي حكاية لا يخفى أنها كذب ..................................
ذكر الرافضي حكايات مكذوبة عن عليّ الهادي والرد عليه...........
الحسن بن علي العسكري مات ولم يعقب أحداً فما تدعيه الرافضة في
المهدي باطل لا أصل له .............................................
دعوى الرافضي أن أحاديث المهدي يراد بها مهديهم محمد بن
العسكري والرد عليه................................................
غرور الرافضة بما يكذبه علماؤهم على أئمتهم وجهلهم بذلك.........
دعوى الرافضي أن كثيرا من أهل السنة يتدينون بمذهب الرفض باطنا..
شدة تعصب الرافضة ومن أجل ذلك جعلوا للبنت جميع الميراث ليقولوا
إن فاطمة رضي الله عنها ورثت أباها رسول الله صلى الله عليه وسلم..
دعوى الرافضي أن أهل السنة ابتدعوا أشياء لم تكن . مثل ذكر الخلفاء
على المنابر وكذبه ...................................................
دعوى الرافضي أن مسح الرجلين في الوضوء هو الواجب, والرد عليه ..
الموضوع الصفحة
تحريم متعة النساء , وهي من الزنا ....................................
دعوى الرافضي أن أبا بكر منع فاطمة إرثها من أبيها رسول الله عليه السلام..............................................................
تناقض الرافضي ودعواه أن النبي صلى الله عليه وسلم وهب فدك
لفاطمة بعد دعواه انها إرث لها .......................................
كذب الرافضي فيما نسبه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال :
عليّ مع الحق والحق معه. الخ........................................
دعوى الرافضي أن أبا ذر أولى أن يسمى صديقا , ولم يسموه بل سموا
أبا بكر بذلك فقط...................................................
زعم الرافضي أن ابا بكر لا يستحق أن يسمى خليفة رسول الله والرد
عليه ................................................................
نقمة الرافضي على أهل السنة لأنهم سموا عمرا الفاروق دون علي .....
عيب الرافضي أهل السنة بتعظيمهم عائشة رضي الله عنها والرد عليه
وبيان خزيه........................................................
طعن الرافضة في أم المؤمنين مما يخرجهم من الإسلام...................
الموضوع الصفحة
دعوى الرافضي أن المسلمين أجمعوا على قتل عثمان رضي الله عنه......
قد يرمي الرجل الآخر بالكفر أو النفاق غيرة على الحق ويكون كل
منهما من أهل الجنة..................................................
الرافضة أصحاب جهل وظلم وتناقض ...............................
الرافضة يشتمون الأنبياء برمي زوجاتهم بالزنا.........................
تعجب الرافضي من نصر المسلمين لعائشة وخروجهم معها وعدم
نصرهم لفاطمة على أبي بكر ........................................
زعم الرافضي أن الصحابة ومن تبعهم سموا عائشة فقك أم المؤمنين
وسموا معاوية خال المؤمنين ..........................................
الرافضة يمدحون محمد بن أبي بكر ويلعنون والده لفرط هواهم وظلمهم............................................................
زعم الرافضي أن معاوية رضي الله عنه لم يزل مشركا يهزأ بالشرع
طيلة حياة النبي صلى الله عليه وسلم ................................
إفحام الرافضة بالحجج المقنعة وإبطال دعواهم........................
كذب الرافضي على أهل السنة بأنهم خصوا معاوية بأنه كاتب وحي ..
الموضوع الصفحة
دعوى الرافضي أن معاوية طيلة حياة النبي كان كافرا وأنه هرب إلى
اليمن وأن الرسول صىل الله عليه وسلم قد أهدر دمه ...............
الرافضة تضع الأحاديث عن النبي صلى الله علي وسلم في لعن معاوية
وأنه يموت على الكفر...............................................
قول الرافضة من أفسد الأقوال , وأشدها تناقضا .....................
دعوى الرافضي أن معاوية سم الحسن بن علي رضي الله عنهم ........
دعوى الرافضي من أهل السنة خصوا خالد بن الوليد بتسميته سيف
الله مراغمة لعلي.....................................................
دعواه أن علياً قتل بسيفه الكفار , وأنه سيف الله وسهمه .............
زعم الرافضي أن خالدا لم يزل عدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم
مكذبا له كعادته في البهت ..........................................
دفاع الرافضي عن مسيلمة الكذاب والمؤمنين به ولومه الصحابة على
قتالهم ..............................................................
تعجيز الرافضة أن يقيموا دليلا على إيمان عليّ رضي الله عنه على أصلهم..............................................................
زعم الرافضي أن معاوية رضي الله عنه – شر من إبليس والرد عليه ...
الموضوع الصفحة
بطلان كون إبليس كان اعبد الملائكة , وإنه كان يحمل العرش , أو من حملته.................................................................
كذب الرافضة وخرافاتهم التي زعموا وقوعها بسبب قتل الحسين رضي
الله عنه...............................................................
أوجه ضلال الرافضة , وإخوانهم الباطنية من الإسماعيلية والنصيرية ونحوهم..............................................................
أهل السنة يقولون بإمامة يزيد بن معاوية ونحوه بمعنى ذو سلطان بغض
النظر عن كونه براً أو فاجراً .........................................
الناس في يزيد طرفان ووسط ........................................
ادخل الشيطان بسبب مقتل الحسين على الناس أموراً شنيعة من سب
السلف والجزع وغير ذلك ..........................................
ما يذكره الرافضة من سبي عيال الحسين والطواف بأهله في الأسواق
كذب مقصود منهم.................................................
دعوى الرافضي بأن مذهب الرفض أحق بالاتباع , وأنهم هم الذين
نزهوا الله دون أهل السنة............................................
من هم آل النبي صلى الله عليه وسلم الذين تحرم عليهم الزكاة؟ .......
الموضوع الصفحة
الفضائل الثابتة لعليّ مشتركة بخلاف فضائل أبي بكر وعمر ففضائلهما
خاصة بهما..........................................................
الأحاديث التي يعتمد عليها الرافضي في فضائل علي وأنه الوصي كلها
كذب .............................................................
أنواع من أكاذيب الرافضة , في فضائل عليّ .........................
الرسول صلى الله عليه وسلم شبه أبو بكر بإبراهيم وعيسـى , وشبه
عمر بنوح وموسى وذلك أبلغ قوله لعلي: وأنت مني بمنزلة هارون من
موسى إلا أنه لا نبي بعدي...........................................
أكاذيب أخرى من صنع الرافضة....................................
كتاب الفردوس للدليمي فيه أحاديث موضوعة كثيرة ...............
بيان كذب الحديث (( حب عليّ حسـنة لا يضر معها سـيئة, وهذا
ظاهره كفر)).......................................................
الرافضة عرفوا باستعانتهم بالكفار , وإعانتهم إياهم على المسلمين ....
أصول الرافضة التي تعتمد عليها في إثبات شرعها ....................
مشابهة الرافضة للسامرة الذين هم أخبث اليهود من وجوه كثيرة .....
الموضوع الصفحة
عيب الرافضة على الصديق قوله : (( إن استقمت فأعينوني , وإن
زغت فقوموني )) والرد عليهم .....................................
عيب الرافضة أبا بكر الصديق بقوله : (( أقيلوني فلست بخيركم ,
وجوابه )) .......................................................
خطبة عمر في تحذير المسلمين من يريد أن يتوثب على الخلافة بدون مشورة............................................................
قوله: إنه قال عند موته : ليت أمي لم تلدني وبيان بطلانه .............
إذا تكلم الرجل بكلام يتمنى فيه ما لا يكون يعذر إذا كان الحامل
عليه الخوف من الله................................................
عيب الرافضي أبا بكر على قوله : (( ليتني في ظلة بني ساعدة ضربت
بيدي على يد أحد الرجلين .......................................
زعم الرافضي –وهو مكذوب- أن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن
من تخلف عن جيش أسـامة , ثم ادعى كاذبا أن الخلفاء الثلاثة كانوا
فيه وإبطال دعواه بالبرهان.........................................
زعم الرافضي –وهم مكذوب- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يولّ
ابا بكر عملا قط...................................................
الموضوع الصفحة
الولايات التي ولاها النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر كانت خصائض
كإقامة الحج سنة تسع...............................................
كذب الرافضي في زعمه أن أبا بكر رضي الله عنه قطع يسار سارق ...
بهتان الرافضي في أن أبا بكر جهل أكثر أحكام الشريعة ...............
الدلائل على كمال الصديق رضي الله عنه في العلم والسياسة والتقوى ..
مدح الرافضة لعلي يعود قدحا وذما , وهكذا أئمتهم لأن رأس مالهم الكذب..............................................................
الرافضة يعيبون أبا بكر لأنه لم يقتص من خالد لما قتل مالك بن نويرة ,
ولا يعيبون علياً لما لم يقتص من قتلة عثمان...........................
زعم الرافضي الكذوب أن أبا بكر منع فاطمة إرثها , وعابه بتسمية
خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ...............................
دعوى الرافضي أن أبا بكر وعمر تمنيا عدم الوجود أو أنهما بهيمة تؤكل
وخافا هول المطلع بخلاف علي .....................................
اشـتبه على عمر قول النبي صلى الله عليه وسـلم : (( ائتوني بكتاب
أكتب لكم )) هل هو من شدة المرض؟ ..............................
الموضوع الصفحة
من قال أن الكتاب الذي هم النبي أن يكتبه في خلافة عليّ , فهو ضال
عن اهل السنة ومخالف لقول الرافضة وبيان ذلك ....................
أنواع من أكاذيب الرافضي على أمير الؤمنين عمر رضي الله عنه وبيان بطلانها...............................................................
زعم الرافضي أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه عطل حدود الله ......
دعوى الرافضي أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه قليل المعرفة
بالأحكام.............................................................