منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية - شيخ الإسلام ابن تيمية - ج2
بسم الله الرحمن الرحيم
اسم الكتاب | منهاج السنة النبوية | ||||
اسم المؤلف | شيخ الإسلام بن تيمية | ||||
عدد الاجزاء | دار النشر | مدينة النشر | سنة النشر | رقم الطبعة | |
8 | مؤسسة قرطبة |
| 1406 | الأولى | |
اسم المحقـق | د. محمد رشاد سالم |
الجزء | الصفحة | محتوى الصفحة |
---|---|---|
2 | 7 | بسم الله الرحمن الرحيم الباب الثاني قال الرافضي الفصل الثاني في أن مذهب الإمامية واجب الإتباع ومضمون ما ذكره أن الناس اختلفوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم فيجب النظر في الحق واعتماد الإنصاف ومذهب الإمامية واجب الإتباع لأربعة أوجه لأنه أحقها وأصدقها ولأنهم باينوا جميع الفرق في أصول العقائد ولأنهم جازمون بالنجاة لأنفسهم ولأنهم أخذوا دينهم عن الأئمة المعصومين وهذا حكاية لفظه قال الرافضي |
2 | 8 | إنه لما عمت البلية بموت النبي صلى الله عليه وسلم واختلف الناس بعده وتعددت آراؤهم بحسب تعدد أهوائهم فبعضهم طلب الأمر لنفسه بغير حق وبايعه أكثر الناس طلبا للدنيا كما اختار عمر بن سعد ملك الري أياما يسيره لما خير بينه وبين قتل الحسين مع علمه بأن من قتله في النار وإخباره بذلك في شعره حيث يقول |
2 | 9 | فو الله ما أدري وإني لصادق أفكر في أمري على خطرين أأترك ملك الري والري منيتي أم اصبح مأثوما بقتل حسين وفي قتله النار التي ليس دونها حجاب وملك الرى قرة عيني وبعضهم اشتبه الأمر عليه ورأى لطالب الدنيا متابعا فقلده وبايعه وقصر في نظره فخفى عليه الحق فاستحق المؤاخذة من الله بإعطاء الحق لغير مستحقه بسبب إهمال النظر وبعضهم قلد لقصور فطنته ورأى الجم الغفير |
2 | 10 | فتابعهم وتوهم أن الكثرة تستلزم الصواب وغفل عن قوله تعالى وقليل ماهم سورة ص وقليل من عبادي الشكور سورة سبأ وبعضهم طلب الأمر لنفسه بحق له وبايعه الأقلون الذي أعرضوا عن الدنيا وزينتها ولم يأخذهم في الله لومة لائم بل أخلصوا لله واتبعوا ما أمروا به من طاعة من يستحق التقديم وحيث حصل للمسلمين هذه البلية وجب على كل أحد النظر في الحق واعتماد الإنصاف وأن يقر الحق مستقره ولا يظلم مستحقه فقد قال تعالى ألا لعنة الله على الظالمين سورة هود وإنما كان مذهب الإمامية واجب الإتباع لوجوه هذا لفظه |
2 | 11 | فيقال إنه قد جعل المسلمين بعد نبيهم أربعة أصناف وهذا من أعظم الكذب فإنه لم يكن في الصحابة المعروفين أحد من هذه الأصناف الأربعة فضلا عن أن لا يكون فيهم أحد إلا من هذه الأصناف إما طالب للأمر بغير حق كأبي بكر في زعمه وإما طالب للأمر بحق كعلي في زعمه وهذا كذب على علي رضي الله عنه وعلى أبي بكر رضي الله عنه فلا علي طلب الأمر لنفسه قبل قتل عثمان ولا أبو بكر طلب الأمر لنفسه فضلا عن أن يكون طلبه بغير حق وجعل القسمين الآخرين إما مقلدا لأجل الدنيا وإما مقلدا لقصوره في النظر وذلك أن الإنسان يجب عليه أن يعرف الحق وأن يتبعه وهذا هو الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين غير المغضوب عليهم ولا الضالين وهذا هو الصراط الذي أمرنا الله أن نسأله هدايتنا إياه في كل صلاة بل في كل ركعة وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال اليهود مغضوب |
2 | 12 | عليهم والنصارى ضالون وذلك أن اليهود عرفوا الحق ولم يتبعوه استكبارا وحسدا وغلوا واتباعا للهوى وهذا هو الغي والنصارى ليس لهم علم بما يفعلونه من العبادة والزهد والأخلاق بل فيهم الجهل والغلو والبدع والشرك جهلا منهم وهذا هو الضلال وإن كان كل من الأمتين فيه ضلال وغي لكن الغي أغلب على اليهود والضلال أغلب على النصارى ولهذا وصف الله اليهود بالكبر والحسد واتباع الهوى والغي وإرادة العلو في الأرض والفساد قال تعالى أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون سورة البقرة وقال تعالى أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله سورة النساء وقال سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن |
2 | 13 | يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا سورة الأعراف وقال تعالى وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا سورة الإسراء ووصف النصارى بالشرك والضلال والغلو والبدع فقال تعالى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون سورة التوبة وقال تعالى قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل كثيرا وضلوا عن سواء السبيل سورة المائدة وقال تعالى ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها سورة الحديد وهذا مبسوط في غير هذا الموضع وقد نزه الله نبيه عن الضلال والعي فقال والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى سورة النجم فالضال الذي يعرف الحق والغاوي الذي يتبع هواه وقال تعالى واذكر عبادنا إبراهيم وإسحق ويعقوب أولى الأيدي والأبصار سورة ص فالأيدي القوة في طاعة الله والأبصار البصائر في الدين وقال تعالى والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر وإذا كان الصراط المستقيم لا بد فيه من العلم بالحق والعمل به |
2 | 14 | وكلاهما واجب لا يكون الإنسان مفلحا ناجيا إلا بذلك وهذه الأمة خير الأمم وخيرها القرن الأول كان القرن الأول أكمل الناس في العلم النافع والعمل الصالح وهؤلاء المفترون وصفوهم بنقيض ذلك بأنهم لم يكونوا يعلمون الحق ويتبعونه بل كان أكثرهم عندهم يعلمون الحق ويخالفونه كما يزعمونه في الخلفاء الثلاثة وجمهور الصحابة والأمة وكثير منهم عندهم لا يعلم الحق بل اتبع الظالمين تقليدا لعدم نظرهم المفضى إلى العلم والذي لم ينظر قد يكون تركه النظر لأجل الهوى وطلب الدنيا وقد يكون لقصوره ونقص إدراكه وادعى أن منهم من طلب الأمر لنفسه بحق يعنى عليا وهذا مما علمنا بالإضرار أنه لم يكن فلزم من ذلك على قول هؤلاء أن تكون الأمة كلها كانت ضالة بعد نبيها ليس فيها مهتد فتكون اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل خيرا منهم لأنهم كانوا كما قال الله تعالى ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون سورة الأعراف وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن اليهود والنصارى |
2 | 15 | افترقت على اثنتين وسبعين فرقة فيها واحدة ناجية وهذه الأمة على موجب ما ذكر لم يكن فيهم بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم أمة تقوم بالحق ولا تعدل به وإذا لم يكن ذلك في خيار قرونهم ففيما بعد ذلك أولى فيلزم من ذلك أن يكون اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل خيرا من خير أمة أخرجت للناس فهذا لازم لما يقوله هؤلاء المفترون فإن كان هذا في حكايته لما جرى عقب موت النبي صلى الله عليه وسلم |
2 | 16 | من اختلاف الأمة فكيف بسائر ما ينقله ويستدل به ونحن نبين فساد ما في هذه الحكاية من الأكاذيب من وجوه كثيرة فنقول أما قوله لما عمت البلية على كافة المسلمين بموت النبي صلى الله عليه وسلم واختلف الناس بعده وتعددت آراؤهم بحسب أهوائهم فبعضهم طلب الأمر لنفسه بغير حق وبايعه أكثر الناس طلبا للدنيا كما اختار عمر بن سعد ملك الرى أياما يسيرة لما خير بينه وبين قتل الحسين مع علمه بأن في قتله النار وإخباره بذلك في شعره |
2 | 17 | فيقال في هذا الكلام من الكذب والباطل وذم خيار الأمة بغير حق مالا يخفى وذلك من وجوه أحدها قوله تعددت آراؤهم بحسب تعدد أهوائهم فيكونون كلهم متبعين أهواءهم ليس فيهم طالب حق ولا مريد لوجه الله تعالى والدار الآخرة ولا من كان قوله عن اجتهاد واستدلال وعموم لفظه يشمل عليا وغيره وهؤلاء الذين وصفهم بهذا هم الذين أثنى الله عليهم هو ورسوله ورضي عنهم ووعدهم الحسنى كما قال تعالى والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم سورة التوبة وقال تعالى محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه فئآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما سورة الفتح وقال تعالى إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض إلى قوله أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم والذين |
2 | 18 | آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم سورة الأنفال وقال لايستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى سورة الحديد وقال تعالى للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم سورة الحشر وهذه الآيات تتضمن الثناء على المهاجرين والأنصار وعلى الذين جاءوا من بعدهم يستغفرون لهم ويسألون الله أن لا يجعل في قلوبهم غلا لهم وتتضمن أن هؤلاء الأصناف هم المستحقون للفئ ولا ريب أن هؤلاء الرافضة خارجون من الأصناف الثلاثة فإنهم لم يستغفروا للسابقين الأولين وفي قلوبهم غل عليهم ففي الآيات الثناء على الصحابة وعلى أهل السنة الذين يتولونهم وإخراج الرافضة من ذلك وهذا نقيض مذهب الرافضة |
2 | 19 | وقد روى ابن بطة وغيره من حديث أبي بدر قال حدثنا عبدالله بن زيد عن طلحة بن مصرف عن مصعب بن سعد عن سعد بن أبي وقاص قال الناس على ثلاث منازل فمضت منزلتان وبقيت واحدة فأحسن ما أنتم عليه كائنون أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت ثم قرأ للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا هؤلاء المهاجرون وهذه منزلة قد مضت ثم قرأ والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ثم قال هؤلاء الأنصار وهذه منزلة قد مضت ثم قرأ والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم فقد مضت هاتان وبقيت هذه المنزلة فأحسن ما أنتم عليه كائنون أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت أن تستغفروا الله لهم وروى أيضا بإسناده عن مالك بن أنس أنه قال من سب السلف فليس له في الفئ نصيب لأن الله تعالى يقول والذين جاءوا من بعدهم الآية |
2 | 20 | وهذا معروف من مالك وغير مالك من أهل العلم كأبي عبيد القاسم ابن سلام وكذلك ذكره أو حكيم النهرواني من أصحاب أحمد وغيره من الفقهاء وروى أيضا عن الحسن بن عمارة عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال أمر الله بالإستعفار لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعلم أنهم يقتتلون وقال عروة قالت لي عائشة رضي الله عنها يا ابن أختي أمروا أن يستغفروا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فسبوهم وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال |
2 | 21 | رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه وفي صحيح مسلم أيضا عن جابر بن عبدالله قال قيل لعائشة إن ناسا يتناولون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أبا |
2 | 22 | بكر وعمر فقالت وما تعجبون من هذا انقطع عنهم العمل فأحب الله أن لا يقطع عنهم الأجر وروى ابن بطة بالإسناد الصحيح عن عبدالله بن أحمد قال حدثني أبي حدثنا معاوية حدثنا رجاء عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لا تسبوا أصحاب محمد فإن الله قد أمر بالإستغفار لهم وهو يعلم أنهم سيقتتلون |
2 | 23 | ومن طريق أحمد عن عبدالرحمن بن مهدي وطريق غيره عن وكيع وأبي نعيم ثلاثتهم عن الثوري عن نسير بن ذعلوق سمعت عبدالله بن عمر يقول لا تسبوا أصحاب محمد فلمقام أحدهم ساعة يعنى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من عمل أحدكم أربعين سنة وفي رواية وكيع خير من عبادة أحدكم عمره وقال تعالى لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة |
2 | 24 | فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم ولتكون ءاية للمؤمنين ويهديكم صراطا مستقيما وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شيء قديرا سورة الفتح والذين بايعوه تحت الشجرة بالحديبية عند جبل التنعيم كانوا أكثر من ألف وأربعمائة بايعوه لما صده المشركون عن العمرة ثم صالح المشركين صلح الحديبية المعروف وذلك سنة ست من الهجرة في ذي القعدة ثم رجع بهم إلى المدينة وغزا بهم خيبر ففتحها الله عليهم في أول سنة سبع وقسمها بينهم ومنع الأعراب المتخلفين عن الحديبية من ذلك |
2 | 25 | كما قال الله تعالى سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا سورة الفتح وقد أخبر سبحانه أنه رضي عنهم وأنه علم ما في قلوبهم وأنه أثابهم فتحا قريبا وهؤلاء هم أعيان من بايع أبا بكر وعمر وعثمان بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن في المسلمين من يتقدم عليهم بل كان المسلمون كلهم يعرفون فضلهم عليهم لأن الله تعالى بين فضلهم في القرآن بقوله تعالى لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى سورة الحديد ففضل المنفقين المقاتلين قبل الفتح والمراد بالفتح هنا صلح الحديبية ولهذا سئل النبي صلى الله عليه وسلم أو فتح هو فقال نعم |
2 | 26 | وأهل العلم يعملون أن فيه أنزل الله تعالى إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا سورة الفتح فقال بعض المسلمين يا رسول الله هذا لك فما لنا يا رسول الله فأنزل الله تعالى هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزداداو إيمانا مع إيمانهم سورة الفتح وهذه الآية نص في تفضيل المنفقين المقاتلين قبل الفتح على المنفقين المقاتلين بعده ولهذا ذهب جمهور العلماء إلى أن السابقين في قوله تعالى والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار سورة التوبة هم هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا وأهل بيعة الرضوان كلهم منهم وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة وقد ذهب بعضهم إلى أن السابقين الأولين هم من صلى إلى |
2 | 27 | القبلتين وهذا ضعيف فإن الصلاة إلى القبلة المنسوخة ليس بمجرده فضيلة ولأن النسخ ليس من فعلهم الذي يفضلون به ولأن التفضيل بالصلاة إلى القبلتين لم يدل عليه دليل شرعي كما دل على التفضيل بالسبق إلى الإنفاق والجهاد والمبايعة تحت الشجرة ولكن فيه سبق الذين أدركوا ذلك على من لم يدركه كما أن الذين أسلموا قبل أن تفرض الصلوات الخمس هم سابقون على من تأخر إسلامه عنهم والذين أسلموا قبل أن تجعل صلاة الحضر أربع ركعات هم سابقون على من تأخر إسلامه عنهم والذين أسلموا قبل أن يؤذن في الجهاد أو قبل أن يفرض هم سابقون على من أسلم بعدهم والذين أسلموا قبل أن يفرض صيام شهر رمضان هم سابقون على من أسلم بعدهم والذين أسلموا قبل أن يفرض الحج هم سابقون على من تأخر عنهم والذين أسلموا قبل تحريم الخمر هم سابقون على من أسلم بعدهم والذين أسلموا قبل تحريم الربا كذلك فشرائع الإسلام من الإيجاب والتحريم كانت تنزل شيئا فشيئا وكل من أسلم قبل أن تشرع شريعة فهو سابق على من تأخر عنه وله بذلك فضيلة ففضيلة من أسلم قبل نسخ القبلة على من أسلم بعده هي من هذا الباب |
2 | 28 | وليس مثل هذا مما يتميز به السابقون الأولون عن التابعين إذ ليس بعض هذه الشرائع بأولى بجعله خيرا من بعض ولأن القرآن والسنة قد دلا على تقديم أهل الحديبية فوجب أن تفسر هذه الآية بما يوافق سائر النصوص وقد علم بالإضطرار أنه كان في هؤلاء السابقين الأولين أبو بكر وعمر وعلي وطلحة والزبير وبايع النبي صلى الله عليه وسلم بيده عن عثمان لأنه كان غائبا قد أرسله إلى أهل مكة ليبلغهم رسالته وبسببه بايع النبي صلى الله عليه وسلم الناس لما بلغه أنهم قتلوه وقد ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة |
2 | 29 | وقال تعالى لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم سورة التوبة فجمع بينهم وبين الرسول في التوبة وقال تعالى إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا سورة الأنفال إلى قوله والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم سورة الأنفال فأثبت الموالاة بينهم وقال للمؤمنين يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء |
2 | 30 | بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين سورة المائدة إلى قوله إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون المائدة وقال والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض سورة التوبة فأثبت الموالاة بينهم وأمر بموالاتهم والرافضة تتبرأ منهم ولا تتولاهم وأصل الموالاة المحبة وأصل المعاداة البغض وهم يبغضونهم ولا يحبونهم وقد وضع بعض الكذابين حديثا مفترى أن هذه الآية نزلت في علي لما تصدق بخاتمه في الصلاة وهذا كذب بإجماع أهل العلم بالنقل وكذبه بين من وجوه كثيرة منها أن قوله الذين صيغة جمع وعلى واحد ومنها أن الواو ليست واو الحال إذ لو كان كذلك لكان |
2 | 31 | لا يسوغ أن يتولى إلا من أعطى الزكاة في حال الركوع فلا يتولى سائر الصحابة والقرابة ومنها أن المدح إنما يكون بعمل واجب أو مستحب وإيتاء الزكاة في نفس الصلاة ليس واجبا ولا مستحبا باتفاق علماء الملة فإن في الصلاة شغلا ومنها أنه لو كان إيتاؤها في الصلاة حسنا لم يكن فرق بين حال الركوع وغير حال الركوع بل إيتاؤها في القيام والقعود أمكن ومنها أن عليا لم يكن عليه زكاة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومنها أنه لم يكن له أيضا خاتم ولا كانوا يلبسون الخواتم حتى كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتابا إلى كسرى فقيل له إنهم لا يقبلون كتابا إلا مختوما فاتخذ خاتما من ورق ونقش فيها محمد رسول الله ومنها أن إيتاء غير الخاتم في الزكاة خير من إيتاء الخاتم فإن أكثر الفقهاء يقولون لا يجزئ إخراج الخاتم في الزكاة ومنها أن هذا الحديث فيه أنه أعطاه السائل والمدح في الزكاة أن |
2 | 32 | يخرجها ابتداء ويخرجها على الفور لا ينتظر أن يسأله سائل ومنها أن الكلام في سياق النهى عن موالاة الكفار والأمر بموالاة المؤمنين كما يدل عليه سياق الكلام وسيجئ إن شاء الله تمام الكلام على هذه الآية فإن الرافضة لا يكادون يحتجون بحجة إلا كانت حجة عليهم لا لهم كاحتجاجهم بهذه الآية على الولاية التي هي الإمارة وإنما هي في الولاية التي هي ضد العداوة والرافضة مخالفون لها والإسماعيلية والنصيرية ونحوهم يوالون الكفار من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين ويعادون المؤمنين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين وهذا أمر مشهور فيهم يعادون خيار عباد الله المؤمنين ويوالون اليهود والنصارى والمشركين من الترك وغيرهم وقال تعالى يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين سورة الأنفال أي الله كافيك وكافي من اتبعك من المؤمنين والصحابة أفضل من اتبعه من المؤمنين وأولهم |
2 | 33 | وقال تعالى إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا والذين رآهم النبي صلى الله عليه وسلم يدخلون في دين الله أفواجا هم الذين كانوا على عصره وقال تعالى هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم سورة الأنفال وإنما أيده في حياته بالصحابة وقال تعالى والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون سورة الزمر وهذا الصنف الذي يقول الصدق ويصدق به خلاف الصنف الذي يفتري الكذب أو يكذب بالحق لما جاءه كما سنبسط القول فيهما إن شاء الله والصحابة الذين كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن القرآن حق هم أفضل من جاء بالصدق وصدق به بعد الأنبياء |
2 | 34 | وليس في الطوائف المنتسبة إلى القبلة أعظم افتراء للكذب على الله وتكذيبا بالحق من المنتسبين إلى التشيع ولهذا لا يوجد الغلو في طائفة أكثر مما يوجد فيهم ومنهم من ادعى إلهية البشر وادعى النبوة في غير النبي صلى الله عليه وسلم وادعى العصمة في الأئمة ونحو ذلك مما هو أعظم مما يوجد في سائر الطوائف واتفق أهل العلم على أن الكذب ليس في طائفة من الطوائف المنتسبين إلى القبلة أكثر منه فيهم قال تعالى قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى سورة النمل قال طائفة من السلف هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ولا ريب أنهم أفضل المصطفين من هذه الأمة التي قال الله فيها ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق الخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب سورة فاطر فأمه محمد صلى الله عليه وسلم هم |
2 | 35 | الذين أورثوا الكتاب بعد الأمتين قبلهم اليهود والنصارى وقد أخبر الله أنهم الذين اصطفى وتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ومحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه هم المصطفون من المصطفين من عباد الله |
2 | 36 | قال تعالى محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فأزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما سورة الفتح وقال تعالى وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون سورة النور فقد وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالإستخلاف كما وعدهم في تلك الآية مغفرة وأجرا عظيما والله لا يخلف الميعاد فدل ذلك على أن الذين استخلفهم كما استخلف الذين من قبلهم ومكن لهم دين الإسلام وهو الدين الذي ارتضاه لهم كما قال تعالى ورضيت لكم الإسلام دينا |
2 | 37 | سورة المائدة وبدلهم من بعد خوفهم أمنا لهم منه المغفرة والأجر العظيم وهذا يستدل به من وجهين يستدل به على أن المستخلفين مؤمنون عملوا الصالحات لأن الوعد لهم لا لغيرهم ويستدل به على أن هؤلاء مغفور لهم ولهم مغفرة وأجر عظيم لأنهم آمنوا وعملوا الصالحات فتناولتهم الآيتان آية النور وآية الفتح ومن المعلوم أن هذه النعوت منطبقة على الصحابة على زمن أبي بكر وعمر وعثمان فإنه إذ ذاك حصل الإستخلاف وتمكن الدين والأمن بعد الخوف لما قهروا فارس والروم وفتحوا الشام والعراق ومصر وخراسان وإفريقية ولما قتل عثمان وحصلت الفتنة لم يفتحوا شيئا من بلاد الكفار بل طمع فيهم الكفار بالشام وخراسان وكان بعضهم يخاف بعضا وحينئذ فقد دل القرآن على إيمان أبي بكر وعمر وعثمان ومن كان معهم في زمن الإستخلاف والتمكين والأمن والذين كانوا في زمن الإستخلاف والتمكين والأمن وأدركوا زمن الفتنة كعلي وطلحة والزبير وأبي موسى الأشعري ومعاوية وعمرو بن العاص دخلوا في الآية لأنهم استخلفوا ومكنوا وأمنوا |
2 | 38 | وأما من حدث في زمن الفتنة كالرافضة الذين حدثوا في الإسلام في زمن الفتنة والإفتراق وكالخوارج المارقين فهؤلاء لم يتناولهم النص فلم يدخلو فيمن وصف بالإيمان والعمل الصالح المذكورين في هذه الآية لأنهم أولا ليسو من الصحابة المخاطبين بهذا ولم يحصل لهم من الإستخلاف والتمكين والأمن بعد الخوف ما حصل للصحابة بل لا يزالون خائفين مقلقلين غير ممكنين فإن قيل لم قال وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم سورة الفتح ولم يقل وعدهم كلهم قيل كما قال وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات سورة النور ولم يقل وعدكم ومن تكون لبيان الجنس فلا يقتضي أن يكون قد بقى من المجرور بها شيء خارج عن ذلك الجنس كما في قوله تعالى فاجتنبوا الرجس من الأوثان سورة الحج فإنه لا يقتضى أن يكون من الأوثان ما ليس برجس وإذا قلت ثوب من حرير فهو كقولك ثوب حرير وكذلك قولك باب من حديد كقولك باب حديد وذلك لا يقتضى أن يكون هناك حرير وحديد غير المضاف إليه وإن كان الذي يتصوره كليا |
2 | 39 | فإن الجنس الكلي هو ما لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه وإن لم يكن مشتركا فيه في الوجود فإذا كانت من لبيان الجنس كان التقدير وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات من هذا الجنس وإن كان الجنس كلهم مؤمنين مصلحين وكذلك إذا قال وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات من هذا الجنس والصنف مغفرة وأجرا عظيما لم يمنع ذلك أن يكون جميع هذا الجنس مؤمنين صالحين ولما قال لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نوتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما سورة الأحزاب لم يمنع أن يكون كل منهن تقنت لله ورسوله وتعمل صالحا ولما قال تعالى وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم سورة الأنعام لم يمنع هذا أن يكون كل منهم متصفا بهذه الصفة و يجوز أن يقال إنهم لو عملوا سوءا بجهالة ثم تابوا من بعده وأصلحوا لم يغفر إلا لبعضهم |
2 | 40 | ولهذا تدخل من هذه في النفي لتحقيق نفي الجنس كما في قوله تعالى وما ألتناهم من عملهم من شيء سورة الطور وقوله وما من إله إلا الله سورة آل عمران وقوله فما منكم من أحد عن حاجزين سورة الحاقة ولهذا إذا دخلت في النفي تحقيقا أو تقديرا أفادت نفى الجنس قطعا فالتحقيق ما ذكر والتقدير كقوله تعالى لا إله إلا الله سورة آل عمران وقوله لا ريب فيه سورة البقرة ونحو ذلك بخلاف ما إذا لم تكن من موجودة كقولك ما رأيت رجلا فإنها ظاهرة لنفى الجنس ولكن قد يجوز أن ينفى بها الواحد من الجنس كما قال سيبويه يجوز أن يقال ما رأيت رجلا بل رجلين فتبين أنه يجوز إرادة الواحد وإن كان الظاهر نفى الجنس بخلاف ما إذا دخلت من فإنها تنفى نفي الجنس قطعا ولهذا لو قال لعبيده من أعطاني منكم ألفا فهو حر فأعطاه كل واحد ألفا عتقوا كلهم وكذلك لو قال لنسائه من أبرأتني منكن من صداقها فهي طالق فأبرأنه كلهن طلقن كلهن فإن المقصود بقوله منكم بيان جنس المعطى والمبرئ لا إثبات هذا الحكم لبعض العبيد والأزواج فإن قيل فهذا كما لا يمنع أن يكون كل المذكور متصفا بهذه الصفة |
2 | 41 | فلا يوجب ذلك أيضا فليس في قوله وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ما يقتضي أن يكونوا كلهم كذلك قيل نعم ونحن لا ندعى أن مجرد هذا اللفظ دل على أن جميعهم موصوفون بالإيمان والعمل الصالح ولكن مقصودنا أن من لا ينافي شمول هذا الوصف لهم فلا يقول قائل إن الخطاب دل على أن المدح شملهم وعمهم بقوله محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم إلى آخر الكلام ولا ريب أن هذا مدح لهم مدح بما ذكر من الصفات وهو الشدة على الكفار والرحمة بينهم والركوع والسجود يبتغون فضلا من الله ورضوانا والسيما في وجوههم من أثر السجود وأنهم يبتدئون من ضعف إلى كمال القوة والإعتدال كالزرع والوعد بالمغفرة والأجر العظيم ليس على مجرد هذه الصفات بل على الإيمان والعمل الصالح فذكر ما به يستحقون الوعد و إن كانوا كلهم بهذه الصفة ولولا ذكر ذلك لكان يظن أنهم بمجرد ما ذكر يستحقون المغفرة والأجر العظيم ولم يكن فيه بيان سبب الجزاء بخلاف ما إذا ذكر الإيمان |
2 | 42 | والعمل الصالح فإن الحكم إذا علق باسم مشتق مناسب كان ما منه الإشتقاق سبب الحكم فإن قيل فالمنافقون كانوا في الظاهر مسلمين قيل المنافقون لم يكونوا متصفين بهذه الصفات ولم يكونوا مع الرسول والمؤمنين ولم يكونوا منهم كما قال تعالى فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين سورة المائدة وقوله تعالى ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين سورة العنكبوت وقال إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة سورة النساء إلى قوله إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما سورة النساء |
2 | 43 | وقال تعالى ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون سورة التوبة وقال تعالى ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون سورة المجادلة فأخبر أن المنافقين ليسوا من المؤمنين ولا من أهل الكتاب وهؤلاء لا يوجدون في طائفة من المتظاهرين بالإسلام أكثر منهم في الرافضة ومن انضوى إليهم وقد قال تعالى يوم لا يخزى الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير سورة التحريم وقال تعالى يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا سورة الحديد فدل هذا على أن المنافقين لم يكونوا داخلين في الذين آمنوا معه والذين كانوا منافقين منهم من تاب عن نفاقه وانتهى عنه وهم الغالب بدليل قوله تعالى لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا سورة الأحزاب |
2 | 44 | فلما لم يغره الله بهم ولم يقتلهم تقتيلا بل كانوا يجاورونه بالمدينة دل ذلك على أنهم انتهوا والذين كانوا معه بالحديبية كلهم بايعه تحت الشجرة إلا الجد بن قيس فإنه اختبأ تحت جمل أحمر وكذا جاء في الحديث كلهم يدخل الجنة إلا صاحب الجمل الأحمر |
2 | 45 | وبالجملة فلا ريب أن المنافقين كانوا مغمورين أذلاء مقهورين لا سيما في آخر أيام النبي صلى الله عليه وسلم وفي غزوة تبوك لأن الله تعالى قال يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون سورة المنافقين فأخبر أن العزة للمؤمنين لا للمنافقين فعلم أن العزة والقوة كانت في المؤمنين وأن المنافقين كانوا أذلاء بينهم فيمتنع أن يكون الصحابة الذين كانوا أعز المسلمين من المنافقين بل ذلك يقتضى أن من كان أعز كان أعظم إيمانا ومن المعلوم أن |
2 | 46 | السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الخلفاء الراشدين وغيرهم كانوا أعز الناس وهذا كله مما يبين أن المنافقين كانوا ذليلين في المؤمنين فلا يجوز أن يكون الأعزاء من الصحابة منهم ولكن هذا الوصف مطابق للمتصفين به من الرافضة وغيرهم والنفاق والزندقة في الرافضة أكثر منه في سائر الطوائف بل لا بد لكل منهم من شعبة نفاق فإن أساس النفاق الذي بنى عليه الكذب وأن يقول الرجل بلسانه ما ليس في قلبه كما أخبر الله تعالى عن المنافقين أنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم والرافضة تجعل هذا من أصول دينها وتسميه التقية وتحكى هذا عن أئمة أهل البيت الذين برأهم الله عن ذلك حتى يحكوا عن جعفر الصادق أنه قال التقية دينى ودين آبائي وقد نزه الله المؤمنين من أهل البيت وغيرهم عن ذلك بل كانوا من أعظم الناس صدقا وتحقيقا للإيمان وكان دينهم التقوى لا التقية وقول الله تعالى لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة |
2 | 47 | سورة آل عمران إنما هو الأمر بالإتقاء من الكفار لا الأمر بالنفاق والكذب والله تعالى قد أباح لمن أكره على كلمة الكفر أن يتكلم بها إذا كان قلبه مطمئنا بالإيمان لكن لم يكره أحد من أهل البيت على شيء من ذلك حتى أن أبا بكر رضي الله عنه لم يكره أحدا لا منهم ولا من غيرهم على مبايعته فضلا أن يكرههم على مدحه والثناء عليه بل كان علي وغيره من أهل البيت يظهرون ذكر فضائل الصحابة والثناء عليهم والترحم عليهم والدعاء لهم ولم يكن أحد يكرههم على شيء منه باتفاق الناس وقد كان في زمن بنى أمية وبنى العباس خلق عظيم دون علي وغيره في الإيمان والتقوى يكرهون منهم أشياء ولا يمدحونهم ولا يثنون عليهم ولا يقربونهم ومع هذا لم يكن هؤلاء يخافونهم ولم يكن أؤلئك يكرهونهم مع أن الخلفاء الراشدين كانوا باتفاق الخلق |
2 | 48 | أبعد عن قهر الناس وعقوبتهم على طاعتهم من هؤلاء فإذا لم يكن الناس مع هؤلاء مكرهين على أن يقولوا بألسنتهم خلاف ما في قلوبهم فكيف يكونون مكرهين مع الخلفاء على ذلك بل على الكذب وشهادة الزور وإظهار الكفر كما تقوله الرافضة من غير أن يكرههم أحد على ذلك فعلم أن ما تتظاهر به الرافضة هو من باب الكذب والنفاق وأن يقولوا بألسنتهم ما ليس في قلوبهم لا من باب ما يكره المؤمن عليه من التكلم بالكفر وهؤلاء أسرى المسلمين في بلاد الكفار غالبهم يظهرون دينهم والخوارج مع تظاهرهم بتكفير الجمهور وتكفير عثمان وعلي ومن والاهما يتظاهرون بدينهم وإذا سكنوا بين الجماعة سكنوا على الموافقة والمخالفة والذي يسكن في مدائن الرافضة فلا يظهر الرفض وغايته إذا ضعف أن يسكت عن ذكر مذهبه لا يحتاج أن يتظاهر بسبب الخلفاء والصحابة إلا أن يكونوا قليلا فكيف يظن بعلي رضي الله عنه وغيره من أهل البيت أنهم كانوا أضعف دينا وقلوبا من الأسرى في بلاد الكفر ومن عوام أهل |
2 | 49 | السنة ومن النواصب مع أنا قد علمنا بالتواتر أن أحدا لم يكره عليا ولا أولاده على ذكر فضائل الخلفاء والترحم عليهم بل كانوا يقولون ذلك من غير إكراه ويقوله أحدهم لخاصته كما ثبت ذلك بالنقل المتواتر وأيضا فقد يقال في قوله تعالى وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات سورة النور إن ذلك وصف للجملة بوصف يتضمن حالهم عند الإجتماع كقوله تعالى ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار سورة الفتح والمغفرة والأجر في الآخرة يحصل لكل واحد واحد فلا بد أن يتصف بسبب ذلك وهو الإيمان والعمل الصالح إذ قد يكون في الجملة منافق وفي الجملة كل ما في القرآن من خطاب المؤمنين والمتقين |
2 | 50 | والمحسنين ومدحهم والثناء عليهم فهم أول من دخل في ذلك من هذه الأمة وافضل من دخل في ذلك من هذه الأمة كما استفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه قال خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم الوجه الثاني في بيان كذبه وتحريفه فيما نقله عن حال الصحابة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم قوله فبعضهم طلب الأمر لنفسه بغير حق وبايعه أكثر الناس طلبا للدنيا وهذا إشارة إلى أبي بكر فإنه هو الذي بايعه أكثر الناس ومن المعلوم أن أبا بكر لم يطلب الأمر لنفسه لا بحق ولا بغير حق بل قال قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين إما عمر بن الخطاب وإما أبا عبيدة قال عمر فوالله لأن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثم أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر وهذا اللفظ في الصحيحين |
2 | 51 | وقد روى عنه أيضا أنه قال أقيلوني أقيلوني فالمسلمون أختاروه وبايعوه لعلمهم بأنه خيرهم كما قال له عمر يوم السقيفة بمحضر المهاجرين والأنصار أنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينكر ذلك أحد وهذا أيضا في الصحيحين والمسلمون اختاروه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لعائشة ادعى لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه الناس من بعدي ثم قال يأبى الله |
2 | 52 | والمؤمنون إلا أبا بكر فأبى الله وعباده المؤمنون أن يتولى غير أبي بكر فالله هو ولاه قدرا وشرعا وأمر المؤمنين بولايته وهداهم إلى أن ولوه من غير أن يكون طلب ذلك لنفسه الوجه الثالث أن يقال فهب أنه طلبها وبايعه أكثر الناس فقولكم إن ذلك طلب للدنيا كذب ظاهر فإن أبا بكر رضي الله عنه لم يعطهم دنيا وكان قد أنفق ماله في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولما رغب النبي صلى الله عليه وسلم في الصدقة جاء بماله كله فقال له ما تركت لأهلك قال تركت لهم الله ورسوله |
2 | 53 | والذين بايعوه هم أزهد الناس في الدنيا وهو الذين أثنى الله عليهم وقد علم الخاص والعام زهد عمر وأبي عبيدة وأمثالهما وإنفاق الأنصار أموالهم كأسيد بن حضير وأبي طلحة وأبي أيوب وأمثالهم ولم يكن عند موت النبي صلى الله عليه وسلم لهم بيت مال يعطيهم ما فيه ولا كان هناك ديوان للعطاء يفرض لهم فيه فالأنصار كانوا في أملاكهم وكذلك المهاجرون من كان له شيء من مغنم أو غيره فقد كان له وكانت سيرة أبي بكر في قسم الأموال التسوية وكذلك سيرة علي رضي الله عنه فلو بايعو عليا أعطاهم أبو بكر مع كون قبيلته أشرف القبائل وكون بني عبد مناف وهم أشرف قريش الذين هم أقرب العرب من بني أمية وغيرهم إذ ذاك كأبي سفيان بن حرب وغيره وبني هاشم كالعباس وغيره كانوا معه |
2 | 54 | وقد أراد أبو سفيان أن تكون الإمارة في بني عبد مناف على عادة الجاهلية فلم يجبه إلى ذلك علي ولا عثمان ولا غيرهما لعلمهم ودينهم فأي رياسة وأي مال كان لجمهور المسلمين بمبايعة أبي بكر لا سيما وهو يسوي بين السابقين الأولين وبين آحاد المسلمين في العطاء ويقول إنما أسلموا لله وأجورهم على الله وإنما هذا المتاع بلاغ وقال لعمر لما أشار عليه بالتفضيل في العطاء أفأشتري منهم إيمانهم فالسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين بايعوه أولا كعمر وأبي عبيدة وأسيد بن حضير وغيرهم سوى بينهم وبين الطلقاء الذين أسلموا عام الفتح بل وبين من أسلم بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فهل حصل لهؤلاء من الدنيا بولايته شيء |
2 | 55 | الوجه الرابع أن يقال أهل السنة مع الرافضة كالمسلمين مع النصارى فإن المسلمين يؤمنون بأن المسيح عبدالله ورسوله ولا يغلون فيه غلو النصارى ولا يجفون جفاء اليهود والنصارى تدعي فيه الإلهية وتريد أن تفضله على محمد وإبراهيم وموسى بل تفضل الحواريين على هؤلاء الرسل كما تريد الروافض أن تفضل من قاتل مع علي كمحمد ابن أبي بكر والأشتر النخعي على أبي بكر وعمر وعثمان وجمهور الصحابة من المهاجرين والأنصار فالمسلم إذا ناظر النصراني لا يمكنه أن يقول في عيسى إلا الحق لكن إذا أردت أن تعرف جهل النصراني وأنه لا حجة له فقدر المناظرة بينه وبين اليهودي فإن النصراني لا يمكنه أن يجيب عن شبهة اليهودي إلا بما يجيب به المسلم فإن لم يدخل في دين الإسلام وإلا كان منقطعا مع اليهودي فإنه إذا أمر بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فإن قدح في نبوته بشيء من الأشياء لم يمكنه أن يقول شيئا إلا قال له اليهودي في المسيح ما هو أعظم من ذلك فإن البينات لمحمد أعظم من البينات للمسيح وبعد أمر محمد عن الشبهة أعظم من بعد المسيح عن |
2 | 56 | الشبهة فإن جاز القدح فيما دليله أعظم وشبهته أبعد عن الحق فالقدح فيما دونه أولى وإن كان القدح في المسيح باطلا فالقدح في محمد أولى بالبطلان فإنه إذا بطلت الشبهة القوية فالضعيفة أولى بالبطلان وإذا ثبتت الحجة التي غيرها أقوى منها فالقوية أولى بالثبات ولهذا كان مناظرة كثيرة من المسلمين للنصارى من هذا الباب كالحكاية المعروفة عن القاضي أبي بكر بن الطيب لما أرسله المسلمون إلى ملك النصارى بالقسطنطينية فإنهم عظموه وعرف النصارى قدره فخافوا أن لا يسجد للملك إذا دخل فأدخلوه من باب صغير ليدخل منحنيا ففطن لمكرهم فدخل مستدبرا متلقيا لهم بعجزه ففعل نقيض ما قصدوه ولما جلس وكلموه أراد بعضهم القدح في المسلمين فقال له ما قيل في عائشة امرأة نبيكم يريد إظهار قول الإفك الذي يقوله من يقوله من الرافضة أيضا فقال القاضي ثنتان قدح فيهما ورميتا بالزنا إفكا وكذبا مريم وعائشة فأما مريم فجاءت بالولد تحمله من غير زوج وأما عائشة فلم تأت بولد مع أنه كان لها زوج فأبهت النصارى |
2 | 57 | وكان مضمون كلامه أن ظهور براءة عائشة أعظم من ظهور براءة مريم وأن الشبهة إلى مريم أقرب منها إلى عائشة فإذا كان مع هذا قد ثبت كذب القادحين في مريم فثبوت كذب القادحين في عائشة أولى ومثل هذه المناظرة أن يقع التفضيل بين طائفتين ومحاسن إحداهما أكثر وأعظم ومساويها أقل وأصغر فإذا ذكر ما فيها من ذلك عورض بأن مساوئ تلك أعظم كقوله تعالى يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ثم قال وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل سورة البقرة فإن الكفار عيروا سرية من سرايا المسلمين بأنهم قتلوا ابن الحضرمي في الشهر الحرام فقال تعالى هذا كبير وما عليه المشركون من الكفر بالله والصد عن سبيله وعن المسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله فإن هذا صد عما لا تحصل النجاة |
2 | 58 | والسعادة إلا به وفيه من انتهاك المسجد الحرام ما هو أعظم من انتهاك الشهر الحرام لكن هذا النوع قد اشتملت كل من الطائفتين فيه على ما يذم وأما النوع الأول فيكون كل من الطائفتين لا يستحق الذم بل هناك شبه في الموضعين وأدلة في الموضعين وأدلة أحد الصنفين أقوى وأظهر وشبهته أضعف وأخفى فيكون أولى بثبوت الحق ممن تكون أدلته أضعف وشبهته أقوى وهذا حال النصارى واليهود مع المسلمين وهو حال أهل البدع مع أهل السنة لا سيما الرافضة وهكذا أمر أهل السنة مع الرافضة في أبي بكر وعلي فإن الرافضي لا يمكنه أن يثبت إيمان على وعدالته وأنه من أهل الجنة فضلا عن إمامته إن لم يثبت ذلك لأبي بكر وعمر وعثمان وإلا فمتى أراد إثبات ذلك لعلي وحده لم تساعده الأدلة كما أن النصراني إذا أراد إثبات نبوة المسيح دون محمد لم تساعده الأدلة فإذا |
2 | 59 | قالت له الخوارج الذين يكفرون عليا أو النواصب الذين يفسقونه إنه كان ظالما طالبا للدنيا وإنه طلب الخلافة لنفسه وقاتل عليها بالسيف وقتل على ذلك ألوفا من المسلمين حتى عجز عن انفراده بالأمر وتفرق عليه أصحابه وظهروا عليه فقاتلوه فهذا الكلام إن كان فاسدا ففساد كلام الرافضي في أبي بكر وعمر أعظم وإن كان ما قاله في أبي بكر وعمر متوجها مقبولا فهذا أولى بالتوجه والقبول لأنه من المعلوم للخاصة والعامة أن من ولاه الناس باختيارهم ورضاهم من غير أن يضرب أحدا لا بسيف ولا عصا ولا أعطى أحدا ممن ولاه مالا واجتمعوا عليه فلم يول أحدا من أقاربه وعترته ولا خلف لورثته مالا من مال المسلمين وكان له مال قد أنفقه في سبيل الله فلم يأخذ بدله وأوصى أن يرد إلى بيت مالهم ماكان عنده لهم وهو جرد قطيفة وبكر وأمة سوداء ونحو ذلك حتى قال عبدالرحمن بن عوف لعمر أتسلب هذا آل أبي بكر قال كلا والله لا يتحنث فيها أبو بكر وأتحملها أنا وقال يرحمك الله يا أبا بكر لقد أتعبت الأمراء بعدك |
2 | 60 | ثم مع هذا لم يقتل مسلما على ولايته ولا قاتل مسلما بمسلم بل قاتل بهم المرتدين عن دينهم والكفار حتى شرع بهم في فتح الأمصار واستخلف القوي الأمين العبقري الذي فتح الأمصار ونصب الديوان وعمر بالعدل والإحسان فإن جاز للرافضي أن يقول إن هذا كان طالبا للمال والرياسة أمكن الناصبي أن يقول كان علي ظالما طالبا للمال والرياسة قاتل على الولاية حتى قتل المسلمين بعضهم بعضا ولم يقاتل كافرا ولم يحصل للمسلمين في مدة ولايته إلا شر وفتنة في دينهم ودنياهم فإن جاز أن يقال علي كان مريدا لوجه الله والتقصير من غيره من الصحابة أو يقال كان مجتهدا مصيبا وغيره مخطئا مع هذه الحال فأن يقال كان أبو بكر وعمر مريدين وجه الله مصيبين والرافضة مقصرون في معرفة حقهم مخطئون في ذمهم بطريق الأولى والأحرى فإن أبا بكر وعمر كان بعدهما عن شبهة طلب الرياسة والمال أشد من بعد علي عن ذلك وشبهة الخوارج الذين ذموا عليا وعثمان وكفروهما أقرب من شبهة الرافضة الذين ذموا أبا بكر وعمر |
2 | 61 | وعثمان وكفروهم فكيف بحال الصحابة والتابعين الذين تخلفوا عن بيعته أو قاتلوه فشبهتهم أقوى من شبهة من قدح في أبي بكر وعمر وعثمان فإن أولئك قالوا ما يمكننا أن نبايع إلا من يعدل علينا ويمنعنا ممن يظلمنا ويأخذ حقنا ممن ظلمنا فإذا لم يفعل هذا كان عاجزا أو ظالما وليس علينا أن نبايع عاجزا أو ظالما وهذا الكلام إذا كان باطلا فبطلان قول من يقول إن أبا بكر وعمر كانا ظالمين طالبين للمال والرياسة أبطل وأبطل وهذا الأمر لا يستريب فيه من له بصر ومعرفة وأين شبهة مثل أبي موسى الأشعري الذي وافق عمرا على عزل علي ومعاوية وأن يجعل الأمر شورى في المسلمين من شبهة عبدالله بن سبأ وأمثاله الذين يدعون أنه إمام معصوم أو أنه إله أو نبي بل أين شبهة الذين رأوا أن يولوا معاوية من شبهة الذين يدعون أنه إله أو نبي فإن هؤلاء كفار باتفاق المسلمين بخلاف أولئك |
2 | 62 | ومما يبين هذا أن الرافضة تعجز عن إثبات إيمان علي وعدالته مع كونهم على مذهب الرافضة ولا يمكنهم ذلك إلا إذا صاروا من أهل السنة فإذا قالت لهم الخوارج وغيرهم ممن تكفره أو تفسقه لا نسلم أنه كان مؤمنا بل كان كافرا أو ظالما كما يقولون هم في أبي بكر وعمر لم يكن لهم دليل على إيمانه وعدله إلا وذلك الدليل على إيمان أبي بكر وعمر وعثمان أدل فإن احتجوا بما تواتر من إسلامه وهجرته وجهاده فقد تواتر ذلك عن هؤلاء بل تواتر إسلام معاوية ويزيد وخلفاء بني أمية وبني العباس وصلاتهم وصيامهم وجهادهم للكفار فإن ادعوا في واحد من هؤلاء النفاق أمكن الخارجي أن يدعى النفاق وإذا ذكروا شبهة ذكر ما هو أعظم منها وإذا قالوا ما تقوله أهل الفرية من أن أبا بكر وعمر كانا منافقين في الباطن عدوين للنبي صلى الله عليه وسلم أفسدا دينه بحسب الإمكان أمكن الخارجي أن يقول ذلك في علي ويوجه ذلك بأن يقول كان يحسد ابن عمه والعداوة في الأهل وأنه كان يريد فساد دينه فلم |
2 | 63 | يتمكن من ذلك في حياته وحياة الخلفاء الثلاثة حتى سعى في قتل الخليفة الثالث وأوقد الفتنة حتى تمكن من قتل أصحاب محمد وأمته بغضا له وعداوة وأنه كان مباطنا للمنافقين الذين ادعوا فيه الإلهية والنبوة وكان يظهر خلاف ما يبطن لأن دينه التقية فلما أحرقهم بالنار أظهر إنكار ذلك وإلا فكان في الباطن معهم ولهذا كانت الباطنية من أتباعه وعندهم سره وهم ينقلون عنه الباطن الذين ينتحلونه ويقول الخارجي مثل هذا الكلام الذي يروج على كثير من الناس أعظم مما يروج كلام الرافضة في الخلفاء الثلاثة لأن شبه الرافضة أظهر فسادا من شبه الخوارج والنواصب والخوارج أصح منهم عقلا وقصدا والرافضة أكذب وأفسد دينا وإن أرادوا إثبات إيمانه وعدالته بنص القرآن عليه قيل لهم القرآن عام وتناوله له ليس بأعظم من تناوله لغيره وما من آية يدعون اختصاصها به إلا أمكن أن يدعى اختصاصها |
2 | 64 | أو اختصاص مثلها أو أعظم منها بأبي بكر وعمر فباب الدعوى بلا حجة ممكنة والدعوى في فضل الشيخين أمكن منها في فضل غيرهما وإن قالوا ثبت ذلك بالنقل والرواية فالنقل والرواية في أولئك أشهر وأكثر فإن ادعوا تواترا فالتواتر هناك أصح وإن اعتمدوا على نقل الصحابة فنقلهم لفضائل أبي بكر وعمر أكثر ثم هم يقولون إن الصحابة ارتدوا إلا نفرا قليلا فكيف تقبل رواية هؤلاء في فضيلة أحد ولم يكن في الصحابة رافضة كثيرون يتواتر نقلهم فطريق النقل مقطوع عليهم إن لم يسلكوا طريق أهل السنة كما هو مقطوع على النصارى في إثبات نبوة المسيح إن لم يسلكوا طريق المسلمين وهذا كمن أراد أن يثبت فقه ابن عباس دون علي أو فقه ابن عمر دون أبيه أوفقه علقمة والأسود دون ابن مسعود ونحو ذلك من الأمور التي يثبت فيها للشيء حكم دون ما هو أولى بذلك الحكم منه فإن هذا تناقض ممتنع عند من سلك طريق العلم والعدل |
2 | 65 | ولهذا كانت الرافضة من أجهل الناس وأضلهم كما أن النصارى من أجهل الناس والرافضة من أخبث الناس كما أن اليهود من أخبث الناس ففيهم نوع من ضلال النصارى ونوع من خبث اليهود الوجه الخامس أن يقال تمثيل هذا بقصة عمر بن سعد لما خيره عبيدالله بن زياد بين الخروج في السرية التي أرسلها إلى الحسين وبين عزله عن الرى من أقبح القياس فإذا كان عمر بن سعد طالبا للرياسة والمال مقدما على المحرم لأجل ذلك أفيلزم أن يكون السابقون الأولون بهذه الحال وهذا أبوه سعد بن أبي وقاص كان من أزهد الناس في الإمارة والولاية ولما وقعت الفتنة اعتزل الناس في قصره بالعقيق وجاءه عمر ابنه هذا فلامه على ذلك وقال له الناس في المدينة يتنازعون الملك وأنت ههنا فقال اذهب فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي |
2 | 66 | وهذا ولم يكن قد بقى أحد من أهل الشورى غيره وغير علي رضي الله عنهما وهو الذي فتح العراق وأذل جنود كسرى وهو آخر العشرة موتا فإذا لم يحسن أن يشبه بابنه عمر أيشبه به أبو بكر وعمر وعثمان هذا وهم لا يجعلون محمد بن أبي بكر بمنزلة أبيه بل يفضلون محمدا ويعظمونه ويتولونه لكونه آذى عثمان وكان من خواص أصحاب علي لأنه كان ربيبه ويسبون أباه أبا بكر ويلعنونه فلو أن النواصب فعلوا بعمر بن سعد مثل ذلك فمدحوه على قتل الحسين لكونه كان من شيعة عثمان ومن المنتصرين له وسبوا أباه سعدا لكونه تخلف عن القتال مع معاوية والإنتصار لعثمان هل كانت النواصب لو فعلت ذلك إلا من جنس الرافضة بل الرافضة شر منهم فإن أبا بكر أفضل من سعد وعثمان كان أبعد عن استحقاق القتل من الحسين وكلاهما مظلوم شهيد رضي الله عنهما |
2 | 67 | ولهذا كان الفساد الذي حصل في الأمة بقتل عثمان أعظم من الفساد الذي حصل في الأمة بقتل الحسين وعثمان من السابقين الأولين وهو خليفة مظلوم طلب منه أن ينعزل بغير حق فلم ينعزل ولم يدفع عن نفسه حتى قتل والحسين رضي الله عنه لم يكن متوليا وإنما كان طالبا للولاية حتى رأى أنها متعذرة وطلب منه أن يستأسر نفسه ليحمل إلى يزيد مأسورا فلم يجب إلى ذلك وقاتل حتى قتل شهيدا مظلوما فظلم عثمان كان أعظم وصبره وحلمه كان أكمل وكلاهما مظلوم شهيد ولو مثل ممثل طلب علي والحسين للأمر بطلب الإسماعيلية كالحاكم وأمثاله وقال إن عليا والحسين كانا ظالمين طالبين |
2 | 68 | للرياسة بغير حق بمنزلة الحاكم وأمثاله من ملوك بني عبيد أما كان يكون كاذبا مفتريا في ذلك لصحة إيمان علي والحسين ودينهما وفضلهما ولنفاق هؤلاء وإلحادهم وكذلك من شبه عليا والحسين ببعض من قام من الطالبيين أو غيرهم بالحجاز أو الشرق أو الغرب يطلب الولاية بغير حق ويظلم الناس في أموالهم وأنفسهم أما كان يكون ظالما كاذبا فالمشبه لأبي بكر وعمر بعمر بن سعد أولى بالكذب والظلم ثم غاية عمر بن سعد وأمثاله أن يعترف بأنه طلب الدنيا بمعصية يعترف أنها معصية وهذا ذنب كثير وقوعه من المسلمين وأما الشيعة فكثير منهم يعترفون بأنهم إنما قصدوا بالملك إفساد دين الإسلام ومعاداة النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرف ذلك من خطاب الباطنية وأمثالهم من الداخلين في الشيعة فإنهم يعترفون بأنهم في الحقيقة لا يعتقدون دين الإسلام وإنما يتظاهرون بالتشيع لقلة عقل الشيعة وجهلهم ليتوسلوا بهم إلى أغراضهم وأول هؤلاء بل خيارهم هو المختار بن أبي عبيد الكذاب فإنه |
2 | 69 | كان أمير الشيعة وقتل عبيدالله بن زياد وأظهر الإنتصار للحسين حتى قتل قاتله وتقرب بذلك إلى محمد بن الحنفية وأهل البيت ثم ادعى النبوة وأن جبريل يأتيه وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال سيكون في ثقيف كذاب ومبير فكان الكذاب هو المختار بن أبي |
2 | 70 | عبيد وكان المبير هو الحجاج بن يوسف الثقفي ومن المعلوم أن عمر بن سعد أمير السرية التي قتلت الحسين مع ظلمه وتقديمه الدنيا على الدين لم يصل في المعصية إلى فعل المختار بن أبي عبيد الذي أظهر الإنتصار للحسين وقتل قاتله بل كان هذا أكذب وأعظم ذنبا من عمر بن سعد فهذا الشيعي شر من ذلك الناصبي بل والحجاج بن يوسف خير من المختار بن أبي عبيد فإن الحجاج كان مبيرا كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم يسفك الدماء بغير حق والمختار كان كذابا يدعى النبوة وإتيان جبريل |
2 | 71 | إليه وهذا الذنب أعظم من قتل النفوس فإن هذا كفر وإن كان لم يتب منه كان مرتدا والفتنة أعظم من القتل وهذا باب مطرد لا تجد أحدا ممن تذمه الشيعة بحق أو باطل إلا وفيهم من هو شر منه ولا تجد أحدا ممن تمدحه الشيعة إلا وفيمن تمدحه الخوارج من هو خير منه فإن الروافض شر من النواصب والذين تكفرهم أو تفسقهم الروافض هم أفضل من الذين تكفرهم أو تفسقهم النواصب وأما أهل السنة فيتولون جميع المؤمنين ويتكلمون بعلم وعدل ليسو من أهل الجهل ولا من أهل الأهواء ويتبرءون من طريقة الروافض والنوصب جميعا ويتولون السابقين والأولين كلهم ويعرفون قدر الصحابة وفضلهم ومناقبهم ويرعون حقوق أهل البيت التي شرعها الله لهم ولا يرضون بما فعله المختار ونحوه من الكذابين ولا ما فعله الحجاج ونحوه من الظالمين ويعلمون مع هذا مراتب السابقين الأولين فيعلمون أن لأبي بكر وعمر من التقدم والفضائل ما لم يشاركهما فيها أحد من الصحابة لا عثمان ولا علي ولا غيرهما |
2 | 72 | وهذا كان متفقا عليه في الصدر الأول إلا أن يكون خلاف شاذ لا يعبأ به حتى أن الشيعة الأولى أصحاب علي لم يكونوا يرتابون في تقديم أبي بكر وعمر عليه كيف وقد ثبت عن علي من وجوه متواترة أنه كان يقول خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر ولكن كان طائفة من شيعة علي |
2 | 73 | تقدمه على عثمان وهذه المسألة أخفى من تلك ولهذا كان أئمة أهل السنة كلهم متفقين على تقديم أبي بكر وعمر من وجوه متواترة كما هو مذهب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد بن حنبل والثوري والأوزاعي والليث بن سعد وسائر أئمة المسلمين من أهل الفقه والحديث والزهد والتفسير من المتقدمين والمتأخرين وأما عثمان وعلي فكان طائفة من أهل المدينة يتوقفون فيهما وهي إحدى الروايتين عن مالك وكان طائفة من الكوفيين يقدمون عليا وهي أحدى الروايتين عن سفيان الثوري ثم قيل إنه رجع عن ذلك لما اجتمع به أيوب السختياني وقال من قدم عليا على عثمان فقد أزرى |
2 | 74 | بالمهاجرين والأنصار وسائر أئمة السنة على تقديم عثمان وهو مذهب جماهير أهل الحديث وعليه يدل النص والإجماع والإعتبار وأما ما يحكى عن بعض المتقدمين من تقديم جعفر أو تقديم طلحة أو نحو ذلك فذلك في أمور مخصوصة لا تقديما عاما وكذلك ما ينقل عن بعضهم في على |
2 | 75 | وأما قوله وبعضهم اشتبه الأمر عليه ورأى لطالب الدنيا متابعا فقلده وبايعه وقصر في نظره فخفي عليه الحق فاستحق المؤاخذة من الله بإعطاء الحق لغير مستحقه قال وبعضهم قلد لقصور فطنته ورأى الجم الغفير فتابعهم وتوهم أن الكثرة تستلزم الصواب وغفل عن قوله تعالى وقليل ماهم سورة ص وقليل من عبادي الشكور سورة سبأ فيقال لهذا المفتري الذي جعل الصحابة الذين بايعوا أبا بكر ثلاثة أصناف أكثرهم طلبوا الدنيا وصنف قصروا في النظر وصنف عجزوا عنه لأن الشر إما أن يكون لفساد القصد وإما أن يكون للجهل والجهل إما أن يكون لتفريط في النظر وإما أن يكون لعجز عنه وذكر أنه كان في الصحابة وغيرهم من قصر في النظر حين بايع أبا بكر ولو نظر لعرف الحق وهذا يؤاخذ على تفريطه بترك النظر الواجب وفيهم |
2 | 76 | من عجز عن النظر فقلد الجم الغفير يشير بذلك إلى سبب مبايعة أبي بكر فيقال له وهذا من الكذب الذي لا يعحجز عنه أحد والرافضة قوم بهت فلو طلب من هذا المفتري دليل على ذلك لم يكن له على ذلك دليل والله تعالى قد حرم القول بغير علم فكيف إذا كان المعروف ضد ما قاله فلو لم نكن نحن عالمين بأحوال الصحابة لم يجز أن نشهد عليهم بما لا نعلم من فساد القصد والجهل بالمستحق قال تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أؤلئك كان عنه مسئولا سورة الإسراء وقال تعالى ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم سورة آل عمران فكيف إذا كنا نعلم أنهم كانوا أكمل هذه الأمة عقلا وعلما ودينا كما قال فيهم عبدالله بن مسعود من كان منكم مستنا |
2 | 77 | فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد كانوا والله أفضل هذه الأمة وأبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم رواه غير واحد منهم ابن بطة عن قتادة وروى هو غيره بالأسانيد المعروفة إلى زر بن حبيش قال قال عبدالله بن مسعود إن الله تبارك |
2 | 78 | وتعالى نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه وابتعثه برسالته ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون سيئا فهو عند الله سيئ |
2 | 79 | وفي رواية قال أبو بكر بن عياش الراوي لهذا الأثر عن عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه وقد رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعا أن يستخلفوا أبا بكر وقول عبدالله بن مسعود كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا كلام جامع بين فيه حسن قصدهم ونياتهم ببر القلوب وبين فيه كمال المعرفة ودقتها بعمق العلم وبين فيه تيسر ذلك عليهم وامتناعهم من القول بلا علم بقلة التكلف وهذا خلاف ما قاله هذا المفترى الذي وصف أكثرهم بطلب الدنيا وبعضهم بالجهل إما عجزا وإما تفريطا والذي قاله عبدالله حق فإنهم خير هذه الأمة كما تواترت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وهم أفضل الأمة الوسط الشهداء على الناس الذين هداهم الله لما اختلف فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم فليسوا من |
2 | 80 | المغضوب عليهم الذين يتبعون أهواءهم ولا من الضالين الجاهلين كما قسمهم هؤلاء المفترون إلى ضلال وغواة بل لهم كمال العلم وكمال القصد إذا لو لم يكن كذلك للزم أن لا تكون هذه الأمة خير الأمم وأن لا يكونوا خير الأمة وكلاهما خلاف الكتاب والسنة وأيضا فالاعتبار العقلي يدل على ذلك فإن من تأمل أمة محمد صلى الله عليه وسلم وتأمل أحوال اليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين تبين له من فضيلة هذه الأمة على سائر الأمم في العلم النافع والعمل الصالح ما يضيق هذا الموضع عن بسطه والصحابة أكمل الأمة في ذلك بدلالة الكتاب والسنة والإجماع والإعتبار ولهذا لا تجد أحدا من أعيان الأمة إلا وهو معترف بفضل الصحابة عليه وعلى أمثاله وتجد من ينازع في ذلك كالرافضة من أجهل الناس ولهذا لا يوجد في أئمة الفقه الذين يرجع إليهم رافضي ولا في أئمة الحديث ولا في أئمة الزهد والعبادة ولا في الجيوش المؤيدة |
2 | 81 | المنصورة جيش رافضي ولا في الملوك الذين نصروا الإسلام وأقاموه وجاهدوا عدوه من هو رافضي ولا في الوزراء الذين لهم سيرة محمودة من هو رافضي وأكثر ما تجد الرافضة إما في الزنادقة المنافقين الملحدين وإما في جهال ليس لهم علم لا بالمنقولات ولا بالمعقولات قد نشأوا بالبوادي والجبال أو تحيزوا عن المسلمين فلم يجالسوا أهل العلم والدين وإما في ذوي الأهواء ممن قد حصل له بذلك رياسة ومال أو له نسب يتعصب له كفعل أهل الجاهلية وأما من هو عند المسلمين من أهل العلم والدين فليس في هؤلاء رافضي لظهور الجهل والظلم في قولهم وتجد ظهور الرفض في شر الطوائف كالنصيرية والإسماعيلية والملاحدة الطرقية وفيهم من |
2 | 82 | الكذب والخيانة وإخلاف الوعد ما يدل على نفاقهم كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وأذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان زاد مسلم وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم وأكثر ما توجد هذه الثلاث في طوائف أهل القبلة في الرافضة وأيضا فيقال لهذا المفترى هب أن الذين بايعوا الصديق كانوا كما ذكرت إما طالب دنيا وإما جاهل فقد جاء بعد أولئك في قرون الأمة من يعرف كل أحد ذكاءهم وزكاءهم مثل سعيد بن المسيب والحسن البصري وعطاء بن أبي رباح وإبراهيم النخعي وعلقمة والأسود وعبيدة السلماني وطاووس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبي الشعثاء جابر بن زيد |
2 | 83 | وعلي بن زيد وعلي بن الحسين وعبيدالله بن عبدالله بن عتبة وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد بن أبي بكر وأبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام ومطرف بن الشخير ومحمد بن واسع وحبيب العجمي ومالك بن دينار ومكحول والحكم بن عتيبة ويزيد بن أبي حبيب ومن لا يحصى عددهم إلا الله ثم بعدهم مثل أيوب السختياني وعبدالله بن عون ويونس بن عبيد |
2 | 84 | وجعفر بن محمد والزهري وعمرو بن دينار ويحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة بن أبي عبدالرحمن وأبي الزناد ويحيى بن أبي كثير وقتادة ومنصور ابن المعتمر والأعمش وحماد بن أبي سليمان وهشام الدستوائي وسعيد ابن أبي عروبة ومن بعد هؤلاء مثل مالك بن أنس وحماد بن زيد وحماد بن سلمة والليث بن سعد والأوزاعي وأبي حنيفة وابن أبي ليلى وشريك وابن أبي ذئب وابن الماجشون ومن بعدهم مثل يحيى بن سعيد القطان وعبدالرحمن بن مهدي ووكيع بن الجراح وعبدالرحمن بن القاسم وأشهب بن عبدالعزيز وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق ابن راهويه وأبي عبيد وأبي ثور ومن لا يحصى عدده إلا الله ممن ليس لهم غرض في تقديم غير الفاضل لا لأجل رياسة ولا مال وممن هم من أعظم الناس نظرا في العلم وكشفا لحقائقه وهم كلهم متفقون على تفضيل أبي بكر وعمر بل الشيعة الأولى الذين كانوا على عهد علي كانوا يفضلون أبا بكر |
2 | 85 | وعمر وقال ابن القاسم سألت مالكا عن أبي بكر وعمر فقال ما رأيت أحدا ممن أقتدى به يشك في تقديمهما يعنى على علي وعثمان فحكى إجماع أهل المدينة على تقديمهما وأهل المدينة لم يكونوا مائلين إلى بني أمية كما كان أهل الشام بل قد خلعوا بيعة يزيد وحاربهم عام الحرة وجرى بالمدينة ما جرى ولم يكن أيضا قتل علي منهم أحدا كما قتل من أهل البصرة ومن أهل الشام بل كانوا يعدونه من علماء المدينة إلى أن خرج منها وهم |
2 | 86 | متفقون على تقديم أبي بكر وعمر فهؤلاء الذين هم أعلم الناس وأدين الناس يرون تفضيله فضلا عن خلافته وروى البيهقي بإسناده عن الشافعي قال لم يختلف الصحابة والتابعون في تقديم أبي بكر وعمر وقال شريك بن عبدالله بن أبي نمر وقال له قائل أيما أفضل أبو بكر أو علي فقال له أبو بكر فقال له السائل أتقول هذا وأنت من الشيعة فقال نعم إنما الشيعي من يقول هذا والله لقد رقى علي هذه الأعواد فقال ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر أفكنا نرد قوله أفكنا نكذبه والله ما كان كذابا وذكر هذا القاضي عبد الجبار في كتاب تثبيت النبوة له وعزاه إلى كتاب أبي القاسم البلخي الذي صنفه في النقض على ابن الراوندي إعتراضه على الجاحظ |
2 | 87 | فهؤلاء الذين هم أعلم الناس وأدين الناس يرون تفضيله فضلا عن خلافته فكيف يقال مع هذا إن الذين بايعوه كانوا طلاب الدنيا أو جهالا ولكن هذا وصف الطاعن فيهم فإنك لا تجد في طوائف أهل القبلة أعظم جهلا من الرافضة ولا أكثر حرصا على الدنيا وقد تدبرتهم فوجدتهم لا يضيفون إلى الصحابة عيبا إلا وهم أعظم الناس اتصافا به والصحابة أبعد الناس عنه فهم أكذب الناس بلا ريب كمسيلمة الكذاب إذ قال أنا نبي صادق ومحمد كذاب ولهذا يصفون أنفسهم بالإيمان ويصفون الصحابة بالنفاق وهم أعظم الطوائف نفاقا والصحابة أعظم الخلق إيمانا وأما قوله وبعضهم طلب الأمر لنفسه بحق له وبايعه الأقلون الذين أعرضوا عن الدنيا وزينتهما ولم تأخذهم في الله لومة لائم بل |
2 | 88 | أخلصوا لله واتبعوا ما أمروا به من طاعة من يستحق التقديم وحيث حصل للمسلمين هذه البلية وجب على كل أحد النظر في الحق واعتماد الإنصاف وأن يقر الحق مقره ولا يظلم مستحقه فقد قال تعالى ألا لعنة الله على الظالمين سورة هود فيقال له أولا قد كان الواجب أن يقال لما ذهب طائفة إلى كذا وطائفة إلى كذا وجب أن ينظر أي القولين أصح فأما إذا رضيت إحدى الطائفتين باتباع الحق والأخرى باتباع الباطل فإن كان هذا قد تبين فلا حاجة إلى النظر وإن لم يتبين بعد لم يذكر حتى يتبين ويقال له ثانيا قولك إنه طلب الأمر لنفسه بحق له وبايعه الأقلون كذب على علي رضي الله عنه فإنه لم يطلب الأمر لنفسه في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وإنما طلبه لما قتل عثمان وبويع وحينئذ فأكثر الناس كانوا معه لم يكن معه الأقلون وقد اتفق أهل السنة والشيعة على أن عليا لم يدع إلى مبايعته في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان ولا بايعه على ذلك أحد ولكن الرافضة تدعى أنه كان يريد ذلك وتعتقد أنه الإمام المستحق للإمامة دون غيره |
2 | 89 | لكن كان عاجزا عنه وهذا لو كان حقا لم يفدهم فإنه لم يطلب الأمر لنفسه ولا بايعه أحد على ذلك فكيف إذا كان باطلا وكذلك قوله بايعه الأقلون كذب على الصحابة فإنه لم يبايع منهم أحد لعلي في عهد الخلفاء الثلاثة ولا يمكن أحد أن يدعي هذا ولكن غاية ما يقول القائل إنه كان فيهم من يختار مبايعته ونحن نعلم أن عليا لما تولى كان كثير من الناس يختار ولاية معاوية وولاية غيرهما ولما بويع عثمان كان في نفوس بعض الناس ميل إلى غيره فمثل هذا لا يخلو من الوجود وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وبها وما حولها منافقون كما قال تعالى وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سورة التوبة وقد قال تعالى عن المشركين وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم سورة الزخرف فأحبوا أن ينزل القرآن على من يعظمونه من أهل مكة والطائف قال تعالى أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم |
2 | 90 | معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا سورة الزخرف وأما وصفه لهؤلاء بأنهم الذين أعرضوا عن الدنيا وزينتها وأنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم فهذا من أبين الكذب فإنه لم ير الزهد والجهاد في طائفة أقل منه في الشيعة والخوارج المارقون كانوا أزهد منهم وأعظم قتالا حتى يقال في المثل حملة خارجية وحروبهم مع جيوش بني أمية وبني العباس وغيرهما بالعراق والجزيرة وخراسان والمغرب وغيرها معروفة وكانت لهم ديار يتحيزون فيها لا يقدر عليهم أحد وأما الشيعة فهم دائما مغلوبون مقهورون منهزمون وحبهم للدنيا وحرصهم عليها ظاهر ولهذا كاتبوا الحسين رضي الله عنه فلما أرسل إليهم ابن عمه ثم قدم بنفسه غدروا به وباعوا الآخرة بالدنيا وأسلموه إلى عدوه وقاتلوه مع عدوه فأي زهد عند هؤلاء وأي جهاد عندهم وقد ذاق منهم على بن أبي طالب رضي الله عنه من الكاسات المرة ما لا يعلمه إلا الله حتى دعا عليهم فقال اللهم قد |
2 | 91 | سئمتهم وسئموني فأبدلني بهم خيرا منهم وأبدلهم بي شرا مني وقد كانوا يغشونه ويكاتبون من يحاربه ويخونونه في الولايات والأموال هذا ولم يكونوا بعد صاروا رافضة إنما سموا شيعة علي لما افترق الناس فرقتين فرقة شايعت أولياء عثمان وفرقة شايعت عليا رضي الله عنهما فأولئك خيار الشيعة وهم من شر الناس معاملة لعلي بن أبي طالب |
2 | 92 | رضي الله عنه وابنيه سبطى رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانتيه في الدنيا الحسن والحسين وأعظم الناس قبولا للوم اللائم في الحق وأسرع الناس إلى فتنة وأعجزهم عنها يغرون من يظهرون نصره من أهل البيت حتى إذا اطمأن إليهم ولامهم عليه اللائم خذلوه وأسلموه وآثروا عليه الدنيا ولهذا أشار عقلاء المسلمين ونصحاؤهم على الحسين أن لا يذهب إليهم مثل عبدالله بن عباس وعبدالله بن عمر وأبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام وغيرهم لعلمهم بأنهم يخذلونه ولا ينصرونه ولا يوفون له بما كتبوا له إليه وكان الأمر كما رأى هؤلاء ونفذ فيهم دعاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم دعاء علي بن أبي طالب حتى سلط الله عليهم الحجاج بن يوسف فكان لا يقبل |
2 | 93 | من محسنهم ولا يتجاوز عن مسيئهم ودب شرهم إلى من لم يكن منهم حتى عم الشر وهذه كتب المسلمين التي ذكر فها زهاد الأمة ليس فيهم رافضي وهؤلاء المعروفون في الأمة بقول الحق وأنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم ليس فيهم رافضي كيف والرافضي من جنس المنافقين مذهبه التقية فهل هذا حال من لا تأخذه في الله لومة لائم إنما هذه حال من نعته الله في كتابه بقوله يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم سورة المائدة وهذا حال من قاتل المرتدين وأولهم الصديق ومن اتبعه إلى يوم القيامة فهم الذين جاهدوا المرتدين كأصحاب مسيلمة الكذاب ومانعي الزكاة وغيرهما وهم الذين فتحوا الأمصار وغلبوا فارس والروم وكانوا أزهد الناس كما قال عبدالله بن مسعود لأصحابه أنتم أكثر صلاة |
2 | 94 | وصياما من أصحاب محمد وهم كانوا خيرا منكم قالوا ولم يا أبا عبدالرحمن قال لأنهم كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة فهؤلاء هم الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم بخلاف الرافضة فإنهم أشد الناس خوفا من لوم اللائم ومن عدوهم وهم كما قال تعالى يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون سورة المنافقون ولا يعيشون في أهل القبلة إلا من جنس اليهود في أهل الملل ثم يقال من هؤلاء الذين زهدوا في الدنيا ولم تأخذهم في الله لومة لائم ممن لم يبايع أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وبايع عليا فإنه من المعلوم أن في زمن الثلاثة لم يكن أحد منحازا عن الثلاثة مظهرا لمخالفتهم ومبايعة علي بل كل الناس كانوا مبايعين لهم فغاية ما يقال إنهم كانوا يكتمون تقديم علي وليست هذه حال من لا تأخذه في الله لومة لائم وأما في حال ولاية علي فقد كان رضي الله عنه من أكثر الناس لوما لمن معه قلة جهادهم ونكولهم عن القتال فأين هؤلاء الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم من هؤلاء الشيعة وإن كذبوا على أبي ذر من الصحابة وسلمان وعمار وغيرهم فمن المتواتر أن هؤلاء كانوا من أعظم الناس تعظيما لأبي بكر وعمر واتباعا لهما وإنما ينقل عن بعضهم التعنت على عثمان لا على أبي بكر |
2 | 95 | وعمر وسيأتي الكلام على ما جرى لعثمان رضي الله عنه ففي خلافة أبي بكر وعمر وعثمان لم يكن أحد يسمى من الشيعة ولا تضاف الشيعة إلى أحد لا عثمان ولا علي ولا غيرهما فلما قتل عثمان تفرق المسلمون فمال قوم إلى عثمان ومال قوم إلى علي واقتتلت الطائفتان وقتل حينئذ شيعة عثمان شيعة علي وفي صحيح مسلم عن سعد بن هشام أنه أراد أن يغزو في سبيل الله وقدم المدينة فأراد أن يبيع عقارا له بها فيجعله في السلاح والكراع ويجاهد الروم حتى يموت فلما قدم المدينة لقي أناسا من أهل المدينة فنهوه عن ذلك وأخبروه أن رهطا ستة أرادوا ذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فنهاهم نبي الله صلى الله عليه وسلم وقال أليس لكم بي أسوة فلما حدثوه بذلك راجع امرأته وقد كان طلقها وأشهد على رجعتها فأتى ابن عباس وسأله عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ابن عباس ألا أدلك على أعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من قال عائشة رضي الله عنها فأتها فاسألها ثم ائتني فأخبرني بردها عليك قال فانطلقت إليها فأتيت على حكيم بن أفلح فاستلحقته إليها فقال ما أنا بقاربها لأني نهيتها أن تقول في هاتين الشيعتين شيئا فأبت فيهما إلا مضيا قال فأقسمت عليه فجاء فانطلقنا إلى عائشة رضي الله عنها وذكر الحديث |
2 | 96 | وقال معاوية لابن عباس أنت على ملة علي فقال لا على ملة علي ولا على ملة عثمان أنا على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الشيعة أصحاب علي يقدمون عليه أبا بكر وعمر وإنما كان النزاع في تقدمه على عثمان ولم يكن حينئذ يسمى أحد لا إماميا ولا رافضيا وإنما سموا رافضة وصاروا رافضة لما خرج زيد بن علي بن الحسين بالكوفة في خلافة هشام فسألته الشيعة عن أبي بكر وعمر فترحم عليهما فرفضه قوم فقال رفضتموني رفضتموني فسموا رافضة وتولاه قوم زيدية لانتسابهم إليه ومن حينئذ انقسمت الشيعة إلى رافضة إمامية وزيدية وكلما زادوا في البدعة زادوا في الشر فالزيدية خير من الرافضة أعلم وأصدق وأزهد وأشجع ثم بعد أبي بكر عمر بن الخطاب وهو الذي لم تكن تأخذه في |
2 | 97 | الله لومة لائم وكان أزهد الناس باتفاق الخلق كما قيل فيه رحم الله عمر لقد تركه الحق ما له من صديق فصل قال الرافضي وإنما كان مذهب الإمامية واجب الإتباع لوجوه الأول لما نظرنا في المذاهب وجدنا أحقها وأصدقها وأخلصها عن شوائب الباطل وأعظمها تنزيها لله تعالى ولرسله ولأوصيائه وأحسن المسائل الأصولية والفروعية مذهب الإمامية لأنهم اعتقدوا أن الله هو المخصوص بالأزلية والقدم وأن كل ما سواه محدث لأنه واحد وأنه ليس بجسم ولا جوهر وأنه ليس بمركب لأن كل مركب محتاج إلى جزئه لأن جزأه |
2 | 98 | غيره ولا عرض ولا في مكان وإلا لكان محدثا بل نزهوه عن مشابهة المخلوقات وأنه تعالى قادر على جميع المقدورات عدل حكيم لا يظلم أحدا ولا يفعل القبيح وإلا يلزم الجهل أو الحاجة تعالى الله عنهما ويثبت المطيع لئلا يكون ظالما ويعفو عن العاصي أو يعذبه بجرمه من غير ظلم له وأن أفعاله محكمة متقنة واقعة لغرض ومصلحة وإلا لكان عابثا وقد قال سبحانه وتعالى وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين سورة الدخان وأنه أرسل الأنبياء لإرشاد العالم وأنه تعالى غير مرئي ولا مدرك بشيء من الحواس لقوله تعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار سورة الأنعام وأنه ليس في جهة |
2 | 99 | وأن أمره ونهيه وإخباره حادث لاستحالة أمر المعدوم ونهيه وإخباره وأن الأنبياء معصومون عن الخطأ والسهو والمعصية صغيرها وكبيرها من أول العمر إلى آخره وإلا لم يبق وثوق بما يبلغونه فانتفت فائدة البعثة ولزم التنفير عنهم وأن الأئمة معصومون كالأنبياء في ذلك كما تقدم وأخذوا أحكامهم الفروعية عن الأئمة المعصومين الناقلين عن جدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الآخذ ذلك من الله تعلى بوحي جبريل إليه يتناقلون ذلك عن الثقات خلفا عن سلف إلى أن تتصل الرواية بأحد المعصومين ولم يلتفتوا إلى القول بالرأي والإجتهاد وحرموا الأخذ بالقياس والإستحسان إلى آخره |
2 | 100 | فيقال الكلام على هذا من وجوه أحدهما أن يقال ما ذكره من الصفات والقدر لا يتعلق بمسألة الإمامة أصلا بل يقول بمذهب الإمامية من لا يقول بهذا ويقول بهذا من لا يقول بمذهب الإمامية ولا أحدهما مبنى على الآخر فإن الطريق إلى ذلك عند القائلين به هو العقل وأما تعيين الإمام فهو عندهم من السمع فإدخال هذا في مسألة الإمامة مثل إدخال سائر مسائل النزاع وهذا خروج عن المقصود الوجه الثاني أن يقال هذا قول المعتزلة في التوحيد والقدر والشيعة المنتسبون إلى أهل البيت الموافقون لهؤلاء المعتزلة أبعد الناس عن مذاهب أهل البيت في التوحيد والقدر فإن أئمة أهل البيت كعلي وابن عباس ومن بعدهم كلهم متفقون على ما اتفق عليه سائر الصحابة والتابعين لهم بإحسان من إثبات الصفات والقدر والكتب المشتملة على المنقولات الصحيحة مملوءة بذلك ونحن نذكر بعض ما في ذلك عن علي رضي الله عنه وأهل بيته ليتبين أن هؤلاء الشيعة مخالفون لهم في أصول دينهم الوجه الثالث أن ما ذكره من الصفات والقدر ليس من خصائص الشيعة ولاهم أئمة القول به ولا هو شامل لجميعهم بل أئمة بل أئمة ذلك هم |
2 | 101 | المعتزلة وعنهم أخذ ذلك متأخرو الشيعة وكتب الشيعة مملوءة بالإعتماد في ذلك على طرق المعتزلة وهذا كان من أواخر المائة الثالثة وكثر في المائة الرابعة لما صنف لهم المفيد وأتباعه كالموسوي والطوسى وأما قدماء الشيعة فالغالب عليهم ضد هذا القول كما هو قول الهشامين وأمثالهما فإن كان هذا القول حقا أمكن القول به وموافقة المعتزلة مع إثبات خلافة الثلاثة وإن كان باطلا فلا حاجة إليه وإنما |
2 | 102 | ينبغي أن يذكر ما يختص بالإمامة كمسألة إثبات الإثنى عشر وعصمتهم الوجه الرابع أن يقال ما في هذا الكلام من حق فأهل السنة قائلون به أو جمهورهم وما كان فيه من باطل فهو رد فليس اعتقاد ما في هذا القول من الحق خارجا عن أقوال أهل السنة ونحن نذكر ذلك مفصلا الوجه الخامس قوله إنهم اعتقدوا أن الله هو المخصوص بالأزلية والقدم وأن كل ما سواه محدث لأنه واحد وأنه لي بجسم ولا في مكان وإلا لكان محدثا بل نزهوه عن مشابهة الخلوقات فيقال له هذا إشارة إلى مذهب الجهمية والمعتزلة ومضمونه أنه ليس لله علم ولا قدرة ولا حياة وأن أسماءه الحسنى كالعليم والقدير والسميع والبصير والرءوف والرحيم ونحو ذلك لا تدل على صفات له قائمة به وأنه لا يتكلم ولا يرضى ولا يسخط ولا يحب ولا يبغض ولا يريد إلا ما يخلقه منفصلا عنه من الكلام والإرادة وأنه لم يقم به كلام وأما قوله إن الله منزه عن مشابهة المخلوقات |
2 | 103 | فيقال له أهل السنة أحق بتنزيهه عن مشابهة المخلوقات من الشيعة فإن التشبيه والتجسيم المخالف للعقل والنقل لا يعرف في أحد من طوائف الأمة أكثر منه في طوائف الشيعة وهذه كتب المقالات كلها تخبر عن أئمة الشيعة المتقدمين من المقالات المخالفة للعقل والنقل في التشبيه والتجسيم بما لا يعرف نظيره عن أحد من سائر الطوائف ثم قدماء الإمامية ومتأخروهم متناقضون في هذا الباب فقد ماؤهم غلوا في التشبيه والتجسيم ومتأخروهم غلوا في النفى والتعطيل فشاركوا في ذلك الجهمية والمعتزلة دون سائر طوائف الأمة وأما أهل السنة المثبتون لخلافة الثلاثة فجميع أئمتهم وطوائفهم المشهورة متفقون على نفي التمثيل عن الله تعالى والذين أطلقوا لفظ الجسم على الله من الطوائف المثبتين لخلافة الثلاثة كالكرامية هم أقرب إلى صحيح المنقول وصريح المعقول من الذين أطلقوا لفظ الجسم من الإمامية وقد ذكر أقوال الإمامية في ذلك غير واحد منهم ومن غيرهم كما |
2 | 104 | ذكرها ابن النوبختي في كتابه الكبير وكما ذكرها أبو الحسن الأشعري في كتابه المعروف في مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين وكما ذكرها الشهر ستاني في كتابه المعروف بالملل والنحل وكما ذكرها غير هؤلاء وطوائف السنة والشيعة تحكى عن قدماء أئمة الإمامية من منكر |
2 | 105 | التجسيم والتشبيه ما لا يعرف مثله عن الكرامية وأتباعهم ممن يثبت إمامة الثلاثة وأما من لا يطلق على الله اسم الجسم كأئمة أهل الحديث والتفسير والتصوف والفقه مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم وشيوخ المسلمين المشهورين في الأمة ومن قبلهم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان فهؤلاء ليس فيهم من يقول إن الله جسم وإن كان أيضا ليس من السلف والأئمة من قال إن الله ليس بجسم ولكن من نسب التجسيم إلى بعضهم فهو بحسب ما اعتقده من معنى الجسم ورآه لازما لغيره فالمعتزلة والجهمية ونحوهم من نفاة الصفات يجعلون كل من أثبتها مجسما مشبها ومن هؤلاء من يعد من المجسمة والمشبهة من الأئمة المشهورين كمالك والشافعي وأحمد وأصحابهم كما ذكر ذلك أبو حاتم صاحب كتاب الزينة وغيره لما ذكر طوائف المشبهة |
2 | 106 | فقال ومنهم طائفة يقال لهم المالكية ينتسبون إلى رجل يقال له مالك بن أنس ومنهم طائفة يقال لهم الشافعية ينتسبون إلى رجل يقال له الشافعي وشبهة هؤلاء أن الأئمة المشهورين كلهم يثبتون الصفات لله تعالى ويقولون إن القرآن كلام الله ليس بمخلوق ويقولون إن الله يرى في الآخرة هذا مذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان من أهل البيت وغيرهم وهذا مذهب الأئمة المتبوعين مثل مالك بن أنس والثوري والليث بن سعد والأوزاعي وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وداود ومحمد بن خزيمة ومحمد بن نصر المروزي وأبي بكر بن |
2 | 107 | المنذر ومحمد بن جرير الطبري وأصحابهم والجهمية والمعتزلة يقولون من أثبت لله الصفات وقال إن الله يرى في الآخرة والقرآن كلام الله ليس بمخلوق فإنه مجسم مشبه والتجسيم باطل وشبهتهم في ذلك أن الصفات أعراض لا تقوم إلا بجسم وما قام به الكلام وغيره من الصفات لا يكون إلا جسما ولا يرى إلا ما هو جسم أو قائم بجسم ولهذا صار مثبتة الصفات معهم ثلاث طوائف طائفة نازعتهم في المقدمة الأولى وطائفة نازعتهم في المقدمة الثانية وطائفة نازعتهم نزاعا مطلقا في واحدة من المقدمتين ولم تطلق في النفي والإثبات ألفاظا مجملة مبتدعة لا أصل لها في الشرع ولا هي صحيحة في العقل بل اعتصمت بالكتاب والسنة وأعطت العقل حقه فكانت موافقة لصريح المعقول وصحيح المنقول فالطائفة الأولى الكلابية ومن وافقهم والطائفة الثانية الكرامية ومن وافقهم فالأولى قالوا إنه تقوم به الصفات ويرى في الآخرة والقرآن |
2 | 108 | كلام الله قائم بذاته وليست الصفات أعراضا ولا الموصوف جسما لم نسلم أن ذلك ممتنع |
2 | 109 | ثم كثير من الناس يشنع على الطائفة الأولى بأنها مخالفة لصريح العقل والنقل بالضرورة حيث أثبتت رؤية لمرئى لا بمواجهة وأثبتت كلاما لمتكلم يتكلم لا بمشيئته وقدرته وكثير منهم يشنع على الثانية بأنها مخالفة للنظر العقلي الصحيح ولكن مع هذا فأكثر الناس يقولون إن النفاة المخالفين للطائفتين من الجهمية والمعتزلة وأتباعهم من الشيعة أعظم مخالفة لصريح المعقول بل ولضرورة العقل من الطائفتين وأما مخالفة هؤلاء لنصوص الكتاب والسنة وما استفاض عن سلف الأمة فهذا أظهر وأشهر من أن يخفى على عالم ولهذا أسسوا دينهم على أن باب التوحيد والصفات لا يتبع فيه ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع وإنما يتبع فيه ما رأوه بقياس عقولهم وأما نصوص الكتاب والسنة فإما أن يتأولوها وإما أن نفوضوها وإما أن يقولوا مقصود الرسول أن يخيل إلى الجمهور اعتقادا ينتفعون به في الدنيا وإن كان كذبا وباطلا كما يقول ذلك من يقوله من المتفلسفة وأتباعهم وحقيقة قولهم أن الرسل كذبت فيما أخبرت به عن الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر لأجل ما رآوه من مصلحة الجمهور في الدنيا وأما الطائفة الثالثة فأطلقوا في النفي والإثبات ما جاء به الكتاب والسنة وما تنازع النظار في نفيه وإثباته من غير اعتصام بالكتاب والسنة لم توافقهم فيه على ما ابتدعوه في الشرع وخالفوا به العقل بل إما أن يمسكوا عن التكلم بالبدع نفيا وإثباتا وإما أن يفصلوا القول في اللفظ |
2 | 110 | والملفوظ المجمل فما كان في إثباته من حق يوافق الشرع أو العقل أثبتوه وما كان من نفيه حق في الشرع أو العقل نفوه ولا يتصور عندهم تعارض الأدلة الصحيحة العلمية لا السمعية ولا العقلية والكتاب والسنة يدل بالإخبار تارة ويدل بالتنبيه تارة والإرشاد والبيان للأدلة العقلية تارة وخلاصة ما عند أرباب النظر العقلي في الإلهيات من الأدلة اليقينية والمعارف الإلهية قد جاء به الكتاب والسنة مع زيادات وتكميلات لم يهتد إليها إلا من هداه الله بخطابه فكان فيما جاء به الرسول من الأدلة العقلية والمعارف اليقينية فوق ما في عقول جميع العقلاء من الأولين والآخرين وهذه الجملة لها بسط عظيم قد بسط من ذلك ما بسط في مواضع متعددة والبسط التام لا يتحمله هذا المقام فإن لكل مقام مقالا ولكن الرافضة لما اعتضدت بالمعتزلة وأخذوا يذمون أهل السنة بما هم فيه مفترون عمدا أو جهلا ذكرنا ما يناسب ذلك في هذا المقام والمقصود هنا أن أهل السنة متفقون على أن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ولكن لفظ التشبيه في كلام هؤلاء النفاة المعطلة لفظ مجمل فإن أراد بلفظ التشبيه ما نفاه |
2 | 111 | القرآن ودل عليه العقل فهذا حق فإن خصائص الرب تعالى لا يوصف بها شيء من المخلوقات ولا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من صفاته مذهب سلف الأمة وأئمتها أن يوصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل يثبتون لله ما أثبته من الصفات وينفون عن مماثلة المخلوقات يثبتون له صفات الكمال وينفون عنه ضروب الأمثال ينزهونه عن النقص والتعطيل وعن التشبيه والتمثيل إثبات بلا تشبيه وتنزيه بلا تعطيل ليس كمثله شيء رد على الممثلة وهو السميع البصير سورة الشورى رد على المعطلة ومن جعل صفات الخالق مثل صفات المخلوق فهو المشبه المبطل المذموم وإن أراد بالتشبيه أنه لا يثبت لله شيء من الصفات فلا يقال له علم ولا قدرة ولا حياة لأن العبد موصوف بهذه الصفات فلزمه أن لا يقال له حي عليم قدير لأن العبد يسمى بهذه الأسماء وكذلك في كلامه وسمعه وبصره ورؤيته وغير ذلك |
2 | 112 | وهم يوافقون أهل السنة على أن الله موجود حي عليم قادر والمخلوق يقال له موجود حي عليم قدير ولا يقال هذا تشبيه يجب نفيه وهذا مما يدل عليه الكتاب والسنة وصريح العقل ولا يمكن أن يخالف فيه عاقل فإن الله تعالى سمى نفسه بأسماء وسمى بعض عباده بأسماء وكذلك سمي صفاته بأسماء وسمى بعضها صفات خلقه وليس المسمى كالمسمى فسمى نفسه حيا عليما قديرا رءوفا رحيما عزيزا حكيما سميعا بصيرا ملكا مؤمنا جبارا متكبرا كقوله الله لا إله إلا هو الحي القيوم سورة البقرة وقوله إنه عليم قدير سورة الشورى وقال ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم سورة البقرة وقال والله عزيز حكيم سورة البقرة وقال إن الله بالناس لرءوف رحيم سورة الحج وقال إن الله كان سميعا بصيرا سورة النساء وقال هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سورة الحشر وقد سمي بعض عباده حيا فقال يخرج الحي من الميت ويخرج |
2 | 113 | الميت من الحي سورة الروم وبعضهم عليما بقوله وبشروه بغلام عليم سورة الذاريات وبعضهم حليما بقوله فبشرناه بغلام حليم سورة الصافات وبعضهم رءوفا رحيما بقوله بالمؤمنين رءوف رحيم سورة التوبة وبعضهم سميعا بصيرا بقوله فجعلناه سميعا بصيرا سورة الإنسان وبعضهم عزيزا بقوله وقالت امرأة العزيز سورة يوسف وبعضهم ملكا بقوله وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا سورة الكهف وبعضهم مؤمنا بقوله أفمن كان مؤمنا سورة السجدة وبعضهم جبارا متكبرا بقوله كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار سورة غافر ومعلوم أنه لا يماثل الحي الحي ولا العليم العليم ولا العزيز العزيز ولا الرءوف الرءوف ولا الرحيم الرحيم ولا الملك الملك ولا الجبار الجبار ولا المتكبر المتكبر وقال ولا يحيطون بشي من علمه إلا بما شاء سورة البقرة وقال أنزله بعلمه سورة النساء وقال وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه سورة فاطر وقال إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين سورة الذاريات وقال أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة سورة فصلت وفي الصحيحين عن جابر بن عبدالله قال كان رسول الله صلى الله |
2 | 114 | عليه وسلم يعلمنا الإستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول إذا هم أحدكم بالأمر فيركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولاأقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر يسميه خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به وفي حديث عما بن ياسر الذي رواه النسائي وغيره عن عمار بن ياسر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهذا الدعاء اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا وأسألك القصد في |
2 | 115 | الفقر والغنى وأسألك نعيما لا ينفد وقرة عين لا تنقطع وأسألك الرضا بعد القضاء وأسألك برد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين فقد سمى الله ورسوله صفات الله تعلى علما وقدرة وقوة وقد قال الله تعالى الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة سورة الروم وقال وإنه لذوا علم لما علمناه سورة يوسف ومعلوم أنه ليس العلم كالعلم ولا القوة كالقوة ونظائر هذا كثيرة وهذا لازم لجميع العقلاء فإن من نفى بعض ما وصف الله به نفسه كالرضا والغضب والمحبة والبغض ونحو ذلك وزعم أن ذلك يستلزم التشبيه والتجسيم قيل له فأنت تثبت له الإرادة والكلام والسمع والبصر مع أن ما تثبته ليس مثل صفات المخلوقين فقل فيما أثبته مثل قولك فيما نفيته وأثبته الله ورسوله إذ لافرق بينهما فإن قال أنا لا أثبت شيئا من الصفات قيل له فأنت تثبت له الأسماء الحسنى مثل حي وعليم وقدير |
2 | 116 | والعبد يسمى بهذه الأسماء وليس ما تثبت للرب من هذه الأسماء مماثلا لما تثبت للعبد فقل في صفاته نظير قولك ذلك في مسمى أسمائه فإن قال وأنا لا أثبت له الأسماء الحسنى بل أقول هي مجاز أو هي أسماء لبعض مبتدعاته كقول غلاة الباطنية والمتفلسفة قيل له فلا بد أن تعتقد أنه حق قائم بنفسه والجسم موجود قائم بنفسه وليس هو مماثلا له فإن قال أنا لا أثبت شيئا بل أنكر وجود الواجب قيل له معلوم بصريح العقل أن الموجود إما واجب بنفسه وإما غير واجب بنفسه وإما قديم أزلي وإما حادث كائن بعد أن لم يكن وإما مخلوق مفتقر إلى خالق وإما غير مخلوق ولا مفتقر إلى خالق وإما فقير إلى ما سواه وإما غنى عما سواه وغير الواجب بنفسه لا يكون إلا بالواجب بنفسه والحادث لا يكون إلا بقديم والمخلوق لا يكون إلا بخالق والفقير لا يكون إلا بغنى عنه فقد لزم على تقدير النقيضين وجود موجود واجب بنفسه قديم أزلي خالق غني عما سواه وما سواه بخلاف ذلك وقد علم بالحس والضرورة وجود موجود حادث كائن بعد أن لم يكن والحادث لا يكون واجبا بنفسه ولا قديما أزليا ولا خالقا لما سواه ولا غنيا عما سواه فثبت بالضرورة وجود موجودين أحدهما غني والآخر فقير وأحدهما خالق والآخر مخلوق وهما متفقان في كون كل منهما شيئا موجودا ثابتا بل وإذا كان المحدث جسما فكل منهما قائم بنفسه |
2 | 117 | ومن المعلوم أيضا أن أحدهما ليس مماثلا للآخر في حقيقته إذ لو كان كذلك لتماثلا فيما يجب ويجوز ويمتنع وأحدهما يجب قدمه وهو موجود بنفسه وأحدهما غنى عن كل ما سواه والآخر ليس بغنى وأحدهما خالق والآخر ليس بخالق فلو تماثلا للزم أن يكون كل منهما واجب القدم ليس بواجب القدم موجودا بنفسه ليس بموجود بنفسه غنيا عما سواه ليس بغنى عما سواه خالقا ليس بخالق فيلزم اجتماع النقيضين على تقدير تماثلهما وهو منتف بصريح العقل كما هو منتف بنصوص الشرع مع اتفاقهما في أمور أخرى كما أن كلا منهما موجود ثابت له حقيقة وذات هي نفسه والجسم قائم بنفسه وهو قائم بنفسه فعلم بهذه البراهين البينة اتفاقهما من وجه واختلافهما من وجه فمن نفى ما اتفقا فيه كان معطلا قائلا للباطل ومن جعلهما متماثلين كان مشبها قائلا للباطل والله أعلم وذلك لأنهما وإن اتفقا في مسمى ما اتفقا فيه فالله تعالى مختص بوجوده وعلمه وقدرته وسائر صفاته والعبد لا يشركه في شيء من ذلك والعبد أيضا مختص بوجوده وعلمه وقدرته والله تعالى منزه |
2 | 118 | عن مشاركة العبد في خصائصه وإذا اتفقا في مسمى الوجود والعلم والقدرة فهذا المشترك مطلق كلي يوجد في الأذهان لا في الأعيان والموجود في الأعيان مختص لا اشتراك فيه وهذا موضع اضطرب فيه كثير من النظار حيث توهموا أن الإتفاق في مسمى هذه الأشياء يوجب أن يكون الوجود الذي للرب هو الوجود الذي للعبد وطائفة ظنت أن لفظ الوجود يقال بالإشتراك اللفظي وكابروا عقولهم فإن هذه الأسماء عامة قابلة للتقسيم كما يقال الموجود ينقسم إلى واجب وممكن وقديم وحادث ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام واللفظ المشترك كلفظ المشترى الواقع على المبتاع والكوكب لا ينقسم معناه ولكن يقال لفظ المشترى يقال على وكذا وعلى كذا وطائفة ظنت أنها إذا سمت هذا اللفظ ونحوه مشككا لكون الوجود بالواجب أولى منه بالممكن خلصت من هذه الشبهة وليس كذلك فإن تفاضل المعنى المشترك الكلى لا يمنع أن يكون أصل المعنى مشتركا بين اثنين كما أن معنى السواد مشترك بين هذا السواد وهذا السواد وبعضه أشد من بعض |
2 | 119 | وطائفة ظنت أن من قال الوجود متواطئ عام فإنه يقول وجود الخالق زائد على حقيقته ومن قال حقيقته هي وجوده قال إنه مشترك اشتراكا لفظيا وأمثال هذه المقالات التي قد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع وأصل خطأ هؤلاء توهمهم أن هذه الأسماء العامة الكلية يكون مسماها المطلق الكلى هو بعينه ثابتا في هذا المعين وهذا المعين وليس كذلك فإن ما يوجد في الخارج لا يوجد مطلقا كليا لا يوجد إلا معينا مختصا وهذه الأسماء إذا سمي بها كان مسماها مختصا به وإذا سمى بها العبد كان مسماها مختصا به فوجود الله وحياته لا يشركه فيها غيره بل وجود هذا الموجود المعين لا يشركه فيه غيره فكيف بوجود الخالق وإذا قيل قد اشتركا في مسمى الوجود فلا بد أن يتميز أحدهما عن الآخر بما يخصه وهو الماهية والحقيقة التي تخصه قيل اشتراكا في الوجود المطلق الذهني لا اشتراكا في مسمى الحقيقة والماهية والذات والنفس وكما أن حقيقة هذا تخصه |
2 | 120 | فكذلك وجوده يخصه والغلط نشأ من جهة أخذ الوجود مطلقا وأخذ الحقيقة مختصة وكل منهما يمكن أخذه مطلقا ومختصا فالمطلق مساو للمطلق والمختص مساو للمختص فالوجود المطلق مطابق للحقيقة المطلقة ووجوده المختص مطابق لحقيقته المختصة والمسمى بهذا وهذا واحد وإن تعددت جهة التسمية كما يقال هذا هو ذاك فالمشار إليه واحد لكن بوجهين مختلفين وأيضا فإذا اشتركا في مسمى الوجود الكلي فإن أحدهما يمتاز عن الآخر بوجوده الذي يخصه كما أن الحيوانين والإنسانين إذا اشتركا في مسمى الحيوانية والإنسانية فإنه يمتاز أحدهما عن الآخر بحيوانية تخصه وإنسانية تخصه فلو قدر أن الوجود الكلى ثابت في الخارج لكان التمييز يحصل بوجود خاص لا يحتاج أن يقال هو مركب من وجود وماهية فكيف والأمر بخلاف ذلك ومن قال إنه وجود مطلق بشرط سلب كل أمر ثبوتي فقوله أفسد من هذا الأقوال وهذه المعاني مبسوطة في غير هذا الموضع والمقصود أن إثبات الأسماء والصفات لله لا يستلزم أن يكون سبحانه مشبها مماثلا لخلقه وأما قوله إنهم اعتقدوا أن الله هو المخصوص بالأزلية والقدم |
2 | 121 | فيقال أولا جميع المسلمين يعتقدون أن كل ما سوى الله مخلوق حادث بعد أن لم يكن وهو المختص بالقدم والأزلية ثم يقال ثانيا الذي جاء به الكتاب والسنة هو توحيد الإليهة فلا إله إلا هو فهذا هو التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه كما قال تعالى وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم سورة البقرة وقال تعالى وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد سورة النحل وقال وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون سورة الأنبياء ومثل هذا في القرآن كثير كقوله تعالى فاعلم أنه لا إله إلا الله سورة محمد وقوله إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون سورة الصافات وبالجملة فهذا أول ما دعا إليه الرسول وآخره حيث قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وإني رسول الله |
2 | 122 | وقال لعمه أبي طالب يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله وقال من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة وقال لقنوا موتاكم لا إله إلا الله وكل هذه الأحاديث في الصحاح |
2 | 123 | وهذا من أظهر ما يعلم بالإضطرار من دين النبي صلى الله عليه وسلم وهو توحيد الإلهية أنه لا إله إلا الله وأما كون القديم الأزلي واحدا فهذا اللفظ لا يوجد لا في كتاب الله ولا في سنة نبيه بل ولا جاء اسم القديم في أسماء الله تعالى وإن كان من أسمائه الأول والأقوال نوعان فما كان منصوصا في الكتاب والسنة وجب الإقرار به على كل مسلم وما لهم يكن له أصل في النص والإجماع لم يجب قبوله ولا رده حتى يعرف معناه فقول القائل القديم الأزلي واحد وإن الله مخصوص بالأزلية والقدم لفظ مجمل فإن أراد به أن الله بما يستحقه من صفاته اللازمة له هو القديم الأزلي دون مخلوقاته فهذا حق ولكن هذا مذهب أهل السنة والجماعة وإن أراد به أن القديم الأزلي هو الذات التي لا صفات لها لا حياة ولا علم ولا قدرة لأنه لو كان لها صفات لكانت قد شاركتها في القدم ولكانت إلها مثلها |
2 | 124 | فهذا الإسم هو اسم للرب الحي العليم القدير ويمتنع حي لا حياة له وعليم لا علم له وقدير لا قدرة له كما يمتنع مثل ذلك في نظائره وإذا قال القائل صفاته زائدة على ذاته فالمراد أنها زائدة على ما أثبته النفاة لا أن في نفس الأمر ذاتا مجردة عن الصفات وصفات زائدة عليها فإن هذا باطل ومن حكى عن أهل السنة أنهم يثبتون مع الله ذوات قديمة بقدمه وأنه مفتقر إلى تلك الذوات فقد كذب عليهم فإن للنظار في هذا المقام أربعة أقوال ثبوت الصفات وثبوت الأحوال ونفيهما جميعا وثبوت الأحوال دون الصفات |
2 | 125 | فالأول قول جمهور نظار المثبتة الصفاتية يقولون إنه عالم بعلمه وقادر بقدرته وعلمه نفس عالميته وقدرته نفس قادريته وعقلاء النفاة كأبي الحسين البصري وغيره يسلمون أن كونه حيا ليس هو كونه عالما وكونه عالما ليس هو كونه قادرا وكذلك مثبتة الأحوال منهم وهذا بعينه هو مذهب جمهور المثبتة للصفات دون الأحوال ولكن من أثبت الأحوال مع الصفات كالقاضي أبي بكر والقاضي |
2 | 126 | أبي يعلى وأبي المعالي في أول قوله فهؤلاء يتوجه رد النفاة إليهم وأما من نفى الصفات والأحوال جميعا كأبي علي وغيره من المعترلة فهؤلاء يسلمون ثبوت الأسماء والأحكام فيقولون نقول إنه حي عليم قدير فيخبر عنه بذلك ويحكم بذلك ونسميه بذلك فإذا قالوا لبعض الصفاتية أنتم توافقون على أنه خالق عادل وإن لم يقم بذاته خلق وعدل فكذلك حي عليم قدير قيل موافقة هؤلاء لكم لا تدل على صحة قولكم فالسلف والأئمة وجمهور المثبتة يخالفونكم جميعا ويقولون إنه يقوم بذاته أفعاله سبحانه وتعالى ثم هذه الأسماء دلت على خلق ورزق كما دل متكلم ومريد على كلام وإرادة ولكن هؤلاء النفاة جعلوا المتكلم والمريد والخالق والعادل يدل على معان منفصلة عنه وجعلوا الحي والعليم والقدير لا تدل على معان لا قائمة به ولا منفصلة عنه وجعلوا كل ما وصف الرب به نفسه من كلامه ومشيئته وحبه وبغضه ورضاه وغضبه إنما هي مخلوقات منفصلة عنه فجعلوه موصوفا بما هو منفصل عنه فخالفوا صريح العقل والشرع واللغة |
2 | 127 | فإن العقل الصريح يحكم بأن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل لا على غيره فالمحل الذي قامت به الحركة والسواد والبياض كان متحركا أسود أبيض لا غيره وكذلك الذي قام به الكلام والإرادة والحب والبغض والرضا هو الموصوف بأنه المتكلم المريد المحب المبغض الراضي دون غيره وما لم يقم به الصفة لا يتصف بها فما لم يقم به كلام وإرادة وحركة وسواد وفعل لا يقال له متكلم ولا مريد ولا متحرك ولا أسود ولا فاعل وأما إذا لم يكن هناك معنى يتصف به فلا يسمى بأسماء المعاني وهؤلاء سموه حيا عالما قادرا مع أنه عندهم لا حياة له ولا علم ولا قدرة وسموه مريدا متكلما مع أن الإرادة والكلام قائم بغيره وكذلك من سماه خالقا فاعلا مع أنه لم يقم به خلق ولا فعل فقوله من جنس قولهم ونصوص الكتاب والسنة قد أثبتت اتصافه بالصفات القائمة به واللغة توجب أن صدق المشتق مستلزم لصدق المشتق منه فيوجب إذا صدق اسم الفاعل والصفة المشبهة أن يصدق مسمى المصدر فإذا قيل قائم وقاعد كان ذلك مستلزما للقيام والقعود وكذلك إذا قيل فاعل وخالق كان ذلك مستلزما للفعل والخلق وكذلك إذا قيل متكلم ومريد كان ذلك مستلزما للكلام والإرادة وكذلك إذا قيل حي عالم قادر كان ذلك مستلزما للحياة والعلم والقدرة ومن نفى قيام الأفعال وقال لو كان خالقا بخلق لكان إن كان |
2 | 128 | قديما لزم قدم المخلوق وإن كان حادثا لزم أن يكون له خلق آخر فيلزم التسلسل ويلزم قيام الحوادث قد أجابه الناس بأجوبة متعددة كل على أصله فطائفة قالت بقدم الخلق دون المخلوق وعارضوه بالإرادة فإنه يقول إنها قديمة مع أن المراد محدث قالوا فكذلك الخلق وهذا جواب كثير من الحنفية والحنبلية والصوفية وأهل الحديث وغيرهم وطائفة قالت بل الخلق لا يفتقر إلى خلق آخر كما أن المخلوق عنده كله لا يفتقر إلى خلق فإذا لم يفتقر شيء من الحوادث إلى خلق عنده فأن لا يفتقر الخلق الذي به خلق المخلوق إلى خلق أولى وهذا جواب كثير من المعتزلة والكرامية وأهل الحديث والصوفية وغيرهم ثم من هؤلاء من يقول الخلق قائم به ومنهم من يقول قائم بالمخلوق ومنهم من يقول قائم لا في محل كما يقول البصريون من المعتزلة في الإرادة وطائفة التزمت التسلسل ثم هؤلاء صنفان منهم من قال بوجود معان لا نهاية لها في آن واحد وهذا قول ابن عباد وأصحابه |
2 | 129 | ومنهم من قال بل تكون شيئا بعد شيء وهو قول كثير من أئمة الحديث والسنة وأئمة الفلاسفة وأما التسلسل فمن الناس من لم يلتزمه وقال كما أنه يجوز عندكم حوادث منفصلة لا ابتداء لها فكذلك يجوز قيام حوادث بذاته لا ابتداء لها وهذا قول كثير من الكرامية والمرجئة والهشامية وغيرهم ومنهم من قال بل التسلسل جائز في الآثار دون المؤثرات والتزم أنه يقوم بذاته ما لا يتناهى شيئا بعد شيء ويقول إنه لم يزل متكلما بمشيئته ولا نهاية لكلماته وهذا قول أئمة الحديث وكثير من النظار والكلام على قيام الأمور الإختيارية بذاته مبسوط في موضع آخر فهذا قول المعتزلة والشيعة الموافقين لهم وهو قول باطل لأن صفة الإله لا يجب أن تكون إلها كما أن صفة النبي لا يجب أن تكون نبيا |
2 | 130 | وإذا كانت صفة النبي المحدث موافقة له في الحدوث لم يلزم أن تكون نبيا مثله فكذلك صفة الرب اللازمة له إذا كانت قديمة بقدمه لم يلزم أن تكون إلها مثله فهؤلاء مذهبهم نفى صفات الكمال اللازمة لذاته وشبهتهم التي أشار إليها أنها لو كانت قديمة لكان القديم أكثر من واحد كما يقول ابن سينا وأمثاله وأخذ ذلك ابن سينا وأمثاله من المتفلسفة عن المعتزلة فقالوا لو كان له صفة واجبة لكان الواجب أكثر من واحد وهذا تلبيس فإنهم إن أرادوا أن يكون الإله القديم أو الإله الواجب أكثر من واحد فالتلازم باطل فليس يجب أن تكون صفة الإله إلها ولا صفة الإنسان إنسانا ولا صفة النبي نبيا ولا صفة الحيوان حيوانا وإن أرادوا أن الصفة توصف بالقدم كما يوصف الموصوف بالقدم فهو كقول القائل توصف صفة المحدث بالحدوث كما يوصف الموصوف بالحدوث |
2 | 131 | وكذلك إذا قيل توصف بالوجوب كما يوصف الموصوف بالوجوب فليس المراد أنها توصف بوجوب أو قدم أو حدوث على سبيل الإستقلال فإن الصفة لا تقوم بنفسها ولا تستقل بذاتها ولكن المراد أنها قديمة واجبة بقدوم الموصوف ووجوبه إذا عني بالواجب ما لا فاعل له وعنى بالقديم ما لا أول له وهذا حق لا محذور فيه وقد بسط الكلام على هذا بسطا مستوفى في مواضع بين ما في لفظ واجب الوجود والقديم من الإجمال وشبهة نفاة الصفات وهو لم يذكر هنا إلا شيئا مختصرا قد ذكرنا ما يناسب هذا الموضع وبينا في موضع آخر أن لفظ القديم وواجب الوجود فيه أجمال فإذا أريد بالقديم القائم بنفسه أو الفاعل القديم أو الرب القديم ونحو ذلك فالصفة ليست قديمة بهذا الإعتبار بل هي صفة القديم وإذا أريد مالا ابتداء له ولم يسبقه عدم مطلقا فالصفة قديمة وكذلك لفظ واجب الوجود إن أريد به القائم بنفسه الموجود بنفسه فالصفة ليست واجبة بل هي صفة واجب الوجود وإن أريد ما لا فاعل له أو ما ليس له علة فاعلة فالصفة واجبة الوجود وإن أريد به مالا تعلق له بغيره فليس في الوجود واجب الوجود بهذا الإعتبار فإن |
2 | 132 | البارئ تعالى خالق لكل ما سواه فله تعلق بمخلوقاته وذاته ملازمة لصفاته وصفاته ملازمة لذاته وكل من صفاته اللازمة ملازمة لصفته الأخرى وبينا أن واجب الوجود الذي دلت عليه الممكنات والقديم الذي دلت عليه المحدثات الذي هو الخالق الموجود بنفسه الذي لم يزل ولا يزال ويمتنع عدمه فإن تسمية الرب واجبا بذاته وجعل ما سواه ممكنا ليس هو قول أرسطو وقدماء الفلاسفة ولكن كانوا يسمونه مبدءا وعلة ويثبتونه من جهة الحركة الفلكية فيقولون إن الفلك يتحرك للتشبه به فركب ابن سينا وأمثاله مذهبا من قول أولئك وقول المعتزلة فلما قالت المعتزلة الموجود ينقسم إلى قديم وحادث وإن القديم لا صفة له قال هؤلاء إنه ينقسم إلى واجب وممكن والواجب لا صفة له ولما قال أولئك يمتنع تعدد القديم قال هؤلاء يمتنع تعدد الواجب وأما قوله إن كل ما سواه محدث فهذا حق والضمير في ما سواه عائد إلى الله وهو إذا ذكر باسم مظهر |
2 | 133 | أو مضمر دخل في مسمى اسمه صفاته فهي لا تخرج عن مسمى أسمائه فمن قال دعوت الله أو عبدته فهو إنما دعا الحي القيوم العليم القدير الموصوف بالعلم والقدرة وسائر صفات الكمال وأما قوله لأنه واحد وليس بجسم فإن أراد بالواحد ما أراده الله ورسوله بمثل قوله وإلهكم إله واحد سورة البقرة وقوله وهو الواحد القهار سورة الرعد ونحو ذلك فهذا حق وإن أراد بالواحد ما تريده الجهمية نفاة الصفات من أنه ذات مجردة عن الصفات فهذا الواحد لا حقيقة له في الخارج وإنما يقدر في الأذهان لا في الأعيان ويمتنع وجود ذات مجردة عن الصفات ويمتنع |
2 | 134 | وجود حي عليم قدير لا حياة له ولا علم ولا قدرة فإثبات الأسماء دون الصفات سفسطة في العقليات وقرمطة في السمعيات وكذلك قوله ليس بجسم لفظ الجسم فيه إجمال قد يراد به المركب الذي كانت أجزاؤه مفرقة فجمعت أو ما يقبل التفريق والإنفصال أو المركب من مادة وصورة أو المركب من الأجزاء المفردة التي تسمى الجواهر الفردة والله تعالى منزه عن ذلك كله عن أن يكون كان متفرقا فاجتمع أو أن يقبل التفريق والتجزئة التي هي مفارقة بعض الشيء بعضا وانفصاله عنه أو غير ذلك من التركيب الممتنع عليه وقد يراد بالجسم ما يشار إليه أو ما يرى أو ما تقوم به الصفات والله تعالى يرى في الآخرة وتقوم به الصفات ويشير إليه الناس عند الدعاء بأيديهم وقلوبهم ووجوههم وأعينهم فإن أراد بقوله ليس بجسم هذا المعنى |
2 | 135 | قيل له هذا المعنى الذي قصدت نفيه بهذا اللفظ معنى ثابت بصحيح المنقول وصريح المعقول وأنت لم تقم دليلا على نفيه وأما اللفظ فبدعة نفيا وإثباتا فليس في الكتاب ولا السنة ولا قول أحد من سلف الأمة وأئمتها إطلاق لفظ الجسم في صفات الله تعالى لا نفيا ولا إثباتا وكذلك لفظ الجوهر والمتحيز ونحو ذلك من الألفاظ التي تنازع أهل الكلام المحدث فيها نفيا وإثباتا وإن قال كل ما يشار إليه ويرى وترفع إليه الأيدي فإنه لا يكون إلا جسما مركبا من الجواهر الفردة أو من المادة والصورة قيل له هذا محل نزاع فأكثر العقلاء ينفون ذلك وأنت لم تذكر على ذلك دليلا وهذا منتهى نظر النفاة فإن عامة ما عندهم أن تقوم به الصفات ويقوم به الكلام والإرادة والأفعال وما يمكن رؤيته بالأبصار لا يكون إلا جسما مركبا من الجواهر الفردة أو من المادة والصورة ومن يذكرونه من العبارة فإلى هذا يعود وقد تنوعت طرق أهل الإثبات في الرد عليهم فمنهم من سلم لهم أنه يقوم به الأمور الإختيارية من الأفعال وغيرها ولا يكون إلا جسما ونازعهم فيما يقوم به من الصفات التي لا يتعلق منها شيء بالمشيئة والقدرة |
2 | 136 | ومنهم من نازعهم في هذا وهذا وقال بل لا يكون هذا جسما ولا هذا جسما ومنهم من سلم لهم أنه جسم ونازعهم في كون القديم ليس بجسم وحقيقة الأمر أن لفظ الجسم فيه منازعات لفظية ومعنوية والمنازعات اللفظية غير معتبرة في المعاني العقلية وأما المنازعات المعنوية فمثل تنازع الناس فيما يشار إليه إشارة حسية هل يجب أن يكون مركبا من الجواهر الفردة أو من المادة والصورة أو لا يجب واحد منهما فذهب كثير من النظار من المعتزلة والأشعرية ومن وافقهم إلى أنه لا بد أن يكون مركبا من الجواهر الفردة ثم جمهور هؤلاء قالوا إنه مركب من جواهر متناهية وقال بعض النظار بل من جواهر غير متناهية وذهب كثير من النظار من المتفلسفة إلى أنه يجب أن يكون مركبا من المادة والصورة ثم من الفلاسفة من طرد هذا في جميع الأجسام كابن |
2 | 137 | سينا ومنهم من قال بل هذا في الأجسام العنصرية دون الفلكية وزعم أن هذا قول أرسطو والقدماء وكثير من المصنفين لا يذكر إلا هذين القولين ولهذا كان من لم يعرف إلا هذه المصنفات لا يعرف إلا هذين القولين والقول الثالث قول جماهير العقلاء وأكثر طوائف النظار أنه ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا وهذا قول ابن كلاب إمام الأشعري وغيره وهو قول كثير من الكرامية وهو قول الهشامية والنجارية والضرارية |
2 | 138 | ثم هؤلاء منهم من قال ينتهي بالتقسيم إلى جزء لا يتجزأ كقول الشهرستاني وغيره ومنهم من قال بل لا يزال قابلا للإنقسام إلى أن يصغر فيستحيل معه تمييز بعضه عن بعض كما قال ذلك من قال من الكرامية وغيرهم من نظار المسلمين وهو قول من قاله من أساطين الفلاسفة مع قول بعضهم إنه مركب من المادة والصورة وبعض المصنفين في الكلام يجعل إثبات الجوهر الفرد هو قول المسلمين وأن نفيه هو قول الملحدين وهذا لأن هؤلاء لم يعرفوا من الأقوال المنسوبة إلى المسلمين إلا ما وجدوه في كتب شيوخهم أهل الكلام المحدث في الدين الذي ذمه السلف والأئمة كقول أبي يوسف من طلب العلم بالكلام تزندق وقول الشافعي حكمى في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال |
2 | 139 | ويطاف بهم في العشائر والقبائل ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام وكقول أحمد بن حنبل علماء الكلام زنادقة وقوله ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح وأمثال ذلك وإلا فالقول بأن الأجسام مركبة من الجواهر المنفردة قول لا يعرف عن أحد من أئمة المسلمين لا من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا من بعدهم من الأئمة المعروفين بل القائلون بذلك يقولون إن الله تعالى لم يخلق منذ خلق الجواهر المنفردة شيئا قائما بنفسه لا سماء ولا أرضا ولا حيوانا ولا نباتا ولا معادن ولا إنسانا ولا غير إنسان بل إنما يحدث تركيب تلك الجواهر القديمة فيجمعها ويفرقها فإنما يحدث أعراضا قائمة بتلك الجواهر لا أعيانا قائمة بأنفسها فيقولون إنه إذا خلق السحاب والمطر والإنسان وغيره من الحيوان والأشجار والنبات والثمار لم يخلق عينا قائمة بنفسها وإنما خلق أعراضا قائمة بغيرها وهذا خلاف ما دل عليه السمع والعقل والعيان ووجود جواهر لا تقبل القسمة منفردة عن الأجسام مما يعلم بطلانه بالعقل والحس فضلا عن أن يكون الله تعالى لم يخلق عينا قائمة بنفسها إلا ذلك وهؤلاء |
2 | 140 | يقولون إن الأجسام لا يستحيل بعضها إلى بعض بل الجواهر التي كانت مثلا في الأول هي بعينها باقية في الثاني وإنما تغيرت أعراضها وهذا خلاف ما أجمع عليه العلماء أئمة الدين وغيرهم من العقلاء من استحالة بعض الأجسام إلى بعض كاستحالة الإنسان وغيره من الحيوان بالموت ترابا واستحالة الدم والميتة والخنزير وغيرها من الأجسام النجسة ملحا أو رمادا واستحالة العذرات ترابا واستحالة العصير خمرا ثم استحالة الخمر خلا واستحالة ما يأكله الإنسان ويشربه بولا ودما وغائطا ونحو ذلك وقد تكلم علماء المسلمين في النجاسة هل تطهر بالإستحالة أم لا ولم ينكر أحد منهم الإستحالة ومثبتة الجوهر الفرد قد فرعوا عليه من المقالات التي يعلم العقلاء فسادها ببديهة العقل ما ليس هذا موضع بسطه مثل تفليك الرحى والدولاب والفلك وسائر الأجسام المستديرة المتحركة وقول من قال منهم إن الفاعل المختار يفعل كلما تحركت ومثل قول كثير منهم |
2 | 141 | إن الإنسان إذا مات فجميع جواهره باقية قد تفرقت ثم عند الإعادة يجمعها الله تعالى ولهذا صار كثير من حذاقهم إلى التوقف في آخر أمرهم كأبي الحسين البصري وأبي المعالي الجويني وأبي عبدالله الرازي وكذلك ابن عقيل والغزالي وأمثالهما من النظار الذين تبين لهم فساد أقوال هؤلاء يذمون أقوال هؤلاء يقولون إن أحسن أمرهم الشك وإن كانوا قد وافقوهم في كثير من مصنفاتهم على كثير مما قالوه من الباطل وبسط الكلام على فساد قول القائلين بتركيب الجواهر الفردة المحسوسة أو الجواهر المعقولة له موضع آخر وكذلك ما يثبته المشاؤون من الجواهر العقلية كالعقول والنفوس المجردة كالمادة والمدة والمثل الأفلاطونية والأعداد المجردة التي يثبتها أو بعضها كثير من المشائين أتباع فيثاغورس وأفلاطون وأرسطو وإذا حقق الأمر عليهم لم يكن لما أثبتوه من العقليات وجود إلا في الأذهان لا في الأعيان وهذا لبسطه موصع آخر وهذا المصنف لم يذكر لقوله إلا مجرد الدعوى فلذلك لم نبسط القول فيه وإنما المقصود التنبيه على أن آخر ما ينتهى إليه أصل هؤلاء الذي |
2 | 142 | نفوا به ما ثبت بالكتاب والسنة وإجماع السلف بل ولما ثبت بالفطرة العقلية التي اشترك فيها جميع أهل الفطر التي لم تفسد فطرتهم بما تلقنوه من الأقوال الفاسدة بل ولما ثبت بالبراهين العقلية فالذي ينتهى إليه أصلهم هو أنه لو كان متصفا بالصفات أو متكلما بكلام يقوم به ومريدا بما يقوم به من الإرادة الحسية وكانت رؤيته ممكنة في الدنيا أو في الآخرة لكان مركبا من الجواهر المفردة الحسية أو الجواهر العقلية المادة والصورة وهذا التلازم باطل عند جماهير العقلاء فيما نشاهد فإن الناس يرون الكواكب وغيرها من الأجسام وهي عند جماهير العقلاء ليست مركبة لا من هذا ولا من هذا ولو قدر أن هذا التلازم حق فليس في حججهم حجة صحيحة يوجب انتفاؤها اللازم بل كل من الطائفتين تطعن في حجج الفريق الآخر وتبين فسادها فأولئك يقولون إن كل ما كان كذلك فهو محدث ومنازعوهم يطعنون في المقدمتين ويبينون فسادهما والآخرون يقولون إن كل مركب فهو مفتقر إلى أجزائه وأجزاؤه غيره فكل مركب مفتقر إلى غيره ومنازعوهم يثبتون فساد هذه الحجة وما فيها من الألفاظ المجملة والمعاني المتشابهة كما قد بسط في موضع آخر ولهذا يقول من يقول من العقلاء العارفين بحقيقة قول هؤلاء وهؤلاء |
2 | 143 | إن الواحد الذي يثبته هؤلاء لا يتحقق إلا في الأذهان لا في الأعيان ولهذا لما بنى الفلاسفة الدهرية على قولهم بأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحدا كان من أول ما يبين فساد قولهم أو الواحد الذي ادعوا فيه ما ادعوا لا حقيقة له في الخارج بل يمتنع وجوده فيه وإنما يقدر في الأذهان كما يقدر سائر الممتنعات وكذلك سائر الجهمية والمعتزلة نفاة الصفات لما أثبتوا واحدا لا يتصف بشيء من الصفات كانوا عند أئمة العلم الذين يعرفون حقيقة قولهم إنما توحيدهم تعطيل مستلزم لنفى الخالق وإن كانوا قد أثبتوه فهم متناقضون جمعوا بين ما يستلزم نفيه وما يستلزم إثباته ولهذا وصفهم أئمة الإسلام بالتعطيل وأنهم دلاسون ولا يثبتون شيئا ولا يعبدون شيئا ونحو ذلك كما هو موجود في كلام غير واحد من أئمة الإسلام مثل عبد العزيز بن الماجشون وعبدالله بن المبارك وحماد |
2 | 144 | بن زيد ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل وغير هؤلاء ولا بد للدعوى من دليل وكذلك قوله ولا في مكان فقد يراد بالمكان ما يحوى الشيء ويحيط به وقد يراد به ما يستقر الشيء عليه بحيث يكون محتاجا إليه وقد يراد به ما كان الشيء فوقه وإن لم يكن محتاجا إليه وقد يراد به ما فوق العالم وإن لم يكن شيئا موجودا |
2 | 145 | فإن قيل هو في مكان بمعنى إحاطة غيره به وافتقاره إلى غيره فالله منزه عن الحاجة إلى الغير وإحاطة الغير به ونحو ذلك وإن أريد بالمكان ما فوق العالم وما هو الرب فوقه قيل إذا لم يكن إلا خالق أو مخلوق والخالق بائن من المخلوق كان هو الظاهر الذي ليس فوقه شيء وإذا قال القائل هو سبحانه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه فهذا المعنى حق سواء سميت ذلك مكانا أو لم تسمه وإذا عرف المقصود فمذهب أهل السنة والجماعة ما دل عليه الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة وهو القول المطابق لصحيح المنقول وصريح المعقول وأما قوله وإلا لكان محدثا فمضمونه أنه لو كان جسما أو في مكان لكان محدثا فيقال له قد بينا ما ينفى عنه من معاني الجسم والمكان وبينا ما لا يجوز نفيه عنه وإن سماه بعض الناس جسما ومكانا لكن ما الدليل على أنه لو كان كذلك لكان محدثا وأنت لم تذكر دليلا على ذلك |
2 | 146 | وكأنه اكتفى بالدليل المشهور الذي يذكره سلفه وشيوخه المعتزلة من أنه لو كان جسما لم يخل عن الحركة والسكون وما لم يخل عن الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها ثم يقولون ولو كان قام به علم وقدرة وحياة وكلام ونحو ذلك من الصفات لكان جسما وهذا الدليل عنه جوابان أحدهما أن يقال له هو عندك حي عليم قدير ومع هذا فليس بجسم عندك مع أنك لا تعلم حيا عليما قديرا إلا جسما فإن كان قولك حقا أمكن أن يكون له حياة وعلم وقدرة وأن يكون مباينا للعالم عاليا عليه وليس بجسم فإن قلت لا أعقل مباينا عاليا إلا جسما قيل لك ولا يعقل حي عليم قدير إلا جسم فإن أمكن أن يكون مسمى بهذه الأسماء ما ليس بجسم أمكن أن يتصف بهذه الصفات ما ليس بجسم وإلا فلا لأن الإسم مستلزم للصفة |
2 | 147 | وكذلك إذا قال لو كان فوق العالم لكان جسما ولكان إما أكبر من العالم وإما أصغر وإما مساويا له وكل ذلك ممتنع فيقال له إن كثيرا من الناس يقولون إنه فوق العالم وليس بجسم فإذا قال النافي قوله هؤلاء معلوم فساده بضرورة العقل قيل له فأنت تقول إنه موجود قائم بنفسه وليس بداخل في العالم ولا خارج عنه ولا مباين له ولا محايث له وأنه لا يقرب منه شيء ولا يبعد منه شيء ولا يصعد إليه شيء ولا ينزل منه شيء وأمثال ذلك من النفى الذي إذا عرض على الفطرة السليمة جزمت جزما قاطعا أن هذا باطل وأن وجود مثل هذا ممتنع وكان جزمها ببطلان هذا أقوى من جزمها ببطلان كونه فوق العالم وليس بجسم فإن كان حكم الفطرة السليمة مقبولا وجب بطلان مذهبك فلزم أن يكون فوق العالم وإن كان مردودا بطل ردك لقول من يقول إنه فوق العالم وليس بجسم فإن الفطرة الحاكمة بامتناع هذا هي الحاكمة بامتناع هذا فيمتنع قبول حكمها في أحد الموضعين دون الآخر وذلك أن هؤلاء النفاة يزعمون أن الحكم بهذا المنع من حكم الوهم المردود لا من حكم العقل المقبول ويقولون إن الوهم هو أن يدرك في المحسوسات ما ليس بمحسوس كما تدرك الشاة عدواة الذئب |
2 | 148 | وتدركا السخلة صداقة أمها ويقولون الحكم الفطري الموجود في قلوب بني آدم بامتناع وجود مثل هذا هو حكم الوهم لا حكم العقل فإن حكم الوهم إنما يقبل في المحسوسات لا فيما ليس بمحسوس فيقال لهم إن كان هذا صحيحا فقولكم إنه يمتنع أن يكون فوق العالم وليس بجسم هو أيضا من حكم الوهم لأنه حكم فيما ليس بمحسوس عندكم وكذلك حكمه بأن كل ما يرى فلا بد أن يكون بجهة من الرائي هو حكم الوهم أيضا وكذلك سائر ما يدعون امتناعه على الرب هو مثل دعوى امتناع كونه لا مباينا ولا محايثا فإن كان حكم الفطرة بهذا الإمتناع مقبولا في |
2 | 149 | شيء من ذلك قبل في نظيره وإلا فقبوله في أحد المتماثلين ورده في الآخر تحكم وهؤلاء بنوا كلامهم على أصول متناقضة فإن الوهم عندهم قوة في النفس تدرك في المحسوسات ما ليس بمحسوس وهذا الوهم لا يدرك إلا معنى جزئيا لا كليا كالحس والتخيل وأما الأحكام الكلية فهي عقلية فحكم الفطرة بأن كل موجودين إما متحايثان وإما متباينان وبأن ما لا يكون داخل العالم ولا خارجه لا يكون إلا معدوما وأنه يمتنع وجود ما هو كذلك ونحو ذلك أحكام كلية عقلية ليست أحكاما جزئية شخصية في جسم معين حتى يقال إنها من حكم الوهم وأيضا فإنهم يقولون إن حكم الوهم فيما ليس بمحسوس باطل لأنه إنما يدرك ما في المحسوسات من المعاني التي ليست محسوسة أي لا يمكن إحساسها ومعلوم أن كون رب العالمين لا تمكن رؤيته أو تمكن مسألة مشهورة فسلف الأمة وأئمتها وجمهور نظارها وعامتها على أن الله يمكن رؤيته ورؤية الملائكة والجن وسائر ما يقوم بنفسه فإذا ادعى المدعى أنه لا يمكن رؤيته ولا رؤية الملائكة التي يسميها هو المجردات |
2 | 150 | والنفوس والعقول فهو يدعى وجود موجود قائم بنفسه لا يمكن الإحساس به بحال فإذا احتج عليه بالقضايا الفطرية التي تحكم بها الفطرة كما تحكم بسائر القضايا الفطرية لم يكن له أن يقول هذا حكم الوهم فيما ليس بمحسوس فلا يقبل لأن الوهم إنما يدرك ما في المحسوس فإنه يقال له إنما يثبت أن هذا مما لا يمكن أن يرى ويحس به إذا ثبت أن هذا الحكم باطل وإنما يثبت أن هذا الحكم باطل إذا ثبت وجود موجود لا يمكن أن يرى ويحس به وأنت لم تثبت هذا الموجود إلا بدعواك أن هذا الحكم باطل ولم تثبت أن هذا الحكم باطل إلا بدعواك وجود هذا الموجود فصار حقيقة قولك دعوى مجردة بلا دليل فإذا ثبت امتناع رؤيته بإبطال هذا الحكم كان هذا دورا ممتنعا وكنت قد جعلت الشيء مقدمة في إثبات نفسه فإنه يقال لك لم تثبت إمكان وجود غير محسوس إن لم تثبت بطلان هذا الحكم ولا تثبت بطلانه إن لم تثبت موجودا قائما بنفسه لا يمكن رؤيته ولا الإحساس به فإذا قلت الوهم يسلم مقدمات تستلزم ثبوت هذا قيل لك ليس الأمر كذلك فإنه لم يسلم مقدمة مستلزمة لهذا أصلا بل جميع ما ينبنى عليه ثبوت إمكان هذا وإمكان هذا وإمكان وجود ما لا يمكن رؤيته ولا يشار إليه مقدمات متنازع فيها بين العقلاء ليس فيها مقدمة واحدة متفق عليها فضلا عن أن تكون ضرورية أو حسية يسلمها الوهم |
2 | 151 | ثم يقال لك إذا جوزت أن يكون في الفطرة حاكمان بديهيان أحدهما حكمه باطل والآخر حكمه حق لم يوثق بشيء من حكم الفطرة حتى يعلم أن ذلك من حكم الحاكم الحق ولا يعرف عن ذلك حتى يعرف أنه ليس من الحكم الباطل ولا يعرف أنه باطل حتى تعرف المقدمات البديهية الفطرية التي بها يعلم أن ذلك الحكم باطل فيلزم من هذا أن لا يعرف شيء بحكم الفطرة فإنه لا يعرف الحق حتى يعرف الباطل ولا يعرف الباطل حتى يعرف الحق فلا يعرف الحق بحال وأيضا فالأقيسة القادحة في تلك الأحكام الفطرية البديهية أقيسة نظرية والنظريات مؤلفة من البديهيات فلو جاز القدح في البديهيات بالنظريات لزم فساد البديهيات والنظريات فإن فساد الأصل يستلزم فساد فرعه فتبين أن من سوغ القدح في القضايا البديهية الأولية الفطرية بقضايا نظرية فقوله باطل يستلزم فساد العلوم العقلية بل والسمعية وأيضا لفظ الوهم في اللغة العامة يراد به الخطأ وأنت أردت به قوة تدرك ما في الأجسام من المعاني التي ليست محسوسة وحينئذ فالحاكم بهذا الإمتناع إن كان حكم به في غير جسم فليس هو الوهم وإن كان إنما حكم به في جسم فحكمه صادق فيه فلم قلت إن هذا هو حكم الوهم فيما لا يقبل حكمه فيه ومعلوم أن ما تحكم به الفطرة السليمة من القضايا الكلية المعلومة |
2 | 152 | لها ليس فيها ما يحصل بعضه من حكم الوهم الباطل وبعضه من حكم العقل الصادق وإنما يعلم أن الحكم من حكم الوهم الباطل إذا عرف بطلانه فأما أن يدعى بطلانه بدعوى كونه من حكم الوهم فهذا غير ممكن وبسط هذه الأمور له موضع آخر والمقصود هنا أن هذا المبتدع وأمثاله من نفاة ما أثبته الله ورسوله لنفسه من معاني الأسماء والصفات من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من المتفلسفة والرافضة وغيرهم لا يعتمدون فيما يقولونه على دليل صحيح لا سمعي ولا عقلي أما السمعيات فليس معهم نص واحد يدل على قولهم لا قطعا ولا ظاهرا ولكن نصوص الكتاب والسنة متظاهرة على نقيض قولهم ودالة على ذلك أعظم من دلالتها على المعاد والملائكة وغير ذلك مما أخبر الله به رسوله ولهذا سلط الله عليهم الدهرية المنكرون للقيامة ولمعاد الأبدان وقالوا إذا جاز لكم أن تتأولوا ما ورد في الصفات جاز لنا أن نتأول ماورد في المعاد وقد أجابوهم بأنا قد علمنا ذلك بالإضطرار من دين الرسول |
2 | 153 | فقال لهم أهل الإثبات وهكذا العلم بالصفات في الجملة هو مما يعلم بالضرورة مجئ الرسول به وذكره في الكتاب والسنة أعظم من ذكر الملائكة والمعاد مع أن المشركين من العرب لم تكن تنازع فيه كما كانت تنازع في المعاد مع أن التوراة مملوءة من ذلك ولم ينكره الرسول على اليهود كما أنكر عليهم ما حرفوه وما وصفوا به الرب من النقائص كقولهم إن الله فقير ونحن أغنياء سورة آل عمران و يد الله مغلولة سورة المائدة ونحو ذلك وذلك مما يدل على أن الله أظهر في السمع والعقل من المعاد فإذا كانت نصوص المعاد لا يجوز تحريفها فهذا بطريق الأولى وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر والجواب الثاني أن يقال هذا الدليل قد عرف ضعفه لأنه إذا كان هذا الحادث ليس بدائم وهذا ليس بدائم باق يجب أن يكون نوع الحوادث ليست بدائمة باقية كما أنه إذا كان هذا الحادث ليس بباق وهذا الحادث ليس بباق يجب أن يكون نوع الحوادث ليس بباق |
2 | 154 | بل هي باقية دائمة في المستقبل في الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وجمهورها كما قال تعالى أكلها دائم وظلها سورة الرعد والمراد دوام نوعه لا دوام كل فرد فرد قال تعالى لهم فيها نعيم مقيم سورة التوبة والمقيم هو نوعه وقال إن هذا لرزقنا ماله من نفاد سورة ص والمراد أن نوعه لا ينفد وإن كان كل جزء منه ينفد أي ينقضي وينصرم وأيضا فإن ذلك يستلزم حدوث الحوادث بلا سبب وذلك ممتنع في صريح العقل وهذا الدليل هو أصل الكلام الذي ذمه السلف وعابوه لأنهم رأوه باطلا لا يقيم حقا ولا يهدم باطلا وقد تقدم الكلام على هذا في مسألة الحدوث وتمام كشف ذلك أن نقول في الوجه الخامس إن الناس عليهم أن يؤمنوا بالله ورسوله فيصدقوه فيما أخبر ويطيعوه فيما أمر فهذا أصل السعادة وجماعها |
2 | 155 | والقرآن كله يقرر هذا الأصل قال تعالى الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون سورة البقرة فقد وصف سبحانه بالهدى والفلاح المؤمنين الموصوفين في هذه الآيات وقال تعالى لما أهبط آدم من الجنة فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى سورة طه فقد أخبر أن من اتبع الهدى الذي أتانا منه وهو ما جاءت به الرسل فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكره وهو الذكر الذي أنزله وهو كتبه التي بعث بها رسله بدليل أنه قال بعد ذلك كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى والذكر مصدر يضاف تارة إلى الفاعل وتارة إلى المفعول كما يقال دق الثوب ودق القصار ويقال أكل زيد وأكل الطعام |
2 | 156 | ويقال ذكر الله أي ذكر العبد ويقال ذكر الله أي ذكر الله الذي ذكره هو مثل ذكره عبده ومثل القرآن الذي هو ذكره وقد يضاف الذكر إضافة الأسماء المحضة فقوله ذكرى إن أضيف إضافة المصادر كان المعنى الذكر الذي ذكرته وهو كلامه الذي أنزله وإن أضيف إضافة الأسماء المحضة فذكره هو ما اختص به من الذكر والقرآن مما اختص به من الذكر قال تعالى وهذا ذكر مبارك أنزلناه سورة الأنبياء وقال ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث سورة الأنبياء وقال إن هو إلا ذكر وقرآن مبين سورة يس وقال وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم سورة النحل وقال فيما يذكره من ضمان الهدى والفلاح لمن اتبع الكتاب والرسول فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون سورة الأعراف وقال آلر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد سورة إبراهيم ونظائره في القرآن كثيرة وإذا كان كذلك فالله سبحانه بعث الرسل بما يقتضى الكمال من |
2 | 157 | إثبات أسمائه وصفاته على وجه التفصيل والنفي على طريق الإجمال للنقص والتمثيل فالرب تعالى موصوف بصفات الكمال التي لا غاية فوقها منزه عن النقص بكل وجه ممتنع وأن يكون له مثيل في شيء من صفات الكمال فأما صفات النقص فهو منزه عنها مطلقا وأما صفات الكمال فلا يماثله بل ولا يقاربه فيها شيء من الأشياء والتنزيه يجمعه نوعان نفي النقص ونفي مماثلة غيره له في صفات الكمال كما دل على ذلك سورة قل هو الله أحد وغيرها من القرآن مع دلالة العقل على ذلك وإرشاد القرآن إلى ما يدل على ذلك من العقل بل وقد أخبر الله أن في الآخرة من أنواع النعيم ما له شبه في الدنيا كأنواع المطاعم والمشارب والملابس والمناكح وغير ذلك وقد قال ابن عباس ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء فحقائق تلك |
2 | 158 | أعظم من حقائق هذه بما لا يعرف قدره وكلاهما مخلوق والنعيم الذي لا يعرف جنسه قد أجمله الله سبحانه وتعالى بقوله فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين سورة السجدة وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فإذا كان هذان المخلوقان متفقين في الإسم مع أن بينهما في الحقيقة |
2 | 159 | تباينا لا يعرف في الدنيا قدره فمن المعلوم أن ما يتصف به الرب من صفات الكمال مباين لصفات خلقه أعظم من مباينة مخلوق لمخلوق ولهذا قال أعلم الخلق بالله في الحديث الصحيح لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وقال في الدعاء المأثور الذي رواه أحمد وابن حبان في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما أصاب عبدا هم قط ولا حزن فقال اللهم إني عبدك ابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب |
2 | 160 | عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي إلا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكان حزنه فرحا قالوا يا رسول الله أفلا نتعلمهن قال بلى ينبغي لكل من سمعهن أن يتعلمهن فبين أن لله أسماء استأثر بها في علم الغيب عنده لا يعلمها ملك ولا نبي وأسماؤه تتضمن صفاته ليست أسماء أعلام محضة كاسمه العليم والقدير والرحيم والكريم والمجيد والسميع والبصير وسائر أسمائه الحسنى سبحانه وتعالى وهو سبحانه مستحق للكمال المطلق لأنه واجب الوجود بنفسه يمتنع العدم عليه ويمتنع أن يكون مفتقرا إلى غيره بوجه من الوجوه إذ لو افتقر إلى غيره بوجه من الوجوه كان محتاجا إلى الغير والحاجة إما إلى حصول كمال له وإما إلى دفع ما ينقص كماله ومن احتاج |
2 | 161 | في شيء من كماله إلى غيره لم يكن كماله موجودا بنفسه بل بذلك الغير وهو بدون ذلك الكمال ناقص والناقص لا يكون واجبا بنفسه بل ممكنا مفتقرا إلى غيره لأنه لو كان واجبا بنفسه مع كونه ناقصا مفتقرا إلى كمال من غيره لكان الذي يعطيه الكمال إن كان ممكنا فهو مفتقر إلى واجب آخر والقول في هذا كالقول في الأول وإن كان واجبا ناقصا فالقول فيه كالقول في الأول وإن كان واجبا كاملا فهذا هو الواجب بنفسه وذاك الذي قدر واجبا ناقصا فهو مفتقر إلى هذا في كماله وذاك غنى عنه فهذا هو رب ذاك وذاك عبده ويمتنع مع كونه مربوبا معبدا أن يكون واجبا ففرض كونه واجبا ناقصا محال وأيضا فيمتنع أن يكون نفس ما هو واجب بنفسه فيه نقص يفتقر في زواله إلى غيره لأن ذلك النقص حينئذ يكون ممكن الوجود وإلا لما قبله وممكن العدم وإلا لكان لازما له لا يقبل الزوال والتقدير أنه ممكن زواله بحصول الكمال الممكن الوجود فإن ما هو ممتنع لا يكون كمالا وما هو ممكن فإما أن يكون للواجب أو من الواجب ويمتنع أن يكون المخلوق أكمل من الخالق فالخالق الواجب بنفسه أحق بالكمال الممكن الوجود الذي لا نقص فيه فلا تكون ذاته مستلزمة لذلك الكمال فيكون ذلك الكمال إذا وجد مفتقرا إليه وإلى ذلك الغير الآخر يحصل بهما جميعا وكل منهما واجب بنفسه فلا يكون |
2 | 162 | ذلك الأثر لا من هذا ولا من هذا بل هو شيء منفصل عنهما وتحقيق ذلك أن كمال الشيء هو من نفس الشيء وداخل فيه فالواجب بنفسه لا يكون واجبا إن لم يكن ما هو داخل في نفسه واجب الوجود لا يفتقر فيه إلى سبب منفصل عنه فمتى افتقر فيما هو داخل فيه إلى سبب منفصل عنه لم تكن نفسه واجبة بنفسه وما لا يكون داخلا في نفسه لا يكون من كماله أيضا بل يكون شيئا مباينا له وإنما يكون ذلك شيئين أحدهما واجب بنفسه والآخر شيء قرن به وضم إليه وأيضا فنفس واجب الوجود هو أكمل الموجودات إذ الواجب أكمل من الممكن بالضرورة فكل كمال ممكن له إن كان لازما له امتنع أن يكون كماله مستفادا من غيره أو أن يحتاج فيه إلى غيره وإن لم يكن لازما له فإن لم يكن قابلا له من قبول غيره من الممكنات له كان الممكن أكمل من الواجب وما لا يقبله لا واجب ولا ممكن ليس كمالا وإن كان قابلا له ولم تكن ذاته مستلزمة له كان غيره معطيا له إياه والمعطى للكمال هو أحق بالكمال فيكون ذلك المعطى أكمل منه وواجب الوجود لا يكون غيره أكمل منه وإذا قيل ذلك الغير واجب أيضا |
2 | 163 | فإن لم يكن كاملا بنفسه كان كل منهما معطيا للآخر الكمال وهذا ممتنع لأنه يستلزم كون كل من الشيئين مؤثرا في الآخر أثرا لا يحصل إلا بعد تأثير الآخر فإن هذا لا يفيد ذلك الكمال للآخر حتى يكون كاملا ولا يكون كاملا حتى يفيده الآخر الكمال وهذا ممتنع كما يمتنع أن لا يوجد هذا حتى يوجده ذاك ولا يوجد ذاك حتى يوجده هذا وإن كان ذلك الغير واجبا كاملا بنفسه مكملا لغيره والآخر واجب ناقص يحتاج في كماله إلى ذلك الكامل المكمل كان جزء منه مفتقرا إلى ذاك وما افتقر جزء منه إلى غيره لم تكن جملته واجبة بنفسها وإيضاح ذلك أن الواجب بنفسه إما أن يكون شيئا واحدا لا جزء له أو يكون أجزاء فإن كان شيئا واحدا لا جزء له امتنع أن يكون له بعض فضلا عن أن يقال بعضه يفتقر إلى الغير وبعضه لا يفتقر إلى الغير وامتنع أن يكون شيئين أحدهما نفسه والآخر كماله وإن قيل هو جزءان أو أجزاء كان الواجب هو مجموع تلك الأجزاء فلا يكون واجبا بنفسه حتى يكون المجموع واجبا بنفسه فمتى كان البعض مفتقرا إلى سبب منفصل عن المجموع لم يكن واجبا بنفسه |
2 | 164 | وهذا المقام برهان بين لمن تأمله وبيانه أن الناس متنازعون في إثبات الصفات لله فأهل السنة يثبتون الصفات لله وكثير من الفلاسفة والشيعة يوافقهم على ذلك وأما الجهمية وغيرهم كالمعتزلة ومن وافقهم من الشيعة والفلاسفة كابن سينا ونحوه فإنهم ينفون الصفات عن الله تعالى ويقولون إن إثباتها تجسيم وتشبيه وتركيب وعمدة ابن سينا وأمثاله على نفيها هي حجة التركيب وهو أنه لو كان له صفة لكان مركبا والمركب مفتقر إلى جزئيه وجزاءه غيره والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بنفسه وقد تكلم الناس على إبطال هذه الحجة من وجوه كثيرة بسبب أن لفظ التركيب والجزء والإفتقار والغير ألفاظ مجملة فيراد بالمركب ما ركبه غيره وما كان متفرقا فاجتمع وما يقبل التفريق والله سبحانه منزه عن هذا بالإتفاق وأما الذات الموصوفة بصفات لازمة لها فإذا سمى المسمى هذا تركيبا كان هذا اصطلاحا له ليس هو المفهوم من لفظ المركب والبحث إذا كان في المعاني العقلية لم يلتفت فيه إلى اللفظ |
2 | 165 | فيقال هب أنكم سميتم هذا تركيبا فلا دليل لكم على نفيه ومن هذا الوجه ناظرهم أبو حامد الغزالي في التهافت وكذلك لفظ الجزء يراد به بعض الشيء الذي ركب منه كأجزاء المركبات من الأطعمة والنباتات والأبنية وبعضه الذي يمكن فصله عنه كأعضاء الإنسان ويراد به صفته اللازمة له كالحيوانية للحيوان والإنسانية للإنسان والناطقية للناطق ويراد به بعضه الذي لا يمكن تفريقه كجزء الجسم الذي لا يمكن مفارقته له إما الجوهر الفرد وإما المادة والصورة عند من يقول بثبوت ذلك ويقول إنه لا يوجد إلا بوجود الجسم وإما غير ذلك عند من لا يقول بذلك فإن الناس متنازعون في الجسم هل هو مركب من المادة والصورة أو من الجواهر المنفردة أو لا من هذا ولا من هذا على ثلاثة أقوال وأكثر العقلاء على القول الثالث كالهشامية والنجارية والضرارية والكلابية والأشعرية وكثير من الكرامية وكثير من أهل الفقه والحديث والتصوف والمتفلسفة وغيرهم والمقصود هنا أن لفظ الجزء له عدة معان بحسب |
2 | 166 | الإصطلاحات وكذلك لفظ الغير يراد به ما باين الشيء فصفة الموصوف وجزؤه ليس غيرا له بهذا الإصطلاح وهذا هو الغالب على الكلابية والأشعرية وكثير من أهل الحديث والتصوف والفقهاء أتباع الأئمة الأربعة وكثير من الشيعة وقد يقولون الغيران ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بزمان أو مكان أو وجود وقد يراد بلفظ الغير ما لم يكن هو الآخر وهذا هو الغالب على اصطلاح المعتزلة والكرامية ومن وافقهم من الشيعة والفلاسفة وكذلك لفظ الإفتقار يراد به التلازم ويراد به افتقار المعلوم إلى علته الفاعلة ويراد به افتقاره إلى محله وعلته القابلة وهذا اصطلاح المتفلسفة الذين يقسمون لفظ العلة إلى فاعلية وغائية ومادية وصورية ويقولون المادة وهي القابل والصورة هما علتا الماهية والفاعل والغاية هما علتا وجود الحقيقة وأما سائر النظار فلا يسمون المحل الذي هو القابل علة فهذه الحجة التي احتج بها هؤلاء الفلاسفة ومن وافقهم على نفي الصفات مؤلفة من ألفاظ مجملة فإذا قالوا لو كان موصوفا بالعلم والقدرة ونحو ذلك من الصفات |
2 | 167 | لكان مركبا والمركب مفتقر إلى جزئه وجزؤه غيره والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بنفسه قيل لهم قولكم لكان مركبا إن أردتم به لكان غيره قد ركبه أو لكان مجتمعا بعد افتراقه أو لكان قابلا للتفريق فاللازم باطل فإن الكلام هو في الصفات اللازمة للموصوف التي يمتنع وجوده بدونها فإن الرب سبحانه يمتنع أن يكون موجودا وهو ليس بحي ولا عالم ولا قادر وحياته وعلمه وقدرته صفات لازمة لذاته وإن أردتم بالمركب الموصوف أو ما يشبه ذلك قيل لكم ولم قلتم إن ذلك ممتنع قولهم والمركب مفتقر إلى غيره قيل أما المركب بالتفسير الأول فهو مفتقر إلى ما يباينه وهذا ممتنع على الله وأما الموصوف بصفات الكمال اللازمة لذاته الذي سميتموه أنتم مركبا فليس في اتصافه هنا بها ما يوجب كونه مفتقرا إلى مباين له فإن قلتم هي غيره وهو لا يوجد إلى بها وهذا افتقار إليها |
2 | 168 | قيل لكم إن إردتم بقولكم هي غيره أنها مباينة له فذلك باطل وإن أردتم أنها ليست إياه قيل لكم وإذا لم تكن الصفة هي الموصوف فأي محذور في هذا فإذا قلتم هو مفتقر إليها قيل أتريدون بالإفتقار أنه مفتقر إلى فاعل يفعله أو محل يقبله أم تريدون أنه مستلزم لها فلا يكون موجودا إلا وهو متصف بها فإن أردتم الأول كان هذا باطلا وإن أردتم الثاني قيل وأي محذور في هذا وإن قلتم هي مفتقرة إليه قيل أتريدون أنها مفتقرة إلى فاعل يبدعها أو إلى محل تكون موصوفة به أما الثاني فأي محذور فيه وأما الأول فهو باطل إذ الصفة اللازمة للموصوف لا يكون فاعلا لها وإن قلتم هو موجب لها أو علة لها أو مقتض لها فالصفة إن كانت واجبة فالواجب لا يكون معلولا ويلزم تعدد الواجب وهو الصفة والموصوف وإن كانت ممكنة بنفسها فالممكن بنفسه لا يوجد |
2 | 169 | إلا بموجب فتكون الذات هي الموجبة والشيء الواحد لا يكون فاعلا وقابلا قيل لكم لفظ الواجب بنفسه والممكن بنفسه قد صار فيه اشتراك في خطابكم فقد يراد بالواجب بنفسه ما لا مبدع له ولا علة فاعلة ويراد بالواجب بنفسه ما لا مبدع له ولا محل ويراد بالواجب بنفسه ما لا يكون له صفة لازمة ولا يكون موصوفا ملزوما فإن أردتم بالواجب بنفسه ما لا مبدع له ولا علة فاعلة فالصفة واجبة بنفسها وإن أردتم ما لا محل له يقوم به فالصفة ليست واجبة بنفسها بل الموصوف هو الواجب بنفسه وإن أردتم بالواجب ما ليس بملزوم لصفة ولا لازم فهذا لا حقيقة له بل هذا لا يوجد إلا في الأذهان لا في الأعيان وأنتم قدرتم شيئا في أذهانكم ووصفتموه بصفات يمتنع معها وجوده فجعلتم ما هو واجب الوجود بنفسه ممتنع الوجود وهذه الأمور قد بسطت في غير هذا الموضع والغرض هنا التنبيه على هذا إذ المقصود في هذا المقام يحصل على التقديرين فنقول واجب الوجود بنفسه سواء قيل بثبوت الصفات له وسمى ذلك تركيبا أو لم يسم أو قيل بنفى الصفات عنه يمتنع أنه |
2 | 170 | يكون مفتقرا إلى شيء مباين له وذلك أنه إذا قدر أنه ليس فيه معان متعددة بوجه من الوجوه كما يظنه من يظنه من نفاة الصفات فهذا يمتنع أن يكون له كمال مغاير له وأن يكون شيئين وحينئذ فلو كان فيه ما هو مفتقر إلى غيره للزم تعدد المعاني فيه وهذا ممتنع على التقديرين وإن قيل إن فيه معان متعددة فواجب الوجود هو مجموع تلك الأمور المتلازمة إذ يمتنع وجود شيء منها دون شيء وحينئذ فلو افتقر شيء من ذلك المجموع إلى أمر منفصل لم يكن واجب الوجود فهو سبحانه مستلزم لحياته وعلمه وقدرته وسائر صفات كماله وهذا هو الموجود الواجب بنفسه وهذه الصفات لازمة لذاته وذاته مستلزمة لها وهي داخلة في مسمى اسم نفسه وفي سائر اسمائه تعالى فإذا كان واجبا بنفسه وهي داخلة في مسمى اسم نفسه لم يكن موجودا إلا بها فلا يكون مفتقرا فيها إلى شيء مباين له أصلا ولو قيل إنه يفتقر في كونه حيا أو عالما أو قادرا إل عيره فذلك الغير إن كان ممكنا كان مفتقرا إليه وكان هو سبحانه ربه فيمتنع أن يكون ذلك مؤثرا فيه لأنه يلزم أن يكون هذا مؤثرا في هذا وهذا مؤثرا في هذا وتأثير كل منهما في الآخر لا يكون إلا بعد حصول أثره فيه لأن التأثير لا يحصل إلا مع كونه حيا عالما قادرا فلا يكون هذا حيا عالما قادرا |
2 | 171 | حتى يجعله الآخر كذلك ولا يكون هذا حيا عالما قادرا على حتى يجعله الآخر كذلك فلا يكون أحدهما حيا عالما قادرا إلا بعد أن يجعل الذي جعله حيا عالما قادرا حيا عالما قادرا ولا يكون حيا عالما قادرا إلا بعد كونه حيا علما قادرا بدرجتين وهذا كله مما يعلم امتناعه بصريح العقل وهو من المعارف الضرورية التي لا ينازع فيها العقلاء وهذا من الدور القبلي دور العلل ودور الفاعلين ودور المؤثرين وهو ممتنع باتفاق العقلاء بخلاف دور المتلازمين وهو أنه لا يكون هذا إلا مع هذا ولا يكون هذا إلا مع هذ فهذا جائز سواء كانا لا فاعل لهما كصفات الله أو كانا مفعولين والمؤثر التام فيهما غيرهما وهذا جائز فإن الله يخلق الشيئين معا للذين لا يكون أحدهما إلا مع الآخر كالأبوة والبنوة فإن الله إذا خلق الولد فنفس خلقه للولد جعل هذا أبا وهذا ابنا واحدى الصفتين لم تسبق الأخرى ولا تفارقها بخلاف ما إذا كان أحد الأمرين هو من تمام المؤثر في الآخر فإن هذا ممتنع فإن الأثر لا يحصل إلا بالمؤثر التام فلو كان تمام هذا المؤثر من |
2 | 172 | تمام ذاك وتمام ذاك المؤثر من تمام هذا كان كل من التمامين متوقفا على تمام مؤثره وتمام مؤثره موقوفا عليه نفسه فإن الأثر لا يوجد إلا بعد تمام مؤثره فلا يكون كل من الأثرين من تمام نفسه التي تم تأثيرها به فأن لا يكون من تمام المؤثر في تمامه بطريق الأولى فإن الشيء إذا امتنع أن يكون علة أو فاعلا أو مؤثرا في نفسه أو في تمام كونه علة ومؤثرا وفاعلا له أو لشيء من تمامات تأثيره فلأن يمتنع كونه فاعلا لفاعل نفسه أو مؤثرا في المؤثر في نفسه وفي تمامات تأثير ذلك أولى وأحرى فتبين أنه يمتنع كون شيئين كل منهما معطيا للآخر شيئا من صفات الكمال أو شيئا مما به يصير معاونا له على الفعل سواء أعطاه كمال علم أو قدرة أو حياة أو غير ذلك فإن هذا كله يستلزم الدور في تمام الفاعلين وتمام المؤثرين وهذا ممتنع وبهذا يعلم أنه يمتنع أن يكون للعالم صانعان متعاونان لا يفعل أحدهما إلا بمعاونة الآخر ويمتنع أيضا أن يكونا مستقلين لأن |
2 | 173 | استقلال أحدهما يناقض استقلال الآخر وسيأتي بسط هذا والمقصود هنا أنه يمتنع أن يكون أحدهما يعطي الآخر كماله ويمتنع أن يكون الواجب بنفسه مفتقرا في كماله إلى غيره فيمتنع أن يكون مفتقرا إلى غيره بوجه من الوجوه فإن الإفتقار إما في تحصيل الكمال وإما في منع سلبه الكمال فإنه إذا كان بنفسه ولا يقدر غيره أن يسلبه كماله لم يكن محتاجا بوجه من الوجوه فإن ما ليس كمالا له فوجوده ليس مما يمكن أن يقال إنه يحتاج إليه إذ حاجة الشيء إلى ما ليس من كماله ممتنعة وقد تبين أنه لا يحتاج إلى غيره في حصول كماله وكذلك لا يحتاج في منع سلب الكمال كإدخال نقص عليه وذلك لأن ذاته إن كانت مستلزمة لذلك الكمال امتنع وجود الملزوم بدون اللازم فيمتنع أن يسلب ذلك الكمال مع كونه واجب الوجود بنفسه وكون لوازمه يمتنع عدمها فإن قيل إن ذاته لا تستلزم كماله كان مفتقرا في حصول ذلك الكمال إلى غيره وقد تبين أن ذلك ممتنع فتبين أنه يمتنع احتياجه إلى غيره في تحصيل شيء أو دفع شيء وهذا هو المقصود فإن الحاجة لا تكون إلا لحصول شيء أو دفع |
2 | 174 | شيء إما حاصل يراد إزالته أو ما لم يحصل بعد فيطلب منعه ومن كان لا يحتاج إلى غيره في جلب شيء ولا في دفع شيء امتنعت حاجته مطلقا فتبين أنه غنى عن غيره مطلقا وأيضا فلو قدر أنه محتاج إلى الغير لم يخل إما أن يقال إنه يحتاج إليه في شيء من لوازم وجوده أو شيء من العوارض له أما الأول فيمتنع فإنه لو افتقر إلى غيره في شيء من لوازمه لم يكن موجودا إلا بذلك الغير لأن وجود الملزوم بدون الأزم ممتنع فإذا كان لا يوجد إلا بلازمه ولازمه لا يوجد إلا بذلك الغير لم يكن هو موجودا إلا بذلك الغير فلا يكون موجودا بنفسه بل يكون إن وجد ذلك الغير وجد وإن لم يوجد لو يوجد ثم ذلك الغير إن لم يكن موجودا بنفسه واجبا بنفسه افتقر إلى فاعل مبدع فإن كان هو الأول لزم الدور في العلل وإن كان غيره لزم التسلسل في العلل وكلاهما ممتنع باتفاق العقلاء كما قد بسط في موضع آخر وإن كان ذلك الغير واجبا بنفسه موجودا بنفسه والأول كذلك كان كل منهما لا يوجد إلا بوجود الآخر وكون كل من الشيئين لا يوجد إلا مع الآخر جائز إذا كان لهما سبب غيرهما كالمتضايفين مثل الأبوة والبنوة |
2 | 175 | فلو كان لهما سبب غيرهما كانا ممكنين يفتقران إلى واجب بنفسه والقول فيه كالقول فيهما وإذا كانا واجبين بأنفسهما امتنع أن يكون وجود كل منهما أو وجود شيء من لوازمه بالآخر لأن كلا منهما يكون علة أو جزء علة في الآخر فإن كلا منهما لا يتم إلا بالآخر وكل منهما لا يمكن أن يكون علة ولا جزء علة إلا إذا كان موجودا وإلا فما لم يوجد لا يكون مؤثرا في غيره ولا فاعلا لغيره فلا يكون هذا مؤثرا في ذاك حتى يوجد هذا ولا يكون ذاك مؤثرا في هذا حتى يوجد ذاك فيلزم أن لا يوجد هذا حتى يوجد مفعول هذا فيكون هذا فاعل فاعل هذا وكذلك لا يوجد ذاك حتى يوجد فاعل ذاك فيكون ذاك فاعل فاعل ذاك ومن المعلوم أن كون الشيء علة لنفسه أو جزء علة لنفسه أو شرط علة نفسه ممتنع بأي عبارة عبر عن هذا المعنى فلا يكون فاعل نفسه ولا جزءا من الفاعل ولا شرطا في الفاعل لنفسه ولا تمام الفاعل لنفسه ولا يكون مؤثرا في نفسه ولا تمام المؤثر في نفسه فالمخلوق |
2 | 176 | لا يكون رب نفسه ولا يحتاج الرب نفسه بوجه من الوجوه إليه في خلقه إذ لو احتاج إليه في خلقه لم يخلقه حتى يكون ولا يكون حتى يخلقه فيلزم الدور القبلي لا المعي وإذا لم يكن مؤثرا في نفسه فلا يكون مؤثرا في المؤثر في نفسه بطريق الأولى فإذا قدر واجبان كل واحد منهما له تأثير ما في الآخر لزم أن يكون كل منهما مؤثرا في المؤثر في نفسه وهذا ممتنع كما تبين فيمتنع تقدير واجبين كل منهما مؤثر في الآخر بوجه من الوجوه فامتنع أن يكون الواجب بنفسه مفتقرا في شيء من لوازمه إلى غيره سواء قدر أنه واجب أو ممكن وهذا مما يعلم به امتناع أن يكون للعالم صانعان فإن الصانعين إن كانا مستقلين كل منهما فعل الجميع كان هذا متناقضا ممتنعا لذاته فإن فعل أحدهما للبعض يمنع استقلال الآخر به فكيف باستقلاله به ولهذا اتفق العقلاء على امتناع اجتماع مؤثرين تامين في أثر واحد لأن ذلك جمع بين النقيضين إذ كونه وجد بهذا وحده يناقض كونه |
2 | 177 | وجد بالآخر وحده وإن كانا متشاركين متعاونين فإن كان فعل كل واحد منهما مستغنيا عن فعل الآخر وجب أن يذهب كل إله بما خلق فتميز مفعول هذا عن مفعول هذا ولا يحتاج إلى الإرتباط به وليس الأمر كذلك بل العالم كله متعلق بعضه ببعض هذا مخلوق من هذا وهذا مخلوق من هذا وهذا محتاج إلى هذا من جهة كذا وهذا محتاج إلى هذا من جهة كذا لا يتم شيء من أمور العالم إلا بشيء آخر منه وهذا يدل على أن العالم كله فقير إلى غيره لما فيه من الحاجة ويدل على أنه ليس فيه فعل لاثنين بل كله مفتقر إلى واحد فالفلك الأطلس الذي هو أعلى الأفلاك في جوفه سائر الأفلاك والعناصر والمولدات والأفلاك متحركات بحركات مختلفة مخالفة لحركة التاسع فلا يجوز أن تكون حركته هي سبب تلك الحركات المخالفة لحركته إلى جهة أخرى أكثر مما يقال إن الحركة الشرقية هو سببها وأما الحركات الغربية فهي مضادة لجهة حركته فلا يكون هو سببها وهذا مما يسلمه هؤلاء |
2 | 178 | وأيضا فالأفلاك في جوفه بغير اختياره ومن جعل غيره فيه بغير اختياره كان مقهورا مدبرا كالإنسان الذي جعل في باطنه أحشاؤه فلا يكون واجبا بنفسه فأقل درجات الواجب بنفسه أن لا يكون مقهورا مدبرا فإنه إذا كان مقهورا مدبرا كان مربوبا أثر فيه غيره ومن أثر فيه غيره كان وجوده متوقفا على وجود ذلك الغير سواء كان الأثر كمالا أو نقصا فإنه إذا كان زيادة كان كماله موقوفا على الغير وكماله منه فلا يكون موجودا بنفسه وإن كان نقصا كان غيره قد نقصه ومن نقصه غيره لم يكن ما نقصه هو واجب الوجود بنفسه فإن ما كان واجب الوجود بنفسه يمتنع عدمه فذاك الجزء المنقوص ليس واجب الوجود ولا من لوازم واجب الوجود وما لم يكن كذلك لم يكن عدمه نقصا إذ النقص عدم كمال والكمال الممكن هو من لوازم واجب الوجود كما تقدم والتقدير أنه نقص فتبين أن من نقصه غيره شيئا من لوازم وجوده |
2 | 179 | أو أعطاه شيئا من لوازم وجوده لم يكن واجب الوجود بنفسه فالفلك الذي قد حشى بأجسام كثيرة بغير اختياره محتاج إلى ذلك الذي حشاه بتلك الأجسام فإنه إذا كان حشوه كمالا له لم يوجد كماله إلا بذلك الغير فلا يكون واجبا بنفسه وإن كان نقصا فيه كان غيره قد سلبه الكمال الزائل بذلك النقص فلا تكون ذاته مستلزمة لذلك الكمال إذا لو استلزمته لعدمت بعدمه وكماله من تمام نفسه فإذا كان جزء نفسه غير واجب لم تكن نفسه واجبة كما تقدم بيانه وأيضا فالفلك الأطلس إن قيل إنه لا تأثير له في شيء من العالم وجب أن لا يكون هو المحرك للأفلاك التي فيه وهي متحركة بحركته ولها حركة تخالف حركته فيكون في الفلك الواحد قوة تقتضى حركتين متضادتين وهذا ممتنع فإن الضدين لا يجتمعان ولأن المقتضى للشيء لو كان مقتضيا لضده الذي لا يجامعه لكان فاعلا له غير فاعل له فإن كان مريدا له كان مريدا غير مريد وهو جمع بين النقيضين وإن كان له تأثير في تحريك الأفلاك أو غير ذلك فمعلوم أنه غير مستقل بالتأثير لأن تلك الأفلاك لها حركات تخصها من غير تحريكه ولأن ما يوجد في الأرض من الآثار لا بد فيه من الأجسام |
2 | 180 | العنصرية وتلك الأجسام إن لم يكن فاعلا لها فهو محتاج إلى مالم يفعله وإن قدر أنه المؤثر فيها فليس مؤثرا مستقلا فيها لأن الآثار الحاصلة فيها لا تكون إلا باجتماع اتصالات وحركات تحصل بغيره فتبين أن تأثيره مشروط بتأثير غيره وحينئذ فتأثيره من كماله فإن المؤثر أكمل من غير المؤثر وهو مفتقر في هذا الكمال إلى غيره فلا يكون واجبا بنفسه فتبين أنه ليس واجبا بنفسه من هذين الوجهين وتبين أيضا أن فاعله ليس مستغينا عن فاعل تلك الأمور التي يحتاج إليها الفلك لكون الفلك ليس متميزا مستغنيا من كل وجه عن كل ما سواه بل هو محتاج إلى ما سواه من المصنوعات فلا يكون واجبا بنفسه ولا مفعولا لفاعل مستغن عن فاعل ما سواه وإذا كان الأمر في الفلك الأطلس هكذا فالأمر في غيره أظهر فأي شيىء اعتبرته من العالم وحدته مفتقرا إلى شيء آخر من العالم فيدلك ذلك مع كونه ممكنا مفتقرا ليس بواجب بنفسه على أنه مفتقر إلى فاعل ذلك الآخر فلا يكون في العالم فاعلان فعل كل منهما ومفعوله مستغن عن فعل الأخر ومفعوله وهذا كالإنسان مثلا فإنه يمتنع أن يكون |
2 | 181 | الذي خلقه غير الذي خلق ما يحتاج إليه فالذي خلق مادته كمنى الأبوين ودم الأم هو الذي خلقه والذي خلق الهواء الذي يستنشقه والماء الذي يشربه هو الذي خلقه لأن خالق ذلك لو كان خالقا غير خالقه فإن كانا خالقين كل منهما مستغن عن الآخر في فعله ومفعوله كان ذلك ممتنعا لأن الإنسان محتاج إلى المادة والرزق فلو كان خالق مادته ورزقه غير خالقه لم يكن مفعول أحدهما مستغنيا عن مفعول الآخر فتبين بذلك أنه يمتنع أن يكون للعالم فاعلان مفعول كل منهما مستغن عن مفعول الآخر كما قال تعالى ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق سورة المؤمنون ويمتنع أن يكونا مستقلين لأنه جمع بين النقيضين ويمتنع أن يكونا متعاونين متشاركين كما يوجد ذلك في المخلوقين يتعاونون على المفعولات لأنه حينئذ لا يكون أحدهما فاعلا إلا بإعانة الآخر له وإعانته فعل منه لا يحصل إلا بقدرته بل وبعلمه وإرادته فلا يكون هذا معينا لذاك حتى يكون ذاك معينا لهذا ولا يكون ذاك معينا لهذا حتى يكون هذا معينا لذاك وحينئذ لا يكون هذا معينا لذاك ولا ذاك |
2 | 182 | معينا لهذا كما لا يكون الشيء معينا لنفسه بطريق الأولى فالقدرة التي بها يفعل الفاعل لا تكون حاصلة بالقدرة التي يفعل بها الفاعل الآخر بل إما أن تكون من لوازم ذاته وهي قدرة الله تعالى أو تكون حاصلة بقدرة غيره كقدرة العبد فإذا قدر ربان متعاونان لا يفعل أحدهما حتى يعينه الآخر لم يكن أحدهما قادرا على الفعل بقدرة لازمة لذاته ولا يمكن أن تكون قدرته حاصلة من الآخر لأن الآخر لا يجعله قادرا حتى يكون هو قادرا فإذا لم تكن قدرة واحد منهما من نفسه لم يكن لأحدهما قدرة بحال فتبين امتناع كون العالم له ربان وتبين امتناع كون واجب الوجود له كمال يستفيده من غيره وتبين امتناع أن يؤثر في واجب الوجود غيره وهو سبحانه مستحق للكمال الذي لا غاية فوقه وذلك الكمال لازم له لأن الكمال الذي يكون كمالا للموجود إما أن يكون واجبا له أو ممتنعا عليه أو جائزا عليه فإن كان واجبا له فهو المطلوب وإن كان ممتنعا لزم أن يكون الكمال الذي للموجود ممكنا للممكن ممتنعا على الواجب فيكون الممكن أكمل من الواجب وأيضا فالممكنات فيها كمالات موجودة وهي من الواجب بنفسه والمبدع للكمال المعطى له الخالق له أحق بالكمال إذ الكمال إما وجود وإما كمال وجود ومن أبدع الموجود كان أحق بأن يكون موجودا إذ |
2 | 183 | المعدوم لا يكون مؤثرا في الموجود وهذا كله معلوم فتبين أن الكمال ليس ممتنعا عليه وإذا كان جائزا أن يحصل وجائزا أن لا يحصل لم يكن حاصلا إلا بسبب آخر فيكون واجب الوجود مفتقرا في كماله إلى غيره وقد تبين بطلان هذا أيضا فتبين أن الكمال لازم لواجب الوجود واجب له يمتنع سلب الكمال عنه والكمال أمور وجودية فالأمور العدمية لا تكون كمالا إلا إذا تضمنت أمورا وجودية إذ العدم المحض ليس بشيء فضلا عن أن يكون كمالا فإن الله سبحانه إذا ذكر ما يذكره من تنزيهه ونفى النقائص عنه ذكر ذلك في سياق إثبات صفات الكمال له كقوله تعالى الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم سورة البقرة فنفي السنة والنوم يتضمن كمال الحياة والقيومية وهذه من صفات الكمال وكذلك قوله لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض سورة سبأ فإن نفى عزوب ذلك عنه يتضمن علمه به وعلمه به من صفات الكمال وكذلك قوله ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب سورة ق فتنزيهه لنفسه عن مس اللغوب يقتضى كمال قدرته والقدرة من صفات الكمال فتنزيهه يتضمن كمال حياته وقيامه وعلمه وقدرته وهكذا نظائر ذلك فالرب تعالى موصوف بصفات الكمال التي لا غاية فوقها إذ كل غاية تفرض كمالا إما أن تكون واجبة له أو ممكنة أو ممتنعة والقسمان |
2 | 184 | الأخيران باطلان فوجب الأول فهو منزه عن النقص وعن مساواة شيء من الأشياء له في صفات الكمال بل هذه المساواة هي من النقص أيضا وذلك لأن المتماثلين يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر ويجب له ما يجب له ويمتنع عليه ما يمتنع عليه فلو قدر أنه ماثل شيئا في شيء من الأشياء للزم اشتراكهما فيما يجب ويجوز ويمتنع على ذلك الشيء وكل ما سواه ممكن قابل للعدم بل معدوم مفتقر إلى فاعل وهو مصنوع مربوب محدث فلو ماثل غيره في شيء من الأشياء للزم أن يكون هو والشيء الذي ماثله فيه ممكنا قابلا للعدم بل معدوما مفتقرا إلى فاعل مصنوعا مربوبا محدثا وقد تبين أن كماله لازم لذاته لا يمكن أن يكون مفتقرا فيه إلى غيره فضلا عن أن يكون ممكنا أو مصنوعا أو محدثا فلو قدر مماثلة غيره له في شيء من الأشياء للزم كون الشيء الواحد موجودا معدوما ممكنا واجبا قديما محدثا وهذا جمع بين النقيضين فالرب تعالى مستحق للكمال على وجه التفصيل كما أخبرت به الرسل فإن الله تعالى أخبر أنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه سميع بصير وأنه عليم قدير عزيز حكيم غفور رحيم ودود مجيد وأنه يحب المتقين والمحسنين والصابرين ويرضى عن الذين |
2 | 185 | آمنوا وعملوا الصالحات ولا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر وأنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش وأنه كلم موسى تكليما وناداه وناجاه إلى غير ذلك مما جاء به الكتاب والسنة وقال في التنزيه ليس كمثله شيء سورة الشورى هل تعلم له سميا سورة مريم فلا تضربوا لله الأمثال سورة النحل ولم يكن له كفوا أحد فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون سورة البقرة فنزه نفسه عن النظير باسم الكفء والمثل والند والسمى وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع وكتبنا رسالة مفردة في قوله ليس كمثله شيء وما فيها من الأسرار والمعاني الشريفة فهذه طريقة الرسل وأتباعهم من سلف الأمة وأئمتها إثبات مفصل ونفي مجمل إثبات صفات الكمال على وجه التفصيل ونفي النقص والتمثيل كما دل على ذلك سورة قل هو الله أحد الله الصمد وهي تعدل ثلث القرآن كما ثبت ذلك في الحديث |
2 | 186 | الصحيح وقد كتبنا تصنيفا مفردا في تفسيرها وآخر في كونها تعدل ثلث القرآن فاسمه الصمد يتضمن صفات الكمال كما روى الوالبي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال هو العليم الذي كمل في علمه والقدير الذي كمل في قدرته والسيد الذي الذي كمل في سؤدده والشريف الذي كمل في شرفه والعظيم الذي كمل في عظمته والحليم الذي كمل في حلمه والحكيم الذي كمل في حكمته وهو الذي كمل في أنواع الشرف والسؤدد هو الله سبحانه وتعالى هذه صفته لا تنبغي إلا له والأحد يتضمن نفي المثل عنه والتنزيه الذي يستحقه الرب |
2 | 187 | يجمعه نوعان أحدهما نفي النقص عنه والثاني نفى مماثلة شيء من الأشياء فيما يستحقه من صفات الكمال فإثبات صفات الكمال له مع نفى مماثلة غيره له يجمع ذلك كما دلت عليه هذه السورة وأما المخالفون لهم من المشركين والصابئة ومن اتبعهم من الجهمية والفلاسفة والمعتزلة ونحوهم فطريقتهم نفى مفصل وإثبات مجمل ينفون صفات الكمال ويثبتون ما لا يوجد إلا في الخيال فيقولون ليس بكذا ولا كذا فمنهم من يقول ليس له صفة ثبوتية بل إما سلبية وإما إضافية وإما مركبة منهما كما يقوله من يقوله من الصابئة والفلاسفة كابن سينا وأمثاله ويقول هو وجود مطلق بشرط سلب الأمور الثبوتية عنه ومنهم من يقول وجود مطلق بشرط الإطلاق وقد قرروا في منطقهم ما هو معلوم بالعقل الصريح أن المطلق بشرط الإطلاق إنما وجوده في الأذهان لا في الأعيان فلا يتصور في الخارج حيوان مطلق بشرط الإطلاق ولا إنسان مطلق بشرط الإطلاق ولا جسم مطلق بشرط الإطلاق فيبقى واجب الوجود ممتنع الوجود في الخارج وهذا مع أنه تعطيل وجهل وكفر فهو جمع بين النقيضين ومن قال مطلق بشرط سلب الأمور الثبوتية فهذا أبعد من المطلق بشرط الإطلاق فإن هذا قيده بسلب الأمور الوجودية دون |
2 | 188 | العدمية وهذا أولى بالعدم مما قيد بسلب الأمور الوجودية والعدمية وهو أيضا أبلغ في الإمتناع فإن الموجود المشارك لغيره في الوجود لا يمتاز عنه بوصف عدمي بل بأمر وجودي فإذا قدر وجود لا يتمير عن غيره إلا بعدم كان أبلغ في الإمتناع من وجود يتميز بسلب الوجود والعدم وأيضا فإن هذا يشارك سائر الموجودات في مسمى الوجود ويمتاز عنها بالعدم وهي تمتاز عنه بالوجود فيكون على قول هؤلاء أي موجود من الممكنات قدر فهو أكمل من الواجب وهذا في غاية الفساد والكفر وإن قالوا هو مطلق لا بشرط كما يقوله الصدر القونوي وأمثاله |
2 | 189 | من القائلين بوحدة الوجود فالمطلق لا بشرط هو موضوع العلم الإلهي عندهم الذي هو الحكمة العليا والفلسفة الأولى عندهم فإن الوجود المطلق لا بشرط ينقسم إلى واجب وممكن وعلة ومعلول وجوهر وعرض وهذا موضوع العلم الأعلى عندهم الناظر في الوجود ولواحقه ومن المعلوم أن الوجود المنقسم إلى واجب وممكن لا يكون هو الوجود الواجب المطلق بشرط الإطلاق وهو الذي يسمونه الكلى الطبيعي ويتنازعون في وجوده في الخارج والتحقيق أنه يوجد في الخارج معينا لا كليا فما هو كلى في الأذهان يوجد في الأعيان لكن لا يوجد كليا فمن قال الكلي الطبيعي موجود في الخارج وأراد هذا المعنى فقد أصاب وأما إن قال إن في الخارج ما هو كلي في الخارج كما يقتضيه كلام كثير من هؤلاء الذين تكلموا في المنطق والإلهيات وادعى أن في الخارج إنسانا مطلقا كليا وفرسا مطلقا كليا وحيوانا مطلقا |
2 | 190 | كليا فهو مخطئ حطأ ظاهرا سواء ادعى أن هذه الكليات مجردة عن الأعيان أزلية كما يذكرونه عن أفلاطون ويسمون ذلك المثل الأفلاطونية أو أدعى أنها لا تكون إلا مقارنة للمعينات أو ادعى أن المطلق جزء من المعين كما يذكرونه عن أرسطو وشيعته كابن سينا وأمثاله ويقولون إن النوع مركب من الجنس والفصل وإن الإنسان مركب من الحيوان والناطق والفرس مركب من الحيوان والصاهل فإن هذا إن أريد به أن الإنسان متصف بهذا وهذا فهذا حق ولكن الصفة لا تكون سبب وجود الموصوف ولا متقدمة عليه لا في الحس ولا في العقل ولا يكون الجوهر القائم بنفسه مركبا من عرضين وإن أراد به أن الإنسان الموجود في الخارج فيه جوهران قائمان بأنفسهما أحدهما الحيوان والآخر الناطق فهذا مكابرة للعقل والحس وإن أريد بهذا التركيب تركيب الإنسان العقلي المتصور في الأذهان لا الموجود في الأعيان فهذا صحيح لكن ذلك الإنسان هو بحسب ما يركبه الذهن فإن ركبه من الحيوان والناطق تركب منهما وإن ركبه من الحيوان والصاهل تركب منهما فدعوى المدعي أن إحدى |
2 | 191 | الصفتين ذاتية مقومة للموصوف لا يتحقق بدونها لا في الخارج ولا في الذهن والأخرى عرضية يتقوم الموصوف بدونها مع كونها مساوية لتلك في اللزوم تفريق بين المتماثلين والفروق التي يذكرونها بين الذاتي والعرضي اللازم للماهية هي ثلاثة وهي فروق منتقضة وهم معترفون بانتقاضها كما يعترف بذلك ابن سينا ومتبعوه شارحو الإشارات وكما ذكره صاحب المعتبر وغيرهم والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع وكذلك الكلام على قولهم وقول من وافقهم من القائلين بوحدة الوجود في وجود واجب الوجود مبسوط في غير هذا الموضع والمقصود هنا كلام جملي على ما جاءت به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وهذا كله مبسوط في مواضعه |
2 | 192 | لكن هذا الإمامي لما أخذ يذكر عن طائفته أنهم المصيبون في التوحيد دون غيرهم احتجنا إلى التنبيه على ذلك فنقول أما ما ذكره من لفظ الجسم وما يتبع ذلك فإن هذا اللفظ لم ينطق به في صفات الله تعالى لا كتاب ولا سنة لا نفيا ولا إثباتا ولا تكلم به أحد من الصحابة والتابعين وتابعيهم لا أهل البيت ولا غيرهم ولكن لما ابتدعت الجهمية القول بنفى الصفات في آخر الدولة الأموية ويقال إن أول من ابتدع ذلك هو الجعد بن درهم معلم مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية وكان هذا الجعد من حران وكان فيها أئمة الصابئة والفلاسفة والفارابي كان قد أخذ الفلسفة عن متى ثم دخل إلى حران فأخذ ما أخذه منها عن أولئك الصابئة الذين كانوا بحران وكانوا يعبدون الهياكل العلوية ويبنون هيكل العلة الأولى هيكل العقل الأول هيكل النفس الكلية هيكل زحل هيكل المشتري هيكل المريخ هيكل الشمس هيكل الزهرة هيكل عطارد هيكل القمر ويتقربون بما هو معروف عندهم من أنواع العبادات والقرابين والبخورات وغير ذلك |
2 | 193 | وهؤلاء هم أعداء إبراهيم الخليل الذي دعاهم إلى عبادة الله وحده وكان مولده عند أكثر الناس إما بالعراق أو بحران كما في التوراة ولهذا ناظرهم في عبادة الكواكب والأصنام وحكى الله عنه أنه لما رأى كوكبا قال هذا ربي إلى قوله لاأحب الآفلين إلى قوله فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني برئ مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين سورة الأنعام الآيات وقد ظن طائفة من الجهمية والمعتزلة وغيرهم أن مراده بقوله هذا ربي أن هذا خالق العالم وأنه استدل بالأفول وهو الحركة والإنتقال على عدم ربوبيته وزعموا أن هذه الحجة هي الدالة على حدوث الأجسام وحدوث العالم |
2 | 194 | وهذا غلط من وجوه أحدها أن هذا القول لم يقله أحد من العقلاء لا قوم إبراهيم ولا غيرهم ولا توهم أحدهم أن كوكبا أو القمر أو الشمس خلق هذا العالم وإنما كان قوم إبراهيم مشتركين يعبدون هذه الكواكب زاعمين أن في ذلك جلب منفعة أو دفع مضرة على طريقة الكلدانيين والكشدانيين وغيرهم من المشركين أهل الهند وغيرهم وعلى طريقة هؤلاء صنف الكتاب الذي صنفه أبو عبدالله بن الخطيب الرازي في السحر والطلسمات ودعوة الكواكب وهذا دين المشركين من |
2 | 195 | الهند والخطأ والنبط والكلدانيين والكشدانيين وغير هؤلاء ولهذا قال الخليل يا قوم إني برئ مما تشركون سورة الأنعام وقال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين سورة الشعراء وأمثال ذلك وأيضا فالأفول في لغة العرب هو المغيب والإحتجاب ليس هو الحركة والإنتقال |
2 | 196 | وأيضا فلو كان احتجاجه بالحركة والإنتقال لم ينتظر إلى أن يغيب بل كان نفس الحركة التي يشاهدها من حين تطلع إلى أن تغيب هي الأفول وأيضا فحركتها بعد المغيب والإحتجاب غير مشهودة ولا معلومة وأيضا فلو كان قوله هذا ربي أي هذا رب العالمين لكانت قصة إبراهيم عليه السلام حجة عليهم لأنه حينئذ لم تكن الحركة عنده مانعة من كونه رب العالمين وإنما المانع هو الأفول ولما حرف هؤلاء لفظ الأفول سلك ابن سينا هذا المسلك |
2 | 197 | في إشاراته فجعل الأفول هو الإمكان وجعل كل ممكن آفلا وأن الأفول هوى في حظيرة الإمكان وهذا يستلزم أن يكون ما سوى الله آفلا ومعلوم أن هذا من أعظم الإفتراء على اللغة والقرآن ومن أعظم القرمطة ولو كان كل ممكن آفلا لم يصح قوله فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين فإن قوله فلما أفل يقتضى حدوث الأفول له وعلى قول هؤلاء المفترين على اللغة والقرآن الأفول لازم له لم يزل ولا يزال آفلا ولو كان مراد إبراهيم بالأفول الإمكان والإمكان حاصل في الشمس والقمر والكوكب في كل وقت لم يكن به حاجة إلى أن ينتظر أفولها وأيضا فجعل القديم الأزلي الواجب بغيره أزلا وأبدا ممكنا قول انفرد به ابن سينا ومن تابعه وهو قول مخالف لجمهور العقلاء من سلفهم وخلفهم |
2 | 198 | والمقصود هنا أنه لما ظهرت الجهمية نفاة الصفات تكلم الناس في الجسم وفي إدخال لفظ الجسم في أصول الدين وفي التوحيد وكان هذا من الكلام المذموم عند السلف والأئمة فصار الناس في لفظ الجسم على ثلاثة أقوال طائفة تقول إنه جسم وطائفة تقول ليس بجسم وطائفة تمتنع عن إطلاق القول بهذا وهذا لكونه بدعة في الشرع أو لكونه في العقل يتناول حقا وباطلا فمنهم من يكف عن التكلم في ذلك ومنهم من يستفصل المتكلم فإن ذكر في النفي أو الإثبات معنى صحيحا قبله وعبر عنه بعبارة شرعية لا يعبر عنها بعبارة مكروهة في الشرع وإن ذكر معنى باطلا رده وذلك أن لفظ الجسم فيه اشتراك بين معناه في اللغة ومعانيه المصطلح عليها وفي المعنى منازعات عقلية فيطلقه كل قوم بحسب اصطلاحهم وحسب اعتقادهم فإن الجسم عند أهل اللغة هو البدن أو البدن ونحوه مما هو غليظ كثيف هكذا نقله غير واحد من أهل اللغة ومنه قوله تعالى وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم سورة المنافقون وقوله تعالى وزاده بسطة في العلم والجسم سورة البقرة ثم قد يعنى به نفس الشيء الغليظ الكثيف وقد يعنى به نفس غلظه وكثافته |
2 | 199 | وعلى هذا فالزيادة في الجسم الذي هو الطول والعرض وهو القدر وعلى الأول فالزيادة في نفس المقدر الموصوف وقد يقال هذا الثوب له جسم أي غلظ وثخن ولا يسمى الهواء جسما ولا النفس الخارج من فم الإنسان ونحو ذلك عندهم جسما وأما أهل الكلام والفلسفة فالجسم عندهم أعم من ذلك كما أن لفظ الجوهر في اللغة أخص من معناه في اصطلاحهم فإنهم يعنون بالجوهر ما قام بنفسه أو المتحيز أو ما إذا وجد كان وجوده لا في موضع أي لا في محل يستغنى عنه والجوهر في اللغة الجوهر المعروف ثم قد يعبرون عن الجسم بأنه ما يشار إليه أو ما يقبل الإشارة الحسية بأنه هنا أو هناك وقد يعبرون عنه بما قبل الأبعاد الثلاثة الطول والعرض والعمق أو بما كان فيه الأبعاد الثلاثة الطول والعرض والعمق ولفظ البعد الطول والعرض والعمق في اصطلاحهم أعم من |
2 | 200 | معناه في اللغة فإن أهل اللغة يقسمون الأعيان إلى طويل وقصير والمسافة والزمان إلى قريب وبعيد والمنخفض من الأرض إلى عميق وغير عميق وهؤلاء عندهم كل ما يراه الإنسان من الأعيان فهو طويل عريض عميق حتى الحبة بل الذرة وما هو أصغر من ذرة هو في اصطلاحهم طويل عريض عميق وقد يعبرون عن الجسم بالمركب أو المؤلف ومعنى ذلك عندهم أعم من معناه في اللغة فإن المركب والمؤلف في اللغة ما ركبه مركب أو ألفه مؤلف كالأدوية المركبة من المعاجين والأشربة ونحو ذلك وبالمركب ماركب على غيره أو فيه كالباب المركب في موضعه ونحوه ومنه قوله تعالى في أي صورة ما شاء ركبك سورة الإنفطار وبالتأليف التوفيق بين القلوب ونحو ذلك ومنه قوله تعالى والمؤلفة |
2 | 201 | قلوبهم سورة التوبة وقوله وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم سورة الأنفال وقوله إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته أخوانا سورة آل عمران وللناس اصطلاحات في المؤلف والمركب كما للنحاة اصطلاح فقد يعنون بذلك الجملة التامة وقد يعنون به ما ركب تركيب مزج كبعلبك وقد يعنون به المضاف وما يشبهه وهو ما ينصب في النداء وللمنطقيين ونحوهم من أهل الكلام اصطلاحات أخر يعنون به ما دل جزؤه على جزء معناه فيدخل في ذلك المضاف إذا قصد به الإضافة دون العلمية فلا يدخل فيه بعلبك ونحوه ومنهم من يسوى بين المؤلف والمركب ومنهم من يفرق بينهما وهذا كله تأليف في الأقوال وأما التأليف في الأعيان فأولئك إذا قالوا إن الجسم هو المؤلف والمركب لم يعنوا به ما كان مفترقا فاجتمع ولا ما يقبل التفريق بل يعنون به ما تميز منه جانب عن جانب كالشمس والقمر وغيرهما من الأجسام وأما المتفلسفة فالمؤلف والمركب عندهم أعم من هذا يدخلون |
2 | 202 | وفي ذلك تأليفا عقليا لا يوجد في الأعيان ويدعون أن النوع مؤلف من الجنس والفصل فإذا قلت الإنسان حيوان ناطق قالوا الإنسان مؤلف من هذين وإنما هو موصوف بهما ثم تنازع هؤلاء في الجسم هل هو مركب من أجزاء لا تقبل القسمة وهي الجوهر الفرد عندهم وهو شيء لم يدركه أحد بحسه وما من شيء نفرضه إلا وهو أصغر منه عند القائلين به أو مركب من المادة والصورة تركيبا عقليا وإذا حقق الأمر عليهم في المادة لم يوجد إلا نفس الجسم وأعراضه تارة يعنى بالمادة الجسم الذي هو جوهر والصورة شكله واتصاله القائم به وتارة يعنى بالصورة نفس الجسم الذي هو الجوهر وبالمادة القدر المطلق الذي يعم الأجسام كلها أو يعنى بها ما منه خلق الجسم وقد يعنى بالصورة العرضية التي هي الإتصال والشكل القائم به فالجسم هو المتصل والصورة هي الإتصال فالصورة هنا عرض والمادة الجسم كالصورة الصناعية كشكل السرير فإنه صورته والخشب مادته |
2 | 203 | ولفظ المادة والهيولي يعنى به عندهم هذه الصورة الصناعية وهي عرض يحدث بفعل الآدميين ويعنى به الصورة الطبيعية وهي نفس الأجسام وهي جواهر ومادة وما منها خلقت وقد يعنى بالمادة المادة الكلية وهي ما تشترك فيه الأجسام من القدر ونحوه وهذه كليات حاصلة في الأذهان وهي في الخارج معينة إما أعراض وإما جواهر وقد يعنى بالمادة المادة الأزلية وهي المجردة عن الصورة وهذه يثبتها أفلاطن وسائر العقلاء أنكروها وفي الحقيقة هي ثابتة في الذهن لا في الخارج والأجسام مشتركة في كون كل واحد منها له قدر يخصه فهي مشتركة في نوع المقدار لا في عينه فصارت الأجسام مشتركة في المقدار فقالوا بينها مادة مشتركة وهيولي مشتركة ولم يهتدوا إلى الفرق بين الإشتراك في الكلي المطلق والإشتراك في الشيء المعين فاشتراك الأجسام في الجسمية والإمتداد والمقدار الذي يظن أنه المادة ونحو ذلك كاشتراك الناس في الإنسانية واشتراك الحيوانات في الحيوانية |
2 | 204 | وهؤلاء ظنوا أن هذه الكليات موجودة في الخارج مشتركة وذلك غلط فإن ما في الخارج ليس فيه اشتراك بل لكل موجود شيء يخصه لا يشركه فيه غيره والإشتراك يقع في الأمور العامة الكلية المطلقة وتلك لا تكون عامة مطلقة كلية إلا في الأذهان لا في الأعيان فما فيه الإشتراك ليس فيه إلا العلم والعقل وما به الإختصاص والإمتياز وهو الموجود في الخارج لا اشتراك فيه وإنما فيه اشتباه وتماثل يسمى اشتراكا كالاشتراك في المعنى العام والإنقسام بحسب الإشتراك فمن لم يفرق بين قسمة الكلى إلى جزئياته والكل إلى أجزاء كقسمة الكلمة إلى اسم وفعل وحرف وإلا غلط كما غلط كثير من الناس في هذا الموضع ولما قالت طائفة من النحاة كالزجاجي وابن جنى الكلام ينقسم |
2 | 205 | إلى اسم وفعل وحرف أو الكلام كله ثلاثة اسم وفعل وحرف اعترض على ذلك من لم يعرف مقصودهم ولم يجعل القسمة نوعين كالجزولي حيث قال كل جنس قسم إلى أنواعه أو أشخاصه أو نوع قسم إلى أشخاصه فاسم المقسوم صادق على الأنواع والأشخاص وإلا فليست أقساما له وكلام أبي البقاء في تفسير ابن جنى أقرب حيث قال معناه أجزاء الكلام ونحو ذلك |
2 | 206 | ومن المعلوم أن قسمة كل الشيء الموجود في الخارج إلى أبعاضه وأجزائه أشهر من قسمة المعنى العام الذي في الذهن إلى أنواعه وأشخاصه كقوله تعالى ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر سورة القمر وقوله وإذا حضر القسمة أولو القربى سورة النساء وقوله عليه الصلاة والسلام والله إنى ما أعطى أحدا ولا أمنع أحدا وإنما أنا قاسم أقسم بينكم وقوله لا تعضية في الميراث إلا ما حمل القسم وقول الصحابة رضوان الله |
2 | 207 | عليهم قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أرض خيبر بين من حضر الحديبية وقسم غنائم حنين بالجعرانة مرجعه من الطائف وقسم ميراث سعد بن الربيع وقول الفقهاء باب قسم الغنائم والفئ والصدقات وقسمة الميراث وباب القسمة وذكر المشاع والمقسوم وقسمه الإجبار والتراضي ونحو ذلك وقول الحاسب الضرب والقسمة إنما يراد به قسمة الأعيان الموجودة في الخارج فيأخذ أحد الشريكين قسما والآخر قسما وليس كل اسم |
2 | 208 | من أسماء المقسوم يجب أن يصدق على كل منهما منفردا فإذا قسم بينهم جزور فأخذ هذا فخذا وهذا رأسا وهذا ظهرا لم يكن اسم الجزور صادقا على هذه الأبعاض وكذلك لو قسم بينهم شجرة فأخذ هذا نصف ساقها وهذا نصفا وهذا أغصانها لم يكن اسم المقسوم صادقا على الأبعاض ولو قسم بينهم سهم كما كان الصحابة يقسمون فيأخذ هذا القدح وهذا النصل لم يكن هذا سهما ولا هذا سهما فإذا كان اسم المقسوم لا يقع إلا حال الإجتماع زال بالإنقسام وإن كان يقال حال الإجتماع والإفتراق كانقسام الماء والتمر ونحو ذلك صدق فيهما وعلى التقديرين فالمقسوم هنا موجودات في الخارج وإذا قلنا الحيوان ينقسم إلى ناطق وبهيم لم نشر إلى حيوان معين موجود في الخارج فنقسمه قسمين بل هذا اللفظ والمعنى يدخل فيه ما كان وما لم يكن بعد ويتناول جزئيات لم تخطر بالذهن فهذه المعاني الكلية لا توجد في الخارج كلية فإذا قيل الأجسام تشترك في مسمى الجسم أو في المقدار المعين أو غير ذلك كان هذا المشترك معنى كليا والمقدار المعين |
2 | 209 | لهذا الجسم ليس هو المقدار المعين لهذا الجسم المعين وإن كان مساويا له وأما إن كان أكبر منه فهنا اشتركا في نوع القدر لا في هذا القدر فالإشتراك الذي بين الأجسام هو في هذه الأمور وأما ثبوت شيء موجود في الخارج هو في هذا الإنسان وهو بعينه في هذا الإنسان فهو مكابرة سواء في ذلك المادة والحقائق الكلية ولكن هؤلاء ظنوا ما في الأذهان ثابتا في الأعيان والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع والمقصود هنا أن هذا الباب التأليف والتركيب في اصطلاح هؤلاء المتفلسفة من المتكلمين والمنطقيين ومن وافقهم هو نوع آخر غير تلك الأنواع والمركب لا بد له من مفرد وإذا حقق الأمر على هؤلاء لم يوجد عندهم معنى مفرد يتركب منه هذه المؤلفات وإنما يوجد ذلك في الأذهان لا في الأعيان فالبسيط المفرد الذي يقدرونه كالحيوانية المطلقة والجسمية المطلقة وأمثال ذلك لا يوجد في الخارج إلا صفات معينة لموصوفات معينة فهذه الأمور مما تدخل في لفظ المؤلف والمركب بحسب الإصطلاحات الوضعية مع ما فيها من الإعتبارات العقلية |
2 | 210 | وهم متنازعون في الجسم هل هو مؤلف من الجواهر المفردة التي لا تقبل الإنقسام كما يقوله كثير من أهل الكلام أو مؤلف من المادة والصورة كما يقوله كثير من المتفلسفة أولا مؤلف لا من هذا ولا من هذا كما يقوله كثير من الطوائف على ثلاثة أقوال أصحها الثالث وكل من أصحاب الأقوال الثلاثة متنازعون هل يقبل القسمة إلى غير نهاية والصحيح أنه لا يقبل الإنقسام إلى غير نهاية لكن مثبتة الجوهر الفرد يقولون ينتهي إلى حد لا يقبل القسمة مع وجوده وليس كذلك بل إذا تصغرت الأجزاء استحالت كما في أجزاء الماء إذا تصغرت فإنها تستحيل فتصير هواء فما دامت موجودة فإنه يتميز منها جانب عن جانب فلا يوجد شيء لا يتميز بعضه عن بعض كما يقوله مثبتة الجوهر الفرد ولا يمكن انقسامه إلى مالا يتناهى بل إذا صغرلم يقبل القسمة الموجودة في الخارج وإن كان بعضه غير البعض الآخر بل إذا تصرف فيه بقسمة أو نحوها استحال فالأجزاء الصغيرة ولو عظم صغرها يتميز منها شيء عن شيء في نفسه وفي الحس والعقل لكي لا يمكن فصل بعضه عن بعض بالتفريق بل يفسد ويستحيل لضعف قوامه عن احتمال ذلك وبسط هذا له موضع آخر |
2 | 211 | ثم القائلون بأن الجسم مركب من جواهر منفردة تنازعوا هل هو جوهر واحد بشرط انضمام مثله إليه أو جوهران فصاعدا أو أربعة أو ستة أو ثمانية أو ستة عشر أو أثنان وثلاثون على أقوال معروفة لهم ففي لفظ الجسم والجوهر والمتحيز من الإصطلاحات والآراء المختلفة ما فيه فلهذا وغيره لم يسغ إطلاق إثباته ولا نفيه بل إذا قال القائل إن الباري تعالى جسم قيل له أتريد أنه مركب من الأجزاء كالذي كان متفرقا فركب أو أنه يقبل التفريق سواء قيل اجتمع بنفسه أو جمعه غيره أو أنه من جنس شيء من المخلوقات أو أنه مركب من المادة والصورة أو من الجواهر المنفردة فإن قال هذا قيل هذا باطل وإن قال أريد به أنه موجود أو قائم بنفسه كما يذكر عن هشام ومحمد بن كرام وغيرهما ممن أطلق هذا اللفظ أو أنه موصوف |
2 | 212 | بالصفات أو أنه يرى في الآخرة أو أنه يمكن رؤيته أو أنه مباين للعالم فوقه ونحو هذه المعاني الثابتة بالشرع والعقل قيل له هذه معان صحيحة ولكن إطلاق هذا اللفظ على هذا بدعة في الشرع مخالف للغة فاللفظ إذا احتمل المعنى الحق والباطل لم يطلق بل يجب أن يكون اللفظ مثبتا للحق نافيا للباطل وإذا قال ليس بجسم قيل أتريد بذلك أنه لم يركبه غيره ولم يكن أجزاء متفرقة فركب أو أنه لا يقبل التفريق والتجزئة كالذي ينفصل بعضه عن بعض أو أنه ليس مركبا من الجواهر المنفردة ولا من المادة والصورة ونحو هذه المعاني أو تريد به شيئا يستلزم نفى اتصافه بالصفات بحيث لا يرى ولا يتكلم بكلام يقوم به ولا يباين خلقه ولا يصعد إليه شيء ولا ينزل منه شيء ولا تعرج إليه الملائكة ولا الرسول ولا ترفع إليه |
2 | 213 | الأيدي ولا يعلو على شيء ولا يدنو منه شيء ولا هو داخل العالم ولا خارجه ولا مباين له ولا محايث له ونحو ذلك من المعاني السلبية التي لا يعقل أن يتصف بها إلا المعدوم فإن قال أردت الأول قيل المعنى صحيح لكن المطلقون لهذا النفى أدخلوا فيه هذه المعاني السلبية ويجعلون ما يوصف به من صفات الكمال الثبوتية مستلزمة لكونه جسما فكل ما يذكر من الأمور الوجودية يقولون هذا تجسيم ولا ينتفي ما يسمونه تجسيما إلا بالتعطيل المحض ولهذا كل من نفى شيئا قال لمن أثبته إنه مجسم فغلاة النفاة من الجهمية والباطنية يقولون لمن أثبت له الأسماء الحسنى إنه مجسم ومثبتة الأسماء دون الصفات من المعتزلة ونحوهم يقولون لمن أثبت الصفات إنه مجسم ومثبتة الصفات دون |
2 | 214 | ما يقوم به من الأفعال الإختيارية يقولون لمن أثبت ذلك إنه مجسم وكذلك سائر النفاة وكل من نفى ما أثبته الله ورسوله بناء على أن إثباته تجسيم يلزمه فيما أثبته الله ورسوله ومنتهى هؤلاء النفاة إلى أثبات وجود مطلق وذات مجردة عن الصفات والعقل الصريح يعلم أن الوجود المطلق والذات المجردة عن الصفات إنما يكون في الأذهان لا في الأعيان فالذهن يجرد هذا ويقدر هذا التوحيد الذي يفرضونه كما يقدر إنسانا مطلقا وحيوانا مطلقا ولكن ليس كل ما قدرته الأذهان كان وجوده في الخارج في حيز الإمكان ومن هنا يظهر غلط من قصد إثبات إمكان هذا بالتقدير العقلي كما ذكره الرازي فقال العقل يعلم أن الشيء إما أن يكون متحيزا وإما أن يكون قائما بالمتحيز وإما أن يكون لا متحيزا ولا حالا بالمتحيز |
2 | 215 | فيقال له تقدير العقل لهذه الأقسام لا يقتضي وجودها في الخارج ولا إمكان وجودها في الخارج فإن هذا مثل أن يقال الشيء إما أن يكون واجبا وإما أن يكون ممكنا وإما أن يكون لا واجبا ولا ممكنا والشيء إما أن يكون قديما وإما أن يكون محدثا وإما أن يكون لا قديما ولا محدثا والشيء إما أن يكون قائما بنفسه وإما أن يكون قائما بغيره وإما أن يكون لا قائما بنفسه ولا قائما بغيره والشيء إما أن يكون موجودا وإما أن يكون معدوما وإما أن يكون لا موجودا ولا معدوما فإن أمثال هذه التقديرات والتقسيمات لا تثبت إمكان الشيء ووجوده في الخارج بل إمكان الشيء يعلم بوجوده أو بوجود نظيره أو وجود ما يكون الشيء أولى بالوجود من ذلك الذي علم وجوده أو بنحو ذلك من الطرق والإمكان الخارجي يثبت بمثل هذه الطرق وأما الإمكان الذهني فهو أن لا يعلم امتناع الشيء ولكن عدم العلم بالإمتناع ليس علما بالإمكان فإن قال النافي كل ما اتصف بأنه حي عليم قدير أو ما كان له حياة وعلم وقدرة أو ما يجوز أن يرى أو ما يكون فوق العالم أو نحو ذلك |
2 | 216 | من المعاني التي أثبتها الكتاب والسنة لا يوصف بها إلا ما هو جسم مركب من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة وذلك ممتنع قيل جمهور العقلاء لا يقولون إن هذه الأجسام المشهودة كالسماء والكواكب مركبة لا من الجواهر الفردة ولا من المادة والصورة فكيف يلزمهم أن يقولوا بلزوم هذا التركيب في رب العالمين وقد بين في غير هذا الموضع فساد حجج الطائفتين وفساد حجج نفيهم لهذين المعنيين وأن هؤلاء يبطلون حجة هؤلاء الموافقين لهم في الحكم وهؤلاء يبطلون حجة هؤلاء فلم يتفقوا على صحة حجة واحدة بنفى ما جعلوه مركبا بل هؤلاء يحتجون بأن المركب مفتقر إلى أجزائه فيبطل أولئك هذه الحجة وهؤلاء يحتجون بأن ما كان كذلك لم يخل عن الأعراض الحادثة وما لم يخل عن الحوادث فهو محدث وأولئك يبطلون حجة هؤلاء بل يمنعونهم المقدمتين وهذه الأمور مبسوطة في غير هذه الموضع وإنما نبهنا هنا على هذا الباب والأصل الذي يجب على المسلمين أن ما ثبت عن الرسول وجب |
2 | 217 | الإيمان به فيصدق خبره ويطاع أمره وما لم يثبت عن الرسول فلا يجب الحكم فيه بنفى ولا إثبات حتى يعلم مراد المتكلم ويعلم صحة نفيه أو إثباته وأما الألفاظ المجملة فالكلام فيها بالنفى والإثبات دون الإستفصال يوقع في الجهل والضلال والفتن والخبال والقيل والقال وقد قيل أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء وكل من الطائفتين نفاة الجسم ومثبتية موجودون في الشيعة وفي أهل السنة المقابلين للشيعة أعنى الذين يقولون بإمامة الخلفاء الثلاثة وأول ما ظهر إطلاق لفظ الجسم من متكلمة الشيعة كهشام بن الحكم كذا نقل ابن حزم وغيره قال أبو الحسن الأشعري في كتاب مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين اختلف الروافض أصحاب الإمامة في التجسيم وهم ست فرق فالفرقة الأولى الهشامية أصحاب هشام بن الحكم الرافضي يزعمون أن معبودهم جسم وله نهاية وحد طويل عريض عميق طوله |
2 | 218 | مثل عرضه وعرضه مثل عمقه لا يوفى بعضه على بعض وزعموا أنه نور ساطع له قدر من الأقدار في مكان دون مكان كالسبيكة الصافية يتلألأ كاللؤلؤة المستديرة من جميع جوانبها ذو لون وطعم ورائحة ومجسمة وذكر كلاما طويلا والفرقة الثانية من الرافضة يزعمون أن ربهم ليس بصورة ولا كالأجسام وإنما يذهبون في قولهم إنه جسم إلى أنه موجود ولا يثبتون البارئ ذا أجزاء مؤتلفة وأبعاض متلاصقة ويزعمون أن الله على العرش مستو بلا مماسة ولا كيف والفرقة الثالثة من الرافضة يزعمون أن ربهم على صورة الإنسان ويمنعون أن يكون جسما والفرقة الرابعة من الرافضة الهشامية أصحاب هشام بن سالم الجواليقي يزعمون أن ربهم على صورة الإنسان وينكرون أن يكون لحما ودما ويقولون هو نور ساطع يتلألأ بياضا وأنه ذو حواس |
2 | 219 | خمس كحواس الإنسان له يد ورجل وأنف وأذن وفم وعين وأنه يسمع بغير ما به يبصر وكذلك سائر حواسه متغايره عندهم قال وحكى أبو عيسى الوراق أن هشام بن سالم كان يزعم أن لربه وفرة سوداء وأن ذلك نور أسود والفرقة الخامسة يزعمون أن لرب العالمين ضياء خالصا ونورا بحتا وهو كالمصباح الذي من حيث جئته يلقاك بأمر واحد وليس بذي صورة ولا أعضاء ولا اختلاف في الأجزاء وأنكروا أن يكون على صورة الإنسان أو على صورة شيء من الحيوان قال والفرقة السادسة من الرافضة يزعمون أن ربهم ليس بجسم ولا بصورة ولا يشبه الأشياء ولا يتحرك ولا يسكن ولا يماس |
2 | 220 | وقالوا في التوحيد بقول المعتزلة والخوارج قال أبو الحسن الأشعري وهؤلاء قوم من متأخريهم فأما أوائلهم فإنهم كانوا يقولون بما حكيناه عنهم من التشبيه قلت وهذا الذي ذكره أبو الحسن الأشعري عن قدماء الشيعة من القول بالتجسيم قد اتفق على نقله عنهم أرباب المقالات حتى نفس الشيعة كابن النوبختى وغيره ذكر ذلك عن هؤلاء الشيعة وقال أبو محمد بن حزم وغيره أول من قال في الإسلام إن الله جسم هشام ابن الحكم وكان الذين يناقضونه في ذلك المتكلمين من المعتزل كأبي الهذيل العلاف فالجهمية والمعتزلة أول من قال إن الله ليس بجسم فكل من القولين قاله قوم من الإمامية ومن أهل السنة الذين ليسوا بإمامية وإثبات الجسم قول محمد بن كرام وأمثاله ممن يقول بخلافة الخلفاء الثلاثة والنفى قول أبي الحسن الأشعري وغيره ممن يقول |
2 | 221 | بخلافة الخلفاء الثلاثة وقول كثير من أتباع الأئمة الأربعة أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم فلفظ أهل السنة يراد به من أثبت خلافة الخلفاء الثلاثة فيدخل في ذلك جميع الطوائف إلا الرافضة وقد يراد به أهل الحديث والسنة المحضة فلا يدخل فيه إلا من يثبت الصفات لله تعالى ويقول إن القرآن غير مخلوق وإن الله يرى في الآخرة ويثبت القدر وغير ذلك من الأصول المعروفة عند أهل الحديث والسنة وهذا الرافضي يعنى المصنف جعل أهل السنة بالإصطلاح الأول وهو اصطلاح العامة كل من ليس برافضي قالوا هو من أهل السنة ثم أخذ ينقل عنهم مقالات لا يقولها إلا بعضهم مع تحريفه لها فكان في نقله من الكذب والإضطراب ما لا يخفى على ذوي الألباب وإذا عرف أن مراده بأهل السنة السنة العامة فهؤلاء متنازعون في إثبات الجسم ونفيه كما تقدم والإمامية أيضا متنازعون في ذلك وأئمة النفاة هم الجهمية من المعتزلة ونحوهم يجعلون من أثبت الصفات مجسما بناء عندهم على أن الصفات لا تقوم إلا بجسم |
2 | 222 | ويقولون إن الجسم مركب من الجواهب المفردة أو من المادة والصورة فقال لهم أهل الإثبات قولكم منقوض بإثبات الأسماء الحسنى فإن الله حي عليم قدير فإن أمكن إثبات حي عليم قدير وليس بجسم أمكن أن يكون له حياة وعلم وقدرة وليس بجسم وإن لم يمكن إثبات ذلك فما كان جوابكم عن إثبات الأسماء كان جوابنا عن إثبات الصفات ثم المثبتون للصفات منهم من يثبت الصفات المعلومة بالسمع كما يثبت الصفات المعلومة بالعقل وهذا قول أهل السنة الخاصة أهل الحديث ومن وافقهم وهو قول أئمة الفقهاء وقول أئمة الكلام من أهل الإثبات كأبي محمد بن كلاب وأبي العباس القلانسي وأبي الحسن |
2 | 223 | الأشعري وأبي عبدالله بن مجاهد وأبي الحسن الطبري والقاضي أبي بكر بن الباقلاني ولم يختلف في ذلك قول الأشعري وقدماء أئمة أصحابه لكن المتأخرون من أتباعه كأبي المعالي وغيره لا يثبتون إلا الصفات العقلية وأما الخبرية فمنهم من ينفيها ومنهم من يتوقف فيها كالرازي والآمدي وغيرهما ونفاة الصفات الخبرية منهم من يتأول نصوصها ومنهم من يفوض معناها إلى الله |
2 | 224 | وأما من أثبتها كالأشعري وأئمة أصحابه فهؤلاء يقولون تأويلها بما يقتضى نفيها تأويل باطل فلا يكتفون بالتفويض بل يبطلون تأويلات النفاة وقد ذكر الأشعري ذلك في عامة كتبه كالموجز والمقالات الكبير والمقالات الصغير والإبانة وغير ذلك ولم يختلف في ذلك كلامه لكن طائفة ممن توافقه وممن تخالفه يحكون له قولا آخر أو تقول أظهر غير ما أبطن وكتبه تدل على بطلان هذين الظنين وأما القول الثالث وهو القول الثابت عن أئمة السنة المحضة كالإمام أحمد وذويه فلا يطلقون لفظ الجسم لا نفيا ولا إثباتا لوجهين |
2 | 225 | أحدهما أنه ليس مأثورا لا في كتاب ولا سنة ولا أثر عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا غيرهم من أئمة المسلمين فصار من البدع المذمومة الثاني أن معناه يدخل فيه حق وباطل فالذين أثبتوه أدخلوا فيه من النقص والتمثيل ما هو باطل والذين نفوه أدخلوا فيه من التعطيل والتحريف ما هو باطل وملخص ذلك أن الذين نفوه أصل قولهم أنهم أثبتوا حدوث العالم بحدوث الأجسام فقالوا الجسم لا يخلو عن الحركة والسكون وما لا يخلو عنهما فإنه لا يخلو عن حادث لأن الحركة حادثة شيئا بعد شيء والسكون إما عدم الحركة وإما ضد يقابل الحركة وبكل حال فالجسم لا يخلوا عن الحركة والسكون والسكون يمكن تبديله بالحركة فكل جسم يقبل الحركة فلا يخلو منها أو مما يقابلها فإن كان لا يخلو منها كما تقوله الفلاسفة في الفلك فإنه حادث وإن كان لا يخلو مما يقابلها فإن يقبل الحركة وما قبل الحركة أمكن |
2 | 226 | أن لا يخلو منها فأمكن أن لايخلو من الحوادث وما أمكن لزوم دليل الحدوث له كان حادثا فإن الرب تعالى لا يجوز أن يلزمه دليل الحدوث ثم منهم من اكتفى بقوله ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث فإن ما لا يخلو عنها لا يسبقها فلا يكون قبلها وما لا يكون إلا مقارنا للحادث لا قبله ولا يكون إلا حادثا وكثير من الكتب المصنفة لا يوجد فيها إلا هذا وأما حذاق هؤلاء فتفطنوا للفرق بين عين الحادث ونوع الحادث فإن المعلوم أن ما لا يسبق الحادث المعين فهو حادث وأما ما لا يسبق نوع الحادث فهذا لا يعلم حدوثه وإن لم يعلم امتناع دوام الحوادث وأن لها ابتداء وأنه يمتنع تسلسل الحوادث ووجود حوادث لا أول لها فصار الدليل موقوفا على امتناع حوادث لا أول لها وهذا الموضع هو المهم الأعظم في هذا الدليل وفيه كثر الإضطراب والتبس الخطأ بالصواب |
2 | 227 | وآخرون سلكوا أعم من هذا فقالوا الجسم لا يخلو عن الأعراض والأعرض حادثة لا تبقى زمانين ومنهم من يقول الجسم لا يخلو عن نوع من أنواع الأعراض لأنه قابل له والقابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده ومنهم من قال الجسم لا يخلو عن الإجتماع والإفتراق والحركة والسكون وهذه الأنواع الأربعة هي الأكوان فالجسم لا يخلو عن الأكوان والكلام في هذه الطرق ولوازمها كثير قد بسط في غير هذا الموضع والمقصود هنا التنبيه وهذا الكلام وإن كان أصله من المعتزلة فقد دخل في كلام المثبتين للصفات حتى في كلام المنتسبين إلى السنة الخاصة المنتسبين إلى الحديث والسنة وهو موجود في كلام كثير من أصحاب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم وهذا من الكلام الذي بقى على الأشعري من بقايا كلام المعتزلة فإنه خالف المعتزلة لما رجع عن مذهبهم في أصولهم التي اشتهروا فيها بمخالفة أهل السنة كإثبات الصفات والرؤية وأن القرآن غير |
2 | 228 | مخلوق وإثبات القدر وغير ذلك من مقالات أهل السنة والحديث وذكر في كتاب المقالات أنه يقول بما ذكره عن أهل السنة والحديث وذكر في الإبانةأنه يأتم بقول الإمام أحمد قال فإنه الإمام الكامل والرئيس الفاضل الذي أبان الله به الحق وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين وقال فإن قال قائل قد أنكرتم قول الجهمية والمعتزلة والقدرية والمرجئة واحتج في ضمن ذلك بمقدمات سلمها |
2 | 229 | للمعتزلة مثل هذا الكلام فصارت المعتزلة وغيرهم من أهل الكلام يقولون إنه متناقض في ذلك وكذلك سائر أهل السنة والحديث يقولون إن هذا تناقض وإن هذه بقية بقيت عليه من كلام المعتزلة وأصل ذلك هو هذا الكلام وهو موجود في كلام كثير من أصحاب أحمد والشافعي ومالك وكثير من هؤلاء يخالف الأشعري في مسائل وقد وافقه على الأصل الذي ترجع إليه تلك المسائل فيقول الناس في تناقضه كما قالوه في تناقض الأشعري وكما قالوه في تناقض المعتزلة وتناقض الفلاسفة فما من طائفة فيها نوع يسير من مخالفة السنة المحضة والحديث إلا ويوجد في كلامها من التناقض بحسب ذلك وأعظمهم تناقضا أبعدهم عن السنة كالفلاسفة ثم المعتزلة والرافضة فلما أعتقد هؤلاء أنهم أثبتوا بهذا الدليل حدوث الجسم لزم انتفاء ذلك عن الله لأن الله قديم ليس بمحدث فقالت المعتزلة ما قامت به الصفات فهو جسم لأن الصفات أعراض والعرض لا يقوم |
2 | 230 | إلا بجسم فنفت الصفات ونفت أيضا قيام الأفعال الإختيارية به لأنها أعراض ولأنها حوادث فقالت القرآن مخلوق لأن القرآن كلام وهو عرض ولأنه يفتقر إلى الحركة وهي حادثة فلا يقوم إلا بجسم وقالت أيضا إنه لا يرى في الآخرة لأن العين لا ترى إلا جسما أو قائما بجسم وقالت ليس هو فوق العالم لأن ذلك مقام مكان والمكان لا يكون به إلا جسم أو ما يقوم بجسم وهذا هو المذهب الذي ذكره هذا الإمامي وهو لم يبسط الكلام فيه فلذا اقتصرنا على هذا القدر إذا الكلام على ذلك مبسوط في موضع آخر فقالت مثبتة الصفات للمعتزلة أنتم تقولون إن الله حي عليم قدير وهذا لا يكون إلا جسما فإن طردتم قولكم لزم أن يكون الله جسما وإن قلتم بل يسمى بهذه الأسماء من ليس بجسم قيل لكم وتثبت هذه الصفات لمن ليس بجسم وقالوا لهم أيضا إثبات حي بلا حياة وعالم بلا علم وقادر |
2 | 231 | بلا قدرة مثل إثبات أسود بلا سواد وأبيض بلا بياض وقائم بلا قيام ومصل بلا صلاة ومتكلم بلا كلام وفاعل بلا فعل وهذا مما يعلم فساده لغة وعقلا وقالوا لهم أيضا أنتم تعلمون أنه حي عالم قادر وليس كونه حيا هو كونه عالما ولا كونه عالما هو كونه قادرا فهذه المعاني التي تعقلونها وتثبتونها هي الصفات سواء سميتموها أحكاما أو أحوالا أو معاني أو غير ذلك فليس الإعتبار بالألفاظ بل بالمعاني المعقولة ومن تدبر كلام أئمة المعتزلة والشيعة والفلاسفة نفاة الصفات وجدهم في غاية التناقض كما تقول الفلاسفة إنه عاقل ومعقول وعقل وعاشق ومعشوق وعشق ثم يقولون هذا المعنى هو هذا المعنى وإن العالم هو العلم فيجعلون إحدى الصفتين هي الأخرى ويجعلون الموصوف هو الصفة وأيضا فما يشنع به هؤلاء على أهل السنة هم يقولون به بغير اختيارهم ومن تدبر كلام أبي الحسين البصري وأمثاله من أئمة المعتزلة وجد المعاني التي يثبتها هي قول الصفاتية لكن ليس هذا موضع بسط ذلك إذ الكلام هنا مختصر بحسب هذا المقام وقد نبهنا |
2 | 232 | على أن أهل السنة يقولون بالحق مطلقا وأنه ما من قول يثبت بشرع وعقل إلا وقد قال به أئمة أهل السنة وهذا هو المقصود في هذا المقام الوجه السادس أن يقال لهذا الإمامي أنت قلت مذهب الإمامية أحقها وأصدقها وأخلصها عن شوائب الباطل لأنهم اعتقدوا أن الله هو المخصوص بالأزلية والقدم وأن كل ما سواه محدث لأنه واحد وليس بجسم ولا مكان وإلا لكان محدثا وقد تبين أن أكثر متقدمي الإمامية كانوا بضد هذا كهشام بن الحكم وهشام بن سالم ويونس بن عبدالرحمن القمى مولى آل يقطين وزراة بن أعين |
2 | 233 | وأبي مالك الحضرمي وعلي بن ميثم وطوائف كثيرين هم |
2 | 234 | أئمة الإمامية قبل المفيد والطوسي والموسوي والكراجكي وقد تقدم أن هذا قول قدماء الإمامية فإن قول المعتزلة إنما حدث فيهم متأخرا وحينئذ فليست الإمامية كلها على ما ذكرته ثم إن كان ما ذكرته هو الصواب فشيوخ الإمامية المتقدمون على غير الصواب وإن كان خطأ فشيوخهم المتأخرون على هذا الخطأ فقد لزم بالضرورة أن شيوخ الإمامية ضلوا في التوحيد إما متقدموهم وإما متأخروهم الوجه السابع أن يقال أنت ذكرت اعتقادا ولم تذكر عليه دليلا لا شرعيا ولا عقليا ولا ريب أن الرافضة أجهل وأضل وأقل من أن يناضروا علماء السنة لكن يناظر بعضهم بعضا كما يتناظرون دائما في المعدوم هل هو شيء أو ليس بشيء فيقال لهذا الإمامي النافي أنت لم تقم حجة على شيوخك الإمامية القائلين بأن الله في مكان دون مكان وأنه يتحرك وأنه تقوم به الحوادث قال الأشعري واختلفت الروافض في حملة العرش أيحملون |
2 | 235 | العرش أم يحملون البارئ عز وجل وهم فرقتان فرقة يقال لها اليونسية أصحاب يونس بن عبدالرحمن القمى مولى آل يقطين يزعمون أن الحملة يحملون البارى واحتج يونس في أن الحملة تطيق حمله وشبههم بالكركي وأن رجليه تحملانه وهما دقيقتان وقالت فرقة أخرى إن الحملة تحمل العرش والبارئ يستحيل أن يكون محمولا قال الأشعري واختلف الروافض في القول بأن الله عالم حي قادر سميع بصير إله وهم تسع فرق فالفرقة الأولى منهم الزرارية أصحاب زرارة بن أعين الرافضي يزعمون أن الله لم يزل غير سميع ولا عليم ولا بصير حتى خلق ذلك لنفسه وهم يسمون التيمية ورئيسهم زرارة بن أعين |
2 | 236 | والفرقة الثانية منهم السيابية أصحاب عبدالرحمن بن سيابة يقفون في هذه المعاني ويزعمون أن القول فيها ما يقول جعفر كائنا قوله ما كان ولا يعرفون في هذه الأشياء قولا والفرقة الثالثة منهم يزعمون أن الله تعالى لا يوصف بأنه لم يزل إلها قادرا ولا سميعا بصيرا حتى يحدث الأشياء لأن الأشياء التي كانت قبل أن تكون ليست بشيء ولن يجوز أن يوصف بالقدرة لا على شيء وبالعلم لا بشيء وكل الروافض إلا شرذمة قليلة يزعمون أن الله يريد الشيء ثم يبدو له فيه |
2 | 237 | قال والفرقة الرابعة من الروافض يزعمون أن الله لم يزل لا حيا ثم صار حيا والفرقة الخامسة من الروافض وهم أصحاب شيطان الطاق يزعمون أن الله عالم في نفسه ليس بجاهل ولكنه إنما يعلم الأشياء إذا قدرها وأرادها فأما قبل أن يقدرها ويريدها فمحال أن يعلمها لا لأنه ليس بعالم وكلن الشيء لا يكون شيئا حتى يقدره ويشيئه بالتقدير والتقدير عندهم الإرادة |
2 | 238 | قال والفرقة السادسة من الرافضة أصحاب هشام بن الحكم يزعمون أنه محال أن يكون الله لم يزل عالما بالأشياء بنفسه وأنه إنما يعلم الأشياء بعد أن لم يكن بها عالما وأنه يعلمها بعلم وأن العلم صفة له ليست هي هو ولا هي غيره ولا بعضه فلا يجوز أن يقال العلم محدث أو قديم لأن العلم صفة والصفة لا توصف قال ولو كان لم يزل عالما لكانت المعلومات لم تزل لأنه لا يصح عالم إلا بمعلوم موجود قال ولو كان عالما بما يفعله عباده لم تصح المحنة والإختبار قال وقال هشام في سائر صفات الله كقدرته وحياته وسمعه وبصره وإرادته إنها صفات الله لا هي الله ولا غير الله وقد |
2 | 239 | اختلف عنه في القدرة والحياة فمنهم من يحكى عنه أنه كان يقول إن البارئ لم يزل قادرا حيا ومنهم من ينكر أن يكون قال ذلك قال والفرقة السابعة من الرافضة لا يزعمون أن البارئ عالم في نفسه كما قال شيطان الطاق ولكنهم يزعمون أن الله لا يعلم الشيء حتى يؤثر أثره والتأثير عندهم الإرادة فإذا أراد الشيء علمه وإذا لم يرده لم يعلمه ومعنى أراد عندهم أنه تحرك حركة هي إرادة فإذا تحرك علم الشيء وإلا لم يجز الوصف له بأنه عالم به قال والفرقة الثامنة من الرافضة يزعمون أن معنى أن الله يعلم أنه يفعل فإن قيل لهم أتقولون إن الله سبحانه لم يزل عالما |
2 | 240 | بنفسه اختلفوا فمنهم من يقول لم يزل لا يعلم بنفسه حتى فعل العلم لأنه قد كان ولما يفعل ومنهم من يقول لم يزل يعلم بنفسه فإن قيل لهم فلم يزل يفعل قالوا نعم ولا نقول بقدم الفعل قال ومن الرافضة من يزعم أن الله يعلم ما يكون قبل أن يكون إلا أعمال العباد فإنه لا يعلمها إلا في حال كونها قال والفرقة التاسعة من الرافضة يزعمون أن الله تعالى لم يزل عالما حيا قادرا ويميلون إلى نفى التشبيه ولا يقرون بحدوث العلم ولا بما حكيناه من التجسيم وسائر ما أخبرنا به من التشبيه عنهم قال واختلف الروافض في إرادة الله سبحانه وهم أربع فرق |
2 | 241 | فالفرقة الأولى منهم أصحاب هشام بن الحكم وهشام الجواليقي يزعمون أن إرادة الله حركة وهي معنى لا هي الله ولا هي غيره وأنها صفة لله ليست غيره وذلك أنهم يزعمون أن الله إذا أراد الشيء تحرك فكان ما أراد والفرقة الثانية منهم أبو مالك الحضرمي وعلى بن ميثم ومن تابعهما يزعمون أن إرادة الله غيره وهي حركة الله كما قال هشام إلا أن هؤلاء خالفوه فزعموا أن الإرادة حركة وأنها غير الله بها يتحرك والفرقة الثالثة منهم القائلون بالإعتزال والإمامة يزعمون أن إرادة الله ليست بحركة فمنهم من أثبتها غير المراد فيقول إنها مخلوقة لله لا بإرادة ومنهم من يقول إرادة الله لتكوين الشيء هو الشيء |
2 | 242 | وإرادته لأفعال العباد هي أمره إياهم بالفعل وهي غير فعلهم وهم يأبون أن يكون الله أراد المعاصي فكانت والفرقة الرابعة منهم يقولون لا نقول قبل الفعل إن الله أراد فإذا فعلت الطاعة قلنا أرادها وإذا فعلت المعصية فهو كاره لها غير محب لها قلت القول الثالت هو قول متأخري الشيعة كالمفيد وأتباعه الذين اتبعوا المعتزلة وهم طائفة صاحب هذا الكتاب والقول الأول قول البصريين من المعتزلة والثاني قول البغداديين فصار هؤلاء الشيعة على قول المعتزلة فهذه المقالات التي نقلت في التشبيه والتجسيم لم نر الناس نقلوها عن طائفة من المسلمين أعظم مما نقلوها عن قدماء الرافضة ثم الرافضة حرموا الصواب في هذا الباب كما حرموه في غيره فقدماؤهم |
2 | 243 | يقولون بالتجسيم الذي هو قول غلاة المجسمة ومتأخروهم يقولون بتعطيل الصفات موافقة لغلاة المعطلة من المعتزلة ونحوهم فأقوال أئمتهم دائرة بين التعطيل والتمثيل لم تعرف لهم مقالة متوسطة بين هذا وهذا وأئمة المسلمين من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم متفقون على القول الوسط المغاير لقول أهل التمثيل وقول أهل التعطيل وهذا مما يبين مخالفة الرافضة لأئمة أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصول دينهم كما هم مخالفون لأصحابه بل ولكتاب الله وسنة رسوله وهذا لأن مبنى مذهب القوم على الجهل والكذب والهوى وهم وإن كانوا يدعون اتباع الأئمة الإثنى عشر في الشرائع فلو قدر من يجوز له التقليد إماما من أئمة أهل البيت كعلي بن الحسين وأبي جعفر الباقر وجعفر الصادق وأمثالهم لكان ذلك سائغا جائزا عند أهل |
2 | 244 | السنة لم تقل أهل السنة إنه لا يجوز لمن يجوز له التقليد تقليد هؤلاء وأمثالهم بل أهل السنة متفقون على أن تقليد الواحد من هؤلاء وأمثالهم كتقليد أمثالهم يسوغ هذا لمن يسوغ له ذلك وأكثر علماء السنة على أن التقليد في الشرائع لا يجوز إلا لمن عجز عن الإستدلال هذا منصوص الشافعي وأحمد وعليه أصحابهما وما حكى عن أحمد من تجويز تقليد العالم للعالم غلط عليه ولكن هذا القول حكى عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة قيل عنه يجوز تقليد الأعلم وقيل العالم وهذا النزاع إذا لم يكن تبين له القول الموافق للكتاب والسنة فإن تبين له ما جاء به الرسول لم يجز له التقليد في خلافه باتفاق المسلمين وأما تقليد العاجز عن الإستدلال فيجوزه الجمهور ومنع منه طائفة من أهل الظاهر وجمهور علماء المسلمين على أن القدرة على الإجتهاد والإستدلال مما ينقسم ويتبعض فقد يكون الرجل قادرا على الإجتهاد والإستدلال في مسألة أو نوع من العلم دون الآخر وهذا حال أكثر علماء |
2 | 245 | المسلمين لكن يتفاوتون في القوة والكثرة فالأئمة المشهورون أقدر على الإجتهاد والإستدلال في أكثر مسائل الشرع من غيرهم وأما أن يدعى أن واحدا منهم قادر على أن يعرف حكم الله في كل مسألة من الدين بدليلها فمن ادعى هذا فقد ادعى ما لا علم له به بل ادعى ما يعرف أنه باطل فصل والمقصود هنا أن يقال لهذا الإمامي وأمثاله ناظروا إخوانكم هؤلاء الرافضة في التوحيد وأقيموا الحجة على صحة قولكم ثم ادعوا إلى ذلك ودعوا أهل السنة والتعرض لهم فإن هؤلاء يقولون إن قولهم في التوحيد هو الحق وهم كانوا في عصر جعفر الصادق وأمثاله فهم يدعون أنهم أعلم منكم بأقوال الأئمة لا سيما وقد استفاض عن جعفر الصادق أنه سئل عن القرآن أخالق هو أم مخلوق فقال ليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله وهذا مما اقتدى به الإمام أحمد في المحنة فإن جعفر بن محمد من أئمة الدين باتفاق أهل السنة |
2 | 246 | وهذا قول السلف قاطبة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين أن القرآن كلام الله ليس بمخلوق ولكنهم لم يقولوا ما قاله ابن كلاب ومن اتبعه من أنه قديم لازم لذات الله وأن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته بل هذا قول محدث أحدثه ابن كلاب واتبعه عليه طوائف وأما السلف فقولهم إنه لم يزل متكلما وإنه يتكلم بمشيئته وقدرته وكذلك قالوا بلزوم الفاعلية ونقلوا عن جعفر الصادق بن محمد أنه قال بدوام الفاعلية المتعدية وأنه لم يزل محسنا بما لم يزل |
2 | 247 | فيما لم يزل إلى ما لم يزل كما نقل ذلك الثعلبي عنه بإسناده في تفسير قوله أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا سورة المؤمنون مع قول جعفر وسائر المسلمين وأهل الملل وجماهير العقلاء من غير أهل الملل أن الله تعالى خالق كل شيء وأن ما سواه محدث كائن بعد أن لم يكن ليس مع الله شيء من العالم قديم بقدم الله وأما هشام بن الحكم وهشام بن سالم وغيرهما من شيوخ الإمامية فكانوا يقولون إن القرآن ليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله كما قاله جعفر بن محمد وسائر أئمة السنة ولكن لا أعرف هل يقولون بدوام كونه متكلما بمشيئته كما يقوله أئمة أهل السنة أم |
2 | 248 | يقولون تكلم بعد أن لم يكن متكلما كما تقوله الكرامية وغيرهم قال الأشعري واختلفت الروافض في القرآن وهم فرقتان فالفرقة الأولى منهم هشام بن الحكم وأصحابه يزعمون أن القرآن لا خالق ولا مخلوق وزاد بعض من يخبر عن المقالات في الحكاية عن هشام فزعم أنه كان يقول لا خالق ولا مخلوق ولا يقال أيضا غير مخلوق لأنه صفة والصفة لا توصف قال وحكى زرقان عن هشام بن الحكم أنه قال القرآن على ضربين إن كنت تريد المسموع فقد خلق الله الصوت المقطع وهو رسم القرآن فأما القرآن فهو فعل الله مثل العلم والحركة لا هو هو ولا غيره والفرقة الثانية منهم يزعمون أنه مخلوق محدث لم يكن ثم كان كما تزعم المعتزلة والخوارج قال وهؤلاء قوم من المتأخرين منهم |
2 | 249 | قلت ومعلوم أن قول جعفر بن محمد الصادق وهؤلاء الذين قالوا من السلف ليس بمخلوق لم يريدوا أنه ليس بمكذوب بل أرادوا أنه لم يخلقه كما قالت المعتزلة وهذا قول متأخري الرافضة فإن طائفة من متأخري الإمامية كأبي القاسم الموسوي المعروف بالمرتضى وغيره لما وافقوا المعتزلة على أنه محدث منفصل عن الله وأنه لم يكن يمكنه أن يتكلم ثم صار متكلما بعد أن لم يكن متكلما وليس له كلام يقوم به بل كلامه من جملة مصنوعاته المنفصلة عنه ثم سمعوا عن السلف من أهل البيت مثل جعفر بن محمد وغيره أنهم قالوا إنه غير مخلوق قالوا لا نقول إنه مخلوق متابعة لهؤلاء بل نقول إنه محدث مجعول موافقة لما ظنوه من لفظ القرآن في قوله إنا جعلناه قرآنا عربيا سورة الزخرف وقوله ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث سورة الأنبياء وكثير من الناس غير الشيعة يقولون غير مخلوق |
2 | 250 | ويقصدون في هذا المعنى أنه غير مكذوب مفترى فإنه يقال خلق هذا الحديث واختلقه إذا افتراه قال تعالى عن إبراهيم إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا سورة العنكبوت وقال عن قوم هود قالوا إن هذا إلا خلق الأولين وما نحن بمعذبين سورة الشعراء فيقال لهؤلاء كل من تدبر الآثار المنقولة عن السلف وما وقع من النزاع بين الأمة في أن القرآن مخلوق أو غير مخلوق علم أنه لم يكن نزاعهم في أنه مفترى أو غير مفترى فإن من يقر بأن محمدا رسول الله لا يقول إن القرآن مفترى بل إنما يقول إنه مفترى من قال إن محمدا كاذب افترى القرآن كما قال تعالى أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله سورة يونس وقال أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات سورة هود وقال تعالى وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا سورة الفرقان وقال أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلى أجرامي وأنا برئ مما تجرمون سورة هود والذين تنازعوا في القرآن هل هو مخلوق أو غير مخلوق كانوا مقرين بأن محمدا رسول الله وأنه مبلغ للقرآن عن الله تعالى لم يفتره |
2 | 251 | هو ولكن الجهمية والمعتزلة لما كان أصلهم أن الرب لا تقوم به الصفات والأفعال والكلام لزمهم أن يقولوا كلامه بائن عنه مخلوق من مخلوقاته وكان أول من ظهر عنه هذا الجعد بن درهم ثم الجهم ابن صفوان ثم صار هذا في المعتزلة ولما ظهر هذا سألوا أئمة الإسلام مثل جعفر الصادق وأمثاله فقالوا لجعفر الصادق القرآن خالق أم مخلوق فقال ليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله ومعلوم أن قوله ليس بخالق ولا مخلوق لم يرد به أنه ليس بكاذب ولا مكذوب لكن أراد أنه ليس هو الخالق للمخلوقات ولا هو من المخلوقات ولكنه كلام الخالق وكذلك ما نقل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما قيل |
2 | 252 | له حكمت مخلوقا قال لم أحكم مخلوقا وإنما حكمت القرآن وما رواه ابن أبي حاتم في الرد على الجهمية قال كتب إلى حرب الكرماني ثنا محمد بن المصفى ثنا عبدالله بن محمد عن عمرو بن جميع عن ميمون بن مهران عن ابن عباس قال لما حكم علي الحكمين قالت الخوارج حكمت رجلين قال ما حكمت مخلوقا إنما حكمت القرآن حدثنا الأشج ثنا يحيى بن يمان ثنا حسن بن صالح عن عبدالله ابن الحسن قال قال علي للحكمين احكما بالقرآن كله فإنه كله لي وقال ابن أبي حاتم ثنا أبي ثنا الصهيبي ابن عم علي بن عاصم وعلي بن صالح عن عمران بن حدير عن عكرمة قال كان ابن |
2 | 253 | عباس في جنازة فسمع رجلا يقول يا رب القرآن ارحمه فقال ابن عباس مه القرآن منه القرآن كلام الله وليس بمربوب منه خرج وإليه يعود حدثنا محمد بن عمار بن الحارث ثنا أبو مروان الطبري بمكة يعنى الحكم بن محمد ثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار سمعت مشيختنا منذ سبعين سنة يقولون القرآن كلام الله غير مخلوق وفي رواية منه بدأ وإليه يعود وهذا رواه غير واحد عن سفيان بن عيينة عن عمرو ورواه البخاري في كتاب خلق أفعال العباد وقال ابن أبي حاتم ثنا أبي ثنا العباس بن عبدالعظيم ثنا رويم بن يزيد المقري ثنا عبد الله بن عباس عن يونس بن بكير عن جعفر بن محمد عن أبيه قال سئل على بن الحسين عن القرآن فقال ليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الخالق ورواه أو زرعة عن يحيى بن منصور عن رويم فذكره وحدثنا جعفر بن محمد بن هارون ثنا عبدالرحمن بن مصعب ثنا موسى بن داود الكوفى عن رجل عن جعفر بن محمد عن أبيه أنه سأله إن قوما يقولون القرآن مخلوق فقال ليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله |
2 | 254 | حدثنا موسى بن سهل الرملي ثنا موسى بن داود ثنا معبد أبو عبدالرحمن عن معاوية بن عمار الذهبي قال قلت لجعفر بن محمد إنهم يسألوني عن القرآن مخلوق أو خالق فقال إنه ليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله وحدثنا أبو زرعة ثنا سويد بن سعيد عن معاوية فذكره وحدثنا أبي قال حدثنا الحسن بن الصباح ثنا معبد بمثله حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل فيما كتب إلي قال قال أبي وحدثت عن موسى بن داود بهذا الحديث عن معبد قال رأيت معبدا هذا ولم يكن به بأس وأثنى عليه ثم قال كان يفتى برأي ابن أبي ليلى حدثنا عبدالله مولى المهلب بن أبي صفرة ثنا علي بن أحمد بن علي ابن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن أخيه موسى بن جعفر قال سئل أبي جعفر بن محمد عن القرآن خالق أو مخلوق قال لو كان خالقا لعبد ولو كان مخلوقا لنفد ومثل هذه الآثار كثيرة عن الصحابة والتابعين والأئمة من أهل البيت |
2 | 255 | وغيرهم فعلي رضي الله عنه لم يرد بقوله ما حكمت مخلوقا وإنما حكمت القرآن أي ما حكمت كلاما مفترى فإن الخوارج إنما قالوا له حكمت مخلوقا من الناس وهما أبو موسى وعمرو بن العاص فقال لم أحكم مخلوقا وإنما حكمت وإنما حكمت القرآن وهو كلام الله فالحكم لله وهو سبحانه يصف كلامه بأنه يحكم ويقص ويفتى كقوله ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء سورة النساء أي وما يتلى عليكم يفتيكم فيهن وقوله وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه سورة البقرة وإذا أضيف الحكم والقصص والإفتاء إلى القرآن الذي هو كلام الله فالله هو الذي حكم به وأفتى به وقص به كما أضاف ذلك إلى نفسه في غير موضع |
2 | 256 | فهذا هو مراد علي بن أبي طالب وجعفر بن محمد وغيرهما من أهل البيت رضوان الله عليهم وسائر سلف الأمة بلا ريب فتبين أن هؤلاء الرافضة مخالفون لأئمة أهل البيت وسائر السلف في مسألة القرآن كما خالفوهم في غيرها وأما قولهم إنه مجعول فالله لم يصفه بأنه مجعول معدى إلى مفعول واحد بل قال إنا جعلناه قرآنا عربيا سورة الزخرف فإذا قالوا هو مجعول قرآنا عربيا فهذا حق وأما قوله تعالى وما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث سورة الأنبياء فهذه الآية تدل على أن الذكر نوعان محدث وغير محدث كما تقول ما جاءني من رجل عدل إلا قبلت شهادته وصفة النكرة للتخصيص وعندهم كل ذلك محدث والمحدث في القرآن ليس هو المحدث في كلامهم فلم يوافقوا القرآن ثم إذا قيل هو محدث لم يلزم من ذلك أن يكون مخلوقا بائنا عن الله بل إذا تكلم الله به بمشيئته وقدرته وهو قائم به جاز أن يقال هو محدث وهو مع ذلك كلامه القائم بذاته وليس بمخلوق وهذا قول كثير من أئمة السنة والحديث وقد احتج البخاري وغيره على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم إن الله يحدث من أمره ما |
2 | 257 | يشاء وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة ومعلوم أن الذي أحدثه هو أمره أن لا يتكلموا في الصلاة لا عدم تكلمهم في الصلاة فإن ذلك يكون بإختيارهم ومنهم من تكلم بعد النهى لكن نهوا عن ذلك ولهذا قال يحدث من أمره ما يشاء والمقصود هنا أنه يقال لهذا الإمامي إخوانك هؤلاء يقولون إن قولهم هو الحق دون قولك وأنت لم تحتج لقولك إلا بمجرد قولك إنه ليس بجسم وهؤلاء إخوانك يقولون إنه جسم فناظرهم فإنهم إخوانك في الإمامة وخصومك في التوحيد وهكذا ينبغي لك أن تناظر الخوارج الذين هم خصومك وأما أهل السنة فهم وسط بينك وبين خصومك وأنت لا تقدر على قطع خصومك لا هؤلاء ولا هؤلاء |
2 | 258 | فإن قلت حجتي على هؤلاء أن كل جسم محدث قال لك إخوانك بل الجسم عندنا ينقسم إلى قسمين قديم ومحدث كما أن القائم بنفسه والموجود والحي والعالم والقادر ينقسم إلى قديم ومحدث فإن قال النافي الجسم لا يخلو عن الحوادث وما لم يخل عن الحوادث فهو حادث قال له إخوانه لا نسلم أنه لا يخلو عن الحوادث وإن سلمنا ذلك فلا نسلم أن ما لم يخل عن الحوادث فهو حادث فإن قال الدليل على أنه لا يخلو من الحوادث أنه لا يخلو من الأعراض والأعراض حادثة فإن العرض لا يبقى زمانين وعلى هذا اعتمد كثير من الكلابية في حدوث العالم وعليه أيضا اعتمد الآمدي وطعن في كل دليل غيره وذكر أن هذه طريقة الأشعرية وضعف ذلك من تعقب كلامه وقال هذا يقتضى بناء هذا الأصل العظيم على هذه المقدمة الضعيفة وقد رأيت كلام الأشعري نفسه |
2 | 259 | فرأيته اعتمد على أن الأجسام لا تخلو من الإجتماع والإفتراق بناء على أن الإجسام مركبة من الجواهر المنفردة فاحتج باستلزامها لهذا النوع من الأعراض وهذا النوع حادث لأنه من الأكوان لكنه مبنى على الجوهر الفرد وجمهور العقلاء من المسلمين وغيرهم على نفيه والمقصود هنا ذكر ما يبين أصول الطوائف وأن قول هؤلاء الرافضة المعتزلة من أفسد أقوال طوائف الأمة فإنه ليس معهم حجة شرعية ولا عقلية يمكنهم الإنتصاف بها من إخوانهم أهل البدع وإن كان أولئك ضالين مبتدعين أيضا وهم مناقضون لهم غاية المناقضة فكيف تكون لهم حجة على أهل السنة الذين هم وسط في الإسلام كما إن الإسلام وسط في الملل فإذا قال النافي الدليل على حدوثها استلزامها للأعراض قالوا له ليس هذا قولك وقول أئمتك المعتزلة وإنما هو قول |
2 | 260 | الأشعرية وأما المعتزلة فعندهم أنه قد يخلو عن كثير من الأعراض وإنما يقولون ذلك في الأكوان أو في الألوان وقالوا لا نسلم أن الأعراض حادثة وأنها لا تبقى زمانين وهذا القول معلوم البطلان بالضرورة عند جمهور العقلاء مع أنه ليس قولك وقول شيوخك المعتزلة والرافضة فإن قال الإمامي النافي الدليل على أن الجسم لا يخلو من الحوادث أنه لا يخلو من الأكوان والأكوان حادثة إذ لا يخلو عن الحركة والسكون وهما حادثان قالوا له لا نسلم أن الأكوان كلها حادثة ولا نسلم أن السكون حادث بل يجوز أن يكون لنا جسم قديم أزلي ساكن ثم تحرك بعد أن لم يكن متحركا لأن السكون إن كان عدميا جاز أن يحدث أمر وجودي وإن كن وجوديا جاز أن يزول بحادث قال النافي القديم لا يزول قال إخوانه القديم إن كان معنى عدميا جاز زواله باتفاق العقلاء فإنه ما من حادث إلا وعدمه قديم والسكون عند كثير |
2 | 261 | من الناس عدمي ونحن نختار أنه عدمي فيجوز زواله وإن كان وجوديا فلا نسلم أنه لا يجوز زواله فإن قال النافي السكون وجودي وإذا كان وجوديا قديما فالمقتضى لقدمه قديم من لوازم الواجب فيكون واجبا بوجوب سببه قال إخوانه المجسمة هذا الموضع يرد على جميع الطوائف المنازعين لنا من الشيعة والمعتزلة والأشعرية وغيرهم فإنهم وافقونا على أن البارئ فعل بعد أن لم يكن فاعلا فعلم جواز حدوث الحوادث كلها بلا سبب حادث وهم يصرحون بأنه يجوز بل يجب حدوث الحوادث كلها بغير سبب حادث لامتناع حوادث لا أول لها عندهم وإذا جاز ذلك اخترنا أن يكون السكون عدميا والحادث هو الحركة التي هي وجودية فإذا جاز إحداث جرم بلا سبب حادث فإحداث حركة بلا سبب حادث أولى ولو قيل إن السكون وجودي فإذا جاز وجود أعيان بعد أن لم تكن |
2 | 262 | وذلك تحول من أن لا يفعل إلى أن يفعل سواء سمى مثل هذا تغيرا وانتقالا أو لم يسم جاز أن يتحرك الساكن وينتقل من السكون إلى الحركة وإن كانا وجوديين وقول القائل المقتضي لقدمه من لوازم الوجوب جوابه أن يقال قد يكون بقاؤه مشروطا بعدم تعلق الإرادة بزواله أو بغير ذلك كما يقولونه في سبب الحوادث فإن الواجب انتقل من أن لا يفعل إلى أن يفعل فما كان جوابهم عن ذلك كان جوابا عن هذا وإن قالوا بدوام الفاعلية بطل قولهم وقولنا وبالجملة هل يجوز أن يحدث عن القديم أمر بلا سبب حادث وترجيح أحد طرفي الممكن بمجرد القدرة وحينئذ فيجوز أن يحدث القادر ما به يزيل السكون الماضي من الحركة سواء كان ذلك السكون وجوديا أو عدميا قال النافي هذا يلزم منه أن يكون البارئ محلا للحركة وللحوادث أو للأعراض وهذا باطل |
2 | 263 | قال إخوانه الإمامية قد صادرتنا على المطلوب فهذا صريح قولنا فإنا نقول إنه يتحرك وتقوم به الحوادث والأعراض فما الدليل على بطلان قولنا قال النافي لأن ما قامت به الحوادث لم يخل منها وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث قال إخوانه قولك ما قامت به الحوادث لم يخل منها فهذا ليس قول الإمامية ولا قول المعتزلة وإنما هو قول الأشعرية وقد اعترف الرازي والآمدي وغيرهما بضعفه وأنه لا دليل عليه وهم وأنتم تسلمون لنا أنه أحدث الأشياء بعد أن لم يكن هناك حادث بلا سبب حادث فإذا حدثت الحوادث من غير أن يكون لها أسباب حادثة جاز أن تقوم به بعد أن لم تكن قائمة به فهذا القول الذي يقوله هؤلاء الإمامية ويقوله من يقوله من الكرامية وغيرهم من إثبات أنه جسم قديم وأنه فعل بعد أن لم يكن فاعلا أو تحرك بعد أن لم يكن متحركا لا يمكن هؤلاء الإمامية وموافقيهم من المعتزلة والكلابية إبطاله فإن أصل قولهم بامتناع الحوادث به |
2 | 264 | وهؤلاء قد جوزوا ذلك ثم الكلابية لا تنفى قيام الحوادث به لانتفاء الصفات فإنهم يقولون بقيام أعيان الصفات القديمة به وإنما ينفون قدم النوع لتجدد أعيانه فإنها حوادث وعمدتهم في نفى ذلك أن ما قبل الحوادث لم يخل منها وهذه مقدمة باطلة عند العقلاء وقد اعترف بذلك غير واحد من حذاقهم كالرازي والآمدي وغيرهما وأما أبو المعالي وأمثاله فلم يقيموا حجة عقلية على هذا المطلوب وإنما اعتمدوا على تناقض أقوال من نازعهم من الكرامية والفلاسفة وغيرهما وتناقض أقوال هذه الطوائف يدل على فساد قولها بمجموع الأمرين لا يدل على صحة أحدهما بعينه وحينئذ فإذا كان هناك قول ثالث يمكن القول به مع فساد أحدهما أو كليهما لم يلزم صحة قول الكلابية وجميع الطوائف المختلفين المخالفين للكتاب والسنة وإنما عندهم إفساد بعضهم قول الآخرين وبيان تناقضه ليس عندهم قول صحيح يقال به ولهذا كانت الفائدة المستفادة من كلامهم نقض بعضهم كلام بعض فلا يعتقد شيء منها ثم إن عرف الحق الذي جاء به الرسول فهو الصواب الموافق لصريح المعقول وإلا استفيد من ذلك السلامة من |
2 | 265 | تلك الإعتقادات الباطلة وإن لم يعرف الحق فالجهل البسيط خير من الجهل المركب وعدم اعتقاد الأقوال الباطلة خير من اعتقاد شيء منها وأما المعتزلة فتنفى قيام الحوادث به لأنها أعراض فلا تقوم به وهؤلاء يقولون بل تقوم به الأعراض وعمدة المعتزلة أنه لو قامت به لكان جسما وهؤلاء التزموا أنه جسم وعمدة هؤلاء في نفي كونه جسما أن الجسم لا يخلو من الحوادث وهؤلاء قد نازعوهم في هذا وقالوا بل يخلو عن الحوادث وقالوا إن البارئ جسم قديم كما تقولون أنتم إنه ذات قديمة وإنه فعل بعد أن لم يكن فاعلا وتجعلون مفعوله هو فعله لكن هؤلاء يقولون له فعل قائم به ومنفصل عنه وهؤلاء يقولون له مفعول منفصل عنه ولا يقوم به فعل وعمدة هؤلاء أنه في الأزل إن كان ساكنا لم تجز عليه الحركة لأن السكون معنى وجودي أزلي فلا يزول وإن كان متحركا لزم حوادث لا تتناهى وهؤلاء يقولون بل كان ساكنا في الأزل ويقولون إن |
2 | 266 | السكون عدم الحركة أو عدم الحركة عما يمكن تحريكه أو عدمه عما من شأنه أن يتحرك فلا يسلمون أن السكون أمر وجودي كما يقولون مثل ذلك في العمى والصمم والجهل البسيط والقول بأن هذه الأمور عدمية ليس هو قول من يقوله من الفلاسفة وحدهم كما يظنه بعض المصنفين في الكلام بل هو قول كثير من النظار المتكلمين أهل القبلة والصلاة وتنازعهم في هذا كتنازعهم في نظائره مثل بقاء الأعراض وتماثل الأجسام وغير ذلك وإن قالوا إنه وجودي فلا يسلمون أن كل أزلي لايزول بل يقولون في تبدل السكون بالحركة ما يقوله مناظروهم في تبدل الإمتناع بالإمكان فإن الطائفتين اتفقتا على أن الفعل كان ممتنعا في الأزل فصار ممكنا فهكذا يقوله هؤلاء في السكون الوجودي إن كان تبدله بالحركة في الأزل ممتنعا وهو فيما لا يزال ممكن فتبدل حيث أمكن التبدل كما يقولون جميعا إنه حدث الفعل حيث كان الحدوث ممكنا |
2 | 267 | فهذا بحث هؤلاء الإمامية والكرامية مع هؤلاء الإمامية ومن وافقهم من المعتزلة والكلابية وأتباعهم في هذه الأمور التي يعتمدون فيها على العقل وقد أجابهم طائفة من المعتزلة والشيعة ومن وافقهم بأن الدليل الدال على حدوث العالم هو هذا الدليل الدال على حدوث الأجسام فإن لم يكن هذا صحيحا انسد طريق معرفة حدوث العالم وإثبات الصانع فقال المخالف لهؤلاء لا نسلم أن هذا هو الطريق إلى معرفة حدوث العالم ولا إلى إثبات الصانع بل هذا طريق محدث في الإسلام لم يكن أحد من الصحابة ولا القرابة ولا التابعين يسلك هذه الطريق وإنما سلكها الجهم بن صفوان وأبو الهذيل العلاف ومن وافقهما ولو كان العلم بإثبات الصانع وحدوث العالم لا يتم إلا بهذه الطريق لكان بيانها من الدين ولم يحصل الإيمان إلا بها ونحن نعلم بالإضطرار أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر هذه الطريق لأمته ولا دعاهم بها لا إليها ولا أحد من الصحابة فالقول بأن الإيمان موقوف علهيا مما يعلم بطلانه بالضرورة من دين الإسلام |
2 | 268 | وكل أحد يعلم أنها طريق محدثة لم يسلكها السلف والناس متنازعون في صحتها فكيف يقولون إن العلم بالصانع والعلم بحدوث العالم موقوف عليها وقالوا بل هذه الطريقة تنافى العلم بإثبات الصانع وكونه خالقا للعالم آمرا بالشرائع مرسلا للرسل فالذين ابتدعوها من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم قالوا إنها صحيحة في العقل وإن العلم بالنبوة وصحة دين الإسلام لايتم إلا بها وقولهم إن العلم بذلك لا يتم إلا بها مما أنكره عليهم جماهير الأمة من الأولين والآخرين لا سيما السلف والأئمة وكلامهم في تبديع أهل هذا الكلام وذمه وذم أهله ونسبتهم إلى الجهل وعدم العلم من الأمور المتواترة عن السلف وكذلك القول بصحتها من جهة العقل هو مما أنكره جمهور أئمة الأمة لكن سلم ذلك طوائف من الكرامية والكلابية وغيرهم ونازعوهم في موجب هذه الطريق ونازعوهم أيضا في توقف صحة دين الإسلام عليها كما ذكر ذلك غير واحد مثل ما ذكره أبو الحسن الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر بباب الأبواب وذكره الخطابي |
2 | 269 | وأبو عمر الطلمنكي الأندلسي والقاضي أبو يعلى وغير واحد وأما أئمة السنة وطوائف من أهل الكلام فبينوا أن هذه طريقة باطلة في العقل أيضا وأنها تنافى صحة دين الإسلام فضلا عن أن تكون شرطا في العلم به وأين اللازم لدين الإسلام من المنافي له وبينوا أن تقدير ذات لم تزل غير فاعلة ولا متكلمة بمشيئتها وقدرتها ثم حدوث ما يحدث من مفعولات مثل كلام مؤلف منظوم وأعيان وغير ذلك بدون سبب حادث مما يعلم بطلانه بصريح المعقول وهو مناقض لكونه سبحانه خلق السماوات والأرض ولكون القرآن كلام الله وغير ذلك مما أخبر به الرسل بل حقيقته أن الرب لم يفعل شيئا ولم يتكلم بشيء لامتناع ما ذكروه من أن يكون فعالا أو مقالا له كما قد بسط في غير هذا الموضع إذ المقصود هنا التنبيه على مجامع الطرق والمقالات قالت النفاة فإذا كانت طرقنا في إثبات العلم بالصانع وحدوث السماوات والأرض وإثبات العلم بالنبوة طرقا باطلة فما الطريق إلى ذلك قالوا أولا لا يجب علينا في هذا المقام بيان ذلك بل المقصود ههنا أن هذه طريق محدثة مبتدعة يعلم أنها ليست هي |
2 | 270 | الطريق التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم فيمتنع أن تكون واجبة أو يكون العلم الواجب أو الإيمان بصدقة موقوفا عليها وقالوا كل من العلم بالصانع وحدوث العالم له طرق كثيرة متعددة أما إثبات الصانع فطرقه لا تحصى بل الذي عليه جمهور العلماء أن الإقرار بالصانع فطري ضروري مغروز في الجبلة ولهذا كانت دعوة عامة الرسل إلى عبادة الله وحده لا شريك له وكان عامة الأمة مقرين بالصانع مع إشراكهم به بعبادة ما دونه والذين أظهروا إنكار الصانع كفرعون خاطبتهم الرسل خطاب من يعرف أنه حق كقول موسى لفرعون لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر سورة الإسراء ولما قال فرعون وما رب العالمين سورة الشعراء قال له موسى رب السموات والأرض إن كنتم موقنين قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب آبائكم الأولين قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون سورة الشعراء |
2 | 271 | ولما قال فرعون فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى سورة طه فكان جواب موسى له جوابا للمتجاهل الذي يظهر أنه لا يعرف الحق وهو معروف عنده فإن سؤال فرعون بقوله وما رب العالمين استفهام إنكار لوجوده ليس هو استفهام طلب لتعريف ما هيته كما ظن ذلك بعض المتأخرين وقالوا إن فرعون طالبه ببيان الماهية فعدل عن ذلك لامتناع الجواب بذكرها فإن هذا غلط منهم فإن فرعون لم يكن مفرا بالصانع ألبته بل كان جاحدا له وكان استفهامه استفهام إنكار لوجوده ولهذا قال ما علمت لكم من إله غيري سورة القصص وقال أنا ربكم الأعلى سورة النازعات ولو كان مقرا بوجوده طالبا لمعرفة ما هيته لم يقل هذا ولكان موسى ما أجابه إجابة لم تذكر فيها ماهيته ومع أن القول بأن الماهية هي ما يقوله المنطقيون من ذكر الذاتي المشترك والذاتي المميز وهما الجنس والفصل كلام باطل قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع وبين أن الماهية المغايرة للوجود الخارجي إنما هي ما يتصور في الذهن فإن ما في الأذهان من الصور الذهنية ليس هو نفس الموجودات الخارجية وأما دعوى أهل المنطق اليوناني أن في الخارج ماهية ووجودا غير |
2 | 272 | الماهية وأن الصفات اللازمة تنقسم إلى لازمة مقومة داخلة في الماهية ومفارقة عرضية لها غير مقومة وإلى لازمة لوجودها الخارجي دون ماهيتها الخارجية فكلام باطل من وجوه متعددة كما قد بسط هذا في موضعه وبين أن الصفات تنقسم إلى لازمة للموصوف وعارضة له فقط كما عليه نظار المسلمين من جميع الطوائف وبين كلام نظار المسلمين في الحد والبرهان وأن كلامهم في صريح المعقول أصح من كلام المتفلسفة اليونان ومن اتبعهم من المتسبين إلى الملل وأيضا فنفس حدوث الإنسان يعلم به صانعه وكذلك حدوث كل ما يشاهد حدوثه وهذه الطريقة مذكورة في القرآن وأيضا فالوجود يستلزم إثبات موجد قديم واجب بنفسه ونحن نعلم أن من الموجودات ما هو حادث فقد علم بالضرورة انقسام الموجود إلى قديم بنفسه وإلى محدث وأما حدوث العالم فيمكن علمه بالسمع وبالعقل فإنه يمكن العلم بالصانع إما بالضرورة والفطرة وإما بمشاهدة حدوث المحدثات |
2 | 273 | وإما بغير ذلك ثم يعلم صدق الرسول بالطرق الدالة على ذلك وهي كثيرة ودلالة المعجزات طريق من الطرق وطريق التصديق لا تنحصر في المعجزات ثم يعلم بخبر الرسول حدوث العالم وأما بالعقل فيعلم أن العالم لو كان قديما لكان إما واجبا بنفسه وهذا باطل كما تقدم التنبيه عليه من أن كل جزء من أجزاء العالم مفتقر إلى غيره والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بنفسه وإما واجبا بغيره فيكون المقتضى له موجبا بذاته بمعنى أنه مستلزم لمقتضاه سواء كان شاعرا مريدا أم لم يكن فإن القديم الأزلي إذا قدر انه معلول مفعول فلا بد من أن تكون علة تامة مقتضية له في الأزل وهذا هو الموجب بذاته ولو كان مبدعة موجبا بذاته علة تامة لم يتأخر عنه شيء من معلوله ومقتضاه والحوادث مشهودة في العالم فعلم أن فاعله ليس علة تامة وإذا لم يكن علة تامة لم يكن قديما وهذه الحوادث التي في العالم إن قيل إنها من لوازمه امتنع أن |
2 | 274 | تكون العلة الأزلية التامة علة للملزوم دون لازمه وامتنع أيضا أن يكون علة للازمه لأن العلة التامة الأزلية لا تقتضي حدوث شيء وإن لم تكن الحوادث من لوازمه كانت حادثة بعد أن لم تكن فإن لم يكن لها محدث لزم حدوث الحوادث بلا محدث وهذا مما يعلم بطلانه بالضرورة وإن كان لها محدث غير الواجب بنفسه كان القول في حدوث إحداثه إياها كالقول في ذلك المحدث وإن كان الواجب بنفسه هو المحدث فقد حدثت عنه الحوادث بعد أن لم تكن حادثة وحينئذ فيكون قد تغير وصار محلا للحوادث بعد أن لم يكن والعلة التامة الأزلية لا يجوز عليها التغير والإنتقال من حال إلى حال وذلك لأن تغيرها لا بد أن يكون بسبب حادث والعلة التامة الأزلية لا يجوز أن يحدث فيها حادث فإنه إن حدث بها مع أنه لم يتجدد شيء لزم الحدوث بلا سبب وإن لم يحدث بها لزم حدوث الحوادث بلا فاعل فبطل أن تكون علة تامة أزلية وإن جوز مجوز عليها الإنتقال من حال إلى حال جاز أن يحدث العالم بعد أن لم يكن فبطل حجة من يقول بقدم العالم |
2 | 275 | وأيضا فإنه على هذا التقدير لا يكون المنتقل من حال إلى حال إلا فاعلا بالإختيار لا موجبا بالذات وإيضاح هذا أن الحوادث إما أن يجوز دوامها لا إلى أول وإما أن يجب أن يكون لها أول فإن وجب أن يكون أول بطل مذهب القائلين بقدم العالم القائلين بأن حركات الأفلاك أزلية وأيضا فإذا وجب أن يكون لها أول لزم حدوث العالم لأنه متضمن للحوادث فإنه إما أن يكون مستلزما للحوادث أو تكون عارضة له فإن كان مستلزما لها ثبت أنه لا يخلوا عنها فإذا كان لها ابتداء كان له ابتداء لازما لا يخلو عن الحوادث لا يسبقها ولا يتقدم عليها فإذا قدر أن الحوادث كلها كائنة بعد أن لم يكن حادث أصلا كان المقرون بها الذي لم يتقدمها كائنا بعد أن لم يكن قطعا وإن كانت الحوادث عارضة للعالم ثبت حدوث الحوادث بلا سبب وإذا جاز حدوث الحوادث كلها بلا سبب حادث جاز حدوث العالم بلا سبب حادث فبطلت كل حجة توجب قدمه وكان القائل بقدمه قائلا بلا حجة أصلا |
2 | 276 | وإذا قيل يجوز أن يكون العالم قديما عن علته بلا حادث فيه ثم حدثت فيه الحوادث كان هذا باطلا لأنه إذا جاز أن يحدثنا بعد أن لم يكن محدثا لم يكن موجبا بل فاعلا باختياره ومشيئته والفاعل باختياره ومشيئته لا يقارنه مفعوله كما قد بسط في موضعه ولأنه على هذا يجب أن يقارنه القديم من مفعولاته ويجب أن يبقى معطلا عن الفعل إلى أن يحدث الحوادث فإيجاب تعطيله وإيجاب فعله جمع بين الضدين وتخصيص بلا مخصص فإنه بذاته إما أن يجب أن يكون فاعلا في الأزل وإما أن يمتنع كونه فاعلا في الأزل وإما أن يجوز الأمران فإن وجب كونه فاعلا في الأزل جاز حدوث الحوادث في الأزل ووجب أن لا يكون لها ابتداء والتقدير أن لها ابتداء وإن امتنع كونه فاعلا في الأزل امتنع أن يكون شيء قديم في الأزل غيره فلا يجوز قدم العالم خاليا عن الحوادث ولا مع الحوادث |
2 | 277 | وإن جاز أن يكون فاعلا في الأزل وجاز أن لا يكون لم يمتنع أن يكون فاعلا في الأزل فجاز حدوث الحوادث في الأزل وإن قيل بل يكون فاعلا لغير الحوادث ثم يحدث الحوادث فيما لا يزال كما يقوله من يقول بقدم العقول والنفوس وأن الأجسام حدثت عن بعض ما حدث للنفس من التصورات والإرادات وكما يقوله من يقول بقدم القدماء الخمسة كان هذا من أفسد الأقوال لأنه يستلزم حدوث الحوادث بلا سبب حادث أوجب حدوثها إذلم يكن هناك ما يقتضى تجدد إحداث الحوادث مع أن قول القائل بقدم النفس يقتضى دوام حدوث الحوادث فإن ما يحدث من تصورات النفس وإراداتها حوادث دائمة عندهم وإذا كان القول بحدوث الحوادث بلا سبب حادث لم يكن هناك سبب يدل على قدم شيء من العالم والذين قالوا بدوام معلول معين عنه التزموا دوام الفاعلية فرارا من هذا المحذور فإذا كان هذا لازما لهم على التقديرين لم يكن لهم حاجة إلى ذلك الممتنع عند جماهير العقلاء |
2 | 278 | ففي الجملة جواز كونه فاعلا في الأزل يستلزم جواز حدوث الحوادث في الأزل ولهذا لم يعرف من قال بكونه فاعلا في الأزل مع امتناع دوام الحوادث فإن القائلين بحدوث الأجسام عن تصور من تصورات النفس يقولون بدوام الحوادث في النفس والقائلين بالقدماء الخمسة لا يقولون إنه فاعل لها في الأزل بل يقولون إنها واجبة بنفسها هذا هو المحكي عنهم وقد يقولون إنها معلولة له لا مفعولة له فإذا قدر أنه فاعل للعالم في الأزل وقدر امتناع الحدوث في الأزل جمع بين وجوب كونه فاعلا وامتناع كونه فاعلا وإذا قيل يفعل ما هو قديم ولا يفعل ما هو حادث قيل فعلى هذا التقدير يجوز تغيير القديم لأن التقدير ان المعلول القديم حدثت فيه الحوادث بعد أن لم تكن بلا سبب حادث والمعلول القديم لا يجوز تغييره فإنه يقتضي تغيير علته التامة الأزلية الموجبة له ثم على هذا التقدير المتضمن إثبات قديم معلول لله أو إثبات قدماء معلولة عن الله مع حدوث الحوادث الدائمة في ذلك القديم أو مع تجدد حدوث الحوادث فيها هو قول بحدوث هذا |
2 | 279 | العالم كما يذكر ذلك عن ديمقراطيس ومحمد بن زكريا الرازي وغيرهما وهذا مبسوط في موضعه وكما هو قول من يقول بحدوث الأجسام كلها والرازي قد يجعل القولين قولا واحدا كما أشار إلى ذلك في محصله وغير محصله وذلك أن المعروف عن الحرنانيين هو القول بالقدماء الخمسة ثم بنوا عليه تصور النفس وقد حدث لها عشق تعلقت بسببه بالهيولي ليكون للأجسام سبب اقتضى حدوثها لكنه مع هذا باطل فإن حدوث الحوادث بلا سبب إن كان ممتنعا بطل هذا القول لأنه يتضمن حدوث الحوادث بلا سبب وإذا كانت أحوال الفاعل واحدة وهو لا يقوم به شيء من الأمور الإختيارية امتنع أن يختص بعض الأحوال بسبب يقتضى حدوث الأجسام وإن |
2 | 280 | كان ممكنا أمكن حدوث كل ما سوى الله بعد أن لم يكن وكانت هذه القدماء مما يجوز حدوثه وأيضا فعلى هذا القول يكون موجبا بذاته لمعلولاته ثم يصير فاعلا بالإختيار لغيرها والقول بأحد القولين يناقض الآخر وإن قيل إن الحوادث يجوز دوامها امتنع أن تكون علة أزلية لشيء منها والعالم لا يخلو منها على هذا التقدير بل هو مستلزم لها فيمتنع أن يكون علة تامة لها في الأزل ويمتنع أن يكون علة للملزوم دون لازمه وأيضا فإن كل ما سوى الواجب يمكن وجوده وعدمه وكل ما كان كذلك فإنه لا يكون إلا موجودا بعد عدمه وأيضا فإن القول بأن المفعول المعين يقارن فاعله أزلا وأبدا مما يعلم بطلانه بضرورة العقل ولهذا كان هذا مما اتفق عليه جماهير العقلاء من الأولين والآخرين حتى أرسطو وأصحابه القدماء ومن اتبعه من المتأخرين فإنهم متفقون على أن كل ما أمكن وجوده وعدمه لا يكون |
2 | 281 | إلا محدثا مسبوقا بالعدم وإنما أثبت ممكنا قديما ابن سينا ومن وافقه وقد أنكر ذلك عليه إخوانه الفلاسفة وبينوا أنه خالف في ذلك قول سلفه كما ذكر ذلك ابن رشد وغيره وكذلك عامة العقلاء من جميع الطوائف متفقون على أن كل ما يقال إنه مفعول أو مبدع أو مصنوع لا يكون إلا محدثا ولهذا كان جماهير العقلاء إذا تصوروا أنه خلق السماوات والأرض تصوروا أنه أحدثها لا يتصور في عقولهم أن تكون مخلوقة قديمة وإن عبر عن ذلك بعبارات أخر مثل أن يقال هي مبدعة قديمة أو مفعولة قديمة ونحو ذلك بل هذا وهذا جمع بين الضدين عند عامة العقلاء وما يذكره من يثبت مقارنة المفعول لفاعله من قولهم حركت يدي فتحرك الخاتم ونحوه تمثيل غير مطابق لأنه ليس في شيء مما يذكرونه علة فاعلة تقدمت على المعلول المفعول وإنما الذي تقدم في اللفظ شرط أو سبب كالشرط ومثل ذلك يجوز أن يقارن المشروط هذا إذا سلم مقارنة الثاني للأول وإلا ففي كثير مما يذكرونه يكون متأخرا عنه مع اتصاله به كأجزاء الزمان بعضها مع بعض هو متصل بعضها ببعض مع التأخر وأما ما ذكره الرازي في محصله وغير محصله حيث قال اتفق المتكلمون على أن القديم يمتنع استناده إلى الفاعل واتفقت |
2 | 282 | الفلاسفة على أنه غير ممتنع زمانا فإن العالم قديم عندهم زمانا مع أنه فعل الله تعالى فيقال أما نقله عن المتكلمين فصحيح وهو قول جماهير العقلاء من جميع الطوائف وأما نقله عن الفلاسفة فهو قول طائفة منهم كابن سينا وليس هو قول جمهورهم لا القائلين بقدم العالم كأرسطو وأتباعه ولا القائلين بحدوث صورته وهم جمهور الفلاسفة فإن القائلين بقدمه لم يكونوا يثبتون له فاعلا مبدعا كما يقوله ابن سينا بل منهم من لا يثبت له علة فاعله وأرسطو يثبت له علة غائية يتشبه بها الفلك لم يثبت علة فاعله كما يقوله ابن سينا وأمثاله وأما من قبل أرسطو فكانوا يقولون بحدوث السماوات كما يقوله أهل الملل ثم قال الرازي وعندي أن الخلاف في هذا المقام لفظي لأن المتكلمين يمتنعون من إسناد القديم إلى المؤثر الموجب بالذات وكذلك زعم مثبتو الحال بناء على أن عالمية الله وعلمه قديمان مع أن العالمية والقادرية معللة بالعلم والقدرة وزعم أبو هاشم أن العالمية والقادرية والحيية والموجودية معللة بحال خامسة مع أن الكل |
2 | 283 | قديم وزعم أبو الحسين أن العالمية حال معللة بالذات وهؤلاء وإن كانوا يمتنعون عن إطلاق لفظ القديم على هذه الأحوال ولكنهم يغطون المعنى في الحقيقة فيقال ليس في المتكلمين من يقول بأن المفعول قد يكون قديما سواء كان الفاعل يفعل بمشيئته أو قدر أنه يفعل بذاته بلا مشيئة والصفات اللازمة للموصوف فإن قيل إنها قديمة فليست مفعولة عند أحد من العقلاء بل هي لازمة للذات بخلاف المفعولات الممكنة المباينة للفاعل فإن هذا هو المفعول الذي أنكر جمهور العقلاء على من قال بقدمه والمتكلمون وسائر جمهور العقلاء متفقون على أن المفعول لا يكون قديما وإن قدر أنه فاعل بالطبع كما تفعل الأجسام الطبيعية فما ذكره عن المتكلمين فليس بلازم لهم ثم قال وأما الفلاسفة فإنهم إنما جوزوا إسناد العالم القديم إلى البارئ لكونه عندهم موجبا بالذات حتى لو اعتقدو فيه كونه فاعلا بالإختيار لما جوزوا كونه موجبا للعالم القديم |
2 | 284 | قال فظهر من هذا اتفاق الكل على جواز إسناد القديم إلى الموجب القديم وامتناع إسناده إلى المختار فيقال بل الفلاسفة في كونه يفعل بمشيئته على قولين معروفين لهم وأبو البركات وغيره يقولون بأنه فاعل بمشيئته مع قولهم بقدم العالم فتبين أن ما ذكره عن المتكلمين باطل وما ذكره عن الفلاسفة باطل أما الفلاسفة فعلى قولين وأما المتكلمون فمتفقون على بطلان ما حكاه عنهم أو ألزمهم به بل هم وجمهور العقلاء يقولون يعلم بالضرورة أن كل مفعول فهو محدث ثم كونه مفعولا بالمشيئة أو بالطبع مقام ثان وليس العلم بكون المفعول محدثا مبنيا على كون الفاعل مريدا فإن الفعل عندهم لا يكون ابتداؤه إلا من قادر مريد لكن هذه قضية قائمة بنفسها وهذه قضية قائمة بنفسها وكل منهما دليل على حدوث كل ما سوى الله وهما أيضا قضيتان متلازمتان وهذه الأمور لبسطها موضع آخر ولكن المقصود هنا أن المبطلين لأصول الجهمية والمعتزلة من أهل السنة والشيعة وغيرهم يقولون بهذه |
2 | 285 | الطرق فهذه الطرق وغيرها مما يبين به حدوث كل ما سوى الله تعالى سواء قيل بأن كل حادث مسبوق بحادث أو لم يقل وأيضا فما يقوله قدماء الشيعة والكرامية ونحوهم لهؤلاء أن يقولوا نحن علمنا أن العالم مخلوق بما فيه من آثار الحاجة كما قد تبين قبل هذا أن كل جزء من العالم محتاج فلا يكون واجبا بنفسه فيكون مفتقرا إلى الصانع فثبت الصانع بهذا الطريق ثم يقولوا ويمتنع وجود حوادث لا أول لها فثبت حدوثه بهذا الطريق ولهذا كان محمد بن الهيصم ومن وافقه كالقاضي أبي خازم بن |
2 | 286 | القاضي أبي يعلى في كتابه المسمى بالتلخيص لا يسلكون في إثبات الصانع الطريق التي يسلكها أولئك المعتزلة ومن وافقهم حيث يثبتون أولا حدوث العالم بحدوث الأجسام ويجعلون ذلك هو الطريق إلى إثبات الصانع بل يبتدئون بإثبات الصانع ثم يثبتون حدوث العالم بتناهي الحوادث ولا يحتاجون أن يقولوا كل جسم محدث وبالجملة فالتقديرات أربعة فإن الحوادث إما أن يجوز دوامها وإما أن يمتنع دوامها ويجب أن يكون لها ابتداء وعلى التقديرين |
2 | 287 | فإما أن يكون كل جسم محدثا وإما أن لا يكون وقد قال بكل قول طائفة من أهل القبلة وغيرهم وكل هؤلاء يقولون بحدوث الأفلاك وأن الله أحدثها بعد عدمها ليس فيهم من يقول بقدمها فإن ذلك قول الدهرية سواء قالوا مع ذلك بإثبات عالم معقول كالعلة الأولى كما يقوله الإلهيون منهم أو لم يقولوا بذلك كما يقوله الطبيعيون منهم وسواء قالوا إن تلك العلة الأولى هي علة غائية بمعنى أن الفلك يتحرك للتشبه بها كما هو قول أرسطو وأتباعه أو قالوا إنها علة مبدعة للعالم كما يقوله ابن سينا وأمثاله أو قيل بالقدماء الخمسة كما يقوله الحرنانيون ونحوهم أو قيل بعدم صانع لها سواء قيل بوجوب ثبوت وجودها أو حدوثها لا بنفسها أو وجوب وجود المادة وحدوث الصورة بلا محدث كما يذكر عن الدهرية المحضة منهم مع أن كثيرا من الناس يقولون إن هذه الأقوال من جنس أقوال السوفسطائية التي لا تعرف عن قوم معينين وإنما هي شيء يخطر لبعض الناس في بعض الأحوال |
2 | 288 | وإذا كان كذلك فقد تبين أنه ليس لهذا الإمامي وأمثاله من متأخري الإمامية والمعتزلة وموافقيهم حجة عقلية على بطلان قول إخوانهم من متقدمي الإمامية وموافقيهم الذين نازعوهم في مسائل الصفات والقرآن وما يتبع ذلك فكيف يكون حالهم مع أهل السنة الذين هم أصح عقلا ونقلا فصل وأما قوله عن الإمامية إنهم يقولون إنه قادر على جميع المقدرات فهذا ملبس لا فائدة فيه فإن قول القائل إنه قادر على جميع المقدورات يراد به شيئان أحدهما أنه قادر على كل ممكن فإن كل ممكن هو مقدور بمعنى أنه يقدر القادر على فعله |
2 | 289 | والثاني أن يراد به أنه قادر على كل ما هو مقدور له لا يقدر على ما ليس بمقدور له والمعنى الأول هو مراد أهل السنة المثبتين للقدر إذا قالوا هو قادر على كل مقدور فإنهم يقولون إن الله قادر على كل ما يمكن أن يكون مقدورا لأي قادر كان فما من أمر ممكن في نفسه إلا والله قادر عليه لا يتصور عندهم أن يقدر العباد على ما لم يقدر الله عليه وهذا معنى قوله تعالى إنه على كل شيء قدير سورة فصلت فأما الممتنع لنفسه فإنه ليس بشيء عند عامة العقلاء وإنما تنازعوا في المعدوم الممكن هل هو شيء أم لا فأما الممتنع فلم يقل أحد إنه شيء ثابت في الخارج فإن الممتنع هو ما لا يمكن وجوده في الخارج مثل كون الشيء موجودا معدوما فإن هذا ممتنع لذاته لا يعقل ثبوته في الخارج وكذلك كون الشيء أسود كله أبيض كله وكون الجسم الواحد بعينه في الوقت الواحد في مكانين والممتنع يقال على الممتنع لنفسه مثل هذه الأمور وعلى الممتنع لغيره مثل ما علم الله تعالى أنه لا يكون وأخبر أنه لا يكون وكتب أنه لا يكون فهذا لا يكون وقد يقال إنه يمتنع أن يكون لأنه لو كان للزم أن يكون علم الله بخلاف معلومه وخبره بخلاف مخبره لكن هذا هو ممكن في نفسه والله قادر عليه كما قال بلى قادرين على أن نسوي بنانه سورة القيامة وقال تعالى وإنا على ذهاب به لقادرون سورة |
2 | 290 | المؤمنون وقال تعالى قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو بلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض سورة الأنعام وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما نزل قوله تعالى قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم قال أعوذ بوجهك أو من تحت أرجلكم قال أعوذ بوجهك أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض قال هاتان أهون ومن ذلك قوله تعالى ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها سورة السجدة ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة سورة هو ولو شاء الله ما اقتتلوا سورة البقرة إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء سورة سبأ وأمثال ذلك مما أخبر الله تعالى أنه لو شاء لفعله فإه هذه الأمور التي أخبر الله أنه لو شاء لفعلها تستلزم أنها ممكنة مقدورة له وقد تنازع الناس في خلاف المعلوم هل هو ممكن مقدور كإيمان |
2 | 291 | الكافر الذي علم الله أنه لا يؤمن والذين زعموا أن الله يكلف العبد ما هو ممتنع احتجوا بتكليفه وزعموا أن إيمانه ممتنع لاستلزامه انقلاب علم الله جهلا وجوابهم أن لفظ الممتنع مجمل يراد به الممتنع لنفسه ويراد به ما يمتنع لوجود غيره فهذا الثاني يوصف بأنه ممكن مقدور بخلاف الأول وإيمان من علم الله أنه لا يؤمن مقدور له لكنه لا يقع وقد علم الله أنه لا يؤمن مع كونه مستطيع الإيمان كمن علم أنه لا يحج مع استطاعته الحج ومن الناس من يدعى أن الممتنع لذاته مقدور ومنهم من يدعى إمكان أمور يعلم بالعقل امتناعها وغالب هؤلاء لا يتصور ما يقوله حق التصور أو لا يفهم ما يريده الناس بتلك العبارة فيقع الإشتراك والإشتباه في اللفظ أو في المعنى وحقيقة الأمر ما أخبر الله به في غير موضع من كتابه أنه على كل شيء قدير كما تقدم بيانه وهذا مذهب أهل السنة المثبتين للقدر وأما القدرية من الإمامية والمعتزلة وغيرهم فإذا قالوا إنه قادر على كل المقدورات لم يريدوا بذلك ما يريده أهل الإثبات وإنما يريدون بذلك أنه قادر على كل ما هو مقدور له وأما نفس أفعال العباد من الملائكة والجن والإنس فإن الله لا يقدر عليها عند القدرية وإنما تنازعوا هل يقدر على مثلها وإذا كان كذلك كان قولهم إنه قادر على كل مقدور إنما يتضمن |
2 | 292 | أنه قادر على كل ما هو مقدور له وغيره أيضا هو قادر على كل مقدور له لكن غاية ما يقولون إنه قادر على مثل مقدور العباد والعبد لا يقدر على مثل مقدور قادر آخر وبكل حال فإذا كان المراد أنه قادر على ما هو مقدور له كان هذا بمنزلة أن يقال هو عالم بكل ما يعلمه وخالق لكل ما يخلقه ونحو ذلك من العبارات التي لا فائدة فيها مثل أن يقول القائل إنه فاعل لجميع المفعولات ومثل أن يقال زيد عالم بكل ما يعلمه وقادر على كل ما يقدر عليه وفاعل لكل ما يفعله فإن الشأن في بيان المقدورات هل هو على كل شيء قدير فمذهب هؤلاء الإمامية وشيوخهم القدرية أنه ليس على كل شيء قديرا وأن العباد يقدرون على ما لا يقدر عليه ولا يقدر أن يهدي ضالا ولا يضل مهتديا ولا يقيم قاعدا باختياره ولا يقعد قائما باختياره ولا يجعل أحدا مسلما مصليا ولا صائما ولا حاجا ولا معتمرا ولا |
2 | 293 | يجعل الإنسان لا مؤمنا ولا كافرا ولا برا ولا فاجرا ولا يخلقه هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا فهذه الأمور كلها ممكنة ليس فيها ما هو ممتنع لذاته وعندهم أن الله لا يقدر على شيء منها فظهر تمويههم بقولهم إن الله قادر على جميع المقدورات وأما أهل السنة فعندهم أن الله تعالى على كل شيء قدير وكل ممكن فهو مندرج في هذا وأما المحال لذاته مثل كون الشيء الواحد موجودا معدوما فهذا لا حقيقة له ولا يتصور وجوده ولا يسمى شيئا باتفاق العقلاء ومن هذا الباب خلق مثل نفسه وأمثال ذلك |
2 | 294 | وأما قوله إنه عدل حكيم لا يظلم أحدا ولا يفعل القبيح وإلا لزم الجهل أو الحاجة تعالى الله عنهما فيقال له هذا متفق عليه بين المسلمين من حيث الجملة أن الله لا يفعل قبيحا ولا يظلم أحدا ولكن النزاع في تفسير ذلك فهو إذا كان خالقا لأفعال العباد هل يقال إنه فعل ما هو قبيح منه وظلم أم لا فأهل السنة المثبتون للقدر يقولون ليس هو بذلك ظالما ولا فاعلا قبيحا والقدرية يقولون لو كان خالقا لأفعال العباد كان ظالما فاعلا لما هو قبيح منه وأما كون الفعل قبيحا من فاعله فلا يقتضى أن يكون قبيحا من خالقه كما أن كونه أكلا وشربا لفاعله لا يقتضى أن يكون كذلك لخالقه لأن الخالق خلقه في غيره لم يقم بذاته فالمتصف به من قام به الفعل لا من خلقه في غيره كما أنه إذا خلق لغيره لونا وريحا وحركة وقدرة وعلما |
2 | 295 | كان ذلك الغير هو المتصف بذلك اللون والريح والحركة والقدرة والعلم فهو المتحرك بتلك الحركة والمتلون بذلك اللون والعالم بذلك العلم والقادر بتلك القدرة فكذلك إذا خلق في غيره كلاما أو صلاة أو صياما أو طوافا كان ذلك الغير هو المتكلم بذلك الكلام وهو المصلي وهو الصائم وهو الطائف وكذلك إذا خلق في غيره رائحة خبيثة منتنة كان هو الخبيث المنتن ولم يكن الرب تعالى موصوفا بما خلقه في غيره وإذا خلق الإنسان هلوعا جزوعا كما أخبر تعالى بقوله إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا سورة المعارج لم يكن هو سبحانه لا هلوعا ولا جزوعا ولا منوعا كما تزعم القدرية أنه إذا جعل الإنسان ظالما كاذبا كان هو ظالما كاذبا تعالى عن ذلك وهذا يدل على قول جماهير المثبتين للقدر القائلين بأنه خالق أفعال العباد فإنهم يقولون إن الله تعالى خالق العبد وجميع ما يقوم به من إرادته وقدرته وحركاته وغير ذلك وذهبت طائفة منهم من الكرامية وغيرهم كالقاضي أبي خازم بن القاضي أبي يعلى إلى أن معنى كونه خالقا لأفعال العباد أنه خالق |
2 | 296 | للأسباب التي عندها يكون العبد فاعلا ويمتنع ألا يكون فاعلا فما علم الله أن العبد يفعله خلق الأسباب التي يصير بها فاعلا ويقولون إن أفعال العباد وجدت من جهته لا من جهة الله ويقولون إن الله تعالى موجدها كما قالوا إن الله خالقها ويقولون إنه لم يكونها ولم يجعلها ويقولون إن العبد تحدث له إرادة مكتسبة لكن قد يقولون إنها بإرادة ضرورية يخلقها الله كما ذكر ذلك القاضي أبو خازم وغيره وقد يقولون بل العبد يحدث إرادته مطلقا كما قالته القدرية لكن هؤلاء يقولون إن الرب يسر خلق الأسباب التي تبعث داعية على إيقاع ما يعلم أنه يوقعه ولكن على قول الجمهور من قال إن الفعل هو المفعول كما يقوله الجهم بن صفوان ومن وافقه كالأشعري وطائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد يقول إن أفعال العباد هي فعل الله فإن قال أيضا وهي فعل لهم لزمه أن يكون الفعل الواحد لفاعلين كما يحكى عن أبي إسحاق الإسفراييني وإن لم يقل هي فعل لهم |
2 | 297 | لزمه أن تكون أفعال العباد فعلا لله لا لعباده كما يقوله جهم بن صفوان والأشعري ومن وافقه من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم الذين يقولون إن الخلق هو المخلوق وإن أفعال العباد خلق لله عز وجل فتكون هي فعل الله وهي مفعول الله كما أنها خلقه وهي مخلوقة وهؤلاء لا يقولون إن العباد فاعلون لأفعالهم حقيقة ولكن هم مكتسبون لها وإذا طولبوا بالفرق بين الفعل والكسب لم يذكروا فرقا معقولا ولهذا كان يقال عجائب الكلام ثلاثة أحوال أبي هاشم وطفرة النظام وكسب الأشعري |
2 | 298 | وهذا الذي ينكره الأئمة وجمهور العقلاء ويقولون إنه مكابرة للحس ومخالفة للشرع والعقل وأما جمهور أهل السنة المتبعون للسلف والأئمة فيقولون إن فعل العبد فعل له حقيقة ولكنه مخلوق لله ومفعول لله لا يقولون هو نفس فعل الله ويفرقون بين الخلق والمخلوق والفعل والمفعول وهذا الفرق الذي حكاه البخاري في كتاب خلق أفعال العباد عن العلماء قاطبة وهو الذي ذكره غير واحد من السلف والأئمة وهو قول الحنفية وجمهور المالكية والشافعية والحنبلية وحكاه البغوي عن أهل السنة قاطبة وحكاه الكلاباذي صاحب التعرف لمذهب التصوف عن جميع الصوفية وهو قول أكثر طوائف أهل الكلام من الهشامية |
2 | 299 | وكثير من المعتزلة والكرامية وهو قول الكلابية أيضا أئمة الأشعرية فيما ذكره أبو علي الثقفي وغيره على قول الكرامية وأثبتوا لله فعلا قائما بذاته غير المفعول كما أثبتوا له إرادة قديمة قائمة بذاته وذكر سائر الإعتقاد الذي صنفوه لما جرى بينهم وبين ابن خزيمة نزاع في مسألة القرآن لكن ما أدري هل ذلك قول ابن كلاب نفسه أو قالوه هم بناء على هذا الأصل المستقر عندهم ثم القدر فيه نزاع بين الإمامية كما بينهم النزاع في الصفات قال أبو الحسن الأشعري في المقالات واختلفت الرافضة في أعمال العباد هل هي مخلوقة وهي ثلاث فرق فالفرقة الأولى منهم وهم هشام بن الحكم |
2 | 300 | يزعمون أن أعمال العباد مخلوقة لله قال وحكى جعفر بن حرب عن هشام بن الحكم أنه كان يقول إن أفعال الإنسان اختيار له من وجه اضطرار له من وجه اختيار له من وجه أنه أرادها واكتسبها واضطرار من جهة أنها لا تكون منه إلا عند حدوث السبب المهيج عليه قال والفرقة الثانية منهم يزعمون أن لا جبر كما قال الجهمي ولا تفويض كما قالت المعتزلة لأن الرواية عن الأئمة زعموا جاءت بذلك ولم يتكلفوا أن يقولوا في أفعال العباد هل هي مخلوقة أم لا شيئا والفرقة الثالثة منهم يزعمون أن أعمال العباد غير |
2 | 301 | مخلوقة لله وهذا قول قوم يقولون بالإعتزال والإمامة فإذن كانت الإمامية على ثلاثة أقوال منهم من يوافق المثبتة ومنهم من يوافق المعتزلة ومنهم من يقف والواقفة معنى قولهم هو معنى قول أهل السنة ولكن توقفوا في إطلاق اللفظ فإن أهل السنة لا يقولون بالتفويض كما تقول القدرية ولا بالجبر كما تقول الجهمية بل أئمة السنة كالأوزاعي والثوري وعبد الرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل وغيرهم متفقون على إنكار قول الجبرية المأثور عن جهم بن صفوان وأتباعه وإن كان الأشعري يقول بأكثره وينفى الأسباب والحكم فالسلف مثبتون للأسباب والحكمة والمقصود أن الإمامية إذا كان لهم قولان كانوا متنازعين في ذلك كتنازع سائر الناس لكنهم فرع على غيرهم في هذا وغيره فإن مثبتيهم تبع للمثبتة ونفاتهم تبع للنفاة إلا ما اختصوا به من افتراء الرافضة فإن الكذب والجهل والتكذيب بالحق الذي اختصوا به لم يشركهم فيه أحد من طوائف الأمة وأما ما يتكلمون به في سائر مسائل |
2 | 302 | العلم أصوله وفروعه فهم فيه تبع لغيرهم من الطوائف يستعيرون كلام الناس فيتكلمون به وما فيه من حق فهو من أهل السنة لا ينفردون عنهم بمسألة واحدة صحيحة لا في الأصول ولا في الفروع إذ كان مبدأ بدعة القوم من قوم منافقين لا مؤمنين وحينئذ فهذا النافي يناظر أصحابه في ذلك وهو لم يذكر حجة وقد تقدم تفصيل مذاهب أهل السنة في ذلك وقد ذكر أصحابه عن الأئمة ما يخالف قوله في ذلك وأما قوله إن الله يثيب المطيع ويعفو عن العاصي أو يعذبه فهذا مذهب أهل السنة الخاصة وسائر من انتسب إلى السنة والجماعة كالكلابية والكرامية والأشعرية والسالمية وسائر فرق الأمة من المرجئة وغيرهم والخلاف في ذلك مع الخوارج والمعتزلة فإنهم يقولون بتخليد أهل الكبائر في النار وأما الشيعة فالزيدية منهم أو أكثر الزيدية تقول بقول المعتزلة في ذلك والإمامية على قولين |
2 | 303 | قال الأشعري وأجمعت الزيدية أن أصحاب الكبائر كلهم معذبون في النار خالدون فيها مخلدون أبدا لا يخرجون منها ولا يغيبون عنها قال واختلفت الروافض في الوعيد وهم فرقتان فالفرقة الأولى منهم يثبتون الوعيد على مخالفيهم ويقولون إنهم يعذبون ولا يقولون بإثبات الوعيد فيمن قال بقولهم ويزعمون أن الله يدخلهم الجنة وإن أدخلهم النار أخرجهم منها ورووا في ذلك عن أئمتهم أن ما كان بين الله وبين الشيعة من المعاصي سألوا الله فيهم فصفح عنهم وما كان بين الشيعة وبين الأئمة تجاوزوا عنه وما كان بين الشيعة وبين الناس من المظالم شفعوا لهم أئمتهم حتى يصفحوا عنهم |
2 | 304 | قال والفرقة الثانية منهم يذهبون إلى إثبات الوعيد وأن الله عز وجل يعذب كل مرتكب للكبائر من أهل مقالتهم كان أو من غير أهل مقالتهم ويخلدهم في النار وهذا قول أئمة هذا الإمامي من المعتزلة ونحوهم وأما قوله ويثيب المطيع لئلا يكون ظالما فقد قدمنا أن للمثبتين للقدر في تفسير الظلم الذي يجب تنزيه الله عنه قولين أحدهما أن الظلم هو الممتنع لذاته وهو المحال لذاته وإن كان ما يمكن أن يكون فالرب قادر عليه وكل ما كان قادرا عليه لا يكون ظالما وهذا قول الجهم والأشعري وموافقيهما وقول كثير من السلف والخلف أهل السنة والحديث ويروى عن إياس بن معاوية قال ما ناظرت بعقلي كله إلا القدرية |
2 | 305 | قلت لهم أخبروني عن الظلم ماهو قالوا التصرف في ملك غيره قلت فلله كل شيء وهذا قول كثير من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم |
2 | 306 | فعلى هذا القول لا يقال يثيب الطائع لئلا يكون ظلما فإن الممتنع لذاته الذي لا يكون مقدورا لا يتصور وقوعه فأي شيء كان مقدورا وفعل لم يكن ظلما عند هؤلاء وهؤلاء يجوزون أن يعذب الله العبد في الدنيا والآخرة بلا ذنب كما يجوزون تعذيب أطفال الكفار ومجانينهم بلا ذنب ثم من هؤلاء من يقطع بدخول أطفال الكفار النار ومنهم من يجوزه ويتوقف فيه وطائفة من أصحاب أحمد يقطعون بذلك وينقلونه عن أحمد وهو خطاء على أحمد بل نصوص أحمد المتواترة عنه وعن غيره من الأئمة مطابقة للأحاديث الصحيحة في ذلك وهؤلاء إنما اشتبه عليهم الأمر لأن أحمد سئل عنهم في بعض أجوبته فأجاب بالحديث الصحيح الله أعلم بما كانوا عاملين فظن هؤلاء أن أحمد أجاب بحديث روى عن خديجة أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أطفال المشركين فقال إنهم في النار فقالت بلا عمل فقال الله أعلم بما كانوا عاملين وهذا الحديث كذب موضوع عند أهل الحديث ومن هو دون أحمد من أئمة الحديث يعرف هذا فضلا عن مثل أحمد |
2 | 307 | وأحمد لم يجب بهذا وإنما أجاب بالحديث الذي في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ثم يقول أبي هريرة اقرؤا إن شئتم فطرة الله التي فطر الناس عليها سورة الروم قالوا يا رسول الله أرأيت من يموت من أطفال المشركين وهو صغير فقال |
2 | 308 | الله أعلم بما كانوا عاملين وفي صحيح البخاري أيضا عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أطفال المشركين فقال |
2 | 309 | الله أعلم بما كانوا عاملين وقد بسط الكلام على هذا الأحاديث وأقوال الناس في هذه المسألة ونحوها في غير هذا الموضع مثل كتاب رد تعارض العقل والنقل وغير ذلك والقول الثاني أن الظلم ممكن مقدور وأنه منزه عنه لا يفعله لعلمه وعدله فهو لا يحمل على أحد ذنب غيره قال تعالى ولا تزر وازرة وزر أخرى سورة الإسراء ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما سورة طه وعلى هذا فعقوبة الإنسان بذنب غيره ظلم ينزه الله عنه وأما |
2 | 310 | إثابة المطيع ففضل منه وإحسان وإن كان حقا واجبا بحكم وعده باتفاق المسلمين وبما كتبه على نفسه من الحرمة وبموجب أسمائه وصفاته فليس هو من جنس ظلم الأجير الذي استؤجر ولم يوف أجره فإن هذا معاوضة والمستأجر استوفى منفعته فإن لم يوفه أجره ظلمه والله تعالى هو المحسن إلى العباد بأمره ونهيه وبإقداره لهم على الطاعة وبإعانتهم على طاعته وهم كما قال تعالى في الحديث الصحيح الإلهي يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ياعبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم مانقص ذلك من ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان منهم مسألته ما نقص مما عندي إلا |
2 | 311 | كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضرى فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه فبين أن الخير الموجود من الثواب مما يحمد الله عليه لأنه المحسن به وبأسبابه وأما العقوبة فإنه عادل فيها فلا يلومن العبد إلا نفسه كما قيل كل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل وأصحاب هذا القول يقولون الكتاب والسنة إنما تدل على هذا القول والله قد نزه نفسه في غير موضع عن الظلم الممكن المقدور مثل نقص الإنسان من حسناته وحمل سيئات غيره عليه وأما خلق أفعال العباد واختصاصه أهل الإيمان بإعانتهم على الطاعة فليس هذا من الظلم في شيء باتفاق أهل السنة والجماعة وسائر المثبتين للقدر من جميع الطوائف ولكن القدرية تزعم أن ذلك ظلم وتتكلم في التعديل والتجوير بكلام متناقض فاسد كما قد بين في موضعه |
2 | 312 | وأما قوله أو يعذبه بجرمه من غير ظلم له فهذا متفق عليه بين المسلمين أن الله تعالى ليس ظالما بتعذيب العصاة وهم على ما تقدم من التنازع في مسمى الظلم هذا يقول لأن الظلم منه ممتنع وهذا يقول إنه وضع العقوبة موضعنا والظلم وضع الشيء في غير موضعه كما تقول العرب من أشبه أباه فما ظلم ومعلوم أن الواحد من العباد إذا عذب الظالم على ظلمه بالعدل لم يكن ظالما له وإن اعتقد أن الله خلق فعله وأنه تحت القضاء والقدر فإذا لم يكن المخلوق ظالما للمخلوق إذا عاقبه بظلمه وإن كان يعلم أن ذلك مقدر عليه فالخالق أولى أن لا يكون ظالما له وإن كان ما فعله مقدرا هذا مع ما أنه يحسن منه سبحانه بحكمته ما لا يحسن من الناس فإن الواحد من الناس لو رأى مماليكه يزنى بعضهم ببعض ويظلم بعضهم بعضا وهو قادر على منعهم ولم يمنعهم لكان مذموما بذلك مستحقا للوم والعقاب والبارئ تعالى يرى ما يفعله بعض مماليكه من ظلم وفاحشة وهو قادر على منعهم فلا يمنعهم وهو سبحانه حميد مجيد منزه عن استحقاق الذم فضلا عن عقاب إما لما له في ذلك من |
2 | 313 | الحكمة على قول الأكثرين وإما لمحض المشيئة والإرادة على قول نفاة التعليل والإرادة من المثبتين للقدر فإذا كان يحسن منه من الأفعال ما لا يحسن من البشر بطل قياسه على خلقه وكان ما يحسن منا من عقوبة الظالم لا يقبح منه بطريق الأولى والأحرى فإن ما ينزه عنه من النقائص فهو أولى بتنزيهه وله من الحمد ما لا يستحقه غيره وأما قوله وأن أفعاله محكمة واقعة لغرض ومصلحة وإلا لكان عابثا فقد تقدم أن لأهل السنة الذين ليسوا بإمامية قولين في تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه وأن الأكثرين على التعليل والحكمة هل هي منفصلة عن الرب لا تقوم به أو قائمة به مع ثبوت الحكم المنفصلة أيضا فيه قولان لهم وهل تتسلسل الحكم أو لا تتسلسل أو تتسلسل في المستقبل دون الماضي هذا فيه أقوال لهم |
2 | 314 | وأما لفظ الغرض فتطلقه طائفة من أهل الكلام كالقدرية وطائفة من المثبتين للقدر أيضا يقولون إنه يفعل لغرض كما ذكر ذلك من يذكره من مثبتة القدر أهل التفسير والفقه وغيرهم ولكن الغالب على الفقهاء وغيرهم من المثبتين للقدر أنهم لا يطلقون لفظ الغرض وإن أطلقوا لفظ الحكمة لما فيه من إيهام الظلم والحاجة فإن الناس إذا قالوا فلان فعل هذا لغرض وفلان له غرض مع فلان كثيرا ما يعنون بذلك المراد المذموم من ظلم وفاحشة أو غيرهما والله تعالى منزه عن أن يريد ما يكون مذموما بإرادته وأما قوله إنه أرسل الرسل لإرشاد العالم فهكذا يقول جماهير أهل السنة أن الله تعالى أرسل محمدا صلىالله عليه وسلم رحمة للعالمين والذين يمتنعون من التعليل يقولون أرسله وجعل إرساله رحمة في حق من آمن به أو في حقه وحق غيره ويقولون هذه الرحمة جعلت عند ذلك كما يقولون في سائر الأمور |
2 | 315 | التي حصل عندها آثار فإن الجمهور المثبتين للحكمة يقولون فعل كذا لأجل ذلك وفعل كذا بكذا وأولئك يقولون فعل عنده لا به ولا له وأما قوله وأنه تعالى غير مرئي ولا مدرك بشيء من الحواس لقوله تعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار سورة الأنعام ولأنه ليس في جهة فيقال له أولا النزاع في هذه المسألة بين طوائف الإمامية كما النزاع فيها بين غيرهم فالجهمية والمعتزلة والخوارج وطائفة من غير الإمامية تنكرها والإمامية لهم فيها قولان فجمهور قدمائهم يثبت الرؤية وجمهور متأخيريهم ينفونها وقد تقدم أن أكثر قدمائهم يقولون بالتجسيم |
2 | 316 | قال الأشعري وكل المجسمة إلا نفرا قليلا يقول بإثبات الرؤية وقد يثبت الرؤية من لا يقول بالتجسيم قلت وأما الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام المعروفون بالإمامة في الدين كمالك والثوري والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي حنيفة وأبي يوسف وأمثال هؤلاء وسائر أهل السنة والحديث والطوائف المنتسبين إلى السنة والجماعة كالكلابية والأشعرية والسالمية وغيرهم فهؤلاء كلهم متفقون على إثبات الرؤية لله تعالى والأحاديث بها متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم بحديثه وكذلك الآثار بها متواترة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وقد ذكر الإمام أحمد وغيره من الأئمة العالمين بأقوال السلف أن الصحابة والتابعين لهم بإحسان متفقون على أن الله يرى في الآخرة بالأبصار ومتفقون على أنه لا يراه أحد في الدنيا بعينه ولم يتنازعوا في ذلك إلا في نبينا صلى الله عليه وسلم خاصة منهم من نفى رؤيته بالعين في الدنيا ومنهم من أثبتها وقد بسطت هذه الأقوال والأدلة من الجانبين في غير هذا الموضع والمقصود هنا نقل إجماع السلف على أثبات الرؤية |
2 | 317 | بالعين في الآخرة ونفيها في الدنيا إلا الخلاف في النبي صلى الله عليه وسلم خاصة وأما احتجاجه واحتجاج النفاة أيضا بقوله تعالى لا تدركه الأبصار سورة الأنعام فالآية حجة عليهم لا لهم لأن الإدراك إما أن يراد به مطلق الرؤية أو الرؤية أو الرؤية المقيدة بالإحاطة والأول باطل لأنه ليس كل من رأى شيئا يقال إنه أدركه كما لا يقال أحاط به كما سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن ذلك فقال ألست ترى السماء قال بلى قال أكلها ترى قال لا ومن رأى جوانب الجيش أو الجبل أو البستان أو المدينة لا يقال إنه أدركها وإنما يقال أدركها إذا أحاط بها رؤية ونحن في هذا المقام ليس علينا بيان ذلك وإنما ذكرنا هذا بيانا لسند المنع بل المستدل بالآية عليه أن يبين أن الإدراك في لغة العرب مرادف للرؤية وأن كل من رأى شيئا يقال في لغتهم إنه أدركه وهذا لا سبيل إليه كيف وبين لفظ |
2 | 318 | الرؤية ولفظ الإدراك عموم وخصوص أو اشتراك لفظي فقد تقع رؤية بلا إدراك وقد يقع إدراك بلا رؤية فإن الإدراك يستعمل في إدراك العلم وإدراك القدرة فقد يدرك الشيء بالقدرة وإن لم يشاهد كالأعمى الذي طلب رجلا هاربا منه فأدركه ولم يره وقد قال تعالى فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين سورة الشعراء فنفى موسى الإدراك مع إثبات الترائي فعلم أنه قد يكون رؤية بلا أدراك والإدراك هنا هو إدراك القدرة أي ملحوقون محاط بنا وإذا انتفى هذا الإدراك فقد تنتفى إحاطة البصر أيضا ومما يبين ذلك أن الله تعالى ذكره هذه الآية يمدح بها نفسه |
2 | 319 | سبحانه وتعالى ومعلوم أن كون الشيء لا يرى ليس صفة مدح لأن النفى المحض لا يكون مدحا إن لم يتضمن أمرا ثبوتيا ولأن المعدوم أيضا لا يرى والمعدوم لا يمدح فعلم أن مجرد نفى الرؤية لا مدح فيه وهذا أصل مستمر وهو أن العدم المحض الذي لا يتضمن ثبوتا لا مدح فيه ولا كمال فلا يمدح الرب نفسه به بل ولا يصف نفسه به وإنما يصفها بالنفي المتضمن معنى ثبوت كقوله لا تأخذه سنة ولا نوم وقوله من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه وقوله ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وقوله ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم سورة البقرة وقوله لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض سورة سبأ وقوله وما مسنا من لغوب سورة ق ونحو ذلك من القضايا السلبية التي يصف الرب تعالى بها نفسه وأنها تتضمن اتصافه بصفات الكمال الثبوتية مثل كمال حياته وقيوميته وملكه وقدرته وعلمه وهدايته وانفراده بالربوبية والإلهية ونحو ذلك وكل ما يوصف به العدم المحض فلا يكون إلا عدما محضا ومعلوم أن العدم المحض يقال فيه إنه لايرى فعلم أن نفى الرؤية عدم محض ولا يقال في العدم المحض لا يدرك وإنما يقال هذا فيما لا يدرك لعظمته لا لعدمه وإذا كان المنفى هو الإدراك فهو سبحانه وتعالى لا يحاط به |
2 | 320 | رؤية كما لا يحاط به علما ولا يلزم من نفى إحاطة العلم والرؤية نفى العلم والرؤية بل يكون ذلك دليلا على أنه يرى و يحاط به كما يعلم ولا يحاط به فإن تخصيص الإحاطة بالنفي يقتضي أن مطلق الرؤية ليس بمنفى وهذا الجواب قول أكثر العلماء من السلف وغيرهم وقد روى معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره وقد روى في ذلك حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا تحتاج |
2 | 321 | الآية إلى تخصيص ولا خروج عن ظاهر الآية فلا نحتاج أن نقول لا نراه في الدنيا أو نقول لا تدركه الأبصار بل المبصرون أو لا تدركه كلها بل بعضها ونحو ذلك من الأقوال التي فيها تكلف ثم نحن في هذا المقام يكفينا أن نقول الآية تحتمل ذلك فلا يكون فيها دلالة على نفي الرؤية فبطل استدلال من استدل بها على الرؤية وإذا أردنا أن نثبت دلالة الآية على الرؤية مع نفيها للإدراك الذي هو الإحاطة أقمنا الدلالة على أن الإدراك في اللغة ليس هو مرادفا للرؤية بل هو أخص منها وأثبتنا ذلك باللغة وأقوال المفسرين من السلف وبأدلة أخرى سمعية وعقلية وأما قوله ولأنه ليس في جهة فيقال للناس في إطلاق لفظ الجهة ثلاثة أقوال فطائفة تنفيها وطائفة تثبتها وطائفة تفصل وهذا النزاع موجود في المثبتة للصفات من أصحاب الأئمة الأربعة وأمثالهم ونزاع أهل الحديث والسنة الخاصة في نفى ذلك وإثباته |
2 | 322 | نزاع لفظي ليس هو نزاعا معنويا ولهذا كان طائفة من أصحاب الإمام أحمد كالتميميين والقاضي أبي يعلى في أول قولية تنفيها وطائفة أخرى أكثر منهم تثبتها وهو آخر قولى القاضي والمتبعون للسلف لا يطلقون نفيها ولا إثباتها إلا إذا تبين أن ما أثبت بها فهو ثابت وما نفى بها فهو منفى لأن المتأخرين قد صار لفظ الجهة في اصطلاحهم فيه إجمال وإبهام كغيرها من ألفاظهم الإصطلاحية فليس كلهم يستعملها في نفس معناها اللغوي ولهذا كان النفاة ينفون بها حقا وباطلا ويذكرون عن مثبتيها ما لا يقولون به وبعض المثبتين لها يدخل فيها معنى باطلا مخالفا لقول السلف ولما دل عليه الكتاب والميزان |
2 | 323 | وذلك أن لفظ الجهة قد يراد به ما هو موجود وقد يراد به ما هو معدوم ومن المعلوم أنه لا موجود إلا الخالق والمخلوق فإذا أريد بالجهة أمر موجود غير الله كان مخلوقا والله تعالى لا يحصره ولا يحيط به شيء من المخلوقات فإنه بائن من المخلوقات وإن أريد بالجهة أمر عدمى وهو ما فوق العالم فليس هناك إلا الله وحده فإذا قيل إنه في جهة إن كان معنى الكلام أنه هناك فوق العالم حيث انتهت المخلوقات فهو فوق الجميع عال عليه ونفاة لفظ الجهة يذكرون من أدلتهم أن الجهات كلها مخلوقة وأنه كان قبل الجهة وأنه من قال إنه في جهة يلزمه القول بقدم شيء من العالم أو أنه كان مستغنيا عن الجهة ثم صار فيها وهذه الأقوال ونحوها إنما تدل على أنه ليس في شيء من المخلوقات سواء سمى جهة أو لم يسم وهذا حق فإنه سبحانه منزه عن أن تحيط به المخلوقات أو أن يكون مفتقرا إلى شيء منها العرش أو غيره ومن ظن من الجهال أنه إذا نزل إلى سماء الدنيا كما جاء الحديث يكون العرش فوقه ويكون محصورا بين طبقتين من |
2 | 324 | العالم فقوله مخالف لإجماع السلف مخالف للكتاب والسنة كما قد بسط في موضعه وكذلك توقف من توقف في نفى ذلك من أهل الحديث فإنما ذلك لضعف علمه بمعانى الكتاب والسنة وأقوال السلف ومن نفى الجهة وأراد بالنفي كون المخلوقات محيطة به أو كونه مفتقرا إليها فهذا حق لكن عامتهم لا يقتصرون على هذا بل ينفون أن يكون فوق العرش رب العالمين أو أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم عرج به إلى الله أو أن يصعد إليه شيء وينزل منه شيء أو أن يكون مباينا للعالم بل تارة يجعلونه لا مباينا ولا محايثا فيصفونه بصفة المعدوم والممتنع وتارة يجعلونه حالا في كل موجود أو يجعلونه وجود كل موجود ونحو ذلك مما يقوله أهل التعطيل وأهل الحلول |
2 | 325 | وإذا كان كذلك فهو قد استدل على عدم الرؤية بكونه ليس في جهة وهذا الموضع مما تنازع فيه مثبتو الرؤية فقال الجمهور بما دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم إنكم ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر لا تضامون في رؤيته وهذا الحديث متفق عليه من طرق كثيرة وهو مستفيض بل متواتر عند أهل العلم بالحديث اتفقوا على صحته مع أنه جاء من وجوه كثيرة قد |
2 | 326 | جمع طرقها أكثر أهل العلم بالحديث كأبي الحسن الدارقطنى وأبي نعيم الأصبهاني وأبي بكر الآجري وغيرهم وقد أخرج أصحاب الصحيح ذلك من وجوه متعددة توجب لمن كان عارفا بها العلم القطعي بأن لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك وقالت طائفة إنه يرى لا في جهة لا أما الرائي ولا خلفه ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا فوقه ولا تحته وهذا هو المشهور عند متأخري الأشعرية فإن هذا مبنى على اختلافهم في كون البارئ تعالى فوق العرش فالأشعري وقدماء أصحابه كانوا يقولون إنه بذاته فوق العرش وهو مع ذلك ليس بجسم |
2 | 327 | وعبدالله بن سعيد بن كلاب والحارث المحاسبي وأبو العباس القلانسي كانوا يقولون بذلك بل كانوا أكمل إثباتا من الأشعري فالعلو عندهم من الصفات العقلية وهو عند الأشعري من الصفات السمعية ونقل ذلك الأشعري عن أهل السنة والحديث كما فهمه عنهم وكان أبو محمد بن كلاب هو الأستاذ الذي اقتدى به الأشعري في طريقه هو وأئمة أصحابه كالحارث المحاسبي وأبي العباس القلانسي وأبي سليمان الدمشقي وأبي حاتم البستى وخلق كثير يقولون إن اتصافه بأنه مباين للعالم عال عليه هو من الصفات المعلومة بالعقل كالعلم والقدرة وأما الإستواء على العرش فهو من الصفات الخبرية وهذا قول كثير من أصحاب الأئمة الأربعة وأكثر أهل |
2 | 328 | الحديث وهو آخر قولى القاضي أبي يعلى وقول أبي الحسن بن الزاغوني وهو قول كثير من أهل الكلام من الكرامية وغيرهم وأما الأشعري فالمشهور عنه أن كليهما صفة خبرية وهو قول كثير من أتباع الأئمة الأربعة وهو أول قولى القاضي أبي يعلى وقول التميميين وغيرهم من أصحابه وكثير من متأخري أصحاب الأشعري أنكروا أن يكون الله فوق العرش أو في السماء وهؤلاء الذين ينفون الصفات الخبرية كأبي المعالي وأتباعه فإن الأشعري وأئمة أصحابه يثبتون الصفات الخبرية |
2 | 329 | وهؤلاء ينفونها فنفوا هذه الصفة لأنها على قول الأشعري من الصفات الخبرية ولما لم تكن هذه الصفة عند هؤلاء عقلية قالوا إنه يرى لا في جهة وجمهور الناس من مثبتة الرؤية ونفاتها يقولون إن قول هؤلاء معلوم الفساد بضرورة العقل كقولهم في الكلام ولهذا يذكر أبو عبدالله الرازي أنه لا يقول بقولهم في مسألة الكلام والرؤية أحد من طوائف المسلمين ونحن نسلك طريقين من البيان أحدهما نبين فيه أن هؤلاء الذين رد عليهم من مثبتى الرؤية كالأشعري وغيره أقرب إلى الصواب من قول النفاة الثاني نبين في الحق بيانا مطلقا لا نذب فيه عن أحد الطريق الأول أن نبين أن هذه الطائفة وغيرها من الطوائف المثبتة للرؤية أقل خطأ وأكثر صوابا من نفاة الرؤية ونقول لهؤلاء النفاة للرؤية أنتم أكثرتم التشنيع على الأشعرية ومن وافقهم من أتباع الأئمة في مسألة الرؤية ونحن نبين أنهم أقرب إلى الحق منكم نقلا |
2 | 330 | وعقلا وأن قولهم إذا كان فيه خطأ فالخطأ الذي في قولكم أعظم وأفحش عقلا ونقلا فإذا قلتم هؤلاء إذا أثبتوا مرئيا لا في جهة كان هذا مكابرة للعقل قيل لكم لا يخلو إما أن تحكموا في هذا الباب العقل وإما أن لا تحكموه فإن لم تحكموه بطل قولكم وإن حكمتموه فقول من أثبت موجودا قائما بنفسه يرى أقرب إلى العقل من قول من أثبت موجودا قائما بنفسه لا يرى ولا يمكن أن يرى وذلك لأن الرؤية لا يجوز أن يشترط في ثبوتها أمور عدمية بل لا يشترط في ثبوتها إلا أمور وجودية ونحن لا ندعى هنا أن كل موجود يرى كما ادعى ذلك من ادعاه فقامت عليه الشناعات فإن ابن كلاب ومن اتبعه من أتباع الأئمة |
2 | 331 | الأربعة وغيرهم قالوا كل قائم بنفسه يرى وهكذا قالت الكرامية وغيرهم فيما أظن وهذه الطريقة التي سلكها ابن الزاغوني من أصحاب أحمد وأما الأشعري فادعى أن كل موجود يجوز أن يرى ووافقه على ذلك طائفة من أصحاب الأئمة الأربعة كالقاضي أبي يعلى وغيره ثم طرد قياسه فقال كل موجود يجوز أن تتعلق به الإدراكات الخمس السمع والبصر والشم والذوق واللمس ووافقه على ذلك طائفة من أصحابه كالقاضي أبي بكر وأبي المعالي والرازي وكذلك القاضي أبو يعلى وغيرهم وخالفهم غيرهم فقالوا لا نثبت في ذلك الشم والذوق واللمس ونفوا جواز تعلق هذه بالبارئ والأولون جوزوا تعلق الخمس بالبارئ وآخرون من أهل الحديث وغيرهم أثبتوا ما جاء به السمع من اللمس دون الشم والذوق وكذلك المعتزلة منهم من أثبت جنس الإدراك كالبصريين ومنهم من نفاه كالبغداديين والمقصود هنا بأن المثبتة ولو أخطأوا في بعض كلامهم فهم أقرب إلى الحق نقلا وعقلا من نفاة الرؤية فنقول من الأشياء ما يرى ومنها ما لا يرى والفارق بينهما لا يجوز أن يكون أمورا عدمية لأن الرؤية أمر وجودي والمرئى لا يكون إلا موجودا فليست عدمية لا تتعلق بالمعدوم ولا يكون الشرط فيه |
2 | 332 | إلا أمرا وجوديا لا يكون عدميا وكل ما لا يشترط فيه إلا الوجود دون العدم كان بالوجود الأكمل أولى منه بالأنقص فكل ما كان وجوده أكمل كان أحق بأن يرى وكل ما لم يمكن أن يرى فهو أضعف وجودا مما يمكن أن يرى فالأجسام الغليظة أحق بالرؤية من الهواء والضياء أحق بالرؤية من الظلام لأن النور أولى بالوجود والظلمة أولى بالعدم والموجود الواجب الوجود أكمل الموجودات وجودا وأبعد الأشياء عن العدم فهو أحق بأن يرى وإنما لم نره لعجز أبصارنا عن رؤيته لا لأجل امتناع رؤيته كما أن شعاع الشمس أحق بأن يرى من جميع الأشياء ولهذا مثل النبي صلى الله عليه وسلم رؤية الله به فقال ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر شبه الرؤية بالرؤية وإن لم يكن المرئى مثل المرئى ومع هذا فإذا حدق البصر في الشعاع ضعف عن رؤيته لا لامتناع في ذات المرئى بل لعجز الرائى فإذا كان في |
2 | 333 | الدار الآخرة أكمل الله تعالى الآدميين وقواهم حتى أطاقوا رؤيته ولهذا لما تجلى الله عز وجل للجبل خر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين سورة الأعراف قيل أول المؤمنين بأنه لا يراك حي إلا مات ولا يابس إلا تدهده فهذا للعجز الموجود في المخلوق لا لامتناع في ذات المرئى بل كان المانع من ذاته لم يكن إلا لنقص وجوده حتى ينتهى الأمر إلى المعدوم الذي لا يتصور أن يرى خارج الرائي ولهذا كان البشر يعجزون عن رؤية الملك في صورته إلا من أيده الله كما أيد نبينا صلى الله عليه وسلم قال تعالى وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضى الأمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون سورة الأنعام قال غير واحد من السلف هم لا يطيقون أن يروا الملك في صورته فلو أنزلنا إليهم ملكا لجعلناه في صورة بشر وحينئذ كان يشتبه عليهم هل هو ملك أو بشر فما كانوا ينتفعون بإرسال الملك إليهم فأرسلنا إليهم بشرا من جنسهم يمكنهم رؤيته والتلقي عنه وكان هذا من تمام الإحسان إلى الخلق والرحمة ولهذا قال تعالى وما صاحبكم بمجنون سورة التكوير |
2 | 334 | ولا مماسة ولا يتميز منه جانب عن جانب كان هذا مكابرة فيقال لكم أنتم يانفاة الرؤية تقولون ومن وافقكم من المثبتين للرؤية إنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا مباين له ولا محايث له فإذا قيل لكم هذا خلاف المعلوم بضرورة العقل فإن العقل لا يثبت شيئين موجودين إلا أن يكون أحدهما مباينا للآخر أو داخلا فيه كما يثبت الأعيان المتباينة والأعراض القائمة بها وأما إثبات موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ولا يكون داخل العالم ولا خارجه فهذا مما يعلم العقل استحالته وبطلانه بالضرورة قلتم هذا النفى حكم الوهم لا حكم العقل وجعلتم في الفطرة حاكمين أحدهما الوهم والآخر العقل مع أن المعنى الذي سميتموه حاكمين أحدهما الوهم والآخر العقل مع أن المعنى الذي سميتموه الوهم قلتم هو القوة التي تدرك معاني جزئية غير محسوسة في الأعيان المحسوسة كالعداوة والصداقة كما تدرك الشاة معنى في الذئب ومعنى في الكبش فتميل إلى هذا وتنفر عن هذا وإذا كان الوهم إنما |
2 | 335 | وقال ما ضل صاحبكم وما غوى سورة النجم وقال لقد جاءكم رسول من أنفسكم سورة التوبة وقال وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم سورة إبراهيم ونحو ذلك من الآيات فإن قلتم هؤلاء يقولون إنه يرى لا في جهة وهذه مكابرة فيقال هذا قالوه بناء على الأصل الذي اتفقتم أنتم وهم عليه وهو أنه ليس في جهة ثم إذا كان الكلام مع الأشعري وأئمة أصحابه ومن وافقهم من أصحاب الحديث أصحاب أحمد وغيره كالتميميين وابن عقيل وغيرهم فيقال هؤلاء يقولون إنه فوق العالم بذاته وإنه ليس بجسم ولا متحيز فإن قلتم هذا القول مكابرة للعقل لأنه إذا كان فوق العالم فلا بد أن يتم منه جانب عن جانب وإذا تميز منه جانب عن جانب كان جسما فإذا أثبتوا موجودا قائما بنفسه فوق العرش لا يوصف بمحاذاة |
2 | 336 | يدرك أمورا معينة فهذه القضايا التي نتكلم فيها قضايا كلية عامة والقضايا الكلية العامة هي للعقل لا للحس ولا للوهم الذي يتبع الحس فإن الحس لا يدرك إلا أمورا معينة وكذلك الوهم عندكم وقد بسط الرد على هؤلاء في غير هذا الموضع لكن المقصود هنا بيان أن قول أولئك أقرب من قولهم فيقال إذا عرضنا على العقل وجود موجودا لا داخل العالم ولا خارجه ولا مباين له ولا محايث له ووجود موجود مباين للعالم فوقه وهو ليس بجسم كان تصديق العقل بالثاني أقوى من تصديقه بالأول وهذا موجود في فطرة كل أحد فقبول الثاني أقرب إلى الفطرة ونفورها عن الأول أعظم فإن وجب تصديقكم في ذلك القول الذي هو عن الفطرة أبعد كان تصديق هؤلاء في قولهم أولى وحينئذ فليس لكم أن تحتجوا على بطلان قولهم بحجة إلا وهي على بطلان قولكم أدل فإذا قلتم وجود موجود فوق العالم ليس بجسم لا يعقل قيل لكم كما أن وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه لا يعقل |
2 | 337 | فإذا قلتم نفى هذا من حكم الوهم قيل لكم إن كان هذا النفى من حكم الوهم وهو غير مقبول فذلك النفى من حكم الوهم وهو غير مقبول بطريق الأولى فإذا قلتم حكم الوهم الباطل أن يحكم في أمور غير محسوسة حكمه في أمور محسوسه قيل لكم أجوبة أحدها أن هذا يبطل حجتكم على بطلان قول هؤلاء لأن قولكم إنه يمتنع وجود موجود فوق العالم ليس بجسم ليس أقوى من قول القائل يمتنع وجود موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ويمتنع وجود موجودين لا متباينين ولا متحايثين ويمتنع وجود موجود ليس داخل العالم ولا خارجا عنه فإن كنتم لا تقبلون هذا الأقوى لزعمكم أنه من حكم الوهم الباطل لزمكم أن لا تقبلوا ذلك الذي هو أضعف منه بطريق الأولى فإن كليهما على قولكم من حكم الوهم الباطل وفساد قولكم أبين في الفطرة من فساد قول منازعيكم فإن كان قولهم مردودا |
2 | 338 | فقولكم أولى بالرد وإن كان قولكم مقبولا فقولهم أولى بالقبول الجواب الثاني أن يقال أنتم لم تثبتوا وجود أمور لا يمكن الإحساس بها ابتداء حتى يصح هذا الكلام بل إنما أثبتم ما ادعيتم أنه لا يمكن الإحساس به ابتداء بإبطال هذا الحكم الفطري الذي يحيل وجود ما لا يمكن الإحساس به بحال فإن كان هذا الحكم لا يبطل حتى يثبت الأمور التي ليست بمحسوسة لزم الدور فلا يبطل هذا الحكم حتى يثبت ما لا يمكن الإحساس به ولا يثبت ذلك حتى يبطل هذا الحكم فلا يثبت ذلك و يقال لكم إن جاز وجود أمور لا يمكن الإحساس بها فوجود ما يمكن الإحساس به أولى وإن لم يمكن بطل قولكم فمن أثبت موجودا فوق العالم ليس بجسم يمكن الإحساس به كان قوله |
2 | 339 | أقرب إلى العقل ممن أثبت موجودا لا يمكن الإحساس به وليس بداخل العالم ولا خارجه ففي الجملة أنه ما من حجة يحتجون بها على بطلان قول منازعيهم إلا ودلالتها على بطلان قولهم أشد ولكنهم يتناقضون والذين وافقوهم على بعض غلطهم صاروا يسلمون لهم تلك المقدمة الباطلة النافية وهو إثبات موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ولا يكون مباينا لغيره ولا محايثا له ولا داخل العالم ولا خارجه ويطلبون طردها وطردها يستلزم الباطل المحض فوجه المناظرة أن تلك المقدمة لا تسلم لكن يقال إن كانت باطلة بطل أصل قول النفاة وإن كانت صحيحة فهي أدل على إمكان قول أهل الإثبات فإن كان إثبات موجود ليس بجسم ولا هو داخل العالم ولا خارجه ممكنا فإثبات موجود فوق العالم وليس بجسم أولى بالإمكان وإن لم يكن ذلك ممكنا بطل أصل قول النفاة وثبت أن الله تعالى إما داخل العالم وإما خارجه فيكون قولهم بإثبات موجود |
2 | 340 | ليس بداخل العالم ولا خارجه أبعد عن الحق على التقديرين وهو المطلوب ثم يقال رؤية ما ليس بجسم ولا في جهة إما أن يجوزه العقل وإما أن يمنعه فإن جوزه فلا كلام وإن منعه كان منع العقل لإثبات موجود لا داخل العالم ولا خارجه بل هو حي بلا حياة عليم بلا علم قدير بلا قدرة أشد وأشد فإن قلتم هذا المنع من حكم الوهم قيل لكم والمنع من رؤية مرئى ليس في جهة من حكم الوهم وهذا هو الجواب الثالث وبيان ذلك أن يقال حكم الوهم الباطل عندكم أن يحكم في أمور غير محسوسة بما يحكم به في الأمور المحسوسة فيقال الباري تعالى إما أن تكون رؤيته ممكنة وأما أن لا تكون فإن كانت ممكنة بطل قولكم بإثبات موجود غير محسوس ولم يبق هنا وهم باطل يحكم في غير المحسوس بحكم باطل فإنكم لرؤية الباري أشد منعا من رؤية الملائكة والجن وغير ذلك فإذا |
2 | 341 | جوزتم رؤيته فرؤية الملائكة والجن أولى وإن قلتم بل رؤيته غير ممكنة قيل فهو حينئذ غير محسوس فلا يقبل فيه حكم الوهم والحكم بأن كل مرئى لا بد أن يكون في جهة من حكم الوهم وأما إذا قدرنا موجودا غير محسوس يرى لا في جهة رؤية غير الرؤية المتعلقة بذوات الجهة كان إبطال هذا مثل إبطال موجود لا داخل العالم ولا خارجه وإلا فإذا ثبت وجود هذا الموجود كانت الرؤية المتعلقة به مناسبة له ولم تكن كالرؤية المعهودة لللأجسام فهذه الطريق ونحوها من المناظرة العقلية إذا سلك يتبين به أن كل من كان إلى السنة أقرب كان قوله إلى العقل أقرب وهو يوجب نصر الأقربين إلى السنة بالعقل لكن لما كان بعض الأقربين إلى السنة سلموا للأبعدين عنها مقدمات بينهم وهي في نفس الأمر باطلة مخالفة للشرع والعقل لم يمكن أن يكون قولهم مطابقا للأمر في نفسه ولا يمكن نصره لا بشرع صحيح ولا بعقل صريح لمن غرضه معرفة الحق في نفسه لا بيان رجحان بعض الأقوال على بعض |
2 | 342 | وأما إذا كان المقصود بيان رجحان بعض الأقوال فهذا ممكن في نفسه وهذا هو الذي نسلكه في كثير مما عاب به الرافضة كثير من الطوائف المنتسبين إلى السنة في إثبات خلافة الخلفاء الثلاثة فإنهم عابوا كثيرا منهم بأقوال هي معيبة مذمومة والله قد أمرنا ألا نقول عليه إلا الحق وألا نقول عليه إلا بعلم وأمرنا بالعدل والقسط فلا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني فضلا عن الرافضي قولا فيه حق أن نتركه أو نرده كله بل لا نرد إلا ما فيه من الباطل دون ما فيه من الحق ولهذا جعل هذا الكتاب منهاج أهل السنة النبوية في نقض كلام الشيع والقدرية فإن كثيرا من المنتسبين إلى السنة ردوا ما تقوله المعتزلة والرافضة وغيرهم من أهل البدع بكلام فيه أيضا بدعة وباطل وهذه طريقة يستجيزها كثير من أهل الكلام ويرون أنه يجوز مقابلة الفاسد بالفاسد لكن أئمة السنة والسلف على خلاف هذا وهم يذمون أهل الكلام المبتدع الذين يردون باطلا بباطل وبدعة ببدعة ويأمرون ألا يقول الإنسان إلا الحق لا يخرج عن السنة في حال من الأحوال وهذا هو الصواب الذي أمر الله تعالى به ورسوله ولهذا لم نرد ما تقوله المعتزلة والرافضة من حق بل قبلناه لكن بينا أن ما عابوا به مخالفيهم من الأقوال ففي أقوالهم من العيب ما هو أشد من ذلك |
2 | 343 | فالمنتسبون إلى إثبات خلافة الأربعة وتفضيل الشيخين وإن كان بعضهم يقول أقوالا فاسدة فأقوال الرافضة أفسد منها وكذلك المناظر للفلاسفة والمعتزلة من المنتسبين إلى السنة كالأشعري وأمثاله وإن كانوا قد يقولون أقوالا باطلة ففي أقوال المعتزلة والفلاسفة من الباطل ما هو أعظم منها فالواجب إذا اكان الكلام بين طائفتين من هذه الطوائف أن يبين رجحان قول الفريق الذي هو أقرب إلى السنة بالعقل والنقل ولا ننصر القول الباطل المخالف للشرع والعقل أبدا فإن هذا محرم ومذموم يذم به صاحبه ويتولد عنه من الشر ما لا يوصف كما تولد من الأقوال المبتدعة مثل ذلك ولبسط هذه الأمور مكان آخر والله أعلم والمقصود هنا التنبيه على وجه المناظرة العادلة التي يتكلم فيها الإنسان بعلم وعدل لا بجهل وظلم وأما مناظرات الطوائف التي كل منها يخالف السنة ولو بقليل فأعظم ما يستفاد منها بيان إبطال بعضهم لمقالة بعض وأبو حامد الغزالي وغيره يعتقدون أن هذه الفائدة هي المقصودة بالكلام دون غيرها لكن يعتقد مع ذلك أن ما ذكره هو العقيدة التي تعبد الشارع الناس باعتقادها وأن لها باطنا يخالف ظاهرها في بعض الأمور وما ذكره من الإعتقاد يوافق الشرع من وجه دون وجه وما ثبت عن صاحب الشرع فلا يناقض باطنه ظاهره والمقصود هنا أن يكون المقصود بالمناظرة بيان رجحان بعض الأقوال على بعض |
2 | 344 | ولهذا كان كثير من مناظرة أهل الكلام إنما هي في بيان فساد مذهب المخالفين وبيان تناقضهم لأنه يكون كل من القولين باطلا فما يمكن أحدهم نصر قوله مطلقا فيبين فساد قول خصمه وهذا يحتاج إليه إذا كان صاحب المذهب حسن الظن بمذهبه قد بناه على مقدمات يعتقدها صحيحة فإذا أخذ الإنسان معه في تقرير نقيض تلك المقدمات لم يقبل ولا يبين الحق ويطول الخصام كما طال بين أهل الكلام فالوجه في ذلك أن يبين لذلك رجحان مذهب غيره عليه أو فساد مذهبه بتلك المقدمات وغيرها فإذا رأى تناقض قوله أو رجحان قول غيره على قوله اشتاق حينئذ إلى معرفة الصواب وبيان جهة الخطأ فيبين له فساد تلك المقدمات التي بنى عليها وصحة نقيضها ومن أي وجه وقع الغلط وهكذا في مناظرة الدهرى واليهودي والنصراني والرافضي |
2 | 345 | وغيرهم إذا سلك معهم هذا الطريق نفع في موارد النزاع فتبين لهم وما من طائفة إلا ومعها حق وباطل فإذا خوطبت بين لها أن الحق الذي ندعوكم إليه هو أولى بالقبول من الذي وافقناكم عليه ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم أولى بالقبول من نبوة موسى وعيسى عليهما السلام وخلافة أبي بكر وعمر أولى بالصحة من خلافة علي فما ذكر من طريق صحيح يثبت بها نبوة هذا وهذا إلا وهي تثبت بها نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى وما من طريق صحيح يثبت بها خلافة علي إلا وهي تثبت خلافة هذين بطريق الأولى ويبين لهم أن ما يدفعون به هذا الحق يمكن أن يدفع به الحق الذي معهم فما يقدح شيء في موارد النزاع إلا كان قدحا في موارد الإجماع وما من شيء يثبت به موارد الإجماع إلا وهو يثبت به موارد النزاع وما من سؤال يرد على نبوة محمد صلى |
2 | 346 | الله عليه وسلم وخلافة الشيخين إلا ويرد على نبوة غيره وخلافة غيرهما ما هو مثله أو أعظم منه وما من دليل يدل على نبوة غير محمد صلى الله عليه وسلم وخلافة غيرهما إلا والدليل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وخلافتهما أقوى منه وأما الباطل الذي بأيدي المنازعين فتبين أنه يمكن معارضته بباطل مثله وأن الطريق الذي يبطل به ذلك الباطل يبطل به باطلهم فمن ادعى الإلهية في المسيح أو علي أو غيرهما عورض بدعوى الإلهية في موسى وآدم وعمر بن الخطاب فلا يذكر شبهة يظن بها الإلهية إلا ويذكر في الآخر نظيرها وأعظم منها فإذا تبين له فساد أحد المثلين تبين له فساد الآخر فالحق يظهر صحته بالمثل المضروب له والباطل يظهر فساده بالمثل المضروب له لأن الإنسان قد لا يعلم ما في نفس محبوبه أو مكروهه من حمد وذم إلا بمثل يضرب له فإن حبك الشيء يعمى ويصم والله سبحانه ضرب الأمثال للناس في كتابه لما في ذلك من البيان والإنسان لا يرى نفسه وأعماله إلا إذا مثلت له نفسه بأن يراها في مرآة |
2 | 347 | وتمثل له أعماله بأعمال غيره ولهذا ضرب الملكان المثل لداود عليه السلام بقول أحدهما إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه سورة ص الآية وضرب الأمثال مما يظهر به الحال وهو القياس العقلي الذي يهدي به الله من يشاء من عباده قال تعالى ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون سورة الروم وقال تعالى وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون سورة العنكبوت وهذا من الميزان الذي أنزله الله كما قال تعالى الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان سورة الشورى وقال لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط سورة الحديد وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبين أن كل قياس عقلي شمولي سواء كان على طريقة المنطق اليوناني أو غير طريقه فإنه من جنس القياس التمثيلي وأن مقصود القياسين واحد وكلاهما داخل في معنى الميزان الذي أنزله الله تعالى وأن ما يختص به أهل المنطق اليوناني بعضه باطل وبعضه تطويل لا يحتاج إليه بل ضررة في الغالب أكثر من نفعه كما قد بسط الكلام على المنطق اليوناني |
2 | 348 | وما يختص به أهل الفلسفة من الأقوال الباطلة في مجلد كبير وأما الطريق الثاني فيقال لهذا المنكر للرؤية المستدل على نفيها بانتفاء لازمها وهو الجهة قولك ليس في جهة وكل ما ليس في جهة لا يرى فهو لا يرى وهكذا جميع نفاة الحق ينفونه لانتفاء لازمه في ظنهم فيقولون لو رئى للزم كذا واللازم منتف فينتفى الملزوم والجواب العام لمثل هذه الحجج الفاسدة بمنع إحدى المقدمتين إما معينة وإما غير معينة فإنه لا بد أن تكون إحداهما باطلة أو كلتاهما باطلة وكثيرا ما يكون اللفظ فيهما مجملا يصح باعتبار ويفسد باعتبار وقد جعلوا الدليل هو ذلك اللفظ المجمل ويسميه المنطقيون الحد الأوسط فيصح في مقدمة بمعنى ويصح في الأخرى بمعنى آخر ولكن اللفظ مجمل فيظن الظان لما في اللفظ من الإجمال وفي المعنى من الاشتباه أن المعنى المذكور في هذه المقدمة هو المعنى المذكور في المقدمة الأخرى ولا يكون الأمر كذلك مثال ذلك في مسألة الرؤية أن يقال له أتريد بالجهة أمرا وجوديا أو أمرا عدميا |
2 | 349 | فإذا أردت به أمرا وجوديا كان التقدير كل ما ليس في شيء موجود لا يرى وهذه المقدمة ممنوعة ولا دليل على أثباتها بل هي باطلة فإن سطح العالم يمكن أن يرى وليس العالم في عالم آخر وإن أردت الجهة أمرا عدميا كانت المقدمة الثانية ممنوعة فلا نسلم أنه ليس بجهة بهذا التفسير وهذا مما خاطبت به غير واحد من الشيعة والمعتزلة فنفعه الله به وانكشف بسبب هذا التفصيل ما وقع في هذا المقام من الإشتباه والتعطيل وكانوا يعتقدون أن ما معهم من العقليات النافية للرؤية قطعية لا يقبل في نقيضها نص الرسل فلما تبين لهم أنها شبهات مبنية على ألفاظ مجملة ومعان مشتبهة تبين أن الذي ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق المقبول ولكن ليس هذا المكان موضع بسط هذا فإن هذا النافي إنما أشار إلى قولهم إشارة |
2 | 350 | وكذلك لفظ الحيز قد يراد به معنى موجود ومعنى معدوم فإذا قالوا كل جسم في حيز فقد يكون المراد بالحيز أمرا عدميا وقد يراد به أمر وجودي والحيز في اللغة هو أمر وجودي ينحاز إليه الشيء كما قال تعالى ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة سورة الأنفال وعلى الأول فإنه يراد بالمتحيز ما يشار إليه ولهذا كان المتكلمون يقولون نحن نعلم بالإضطرار أن المخلوق إما متحيز وإما قائم بالمتحيز فكثير منهم يقول بل نعلم أن كل موجود إما متحيز وإما قائم بالمتحيز ويثبتون ما يذكره بعض الفلاسفة من إثبات المجردات المفارقات التي لا يشار إليها بل هي معقولات مجردة إنما تثبت في الأذهان لا في الأعيان وما يذكره الشهرستاني والرازي ونحوهما من أن متكلمي الإسلام لم يقيموا دليلا على نفي هذه المجردات ليس كما زعموا بل كتبهم مشحونة بما يبين انتفاءها كما ذكر في غير هذا الموضع والرازي أورد في محصله سؤالا على الحيز فقال أما الأكوان |
2 | 351 | فقد اتفقوا على أن حصول الجوهر في حصول الحيز أمر ثبوتي فقيل هذا الحيز إن كان معدوما فكيف يعقل حصول الجوهر في المعدوم وإن كان موجودا فلا شك أنه أمر يشار إليه فهو إما جوهر وإما عرض فإن كان جوهرا كان الجوهر حاصلا في الجوهر وهو قول بالتداخل وهو محال اللهم إلا أن يفسر ذلك بالمماسة ولا نزاع فهيا وإن كان عرضا فهو حاصل في الجوهر فكيف يعقل حصول الجوهر فيه وقد رد الطوسى هذا فقال هذا غلط من جهة اشتراك اللفظ فإن لفظة في يدل في قولنا الجسم في الجسم بمعنى التداخل والجسم في المكان والعرض في الجسم على معان مختلفة فإن الأول يدل على كون الجسم مع جسم آخر في مكان واحد والثاني يدل على كون الجسم في المكان والثالث يدل على كون العرض حالا في الجسم والمكان هو القابل للأبعاد القائم بذاته الذي لا يمانع الأجسام عند قوم وعرض هو سطح الجسم الحاوي المحيط بالجسم ذي المكان عند قوم وهو بديهي الأينية خفي الحقيقة |
2 | 352 | والمكان إن كان عدميا لم يكن حصول الجوهر في الأمر العدمي حصوله في المعدوم بمعنى أنه في العدم وإن كان جوهرا فالجوهر عند القوم الأول ينقسم إلى مقاوم للداخل عليه ممانع إياه وهو الذي لا يجوز عليه التداخل وإلى غير مقاوم يمتنع عليه الإنتقال وهو المكان والجوهر الممانع يمكن أن يداخل غير الممانع وذلك هو كون الجوهر في المكان وأما عند القوم الثاني فحصول الجوهر في المكان الذي هو عرض بمعنى غير المعنى الذي يراد به في قولهم حصول العرض في الجوهر بمعنى الحلول فيه قلت قد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبين أن ما ذكره الرازي من قوله قد اتفقوا على أن حصول الجوهر في الحيز أمر ثبوتي ليس كما قاله بل يقال إن أراد بقوله إن حصول الجوهر في الحيز أمر ثبوتي أنه صفة ثبوتية تقوم بالمحيز فلم يتفقوا على هذا بل ولا هذا قول محققيهم بل التحيز عندهم لا يزيد على ذات المتحيز قال القاضي أبو بكر بن الباقلاني المتحيز هو الجرم أو الذي له حظ من المساحة والذي لا يوجد بحيث وجوده جوهر |
2 | 353 | وقال أبو إسحاق الإسفراييني ما هو في تقدير مكان ما وما يشغل الحيز ومعنى شغل الحيز أنه إذا وجد في فراغ أخرجه عن أن يكون فراغا وقال بعضهم الحيز تقدير مكان الجوهر وقال أبو المعالي الجويني الملقب بإمام الحرمين الحيز هو المتحيز نفسه ثم إضافة الحيز إلى الجوهر كإضافة الوجود إليه قال فإن قيل فهلا قلتم إن المتحيز متحيز بمعنى كما أن الكائن كائن بمعنى قلنا تحيزه نفسه أو صفة نفسه عند من يقول بالأحوال وكونه متحيزا راجع إلى نفسه وكذلك كونه جرما وذلك لا يختلف وإن اختلفت أكوانه بأعراضه ولو كان تحيزه حكما معللا لوجب أن يثبت له حكم الإختلاف عند اختلاف الأكوان فلما لم يختلف كونه جرما دل على أنه ليس من موجبات الأكوان والإختصاص بالجهات فما كان بمقتضى الأكوان كان في حكم الإختلاف |
2 | 354 | قال فإن قيل الجوهر لا يخلو عن الأكوان كما لا يخلو عن وصف التحيز قلنا قد أوضحنا أن تحيزه صفة نفسه فنقول صفة النفس تلازم للنفس ولا تعقل النفس دونها وكون الجوهر متحيزا بمثابة كونه ذاتا أو شيئا والتحيز قضية واحدة يجب لزومها ما بقيت النفس والكون اسم يقع على أجناس مختلفة يم بسط الكلام في ذلك وهذا يبين أن التحيز عندهم ليس قدرا زائدا على المتحيز فضلا عن كونه وصفا ثبوتيا وإن أراد بكونه ثبوتيا أنه أمر إضافي إلى الحيز فالأمور الإضافية عند أكثرهم عدمية إذا كانت بين موجودين فكيف إذا كانت بين موجود ومعدوم وقوله إن الحيز إذا كان معدوما فكيف يعقل حصول الجوهر في المعدوم فيقال له إنهم لم يريدوا بكونه في المعدوم إلا وجوده وحده من غير وجود آخر يحيط به لم يريدوا أنه يكون معدوما مع كونه موجودا وأيضا فمن لم يعرف مرادهم هل الحيز عندهم وجود أو عدم كيف يحكى عنهم أنهم اتفقوا على أن كل ما سوى الله متحيز أو قائم بالمتحيز مع علمه وحكايته عنهم أنهم اتفقوا على أن كل ما سوى الله محدث فيمتنع مع هذا أن يكون ما سواه إما متحيزا أو حالا في المتحيز مع أن المتحيز هذا في حيز وجودي سوى الله وهو محدث فإن هذا تناقض ظاهر لأنه يستلزم أن يكون هنا ثلاثة موجودة محدثة |
2 | 355 | متحيز وحيز وقائم بالمتحيز فتكون الموجودات سوى الله ثلاثة وهي محدثة عندهم وهذا يناقض قولهم إن ما سوى الله إما متحيز وإما قائم بمتحيز وأما اعتراض الطوسى عليه فإنه مبنى على أن التحيز هو المكان وليس هذا هو المشهور عند المتكلمين بل المشهور عندهم الفرق بينهما وما ذكره من القولين في المكان هو نزاع بين المتفلسفة أصحاب أفلاطن وأصحاب أرسطو فأولئك يقولون هو جوهر قائم بنفسه تحل به الأجسام وليس هذا قول كثير من المتكلمين بل كل ما قام بنفسه فهو عندهم جسم إذ الجوهر الذي له هو جسم ليس عندهم جوهر قائم بنفسه غير هذين ومن أثبت منهم جوهرا غير جسم فإنه محدث عندهم لأن كل ما سوى الله فإنه محدث مسبوق بالعدم باتفاق أهل الملل سواء قالوا بدوام الفاعلية وأنه لا يزال يحدث شيئا بعد شيء أو لم يقولوا بدوام الفاعلية والمتكلمون الذين يقولون كل ما سوى الله فهو جسم أو قائم بجسم قد يتناقضون حيث يثبت أكثرهم الخلاء أمرا موجودا ويقولون إنه لا يتقدر بل يفرض فيه التقدير فرضا وهذا الخلاء هو الجوهر الذي يثبته أفلاطن ولكن يمتنع عند أهل الملل أن يكون موجود قديم مع الله فإن الله خالق كل شيء وكل مخلوق مسبوق بعدم نفسه وإن قيل مع ذلك بدوام كونه خالقا فخلقه شيئا بعد شيء دائما لا ينافى أن يكون كل ما |
2 | 356 | سواه مخلوقا محدثا كائنا بعد أن لم يكن ليس من الممكنات قديم بقدم الله تعالى مساويا له بل هذا ممتنع بصرائح العقول مخالف لما أخبرت به الرسل عن الله كما قد بسط في موضعه وأرسطو وأصحابه يقولون إن المكان هو السطح الباطن من الجسم الحاوي الملاقى للسطح الظاهر من الجسم المحوى وهو عرض عند هؤلاء وقوله إنه بديهي الأينية خفى الحقيقة أي عند هؤلاء وأما علماء المسلمين فليس عندهم ولله الحمد من ذلك ما هو خفي بل لفظ المكان قد يراد به ما يكون الشيء فوقه محتاجا إليه كما يكون الإنسان فوق السطح ويراد به ما يكون الشيء فوقه من غير احتياج إليه مثل كون السماء فوق الجو وكون الملائكة فوق الأرض والهواء وكون الطير فوق الأرض ومن هذا قول حسان بن ثابت رضي الله عنه تعالى علوا فوق عرش إلهنا وكان مكان الله أعلى وأعظما مع علم حسان وغيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله غنى عن كل ما سواه وما سواه من عرش وغيره محتاج إليه وهو لا يحتاج إلى شيء وقد أثبت له مكانا والسلف والصحابة بل النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمع مثل |
2 | 357 | هذا ويقر عليه كما أنشده عبدالله بن رواحة رضي الله عنه شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمينا وتحمله ملائكة شداد ملائكة الإله مسومينا في قصته المشهورة التي ذكرها غير واحد من العلماء لما وطئ سريته ورأته امرأته فقامت إليه لتؤذيه فلم يقر بما فعل فقالت ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقرأ الجنب القرآن فأنشد هذه الأبيات فظنت أنه قرآن فسكتت وأخبر صلى الله عليه وسلم فاستحسنه وقد يراد بالمكان ما يكون محيطا بالشيء من جميع جوانبه فأما أن يراد بالمكان مجرد السطح الباطن أو يراد به جوهر لا يحس بحال فهذا قول هؤلاء المتفلسفة ولا أعلم أحدا من الصحابة والتابعين وغيرهم من ائمة المسلمين يريد ذلك بلفظ المكان وذلك المعنى الذي أراده أرسطو بلفظ المكان عرض ثابت لكن ليس هذا هو المراد بلفظ المكان في كلام علماء المسلمين وعامتهم ولا في كلام جماهير الأمم علمائهم وعامتهم وأما ما أراده أفلاطن فجمهور العقلاء ينكرون وجوده في الخارج وبسط هذه الأمور له موضع آخر وكذلك القول في تداخل الأجسام فيه نزاع معروف بين النظار وقول الرازي في التداخل ذلك محال هو موضع منع مشهور ولكن لم يقل أحد من النظار إن الجوهر في الحيز بمعنى التداخل سواء فسر الحيز |
2 | 358 | بالأمر العدمي كما هو المعروف عند أئمة الكلام أو فسر بالمكان الوجودي الذي هو سطح الحاوي أو جوهر عقلي كما يقوله من يقوله من المتفلسفة أو فسر الحيز بالمعنى اللغوي المعقول في مثل قوله أو متحيزا إلى فئة سورة الأنفال وهذا الحيز هو جسم يحوز المتحيز ليس هو عدميا ولا عرضا ولا يجوز الجوهر العقلي المتنازع في وجوده والمقصود أنه أي معنى أريد بلفظ الحيز فقول النظار إن الجوهر في الحيز ليس بمعنى التداخل المتنازع فيه وفي وجوده فلهذا لم يحتج إلى ذكر الكلام في مسألة التداخل في هذا المقام فصل وأما قوله وأن أمره ونهيه وإخباره حادث لاستحالة أمر المعدوم ونهيه وإخباره فيقال هذه مسألة كلام الله تعالى والناس فيها مضطربون وقد بلغوا فيها إلى تسعة أقوال وعامة الكتب المصنفة في الكلام وأصول |
2 | 359 | الدين لم يذكر أصحابها إلا بعض هذه الأقوال إذ لم يعرفوا غير ما ذكروه فمنهم من يذكر قولين ومنهم من يذكر ثلاثة ومنهم من يذكر أربعة ومنهم من يذكر خمسة وأكثرهم لا يعرفون قول السلف أحدها قول من يقول إن كلام الله ما يفيض على النفوس من المعاني التي تفيض إما من العقل الفعال عند بعضهم وإما من غيره وهذا قول الصابئة والمتفلسفة الموافقين لهم كابن سينا وأمثاله ومن دخل مع هؤلاء من متصوفة الفلاسفة ومتكلميهم كأصحاب وحدة الوجود وفي كلام صاحب الكتب المضنون بها على غير أهلها بل المضنون الكبير والمضنون الصغير ورسالة مشكاة الأنوار وأمثاله ما قد يشار به إلى هذا وهو في غير ذلك من كتبه يقول ضد هذا لكن كلامه يوافق هؤلاء تارة وتارة يخالفه وآخر أمره استقر على مخالفتهم ومطالعة الأحاديث النبوية وثانيها قول من يقول إنه مخلوق خلقه الله منفصلا عنه وهذا |
2 | 360 | قول هذا الإمامي وأمثاله من الرافضة المتأخرين والزيدية والمعتزلة والجهمية وثالثها قول من يقول إنه معنى واحد قديم قائم بذات الله هو الأمر والنهى والخبر والإستخبار إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة وهذا قول ابن كلاب ومن وافقه كالأشعري وغيره ورابعها قول من يقول إنه حروف وأصوات أزلية مجتمعة في الأزل وهذا قول طائفة من أهل الكلام وأهل الحديث ذكره الأشعري في المقالات عن طائفة وهو الذي يذكر عن السالمية ونحوهم وهؤلاء قال طائفة منهم إن تلك الأصوات القديمة هي الصوت |
2 | 361 | المسموع من القارئ أو هي بعض الصوت المسموع من القارئ وأما جمهورهم مع جمهور العقلاء فأنكروا ذلك قالوا هذا مخالف لضرورة العقل وخامسها قول من يقول إنه حروف وأصوات لكن تكلم به بعد أن لم يكن متكلما وكلامه حادث في ذاته كما أن فعله حادث في ذاته بعد أن لم يكن متكلما ولا فاعلا وهذا قول الكرامية وغيرهم وهو قول هشام بن الحكم وأمثاله من الشيعة وهؤلاء منهم من يقول هو حادث وليس بمحدث ومنهم من يقول بل هو محدث أيضا وقد ذكر القولين الأشعري عنهم في المقالات وذكر الخلاف بين أبي معاذ التومني وبين زهير الأثرى والكرامية يقولون حادث لا محدث |
2 | 362 | وسادسها قول من يقول إنه لم يزل متكلما إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء بكلام يقوم به وهو يتكلم به بصوت يسمع وأن نوع الكلام أزلي قديم وإن لم يجعل نفس الصوت المعين قديما وهذا هو المأثور عن أئمة الحديث والسنة وسابعها قول من يقول كلامه يرجع إلى ما يحدث من علمه وإرادته القائم بذاته ثم من هؤلاء من يقول لم يزل ذاك حادثا في ذاته كما يقوله أبو البركات صاحب المعتبر وغيره ومنهم من لا يقول بذلك وأبو عبدالله الرازي يقول بهذا القول في مثل المطالب العالية وثامنها قول من يقول كلامه يتضمن معنى قائما بذاته وهو ماخلقه في غيره ثم من هؤلاء من يقول في ذلك المعنى بقول ابن كلاب وهذا قول أبي منصور الماتريدي ومنهم من يقول بقول المتفلسفة وهذا قول طائفة من الملاحدة الباطنية مت شيعهم ومتصوفهم |
2 | 363 | وتاسعها قول من يقول كلام الله مشترك بين المعنى القديم القائم بالذات وبين ما يخلقه في غيره من الأصوات وهذا قول أبي المعالي ومن اتبعه من متأخري الأشعرية وبالجملة أهل السنة والجماعة أهل الحديث ومن انتسب إلى السنة والجماعة من أهل التفسير والحديث والفقه والتصوف كالأئمة الأربعة وأئمة أتباعهم والطوائف المنتسبين إلى الجماعة كالكلابية والكرامية والأشعرية والسالمية يقولون إن كلام الله غير مخلوق والقرآن كلام الله غير مخلوق وهذا هو المتواتر المستفيض عن السلف والأئمة من أهل البيت وغيرهم والنقول بذلك متواترة مستفيضة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وتابعي تابعيهم وفي ذلك مصنفات متعددة لأهل الحديث والسنة يذكرون فيها مقالات السلف بالأسانيد الثابتة عنهم وهي معروفة عند أهلها وذلك مثل كتاب الرد على الجهمية لمحمد بن عبدالله |
2 | 364 | الجعفى ولعثمان بن سعيد الدارمي وكذلك نقض عثمان بن سعيد على بشر المريسى والرد على الجهمية لعبد الرحمن بن أبي حاتم وكتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد رضي الله عنه ولأبي بكر الأثرم وللخلال وكتاب خلق |
2 | 365 | أفعال العباد للبخاري وكتاب التوحيد لأبي بكر بن خزيمة وكتاب السنة لأبي القاسم الطبراني ولأبي الشيخ الأصبهاني ولأبي عبدالله بن منده والأسماء والصفات لأبي بكر البيهقي |
2 | 366 | والسنة لأبي ذر الهروى والإبانة لابن بطة وقبله الشريعة لأبي بكر الآجري وشرح أصول السنة لأبي القاسم اللالكائي والسنة لأبي حفص بن شاهين وأصول السنة لأبي عمر |
2 | 367 | الطلمنكي وأمثال هذا الكتب ومصنفوها من مذاهب متبوعة مالكي وشافعي وحنبلي ومحدث مطلق لا ينتسب إلى مذهب أحد ولكن بعد ذلك تنازع المتأخرون على الأقوال السبعة المتأخرة وأما القولان الأولان فالأول قول الفلاسفة الدهرية القائلين بقدم العالم والصابئة المتفلسفة ونحوهم والثاني قول الجهمية من المعتزلة ومن وافقهم من النجارية والضرارية وأما الشيعة فمتنازعون في هذه المسألة وقد حكينا النزاع عنهم فيما تقدم وقدماؤهم كانوا يقولون القرآن غير مخلوق كما يقوله أهل السنة والحديث وهذا القول هو المعروف عن أهل البيت كعلي |
2 | 368 | بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره مثل أبي جعفر الباقر وجعفر ابن محمد الصادق وغيرهم ولهذا كانت الإمامية لا تقول إنه مخلوق لما بلغهم نفى ذلك عن أئمة أهل البيت وقالوا إنه محدث مجعول ومرادهم بذلك أنه مخلوق وظنوا أن أهل البيت نفوا أنه غير مخلوق أي مكذوب مفترى ولا ريب أن هذا المعنى منتف باتفاق المسلمين من قال إنه مخلوق ومن قال إنه غير مخلوق والنزاع بين أهل القبلة إنما كان في كونه مخلوقا خلقه الله أو هو كلامه الذي تكلم به وقام بذاته وأهل البيت إنما سئلوا عن هذا وإلا فكونه مكذوبا مفترى مما لا ينازع مسلم في بطلانه ولكن الإمامية تخالف أهل البيت في عامة أصولهم فليس في أئمة أهل البيت مثل علي بن الحسين وأبي جعفر الباقر وابنه جعفر بن محمد الصادق من كان ينكر الرؤية أو يقول بخلق القرآن أو ينكر القدر أو يقول بالنص على علي أو بعصمة الأئمة الاثنى عشر أو يسب أبا بكر وعمر |
2 | 369 | والمنقولات الثابتة المتواترة عن هؤلاء معروفة موجودة وكانت مما يعتمد عليه أهل السنة وشيوخ الرافضة معترفون بأن هذا الإعتقاد في التوحيد والصفات والقدر لم يتلقوه لا عن كتاب ولا سنة ولا عن أئمة أهل البيت وإنما يزعمون أن العقل دلهم عليه كما يقول ذلك المعتزلة وهم في الحقيقة إنما تلقوه عن المعتزلة وهم شيوخهم في التوحيد والعدل وإنما يزعمون أنهم تلقوا عن الأئمة الشرائع وقولهم في الشرائع غالبه موافق لمذهب أهل السنة أو بعض أهل السنة ولهم مفردات شنيعة لم يوافقهم عليها أحد ولهم مفردات عن المذاهب الأربعة قد قال بها غير الأربعة من السلف وأهل الظاهر وفقهاء المعتزلة وغير هؤلاء فهذه ونحوها من مسائل الإجتهاد التي يهون الأمر فيها بخلاف الشاذ الذي يعرف أنه لا أصل له في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا سبقهم إليه أحد ولم يقل أحد من علماء المسلمين إن الحق منحصر في أربعة من علماء المسلمين كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد كما يشنع |
2 | 370 | بذلك الشيعة على أهل السنة فيقولون إنهم يدعون أن الحق منحصر فيهم بل أهل السنة متفقون على أن ما تنازع فيه المسلمون وجب رده إلى الله والرسول وأنه قد يكون قول ما يخالف قول الأربعة ما أقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان وقول هؤلاء الأربعة مثل الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وإسحاق بن راهويه وغيرهم أصح من قولهم فالشيعة إذا وافقت بعض هذه الأقوال الراجحة كان قولها في تلك المسألة راجحا ليست لهم مسألة واحدة فارقوا بها جميع أهل السنة المثبتين لخلافة الثلاثة إلا وقولهم فيها فاسد وهكذا المعتزلة وسائر الطوائف كالأشعرية والكرامية والسالمية ليس لهم قول انفردوا به عن جميع طوائف الأمة إلا وهو قول فاسد والقول الحق يكون مأثورا عن السلف وقد سبق هؤلاء الطوائف إليه وإذا عرفت المذاهب فيقال لهذا قولك إن أمره ونهيه وإخباره حادث لاستحالة أمر المعدوم ونهيه وإخباره أتريد به أنه حادث في ذاته أم حادث منفصل عنه |
2 | 371 | والأول قول أئمة الشيعة المتقدمين والجهمية والمرجئة والكرامية مع كثير من أهل الحديث وغيرهم ثم إذا قيل حادث أهو حادث النوع فيكون الرب قد صار متكلما بعد أن لم يكن متكلما أم حادث الأفراد وأنه لم يزل متكلما إذا شاء والكلام الذي كلم به موسى مثلا هو حادث وإن كان نوع كلامه قديما لم يزل فهذه ثلاثة أنواع تحت قولك وقد علم أنك إنما أردت النوع الأول وهو قول متأخري الشيعة الذين جمعوا بين التشيع والإعتزال فقالوا إنه مخلوق خلقه الله منفصلا عنه والإمامية وإن قالوا هو محدث وامتنعوا أن يقولوا هو مخلوق فمرادهم بالمحدث هو مراد هؤلاء بالمخلوق وإنما النزاع بينهم لفظي فيقال لك إذا كان الله قد خلقه وأحدثه منفصلا عنه لم يكن كلامه فإن الكلام والقدرة والعلم وسائر الصفات إنما يتصف بها من |
2 | 372 | قامت به لا من خلقها في غيره وأحدثها ولهذا إذا خلق الله حركة وعلما وقدرة في محل كان ذلك المحل هو المتحرك العالم القادر بتلك الصفات ولم تكن تلك صفات لله بل مخلوقات له ولو كان متصفا بمخلوقاته المنفصلة عنه لكان إذا انطلق الجامدات كما قال يا جبال أوبى معه والطير سورة سبأ وكما قال يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون سورة النور وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء سورة فصلت وكما قال اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون سورة يس ومثل تسليم الحجر على النبي صلى الله عليه وسلم وتسبيح الحصى بيده وتسبيح الطعام وهم يأكلونه فإذا كان كلام الله لا يكون إلا ما خلقه في غيره وجب أن يكون هذا كله كلام الله فإنه خلقه في غيره وإذا تكلمت الأيدى فينبغي أن يكون ذاك كلام الله كما يقولون إنه خلق كلاما في الشجرة كلم به موسى بن بن عمران وأيضا فإذا كان الدليل قد قام على أن الله تعالى خالق أفعال العباد وأقوالهم وهو المنطق لكل ناطق وجب أن يكون كل كلام في الوجود كلامه وهذا قالته الحلولية من الجهمية كصاحب الفصوص ابن عربي قال |
2 | 373 | وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه وحينئذ فيكون قول فرعون أنا ربكم الأعلى سورة النازعات كلام الله كما أن الكلام المخلوق في الشجرة إنني أنا الله لا إله إلا أنا سورة طه يقولون إنه مخلوق في الشجرة أو غيرها وهو كلام الله وأيضا فالرسل الذين خاطبوا الناس وأخبروهم أن الله قال ونادى وناجى ويقول لم يفهموهم أن هذه مخلوقات منفصلة عنه بل الذي أفهموهم إياه أن الله نفسه هو الذي تكلم والكلام قائم به لا بغيره ولهذا عاب الله من يعبد إلها لا يتكلم فقال أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا سورة طه وقال ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا سورة الأعراف ولا يحمد شيء بأنه يتكلم ويذم بأنه لا يتكلم إلا إذا كان الكلام قائما به وبالجملة لا يعرف في لغة ولا عقل قائل متكلم إلا من يقوم به القول والكلام لا يعقل في لغة أحد لا لغة الرسل ولا غيرهم ولا في عقل أحد أن المتكلم يكون متكلما بكلام لم يقم به قط بل هو بائن عنه أحدثه في غيره كما لا يعقل أنه متحرك بحركة خلقها في غيره ولا يعقل أنه |
2 | 374 | متلون بلون خلقه في غيره ولا متروح برائحة خلقها في غيره وطرد ذلك أنه لايعقل أنه مريد بإرادة أحدثها في غيره ولا محب وراض وغضبان وساخط برضى ومحبة وغضب وسخط خلقه في غيره وهؤلاء النفاة يصفونه بما لا يقوم به تارة بما يخلقه في غيره كالكلام والإرادة وتارة بما لا يقوم به ولا بغيره كالعلم والقدرة وهذا أيضا غير معقول فلا يعقل حي إلا من تقوم به الحياة ولا عالم إلا من يقوم به العلم كما لا يعقل باتفاق العقلاء متحرك إلا من تقوم به الحركة وطرد هذا أنه لا يعقل فاعل إلا من يقوم به الفعل وقد سلم الأشعرية ومن وافقهم كابن عقيل وغيره فاعلا لا يقوم به الفعل كعادل لا يقوم به العدل وخالق ورازق لا يقوم به الخلق والرزق وهذا مما احتجت به عليهم المعتزلة فقالوا كما جاز أن يكون عادلا خالقا رازقا بعدل وخلق ورزق لا يقوم به فكذلك عالم وقادر ومتكلم والسلف رضي الله عنهم وجمهور أهل السنة يطردون أصلهم ولهذا احتج الإمام أحمد رضي الله عنه وغيره على أن كلام الله غير مخلوق بقول النبي صلى الله عليه وسلم أعوذ بكلمات الله تعالى التامات التي |
2 | 375 | لا يجاوزهن بر ولا فاجر قالوا لا يستعاذ بمخلوق وكذلك ثبت عنه أنه قال اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك وقالوا لا يستعاذ بمخلوق وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم بالرضا والمعافاة فكان ذلك عند أئمة السنة مما يقوم بالرب تعالى كما تقوم به كلماته ليس من المخلوقات التي لا تكون إلا بائنة عنه |
2 | 376 | فمن قال إن المتكلم هو الذي يكون كلامه منفضلا عنه والمريد والمحب والمبغض والراضي والساخط ما تكون إرادته ومحبته وبغضه ورضاه وسخطه بائنا عنه لا يقوم به بحال من الأحوال قال ما لا يعقل ولم يفهم الرسل للناس هذا بل كل من سمع ما بلغته الرسل عن الله يعلم بالضرورة أن الرسل لم ترد بكلام الله ما هو منفضل عن الله وكذلك لم ترد بإرادته ومحبته ورضاه ونحو ذلك ما هو منفضل عنه بل ما هو متصف به قالت الجهمية والمعتزلة المتكلم من فعل الكلام والله تعالى لما أحدث الكلام في غيره صار متكلما فيقال لهم للمتأخرين المختلفين هنا ثلاثة أقوال قيل المتكلم من فعل الكلام ولو كان منفصلا وهذا إنما قاله هؤلاء وقيل المتكلم من قام به الكلام ولو لم يكن بفعله ولا هو بمشيئته ولا قدرته وهذا قول الكلابية والسالمية ومن وافقهم |
2 | 377 | وقيل المتكلم من تكلم بفعله ومشيئته وقدرته وقام به الكلام وهذا قول أكثر أهل الحديث وطوائف من الشيعة والمرجئة والكرامية وغيرهم فأولئك يقولون هو صفة فعل منفصل عن الموصوف لا صفة ذات والصنف الثاني يقولون صفة ذات لازمة للموصوف لا تتعلق بمشيئته ولا قدرته والآخرون يقولون هو صفة ذات وصفة فعل وهو قائم به متعلق بمشيئته وقدرته وإذا كان كذلك فقولهم إنه صفة فعل ينازعهم فيه طائفة وإذا لم ينازعوا في هذا فيقال هب أنه صفة فعل منفصلة عن القائل الفاعل أو قائمة به أما الأول فهو قولكم الفاسد وكيف تكون الصفة غيره قائمة بالموصوف أو القول غير قائم بالقائل وقول القائل الصفات تنقسم إلى صفة ذات وصفة فعل ويفسر صفة الفعل بما هو بائن عن الرب كلام متناقض كيف يكون صفة للرب وهو لا يقوم به بحال بل هو مخلوق بائن عنه وهذا وإن كانت الأشعرية قالته تبعا للمعتزلة فهو خطاء في نفسه فإن إثبات صفات الرب وهي مع ذلك مباينة له جمع لين المتناقضين |
2 | 378 | المتضادين بل حقيقة قول هؤلاء إن الفعل لا يوصف به الرب فإن الفعل هو المخلوق والمخلوق لا يوصف به الخالق ولو كان الفعل الذي هو المفعول صفة له لكانت جميع المخلوقات صفات للرب وهذا لا يقوله عاقل فضلا عن مسلم فإن قلتم هذا بناء على أن فعل الله لا يقوم به لأنه لو قام به لقامت به الحوادث قيل والجمهور ينازعونكم في هذا الأصل ويقولون كيف يعقل فعل لا يقوم بفاعل ونحن نعقل الفرق بين نفس الخلق والتكوين وبين المخلوق المكون وهذا قول جمهور الناس كأصحاب أبي حنيفة وهو الذي حكاه البغوي وغيره من أصحاب الشافعي عن أهل السنة وهو قول أئمة أصحاب أحمد كأبي إسحاق بن شاقلا وأبي بكر عبد العزيز وأبي عبدالله بن حامد والقاضي أبي يعلى في آخر قوليه وهو قول أئمة الصوفية وأئمة أصحاب الحديث وحكاه |
2 | 379 | البخاري في كتاب خلق أفعال العباد عن العلماء مطلقا وهو قول طوائف من المرجئة والشيعة والكرامية وغيرهم ثم القائلون بقيام فعله به منهم من يقول فعله قديم والمفعول متأخر كما أن إرادته قديمة والمراد متأخر كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب أبي حنيفة وأحمد وغيرهم وهو الذي ذكره الثقفي وغيره من الكلابية لما وقعت المنازعة بينهم وبين ابن خزيمة ومنهم من يقول بل هو حادث النوع كما يقول ذلك من يقوله من الشيعة والمرجئة والكرامية ومنهم من يقول هو يقع بمشيئته وقدرته شيئا فشيئا لكنه لم يزل متصفا به فهو حادث الآحاد قديم النوع كما يقول ذلك من يقوله من أئمة أصحاب الحديث وغيرهم من أصحاب الشافعي وأحمد وسائر الطوائف منهم من يقول بل الخلق حادث قائم بالمخلوق كما يقوله هشام بن الحكم وغيره ومنهم من يقول بل هو قائم بنفسه لا في محل كما يقوله أبو الهذيل العلاف وغيره ومنهم من يقول بمعان قائمة بنفسها لا تتناهى كما يقوله معمر بن عباد وغيره |
2 | 380 | وإذا كان الجمهور ينازعونكم فتقدر المنازعة بينكم وبين أئمتكم من الشيعة ومن وافقهم فإن هؤلاء يوافقونكم على أنه حادث لكن يقولون هو قائم بذات الله فيقولون قد جمعنا بين حجتنا وحجتكم فقلنا العدم لا يؤمر ولا ينهى وقلنا الكلام لا بد أن يقوم بالمتكلم فإن قلتم لنا قد قلتم بقيام الحوادث بالرب قالوا لكم نعم وهذا قولنا الذي دل عليه الشرع والعقل ومن لم يقل إن البارئ يتكلم ويريد ويحب ويبغض ويرضى ويأتي ويجئ فقد ناقض كتاب الله تعالى ومن قال إنه لم يزل ينادى موسى في الأزل فقد خالف كلام الله مع مكابرة العقل لأن الله يقول فلما جاءها نودى سورة النمل وقال إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون سورة يس فأتى بالحروف الدالة على الإستقبال قالوا وبالجملة فكل ما يحتج به المعتزلة والشيعة مما يدل على أن كلامه متعلق بمشيئته وقدرته وأنه يتكلم إذا شاء وانه يتكلم شيئا بعد شيء فنحن نقول به وما يقول به من يقول إن كلام الله قائم بذاته وإنه صفة له والصفة لا تقوم إلا بالموصوف فنحن نقول به وقد أخذنا |
2 | 381 | بما في قول كل من الطائفتين من الصواب وعدلنا عما يرده الشرع والعقل من قول كل منهما فإذا قالوا لنا فهذا يلزم أن تكون الحوادث قامت به قلنا ومن أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك مع صريح العقل وهو قول لازم لجميع الطوائف ومن أنكره فلم يعرف لوازمه وملزوماته ولفظ الحوادث مجمل فقد يراد به الأمراض والنقائص والله تعالى منزه عن ذلك كما نزه نفسه عن السنة والنوم واللغوب وعن أن يؤوده حفظ السماوات والأرض وغير ذلك مما هو منزه عنه بالنص والإجماع ثم إن كثيرا من نفاة الصفات المعتزلة وغيرهم يجعلون مثل هذا حجة في نفي قيام الصفات أو قيام الحوادث به مطلقا وهو غلط منهم فإن نفى الخاص لا يستلزم نفى العام ولا يجب إذا نفيت عنه النقائص والعيوب أن ينتفي عنه ما هو من صفات الكمال ونعوت الجلال ولكن يقوم به ما يشاؤه ويقدر عليه من كلامه وأفعاله ونحو ذلك مما دل عليه الكتاب والسنة |
2 | 382 | ونحن نقول لمن أنكر قيام ذلك به أتنكره لإنكارك قيام الصفة به كإنكار المعتزلة أم تنكره لأن من قامت به الحوادث لم يخل منها ونحو ذلك مما يقوله الكلابية فإن قال بالأول كان الكلام في أصل الصفات وفي كون الكلام قائما بالمتكلم لا منفصلا عنه كافيا في هذا الباب وإن كان الثاني قلنا لهؤلاء أتجوزون حدوث الحوادث بلا سبب حادث أم لا فإن جوزتم ذلك وهو قولكم لزم أن يفعل الحوادث من لم يكن فاعلا لها ولا لضدها فإذا جاز هذا فلم لا يجوز أن تقوم الحوادث بمن لم تكن قائمة به هي ولا ضدها ومعلوم أن الفعل أعظم من القبول فإذا جاز فعلها بلا سبب حادث فكذلك قيامها بالمحل فإن قلتم القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده قلنا هذا ممنوع ولا دليل لكم عليه ثم إذا سلم ذلك فهو كقول |
2 | 383 | القائل القدر على الشيء لا يخلو عن فعله وفعل ضده وأنتم تقولون إنه لم يزل قادرا ولم يكن فاعلا ولا تاركا لأن الترك عندكم أمر وجودي مقدور وأنتم تقولون لم يكن فاعلا لشيء من مقدوراته في الأزل مع كونه قادرا بل تقولون إنه يمتنع وجود مقدوره في الأزل مع كونه قادرا عليه وإذا كان هذا قولكم فلأن لا يجب وجود المقبول في الأزل بطريق الأولى والأحرى فإن هذا المقبول مقدور لا يوجد إلا بقدرته وأنتم تجوزون وجود قادر مع امتناع مقدوره في حال كونه قادرا ثم نقول إن كان القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده لزم تسلسل الحوادث وتسلسل الحوادث إن كان ممكنا كان القول الصحيح قول أهل الحديث الذين يقولون لم يزل متكلما إذا شاء كما قاله ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما من أئمة السنة وإن لم يكن جائزا أمكن أن يقوم به الحادث بعد أن لم يكن قائما به كما يفعل الحوادث بعد أن لم يكن فاعلا لها وكان قولنا هو الصحيح فقولكم أنتم باطل على كلا التقديرين فإن قلتم لنا أنتم توافقونا على امتناع تسلسل الحوادث وهو حجتنا وحجتكم على نفى قدم العالم |
2 | 384 | قلنا لكم موافقتنا لكم حجة جدلية وإذا كنا قد قلنا بامتناع تسلسل الحوادث موافقة لكم وقلنا بأن القابل للشيء قد يخلو عنه وعن ضده مخالفة لكم وأنتم تقولون إن قبل الحوادث لزم تسلسلها وأنتم لا تقولون بذلك قلنا إن صحت هاتان المقدمتان ونحن لا نقول بموجبهما لزم خطؤنا إما في هذه وإما في هذه وليس خطؤنا فيما سلمناه لكم بأولى من خطئنا فيما خالفناكم فيه فقد يكون خطؤنا في منع تسلسل الحوادث لا في قولنا إن القابل للشيء يخلو عنه وعن ضده فلا يكون خطؤنا في إحدى المسألتين دليلا على صوابكم في الأخرى التي خالفناكم فيها أكثر ما في هذا الباب أنا نكون متناقضين والتناقض شامل لنا ولكم ولأكثر من تكلم في هذه المسألة ونظائرها وإذا كنا متناقضين فرجوعنا إلى قول نوافق فيه العقل والنقل أولى من رجوعنا إلى قول |
2 | 385 | نخالف فيه العقل والنقل فالقول بأن المتكلم يتكلم بكلام لا يتعلق بمشيئته وقدرته أو منفصل عنه لا يقوم به مخالف للعقل والنقل بخلاف تكلمه بكلام يتعلق بمشيئته وقدرته قائم به فإن هذا لا يخالف لا عقلا ولا نقلا لكن قد نكون نحن لم نقله بلوازمه فنكون متناقضين وإذا كنا متناقضين كا الواجب أن نرجع عن القول الذي أخطأنا فيه لنوافق ما أصبنا فيه لا نرجع عن الصواب لنطرد الخطأ فنحن نرجع عن تلك المناقضات ونقول بقول أهل الحديث فإن قلتم إثبات حادث بعد حادث لا إلى أول قول الفلاسفة الدهرية قلنا بل قولكم إن الرب تعالى لم يزل معطلا لا يمكنه أن يتكلم بشيء ولا أن يفعل شيئا ثم صار يمكنه أن يتكلم وأن يفعل بلا حدوث سبب يقتضى ذلك قول مخالف لصريح العقل ولما عليه المسلمون فإن المسلمين يعلمون أن الله لم يزل قادرا وإثبات القدرة مع كون المقدور ممتنعا غير ممكن جمع بين النقيضين فكان فيما عليه |
2 | 386 | المسلمون من أنه لم يزل قادرا ما يبين أنه لم يزل قادرا على الفعل والكلام بقدرته ومشيئته والقول بدوام كونه متكلما ودوام كونه فاعلا بمشيئته منقول عن السلف وأئمة المسلمين من أهل البيت وغيرهم كابن المبارك وأحمد بن حنبل والبخاري وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهم وهو منقول عن جعفر ابن محمد الصادق في الأفعال المتعدية فضلا عن اللازمة وهو دوام إحسانه وذلك قوله وقول المسلمين ياقديم الإحسان إن عنى بالقديم قائم به والفلاسفة الدهرية قالوا بقدم الأفلاك وغيرها من العالم وأن الحوادث فيه لا إلى أول وأن البارئ موجب بذاته للعالم ليس فاعلا بمشيئته وقدرته ولا يتصرف بنفسه ومعلوم بالإضطرار من دين الرسل أن الله تعالى خالق كل شيء ولا يكون المخلوق إلا محدثا فمن جعل مع الله شيئا قديما بقدمه فقد علم مخالفته لما أخبرت به الرسل مع مخالفته لصريح العقل وأنتم وافقتموهم على طائفة من باطلهم حيث قلتم إنه لا يتصرف |
2 | 387 | بنفسه ولا يقوم به أمر يختاره ويقدر عليه بل جعلتموه كالجماد الذي لا تصرف له ولا فعل وهم جعلوه كالجماد الذي لزمه وعلق به ما لا يمكنه دفعه عنه ولا قدرة له على التصرف فيه فوافقتموهم على بعض باطلهم ونحن قلنا بما يوافق العقل والنقل من كمال قدرته ومشيئته وأنه قادر على الفعل بنفسه وعلى التكلم بنفسه كيف شاء وقلنا إنه لم يزل موصوفا بصفات الكمال متكلما إذا شاء فلا نقول إن كلامه مخلوق منفصل عنه فإن حقيقة هذا القول أنه لا يتكلم ولا نقول إن كلامه شيء واحد أمرى ونهى وخبر وأن معنى التوراة والإنجيل واحد وأن الأمر والنهى صفة لشي واحد فإن هذا مكابرة للعقل ولا نقول إنه أصوات مقطعة متضادة أزلية فإن الأصوات لا تبقى زمانين وأيضا فلو قلنا بهذا القول والذي قبله لزم أن يكون تكليم الله |
2 | 388 | للملائكة ولموسى ولخلقه يوم القيامة ليس إلا مجرد خلق إدراك لهم لما كان أزليا لم يزل ومعلوم أن النصوص دلت على ضد ذلك ولا نقول إنه صار متكلما بعد أن لم يكن متكلما فإن هذا وصف له بالكمال بعد النقص وأنه صار محلا للحوادث التي كمل بها بعد نقصه ثم حدوث ذلك الكمال لا بد له من سبب والقول في الثاني كالقول في الأول ففيه تجدد كمال بلا سبب ووصف له بالنقص الدائم من الأزل إلى أن تجدد له ما لا سبب لتجدده وفي ذلك تعطيل له عن صفات الكمال وأما دوام الحوادث فمعناه هنا دوام كونه متكلما إذا شاء وهذا دوام كماله ونعوت جلاله ودوام أفعاله وبهذا يمكن أن يكون العالم وكل ما فيه مخلوق له حادث بعد أن لم يكن لأنه يكون سبب الحدوث هو ما قام بذاته من كلماته وأفعاله وغير ذلك فيعقل |
2 | 389 | سبب حدوث الحوادث ويمتنع مع هذا أن يقال بقدم شيء من العالم لأنه لو كان قديما لكان مبدعه موجبا بذاته ليلزمه موجبه ومقتضاه وإذا كان الخالق فاعلا بفعل يقول بنفسه بمشيئته واختياره امتنع أن يكون موجبا بذاته لشي من الأشياء فامتنع قدم شيء من العالم وإذا امتنع من الفاعل المختار أن يفعل شيئا منفصلا عنه مقارنا له مع أنه لا يقوم به فعل اختياري فلأن يمتنع ذلك إذا قام به فعل اختياري بطريق الأولى والأحرى لأنه على هذا التقدير لا يوجد المفعول حتى يوجد الفعل الإختياري الذي حصل بقدرته ومشيئته وعلى التقدير الأول يكفى فيه نفس المشيئة والقدرة والفعل الإختياري ومعلوم أن ما توقف على المشيئة والقدرة والفعل الإختياري القائم به يكون أولى بالحدوث والتأخر مما لم يتوقف إلا على بعض ذلك والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع وأكثر الناس |
2 | 390 | لا يعلمون كثيرا من هذه الأقوال ولذلك كثر بينهم القيل والقال وما ذكرناه إشارة إلى مجامع المذاهب والأصل الذي باين به أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان من أهل البيت وغيرهم وسائر أئمة المسلمين للجهمية والمعتزلة وغيرهم من نفاة الصفات أن الرب تعالى إنما يوصف بما يقوم به لا يوصف بمخلوقاته وهو أصل مطرد عند السلف والجمهور ولكن المعتزلة استضعفت الأشعرية ومن وافقهم بتناقضهم في هذا الأصل حيث وصفوه بالصفات الفعلية مع أن الفعل لا يقوم به عندهم والأشعري تبع في ذلك للجهمية والمعتزلة الذين نفوا قيام الفعل به لكن أولئك ينفون الصفات أيضا بخلاف الأشعرية والمعتزلة لهم نزاع في الخلق هل هو المخلوق أو غير المخلوق وإذا قالوا هو غير المخلوق فقد يقولون معنى قائم لا في محل كما تقوله البصريون في الإرادة وقد يقولون معاني لا نهاية لها في آن واحد كما يقوله معمر منهم وأصحابه ويسمون أصحاب المعاني وقد يقولون إنه قائم بالمخلوق وحجة الأشعري ومن وافقه على أن الخلق هو المخلوق أنهم قالوا لو كان غيره لكان إما قديما وإما محدثا فإن كان قديما لزم قدم المخلوق وهو محال بالإضطرار فيما علم حدوثه بالإضطرار والدليل فيما علم حدوثه بالدليل وإن كان محدثا كان مخلوقا فافتقر الخلق إلى |
2 | 391 | خلق ثان ولزم التسلسل وأيضا فيلزم قيام الحوادث به وهذا عمدتهم في نفس الأمر والرازي لم يكن له خبرة بأقوال طوائف المسلمين إلا بقول المعتزلة والأشعرية وبعض أقوال الكرامية والشيعة فلهذا لما ذكر هذه المسألة ذكر خلاف فيها مع فقهاء ما وراء النهر وقول هؤلاء هو قول جماهير طوائف المسلمين والجمهور لهم في الجواب عن عمدة هؤلاء طرق كل قوم بحسبهم فطائفة قالت بل الخلق الذي هو التكوين والفعل قديم والمكون المفعول محدث لأن الخلق عندهم لا تقوم به الحوادث وهذا قول كثير من هؤلاء من الحنفية والحنبلية والكلابية والصوفية وغيرهم فإذا قالوا لهؤلاء فيلزم قدم المكون قالوا نقول في ذلك مثل ما قلتم في الإرادة الأزلية قلتم هي قديمة فإن كان المراد محدثا كذلك التكوين قديم وإن كان المكون محدثا وطائفة قالت بل الخلق والتكوين حادث إذا أراد الله خلق شيء وتكوينه وهذا قول أكثر أهل الحديث وطوائف من أهل الكلام والفقه والتصوف قالوا لأن الله ذكر وجود أفعاله شيئا بعد شيء كقوله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش سورة الأعراف وقوله ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين سورة فصلت وقوله |
2 | 392 | ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم سورة الأعراف وقوله ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين سورة المؤمنون وأمثال ذلك وهولاء يلتزمون أنه تقوم به الأمور الإختيارية كخلقه ورضاه وغضبه وكلامه وغير ذلك مما دلت عليه النصوص وفي القرآن أكثر من ثلاثمائة موضع توافق قولهم وأما الأحاديث فكثيرة جدا والآثار عن السلف بذلك متواترة وهو قول أكثر الأساطين من الفلاسفة ثم هؤلاء في التسلسل على قولين وهم يقولون المخلوق يحصل بالخلق والخلق يحصل بقدرته ومشيئته لا يحتاج إلى خلق آخر ويقولون لمنازعيهم إذا جاز عندكم وجود المخلوقات المنفصلة بمجرد القدرة والمشيئة من غير فعل قائم به فلأن يجوز الفعل بمجرد القدرة الإرادة أولى وأحرى ومن لم يقل بالتسلسل منهم يقول نفس القدرة القديمة والإرادة القديمة أوجبت ما حدث من الفعل والإرادة وبذلك يحصل المخلوق فيما لا يزال ومن قال بالتسلسل منهم قال التسلسل الممتنع إنما هو التسلسل في المؤثرات وهو أن يكون للفاعل فاعل وهلم جرا إلى غير نهاية سواء عبر عن ذلك بأن للعلة علة وللمؤثر مؤثرا أو عبر عنه بأن للفاعل فاعلا |
2 | 393 | فهذا هو التسلسل الممتنع في صريح العقل ولهذا كان هذا ممتنعا باتفاق العقلاء كما أن الدور الممتنع هو الدور القبلي فأما التسلسل في الآثار وهو أن لا يكون الشيء حتى يكون قبله غيره أو لا يكون إلا ويكون بعد غيره فهذا للناس فيه ثلاثة أقوال قيل هو ممتنع في الماضي والمستقبل وقيل بل هو جائز في الماضي والمستقبل وقيل ممتنع في الماضي جائز في المستقبل والقول بجوازه مطلقا هو معنى قول السلف وأئمة الحديث وقول جماهير الفلاسفة القائلين بحدوث هذا العالم والقائلين بقدمه وقد بسط الكلام على أدلة الطائفتين في موضع آخر فإنا قد بسطنا الكلام فيما ذكره من أصول الدين أضعاف ما تكلم به هو ونبهنا على مجامع الأقوال فصل وأما قوله وأن الأنبياء معصومون من الخطأ والسهو والمعصية صغيرها وكبيرها من أول العمر إلى آخره وإلا لم يبق وثوق بما يبلغونه فانتفت فائدة البعثة ولزم التنفير عنهم فيقال أولا إن الإمامية متنازعون في عصمة الأنبياء |
2 | 394 | قال الأشعري في المقالات واختلفت الروافض في الرسول هل يجوز عليه أن يعصى أم وهم فرقتان فالفرقة الأولى منهم يزعمون أن الرسول جائز عليه أن يعصى الله وأن النبي قد عصى في أخذ الفداء يوم بدر فأما الأئمة فلا يجوز ذلك عليهم فإن الرسول إذا عصى فإن الوحي يأتيه من قبل الله والأئمة لا يوحى إليهم ولا تهبط الملائكة عليهم وهم معصومون فلا يجوز عليهم أن يسهوا ولا يغلطوا وإن جاز على الرسول العصيان قال والقائل بهذا القول هشام بن الحكم والفرقة الثانية منهم يزعمون أنه لا يجوز على الرسول أن يعصى الله عز وجل ولا يجوز ذلك على الأئمة لأنهم جميعا حجج الله وهم معصومون من الزلل ولو جاز عليهم السهو واعتماد المعاصي وركوبها لكانوا قد ساووا المأمومين في جواز ذلك عليهم كما جاز على المأمومين ولم يكن المأمومون أحوج إلى الأئمة من الأئمة لو كان ذلك جائزا عليهم جميعا وأيضا فكثير من شيوخ الرافضة من يصنف الله تعالى بالنقائص |
2 | 395 | كما تقدم حكاية بعض ذلك فزرارة بن أعين وأمثاله يقولون يجوز البداء عليه وأنه يحكم بالشيء ثم يتبين له مالم يكن علمه فينتقض حكمه لما ظهره له من خطئه فإذا قال مثل هؤلاء بأن الأنبياء والأئمة لا يجوز أن يخفى عليهم عاقبة فعلهم فقد نزهوا البشر عن الخطأ مع تجويزهم الخطأ على الله وكذلك هشام بن الحكم وزارة بن أعين وأمثالهما ممن يقول إنه يعلم ما لم يكن عالما به ومعلوم أن هذا من أعظم النقائص في حق الرب فإذا قالوا مع ذلك إن الأنبياء والأئمة لا يبدو لهم خلاف ما رأوا فقد جعلوهم لا يعلمون ما لم يكونوا يعلمونه في مثل هذا وقالوا بجواز ذلك في غيره وأما ما تقوله غلاتهم من إلا هية على أو نبوته وغلط جبريل بالرسالة فهو أعظم من أن يذكر هنا ولا ريب أن الشرك والغلو يخرج أصحابه إلى أن يجعلوا البشر مثل الإله بل أفضل من الإله في بعض الأمور كما ذكر الله عن المشركين حيث قال وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون سورة الأنعام وقال تعالى ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم سورة الأنعام فهؤلاء لما سبت آلهتهم سبوا الله مقابلة فجعلوهم مماثلين لله وأعظم في قلوبهم كما تجد كثيرا من المشركين يحب ما اتخذه من دون الله أندادا أكثر مما يحب الله تعالى وتجد أحدهم يحلف بالله ويكذب |
2 | 396 | ويحلف بما اتخذه ندا من إمامه أو شيخه أو غير ذلك ولا يستجيز أن يكذب وتسأله بالله والله فلا يعطى وتسأله بما يعظمه من إمامه أو شيخه أو غير ذلك فيعطى ويصلى لله في بيته ويدعوه فلا يكون عنده كبير خشوع فإذا أتى إلى قبر من يعظمه ورجا أن يدعوه أو يدعو به أو يدعو عنده فيحصل له من الخشوع والدموع ما لا يحصل في عبادة الله ودعائه في بيت الله أو في بيت الداعي العابد وتجد أحدهم يغضب إذا ذكر ما اتخذه ندا بعيب أو نقص ويذكر الله بالعيوب والنقوص فلا يغضب له ومثل هذا كثير في المشركين شركا محضا وفي من فيه شعبة من الشرك في هذه الأمة والنصارى ينزهون البشر عن كثير مما يصفون به الرب فيقولون لله ولد وينزهون كثيرا من عظمائهم أن يكون له ولد ويقول كثير منهم إن الله ينام والباب عندهم لا ينام ومثل هذا كثير ثم يقال ثانيا قد اتفق المسلمون على أنهم معصومون فيما يبلغونه عن الله فلا يجوز أن يقرهم على الخطأ في شيء مما يبلغونه عنه وبهذا يحصل المقصود من البعثة وأما وجوب كونه قبل أن يبعث نبيا لا يخطئ أو لا يذنب فليس في |
2 | 397 | النبوة يستلزم هذا وقول القائل لو لم يكن كذلك لم تحصل ثقة فيما يبلغونه عن الله كذب صريح فإن من آمن وتاب حتى ظهر فضله وصلاحه ونبأه الله بعد ذلك كما نبأ إخوة يوسف ونبأ لوطا وشعيبا وغيرهما وأيده الله تعالى بما يدل على نبوته فإنه يوثق فيما يبلغه كما يوثق بمن لم يفعل ذلك وقد تكون الثقة به أعظم إذا كان بعد الإيمان والتوبة قد صار أفضل من غيره والله تعالى قد أخبر أنه يبدل السيئات بالحسنات للتائب كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح ومعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وقبل أن يصدر منهم ما يدعونه من الأحداث كانوا من خيار الخلق وكانوا أفضل من أولادهم الذين ولدوا بعد الإسلام ثم يقال وأيضا فجمهور المسلمين على أن النبي لا بد أن يكون من أهل البر والتقوى متصفا بصفات الكمال ووجوب بعض الذنوب أحيانا مع التوبة الماحية الرافعة لدرجته إلى أفضل مما كان عليه لا ينافي ذلك وأيضا فوجوب كون النبي لا يتوب إلى الله فينال محبة الله وفرحه بتوبته وترتفع درجته بذلك ويكون بعد التوبة التي يحبه الله منه خيرا مما كان قبلها فهذا مع ما فيه من التكذيب للكتاب والسنة غض من مناصب الأنبياء وسلبهم هذه الدرجة ومنع إحسان الله إليهم وتفضله عليهم بالرحمة والمغفرة |
2 | 398 | ومن اعتقد أن كل من لم يكفر ولم يذنب أفضل من كل من آمن بعد كفره وتاب بعد ذنبه فهو مخالف ما علم بالإضطرار من دين الإسلام فإنه من المعلوم أن الصحابة الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد كفرهم وهداهم الله به بعد ضلالهم وتابوا إلى الله بعد ذنوبهم أفضل من أولادهم الذين ولدوا على الإسلام وهل يشبه بني الأنصار بالأنصار أو بنى المهاجرين بالمهاجرين إلا من لا علم له وأين المنتقل بنفسه من السيئات إلى الحسنات بنظره واستدلاله وصبره واجتهاده ومفارقته عاداته ومعاداته لأوليائه وموالاته لأعدائه إلى آخر لم يحصل له مثل هذه الحال وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية وقد قال تعالى والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف |
2 | 399 | له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وآمن وعلم عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما سورة الفرقان وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولا الجنة وآخر أهل النار خروجا منها رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقال عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا فيقول نعم لا يستطيع أن ينكر وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه فيقال له فإن لك مكان كل سيئة حسنة فيقول يارب قد عملت أشياء لا أراها ههنا فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه |
2 | 400 | فأين من يبدل الله سيئاته حسنات إلى من لم تحصل له تلك الحسنات ولا ريب أن السيئات لا يؤمر بها وليس للعبد أن يفعلها ليقصد بذلك التوبة منها فإن هذا مثل من يريد أن يحرك العدو عليه ليغلبهم بالجهاد أو يثير الأسد عليه ليقتله ولعل العدو يغلبه والأسد يفترسه بل مثل من يريد أن يأكل السم ثم يشرب الترياق وهذا جهل بل إذا قدر من ابتلى بالعدو فغلبه كان أفضل ممن لم يكن كذلك وكذلك من صادفه الأسد وكذلك من اتفق أن شرب السم فسقى ترياقا فاروقا يمنع نفوذ سائر السموم فيه كان بدنه أصح من بدن من لم يشرب ذلك الترياق والذنوب إنما تضر أصحابها إذا لم يتوبوا منها والجمهور الذين يقولون بجواز الصغائر عليهم يقولون إنهم معصومون من الإقرار عليها وحينئذ فما وصفوهم إلا بما فيه كمالهم فإن الأعمال بالخواتيم |
2 | 401 | مع أن القرآن والحديث وإجماع السلف معهم في تقرير هذا الأصل فالمنكرون لذلك يقولون في تحريف القرآن ما هو من جنس قول أهل البهتان ويحرفون الكلم عن مواضعه كقولهم في قوله تعالى ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر سورة الفتح أي ذنب آدم وما تأخر من ذنب أمته فإن هذا ونحوه من تحريف الكلم عن مواضعه أما أولا فلأن آدم تاب وغفر له ذنبه قبل أن يولد نوح وإبراهيم فكيف يقول له إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر الله لك ذنب آدم وأما ثانيا فلأن الله يقول ولا تز وازرة وزر أخرى سورة الإسراء فكيف يضاف ذنب أحد إلى غيره وأما ثالثا فلأن في حديث الشفاعة الذي في الصحاح أنهم يأتون |
2 | 402 | آدم فيقولون أنت آدم أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته اشفع لنا إلى ربك فيذكر خطيئته ويأتون نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى فيقول لهم اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فكان سبب قبول شفاعته كما عبودتيه وكمال مغفرة الله له فلو كانت هذه لآدم لكان يشفع لأهل الموقف وأما رابعا فلأن هذه الآية لما نزلت قال أصحابه رضي الله عنهم يا رسول الله هذا لك فما لنا فأنزل الله تعالى هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم سورة الفتح فلو كان ما تأخر ذنوبهم لقال هذه الآية لكم وأما خامسا فكيف يقول عاقل إن الله غفر ذنوب أمته كلها وقد علم أن منهم من يدخل النار وإن خرج منها بالشفاعة |
2 | 403 | فهذا وأمثاله من خيار تأويلات المانعين لما دل عليه القرآن من توبة الأنبياء من ذنوبهم واستغفارهم وزعمهم أنه لم يكن هناك ما يوجب توبة ولا استغفار ولا تفضل الله عليه بمحبته وفرحه بتوبتهم ومغفرته ورحمته لهم فكيف بسائر تأويلاتهم التي فيها من تحريف القرآن وقول الباطل على الله ما ليس هذا موضع بسطه وأما قوله إن هذا ينفى الوثوق ويوجب التنفير فليس هذا بصحيح فيما قبل النبوة ولا فيما يقع خطأ ولكن غايته أن يقال هذا موجود فيما تعمد من الذنب فيقال بل إذا اعترف الرجل الجليل القدر بما هو عليه من الحاجة إلى توبته واسغفاره ومغفرة الله له ورحمته دل ذلك على صدقه وتواضعه وعبوديته لله وبعده عن الكبر والكذب بخلاف من يقول ما بي حاجة إلى شيء من هذا ولا يصدر منى ما يحوجني إلى مغفرة الله لي وتوبته على ويصر على كل ما يقوله ويفعله بناء على |
2 | 404 | أنه لا يصدر منه ما يرجع عنه فإن مثل هذا إذا عرف من رجل نسبه الناس إلى الكذب والكفر والجهل وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لن يدخل أحد منكن الجنة بعمله قالوا ولا أنت يارسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل فكان هذا من أعظم ممادحه وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لا تطروني ما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبدالله ورسوله وكل من سمع هذا عظمه بمثل هذا الكلام |
2 | 405 | وفي الصحيحين عنه أنه كان يقول اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به منى أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير وهذا كما أنه لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا على حيث ما كنتم فإن صلاتكم تبلغني رواه أبو داود وغيره وقال اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد رواه مالك وغيره كان |
2 | 406 | هذا التواضع مما زاده الله به رفعة وكذلك لما سجد له بعض أصحابه فنهاه عن ذلك وقال إنه لا يصلح السجود إلا لله وكذلك لما كان بعض الناس يقول ما شاء الله وشاء محمد قال أجعلتني ندا لله قل ما شاء الله ثم شاء محمد وقوله في دعائه أنا البائس الفقير المستغيث المستجير الوجل المشفق المعترف المقر بذنبه أسألك مسألة المسكين وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل وأدعوك دعاء الخائف من خضعت له رقبته وذل جسده ورغم أنفه لك ونحو |
2 | 407 | هذه الأحوال التي رفع الله بها درجاته بما اعترف به من فقر العبودية وكمال الربوبية والغنى عن الحاجة من خصائص الربوبية فأما العبد فكماله في حاجته إلى ربه وعبوديته وفقره وفاقته فكلما كانت عبوديته أكمل كان أفضل وصدور ما يحوجه إلى التوبة والإستغفار مما يزيده عبودية وفقرا وتواضعا ومن المعلوم أن ذنوبهم ليست كذنوب غيرهم بل كما يقال حسنات الأبرار سيئات المقربين لكن كل يخاطب على قدر مرتبته وقد قال صلى الله عليه وسلم كل بنى آدم خطاء وخير الخطائين التوابون وما ذكره من عدم الوثوق والتنفير قد يحصل مع الإصرار والإكثار ونحو ذلك وأما اللمم الذي يقترن به التوبة والإستغفار أو ما يقع بنوع من |
2 | 408 | التأويل وما كان قبل النبوة فإنه مما يعظم به الإنسان عند أولى الأبصار وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد علم تعظيم رعيته له وطاعتهم مع كونه دائما كان يعترف بما يرجع عنه من خطأ وكان إذا اعترف بذلك وعاد إلى الصواب زاد في أعينهم وازدادوا له محبة وتعظيما ومن أعظم ما نقمه الخوارج على علي أنه لم يتب من تحكيم الحكمين وهم وإن كانوا جهالا في ذلك فهو يدل على أن التوبة لم تكن تنفرهم وإنما نفرهم الأصرار على ما ظنوه هم ذنبا والخوارج من أشد الناس تعظيما للذنوب ونفورا عن أهلها حتى أنهم يكفرون بالذنب ولا يحتملون لمقدمهم ذنبا ومع هذا فكل مقدم لهم تاب عظموه وأطاعوه ومن لم يتب عادوه فيما يظنونه ذنبا وإن لم يكن ذنبا |
2 | 409 | فعلم أن التوبة والإستغفار لا توجب تنفيرا ولا تزيل وثوقا بخلاف دعوى البراءة مما يتاب منه ويستغفر ودعوى السلامة مما يحوج الرجوع إلى الله واللجأ إليه فإنه هو الذي ينفر القلوب ويزيل الثفة فإن هذا لم يعلم أنه صدر إلا عن كذاب أو جاهل وأما الأول فإنه يصدر عن الصادقين العالمين ومما يبين ذلك أنه لم يعلم أحد طعن في نبوة أحد من الأنبياء ولا قدح في الثقة به بما دلت عليه النصوص التي تيب منها ولا احتاج المسلمون إلى تأويل النصوص بما هو من جنس التحريف لها كما يفعله من يفعل ذلك والتوراة فيها قطعة من هذا وما أعلم أن بني إسرائيل قدحوا في نبي من الأنبياء بتوبته في أمر من الأمور وإنما كانوا يقدحون فيهم بالإفتراء عليهم كما كانوا يؤذن موسى عليه السلام وإلا فموسى قد قتل القبطي قبل النبوة وتاب من سؤال الرؤية وغير ذلك بعد النبوة وما أعلم أحدا من بنى إسرائيل قدح فيه بمثل هذا وما جرى في سورة النجم من قوله تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتها لترتجى على المشهور عند السلف والخلف من أن ذلك جرى على لسانه ثم نسخه الله وأبطله هو من أعظم المفتريات على قول |
2 | 410 | هؤلاء ولهذا كان كثير من الناس يكذب هذا وإن كان مجوزا عليهم غيره إما قبل وإما بعدها لظنه أن في ذلك خطأ في التبليغ وهو معصوم في التبليغ بالإتفاق والعصمة المتفق عليها أنه لا يقر على خطأ في التبليغ بالإجماع ومن هذا فلم يعلم أحد من المشركين نفر برجوعه عن هذا وقوله إن هذا مما ألقاه الشيطان ولكن روى أنهم نفروا لما رجع إلى ذم آلهتهم بعد ظنهم أنه مدحها فكان رجوعهم لدوامه على ذمها لا لأنه قال شيئا ثم قال إن الشيطان ألقاه وإذا كان هذا لم ينفر فغيره أولى أن لا ينفر وأيضا فقد ثبت أن النسخ نفر طائفة كما قال سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها سورة البقرة وقوله وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا سورة النحل فالتبديل الذي صرحوا بأنه منفر ونفروا به عنه لم يكن مما يجب نفيه عنه فكيف بالرجوع إلى الحق الذي لم يعلم أنهم نفروا منه وهو أقل تنفيرا لأن النسخ فيه رجوع عن الحق إلى حق وهذا رجوع إلى حق من غير حق ومعلوم أن الإنسان يحمد على ترك الباطل إلى الحق ما لا يحمد على |
2 | 411 | ترك ما لم يزل يقول إنه حق وإذا كان جائزا فهذا أولى وإذا كان في ذلك مصلحة ففي هذا أيضا مصالح عظيمة ولولا أن فيها وفي العلم بها مصالح لعباده لم يقصها في غير موضع من كتابه وهو سبحانه وله الحمد لم يذكر عن نبي من الأنبياء ذنبا إلا ذكر معه توبته لينزهه عن النقص والعيب ويبين أنه ارتفعت منزلته وعظمت درجته وعظمت حسناته وقربه إليه بما أنعم الله عليه من التوبة والإستغفار والأعمال الصالحة التي فعلها بعد ذلك وليكون ذلك أسوة لمن يتبع الأنبياء ويقتدي بهم إلى يوم القيامة ولهذا لما لم يذكر عن يوسف توبة في قصة امرأة العزيز دل على أن يوسف لم يذنب أصلا في تلك القصة كما يذكر من يذكر أشياء نزهه الله منها بقول تعالى كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين سورة يوسف وقد قال تعالى ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه سورة يوسف والهم كما قال الإمام أحمد رضي الله عنه همان هم خطرات وهم إصرار وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله تعالى يقول إذا هم عبدي بحسنة فاكتبوها له حسنة كاملة فإن عملها فاكتبوها عشرا إلى سبعمائة ضعف وإذا هم بسيئة فلا تكتبوها عليه فإن تركها فاكتبوها له حسنة فإنما تركها من جراي |
2 | 412 | فيوسف عليه الصلاة والسلام لما هم ترك همه لله فكتب الله به حسنة كاملة ولم يكتب عليه سيئة قط بخلاف امرأة العزيز فإنها همت وقالت وفعلت فراودته بفعلها وكذبت عليه عند سيدها واستعانت بالنسوة وحبسته لما اعتصم وامتنع عن الموافقة على الذنب ولهذا قالت وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم سورة يوسف وهذا من قولها كما دل عليه القرآن ليس من كلام يوسف عليه السلام بل لما قالت هذا كان يوسف غائبا في السجن لم يحضر عند الملك بل لما برأته هي والنسوة استدعاه الملك بعد هذا وقال ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين سورة يوسف وأما من ذكر الله تعالى وتبارك عنه ذنبا كآدم عليه السلام فإنه لما قال وعصى آدم ربه فغوى ثم أجتباه ربه فتاب عليه وهدى سورة طه وقال فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم سورة البقرة |
2 | 413 | وقال تعالى عن داود عليه السلام وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب سورة ص وقال لموسى عليه السلام والصلاة إنى لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإنى غفور رحيم سورة النمل ومن احتج على امتناع ذلك بأن الإقتداء بهم مشروع والإقتداء بالذنب لا يجوز قيل له إنما يقتدى بهم فيما أقروا عليه لا فيما نهوا عنه كما أنه إنما يقتدى بهم فيما أقروا عليه ولم ينسخ ولم ينسه فيما نسخ وحينئذ فيكون التأسى بهم مشروعا مأمورا به لا يمنع وقوع ما ينهون عنه ولا يقرون عليه لا من هذا ولا من هذا وإن كان اتباعهم في المنسوخ لا يجوز بالإتفاق ومما يبين أن النسخ أشد تنفيرا أن الإنسان إذا رجع عن شيء إلى آخر وقال الأول الذي كنت عليه حق أمرني الله به ورجوعي عنه حق أمرني الله به كان هذا أقرب إلى النفور عنه من أن يقول رجعت عما لم يأمرني الله به فإن الناس كلهم يحمدون من قال هذا وأما من قال أمري بهذا حق ونهيي عنه حق فهذا مما نفر عنه كثير من السفهاء وأنكره من أنكره من اليهود وغيرهم ومما يبين الكلام في مسألة العصمة أن تعرف النبوة ولوازمها وشروطها فإن الناس تكلموا في ذلك بحسب أصولهم في أفعال الله |
2 | 414 | تعالى إذا كان جعل الشخص نبيا رسولا من أفعال الله تعالى فمن نفى الحكم والأسباب في أفعاله وجعلها معلقة بمحض المشيئة وجوز عليه فعل كل ممكن ولم ينزهه عن فعل من الأفعال كما هو قول الجهم بن صفوان وكثير من الناس كالشعري ومن وافقه من أهل الكلام من أتباع مالك والشافعي وأحمد وغيرهم من مثبتة القدر فهؤلاء يجوزون بعثة كل مكلف والنبوة عندهم مجرد إعلامه بما أوحاه إليه والرسالة مجرد أمره بتبليغ ما أوحاه إليه النبوة عندهم صفة ثبوتية ولا مستلزمة لصفة يختص بها بل هي من الصفات الإضافية كما يقولون مثل ذلك في الأحكام الشرعية وهذا قول طوائف من أهل الكلام كالجهم بن صفوان والأشعري وأتباعهما ولهذا من يقول بها كالقاضي أبي بكر وأبي المعالي وغيرهما يقول إن العقل لا يوجب عصمة النبي إلا في التبليغ خاصة فإن هذا هو مدلول المعجزة وما سوى ذلك إن دل السمع عليه وإلا لم تجب عصمته منه وقال محققوا هؤلاء كأبي المعالى وغيره إنه ليس في السمع قاطع يوجب العصمة والظواهر تدل على وقوع الذنوب منهم وكذلك كالقاضي أبي بكر إنما يثبت ما يثبته من العصمة في غير التبليغ إذا كان من موارد الإجماع لأن الإجماع حجة وما سوى ذلك فيقول لم يدل عليه عقل ولا سمع وإذا احتج المعتزلة وموافقوهم من الشيعة عليهم بأن هذا يوجب |
2 | 415 | التنفير ونحن ذلك فيجب من حكمة الله منعهم منه قالوا هذا مبنى على مسألة التحسين والتقبيح العقليين قالوا ونحن نقول لا يجب على الله شيء ويحسن منه كل شيء وإنما ننفى ما ننفيه بالخبر السمعي ونوجب وقوع ما يقع بالخبر السمعي أيضا كما أوجبنا ثواب المطيعين وعقوبة الكافرين لإخباره أنه يفعل ذلك ونفينا أن يغفر لمشرك لإخباره أنه لا يفعل ذلك ونحو ذلك وكثير من القدرية المعتزلة والشيعة وغيرهم ممن يقول بأصله في التعديل والتجوير وأن الله لا يفضل شخصا على شخص إلا بعمله يقول إن النبوة أو الرسالة جزاء على عمل متقدم فالنبي فعل من الأعمال الصالحة ما استحق به أن يجزيه الله بالنبوة وهؤلاء القدرية في شق وأؤلئك الجهمية الجبرية في شق وأما المتفلسفة القائلون بقدم العالم وصدوره عن علة موجبة مع إنكارهم أن الله تعالى يفعل بقدرته ومشيئته وأنه يعلم الجزئيات فالنبوة عندهم فيض يفيض على الإنسان بحسب استعداده وهي مكتسبة عندهم ومن كان متميزا في قوته العلمية بحيث يستغنى عن التعليم وشكل في نفسه خطاب يسمعه كما يسمع النائم وشخص |
2 | 416 | يخاطبه كما يخاطب النائم وفي العملية بحيث يؤثر في العنصريات تأثيرا غريبا كان نبيا عندهم وهم لا يثبتون ملكا مفضلا يأتي بالوحي من الله تعالى ولا ملائكة بل ولا جنا يخرق الله بهم العادات للأنبياء إلا قوى النفس وقول هؤلاء وإن كان شرا من أقوال كفار اليهود والنصارى وهو أبعد الأقوال عما جاءت به الرسل فقد وقع فيه كثير من المتأخرين الذين لم يشرق عليهم نور النبوة من المدعين للنظر العقلي والكشف الخيالي الصوفي وإن كان غاية هؤلاء الأقيسة الفاسدة والشك وغاية هؤلاء الخيالات الفاسدة والشطح والقول الرابع وهو الذي عليه جمهور سلف الأمة وأئمتها وكثير من النظار أن الله يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس والله أعلم حيث يجعل رسالاته فالنبي يختص بصفات ميزه الله بها على غيره وفي عقله ودينه واستعد بها لأن يخصه الله بفضله ورحمته كما قال تعالى وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا |
2 | 417 | بعضهم فوق بعض درجات سورة الزخرف وقال تعالى ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم سورة البقرة وقال تعالى لما ذكر الأنبياء بقوله ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم سورة الأنعام فأخبر أنه اجتباهم وهداهم والأنبياء أفضل الخلق باتفاق المسلمين وبعدهم الصديقون والشهداء والصالحون فلولا وجوب كونهم من المقربين الذين هم فوق أصحاب اليمين لكان الصديقون أفضل منهم أو من بعضهم والله تعالى قد جعل خلقه ثلاثة أصناف فقال تعالى في تقسيمهم في الآخرة وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم سورة الواقعة وقال في تقسيمهم عند الموت فإما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمينفسلام لك من أصحاب اليمين وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصليه جحيم سورة الواقعة وكذلك ذكر في سورة الإنسان والمطففين هذه الأصناف الثلاثة |
2 | 418 | والأنبياء أفضل الخلق وهم أصحاب الدرجات العلى في الآخرة فيمتنع أن يكون النبي من الفجار بل ولا يكون من عموم أصحاب اليمين بل من أفضل السابقين المقربين فإنهم أفضل من عموم الصديقين والشهداء والصالحين وإن كان النبي أيضا يوصف بأنه صديق وصالح وقد يكون شهيدا لكن ذاك أمر يختص بهم لا يشركهم فيه من ليس بنبى كما قال عن الخليل وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين سورة العنكبوت وقال يوسف توفني مسلما وألحقني بالصالحين سورة يوسف فهذا مما يوجب تنزيه الأنبياء أن يكونوا من الفجار والفساق وعلى هذا إجماع سلف الأمة وجماهيرها وأما من جوز أن يكون غير النبي أفضل منه فهو من أقوال بعض ملاحدة المتأخرين من غلاه الشيعة والصوفية والمتفلسفة ونحوهم وما يحكى عن الفضلية من الخوارج أنهم جوزوا الكفر على النبي فهذا بطريق اللازم لهم لأن كل معصية عندهم كفر وقد جوزوا المعاصى على النبي وهذا يقتضى فساد قولهم بأن كل معصية كفر |
2 | 419 | وقولهم بجواز المعاصي عليهم وإلا فلم يلتزموا أن يكون النبي كافرا ولازم المذهب لا يجب أن يكون مذهبا وطوائف أهل الكلام الذين يجوزون بعثة كل مكلف من الجهمية والأشعرية ومن وافقهم من أتباع الأئمة الأربعة كالقاضي أبي يعلى وابن عقيل وغيرهم متفقون أيضا على أن الأنبياء أفضل الخلق وأن النبي لا يكون فاجرا لكن يقولون هذا لم يعلم بالعقل بل علم بالسمع بناء على ما تقدم من أصلهم من أن الله يجوز أن يفعل كل ممكن وأما الجمهور الذين يثبتون الحكمة والأسباب فيقولون نحن نعلم بما علمناه من حكمة الله أنه لا يبعث نبيا فاجرا وأن ما ينزل على البر الصادق لا يكون إلا ملائكة لا تكون شياطين كما قال تعالى وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين إلى قوله هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون سورة الشعراء فهذا مما بين الله به الفرق بين الكاهن والنبي وبين الشاعر والنبي لما زعم المفترون أن محمدا صلى الله عليه وسلم شاعر وكاهن وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتاه الوحي في أول الأمر وخاف على نفسه قبل أن يستيقن أنه ملك قال لخديجة لقد خشيت على نفسي قالت كلا والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل |
2 | 420 | الكل وتقري الضيف وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق فاستدلت رضي الله عنها بحسن عقلها على أن من يكون الله قد خلقه بهذه الأخلاق الكريمة التي هي من أعظم صفات الأبرار الممدوحين أنه لا يجزيه فيفسد الشيطان عقله ودينه ولم يكن معها قبل ذلك وحي تعلم به انتفاء ذلك بل علمته بمجرد عقلها الراجح وكذلك لما ادعى النبوة من ادعاها من الكذابين مثل مسيلمة الكذاب والعنسى وغيرهما مع ما كان يشتبه من أمرهم لما كان ينزل عليهم من الشياطين ويوحون إليهم حتى يظن الجاهل أن هذا من جنس ما ينزل على الأنبياء ويوحى إليهم فكان ما يبلغ العقلاء وما يرونه من سيرتهم والكذب الفاحش والظلم ونحو ذلك يبين لهم أنه ليس بنبي إذ قد علموا أن النبي لا يكون كاذبا ولا فاجرا وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له ذو الخويصرة اعدل يا محمد فإنك لم تعدل فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد خبت وخسرت إن لم أعدل ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء والرواية الصحيحة بالفتح أي أنت خاسر خائب إن لم |
2 | 421 | أعدل إن ظننت أني ظالم مع اعتقادك أني نبي فإنك تجوز أن يكون الرسول الذي آمنت به ظالما وهذا خيبة وخسران فإن ذلك ينافى النبوة ويقدح فيها وقد قال تعالى وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة سورة آل عمران وفيه قراءتان يغل ويغل أي ينسب إلى الغلول بين سبحانه أنه ما لأحد أن ينسبه إلى الغلول كما أنه ليس له أن يغل فدل على أن النبي لا يكون غالا ودلائل هذا الأصل عظيمة لكن مع وقوع الذنب الذي هو بالنسبة إليه ذنب وقد لا يكون ذنبا من غيره مع تعقبه بالتوبة والإستغفار لا يقدح في كون الرجل من المقربين السابقين ولا الأبرار ولا يلحقه بذلك وعيد في الآخرة فضلا عن أن يجعله من الفجار وقد قال تعالى في عموم وصف المؤمنين ولله ما في السموات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة سورة النجم وقال وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا |
2 | 422 | وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العالمين سورة آل عمران وقال تعالى والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون سورة الزمر وقال حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون سورة الأحقاف وقد قال في قصة إبراهيم عليه السلام فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم سورة العنكبوت وقال في قصة شعيب عليه السلام قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين سورة الأعراف وقال في سورة إبراهيم وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين سورة إبراهيم وقد ذم الله تعالى وتبارك فرعون بكونه رفع نبوة موسى بما تقدم من قتله |
2 | 423 | نفسا بغير حق فقال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين قال فعلتها إذا وأنا من الضالين ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين سورة الشعراء وكان موسى صلى الله عليه وسلم قد تاب من ذلك كما أخبر الله تعالى عنه وغفر له بقوله فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم سورة القصص فإن قيل فإذا كان قد غفر له فلماذا يمتنعون من الشفاعة يوم القيامة لأجل ما بدا منهم فيقول آدم إذا طلبت منه الشفاعة إني نهيت عن أكل الشجرة وأكلت منها نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح فيأتون نوحا فيقول إني دعوت على أهل الأرض دعوة لم أومر بها والخليل يذكر تعريضاته الثلاث التي سماها كذبا وكانت تعريضا وموسى يذكر قتل النفس |
2 | 424 | قيل هذا من كمال فضلهم وخوفهم وعبوديتهم وتواضعهم فإن من فوائد ما يتاب منه أنه يكمل عبودية العبد ويزيده خوفا وخضوعا فيرفع الله بذلك درجته وهذا الإمتناع مما يرفع الله به درجاتهم وحكمة الله تعالى في ذلك أن تصير الشفاعة لمن غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر |
2 | 425 | ولهذا كان ممن امتنع ولم يذكر ذنبا المسيح وإبراهيم أفضل منه وقد ذكر ذنبا ولكن قال المسيح لست هناكم اذهبوا إلى عبد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر وتأخر المسيح عن المقام المحمود الذي خص به محمد صلى الله عليه وسلم هو من فضائل المسيح ومما يقربه إلى الله صلوات الله عليهم أجمعين فعلم أن تأخرهم عن الشفاعة لم يكن لنقص درجاتهم عما كانوا عليه بل لما علموه من عظمة المقام المحمود الذي يستدعى من كمال مغفرة الله للعبد وكمال عبودية العبد لله ما اختص به من غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ولهذا قال المسيح اذهبوا إلى محمد عبدا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فإنه إذا غفر له ما تأخر لم يخف أن يلام إذا ذهب إلى ربه ليشفع وإن كان لم يشفع إلا بعد الإذن بل إذا سجد وحمد ربه بمحامد يفتحها عليه لم يكن يحسنها قبل ذلك فيقال له أي محمد ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع وهذا كله في الصحيحين وغيرهما وأما من قيل له تقدم ولم يعرف أنه غفر له ما تأخر فيخاف أن يكون ذهابه إلى الشفاعة قبل أن يؤذن له في الشفاعة ذنبا فتأخر لكمال خوفه من الله تعالى ويقول أنا قد أذنبت وما غفر لي فأخاف أن أذنب ذنبا آخر فإن النبي صلى الله |
2 | 426 | عليه وسلم قال المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين ومن معاني ذلك أنه لا يؤتى من وجه واحد مرتين فإذا ذاق الذائق ما في الذنب من الألم وزال عنه خاف أن يذنب ذنبا آخر فيحصل له مثل ذلك الألم وهذا كمن مرض من أكلة ثم عوفى فإذا دعى إلى أكل شيء خاف أن يكون مثل ذلك الأول لم يأكله يقول قد أصابني بتلك الأكلة ما أصابني فأخاف أن تكون هذه مثل تلك ولبسط هذه الأمور موضع آخر والمقصود هنا أن الذين ادعوا العصمة مما يتاب منه عمدتهم أنه لو صدر منهم الذنب لكانوا أقل درجة من عصاة الأمة لأن درجتهم أعلى فالذنب منهم أقبح وأنه يجب أن يكون فاسقا فلا تقبل شهادته وأنه حينئذ يستحق العقوبة فلا يكون إيذاؤه محرما وأذى الرسول محرم بالنص وأنه يجب الإقتداء بهم ولا يجوز الإقتداء بأحد في ذنب ومعلوم أن العقوبة ونقص الدرجة إنما يكون مع عدم التوبة وهم معصومون من الإصرار بلا ريب وأيضا فهذا إنما يتأتى في بعض الكبائر دون الصغيرة وجمهور |
2 | 427 | المسلمين على تنزيههم من الكبائر لا سيما الفواحش وما ذكر الله تعالى عن نبي كبيرة فضلا عن الفاحشة بل ذكر في قصة يوسف ما يبين أنه يصرف السوء والفحشاء عن عباده المخلصين وإنما يقتدي بهم فيما أقروا عليه ولم ينهوا عنه وأيضا فالذنوب أجناس ومعلوم أنه لا يجوز منهم كل جنس بل الكذب لا يجوز منهم بحال أصلا فإن ذلك ينافي مطلق الصدق ولهذا ترد شهادة الشاهد للكذبة الواحدة وإن لم تكن كبيرة في أحد قولى العلماء وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد ولو تاب شاهد الزور من الكذب هل تقبل شهادته فيه قولان للعلماء والمشهور عن مالك أنها لا تقبل وكذلك من كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث واحد ثم تاب منه لم تقبل روايته في أحد قوليهم وهو مذهب مالك وأحمد حسما للمادة لأنه لا يؤمن أن يكون أظهر التوبة ليقبل حديثه فلا يجوز أن يصدر من النبي صلى الله عليه وسلم تعمد الكذب ألبتة سواء كان صغيرة أو كبيرة بل قد قال النبي صلى الله عليه وسلم ماينبغي انبي أن تكون له خائنة الأعين وأما قوله صلى الله عليه |
2 | 428 | وسلم لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات كلهن في ذات الله فتلك كانت معاريض فكان مأمورا بها وكانت منه طاعة لله والمعاريض قد تسمى كذبا لكونه أفهم خلاف ما في نفسه وفي الصحيحين عن أم كلثوم قالت لم أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يرخص فيما يقول الناس إنه كذب إلا في ثلاث حديث الرجل لامرأته وإصلاحه بين الناس وفي الحرب |
2 | 429 | قالت فيما يقول الناس إنه كذب وهو المعاريض وأما ما تقوله الرافضة من أن النبي قبل النبوة وبعدها لا يقع منه خطأ ولا ذنب صغير وكذلك الأئمة فهذا مما انفردوا به عن فرق الأمة كلها وهو مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف ومن مقصودهم بذلك القدح في إمامة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لكونهما أسلما بعد الكفر ويدعون أن عليا رضي الله عنه لم يزل مؤمنا وأنه لم يخط قط ولم يذنب قط وكذلك تمام الإثنى عشر وهذا مما يظهر كذبهم وضلالهم فيه لكل ذي عقل يعرف أحوالهم ولهذا كانوا هم أغلى الطوائف في ذلك وأبعدهم عن العقل والسمع ونكتة أمرهم أنهم ظنوا وقوع ذلك من الأنبياء والأئمة نقصا وأن ذلك يجب تنزيههم وعنه وهم مخطئون إما في هذه المقدمة وإما في هذه المقدمة أما المقدمة الأولى فليس من تاب إلى الله تعالى وأناب إليه بحيث صار بعد التوبة أعلى درجة مما كان قبلها منقوصا ولا مغضوضا منه بل هذا مفضل عظيم مكرم وبهذا ينحل جميع ما يوردونه من الشبه وإذا عرف أن أولياء الله يكون الرجل منهم قد أسلم بعد كفره وآمن بعد نفاقه وأطاع بعد معصيته كما كان أفضل أولياء الله من هذه الأمة وهم السابقون الأولون يبين صحة هذا الأصل |
2 | 430 | والإنسان ينتقل من نقص إلى كمال فلا ينظر إلى نقص البداية ولكن ينظر إلى كمال النهاية فلا يعاب الإنسان بكونه كان نطفة ثم صار علقة ثم صار مضغة إذا كان الله بعد ذلك خلقه في أحسن تقويم ومن نظر إلى ما كان فهو من جنس إبليس الذي قال أنا خير منه خلقني من نار وخلقته من طين سورة ص وقد قال تعالى إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين سورة ص فأمرهم بالسجود له إكراما لما شرفه الله بنفخ الروح فيه وإن كان مخلوقا من طين والملائكة مخلوقون من نور وإبليس مخلوق من نار كما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال خلق الله الملائكة من نور وخلق إبليس من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم وكذلك التوبة بعد السيئات قال تعالى إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين سورة البقرة وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه قال لله أشد فرحا بتوبة عبده من رجل أضل راحلته بأرض دوية مهلكة عليها طعامه وشرابه فقال تحت شجرة ينتظر الموت فلما استيقظ إذا بدابته عليها طعامه وشرابه فكيف تجدون فرحه بها قالوا عظيما يا رسول الله قال لله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا براحلته |
2 | 431 | ولهذا قال بعض السلف إن العبد ليفعل الذنب فيدخل به الجنة وإذا ابتلى العبد بالذنب وقد علم أنه سيتوب منه ويتجنبه ففي ذلك من حكمة الله ورحمته بعبده أن ذلك يزيده عبودية وتواضعا وخشوعا وذلا ورغبة في كثرة الأعمال الصالحة ونفرة قوية عن السيئات فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين وذلك أيضا يدفع عنه العجب والخيلاء ونحو ذلك مما يعرض للإنسان وهو أيضا يوجب الرحمة لخلق الله ورجاء التوبة والرحمة لهم إذا أذنبوا وترغيبهم في التوبة وهو أيضا يبين من فضل الله وإحسانه وكرمه ما لا يحصل بدون ذلك كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم |
2 | 432 | وهو أيضا يبين قوة حاجة العبد إلى الإستعانة بالله والتوكل عليه واللجأ إليه في أن يستعمله في طاعته ويجنبه معصيته وأنه لا يملك ذلك إلا بفضل الله عليه وإعانته له فإن من ذاق مرارة الإبتلاء وعجزه عن دفعه إلا بفضل الله ورحمته كان شهود قلبه وفقره إلى ربه واحتياجه إليه في أن يعينه على طاعته ويجنبه معصيته أعظم ممن لم يكن كذلك ولهذا قال بعضهم كان داود صلى الله عليه وسلم بعد التوبة خيرا منه قبل الخطيئة وقال بعضهم لو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه ولهذا تجد التائب الصادق أثبت على الطاعة وأرغب فيها وأشد حذرا من الذنب من كثير من الذين لم يبتلوا بذنب كما في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد فإنه لما قتل رجلا بعد أن قال لا إله إلا الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله أثر هذا فيه حتى كان يمتنع أن يقتل أحدا يقول لا إله إلا الله وكان هذا مما أوجب امتناعه من القتال في الفتنة وقد تكون التوبة موجبة له من الحسنات ما لا يحصل لمن يكن مثله تائبا من الذنب كما في الصحيحين من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه وهو أحد الثلاثة الذين أنزل الله فيهم لقد تاب الله |
2 | 433 | على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاذ يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم ليتوبوا إنه بهم رءوف رحيم سورة التوبة ثم قال وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا صاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم سورة التوبة وإذا ذكر حديث كعب في قضية تبين أن الله رفع درجته بالتوبة ولهذا قال فوالله ما أعلم أحدا ابتلاه الله بصدق الحديث أعظم مما ابتلاني وكذلك قال بعض من كان من أشد الناس عدواة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كسهيل بن عمرو والحارث بن هشام وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان من أشد الكفار هجاء وإيذاء للنبي صلى الله عليه وسلم فلما تاب وأسلم كان من أحسن الناس إسلاما وأشدهم حياء وتعظيما للنبي صلى الله عليه وسلم وكذلك الحارث بن هشام قال الحارث ما نطقت بخطيئة منذ أسلمت ومثل هذا كثير في أخبار التوابين |
2 | 434 | فمن يجعل التائب الذي اجتباها الله وهداه منقوصا بما كان من الذنب الذي تاب منه وقد صار بعد التوبة خيرا مما كان قبل التوبة فهو جاهل بدين الله تعالى وما بعث الله به رسوله وإذا لم يكن في ذلك نفص مع وجود ما ذكر فجميع ما يذكرونه هو مبنى على أن ذلك نقص وهو نقص إذا لم يتب منه أو هو نقص عمن ساواه إذا لم يصر بعد التوبة مثله فأما إذا تاب توبة محت أثره بالكلية وبدلت سيئاته حسنات فلا نقص فيه بالنسبة إلى حاله وإذا صار بعد التوبة أفضل ممن يساويه أو مثله لم يكن ناقصا عنه ولسنا نقول إن كل من أذنب وتاب فهو أفضل ممن لم يذنب ذلك الذنب بل هذا يختلف باختلاف أحوال الناس فمن الناس من يكون بعد التوبة أفضل ومنهم من يعود إلى ما كان ومنهم من لا يعود إلى مثل حاله والأصناف الثلاثة فيهم من هو أفضل ممن لم يذنب ويتب وفيهم من هو مثله وفيهم من هو دونه وهذا الباب فيه مسائل كثيرة ليس هذا موضع تفصيلها ولبسطها موضع آخر والمقصود التنبيه ولهذا كان السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وغيرهم من أئمة المسلمين متفقين على ما دل عليه الكتاب والسنة من أحوال الأنبياء لا يعرف عن أحد منهم القول بما أحدثته المعتزلة والرافضة ومن |
2 | 435 | تبعهم في هذا الباب بل كتب التفسير والحديث والآثار والزهد وأخبار السلف مشحونة عن الصحابة والتابعين بمثل ما دل عليه القرآن وليس فيهم من حرف الآيات كتحريف هؤلاء ولا من كذب بما في الأحاديث كتكذيب هؤلاء ولا من قال هذا يمنع الوثوق أو يوجب التنفير ونحو ذلك كما قال هؤلاء بل أقوال هؤلاء الذين غلوا بجهل من الأقوال المبتدعة في الإسلام وهم قصدوا تعظيم الأنبياء بجهل كما قصدت النصارى تعظيم المسيح وأحبارهم ورهبانهم بجهل فأشركوا بهم واتخذوهم أربابا من دون الله وأعرضوا عن اتباعهم فيما أمروهم به ونهوهم عنه وكذلك الغلاة في العصمة يعرضون عما أمروا به من طاعة أمرهم والإقتداء بأفعالهم إلى ما نهوا عنه من الغلو والإشراك بهم فيتخذونهم أربابا من دون الله يستغيثون بهم في مغيبهم وبعد مماتهم وعند قبورهم ويدخلون فيما حرمه الله تعالى ورسوله من العبادات الشركية التي ضاهوا بها النصارى وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عند موته لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوه قالت عائشة رضي الله عنها ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا وفي الصحيحين أيضا أنه ذكر له في مرضه كنيسة بأرض الحبشة وذكر |
2 | 436 | حسنها وتصاوير فيها فقال إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه التصاوير أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة وفي صحيح مسلم عن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال قبل أن يموت بخمس ألا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك وإني أبرأ إلى كل خليل من خليله ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الله يعنى نفسه وفي السنن عنه أنه قال لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني وفي الموطأ وغيره أنه قال اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وفي المسند وصحيح أبي حاتم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد |
2 | 437 | وفي صحيح مسلم عن أبي هياج الأسدي قال قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن لا أدع قبرا مشرفا إلا سويته ولا تمثالا إلا طمسته فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأرسل علي في خلافته من يفعل مثل ما أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يسوى القبور المشرفة ويطمس التماثيل فإن هذه وهذه من أسباب الشرك وعبادة الأوثان قال الله تعالى لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا سورة نوح قال غير واحد من السلف كان هؤلاء قوما صالحين في قوم نوح فلما ماتوا وعكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم عبدوهم من دون الله فالمشاهد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين من العامة ومن أهل البيت كلها من البدع المحدثة المحرمة في دين الإسلام وإنما أمر الله أن يقصد لعبادته وحده لا شريك له المساجد لا المشاهد قال الله تعالى قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل |
2 | 438 | مسجد وادعوه مخلصين له الدين سورة الأعراف وقال تعالى ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم فيها خالدون إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين سورة التوبة وقال تعالى وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا سورة الجن ومثل هذا في القرآن كثير وزيارة القبور على وجهين زيارة أهل التوحيد المتبعين للرسل وزيارة أهل البدع والشرك فالأولى مقصودها أن يسلم على الميت ويدعى له وزيارة قبره بمنزلة الصلاة عليه إذا مات يقصد بها الدعاء له والله سبحانه يثيب هذا الداعي له عند قبره كما يثيب الداعي إذا صلى عليه وهو على سريره والثانية مقصودها أن يطلب منه الحوائج أو يقسم على الله أو يظن أن دعاء الله عند قبره أقرب إلى الإجابة فهذا كله من البدع المنكرة باتفاق أئمة المسلمين ولم يكن شيء من هذا على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين لهم بإحسان بل كان المسلمون لما فتحوا أرض الشام والعراق وغيرهما إذا وجدوا قبرا يقصد الدعاء عنده غيبوه كما وجدوا بتستر قبر دانيال فحفروا له بالنهار ثلاثة عشر قبرا ودفنوه بالليل في واحد منها وكان مكشوفا وكان الكفار يستسقون به فغيبه المسلمون لأن هذا من الشرك |
2 | 439 | وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها فنهى عن الصلاة إليها لما فيه من مشابهة المشركين الذين يسجدون لها وفي السنن والمسند قال الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام والسبب الذي من أجله نهى عن الصلاة في المقبرة في أصح قولي العلماء هو سد ذريعة الشرك كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وقت غروبها فإنها تطلع بين قرني شيطان والمشركون يسجدون لها حينئذ فنهى عن قصد الصلاة في هذا الوقت لما في ذلك من المشابهة لهم في الصورة وإن اختلف القصد كذلك نهى عن الصلاة في المقبرة لله لما فيه من مشابهة من يتخذ القبور مساجد وأن المصلى الله لا يقصد ذلك سدا للذريعة فأما إذا قصد ليصلي هناك ليدعوا عند القبور ظنا أن هذا الدعاء هناك أجوب فهذا ضلال بإجماع المسلمين وهو مما حرمه الله ورسوله وأبلغ من ذلك أن يدعى ويقسم على الله بالميت وأبلغ من ذلك أن |
2 | 440 | يسأل الله به ونحو ذلك وأبلغ من ذلك أن يسافر إليه من مكان بعيد لهذا القصد أو ينذر له أو لمن عنده دهن أو شمع أو ذهب أو فضة أو قناديل أو ستور فهذا كله من نذور أهل الشرك ولا يجوز مثل هذا النذر باتفاق المسلمين ولا الوفاء به كما ثبت في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه ولا يجوز أن ينذر أحد إلا طاعة ولا يجوز أن ينذرها إلا لله فمن نذر لغير الله فهو مشرك كمن صام لغير الله وسجد لغير الله ومن حج إلى قبر من القبور فهو مشرك بل لو سافر إلى مسجد لله غير المساجد الثلاثة ليعبد الله فيها كان عاصيا لله ورسوله فكيف إذا سافر إلى غير الثلاثة ليشرك بالله وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا |
2 | 441 | ولهذا قال غير واحد من العلماء إن السفر لزيارة المشاهد سفر معصية ومن لم يجوز القصر في سفر المعصية منهم من لم يجوزه لا سيما إذا سمى ذلك حجا وصنفت فيه مصنفات وسميت مناسك حج المشاهد ومن هؤلاء من يفضل قصد المشاهد وحجها والسفر إليها على حج بيت الله الحرام الذي فرض الله حجه على الناس وهذا أمر قد وقع فيه الغلاة في المشايخ والأئمة المنتسبين إلى السنة وإلى الشيعة حتى أن الواحد من هؤلاء في بيته يصلى لله الصلاة المفروضة بقلب غافل لاه ويقرأ القرآن بلا تدبر ولا خشوع وإذا زار قبر من يغلو فيه بكى وخشع واستكان وتضرع وانتحب ودمع كما يقع إذا سمع المكاء والتصدية الذي كان للمشركين عند البيت وكثير من هؤلاء لا يحج لأجل ما أمر الله به ورسوله من حج البيت العتيق بل لقصد زيارة النبي صلى الله عليه وسلم كما يزور شيوخه وائمته ونحو ذلك والأحاديث المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم في زيارة قبره كلها ضعيفة بل موضوعة فلم يخرج أهل الصحيحين والسنن المشهورة شيئا منها ولا استدل بشيء منها أحد من أئمة المسلمين وإنما اعتمدوا على ما رواه أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من رجل |
2 | 442 | يسلم على إلا رد الله على روحي حتى أرد عليه السلام وقد ذكر ابن عبدالبر هذا عاما مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبينه فقال ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام وفي النسائي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله وكل بقبري ملائكة تبلغني عن أمتي السلام وفي السنن سنن أبي داود وغيره عن أوس الثقفي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة فإن صلاتكم معروضة |
2 | 443 | علي قالوا كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت أي قد صرت رميما فقال إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء فهذا المعروف عنه في السنن هو الصلاة والسلام عليه كما أمر الله تعالى بذلك في كتابه بقوله يا أيها الذين آمنوا صلو عليه وسلموا تسليما سورة الأحزاب وقد ثبت في الصحيح أنه قال من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا لكن إذا صلى وسلم عليه من بعيد بلغ ذلك وإذا سلم عليه من قريب سمع هو سلام المسلم عليه ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم إذا أتى أحدهم قبره سلم عليه وعلى صاحبيه كما كان ابن عمر يقول السلام عليك يا رسول الله السلام عليك با أبا بكر السلام عليك يا أبه ولم يكن أحد منهم يقف يدعو لنفسه مستقبل القبر |
2 | 444 | ولهذا اتفق الأئمة الأربعة وغيرهم على أنه إذا سلم عليه وأراد أن يدعو استقبل القبلة ودعا ولا يدعو مستقبل القبر ثم قالت طائفة كأبي حنيفة إذا سلم عليه يستقبل القبلة أيضا ويستدير القبر ويجعله عن يساره وقال الأكثرون مالك والشافعي وأحمد وغيرهم بل عند السلام يستقبل القبر ويستدير الكعبة وأما عند الدعاء فإنما يدعو الله وحده كما يصلي لله وحده فيستقبل القبلة كما يستقبل القبلة إذا دعا بعرفة والصفا والمروة وعند الجمرات وكره مالك بن أنس وغيره أن يقول القائل زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أن هذا اللفظ قد يراد به ما هو منهى عنه من الزيارة البدعية كالزيارة لطلب الحوائج منه فكرهوا أن يتكلم بلفظ يتضمن شركا أحدثه الناس في هذا اللفظ من المعاني الفاسدة وإن كان لفظ الزيارة إذا عنى به الزيارة الشرعية لا بأس به وذكر مالك أنه لم ير أحدا من السلف يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لنفسه وغير هذا من البدع وقال إنما يصلح آخر هذه الأمة ما أصلح أولها ومالك قد أدرك التابعين بالمدينة وغيرها وهم كانوا أعلم خلق الله إذ ذاك بما يجب من حق الله وحق رسوله فإذا كان هذا في حق خير خلق الله وأكرمهم على الله وسيد ولد آدم وصاحب لواء الحمد الذي آدم ومن دونه تحت لوائه يوم القيامة وهو خطيب الأنبياء إذا وفدوا على ربهم وإمام الأنبياء إذا اجتمعوا وهو صاحب المقام المحمود يوم القيامة الذي يغبطه به الأولون والآخرون |
2 | 445 | وهو خاتم النبيين وأفضل المرسلين أرسله الله بأفضل شريعة إلى خير أمة أخرجت للناس وأنزل عليه أفضل كتبه وجعله مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه الذي هدى الله به الخلق وأخرجهم به من الظلمات إلى النور وهداهم به إلى صراط العزيز الحميد وهو الذي فرق الله به بين الحق والباطل وبين الهدى والضلال والغي والرشاد وطريق الجنة وطريق النار وهو الذي قسم الله به عباده إلى شقي وسعيد فالسعيد من آمن به وأطاعه والشقي من كذبه وعصاه وعلق به النجاة والسعادة فلا سبب ينجو به العبد من عذاب الله وينال السعادة في الدنيا والآخرة ممن بلغته دعوته وقامت عليه الحجة برسالته إلا من آمن به واتبع النور الذي أنزل معه قال تعالى ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون سورة الأعراف وقد بين الله على لسانه ما يستحقه الله من الحقوق التي لا تصلح إلا لله وما يستحقه الرسول من الحقوق فقال تعالى إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا سورة الفتح فالإيمان بالله والرسول والتعزير والتوقير |
2 | 446 | للرسول والتسبيح بكرة وأصيلا لله وحده قال تعالى ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون سورة النور فجعل الطاعة لله والرسول والخشية والتقوى لله وحده وقال تعالى ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون سورة التوبة فجعل الإيتاء لله والرسول لأن المراد به الإيتاء الشرعي وهو ما أباحه الله على لسان رسوله بخلاف من آتاه الملك خلقا وقدرا ولم يطع الله ورسوله فيه فإن ذلك مذموم مستحق للعقاب وإن كان قد آتاه الله ذلك خلقا وقدرا وأما من رضي بما آتاه الله ورسوله فهو ممن رضي بما أحله الله ورسوله ولم يطلب ما حرم عليه كالذين قال الله فيهم ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ثم قال ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سورة التوبة ولم يقل ورسوله لأن الله وحده كاف عبده كما قال الله تعالى أليس الله بكاف عبده سورة الزمر وقال الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل سورة آل عمران ثم دعاهم إلى أن يقولوا سيؤتينا الله من فضله ورسوله سورة التوبة فذكر أن الرسول يؤتيهم وأن ذلك من فضل الله وحده لم يقل من فضله وفضل رسوله ثم ذكر قولهم إنا إلى الله راغبون سورة التوبة ولم |
2 | 447 | يقل ورسوله كما قال في الآية الأخرى فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب سورة الشرح وأما ما في القرآن من ذكر عبادته وحده ودعائه وحده والإستعانة به وحده والخوف منه وحده فكثير كقوله ولا يخشون أحدا إلا الله سورة الأحزاب وقوله فإياي فارهبون سورة النحل و وإياي فاتقون سورة البقرة وقوله فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين سورة آل عمران وكذلك قوله فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين سورة الشعراء واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا سورة النساء وأما المحبة فهي لله ورسوله والإرضاء لله والرسول كقوله تعالى أحب إليكم من الله ورسوله سورة التوبة وقوله والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين سورة التوبة فالرسول علينا أن نحبه وعلينا أن نرضيه بل قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين وكذلك الطاعة لله والرسول قال تعالى من يطع الرسول فقد أطاع الله سورة النساء والعبادات بأسرها الصلاة والسجود والطواف والدعاء والصدقة |
2 | 448 | والنسك والذي لا يصلح إلا لله ولم يخص الله بقعة تفعل الصلاة فيها إلا المساجد لا مقبرة ولا مشهدا ولا مغارة ولا مقام نبى ولا غير ذلك ولا خص بقعة غير المساجد بالذكر والدعاء إلا مشاعر الحج لا قبر نبي ولا صالح ولا مغارة ولا غير ذلك ولا يقبل على وجه الأرض شيء عبادة لله إلا الحجر الأسود ولا يتمسح إلا به وبالركن اليماني ولا يستلم الركنان الشاميان وهما من البيت فكيف غيرهما وقد طاف ابن عباس ومعاوية فجعل معاوية يستلم الأركان الأربعة فقال ابن عباس رضي الله عنه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستلم إلا الركنين اليمانيين فقال معاوية ليس من البيت شيء مهجورا فقال ابن عباس رضي الله عنه لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة فقال معاوية صدقت ورجع إلى قوله فالعبادات مبناها على أصلين أحدهما أن لا يعبد إلا الله وحده لا نعبد من دونه شيئا لا ملكا ولا نبيا ولا صالحا ولا شيئا من المخلوقات والثاني أن نعبده بما أمرنا به على لسان رسوله لا نعبده ببدع لم يشرعها الله ورسوله والعبادات تتضمن كمال الحب وكمال الخضوع فمن أحب شيئا من المخلوقات كما يحب الخالق فهو مشرك قال الله تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا |
2 | 449 | لله سورة البقرة وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك قلت ثم أي قال ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قلت ثم أي قال ثم أن تزانى بحليلة جارك فأنزل الله تصديق ذلك والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون سورةالفرقان والنبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بالعبادة في المساجد وذكر فضل الصلاة في الجماعة ورغب في ذلك ولم يأمر قط بقصد مكان لأجل نبي ولا صالح بل نهى عن اتخاذها مساجد فلا يجوز أن تقصد للصلاة فيها والدعاء وهذا كله لتحقيق التوحيد وإخلاص الدين لله فقد قال بعض الناس يا رسول الله ربنا قريب فنناجيه أو بعيد فنناديه فأنزل الله تعالى وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون سورة البقرة |
2 | 450 | وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول من يدعوني فأستجيب له من يستغفرني فأغفر له من يسألني فأعطيه حتى يطلع الفجر فالرسل صلوات الله عليهم وسلامه أمروا الناس بعبادة الله وحده لا شريك له وسؤاله ودعائه ونهوا أن يدعى أحد من دون الله تعالى وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أحب البقاع إلى الله تعالى المساجد وأبغضها إلى الله تعالى الأسواق يعنى البقاع التي كانت تكون في مدينته ونحوها ولم يكن بالمدينة لا حانة ولا كنيسة ولا موضع شرك وهذه المواضع شر من الأسواق وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم شرار الناس الذين تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد هذا إذا بنى المسجد |
2 | 451 | المسمى مشهدا على قبر صحيح فكيف وكثير من هذه المشاهد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين من الصحابة والقرابة وغيرهم كذب وكثير منها مختلف فيه لا يتوثق فيه بنقل ينقل في ذلك مما يوجد بالشام والعراق وخراسان وغير ذلك والسبب في خفائها وكثرة الخلاف فيها أن الله حفظ الدين الذي بعث به رسوله بقوله إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون سورة الحجر واتخاذ هذه معابد ليس من الدين فلهذا لم يحفظ هذه المقامات والمشاهد بل مبنى أمرهم على الجهل والضلال وإنما يستند أهلها إلى منامات تكون من الشياطين أو إلى أخبار إما مكذوبة وإما منقولة عمن ليس قوله حجة والشياطين تضل أهلها كما تضل عباد الأصنام فتارة تكلمهم وتارة تتراءى لهم وتارة تقضى بعض حوائجهم وتارة تصيح وتحرك السلاسل التي فيها القناديل وتطفئ القناديل وتارة تفعل أمورا أخر كما تفعل عبادة الأوثان التي كانت للعرب وهي اليوم تفعل مثل ذلك في أوثان الترك والصين والسودان وغيرهم فيظنون أن ذلك هو الميت أو ملك صور على صورته وإنما هو شيطان أضلهم بالشرك كما يجرى ذلك لعباد الأصنام المصورة على صورة الآدميين وهذا باب واسع ليس هذا موضع استقصائه |
2 | 452 | فصل وأما قوله وأن الأئمة معصومون كالأنبياء في ذلك فهذه خاصة الرافضة الإمامية التي لم يشركهم فيها أحد لا الزيدية الشيعة ولا سائر طوائف المسلمين إلا من هو شر منهم كالإسماعيلية الذين يقولون بعصمة بني عبيد المنتسبين إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر القائلين بأن الإمامة بعد جعفر في محمد بن إسماعيل دون موسى بن جعفر وأولئك ملاحدة منافقون والإمامية الاثنا عشرية خير منهم بكثير فإن الإمامية مع فرط جهلهم وضلالهم فيهم خلق مسلمون باطنا وظاهرا ليسوا زنادقة منافقين لكنهم جهلوا وضلوا واتبعوا أهواءهم وأما أولئك فأئمتهم الكبار العارفون بحقيقة دعوتهم الباطنية زنادقة منافقون وأما |
2 | 453 | عوامهم الذين لم يعرفوا باطن أمرهم فقد يكونون مسلمين وأما المسائل المتقدمة فقد شرك غير الإمامية فيها بعض الطوائف إلا غلوهم في عصمة الأنبياء فلم يوافقهم عليه أحد أيضا حيث ادعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يسهو فإن هذا لا يوافقهم عليه أحد فيما علمت اللهم إلا أن يكون من غلاة جهال النساك فإن بينهم وبين الرافضة قدرا مشتركا في الغلو وفي الجهل والإنقياد لما لا يعلم صحته والطائفتان تشبهان النصارى في ذلك وقد يقرب إليهم بعض المصنفين في الفقه من الغلاة في مسألة العصمة والكلام في أن هؤلاء أئمة فرض الله الإيمان بهم وتلقى الدين منهم دون غيرهم ثم في عصمتهم عن الخطأ فإن كلا من هذين القولين مما لا يقوله إلا مفرط في الجهل أو مفرط في أتباع الهوى أو في كليهما فمن عرف دين الإسلام وعرف حال هؤلاء كان عالما |
2 | 454 | بالإضطرار من دين محمد صلى الله عليه وسلم بطلان هذا القول لكن الجهل لا حد له وهو هنا لم يذكر حجة غير حكاية المذهب فأخرنا الرد إلى موضعه وأما قوله وأخذوا أحكامهم الفروعية عن الأئمة المعصومين الناقلين عن جدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخره فيقال أولا القوم المذكورون إنما كانوا يتعلمون حديث جدهم من العلماء به كما يتعلم سائر المسلمين وهذا متواتر عنهم فعلى بن الحسين يروى تارة عن أبان بن عثمان بن عفان عن أسامة بن زيد قول النبي صلى الله عليه وسلم لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم رواه البخاري ومسلم في الصحيحين وسمع من أبي هريرة |
2 | 455 | قول النبي صلى الله عليه وسلم من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضوا من النار حتى فرجه بفرجه أخرجاه في الصحيحين ويروى عن ابن عباس رضي الله عنه عن رجال من الأنصار رمى بنجم فاستنار رواه مسلم |
2 | 456 | وأبو جعفر محمد بن علي يروى عن جابر بن عبدالله حديث مناسك الحج الطويل وهو أحسن ما روى في هذا الباب ومن هذه الطريق رواه مسلم في صحيحه من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر وأما ثانيا فليس في هؤلاء من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وهو مميز إلا علي رضي الله عنه وهو الثقة الصدوق فيما يخبر به عن النبي صلى الله عليه وسلم كما أن أمثاله من الصحابة ثقات صادقون فيما يخبرون به أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولله الحمد من أصدق الناس حديثا عنه لا يعرف فيهم من تعمد عليه كذبا مع أنه كان يقع من أحدهم من الهنات ما يقع ولهم ذنوب وليسوا معصومين ومع هذا فقد جرب |
2 | 457 | أصحاب النقد والإمتحان أحاديثهم واعتبروها بما تعتبر به الأحاديث فلم يوجد عن أحد منهم تعمد كذبة بخلاف القرن الثاني فإنه كان في أهل الكوفة جماعة يتعمدون الكذب ولهذا كان الصحابة كلهم ثقات باتفاق أهل العلم بالحديث والفقه حتى الذين كانوا ينفرون عن معاوية رضي الله عنه إذا حدثهم على منبر المدينة يقولون وكان لا يتهم في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحتى بسر بن أبي أرطاة مع ما عرف منه روى حديثين رواهما أبو داود وغيره لأنهم معروفون بالصدق |
2 | 458 | عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان هذا حفظا من الله لهذا الدين ولم يتعمد أحد الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم إلا هتك الله ستره وكشف أمره ولهذا كان يقال لو هم رجل بالسحر أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصبح والناس يقولون فلان كذاب وقد كان التابعون بالمدينة ومكة والشام والبصرة لا يكاد يعرف فيهم |
2 | 459 | كذاب لكن الغلط لم يسلم منه بشر ولهذا يقال فيمن يضعف منهم ومن أمثالهم تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه أي من جهة سوء حفظه فيغلط فينسى لا من جهة تعمده للكذب وأما الحسن والحسين فمات النبي صلى الله عليه وسلم وهما صغيران في سن التمييز فروايتهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قليلة وأما سائر الإثنى عشر فلم يدركوا النبي صلى الله عليه وسلم فقول القائل إنهم نقلوا عن جدهم إن أراد بذلك أنه أوحى إليهم ما قاله جدهم فهذه نبوة كما كان يوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما قاله غيره من الأنبياء وإن أراد أنهم سمعوا ذلك من غيرهم فيمكن أن يسمع من ذلك الغير الذي سمعوه منهم سواء كان ذلك من بني هاشم أو غيرهم فأي مزية لهم في النقل عن جدهم إلا بكمال العناية والإهتمام فإنه كل من كان أعظم اهتماما وعناية بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وتلقيها من مظانها كان أعلم بها وليس هذا من خصائص هؤلاء بل في غيرهم من هو أعلم بالسنة |
2 | 460 | من أكثرهم كما يوجد في كل عصر كثير من غير بني هاشم أعلم بالسنة من أكثر بني هاشم فالزهري أعلم بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وأحواله وأقواله وأفعاله باتفاق أهل العلم من أبي جعفر محمد بن علي وكان معاصرا له وأما موسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن |
2 | 461 | علي فلا يستريب من له من العلم نصيب أن مالك بن أنس وحماد بن زيد حماد بن سلمة والليث بن سعد والأوزاعي ويحيى بن سعيد ووكيع بن الجراح وعبدالله ابن |
2 | 462 | المبارك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأمثالهم أعلم بأحاديث النبي صلىالله عليه وسلم من هؤلاء وهذا أمر تشهد به الآثار التي تعاين وتسمع كما تشهد الآثار بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان أعظم فتوحا وجهادا بالمؤمنين وأقدر على قمع الكفار والمنافقين من غيره مثل عثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين ومما يبين ذلك أن القدر الذي نقل عن هؤلاء من الأحكام المسندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ينقل عن أولئك ما هو أضعافه وأما دعوى المدعي أن كل ما أفتى به الواحد من هؤلاء فهو منقول عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم فهذا كذب على القوم رضي الله عنهم أجمعين فإنهم كانوا يميزون بين ما يروونه عن النبي صلى الله عليه وسلم وبين ما يقولونه من غير ذلك وكان علي رضي الله عنه يقول |
2 | 463 | إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فوالله لأن أخر من السماء إلى الأرض أحب إلى من أن أكذب عليه وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة ولهذا كان يقول القول ويرجع عنه ولهذا كانوا يتنازعون في المسائل كما يتنازع غيرهم وينقل عنهم الأقوال المختلفة كما ينقل عن غيرهم وكتب السنة و والشيعة مملوءة بالروايات المختلفة عنهم وأما قوله إن الإمامية يتناقلون ذلك عن الثقات خلفا عن سلف إلى أن تتصل الرواية بأحد المعصومين فيقال أولا إن كان هذا صحيحا فالنقل عن المعصوم الواحد يغنى عن غيره فلا حاجة في كل زمان إلى معصوم وأيضا فإذا كان النقل موجودا فأي فائدة في هذا المنتظر الذي لا ينقل عنه شيء إن كان النقل عن أولئك كافيا فلا حاجة إليه وإن لم يكن كافيا لم يكن ما نقل عنهم كافيا للمتقدى بهم ويقال ثانيا متى ثبت النقل عن أحد هؤلاء كان غايته أن يكون كما لو سمع منه وحينئذ فله حكم أمثاله |
2 | 464 | ويقال ثالثا الكذب على هؤلاء في الرافضة أعظم الأمور لا سيما على جعفر بن محمد الصادق فإنه ما كذب على أحد ما كذب عليه حتى نسبوا إليه كتاب الجفر والبطاقة والهفت واختلاج الأعضاء وجدول الهلال وأحكام الرعود والبروق ومنافع سور القرآن وقراءة القرآن في المنام |
2 | 465 | وما يذكر عنه من حقائق التفسير التي ذكر كثيرا منها أبو عبدالرحمن السلمي وصارت هذه مكاسب للطرقية وأمثالهم حتى زعم بعضهم أن كتاب رسائل إخوان الصفا من كلامه مع علم كل عاقل يفهمها ويعرف الإسلام أنها تناقض دين الإسلام وأيضا فهي إنما صنفت بعد موت جعفر بن محمد بنحو مائتي سنة فإن جعفر بن محمد توفى سنة ثمان وأربعين ومائة وهذه |
2 | 466 | وضعت في أثناء المائة الرابعة لما ظهرت الدولة العبيدية بمصر وبنوا القاهرة فصنفت على مذهب أولئك الإسماعيلية كما يدل على ذلك ما فيها وقد ذكروا فيها ما جرى على المسلمين من استيلاء النصارى على سواحل الشام وهذا إنما كان بعد المائة الثالثة وقد عرف الذين صنفوها مثل زيد بن رفاعة وأبي سليمان بن معشر البستي المعروف بالمقدسي وأبي الحسن علي بن هارون الزنجاني وأبي أحمد النهرجوري والعوفي ولأبي الفتوح المعافى بن زكرياء الجريري صاحب كتاب الجليس والأنيس مناظرة معهم وقد ذكر ذلك أبو حيان التوحيدي في كتاب الإمتاع والمؤانسة |
2 | 467 | وفي الجملة فمن جرب الرافضة في كتابهم وخطابهم علم أنهم من أكذب خلق الله فكيف يثق القلب بنقل من كثر منهم الكذب قبل أن يعرف صدق الناقل وقد تعدى شرهم إلى غيرهم من أهل الكوفة وأهل العراق حتى كان أهل المدينة يتوقون أحاديثهم وكان مالك يقول نزلوا أحاديث أهل العراق منزلة أحاديث أهل الكتاب لا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقال له عبدالرحمن مهدى يا أبا عبدالله سمعنا في بلدكم |
2 | 468 | أربعمائة حديث في أربعين يوما ونحن في يوم واحد نسمع هذا كله فقال له يا عبدالرحمن ومن أين لنا دار الضرب أنتم عندكم دار الضرب تضربون بالليل وتنفقون بالنهار وهذا مع أنه كان في الكوفة وغيرها من الثقات الأكابر كثير لكن لكثرة الكذب الذي كان أكثره في الشيعة صار الأمر يشتبه على من لا يميز بين هذا وهذا بمنزلة الرجل الغريب إذا دخل بلدا نصف أهله كذابون خوانون فإنه يحترس منهم حتى يعرف الصدوق الثقة وبمنزلة الدراهم التي كثر فيها الغش فإنه يحترس عن المعاملة بها من لا يكون نقادا ولهذا كره لمن لا يكون له نقد وتمييز النظر في الكتب التي يكثر فيها الكذب في الرواية والضلال في الآراء ككتب أهل البدع وكره تلقى العلم من القصاص وأمثالهم الذين يكثر الكذب في كلامهم وإن كانوا يقولون صدقا كثيرا فالرافضة أكذب من كل طائفة باتفاق أهل المعرفة بأحوال الرجال |
2 | 469 | فصل وأما قوله ولم يلتفوا إلى القول بالرأي والإجتهاد وحرموا الأخذ بالقياس والإستحسان فالكلام على هذا من وجوه أحدهما أن الشيعة في هذا مثل غيرهم ففي أهل السنة في الرأي والإجتهاد والقياس والإستحسان كما في الشيعة النزاع في ذلك فالزيدية تقول بذلك وتروى فيه الروايات عن الأئمة الثاني أن كثيرا من أهل السنة العامة والخاصة لا تقول بالقياس فليس كل من قال بإمامة الخلفاء الثلاثة قال بالقياس بل المعتزلة البغداديون لا يقولون بالقياس |
2 | 470 | والفقهاء أهل الظاهر كداود بن علي وأتباعه وطائفة من أهل البيت والصوفية لا يقولون بالقياس وحينئذ فإن كان القياس باطلا أمكن الدخول في السنة وترك القياس وإن كان حقا أمكن الدخول في أهل السنة والأخذ بالقياس الثالث أن يقال القول بالرأي والإجتهاد والقياس والإستحسان خير من الأخذ بما ينقله من يعرف بكثرة الكذب عمن يصيب ويخطئ نقل غير مصدق عن قائل غير معصوم ولا يشك عاقل أن رجوع مثل مالك وابن أبي ذئب وابن الماجشون والليث بن سعد والأوزاعي |
2 | 471 | والثوري وابن أبي ليلى وشريك وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وزفر والحسن بن زياد اللؤلؤي والشافعي والبويطي والمزني وأحمد بن حنبل وإسحاق بن |
2 | 472 | راهويه وأبي داود السجستاني والأثرم وإبراهيم الحربي والبخاري وعثمان بن سعيد الدارمي وأبي بكر بن خزيمة ومحمد بن جرير الطبري ومحمد بن نصر المروزي وغير هؤلاء إلى إجتهادهم واعتبارهم مثل أن يعلموا سنة النبي صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه ويجتهدوا في تحقيق مناط الأحكام وتنقيحها وتخريجها خير لهم من أن يتمسكوا بنقل الروافض عن العسكريين وأمثالهما فإن الواحد من هؤلاء لأعلم بدين الله ورسوله من العسكريين أنفسهما فلو أفتاه أحدهما بفتيا |
2 | 473 | كان رجوعه إلى اجتهاده أولى من رجوعه إلى فتيا أحدهما بل ذلك هو الواجب عليه فكيف إذا كان ذلك نقلا عنهما من مثل الرافضة والواجب على مثل العسكريين وأمثالهما أن يتعلموا من الواحد من هؤلاء ومن المعلوم أن علي بن الحسين وأبا جعفر محمد بن علي وابنه جعفر بن محمد كانوا هم العلماء الفضلاء وأن من بعدهم من الإثنى عشر لم يعرف عنه من العلم ما عرف من هؤلاء ومع هذا فكانوا يتعلمون من علماء زمانهم ويرجعون إليهم حتى قال أبو عمران بن الأسيب القاضي البغدادي أخبرنا أصحابنا أنه ذكر ربيعة بن أبي عبدالرحمن جعفر بن محمد وأنه تعلم العلوم فقال ربيعة إنه |
2 | 474 | اشترى حائطا من حيطان المدينة فبعث إلي حتى أكتب له شرطا في ابتياعه نقله عنه محمد بن حاتم بن ريحويه البخاري في كتاب إثبات إمامة الصديق فأما تحقيق المناط فهو متفق عليه بين المسلمين وهو أن ينص الله على تعليق الحكم بمعنى عام كلي فينظر في ثبوته في آحاد الصور أو أنواع ذلك العام كما نص على اعتبار العدالة وعلى استقبال الكعبة وعلى تحريم الخمر والميسر وعلى حكم اليمين وعلى تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير ونحو ذلك فينظر في الشراب المتنازع فيه هل هو من الخمر أم لا كالنبيذ المسكر وفي اللعب المتنازع فيه كالنرد والشطرنج هل هو من الميسر أم لا وفي اليمين المتنازع فيها كالحلف بالحج وصدقة المال والعتق والطلاق والحرام والظهار هل هي داخلة في الأيمان فتكفر أم في العقود المحلوف بها فيلزم ما حلف |
2 | 475 | به أم لا يدخل لا في هذا ولا في هذا فلا يلزمه شيء بحال كما ينظر فيما وقعت فيه دم أو ميتة أو لحم خنزير من الماء والمائعات ولم يتغير لونه ولا طعمه بل استهلت النجاسات فيه واستحالت أو رفعت منه واستحال فيه ما خالطه من أجزائها فينظر في ذلك هل يدخل في مسمى الماء المذكور في القرآن والسنة أو في مسمى الميتة والدم ولحم الخنزير وأما تنقيح المناط وتخريجه ففيهما نزاع وهذا الإمامي لم يذكر أصلا حجة على بطلان الإجتهاد والرأي والقياس ليرد ذلك بل ذكر أن طائفته لا تقول بذلك وهذ يدل على جهلهم بالإستنباط والإستخراج وعدم معرفتهم بما في الشريعة من الحكم والمعاني وعدم معرفتهم بالجمع بي المتماثلين والفرق بين المختلفين وهم بمعاني القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم جهال أيضا فهم جهال بأصول الشرع الكتاب والسنة والإجماع بمنصوص ذلك ومستنبطه وإنما عمدتهم على نقل عمن يقلدونه وهذا حال الجهال المقلدين لآحاد العلماء المستدلين ثم من سواهم ممن يقلد العلماء كمالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم له معرفة بأقوال هؤلاء وبطرق يميزون بها بين صحيح أقوالهم وضعيفها ومعرفة بأدلتهم ومآخذهم وأما الرافضة فلا يميزون بين ما يصح نقله عن أئمتهم وما لا يصح |
2 | 476 | ولا يعرفون أدلتهم ومآخذهم بل هم من أهل التقليد بما يقلدون فيه وهم يعيبون هؤلاء الجمهور بالإختلاف وفيما ينقلونه عمن يقلدونه من الإختلاف وفيما لا ينقلونه عمن يقلدونه من الإختلاف ما لا يكاد يحصى الرابع أن يقال لا ريب أن ما ينقله الفقهاء عن مثل أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم هو أصح مما ينقله الروافض عن مثل العسكريين ومحمد بن علي الجواد وأمثالهم ولا ريب أن هؤلاء أعلم بدين النبي صلى الله عليه وسلم من أولئك فمن عدل عن نقل الأصدق عن الأعلم إلى نقل الأكذب عن المرجوح كان مصابا في دينه أو عقله أو كليهما فقد تبين أن ما حكاه عن الإمامية مفضلا لهم به ليس فيه شيء من خصائصهم إلا القول بعصمة الأئمة وإنما شاركهم فيه من هو شر منهم وما سواه حقا كان أو باطلا فغيرهم من أهل السنة القائلين بخلافة الثلاثة يقول به وما اختصت به الإمامية من عصمة الأئمة فهو في غاية الفساد والبعد عن العقل والدين وهو أفسد من اعتقاد كثير |
2 | 477 | من النساك في شيوخهم أنهم محفوظون وأضعف من اعتقاد كثير من قدماء الشاميين أتباع بني أمية أن الإمام تجب طاعته في كل شيء وأن الله إذا استخلف إماما تقبل منه الحسنات وتجاوز له عن السيئات لأن الغلاة في الشيوخ وإن غلوا في شيخ فلا يقصرون الهدى عليه ولا يمنعون اتباع غيره ولا يكفرون من لم يقل بمشيخته ولا يقولون فيه من العصمة ما يقوله هؤلاء اللهم إلا من خرج عن الدين بالكلية فذاك في الغلاة في الشيوخ كالنصيرية والإسماعيلية والرافضة فبكل حال الشر فيهم أكثر من غيرهم والغلو فيهم أعظم وشر غيرهم جزء من شرهم وأما غالية الشاميين أتباع بني أمية فكانوا يقولون إن الله إذا استخلف خليفة تقبل منه الحسنات وتجاوز له عن السيئات وربما قالوا إنه لا يحاسبه |
2 | 478 | ولهذا سأل الوليد بن عبدالملك عن ذلك بعض العلماء فقالوا له يا أمير المؤمنين أنت أكرم على الله أم داود وقد قال له يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب سورة ص وكذلك سؤال سليمان بن عبدالملك عن ذلك لأبي حازم المدني في موعظته المشهورة له فذكر له هذه الآية ومع خطأ هؤلاء وضلالهم فكانوا يقولون ذلك في طاعة إمام منصوب قد أوجب الله طاعته في موارد الإجتهاد كما يجب طاعة والي |
2 | 479 | الحرب وقاضي الحكم لا يجعلون أقواله شرعا عاما يجب على كل أحد ولا يجعلونه معصوما من الخطأ ولا يقولون إنه يعرف جميع الدين لكن غلط من غلط منهم من جهتين من جهة أنهم كانوا يطيعون الولاة طاعة مطلقة ويقولون إن الله أمرنا بطاعتهم الثانية قول من قال منهم إن الله إذا استخلف خليفة تقبل منه الحسنات وتجاوز له عن السيئات وأين خطأ هؤلاء من ضلال الرافضة القائلين بعصمة الأئمة ثم قد تبين مع ذلك أن ما نفردوا به عن جمهور أهل السنة كله خطأ وما كان معهم من صواب فهو قول جمهور أهل السنة أو بعضهم ونحن لسنا نقول إن جميع طوائف أهل السنة مصيبون بل فيهم المصيب والمخطئ لكن صواب كل طائفة منهم أكثر من صواب الشيعة وخطأ الشيعة أكثر وأما ما انفردت به الشيعة عن جميع طوائف السنة فكله خطأ وليس معهم صواب إلا وقد قاله بعض أهل السنة فهذا القدر في هذا المقام يبطل به ما ادعاه من رجحان قول الإمامية فإنه بهذا القدر يتبين أن مذهب أهل السنة أرجح ولكل مقام مقال |
2 | 480 | وقد يقال إن الإيمان أرجح من الكفر إذا احتيج إلى المفاضلة عند من يظن أن ذلك أرجح وكذلك يقال في الخير والشر قال تعالى ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا سورة النساء وقال تعالى إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون سورة الجمعة وقال تعالى قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم سورة النور وقال لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلك خير لكم سورة النور بل قد يفضل الله سبحانه نفسه على ما عبد من دونه كقوله ءآلله خير أما يشركون سورة النمل وقول المؤمنين للسحرة والله خير وأبقى سورة طه وكذلك قد تبين أن الكفار أكثر جرما إذا وقعت المفاضلة قال تعالى يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير سورة البقرة ثم قال وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل سورة البقرة وهذه الآية نزلت لما عير المشركون سريه المسلمين بأنهم |
2 | 481 | قتلوا رجلا في الشهر الحرام وهو ابن الحضرمي فقال الله تعالى يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ثم بين أن ذنوب المشركين أعظم عند الله وأما في جانب التفضيل فقال تعالى ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا سورة النساء وقال تعالى قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل سورة المائدة |
2 | 482 | فصل ثم قال هذا الإمامي أما باقي المسلمين فقد ذهبوا كل مذهب فقال بعضهم وهم جماعة الأشاعرة إن القدماء كثيرون مع الله تعالى هي المعاني يثبتونها موجودة في الخارج كالقدرة والعلم وغير ذلك فجعلوه تعالى مفتقرا في كونه عالما إلى ثبوت معنى هو العلم وفي كونه قادرا إلى ثبوت معنى هو القدرة وغير ذلك ولم يجعلوه قادرا لذاته ولا عالما لذاته ولا حيا لذاته بل لمعان قديمة يفتقر في هذه الصفات إليها فجعلوه محتاجا ناقصا في ذاته كاملا بغيره تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ولا يقولون هذه الصفات ذاتية واعترض شيخهم فخر الدين الرازي عليهم بأن قال إن النصارى كفروا بأن قالوا القدماء ثلاثة والأشاعرة أثبتوا قدماء تسعة |
2 | 483 | فيقال الكلام على هذا من وجوه أحدها أن هذا كذب على الأشعرية ليس فيهم من يقول إن الله ناقص بذاته كامل بغيره ولا قال الرازي ما ذكرته من الإعتراض عليهم بل هذا الإعتراض ذكره الرازي عمن اعترض به واستهجن الرازي ذكره |
2 | 484 | وهو اعتراض قديم من اعتراضات نفاة الصفات حتى ذكره الإمام أحمد في الرد على الجهمية فقال قالت الجهمية لما وصفنا الله بهذه الصفات إن زعمتم أن الله لم يزل ونوره والله وقدرته والله وعظمته فقد قلتم بقول النصارى حين زعمتم أن الله لم يزل ونوره ولم يزل وقدرته قلنا لا نقول إن الله لم يزل وقدرته ولم يزل ونوره ولكن نقول لم يزل الله بقدرته ونوره لا متى قدر ولا كيف قدر فقالوا لا تكونون موحدين أبدا حتى تقولوا كان الله ولا شيء فقلنا نحن نقول قد كان ولا شيء ولكن إذا قلنا إن الله لم يزل بصفاته كلها أليس إنما نصف إلها واحدا بجميع صفاته وضربنا لهم في ذلك مثلا فقلنا أخبرونا عن هذه النخلة أليس لها |
2 | 485 | جذع وكرب وليف وسعف وخوص وجمارا واسمها اسم واحد وسميت نخلة بجميع صفاتها فكذلك الله وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد لانقول إنه كان في وقت من الأوقات ولا يقدر حتى خلق قدرة والذي ليس له قدرة هو عاجز ولا نقول قد كان في وقت من الأوقات ولا يعلم حتى خلق لنفسه علما والذي لا يعلم هو جاهل ولكن نقول لم يزل الله عالما قادرا مالكا لا متى ولا كيف وقد سمى الله رجلا كافرا اسمه الوليد بن المغيرة المخزومي فقال ذرني ومن خلقت وحيدا سورة المدثر وقد كان هذا الذي سماه وحيدا له عينان وأذنان ولسان وشفتان ويدان ورجلان وجوارح كثيرة فقد سماه الله وحيدا بجميع صفاته فكذلك الله وله المثل الأعلى هو بجميع صفاته إله واحد وهذا الذي ذكره الإمام أحمد يتضمن أسرار هذه المسائل وبيان |
2 | 486 | الفرق بين ما جاءت به الرسل من الإثبات الموافق لصريح العقل وبين ما تقوله الجهمية وبين أن صفاته داخلة في مسمى أسمائه الثاني أن يقال هذا القول المذكور ليس هو قول الأشعري ولا جمهور موافقيه إنما هو قول مثبتى الحال منهم الذين يقولون إن العالمية حال معللة بالعلم فيجعلون العلم يوجبه حال آخر ليس هو العلم بل هو كونه عالما وهذا قول القاضي أبي بكر بن الطيب والقاضي أبي يعلى وأول قول أبي المعالي وأما جمهور مثبتة الصفات فيقولون إن العلم هو كونه عالما ويقولون لا يكون عالما إلا بعلم ولا قادرا إلا بقدرة أي يمتنع أن يكون عالما من لا علم له وأن يكون قادرا من لا قدرة له وأن يكون حيا من لا حياة له وعندهم علمه هو كونه عالما وقدرته هو كونه قادرا وحياته هو كونه حيا وهذا في الحقيقة قول أبي الحسين البصري وغيره من حذاق المعتزلة ولا ريب أن هذا معلوم ضرورة فإن وجود اسم الفاعل بدون مسمى |
2 | 487 | المصدر ممتنع وهذا كما لو قيل مصل بلا صلاة وصائم بلا صيام وناطق بلا نطق فإذا قيل لا يكون ناطق إلا بنطق ولا مصل إلا بصلاة لم يكن المراد أن هنا شيئين أحدهما الصلاة والثاني حال معلل بالصلاة بل المصلى لا بد أن يكون له صلاة وهم أنكروا قول نفاة الصفات الذين يقولون هو حي لا حياة له وعالم لا علم له وقادر لا قدرة له فمن قال هو حي عليم قدير بذاته وأراد بذلك أن ذاته مستلزمة لحياته وعلمه وقدرته لا يحتاج في ذلك إلى غيره فهذا قول مثبتة الصفات وإن أراد بذلك أن ذاته مجردة ليس لها حياة ولا علم ولا قدرة فهذا هو القول المنكر من أقوال نفاة الصفات وهذا الكلام الذي قاله هذا قد سبقه إله المعتزلة وهذا اللفظ وجدته في كلام أبي الحسين البصري ومع هذا من تدبر كلام أبي الحسين وأمثاله وجده مضطرا إلى إثبات الصفات وأنه لا يمكنه أن يفرق بين قوله وبين قول المثبتين بفرق محقق فإنه يثبت كونه حيا وكونه عالما وكونه قادرا ولا يجعل هذا هو هذا ولا هذا هو هذا ولا هذه الأمور |
2 | 488 | هي الذات فقد أثبت هذه المعاني الزائدة على الذات المجردة وقد بسطنا هذا في غيره هذا الموضع الوجه الثالث أن يقال أصل هذا القول هو قول مثبتة الصفات وهذا لا تختص به الأشعرية بل هو قول جميع طوائف المسلمين إلا الجهمية كالمعتزلة ومن وافقهم من الشيعة وقد قدمنا أن هذا القول هو قول قدماء الإمامية فإن كان خطأ فأئمة الإمامية أخطأوا وإن كان صوابا فمتأخروهم أخطأوا الوجه الرابع أن يقال قول القائل إنهم أثبتوا قدماء كثيرين لفظ مجمل موهم القول أنهم أثبتوا آلهة غير الله في القدم أو أثبتوا موجودات منفصلة قديمة مع الله أم أثبتوا لله صفات الكمال القائمة به كالحياة والعلم والقدرة فإن قلت أثبتوا آلهة غير الله أو موجودات قديمة منفصلة عن الله |
2 | 489 | كان هذا بهتانا عليهم والمشنع وإن لم يقصد هذا لكن لفظه فيه إبهام وإيهام وإن قلت أثبتوا له صفات قائمة به قديمة بقدمه وهي صفات الكمال كالحياة والعلم والقدرة فهذا هو الحق وهل ينكر هذا إلا مخذول مسفسفط فمن أنكر هذه الصفات وقال هو حي بلا حياة وعالم بلا علم وقادر بلا قدرة كان قوله ظاهر البطلان وكذلك إن قال علمه هو قدرته وقدرته علمه وإن قال مع ذلك إنه هو العلم والقدرة فجعل الموصوف هو الصفة وهذه الصفة هي الأخرى كما يوجد مثل ذلك في أقوال نفاة الصفات من الفلاسفة والمعتزلة فنفس تصور قولهم على الحقيقة يبين فساده والكلام عليهم وعلى شبههم مبسوط في غير هذا الموضع الوجه الخامس قولك جعلوا قدماء مع الله عز وجل ليس بصواب فإن هذه المعاني ليست خارجة عن مسمى اسم الله عند مثبتة الصفات بل قد يقولون هي زائدة على الذات أي على الذات |
2 | 490 | المجردة عن الصفات التي يثبتها النفاة لا على الذات المتصفة بالصفات واسم الله سبحانه يتناول الذات المتصفة بالصفات ليس هو اسما للذات المجردة حتى يقولوا نحن نثبت قدماء مع الله تعالى وكيف وهم لا يجوزون أن يقال إن الصفة غير الموصوف فكيف يقولون هي مع الله بل طائفة من المثبتة كابن كلاب لا تقول عن الصفات وحدها إنها قديمة حتى لاتقول بتعدد القدماء لما منعت النفاة هذا الإطلاق بل تقول الله بصفاته قديم الوجه السادس قولك فجعلوه مفتقرا في كونه عالما إلى ثبوت معنى هو العلم فيقال أولا هذا إنما يقال على قول مثبتة الحال وأما قول الجمهور فعندهم كونه عالما هو العلم وبتقدير أن يقال كونه عالما مفتقرا إلى العلم الذي هو لازم لذاته ليس في هذا إثبات فقر له إلى غير |
2 | 491 | ذاته فإن ذاته مستلزمة للعلم والعلم مستلزم لكونه عالما فذاته هي الموجبة لهذا ولهذا فإذا قدر أنها أوجبت الإثنين كان أعظم من أن توجب أحدهما إذا لم يكن أحدهما نقصا ومعلوم أن العلم كمال وكونه عالما كمال فإذا أوجبت ذاته هذا وهذا كان كما لو أوجبت الحياة والقدرة السابع قوله جعلوه مفتقرا في كونه عالما إلى ثبوت معنى هو العلم عبارة ملبسة فإن لفظ الإفتقار يشعر بأنه محتاج إلى من يجعله عالما يفيده العلم وهذا باطل وإنما ثبوت هذا بطريق اللزوم لذاته فذاته موجبة لعلمه ولكونه عالما ومعنى كونها موجبة لذلك أي مستلزمة له بمعنى أنه لا تكون ذاته إلا عالمة لا بمعنى أنها أبدعت العلم أو فعلته ومن أثبت المعنيين قال لا يكون عالما حتى يكون له علم وهو عالم قطعا فله علم فهو يجعل ذلك من باب الإستدلال ويستدل بكونه عالما على العلم ويقول إن ذاته أوجبت ذلك لا أنه هنا شيء غير ذاته جعلته عالما أو جعلت له علما ولو قدر أنها أوجبته بواسطة فموجب الموجب موجب كما أنها أوجبت كونه حيا وكونه عالما والعلم مشروط بالحياة فلا يقال إنه يفتقر في كونه عالما إلى غيره |
2 | 492 | فإن هذه الأمور المشروط بعضها ببعض كلها من لوازم ذاته لا يفتقر ثبوتها إلى غيره الوجه الثامن قوله ولم يجعلوه قادرا لذاته ولا عالما لذاته بل لمعان قديمة إن أراد بذلك أنهم لا يجعلون ذاته علما وقدرة أو لا يجعلونها عالمة قادرة وليس لها علم ولا قدرة فهذا صحيح وهو عين الحق وإن أراد أنهم لا يجعلون ذاته مستلزمة لكونه عالما قادرا ولا هي الموجبة لكونه عالما قادرا فهذا كذب عليهم بل ذاته هي الموجبة لذلك كما أنها هي الموجبة لكونه عالما مع كونها موجبة لكونه حيا ولا يكون عالما حتى يكون حيا وكذلك يقول هؤلاء لا يكون عالما حتى يكون له علم التاسع قوله لم يجعلوه عالما لذاته ولا قادرا لذاته إن أراد أنهم لم يجعلوه عالما قادرا لذات مجردة عن العلم والقدرة كما يقول نفاة الصفات إنه ذات مجردة عن الصفات فهذا صحيح وهو عين |
2 | 493 | الحق لأن الذات المجردة عن العلم والقدرة لا حقيقة لها في الخارج ولا هي الله ولا تستحق العبادة وإن أراد أنهم لم يجعلوه عالما قادرا لذاته المستلزمة للعلم والقدرة فهذا غلط عليهم بل نفس ذاته الموجبة لعلمه وقدرته هي التي أوجبت كونه عالما قادرا وأوجبت علمه وقدرته وجعلت العلم والقدرة توجب كونه عالما قادرا فإن كل هذه الأمور متلازمة وذاته المتصفة بهذه الصفات هي الموجبة لهذا كله لا تفتقر في ذلك إلى شيء مباين لها العاشر قوله لمعان لقديمة يفتقر في هذه الصفات إليها ليس هو قولهم فإن المعاني القديمة هي الصفات عندهم وأما الخبر عن ذلك فيقولون هو الوصف ولا ريب أنه لا يمكن وصف الموصوف بأنه عالم إلا أن يكون له علم ولكن هو سبحانه الموجب لتلك المعاني القديمة القائمة به فإذا كان لا يوصف بالعلم والقدرة والحياة إلا بها وهو الموجب لها لم يكن مفتقرا إلى غيره كما أنه إذا لم يوصف بالعلم إلا إذا كان موصوفا بالحياة وهو الموجب للحياة لم يكن مفتقرا إلى غيره ولو قال لمعان قديمة تستلزم هذه الصفات ثبوتها وذاته |
2 | 494 | مستلزمة لهذه وهذه وتلك المعاني مستلزمة لثبوت هذه الصفات كان كلاما صحيحا فالتلازم حاصل من الجهات الثلاث الحادي عشر قوله فجعلوه محتاجا ناقصا في ذاته كاملا بغيره كلام باطل فإنه هو الذات الموصوفة بهذه الصفات فليس هنا شيء يمكن تقدير حاجته إلى هذه الصفات إلا الذات المجردة وتلك لا وجود لها في الخارج فليس في الخارج ذات مجردة عن هذه الصفات حتى توصف بحاجة أو غنى وذات الله مستلزمة لهذه الصفات والصفات الملزومة لذات الموصوف التي لا يكون إلا بها ليس له تحقق دونها حتى يقال إنه محتاج ناقص بل حقيقة الأمر أن الذات المجردة عن صفات الكمال ناقصة بدونها محتاجة إلى صفات الكمال فهذا حق لكن تلك الذات المجردة ليست هي الله بل لا حقيقة لها في الخارج وأيضا فهم لا يطلقون على الصفات لفظ الغير الثاني عشر إن قول القائل إن النصارى كفرو بأن قالوا القدماء ثلاثة والأشاعرة أثبتوا قدماء تسعة كلام باطل فإن الله لم يكفر النصارى بقولهم القدماء ثلاثة بل قال تعالى لقد كفر الذين قالوا |
2 | 495 | إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام سورة المائدة فقد بين سبحانه أنهم كفروا بقولهم إن الله ثالث ثلاثة لقوله بعد ذلك ومامن إله إلا إله واحد ولم يقال ما من قديم إلا قديم واحد ثم أتبع ذلك بذكر حال المسيح وأمه لأنهما هما الآخران اللذان اتخذوهما إلهين كما بين ذلك في الآية الأخرى بقوله وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله سورة المائدة فهذه الآية موافقة لسياق تلك الآية وفي ذلك بيان أن الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة قالوا إنه ثالث ثلاثة آلهة هو والمسيح وأم المسيح وليس في القرآن ذكر قدماء ثلاثة ولا صفات ثلاثة بل ليس في الكتاب ولا في السنة ذكر القديم في أسماء الله تعالى وإن كان المعنى صحيحا لكن المقصود هنا بيان أن ما ذكروه لم يكفر الله تعالى النصارى به |
2 | 496 | الثالث عشر أنه هب أن النصارى كفروا بقولهم إنه ثالث ثلاثة قدماء فالصفاتية لا تقول إن الله تاسع تسعة قدماء بل اسم الله تعالى عندهم يتضمن صفاته فليست صفاته خارجة عن مسمى اسمه بل إذا قال القائل آمنت بالله أو دعوت الله كانت صفاته داخلة في مسمى اسمه وهم لا يطلقون عليها أنها غير الله فكيف يقولون إن الله تاسع تسعة أو ثالث ثلاثة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم من خلف بغير الله فقد أشرك وثبت في الصحيح الحلف بعزة الله ولعمر الله فعلم أن الحلف بذلك ليس حلفا بما يقال إنه غير الله |
2 | 497 | الرابع عشر إن حصر الصفات في ثمانية وإن كان يقوله بعض المثبتين من الأشعرية ونحوهم فالصواب عند جماهير المثبتة وأئمة الأشعرية أن الصفات لا تنحصر في ثمانية بل ولا يحصرها العباد في عدد وحينئذ فنقل الناقل عنهم أنه تاسع تسعة باطل لو كان هذا مما يقال الخامس عشر أن النصارى أثبتوا أقانيم وقالوا إنها ثلاثة جواهر يجمعها جوهر واحد وإن كل واحد إله يخلق ويرزق والمتحد بالمسيح هو أقنوم الكلمة والعلم وهو الإبن وهذا القول متناقض في نفسه فإن المتحد إن كان صفة فالصفة لا تخلق ولا ترزق وهي أيضا لا تفارق الموصوف وإن كان هو الموصوف فهو الجوهر الواحد وهو الأب فيكون المسيح هو الأب وليس هذا قولهم |
2 | 498 | فإين هذا ممن يقول الإله واحد وله الأسماء الحسنى الدالة على صفاته العلى ولا يخلق غيره ولا يعبد سواه فبين المذهبين من الفرق أعظم مما بين القدم والفرق ومما افترته الجهمية على المثبتة أن ابن كلاب لما كان من المثبتين للصفات وصنف الكتب في الرد على النفاة وضعوا على أخته حكاية أنها كانت نصرانية وأنه لما أسلم هجرته فقال لها يا أختي إني أريد أن أفسد دين المسلمين فرضيت عنه لذلك ومقصود المفترى بهذه الحكاية أن يجعل قوله بإثبات الصفات هو قول النصارى وأخذ هذه الحكاية بعض السالمية و بعض أهل الحديث والسنة يذم بها ابن كلاب لما أحدثه من القول في مسألة القرآن ولم يعلم أن الذين عابوه بها هم أبعد عن الحق في مسألة القرآن وغيرها منه وأنهم عابوه بما تمدح أنت قائله وعيب ابن |
2 | 499 | كلاب عندك كونه لم يكمل القول به بل بقيت عليه بقية من كلامهم وهذا نظير ما عمله ابن عقيل في مسألة القرآن فإنه أخذ كلام المعتزلة الذي طعنوا به على الأشعرية في كونهم يقولون هذا القرآن ليس كلام الله بل عبارة عنه فطعن به هو على الأشعرية ومقصود المعتزلة بذلك إثبات أن القرآن مخلوق والأشعرية خير منهم في نفى الخلق عن القرآن ولكن عيبهم في تقصيرهم في إكمال السنة وكذلك بعض أهل الحديث السالمية المصنفين في مثالب ابن كلاب والأشعري وابن كرام ذكروا حكايات بعضها كذب قطعا وهي مما وضعته المعتزلة أعداء هؤلاء عليهم لكونهم يثبتون الصفات والقدر فجاء هؤلاء فذكروا تلك الحكايات ومقصودهم التنفير عما اعتقدوا في أقوالهم من الخطاء وتلك الحكايات وضعها من هو أبعد عن السنة منهم وكذلك السالمية أتباع الشيخ أبي الحسن بن سالم هم في غالب أصولهم على قول أهل السنة والجماعة لكن لما وقع في بعض أقوالهم من الخطاء زاد في الرد عليهم من صنف في الرد عليهم حتى رد عليهم قطعة مما قالوه من الحق |
2 | 500 | فصل قال الرافضي المصنف وقالت جماعة الحشوية والمشبهة إن الله تعالى جسم له طول وعرض وعمق وأنه يجوز عليه المصافحة وأن الصالحين من المسلمين يعانقونه في الدنيا وحكى الكعبي عن بعضهم أنه كان يجوز رؤيته في الدنيا وأنه يزورهم ويزورونه وحكى عن داود الطائي أنه قال أعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عما وراء ذلك وقال إن معبودي جسم ولحم ودم وله جوارح وأعضاء كيد ورجل ولسان وعينين وأذنين وحكي عنه أنه قال هو أجوف من أعلاه إلى صدره مصمت ما |
2 | 501 | سوى ذلك وله شعر قطط حتى قالوا اشتكت عيناه فعادته الملائكة وبكى على طوفان نوح حتى رمدت عيناه وأنه يفضل من العرش من كل جانب أربع أصابع فيقال الكلام على هذا من وجوه أحدها أن يقال هذا اللفظ بعينه أن الله جسم له طول وعرض وعمق أول من عرف أنه قاله في الإسلام شيوخ الإمامية كهشام بن الحكم وهشام بن سالم كما تقدم ذكره وهذا مما اتفق عليه نقل الناقلين للمقالات في الملل والنحل من جميع الطوائف مثل أبي عيسى الوراق |
2 | 502 | وزرقان وابن النوبختى وأبي الحسن الأشعري وابن حزم والشهرستاني وغير هؤلاء ونقل ذلك عنهم موجود في كتب المعتزلة والشيعة والكرامية والأشعرية وأهل الحديث وسائر الطوائف وقالوا أول من قال إن الله جسم هشام بن الحكم ونقل الناس عن الرافضة هذه المقالات وما هو أقبح منها فنقلوا ما ذكره الأشعري وغيره في كتب المقالات عن بيان بن سمعان التميمي الذي تنتسب إليه البيانية من غالية الشيعة أنه كان يقول إن الله على صورة الإنسان وإنه يهلك كله إلا وجهه وادعى بيان أنه يدعو الزهرة فتجيبه وأنه يفعل ذلك بالإسم الأعظم فقتله خالد بن عبدالله |
2 | 503 | القسري وحكى عنهم أن كثيرا منهم يثبت نبوة بيان بن سمعان ثم يزعم كثير منهم أن أبا هاشم عبدالله بن محمد بن الحنفية نص على نبوة بيان بن سمعان وجعله إماما ونقلوا عن المغيرية أصحاب المغيرة بن سعيد أنهم يزعموه أنه كان يقول إنه نبي وأنه يعلم اسم الله الأكبر وأن معبودهم رجل من نور على رأسه تاج وله من الأعضاء والخلق مثل ما للرجل وله جوف وقلب تنبع منه الحكمة وأن حروف أبي جاد على عدد أعضائه قالوا والألف موضع قدمه لا عوجاجها وذكر الهاء فقال لو رأيتم موضعها منه لرأيتم أمرا عظيما يعرض لهم |
2 | 504 | بالعورة وبأنه قد رآه لعنه اله وأخزاه وزعم أنه يحيى الموتى باسم الله الأعظم وأراهم أشياء من النيرنجيات والمخاريق وذكر لهم كيف ابتدأ الله الخلق فزعم أن الله كان وحده ولا شيء معه فلما أراد أن يخلق الأشياء تكلم باسمه الأعظم فطار فوقع فوق رأسه على التاج قال وذلك قوله سبح اسم ربك الأعلى سورة الأعلى وذكروا عنه من هذا الجنس أشياء يطول وصفها وقتله خالد بن عبد الله القسري وذكروا عن المنصورية أصحاب أبي منصور أنهم كانوا يقولون عنه أنه |
2 | 505 | قال إن آل محمد هم السماء والشيعة هم الأرض وأنه هو الكسف الساقط في بنى هاشم وأنه عرج به إلى السماء فمسح معبوده رأسه بيده ثم قال له أي بني اذهب فبلغ عنى ثم نزل به إلى الأرض ويمين أصحابه إذا حلفوا لا والكلمة وزعم أن عيسى بن مريم أول من خلق الله من خلقه ثم علي وأن رسل الله لا تنقطع أبدا وكفر بالجنة والنار وزعم أن الجنة رجل وأن النار رجل واستحل النساء والمحارم وأحل ذلك لأصحابه وزعم أن الميتة والدم ولحم الخنزير والخمر والميسر حلال قال لم يحرم الله ذلك علينا ولا حرم شيئا تقوى به أنفسنا وإنما هذه الأسماء أسماء رجال حرم الله ولا يتهم وتأول في ذلك قول الله تعالى ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا سورة المائدة وأسقط الفرائض وقال هي أسماء رجال أوجب الله ولا يتهم فأخذه يوسف بن عمر والي العراق في أيام بني أمية |
2 | 506 | فقتله والنصيرية الموجودون في هذه الأزمنة يشبهون هؤلاء في كثير من الوجوه وذكروا عن الخطابية أصحاب أبي الخطاب بن أبي زينب أنهم يزعمون أن الأئمة أنبياء محدثون ورسل الله وحججه على خلقه لا يزال منهم رسولان واحد ناطق والآخر صامت فالناطق محمد والصامت علي فهم في الأرض اليوم طاعتهم مفترضة على جميع الخلق يعلمون ما كان وما هو كائن وزعموا أن أبا الخطاب نبي وأن أولئك الرسل فرضوا طاعة أبي الخطاب وقالوا الأئمة آلهة وقالوا في أنفسهم مثل ذلك وقالوا ولد الحسين أبناء الله وأحباؤه ثم قالوا ذلك في أنفسهم وتأولوا قول الله فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين سورة الحجر قالوا فهو آدم ونحن ولده وعبدوا أبا الخطاب وزعموا أنه إله وخرج أبو الخطاب على أبي جعفر المنصور فقتله عيسى بن موسى في سبخة الكوفة وهم يتدينون بشهادة الزور لموافقيهم |
2 | 507 | وذكروا عن البزيغية أنهم يقولون إن جعفر بن محمد هو الله وأنه ليس بالذي يرى وأنه يشبه للناس في هذه الصورة وزعموا أن |
2 | 508 | كل محدث في قلوبهم وحى وأن كل مؤمن يوحى إليه وقال الأشعري وقد قال قائلون بإلهية سلمان الفارسي قال وفي النساك من الصوفية من يقول بالحلول وأن البارئ يحل في الأشخاص وأنه جائز أن يحل في إنسان وسبع وغير ذلك من الأشخاص وأصحاب هذه المقالة إذا رأوا شيئا يستحسنونه قالوا لا |
2 | 509 | ندري لعل الله حال فيه ومالوا إلى اطراح الشرائع وزعموا أن الإنسان ليس عليه فرض ولا يلزمه عبادة إذا وصل إلى معبوده قال ومن الغالية من يزعم أن روح القدس هو الله كانت في النبي صلى الله عليه وسلم ثم في علي ثم في الحسن ثم في الحسين ثم في علي بن الحسين ثم في محمد بن علي ثم في جعفر ابن محمد ثم في موسى بن جعفر ثم في علي بن موسى بن جعفر ثم في محمد بن علي بن موسى ثم في علي بن محمد بن علي بن موسى ثم في الحسن بن علي بن محمد بن علي ثم في محمد بن الحسن بن علي بن محمد قال وهؤلاء آلهة عندهم كل واحد منهم إله على التناسخ والإله عندهم يدخل في الهياكل وهؤلاء هم من الإمامية الإثنى عشرية قال ومن الغالية صنف يزعمون أن عليا هو الله ويكذبون |
2 | 510 | النبي صلى الله عليه وسلم ويشتمونه ويقولون إن عليا وجه به ليبين أمره فادعى الأمر لنفسه قال ومنهم صنف يزعمون أن الله تعالى في خمسة أشخاص في النبي وعلي والحسن والحسين وفاطمة فهؤلاء آلهة عندهم ولهم خمسة أضداد أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية وعمرو بن العاص ثم منهم من قال إن هذه الأضداد محمودة لأنه لا يعرف فضل الأشخاص الخمسة إلا بأضدادها فهي محمودة من هذا الوجه ومنهم من قال بل هي مذمومة لا تحمد بحال من الأحوال قال ومنهم صنف يقال لهم السبئية أصحاب عبدالله بن سبأ يزعمون أن عليا لم يمت وأنه يرجع إلى الدنيا قبل يوم القيامة فيملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا وذكروا عنه أنه قال لعلي أنت أنت والسبئية يقولون بالرجعة وأن الأموات يرجعون إلى الدنيا وكان السيد |
2 | 511 | الحميري يقول برجعة الأموات وفي ذلك يقول إلى يوم يؤوب الناس فيه إلى دنياهم قبل الحساب قال ومنهم صنف يزعمون أن الله وكل الأمور وفوضها إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأنه أقدره على خلق الدنيا فخلقها ودبرها وأن الله لم يخلق من ذلك شيئا ويقول ذلك كثير منهم في على ويزعمون أن الأئمة ينسخون الشرائع وتهبط عليهم الملائكة وتظهر عليهم أعلام المعجزات ويوحى إليهم ومنهم من يسلم على السحاب ويقول إذا مرت سحابة إن عليا فيها وفيهم يقول بعض الشعراء برئت من الخوارج لست منهم من الغزال منهم وابن باب |
2 | 512 | ومن قوم إذا ذكروا عليا يردون السلام على السحاب فهذا بعض ما نقله الأشعري وغيره عنهم وهو بعض ما فيهم من هذا الباب فإن الإسماعيلية والنصيرية لم يكونوا حدثوا إذ ذاك والنصيرية من نوع الغلاة والإسماعيلية ملاحدة أكفر من النصيرية ومن شيعة النصيرية من يقول أشهد ألا إله إلا حيدرة الأنزع البطين ولا حجاب عليه إلا محمد الصادق الأمين ولا طريق إليه إلا سلمان ذو القوة المتين |
2 | 513 | ويقولون إن شهر رمضان أسماء ثلاثين رجلا والثلاثون أسماء ثلاثين امرأة وأن الصلوات الخمس عبارة عن خمسة أسماء وهي علي وحسن وحسين ومحسن وفاطمة إلى أنواع من الكفر الشنيع الذي يطول وصفه وهذا أمر معلوم فإن أهل العلم متفقون على أن هذه المقالات الغالية في وصف الرب بالعيوب والنقائص المتضمنة تشبيه الخالق بالمخلوق في صفات النقص وتشبيه المخلوق بالخالق في خصائص الإلهية هي أكثر ما يكون في الشيعة باتفاق الناس فلا يوجد في طوائف الأمة أشنع في الحلول والتمثيل والتعطيل مما يوجد فيهم ولهذا صارت الملاحدة والغالية علمين على بعض من ينتسب إليهم فالملاحدة علم على الإسماعيلية والغالية علم على القائلين بالإلهية في البشر كالنصيرية والمشهور بالغلو وادعاء الإلهية في البشر |
2 | 514 | هم النصارى والغالية من الشيعة وقد يوجد بعض الإلحاد والغلو في غيرهم من النساك وغيرهم لكن الذي فيهم أكثر وأقبح وإذا كان الأمر كذلك كان الذي يطعن على أهل السنة والجماعة بأن فيهم تجسيما وحلولا ويثنى على طائفة الإمامية إما من أجهل الناس بمقالات شيعته وإما من أعظم الناس ظلما وعدوانا وعدولا عن العدل والإنصاف في المقابلة والموازنة ثم أهل السنة يطلبون من الإمامية المتأخرين أن يقطعوا سلفهم بالحجج العقلية أو الشرعية وهم عاجزون عن ذلك كما تقدم التنبيه عليه وهؤلاء المجسمون من الشيعة منهم من أكابر أهل الكلام |
2 | 515 | المتكلمين في جميع أنواعه في الجليل والدقيق ولهم كتب مصنفة قال الأشعري ورجال الرافضة ومؤلفوا كتبهم هشام بن الحكم وهو قطعى وعلي بن منصور ويونس بن عبدالرحمن القمى والسكاك |
2 | 516 | وأبو الأخوص داود بن أسد البصري قال وقد انتحلهم أبو عيسى الوراق وابن الراوندي وألف لهم كتبا في الإمامة الوجه الثاني أن يقال هذه المقالات التي نقلها لا تعرف عن أحد من المعروفين بمذهب أهل السنة والجماعة لا من أئمة |
2 | 517 | أصحاب أبي حنيفة ولا مالك ولا الشافعي ولا أحمد بن حنبل لا من أهل الحديث ولا من أهل الرأي فلا يعرف في هؤلاء من قال إن الله جسم طويل عريض عميق وأنه يجوز عليه المصافحة وأن الصالحين من المسلمين يعاينونه في الدنيا فإن كان مقصوده بجماعة الحشوية والمشبهة بعض هؤلاء فهو كذب ظاهر عليهم وهذه كتب هذه الطوائف ورجالهم الأحياء والأموات لا يعرف عن أحد منهم شيء من ذلك بل أئمة هؤلاء الطوائف المعروفون بالعلم فيهم متفقون على أن الله لا يرى في الدنيا بالعيون وإنما يرى في الآخرة كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت والمذهب الشائع الظاهر فيهم مذهب أهل السنة والجماعة أن الله |
2 | 518 | تعالى يرى في الآخرة بالأبصار ومن أنكر ذلك كان مبتدعا عندهم وإن كان في المنتسبين إليهم من يقول ذلك فليس هو قول أئمتهم ولا الذين يفتى بقولهم ومن أراد أن ينقل مقالة عن طائفة فليسم القائل والناقل وإلا فكل أحد يقدر على الكذب فقد تبين كذبه فيما نقله عن أهل السنة كما تبين أن تلك الأقوال وما هو أشنع منها من أقوال سلف الإمامية الوجه الثالث أن يقال إن الطائفة إنما تتميز باسم رجالها أو بنعت أحوالها فالأول كما يقال النجدات |
2 | 519 | والأزارقة والجهمية والنجارية والضرارية ونحو ذلك والثاني |
2 | 520 | كما يقال الرافضة والشيعة والقدرية والمرجئة والخوارج ونحو ذلك فأما لفظ الحشوية فليس فيه ما يدل على شخص معين ولا مقالة معينة فلا يدري من هم هؤلاء وقد قيل إن أول من تكلم بهذا اللفظ عمرو بن عبيد فقال كان عبدالله بن عمر حشويا وكان هذا |
2 | 521 | اللفظ في اصطلاح من قاله يريد به العامة الذين هم حشو كما تقول الرافضة عن مذهب أهل السنة مذهب الجمهور فإن كان مراده بالحشوية طائفة من أصحاب الأئمة الأربعة دون غيرهم كأصحاب أحمد أو الشافعي أو مالك فمن المعلوم أن هذه المقالات لا توجد فيهم أصلا بل هم يكفرون من يقولها ولو قدر أن بعضها وجد في بعضهم فليس ذلك من خصائصهم بل كما يوجد مثل ذلك في سائر الطوائف وإن كان مراده بالحشوية أهل الحديث على الإطلاق سواء كانوا من أصحاب هذا أو هذا فاعتقاد أهل الحديث هو السنة المحضة لأنه هو الإعتقاد الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس في اعتقاد أحد من أهل الحديث شيء من هذا والكتب شاهدة بذلك وإن كان مراده بالحشوية عموم أهل السنة والجماعة مطلقا فهذه الأقوال لا تعرف في عموم المسلمين وأهل السنة وجمهور المسلمين لا يظنون أن أحدا قال هذا وإذا كان في بعض جهال العامة من يقول هذا أو أكثر من هذا لم يجز أن يجعل هذا اعتقادا لأهل السنة |
2 | 522 | والجماعة يعابون به وإنما العيب فيما قالته رجال الطائفة وعلماؤها كما ذكرناه عن أئمة الشيعة فإن أئمة الشيعة هم القائلون للمقالات الشنيعة كما قد علم وأما لفظ المشبهة فلا ريب أن أهل السنة والجماعة والحديث من أصحاب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم متفقون على تنزيه الله تعالى عن مماثلة الخلق وعلى ذم المشبهة الذين يشبهون صفاته بصفات خلقه ومتفقون على أن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله |
2 | 523 | وطريقة سلف الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تعطيل إثبات الصفات ونفى مماثلة المخلوقات قال تعالى ليس كمثله شيء فهذا رد على الممثلة وهو السميع البصير سورة الشورى رد على المعطلة فقولهم في الصفات مبنى على أصلين أحدهما أن الله سبحانه وتعالى منزه عن صفات النقص مطلقا كالسنة والنوم والعجز والجهل وغير ذلك والثاني أنه متصف بصفات الكمال التي لا نقص فيها على وجه الإختصاص بما له من الصفات فلا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من الصفات ولكن نفاة الصفات يسمون كل من أثبت شيئا من الصفات مشبها بل المعطلة المحضة الباطنية نفاة الأسماء يسمون من سمى الله بأسمائه الحسنى مشبها فيقولون إذا قلنا حي عليم فقد شبهناه بغيره من الأحياء العالمين وكذلك إذا قلنا هو سميع بصير فقد شبهناه بالإنسان السميع البصير وإذا قلنا هو رءوف رحيم فقد شبهناه بالنبي الرءوف |
2 | 524 | الرحيم بل قالوا إذا قلنا إنه موجود فقد شبهناه بسائر الموجودات لاشتراكهما في مسمى الوجود فقيل لهؤلاء فقولوا ليس بموجود ولا حي فقالوا أو من قال منهم إذا قلنا ذلك فقد شبهناه بالمعدوم وبعضهم قال ليس بموجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت فقيل لهم فقد شبهتموه بالممتنع بل جعلتموه نفسه ممتنعا فإنه كما يمتنع اجتماع النقيضين يمتنع ارتفاع النقيضين فمن قال إنه موجود معدوم فقد جمع بين النقيضين ومن قال ليس بموجود ولا معدوم فقد رفع النقيضين وكلاهما ممتنع فكيف يكون الواجب الوجود ممتنع الوجود والذين قالوا لا نقول هذا ولا هذا قيل لهم عدم علمكم وقولكم لا يبطل الحقائق في أنفسها بل هذا نوع من السفسطة |
2 | 525 | فإن السفسطة ثلاثة أنواع نوع هو جحد الحقائق والعلم بها وأعظم من هذا قول من يقول عن الموجود الواجب القديم الخالق إنه لا موجود ولا معدوم وهؤلاء متناقضون فإنهم جزموا بعدم الجزم ونوع هو قول المتجاهلة اللاأدرية الواقفة الذين يقولون لا ندري هل ثم حقيقة وعلم أم لا وأعظم من هذا قول من يقول لا أعلم ولا أقول هو موجود أو معدوم أو حي أو ميت ونوع ثالث قول من يجعل الحقائق تتبع العقائد فالأول ناف لها والثاني واقف فيها والثالث يجعلها تابعة لظنون الناس وقد ذكر صنف رابع وهو الذي يقول إن العالم في سيلان فلا يثبت له حقيقة وهؤلاء من الأول لكن هذا يوجبه قولهم والمقصود هنا أن إمساك الإنسان عن النقيضين لا يقتضى رفعهما |
2 | 526 | وحاصل هذا القول منع القلوب والألسنة والجوارح عن معرفة الله وذكره وعبادته فهو تعطيل وكفر بطريق الوقف والإمساك لا بطريق النفى والإنكار وأصل ضلال هؤلاء أن لفظ التشبيه لفظ فيه إجمال فما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك يتفق فيه الشيئان ولكن ذلك المشترك المتفق عليه لا يكون في الخارج بل في الذهن ولا يجب تماثلهما فيه بل الغالب تفاضل الأشياء في ذلك القدر المشترك فأنت إذا قلت عن المخلوقين حي وحي وعليم وعليم وقدير وقدير لم يلزم تماثل الشيئين في الحياة والعلم والقدرة ولا يلزم أن تكون حياة أحدهما وعلمه وقدرته نفس حياة الآخر وعلمه وقدرته ولا أن يكونا مشتركين في موجود في الخارج عن الذهن ومن هنا ضل هؤلاء الجهال بمسمى التشبيه الذي يجب نفيه عن الله وجعلوا ذلك ذريعة إلى التعطيل المحض والتعطيل شر من التجسيم والمشبه يعبد صنما والمعطل يعبد عدما والممثل أعشى والمعطل أعمى ولهذا كان جهم إمام هؤلاء وأمثاله يقولون إن الله ليس بشيء |
2 | 527 | وروى عنه أنه قال لا يسمى باسم يسمى به الخالق فلم يسمعه إلا بالخالق القادر لأنه كان جبريا يرى أن العبد لا قدرة له وربما قالوا ليس بشيء كالأشياء ولا ريب أن الله تعالى ليس كمثله شيء ولكن ليس مقصودهم إلا أن حقيقة التشبيه منتفية عنه حتى لا يثبتون أمرا متفقا عليه وتحقيق هذا الموضع بالكلام في معنى التشبيه والتمثيل أما التمثيل فقد نطق الكتاب بنفيه عن الله في غير موضع كقوله تعالى ليس كمثله شيء سورة الشورى وقوله هل تعلم له سميا سورة مريم وقوله ولم يكن له كفوا أحد وقوله فلا تجعلوا لله أندادا سورة البقرة وقوله فلا تضريوا لله الأمثال سورة النحل ولكن وقع في لفظ التشبيه إجمال كما سنبينه إن شاء الله تعالى وأما لفظ الجسم والجوهر والمتحيز والجهة ونحو ذلك |
2 | 528 | فلم ينطق كتاب ولا سنة بذلك في حق الله لا نفيا ولا إثباتا وكذلك لم ينطق بذلك أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين من أهل البيت وغير أهل البيت فلم ينطق أحد منهم بذلك في حق الله لا نفيا ولا إثباتا وأول من عرف عنه التكلم بذلك نفيا وإثباتا أهل الكلام المحدث من النفاة كالجهمية والمعتزلة ومن المثبتة كالمجسمة من الرافضة وغير الرافضة فالنفاة نفوا هذه الأسماء وأدخلوا في النفى ما أثبته الله ورسوله من صفات كعلمه وقدرته ومشيئته ومحبته ورضاه وغضبه وعلوه وقالوا إنه لا يرى ولا يتكلم بالقرآن ولا غيره ولكن معنى كونه متكلما أنه خلق كلاما في جسم من الأجسام غيره ونحو ذلك والمثبتة أدخلوا في ذلك من الأمور ما نفاه الله ورسوله حتى قالوا إنه يرى في الدنيا بالأبصار ويصافح ويعانق وينزل إلى الأرض |
2 | 529 | وينزل عشية عرفة راكبا على جمل أورق يعانق المشاة ويصافح الركبان وقال بعضهم إنه يندم ويبكي ويحزن وعن بعضهم أنه لحم ودم ونحو ذلك من المقالات التي تتضمن وصف الخالق جل جلاله بخصائص المخلوقين والله سبحانه منزه عن أن يوصف بشيء من الصفات المختصة بالمخلوقين وكل ما اختص بالمخلوق فهو صفة نقص والله تعالى منزه عن كل نقص ومستحق لغاية الكمال وليس له مثل في شيء من صفات الكمال فهو منزه عن النقص مطلقا ومنزه في الكمال أن يكون له مثل كما قال تعالى قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد سورة الإخلاص فبين أنه أحد صمد واسمه الأحد يتضمن نفى المثل واسمه الصمد يتضمن جميع صفات |
2 | 530 | الكمال كما قد بينا ذلك في الكتاب المصنف في تفسير قل هو الله أحد وأما لفظ الجسم فإن الجسم عند أهل اللغة كما ذكره الأصمعي وأبو زيد وغيرهما هو الجسد والبدن وقال تعالى وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم سورة المنافقون وقال تعالى وزاده بسطة في العلم والجسم سورة البقرة فهو يدل في اللغة على معنى الكثافة والغلظ كلفظ الجسد ثم قد يراد به نفس الغليظ وقد يراد به غلظه فيقال لهذا الثوب جسم أي غلظ وكثافة ويقال هذا أجسم من هذا أي أغلظ وأكثف ثم صار لفظ الجسم في اصطلاح أهل الكلام أعم من ذلك فيسمون الهواء وغيره من الأمور اللطيفة جسما وإن كانت العرب لا تسمى هذا جسما وبينهم نزاع فيما يسمى جسما هل هو مركب من الجواهر المنفردة التي لا يتميز منها شيء عن شيء إما جواهر متناهية كما يقوله أكثر القائلين بالجوهر الفرد وإما غير متناهية كما يقوله |
2 | 531 | النظام والتزم الطفرة المعروفة بطفرة النظام أو هو مركب من المادة والصورة كما يقوله من يقوله من المتفلسفة أو ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا كما يقوله أكثر الناس وهو قول الهشامية والكلابية والنجارية والضرارية وكثير من الكرامية على ثلاثة أقوال وكثير من الكتب ليس فيها إلا القولان الأولان والصواب أنه ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا كما قد بسط في موضعه وينبني على هذا أن ما يحدثه الله من الحيوان والنبات والمعادن فإنها أعيان يخلقها الله تعالى على قول نفاة الجوهر الفرد وعلى قول |
2 | 532 | مثبتية إنما يحدث أعراضا وصفات وإلا فالجواهر باقية ولكن اختلف تركيبها وينبنى على ذلك الإستحالة فمثبتة الجوهر الفرد يقولون لا تستحيل حقيقة إلى حقيقة أخرى ولا تنقلب الأجناس بل الجواهر يغير الله عز وجل تركيبها وهي باقية والأكثرون يقولون باستحالة بعض الأجسام إلى بعض وانقلاب جنس إلى جنس وحقيقة إلى حقيقة كما تنقلب النطفة إلى علقة والعلقة إلى مضغة والمضغة عظاما وكما ينقلب الطين الذي خلق الله منه آدم لحما ودما وعظاما وكما تنقلب المادة التي تخلق منها الفاكهة ثمرا ونحو ذلك وهذا قول الفقهاء والأطباء وأكثر العقلاء وكذلك ينبنى على هذا تماثل الأجسام فأولئك يقولون الأجسام مركبة من الجواهر وهي متماثلة فالأجسام متماثلة والأكثرون يقولون بل الأجسام مختلفة الحقائق وليست حقيقة التراب حقيقة النار ولا حقيقة النار حقيقة الهواء وهذه المسائل مسائل عقلية لبسطها موضع آخر والمقصود هنا بيان منشأ النزاع في مسمى الجسم والنظار كلهم متفقون فيما أعلم على أن الجسم يشار إليه وإن اختلفوا في كونه مركبا من الأجزاء المنفردة أو من المادة والصورة أو لا من هذا ولا من هذا |
2 | 533 | وقد تنازع العقلاء أيضا هل يمكن وجود موجود قائم بنفسه لا يشار إليه ولا يمكن أن يرى على ثلاثة أقوال فقيل لا يمكن ذلك بل هو ممتنع وقيل بل هو ممتنع في المحدثات الممكنة التي تقبل الوجود والعدم دون الواجب وقيل بل ذلك ممكن في الممكن والواجب وهذا قول بعض الفلاسفة ومن وافقهم من أهل الملل ما علمت به قائلا من أهل الملل إلا من أخذه عن هؤلاء الفلاسفة ومثبتو ذلك يسمونها المجردات والمفارقات وأكثر العقلاء يقولون إنما وجود هذه في الأذهان لا في الأعيان وإنما يثبت من ذلك وجود نفس الإنسان التي تفارق بدنه وتتجرد عنه وأما الملائكة التي أخبرت بها الرسل فالمتفلسفة المنتسبون إلى المسلمين يقولون هي العقول والنفوس المجردات وهي الجواهر العقلية وأما أهل الملل ومن علم ما أخبر الله به صفات الملائكة فيعلمون قطعا أن الملائكة ليست هذه المجردات التي يثبتها هؤلاء من وجوه كثيرة قد بسطت في غير هذا الموضع فإن الملائكة مخلوقون من نور كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح |
2 | 534 | وهم كما قال الله تعالى وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم إنى إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين سورة الأنبياء وقد أخبر الله عن الملائكة أنهم أتوا إبراهيم ولوطا في صورة البشر حتى قدم لهم إبراهيم العجل وكان جبريل عليه السلام يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي وأتاه مرة في صورة أعرابي حتى رآه الصحابة وقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم في |
2 | 535 | صورته التي خلق عليها مرتين مرة بين السماء والأرض ومرة في السماء عند سدرة المنتهى |
2 | 536 | والملائكة تنزل إلى الأرض ثم تصعد إلى السماء كما تواترت بذلك النصوص وقد أنزلها الله يوم بدر ويوم حنين ويوم الخندق لنصر رسوله والمؤمنين كما قال تعالى إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنى ممدكم بألف من الملائكة مردفين سورة الأنفال وقال ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها سورة التوبة وقال فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها سورة الأحزاب وقال أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون سورة الزخرف وقال حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون سورة الأنعام وقال الله تعالى ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم سورة الأنفال ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم سورة الأنعام ومثل هذا في القرآن كثير يعلم ببعضه أن ماوصف الله به الملائكة |
2 | 537 | يوجب العلم الضروري أنها ليست ما يقوله هؤلاء في العقول والنفوس سواء قالوا إن العقول عشرة والنفوس تسعة كما هو المشهور عندهم أو قالوا غير ذلك وليست الملائكة أيضا القوى العالمة التي في النفوس كما قد يقولونه بل جبريل عليه السلام ملك منفصل عن الرسول يسمع كلام الله من الله وينزل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما دل على ذلك النصوص والإجماع من المسلمين وهؤلاء يقولون إن جبريل هو العقل الفعال أو هو ما يتخيل في نفس النبي صلى الله عليه وسلم من الصور الخيالية وكلام الله ما يوجد في نفسه كما يوجد في نفس النائم |
2 | 538 | وهذا مما يعلم كل من له علم بما جاء به الرسول أنه من أعظم الأمور تكذيبا للرسول ويعلم أن هؤلاء أبعد عن متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم من كفار اليهود والنصارى وهذا مبسوط في مواضع والمقصود هنا الكلام على مجامع ما يعرف به ما أشار إليه هذا من عقائد المسلمين واختلافهم فإذا عرف تنازع النظار في حقيقة الجسم فلا ريب أن الله سبحانه ليس مركبا من الأجزاء المنفردة ولا من المادة والصورة ولا يقبل سبحانه التفريق والإنفصال ولا كان متفرقا فاجتمع بل هو سبحانه أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فهذه المعاني المعقولة من التركيب كلها منتفية عن الله تعالى لكن المتفلسفة ومن وافقهم تزيد على ذلك وتقول إذا كان موصوفا بالصفات كان مركبا وإذا كانت له حقيقة ليست هي مجرد الوجود كان مركبا فيقول لهم المسلمون المثبتون للصفات النزاع ليس في لفظ المركب فإن هذا اللفظ إنما يدل على مركب ركبه غيره ومعلوم أن عاقلا لا يقول إن الله تعالى مركب بهذا الإعتبار وقد يقال لفظ المركب على ما كانت أجزاؤه متفرقة فجمع إما جمع |
2 | 539 | امتزاج وإما غير امتزاج كتركيب الأطعمة والأشربة والأدوية والأبنية واللباس من أجزائها ومعلوم نفى هذا التركيب عن الله ولا نعلم عاقلا يقول إن الله تعالى مركب بهذا الإعتبار وكذلك التركيب بمعنى أنه مركب من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة وهو التركيب الجسمي عند من يقول به وهذا أيضا منتف عن الله تعالى والذين قالوا إن الله جسم قد يقول بعضهم إنه مركب هذا التركيب وإن كان كثير منهم بل أكثرهم ينفون ذلك ويقولون إنما نعنى بكونه جسما أنه موجود أو أنه قائم بنفسه أو أنه يشار إليه أو نحو ذلك لكن بالجملة هذا التركيب وهذا التجسيم يجب تنزيه الله تعالى عنه وأما كونه سبحانه ذاتا مستلزمة لصفات الكمال له علم وقدرة وحياة فهذا لا يسمى مركبا فيما يعرف من اللغات وإذا سمى مسم هذا مركبا لم يكن النزاع معه في اللفظ بل في المعنى العقلي ومعلوم أنه لا دليل على نفى هذا كما قد بسط في موضعه بل الأدلة العقلية توجب إثباته |
2 | 540 | ولهذا كان جميع العقلاء مضطرين إلى إثبات معان متعددة لله تعالى فالمعتزلي يسلم أنه حي عالم قادر ومعلوم أن كونه جسما ليس هو معنى كونه عالما ومعنى كونه عالما ليس معنى كونه قادرا والمتفلسف يقول إنه عاقل ومعقول وعقل ولذيذ ومتلذذ ولذة وعاشق ومعشوق وعشق ومعلوم بصريح العقل أن كونه يحب ليس هو كونه يعلم وكونه محبوبا معلوما ليس هو معنى كونه محبا عالما والمتفلسف يقول معنى كونه عالما هو معنى كونه قادرا مؤثرا فاعلا وذلك هو نفس ذاته فيجعل العلم هو القدرة وهو الفعل ويجعل القدرة هي القادر والعلم هو العالم والفعل هو الفاعل وبعض متأخريهم وهو الطوسى ذكر في شرح كتاب الإشارات أن العلم هو المعلوم ومعلوم |
2 | 541 | فساد هذه الأقوال بصريح العقل ومجرد تصورها التام يكفى في العلم بفسادها وهؤلاء فروا من معنى التركيب وليس لهم قط حجة على نفى مسمى التركيب بجميع هذه المعاني بل عمدتهم أن المركب مفتقر إلى أجزائه وأجزاؤه غيره والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بنفسه وربما قالوا الصفة مفتقرة إلى محل والمفتقر إلى محل لا يكون واجبا بنفسه بل يكون معلولا وهذا الحجة ألفاظها كلها مجملة فلفظ الواجب بنفسه يراد به |
2 | 542 | الذي لا فاعل له فليس له علة فاعلة ويراد به الذي لا يحتاج إلى شيء مباين له ويراد به القائم بنفسه الذي لا يحتاج إلى مباين له وعلى الأول والثاني فالصفات واجبة الوجود وعلى الثالث فالذات الموصوفة بالصفات هي الواجبة والصفة وحدها لا يقال إنها واجبة الوجود ويراد به مالا تعلق له بغيره وهذا لا وجود له في الخارج والبرهان إنما قام على أن الممكنات لها فاعل واجب الوجود قائم بنفسه أي عني عما سواه والصفة ليست هي الفاعل وقوله إذا كانت له ذات وصفات كان مركبا والمركب مفتقر إلى أجزائه وأجزاؤه غيره فلفظ الغير مجمل يراد بالغير المباين فالغيران ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بزمان أو مكان أو وجود وهذا اصطلاح الأشعرية ومن وافقهم من الفقهاء أتباع الأئمة الأربعة ويراد بالغيرين ما ليس أحدهما الآخر أو ما جاز العلم بأحدهما مع الجهل بالآخر وهذا اصطلاح طوائف من المعتزلة والكرامية وغيرهم وأما السلف كالإمام أحمد وغيره فلفظ الغير عندهم يراد به هذا ويراد به هذا ولهذا لم يطلقوا القول بأنه علم الله غيره ولا أطلقوا القول بأنه |
2 | 543 | ليس غيره ولا يقولون لا هو هو ولا هو غيره بل يمتنعون عن إطلاق اللفظ المجمل نفيا وإثباتا لما فيه من التلبيس فإن الجهمية يقولون ما سوى الله مخلوق وكلامه غيره فيكون مخلوقا فقال أئمة السنة إذا أريد بالغير والسوى ما هو مباين له فلا يدخل علمه وكلامه في لفظ الغير والسوى كما لم يدخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم من حلف بغير الله فقد أشرك وقد ثبت في السنة جواز الحلف بصفاته كعزته وعظمته فعلم أنها لا تدخل في مسمى الغير عند الإطلاق وإذا أريد بالغير أنه ليس هو إياه فلا ريب أن العلم ليس هو العالم والكلام ليس هو المتكلم وكذلك لفظ الإفتقار يراد به افتقار المفعول إلى فاعله ونحو ذلك ويراد به التلازم بمعنى أنه لا يوجد أحدهما إلا مع الآخر وإن لم يكن أحدهما مؤثرا في الآخر كالأمور المتضايفة مثل الأبوة والبنوة والمركب قد عرف ما فيه من الإشتراك فإذا قال القائل لو كان عالما لكان مركبا من ذات وعلم فليس المراد به أن هذين كانا مفترقين فاجتمعا ولا أنه يجوز مفارقة أحدهما الآخر بل المراد أنه إذا كان عالما فهناك ذات وعلم قائم بها وقوله والمركب مفتقر إلى أجزائه فمعلوم أن افتقار المجموع إلى |
2 | 544 | أبعاضه ليس بمعنى أن أبعاضه فعلته أو وجدت دونه وأثرت فيه بل بمعنى أنه لا يوجد إلا بوجود المجموع ومعلوم أن الشيء لا يوجد إلا بوجود نفسه وإذا قيل هو مفتقر إلى نفسه بهذا المعنى لم يكن هذا ممتنعا بل هذا هو الحق فإن نفس الواجب لا يستغنى عن نفسه وإذا قيل هو واجب بنفسه فليس المراد أن نفسه أبدعت وجوبه بل المراد أن نفسه موجودة بنفسها لم تفتقر إلى غيره في ذلك ووجوده واجب لا يقبل العدم بحال فإذا قيل مثلا العشرة مفتقرة إلى العشرة لم يكن في هذا إفتقار لها إلى غيرها وإذا قيل هي مفتقرة إلى الواحد الذي هو جزؤها لم يكن افتقارها إلى بعضها بأعظم من افتقارها إلى المجموع التي هي هو وإذا لم يكن ذلك ممتنعا بل هو الحق فإنه لا يوجد المجموع إلا بالمجموع فكيف يمتنع أن يقال لا يوجد المجموع إلا بوجود جزئه |
2 | 545 | والدليل إنما دل على أن الممكنات لها مبدع واجب بنفسه خارج عنها أما كون ذلك المبدع مستلزما لصفاته أو لا يوجد إلا متصفا بصفات الكمال فهذا لم تنفه حجة أصلا ولا هذا التلازم سواء سمى فقرا أو لم يسم مما ينفى كون المجموع واجبا قديما أزليا لا يقبل العدم بحال وأيضا فتسمية الصفات القائمة بالموصوف جزءا له ليس هو من اللغة المعروفة وإنما هو اصطلاح لهم كما سموا الموصوف مركبا بخلاف تسمية الجزء صفة فإن هذا موجود في كلام كثير من الأئمة والنظار كالإمام أحمد وابن كلاب وغيرهما وإلا فحقيقة الأمر أن الذات المستلزمة للصفة لا توجد إلا وهي متصفة بالصفة وهذا حق وإذا تنزل إلى اصطلاحهم المحدث وسمى هذا جزءا فالمجموع لا يوجد إلا بوجود جزئه الذي هو بعضه وإذ قيل هو مفتقر إلى بعضه لم يكن هذا إلا دون قول القائل هو مفتقر إلى نفسه الذي هو المجموع وإذا كان لا محذور فيه فهذا أولى وإذا قيل جزؤه غيره والواجب لا يفتقر إلى غيره قيل إن أردت أن جزأه مباين له وأنه يجوز مفارقة أحدهما الآخر بوجه من الوجوه فهذا باطل فليس جزؤه غيره بهذا التفسير وإن أردت |
2 | 546 | أنه يمكن العلم بأحدهما دون العلم بالآخر كما نعلم أنه قادر قبل العلم بأنه عالم ونعلم الذات قبل العلم بصفاتها فهو غيره بهذا التفسير وقد علم بصريح العقل أنه لا بد من إثبات معان هي أغيار بهذا التفسير وإلا فكونه قائما بنفسه ليس هو كونه عالما وكونه عالما ليس هو كونه حيا وكونه حيا ليس هو كونه قادرا ومن جعل هذه الصفة هي الأخرى وجعل الصفات كلها هي الموصوف فقد انتهى في السفسطة إلى الغاية وليس هذا إلا كمن قال السواد هو البياض والسواد والبياض هو الأسود والأبيض ثم هؤلاء الذين نفوا المعاني التي يتصف بها كلهم متناقضون يجمعون في قولهم بين النفي والإثبات وقد جعلوا هذا أساس التعطيل والتكذيب بما علم بصريح المعقول وصحيح المنقول فالذين ينفون علمه بالأشياء يقولون لئلا يلزم التكثر والذين ينفون علمه بالجزيئات يقولون لئلا يلزم التغير فيذكرون لفظ التكثر والتغير وهما لفظان مجملان يتوهم السامع أنه تتكثر الآلهة أو أن الرب يتغير ويستحيل من حال إلى حال كما يتغير الإنسان إما بمرض وإما بغيره وكما تتغير الشمس إذا اصفر لونها ولا يدري أنه عندهم |
2 | 547 | إذا أحدث مالم يكن محدثا سموه تغيرا وإذا سمع دعاء عباده سموه تغيرا وإذا رأى ما خلقه سموه تغيرا وإذا كلم موسى بن عمران سموه تغيرا وإذا رضي عمن أطاعه وسخط على من عصاه سموه تغيرا إلى أمثال هذه الأمور ثم إنهم ينفون ذلك من غير دليل أصلا فإن الفلاسفة يجوزون أن يكون القديم محلا للحوادث لكن من نفى منهم ما نفاه فإنما هو لنفيه الصفات مطلقا وكذلك المعتزلة ولهذا كان الحاذق من هؤلاء وهؤلاء كأبي الحسين البصري وأبي البركات صاحب المعتبر وغيرهما قد خالفوهم في ذلك وبينوا أنه ليس لهم دليل عقلي ينفى ذلك وأن الأدلة العقلية والشرعية توجب ثبوت ذلك وهذا كله قد بسط في موضع آخر والمقصود هنا أن من نفى الجسم وأراد به نفى التركيب من الجواهر المفردة أو من المادة والصورة فقد أصاب في المعنى ولكن منازعوه يقولون هذا الذي قلته ليس هو مسمى الجسم في اللغة ولا هو أيضا حقيقة الجسم الإصطلاحي فإن الجسم ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا وهو يقول هذا حقيقة الجسم الإصطلاحي |
2 | 548 | وإذا كان منازعوه من لا ينفى التركيب من هذا وهذا فالفريقان متفقان على تنزيه الرب عن ذلك لكن أحدهما يقول نفى لفظ الجسم لا يفيد هذا التنزيه وإنما يفيده لفظ التركيب ونحوه والآخر يقول بل نفى لفظ الجسم يفيد هذا التنزيه ومن قال هو جسم فالمشهور عن نظار الكرامية وغيرهم ممن يقول هو جسم أنه يفسر ذلك بأنه الموجود أو القائم بنفسه لا بمعنى المركب وقد اتفق الناس على أن من قال إنه جسم وأراد هذا المعنى فقد أصاب في المعنى لكن إنما يخطئه من يخطئه في اللفظ أما من يقول الجسم هو المركب فيقول أخطأت حيث استعملت لفظ الجسم في القائم بنفسه أو الموجود وأما من لا يقول بأن كل جسم مركب فيقول تسميتك لكل موجود أو قائم بنفسه جسما ليس هو موافقا للغة العرب المعروفة ولا تكلم بهذا اللفظ أحد من السلف والأئمة ولا قالوا إن الله جسم |
2 | 549 | فأنت مخطئ في اللغة والشرع وإن كان المعنى الذي أردته صحيحا فيقول أنا تكلمت بالإصطلاح الكلامي فإن الجسم عند النظار من المتكلمين والفلاسفة هو ما يشار إليه ثم ادعى طائفة منهم أن كل ما كان كذلك فهو مركب من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة ونازعهم طائفة أخرى في هذا المعنى وقالوا ليس كل ما يشار إليه هو مركب لا من هذا ولا من هذا فإذا أقام صاحب هذا القول دليلا عقليا على نفى تركيب المشار إليه خصم منازعيه إلا من يقول إن أسماء الله تعالى توقيفية فيقول له ليس لك أن تسميه بذلك وأما أهل السنة المتبعون للسلف فيقولون كلكم مبتدعون في اللغة والشرع حيث سميتم كل ما يشار إليه جسما فهذا اصطلاح لا يوافق اللغة ولم يتكلم به أحد من سلف الأمة قال المدعون أن الجسم هو المركب بل قولنا موافق للغة والجسم في اللغة هو المؤلف المركب والدليل على ذلك أن العرب تقول هذا أجسم من هذا عند زيادة الأجزاء والتفضيل إنما يقع بعد الإشتراك في الأصل فعلم أن لفظ الجسم عندهم هو المركب وكلما زاد التركيب قالوا أجسم فيقال لهم أما كون العرب تقول لما كان أغلظ من غيره أجسم فهذا |
2 | 550 | صحيح مع أن بعض أهل اللغة أنكروا هذا وأما دعواكم أنهم يقولون هذا لأن الجسم مركب من الأجزاء المفردة وكل ما يشار إليه فهو مركب فيسمونه جسما فهذه دعوى باطلة عليهم من وجوه أحدها أنه قد علم بنقل الثقات عنهم والإستعمال الموجود في كلامهم أنهم لا يسمون كل ما يشار إليه جسما ولا يقولون للهواء اللطيف جسما وإنما يستعملون لفظ الجسم كما يستعملون لفظ الجسد وهكذا نقل عنهم أهل العلم بلسانهم كالأصمعي وأبي زيد الأنصاري وغيرهما كما نقله الجوهري في صحاحه وغير الجوهري فلفظ الجسم عندهم يتضمن معنى الغلظ والكثافة لا معنى كونه يشار إليه الوجه الثاني أنهم لم يقصدوا بذلك كونه مركبا من الجواهر المفردة أو من المادة والصورة بل لم يخطر هذا بقلوبهم بل إنما قصدوا معنى الكثافة والغلظ وأما كون الكثافة والغلظ تكون بسبب كثرة الجواهر المفردة أو بسبب كون الشيء في نفسه غليظا كثيفا كما يكون حارا وباردا وإن لم تكن حرارته وبرودته بسبب كونه مركبا من |
2 | 551 | الجواهر الفردة فالجسم له قدر وصفات وليست صفاته لأجل الجواهر فكذلك قدره فهذا ونحوه من البحوث العقلية الدقيقة لم تخطر ببال عامة من تكلم بلفظ الجسم من العرب وغيرهم الوجه الثالث أنه من المعلوم أن اللفظ المشهور في اللغة الذي يتكلم به الخاص والعام ويقصدون معناه لا يجوز أن يكون معناه مما يخفى تصوره على أكثر الناس ويقف العلم بصحة ذلك المعنى على أدلة دقيقة عقلية ويتنازع فيها العقلاء فإن الناطقين به جميعهم متفقون على إرادة المعنى الذي يدل اللفظ عليه في اللغة وما كان دقيقا لا يفهمه أكثر الناس لا يكون مراد الناطقين به وكذلك ما كان متنازعا فيه ولهذا قال من قال من الأصوليين اللفظ المشهور لا يجوز أن يكون موضوعا لمعنى خفي لا يعلمه إلا خواص الناس كلفظ الحركة ونحوه ومعلوم أن لفظ الجسم مشهور في لغة العرب مع عدم تصور أكثرهم للتركيب وعدم علمهم بدليل التركيب وإنكار كثير منهم للتركيب من الجواهر الفردة والمادة والصورة وهذا مما يعلم به قطعا أنه ليس موضوعه في اللغة ما تنازع فيه النظار ومعرفته تتوقف على النظر والأدلة الخفية |
2 | 552 | الوجه الرابع أنهم لو قصدوا التركيب فإنما قصدوه فما كان غليظا كثيفا فدعوى المدعى عليهم أنهم يسمون كل ما يشار إليه جسما ويقولون مع ذلك إنه مركب دعوتان باطلتان وجمهور المسلمين الذين يقولون ليس بجسم يقولون من قال إنه جسم وأراد بذلك أنه موجود أو قائم بنفسه أو نحو ذلك أو قال إنه جوهر وأراد بذلك أنه قائم بنفسه فهو مصيب في المعنى لكن أخطأ في اللفظ وأما إذا أثبت أنه مركب من الجواهر الفرده ونحو ذلك فهو مخطئ في المعنى وفي تكفيره نزاع بينهم ثم القائلون بأن الجسم مركب من الجواهر الفردة قد تنازعوا في مسماه فقيل الجوهر الواحد بشرط انضمام غيره إليه يكون جسما وهو قول القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وغيرهما وقيل بل الجوهران فصاعدا وقيل بل أربعة فصاعدا وقيل بل ستة فصاعدا وقيل بل ثمانية فصاعدا وقيل بل ستة عشر وقيل بل اثنان وثلاثون وقد ذكر عامة هذه الأقوال الأشعري في كتاب مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين |
2 | 553 | فقد تبين أن في هذا اللفظ من المنازعات اللفظية اللغوية والإصطلاحية والعقلية والشرعية ما يبين أن الواجب على المسلمين الإعتصام بالكتاب والسنة كما أمرهم الله تعالى بذلك في قوله واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا سورة آل عمران وقوله تعالى ألمص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون سورة الأعراف وقوله وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله سورة الأنعام وقوله كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين اوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم سورة البقرة وقوله يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا سورة |
2 | 554 | النساء وقوله فإما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى سورة طه قال ابن عباس رضي الله عنهما تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ثم قرأ هذه الآية ومثل هذا كثير من الكتاب والسنة وهذا مما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها فالواجب أن ينظر في هذا الباب فما أثبته الله ورسوله أثبتناه وما نفاه الله ورسوله نفيناه والألفاظ التي ورد بها النص يعتصم بها في الإثبات والنفى فنثبت ما أثبتته النصوص من الألفاظ والمعاني وننفى ما نفته النصوص من الألفاظ والمعاني وأما الألفاظ التي تنازع فيها من ابتدعها من المتأخرين مثل لفظ الجسم والجوهر والمتحيز والجهة ونحو ذلك فلا تطلق نفيا ولا إثباتا حتى ينظر في مقصود قائلها فإن كان قد أراد بالنفى والإثبات معنى صحيحا موافقا لما أخبر به الرسول صوب المعنى الذي قصده بلفظه ولكن ينبغي أن يعبر عنه بألفاظ النصوص لا يعدل إلى هذه الألفاظ المبتدعة المجملة إلا عند الحاجة مع قرائن تبين المراد بها والحاجة مثل أن يكون الخطاب مع من لا يتم المقصود معه إن لم يخاطب بها وأما إن أريد بها معنى باطل نفى ذلك المعنى |
2 | 555 | وإن جمع بين حق وباطل أثبت الحق وأبطل الباطل وإذا اتفق شخصان على معنى وتنازعا هل يدل ذلك اللفظ عليه أم لا عبر عنه بعبارة يتفقان على المراد بها وكان أقربهما إلى الصواب من وافق اللغة المعروفة كتنازعهم في لفظ المركب هل يدخل فيه الموصوف بصفات تقوم به وفي لفظ الجسم هل مدلوله في اللغة المركب أو الجسد أو نحو ذلك وأما لفظ المتحيز فهو في اللغة اسم لما يتحيز إلى غيره كما قال تعالى ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة سورة الأنفال وهذا لابد أن يحيط به حيز وجودي ولا بد أن ينتقل من حيز إلى حيز ومعلوم أن الخالق جل جلاله لا يحيط به شيء من مخلوقاته فلا يكون متحيزا بهذا المعنى اللغوي وأما أهل الكلام فاصطلاحهم في المتحيز أعم من هذا فيجعلون كل جسم متحيزا والجسم عندهم ما يشار إليه فتكون السماوات والأرض وما بينهما متحيزا على اصطلاحهم وإن لم يسم ذلك متحيزا في اللغة والحيز تارة يريدون به معنى موجودا وتارة يريدون به معنى معدوما ويفرقون بين مسمى الحيز ومسمى المكان فيقولون المكان أمر وجودي والحيز تقدير مكان عندهم فمجموع الأجسام ليست في شيء موجود فلا تكون في مكان وهي عندهم متحيزة ومنهم من |
2 | 556 | يتناقض فيجعل الحيز تارة موجودا وتارة معدوما كالرازي وغيره كما قد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع فمن تكلم باصطلاحهم وقال إن الله متحيز بمعنى أنه أحاط به شيء من الموجودات فهذا مخطئ فهو سبحانه بائن من خلقه وما ثم موجود إلا الخالق والمخلوق وإذا كان الخالق بائنا عن المخلوق امتنع أن يكون الخالق في المخلوق وامتنع أن يكون متحيزا بهذا الإعتبار وإن أراد بالحيز أمرا عدميا فالأمر العدمي لا شيء وهو سبحانه بائن عن خلقه فإذا سمى العدم الذي فوق العالم حيزا وقال يمتنع أن يكون فوق العالم لئلا يكون متحيزا فهذا معنى باطل لأنه ليس هناك موجود غيره حتى يكون فيه وقد علم بالعقل والشرع أنه بائن عن خلقه كما قد بسط في غير هذا الموضوع وهما مما احتج به سلف الأمة وأئمتها على الجهمية كما احتج به الإمام أحمد في رده على الجهمية وعبد العزيز الكناني وعبدالله بن |
2 | 557 | سعيد بن كلاب والحارث المحاسبي وغيرهم وبينوا أنه سبحانه كان موجودا قبل أن يخلق السماوات والأرض فلما خلقهما فإما أن يكون قد دخل فيهما أو دخلت فيه وكلاهما ممتنع فتعين أنه بائن عنهما وقرروا ذلك بأنه يجب أن يكون مباينا لخلقه أو مداخلا له والنفاة يدعون وجود موجود لا يكون مباينا لغيره ولا مداخلا له وهذا ممتنع في بداية العقول لكن يدعون أن القول بامتناع ذلك هو من حكم الوهم لا من حكم العقل ثم إنهم تناقضوا فقالوا لو كان فوق العرش لكان جسما لأنه لا بد أن يتميز ما يلي هذا الجانب عما يلي هذا الجانب فقال لهم أهل الإثبات معلوم بضرورة العقل أن إثبات موجود فوق العالم ليس بجسم أقرب إلى العقل من إثبات موجود قائم بنفسه ليس بمباين للعالم ولا بمداخل له فإن جاز إثبات الثاني فإثبات الأول أولى وإذا قلتم نفى هذا الثاني من حكم الوهم الباطل قيل لكم فنفى الأول أولى أن يكون من حكم الوهم الباطل |
2 | 558 | وإن قلتم إن نفى الأول من حكم العقل المقبول فنفى الثاني أولى أن يكون من حكم العقل المقبول وقد بسط الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع والمقصود هنا التنبيه وكذلك الكلام في لفظ الجهة فإن مسمى لفظ الجهة يراد به أمر وجودي كالفلك الأعلى ويراد به أمر عدمى كما وراء العالم فإذا أريد الثاني أمكن أن يقال كل جسم في جهة وإذا أريد الأول امتنع أن يكون كل جسم في جسم آخر فمن قال الباري في جهة وأراد بالجهة أمرا موجودا فكل ما سواه مخلوق له ومن قال إنه في جهة بهذا التفسير فهو مخطئ وإن أراد بالجهة أمرا عدميا وهو ما فوق العالم وقال إن الله فوق العالم فقد أصاب وليس فوق العالم موجود غيره فلا يكون سبحانه في شيء من الموجودات وأما إذا فسرت الجهة بالأمر العدمي فالعدم لا شيء وهذا ونحوه من الإستفسار وبيان ما يراد باللفظ من معنى صحيح وباطل يزيل عامة الشبه فإذا قال نافي الرؤية لو رؤى لكان في جهة وهذا ممتنع فالرؤية ممتنعة |
2 | 559 | قيل له إن أردت بالجهة أمرا وجوديا فالمقدمة الأولى ممنوعة وإن أردت بها أمرا عدميا فالثانية ممنوعة فيلزم بطلان إحدى المقدمتين على كل تقدير فتكون الحجة باطلة وذلك أنه إن أراد بالجهة أمرا وجوديا لم يلزم أن يكون كل مرئى في جهة وجودية فإن سطح العالم الذي هو أعلاه ليس في جهة وجودية ومع هذا تجوز رؤيته فإنه جسم من الأجسام فبطل قولهم كل مرئى لا بد أن يكون في جهة وجودية إن أراد بالجهة أمرا وجوديا وإن أراد بالجهة أمرا عدميا منع المقدمة الثانية فإنه إذا قال الباري ليس في جهة عدمية وقد علم ان العدم ليس بشيء كان حقيقة قوله إن الباري لا يكون موجودا قائما بنفسه حيث لا موجودا إلا هو وهذا باطل وإن قال هذا يستلزم أن يكون جسما أو متحيزا عاد الكلام معه في مسمى الجسم والمتحيز فإن قال هذا يستلزم أن يكون مركبا من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة وغيره ذلك من المعاني الممتنعة على الرب لم يسلم له هذا التلازم وإن قال يستلزم أن يكون الرب مشارا إليه ترفع الأيدي إليه في الدعاء وتعرج الملائكة والروح إليه وعرج بمحمد صلى الله عليه |
2 | 560 | وسلم إليه وتنزل الملائكة من عنده وينزل منه القرآن ونحو ذلك من اللوازم التي نطق بها الكتاب والسنة وما كان في معناها قيل له لا نسلم انتفاء هذه اللوازم فإن قال ما استلزم هذه اللوازم فهو جسم قيل إن أردت أنه يسمى جسما في اللغة أو في الشرع فهذا باطل وإن أردت أنه يكون جسما مركبا من المادة والصورة أو من الجواهر المفردة فهذا أيضا ممنوع في العقل فإن ما هو جسم باتفاق العقلاء كالأحجار لا نسلم أنه مركب بهذا الإعتبار كما قد بسط في موضعه فما الظن بغير ذلك وتمام ذلك بمعرفة البحث العقلي في تركيب الجسم الإصطلاحي من هذا وهذا وقد بسط في غير هذا الموضع وبين فيه أن قول هؤلاء وهؤلاء باطل مخالف للأدلة العقلية القطعية ولكن هذا الإمامي لم يذكر هنا من الأدلة ما يصل به إلى آخر البحث وقد ذكر في كلامه ما يناسب |
2 | 561 | هذا الموضع ومن شرع في تقرير ما ذكره بالمقدمات الممنوعة شرع معه في نقضها وإبطالها بمثل ذلك ولكل مقام مقال وقد بسط الكلام على هذه الأمور في موضع وبين أن ما تنفيه نفاة الصفات التي نطق بها الكتاب والسنة في علو الله سبحانه وتعالى على خلقه وغير ذلك كما أنه لم ينطق بما ذكروه كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قال بقولهم أحد من المرسلين ولا الصحابة والتابعين ولم يدل عليه أيضا دليل عقلي بل الأدلة العقلية الصريحة موافقة للأدلة السمعية الصحيحة ولكن هؤلاء ضلوا بألفاظ متشابهة ابتدعوها ومعان عقلية لم يميزوا بين حقها وباطلها وجميع البدع كبدع الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية لها شبه في نصوص الأنبياء بخلاف بدع الجهمية النفاة فإنه ليس معهم فيها دليل سمعي أصلا ولهذا كانت آخر البدع حدوثا في الإسلام ولما حدثت أطلق السلف والأئمة القول بتكفير أهلها لعلمهم بأن حقيقة قولهم تعطيل الخالق ولهذا يصير محققوهم إالى مثل قول فرعون مقدم المعطلة بل وينتصرون له ويعظمونه |
2 | 562 | وهؤلاء المعطلة ينفون نفيا مفصلا ويثبتون شيئا مجملا يجمعون في بين النقيضين وأما الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فيثبتون إثباتا مفصلا وينفون نفيا مجملا يثبتون لله الصفات على وجه التفصيل وينفون عنه التمثيل وقد علم أن التوراة مملوءة بإثبات الصفات التي تسميها النفاة تجسيما ومع هذا فلم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه على اليهود شيئا من ذلك ولا قالوا أنتم مجسمون بل كان أحبار اليهود إذا ذكروا عند النبي صلى الله عليه وسلم شيئا من الصفات أقرهم الرسول على ذلك وذكر ما يصدقه كما في حديث الحبر الذي ذكر له إمساك الرب سبحانه وتعالى للسماوات والأرض المذكور في تفسير قوله تعالى وما قدروا الله حق قدره الآية سورة الزمر وقد ثبت ما يوافق حديث الحبر في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه من حديث ابن عمر وأبي هريرة وغيرهما |
2 | 563 | ولو قدر بأن النفى حق فالرسل لم تخبر به ولم توجب على الناس اعتقاده فمن اعتقده وأوجبه فقد علم بالإضطرار من دين الإسلام أن دينه مخالف لدين النبي صلى الله عليه وسلم فصل ومما يبين الأمر في ذلك أن المسلمين متفقون على تنزيه الله تعالى عن العيوب والنقائص وأنه متصف بصفات الكمال لكن قد ينازعون في بعض الأمور هل النقص إثباتها أو نفيها وفي طريق العلم بذلك فهذا المصنف الإمامي اعتمد على طريق المعتزلة ومن تابعهم من أن الإعتماد في تنزيه الرب عن النقائص على نفى كونه جسما ومعلوم أن |
2 | 564 | هذه الطريقة لم ينطق بها كتاب ولا سنة ولا هي مأثورة عن أحد من السلف فقد علم أنه لا أصل لها في الشرع وجمهور أصحابها يسلمون ذلك لكن يدعون أنها معلومة من جهة العقل فقال لهم القادحون في طريقهم هذا أيضا باطل فإنه لا يمكن تنزيه الله تعالى عن شيء من النقائص والعيوب لاستلزام ذلك كونه جسما فإنه ما من صفة يقول القائل إنها تستلزم التجسيم إلا والقول فيما أثبته كالقول فيما نفاه وهو لا بد أن يثبت شيئا وإلا لزم أن ينفى الموجود القديم الواجب بنفسه وحينئذ فأي صفة قال فيها إنها لا تكون إلا لجسم أمكن أن يقال له مثل ذلك فيما أثبته وإن كانت تلك صفة نقص فلو أراد أن ينزه الله تعالى عن الجهل والعجز والنوم وغير ذلك فإن هذه الصفات لا تكون إلا للأجسام قيل هل له وما تثبته أنت من الأسماء أو الأحكام أو الصفات لا تكون إلا للأجسام ولهذا كان من رد بهذه الطريق على الواصفين لله بالعيوب والنقائص كلامهم متناقض ولهذا لم يعتمد الله ولا رسوله ولا أحد من سلف الأمة فيما ينكرونه على اليهود وغيرهم ممن وصف الله تعالى بشيء من النقائص كالبخل والفقر واللغوب والصاحبة والولد والشريك على هذه الطريق ثم إن كثيرا ممن يسلك هذه الطريق حتى من الصفاتية يقولون |
2 | 565 | إن كون الرب منزها عن النقص متصفا بالكمال مما لا نعرفه بالعقل بل بالسمع وهو الإجماع الذي استند إليه وهؤلاء لا يبقى عندهم طريق عقلي ينزهون الله تعالى به عن شيء من النقائص والإجماع الذي اعتمدوا عليه إنما ينفع في الجمل دون التفاصيل التي هي محل نزاع بين المسلمين فإنه يمتنع أن يحتج بالإجماع في موارد النزاع ثم الإجماع يستندون فيه إلى بعض النصوص ودلالة النصوص على صفات الكمال أظهر وأكثر وأقطع من دلالة النصوص على كون الإجماع حجة وإذا عرف ضعف أصول النفاة للصفات فيما ينزهون عنه الرب فهؤلاء الرافضة طافوا على أبواب المذاهب وفازوا بأخس المطالب فعمدتهم في العقليات على عقليات باطلة وفي السمعيات على سمعيات باطلة ولهذا كانوا من أضعف الناس حجة وأضيقهم محجة وكان الأكابر من أئمتهم متهمين بالزندقة والإنحلال كما يتهم غير واحد من أكابرهم والمقصود هنا أن هذا الباب تكلم الناس فيه بألفاظ مجملة مثل التركيب والإنقسام والتجزئة والتبعيض ونحو ذلك والقائل إذا قال إن الرب تعالى ليس بمنقسم ولا متجزئ ولا متبعض ولا مركب ونحو ذلك فهذا إذا أريد به ما هو المعروف من معنى ذلك في اللغة فلا نزاع بين المسلمين أن الله منزه عن ذلك فلا يجوز أن يقال إنه مركب من أجزاء متفرقة سواء قيل إنه مركب بنفسه أو ركبه غيره ولا أنه مركب يقبل |
2 | 566 | التفريق والتجزئة والتبعيض وإن لم يكن كان متفرقا فاجتمع كما يقال ذلك في الأجسام فإنه سبحانه وإن كان خلق الحيوان والنبات فأنشأه شيئا بعد شيء لم تكن يد الإنسان ورجله ورأسه متفرقة فجمع بينها بل خلق هذه الأعضاء جملة لكن يمكن تفريق بعضها عن بعض فيمتنع أن يقال إن الله سبحانه وتعالى يقبل التفريق والتجزئة والتبعيض بهذا الإعتبار فهذان معنيان متفق عليهما لا أعلم مسلما له قول في الإسلام قال بخلاف ذلك وإن قال إن المراد بالتركيب أنه مركب من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة وبالإنقسام والتجزئة أنه مشتمل على هذه الأجزاء فجمهور العقلاء يقولون إن هذه المخلوقات المشار إليها كالشمس والقمر والأفلاك والهواء والنار والتراب ليست مركبة لا هذا التركيب ولا هذا التركيب وكيف برب العالمين فإنه من المعلوم بصريح العقل أن المخلوق المشار إليه الذي هو عال على غيره كعلو السماء على الأرض إذا كان جمهور العقلاء يقولون إنه ليس مركبا من الأجزاء التي لا تتجزأ وهي الجواهر المنفردة عند القائلين بها ولا من المادة والصورة كان منعهم أن يكون رب العالمين مركبا من هذا وهذا أولى وأما من قال إن هذه الأعيان المشار إليها مركبة من هذا وهذا فكثير منهم كالمعتزلة والأشعرية ينفون عن الرب تعالى هذا التركيب ولكن |
2 | 567 | كثير من شيوخ الكلام يقولون إن الله تعالى جسم فإذا كان من هؤلاء من يقول إن الجسم مركب من الأجزاء المنفردة أو من المادة والصورة فقد يقول إنه مركب بهذا الإعتبار وبهذا وهذا القول باطل عند جماهير المسلمين لكن جمهور العقلاء ينكرون هذاالتركيب في المخلوقات فهم في الخالق أشد إنكارا ومن قال إن المشار إليه المخلوق مركب هذا التركيب فهؤلاء يحتاجون في نفى ذلك عن الرب إلى برهان عقلي يبين امتناع مثل ذلك فإن منازعيهم الذين يقولون بثبوت مثل هذا المعنى الذي جعلوه تركيبا يقولون إنه لا برهان لهم على نفيه بل المقدمات التي وافقونا عليها من إثبات مثل هذا التركيب في الشاهد يدل على ثبوته في الغائب كما في نظائر ذلك مما يستدل به على الغائب بالشاهد وبين الطائفتين في هذا منازعات عقلية ولفظية ولغوية قد بسطت في غير هذا الموضع وأما جمهور العقلاء مع السلف والأئمة فعندهم أن الطائفتين مخطئتان وتنزيه الرب عن ذلك تبين بالعقل مع الشرع كما بين من غير سلوك الشبهات الفاسدة وأما إذا قيل المراد بالإنقسام أو التركيب أن يتميز منه شيء عن شيء مثل تميز علمه عن قدرته أو تميز ذاته عن صفاته أو تميز ما يرى منه عما لا يرى كما قاله السلف في قوله تعالى لا تدركه الأبصار سورة الأنعام قالوا لا تحيط به وقيل لابن عباس رضي الله عنه أليس الله تعالى يقول لا تدركه الأبصار قال ألست ترى |
2 | 568 | السماء قال بلى قال أفكلها ترى قال لا فذكر أن الله يرى ولا يدرك أي لا يحاط به ونحو ذلك فهذا الإمتياز على قسمين أحدهما امتياز في علم العالم منا بأن نعلم شيئا ولا نعلم الآخر فهذا أيضا لا يمكن العاقل أن ينازع فيه بعد فهمه وإن قدر أن فيه نزاعا فإن الإنسان قد يعلم أنه موجود قبل أن يعلم أنه عالم ويعلم أنه قادر قبل أن يعلم أنه مريد ونحو ذلك فما من أحد من الناس إلا وهو يعلم شيئا ولا يعلم الآخر فالإمتياز في علم الناس بين ما يعلم وما لا يعلم مما لا يمكن عاقلا المنازعة فيه إلا أن يكون النزاع لفظيا أو يتكلم الإنسان بما لا يتصور حقيقة قوله فهذا الوجه من الإمتياز متفق على إثباته كما أن الأول متفق على نفيه وأما الإمتياز في نفس الأمر من غير قبول تفرق وانفصال كتميز العلم عن القدرة وتميز الذات عن الصفة وتميز السمع عن البصر وتميز ما يرى منه عما لا يرى ونحو ذلك وثبوت صفات له وتنوعها فهذا مما تنفيه الجهمية نفاة الصفات وهو مما أنكر السلف والأئمة نفيهم له كما ذكر ذلك أئمة المسلمين المصنفين في الرد على الجهمية كالإمام أحمد رضي الله عنه في رده على الجهمية وغيره من أئمة المسلمين ولكن ليس في أئمة المسلمين من قال إن |
2 | 569 | الرب مركب من الجواهر المنفردة ولا من المادة والصورة وقد تنازع النظار في الأجسام المشهودة هل هي مركبة من جواهر أو من أجزاء أو لا من هذا ولا من هذا على ثلاثة أقوال فمن قال إن المخلوق ليس مركبا لا من هذا ولا هذا فالخالق أولى أن لا يكون مركبا ومن قال إن المخلوق مركب فهو بين أمرين إما أن ينفى التركيب عن الرب سبحانه ويحتاج إلى دليل وأدلتهم على ذلك ضعيفة وإما أن يثبت تركيبه من هذا وهذا وهو قول سخيف فكلا القولين النفى والإثبات ضعيف لضعف الأصل الذي اشتركوا فيه وهذا الموضع من محارات كثير من العقلاء في صفات المخلوق والخالق مثال ذلك الثمرة كالتفاحة والأترجة لها لون وطعم وريح وهذه صفات قائمة بها ولها أيضا حركة فمن النظار من قال صفاتها ليست أمورا زائدة على ذاتها ويجعل لفظ التفاحة يتناول هذا كله ومنهم من يقول بل صفاتها زائدة على ذاتها وهذا في التحقيق نزاع لفظي فإن عنى بذاتها ما يتصوره الذهن من الذات المجردة فلا ريب أن صفاتها زائدة على هذه الذات وإن عنى بذاتها الذات الموجودة في الخارج فتلك متصفة بالصفات لا تكون داتا موجودة في الخارج إلا إذا كانت متصفة بصفاتها اللازمة لها |
2 | 570 | فتقديرها في الخارج منفكة عن الصفات حتى يقال هل الصفات زائدة عليها أو ليست زائدة تقدير ممتنع والتقدير الممتنع قد يلزمه حكم ممتنع وقد حكى عن طائفة من النظار كعبدالرحمن بن كيسان الأصم وغيره أنهم أنكروا وجود الأعراض في الخارج حتى أنكروا وجود الحركة والأشبه والله أعلم أنه لم ينقل قولهم على وجهه فإن هؤلاء أعقل من أن يقولوا ذلك وعبدالرحمن الأصم وإن كان معتزليا فإنه من فضلاء الناس وعلمائهم وله تفسير ومن تلاميذه إبراهيم بن |
2 | 571 | إسماعيل بن علية ولإبراهيم مناظرات في الفقه وأصوله مع الشافعي وغيره وفي الجملة فهؤلاء من أذكياء الناس وأحدهم أذهانا وإذا ضلوا في مسألة لم يلزم أن يضلوا في الأمورالظاهرة التي لا تخفى على الصبيان وهذا كما أن الأطباء وأهل الهندسة من أذكياء الناس ولهم علوم صحيحة طبية وحسابية وإن كان ضل منهم طوائف في الأمور الإلهية فذلك لا يستلزم أن يضلوا في الأمور الواضحة في الطب والحساب |
2 | 572 | فمن حكى عن مثل أرسطو أو جالينوس أو غيرهما قولا في الطبيعيات ظاهر البطلان علم أنه غلط في النقل عليه وإن لم يكن تعمد الكذب عليه بل محمد بن زكريا الرازي مع إلحاده في الإلهيات والنبوات ونصرته لقول ديمقراطيس والحرنانيين القائلين بالقدماء الخمسة مع أنه من أضعف أقوال العالم وفيه من التناقض والفساد ما هو مذكور في موضع آخر كشرح الأصبهانية والكلام على معجزات الأنبياء والرد على من قال إنها قوى نفسانية المسماة بالصفدية وغير ذلك فالرجل من أعلم الناس بالطب حتى قيل له جالينوس الإسلام فمن ذكر عنه في الطب قولا يظهر فساده لمبتدئ الأطباء كان غالطا عليه |
2 | 573 | وكذلك عبدالرحمن بن كيسان وأمثاله لا ينكر أن يكون للثمرة طعما ولونا وريحا وهذا من المراد بالأعراض في اصطلاح النظار فكيف يقال إنهم أنكروا الأعراض بل إذا قالوا إن الأعراض ليست صفات زائدة على الجسم بمعنى أن الجسم اسم للذات التي قامت بها الأعراض فالعرض داخل في مسمى الجسم وهذا مما يمكن أن يقوله هؤلاء وأمثالهم ثم رأيت أبا الحسين البصري وهو أحذق متأخري المعتزلة قد ذكر في تصفيح الأدلة والأجوبة هذا المعنى وذكر أن مرادهم هو |
2 | 574 | هذا المعنى وذكر من كلامهم ما يبين ذلك فاختار هو هذا وأثبت الأحوال التي يسميها غيره أعراضا زائدة وعاد جمهور النزاع إلى أمور لفظية وإذا كان كذلك فمن المعلوم أنا نحن نميز بين الطعم واللون والريح بحواسنا فنجد الطعم بالفم ونرى اللون بالعين ونشم الرائحة بالأنف كما نسمع الصوت بالأذن فهنا الآلات التي تحس بها هذه الأعراض مختلفة فينا يظهر اختلافها في أنفسها لاختلاف الآلات التي تدركها بخلاف ما يقوم بأنفسنا من علم وإرادة وحب فإنا لا نميز بين هذا وهذا بحواس مختلفة وإن كان أدلة العلم بذلك مختلفة فالأدلة قد تكون أمورا منفصلة عن المستدل فهذا مما يقع به الفرق بين الصفات المدركة بالحس والصفات المعلومة بالعقل وإلا فمعلوم أن اتصاف الأترجة والتفاحة بصفاتها المتنوعة هو أمر ثابت في نفسه سواء وجدنا ذلك أو لم نجده ومعلوم أن طعمها نفسه ليس هو لونها ولونها ليس هو ريحها وهذا كلها صفات قائمة بها متنوعة بحقائقها وإن كان محلها الموصوف بها واحدا ثم الصفات نوعان نوع لا يشترط فيه الحياة كالطعم واللون والريح ونوع يشترط فيه الحياة كالعلم والإرادة والسمع والبصر فأما الأول فحكمه لا يتعدى محله فلا يتصف باللون والريح والطعم إلا ما قام به ذلك |
2 | 575 | وأما هذا الثاني فقد تنازع فيه النظار لما رأوا أن الإنسان يوصف بأنه عالم قادر مريد والعلم والإرادة لم تقم بعقبه ولا بظهره وإنما هو قائم بقلبه فمنهم من قال الأعراض المشروطة بالحياة يتعدى حكمها محلها فإذا قامت بجزء من الجملة وصف بها سائر الجملة كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة وغيرهم ومنهم من يقول بل الموصوف بذلك جزء منفرد في القلب ومنهم من يقول بل حكمها لا يتعدى محلها وإنه بكل جزء من أجزاء البدن حياة وعلم وقدرة ومن هؤلاء من يقول لا يشترط في قيام هذه الأعراض بالجوهر الفرد البنية المخصوصة كما يقوله الأشعري ومن اتبعه من أصحاب مالك والشافعي أحمد وغيرهم وهؤلاء بنوا هذا على ثبوت الجوهر الفرد وهو أساس ضعيف فإن القول به باطل كما قد بسط في موضعه ثم من المتفلسفة المشائين من ادعى أن محل العلم من الإنسان ما لا ينقسم ومعنى ذلك عندهم أن النفس الناطقة لا يتميز منها شيء عن شيء ولا يتحرك ولا يسكن ولا يصعد ولا ينزل ولا يدخل في البدن ولا غيره من العالم ولا يخرج منه ولا يقرب من شيء ولا يبعد منه ثم منهم من يدعى أنها لا تعلم الجزئيات وإنما تعلم الكليات كما يذكر ذلك عن ابن سينا وغيره وكان أعظم ما اعتمدوا عليه من المعلومات ما لا ينقسم فالعلم به لا ينقسم لأن العلم مطابق للمعلوم |
2 | 576 | فمحل العلم لا ينقسم لأن ما ينقسم لا يحل في منقسم وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبين بعض ما في هذا الكلام من الغلط مع أن هذا عندهم هو البرهان القاطع الذي لا يمكن نقضه وقواهم على ذلك أن بعض من عارضهم كأبي حامد والرازي لم يجيبوا عنه بجواب شاف بل أبو حامد قد يوافقهم على ذلك ومنشأ النزاع إثبات ما لا ينقسم بالمعنى الذي أرادوه في الوجود الخارجي فيقال لهم لا نسلم أن في الوجود ما لا يتميز منه شيء عن شيء فإذا قالوا النقطة قيل لهم النقطة والخط والسطح الواحد والإثنان والثلاثة قد يراد بها هذه المقادير مجردة عن موصوفاتها وقد يراد بها ما اتصف بها من المقدرات في الخارج فإذا أريد الأول فلا وجود لها إلا في الأذهان لا في الأعيان فليس في الخارج عدد مجرد عن المعدود ولا مقدار مجرد عن المقدر لا نقطة ولا خط ولا سطح ولا واحد ولا اثنان ولا ثلاثة بل الموجودات |
2 | 577 | المعدودات كالدرهم والحبة والإنسان والمقدرات كالأرض التي لها طول وعرض وعمق فما من سطح إلا وله حقيقة يتميز بها عن غيره من السطوح كما يتميز التراب عن الماء وكا يتميز سطوح كل جسم عن سطوح الآخر وإن قالوا ما لا ينقسم هي العقول المجردة التي تثبتها الفلاسفة كان دون إثبات هذه خرط القتادة فلا يتحقق منها إلا ما يقدر في الأذهان لا ما يوجد في الأعيان والملائكة التي وصفتها الرسل وأمروا بالإيمان بها بينها وبين هذه المجردات من أنواع الفرقان ما لا يخفى إلا على العميان كما قد بسط في غير هذا المكان وإن أرادوا بما لا ينقسم واجب الوجود وقالوا إنه واحد لا ينقسم ولا يتجزأ قيل إن أردتم بذلك نفى صفاته وأنه ليس لله حياة وعلم وقدرة تقوم به فقد علم أن جمهور المسلمين وسائر أهل الملل بل وسائر عقلاء بني آدم من جميع الطوائف يخالفونكم في هذا وهذا أول المسألة وأنتم وكل عاقل قد يعلم بعض صفاته دون بعض والمعلوم هو غير ما ليس بمعلوم فكيف ينكر أن يكون له معان متعددة وأدلة إثبات الصانع كثيرة ليس هذا موضعها فلم قلتم بإمكان وحود مثل هذا في الخارج فضلا عن تحقيق وجوده |
2 | 578 | وقد عرف فساد حجتكم على نفى الصفات وإن سميتم ذلك توحيدا فحينئذ الواحد الذي لا يتميز منه شيء عن شيء لم يعلم ثبوته في الخارج حتى يحتج على أن العلم به كذلك والعالم به كذلك وقد احتج بعضهم على وجود ما لا ينقسم بالمعنى الذي أرادوه بأن قالوا الوجود في الخارج إما بسيط وإما مركب والمركب لا بد له من بسيط وهذا ممنوع فلا نسلم أن في الوجود ما هو مركب من هذا البسيط الذي أثبتموه وإنما الموجود الأجسام البسيطة وهو ما يشبه بعضه بعضا كالماء والنار والهواء ونحو ذلك وأما ما لا يتميز منه شيء عن شيء فلا نسلم أن في الوجود ما هو مركب منه بل لا موجود إلا ما يتميز منه شيء عن شيء وإذا قالوا فذلك الشيء هو البسيط قيل لهم وذلك إنما يكون بعضا من غيره لا يعلم مفردا ألبتة كما لا يوجد مفردا ألبتة ثم يقال من المعلوم أن بدن الإنسان ينقسم بالمعنى الذي يذكرونه ويتميز منه شيء عن شيء والحياة والحس سار في بدنه فما المانع أن تقوم الحياة والعلم بالروح كما قامت الحياة والحس بالبدن وإن كان البدن منقسما عندكم وإن قلتم الحياة والحس منقسم عندكم قيل إن أردتم بذلك أنه يمكن كون البعض حيا حساسا مع مفارقة البعض |
2 | 579 | قيل هذا لا يطرد بل قد يذهب بعضه وتبقى الحياة والحس في بعضه وقد تذهب الحياة والحس عن بعضه بذهاب ذلك عن البعض كما في القلب وعلى التقديرين فالحياة والحس يتسع باتساع محله والأرواح متنوعة وما يقوم بها من العلم والإرادة وغير ذلك يتنوع بتنوعها فما عظم من الموصوفات عظمت صفاتها وما كان دونها كانت صفاته دونه وأيضا فالوهم عندهم قوة جسمانية قائمة بالجسم مع أنها تدرك في المحسوس ما ليس بمحسوس كالصداقة والعداوة وذلك المعنى مما لا ينقسم بانقسام محله عندهم وأيضا فقوة الإبصار التي في العين قائمة بجسم ينقسم عندهم مع أنها لا تنقسم بانقسام محلها بل الإتصال شرط فيها فلو فسد بعض محلها فسدت ولا يبقى بعضها مع فساد أي بعض كان فما كان المانع أن يكون قيام الحياة والعلم والقدرة والإرادة ببعض الروح إذا قيل يتميز بعضها عن بعض مشروطا بقيامه بالبعض الآخر بحيث يكون الإتصال شرطا في هذا الإتصاف كما يوجد ذلك في الحياة والحس في بعض البدن لا تقوم به الحياة والحس إلا إذا كان متصلا نوعا من الإتصال وبسط الكلام في كثير من هذه الأمور يتعلق بالكلام على روح الإنسان التي تسمى النفس الناطقة وعلى اتصافها بصفاتها فبهذا |
2 | 580 | يستعين الإنسان على الكلام في الصفات الإلهية وبذلك يستعين على ما يرد عليه من الشبهات وقد تكلمنا على ذلك في مواضع والناس قد تنازعوا في روح الإنسان هل هي جسم مركب من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة أو جوهر لا يقبل الصعود والنزول والقرب والبعد ونحو ذلك وكلا القولين خطأ كما ذكر في غير هذا الموضع وأضعف من ذلك قول من يجعلها عرضا من أعراض البدن كالحياة والعلم وقد دخل في الأول قول من قال إن الإنسان ليس هو إلا هذه الجمل المشاهدة وهي البدن ومن قال إنها الريح التي تتردد في مخاريق البدن ومن قال إنها الدم ومن قال إنها البخار اللطيف الذي يجري في مجاري الدم وهو المسمى بالروح عند الأطباء ومن قال غير ذلك والثاني قول من يقول بذلك من المتفلسفة ومن وافقهم من النظار وقد ينظر الإنسان في كتب كثيرة من المصنفة في هذه الأمور ويجد في المصنف أقوالا متعددة والقول الصواب لا يجده فيها ومن تبحر في المعارف تبين له خلاصة الأمور وتحقيقها هو ما أخبر به الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى في جميع هذه الأمور لكن إطالة القول في هذا الباب لا يناسب هذا |
2 | 581 | الكتاب وإنما المقصود التنبيه على أن ما تشنع به الرافضة على أهل السنة من ضعيف الأقوال هم به أخلق والضلال بهم أعلق ولكن لا بد من جمل يهتدى بها إلى الصواب وباب التوحيد والأسماء والصفات مما عظم فيه ضلال من عدل عما جاء به الرسول إلى ما يظنه من المعقول وليست المعقولات الصريحة إلا بعض ما أخبر به الرسول يعرف ذلك من خبر هذا وهذا فصل وهذا الموضع أشكل على كثير من الناس لفظا ومعنى أما اللفظ فتنازعوا في الأسماء التي تسمى الله بها وتسمى بها عباده كالموجود والحي والعليم والقدير فقال بعضهم هي مقولة بالإشتراك اللفظي حذرا من إثبات قدر مشترك بينهما لأنهما إذا اشتركا في مسمى الوجود لزم أن يمتاز الواجب عن الممكن بشيء آخر فيكون مركبا وهذا قول بعض المتأخرين كالشهرستاني والرازي في أحد قوليهما وكالآمدي مع توقفه أحيانا وقد ذكر الرازي والآمدي ومن اتبعهما هذا القول عن الأشعري وأبي الحسين البصري وهو غلط عليهما وإنما ذكروا ذلك |
2 | 582 | لأنهما لا يقولان بالأحوال ويقولان وجود كل شيء عين حقيقته فظنوا أن من قال وجود كل شيء عين حقيقته يلزمه أن يقول إن لفظ الوجود يقال بالإشتراك اللفظي عليهما لأنه لو كان متواطئا لكان بينهما قدر مشترك فيمتاز أحدهما عن الآخر بخصوص حقيقته والمشترك ليس هو المميز فلا يكون الوجود المشترك هو الحقيقة المميزة والرازي والآمدي ونحوهما ظنوا أنه ليس في المسألة إلا هذا القول وقول من يقول بأن اللفظ متواطئ ويقول وجوده زائد على حقيقته كما هو قول أبي هاشم وأتباعه من المعتزلة والشيعة أو قول ابن سينا بأنه متواطئ أو مشكك مع أنه الوجود المقيد بسلب كل أمر ثبوتي عنه وذهب من ذهب من القرامطة الباطنية وغلاة الجهمية إلى أن هذه الأسماء حقيقة في العبد مجاز في الرب قالوا هذا في اسم الحي ونحوه حتى في اسم الشيء كان الجهم وأتباعه لا يسمونه شيئا وقيل عنه إنه لم يسمه إلا بالقادر الفاعل لأن العبد عنده ليس بقادر ولا |
2 | 583 | فاعل فلا يسميه باسم يسمى به العبد وذهب أبو العباس الناشئ إلى ضد ذلك فقال إنها حقيقة للرب مجاز للعبد وزعم ابن حزم أن أسماء الله تعالى الحسنى لا تدل على المعاني فلا يدل عليم على علم ولا قدير على قدرة بل هي أعلام |
2 | 584 | محضة وهذا يشبه قول من يقول بأنها تقال بالإشتراك اللفظي وأصل غلط هؤلاء شيئان إنا نفى الصفات والغلو في نفى التشبيه وإما ظن ثبوت الكليات المشتركة في الخارج فالأول هو مأخذ الجهمية ومن وافقهم على نفى الصفات قالوا إذا قلنا عليم يدل على علم وقدير يدل على قدرة لزم من إثبات الأسماء إثبات الصفات وهذا مأخذ ابن حزم فإنه من نفاة الصفات مع تعظيمه للحديث والسنة والإمام أحمد ودعواه أن الذي يقوله في ذلك هو مذهب أحمد وغيره وغلطه في ذلك بسبب أنه أخذ أشياء من أقوال الفلاسفة والمعتزلة عن بعض شيوخه ولم يتفق له من يبين له خطأهم ونقل المنطق بالإسناد عن متى الترجمان وكذلك قالوا إذا قلنا موجود وموجود وحي وحي لزم التشبيه فهذا أصل غلط هؤلاء |
2 | 585 | وأما الأصل الثاني فمنه غلط الرازي ونحوه فإنه ظن أنه إذا كان هذا موجودا وهذا موجودا والوجود شامل لهما كان بينهما وجود مشترك كلى في الخارج فلا بد من مميز يميز هذا عن هذا والمميز إنما هو الحقيقة فيجب أن يكون هناك وجود مشترك وحقيقة مميزة ثم إن هؤلاء يتناقضون فيجعلون الوجود ينقسم إلى واجب وممكن أو قديم ومحدث كما تنقسم سائر الأسماء العامة الكلية لا كما تنقسم الألفاظ المشتركة كلفظ سهيل القول على سهيل الكوكب وعلى سهيل بن عمرو فإن تلك لا يقال فيها إن هذا ينقسم إلى كذا |
2 | 586 | وكذا ولكن يقال إن هذا اللفظ يطلق على هذا المعنى وعلى هذا المعنى وهذا أمر لغوي لا تقسيم عقلي وهناك تقسيم عقلي تقسيم المعنى الذي هو مدلول اللفظ العام مورد التقسيم مشترك بين الأقسام وقد ظن بعض الناس أنه يخلص من هذا بأن يجعل لفظ الوجود مشككا لكون الوجود الواجب أكمل كما يقال في لفظ السواد والبياض المقول على سواد القار وسواد الحدقة وبياض الثلج وبياض العاج ولا ريب أن المعاني الكلية قد تكون متفاضلة في مواردها بل أكثرها كذلك وتخصيص هذا القسم بلفظ المشكك أمر اصطلاحي ولهذا كان من الناس من قال هو نوع من المتواطئ لأن واضع اللغة لم يضع اللفظ العام بإزاء التفاوت الحاصل لأحدهما بل بإزاء القدر المشترك وبالجملة فالنزاع في هذا لفظي فالمتواطئة العامة تتناول المشككة وأما المتواطئة التي تتساوى معانيها فهي قسيم المشككة وإذ جعلت المتواطئة نوعين متواطئا عاما وخاصا كما جعل الإمكان نوعين عاما وخاصا زال اللبس والمقصود هنا أن يعرف أن قول جمهور الطوائف من الأولين والآخرين |
2 | 587 | أن هذه الأسماء عامة كلية سواء سميت متواطئة أو مشككة ليست ألفاظا مشتركة اشتراكا لفظيا فقط وهذا مذهب المعتزلة والشيعة والأشعرية والكرامية وهو مذهب سائر المسلمين أهل السنة والجماعة والحديث وغيرهم إلا من شذ وأما الشبه التي أوقعت هؤلاء فجوابها من وجهين تمثيل وتخييل أما التمثيل فأن يقال القول في لفظ الوجود كالقول في لفظ الحقيقة والماهية والنفس والذات وسائر الألفاظ التي تقال على الواجب والممكن بل تقال على كل موجود فهم إذا قالوا يشتركان في الوجود ويمتاز أحدهما عن الآخر بحقيقته قيل لهم القول في لفظ الحقيقة كالقول في لفظ الوجود فإن هذا له حقيقة وهذا له حقيقة كما أن لهذا وجودا ولهذا وجودا وأحدهما يمتاز عن الآخر بوجوده المختص به كما هو ممتاز عنه بحقيقته التي تختص به فقول القائل إنهما يشتركان في مسمى الوجود ويمتاز كل |
2 | 588 | واحد منهما بحقيقته التي تخصه كما لو قيل هما مشتركان في مسمى الحقيقة ويمتاز كل منهما بوجوده الذي يخصه وإنما وقع الغلط لأنه اخذ الوجود مطلقا لا مختصا وأخذت الحقيقة مختصة لا مطلقة ومن المعلوم أن كلا منهما يمكن أن يوجد مطلقا ويمكن أن يوجد مختصا فإذا أخذا مطلقين تساويا في العموم وإذا أخذا مختصين تساويا في الخصوص وأما أخذ أحدهما عاما والآخر مختصا فليس هذا بأولى من العكس وأما حل الشبهة فهو أنهم توهموا أنه إذا قيل إنهما مشتركان في مسمى الوجود يكون في الخارج وجود مشترك هو نفسه في هذا وهو نفسه في هذا فيكون نفس المشترك فيهما والمشترك لا يميز فلا بد له من مميز وهذا غلط فإن قول القائل يشتركان في مسمى الوجود أي يشتبهان في ذلك ويتفقان فيه فهذا موجود وهذا موجود ولم يشرك أحدهما الآخر في نفس وجوده ألبتة |
2 | 589 | وإذا قيل يشتركان في الوجود المطلق الكلي فذاك المطلق الكلي لا يكون مطلقا كليا إلا في الذهن فليس في الخارج مطلق كلي يشتركان فيه بل هذا له حصة منه وهذا له حصة منه وكل من الحصتين ممتازة عن الأخرى ومن قال المطلق جزء من المعين والموجود جزء من هذا الموجود والإنسان جزء من هذا الإنسان إن أراد به أن المعين يوصف به فيكون صفة له ومع كونه صفة له فما هو صفة له لا توجد عينه لآخر فهذا معنى صحيح ولكن تسمية الصفة جزء الموصوف ليس هو المفهوم منها عند الإطلاق وإن أريد أن نفس ما في المعين من وجود أو إنسان هو في ذلك بعينه فهذا مكابرة وإن قال إنما أردت أن النوع في الآخر عاد الكلام في النوع فإن النوع أيضا كلى والكليات الخمسة كليات الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض العام والقول فيها واحد فليس فيها ما يوجد في الخارج كليا مطلقا ولا تكون كلية مطلقة إلا في الأذهان لا في الأعيان |
2 | 590 | وما يدعى فيها من عموم وكلية أو من تركيب كتركيب النوع من الجنس والفصل هي أمور عقلية ذهنية لا وجود لها في الخارج فليس في الخارج شيء يعم هذا وهذا ولا في الخارج إنسان مركب من هذا وهذا بل الإنسان موصوف بهذا وهذا وهذا بصفة يوجد نظيرها في كل إنسان وبصفة يوجد نظيرها في كل حيوان وبصفة يوجد نظيرها في كل نام وأما نفس الصفة التي قامت به ونفس الموصوف الذي قامت به الصفة فلا اشتراك فيه أصلا ولا عموم ولا هو مركب من عام وخاص وهذا الموضع منشأ زلل كثير من المنطقيين في الكليات وكثير من المتكلمين في مسألة الحل وبسبب ذلك غلط من غلط من هؤلاء وهؤلاء في الإلهيات فيما يتعلق بهذا فإن المتكلمين أيضا رأوا أن الأشياء تتفق بصفات وتختلف بصفات والمشترك عين المميز فصاروا حزبين حزبا أثبت هذه الأمور في الخارج لكنه قال لا موجودة ولا معدومة لأنها لو كانت موجودة لكانت أعيانا موجودة أو |
2 | 591 | صفات للأعيان ولو كانت كذلك لم يكن فيها اشتراك وعموم فإن صفة الموصوف الموجودة لا يشركه فيها غيره وآخرون علموا أن كل موجود مختص بصفة فقالوا لا عموم ولا اشتراك إلا في الألفاظ دون المعاني والتحقيق أن هذه الأمور العامة المشترك فيها هي ثابتة في الأذهان وهي معاني الألفاظ العامة فعمومها بمنزلة عموم الألفاظ فالخط يطابق اللفظ واللفظ يطابق المعنى والمعنى عام وعموم اللفظ يطابق عموم المعنى وعموم الخط يطابق عموم اللفظ وقد اتفق الناس على أن العموم يكون من عوارض الألفاظ وتنازعوا هل يكون من عوارض المعاني فقيل يكون أيضا من عوارض المعاني كقولهم مطر عام وعدم عام وخصب عام وقيل بل ذلك مجاز لأن المطر الذي حل بهذه البقعة ليس هو المطر الذي حل بهذه البقعة وكذلك الخصب والعدل والتحقيق أن معنى المطر القائم بقلب المتكلم عام كعموم اللفظ سواء بل اللفظ دليل على ذلك المعنى فكيف يكون اللفظ عاما دون معناه الذي هو المقصود بالبيان فأما المعاني الخارجية فليس فيها |
2 | 592 | شيء بعينه عام وإنما العموم للنوع كعموم الحيوانية للحيوان والإنسانية للإنسان فمسألة الكليات والأحوال وعروض العموم لغير الألفاظ من جنس واحد ومن فهم الأمر على ما هو عليه تبين له أنه ليس في الخارج شيء هو بعينه موجود في هذا وهذا وإذا قال نوعه موجود أو الكلى الطبيعي موجود أو الحقيقة موجودة أو الإنسانية من حيث هي موجودة ونحو هذه العبارات فالمراد به أنه وجد في هذا نظير ما وجد في هذا أو شبهه ومثله ونحو ذلك والمتماثلان يجمعهما نوع واحد وذلك النوع هو الذي بعينه يعم هذا ويعم هذا لا يكون عاما مطلقا كليا إلا في الذهن وأنت إذا قلت الإنسانية موجودة في الخارج والكلى الطبيعي موجود في الخارج كان صحيحا بمعنى أن ما تصوره الذهن كليا يكون في الخارج لكنه إذا كان في الخارج لا يكون كليا كما أنك إذا قلت زيد في الخارج فليس المراد هذا اللفظ ولا المعنى القائم في الذهن بل المراد المقصود بهذا اللفظ موجود في الخارج |
2 | 593 | ومن هنا تنازع الناس في مسألة الإسم والمسمى ونزاعهم شبيه بهذا النزاع وأنت إذا نظرت في الماء أو المرآة فقلت هذه الشمس أو هذا القمر فهو صحيح وليس مرادك أن نفس ما في السماء حصل في الماء أو المرآة ولكن ذلك شوهد في المرآة وظهر في المرآة وتجلى في المرآة فإذا قلت الكليات في الخارج فصحيح أو الإنسان من حيث هو في الخارج فصحيح لكن لا يكون في الخارج إلا مقيدا مخصوصا لا يشركه في نفس الأمر شيء من الموجودات الخارجية وبهذا ينحل كثير من المواضع التي اشتبهت على كثير من المنطقيين وغلطوا فيها مثل زعمهم أن الماهية الموجودة في الخارج غير الوجود فإنك تتصور المثلث قبل أن تعلم وجوده وبنوا على ذلك الفرق بين الصفات الذاتية واللازمة العرضية وغير ذلك من مسائلهم ولا ريب أن الفرق ثابت بين ما هو في الذهن وما هو في الخارج فإذا |
2 | 594 | جعلت الماهية اسما لما في الذهن والوجود اسما لما في الخارج فالفرق ثابت كما لو جعل الوجود اسما لما في الذهن والماهية اسما لما في الخارج لكن لما كان لفظ الماهية مأخوذا من قول السائل ماهو وجواب هذا هو المقول في جواب ما هو وذلك كلام يتصور معناه المجيب عبر بالماهية عن الصور الذهنية وأما الوجود فهو تحقق الشيء في الخارج لكن هؤلاء لم يقتصروا على هذا بل زعموا أن ما هيات الأشياء ثابتة في الخارج وأنها غير الأعيان الموجودة وهذا غلط بالضرورة فإن المثلث الذي تعرفه قبل أن تعرف وجوده في الخارج هو المثلث المتصور في الذهن الذي لا وجود له في الخارج وإلا فمن الممتنع أن تعلم حقيقة المثلث الموجود في الخارج قبل أن تعلم وجوده في الخارج فما في الخارج لا تعلم حقيقته حتى تعلم وجوده وما علمت حقيقته قبل وجوده لم يكن له حقيقة بعد إلا في الذهن |
2 | 595 | ومن هذا الباب ظن من ظن من هؤلاء أن لنا عددا مجردا في الخارج أو مقدارا مجردا في الخارج وكل هذا غلط وهذا مبسوط في موضع آخر وإنما نبهنا هنا على هذا لأن كثيرا من أكابر أهل النظر والتصوف والفلسفة والكلام ومن اتبعهم من الفقهاء والصوفية ضلوا في مسألة وجود الخالق التي هي رأس كل معرفة والتبس الأمر في ذلك على من نظر في كلامهم لأجل هذه الشبهة وقد كتبنا في مسألة الكليات كلاما مبسوطا مختصا بذلك لعموم الحاجة وقوة المنفعة وإزالة الشبهة بذلك وبهذا يتبين غلط النفاة في لفظ التشبيه فإنه يقال الذي يجب نفيه عن الرب تعالى اتصافه بشيء من خصائص المخلوقين كما أن المخلوق لا يتصف بشيء من خصائص الخالق أو أن يثبت للعبد شيء يماثل فيه الرب وأما إذا قيل حي وحي وعالم وعالم وقادر وقادر أو قيل لهذا قدرة ولهذا قدرة ولهذا علم ولهذا علم كان نفس علم الرب لم يشركه فيه العبد ونفس علم العبد لا يتصف به الرب تعالى عن ذلك وكذلك في سائر الصفات بل ولا يماثل هذ هذا |
2 | 596 | وإذا اتفق العلماء في مسمى العلم والعالمان في مسمى العالم فمثل هذا التشبيه ليس هو المنفى لا بشرع ولا بعقل ولا يمكن نفى ذلك إلا بنفى وجود الصانع ثم الموجود والمعدوم قد يشتركان في أن هذا معلوم مذكور وهذا معلوم مذكور وليس في إثبات هذا محذور فإن المحذور إثبات شيء من خصائص أحدهما للآخر وقولنا إثبات الخصائص إنما يراد إثبات مثل تلك الخاصة وإلا فإثبات عينها ممتنع مطلقا فالأسماء والصفات نوعان نوع يختص به الرب مثل الإله ورب العالمين ونحو ذلك فهذا لايثبت للعبد بحال ومن هنا ضل المشركون الذين جعلوا لله أندادا والثاني ما يوصف به العبد في الجملة كالحي والعالم والقادر فهذا لا يجوز أن يثبت للعبد مثل ما يثبت للرب أصلا فإنه لو ثبت له مثل ما يثبت له للزم أن يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر ويجب له ما يجب له ويمتنع عليه ما يمتنع عليه وذلك يستلزم اجتماع النقيضين كما تقدم بيانه |
2 | 597 | وإذا قيل فهذا يلزم فيما اتفقا فيه كالوجود والعلم والحياة قيل هذه الأمور لها ثلاثة اعتبارات أحدها ما يختص به الرب فهذا ما يجب له ويجوز ويمتنع عليه ليس للعبد فيه نصيب والثاني ما يختص بالعبد كعلم العبد وقدرته وحياته فهذا إذا جاز عليه الحدوث والعدم لم يتعلق ذلك بعلم الرب وقدرته وحياته فإنه لا اشتراك فيه والثالث المطلق الكلى وهو مطلق الحياة والعلم والقدرة فهذا المطلق ما كان واجبا له كان واجبا فيهما وما كان جائزا عليه كان جائزا عليهما وما كان ممتنعا عليه كان ممتنعا عليهما فالواجب أن يقال هذه صفة كمال حيث كانت فالحياة والعلم والقدرة صفة كمال لكل موصوف والجائز عليهما اقترانهما بصفة أخرى كالسمع والبصر والكلام فهذه الصفات يجوز أن تقارن هذه في كل محل اللهم إلا إذا كان هناك مانع من جهة المحل لا من جهة الصفة وأما الممتنع عليهما فيمتنع أن تقوم هذه الصفات إلا بموصوف |
2 | 598 | قائم بنفسه وهذا ممتنع عليها في كل موضع فلا يجوز أن تقوم صفات الله بأنفسها بل بموصوف وكذلك صفات العباد لا يجوز أن تقوم بأنفسها بل بموصوف وإذا تبين هذا فقول هذا المصنف وأشباهه قول المشبهة إن أراد بالمشبهة من أثبت من الأسماء ما يسمى به الرب والعبد فطائفته وجميع الناس مشبهة وإن أراد به من جعل صفات الرب مثل صفات العبد فهؤلاء مبطلون ضالون وهم في الشيعة أكثر منهم في غيرهم وليس هؤلاء طائفة معينة من أهل السنة والجماعة وإن قال أردت به من يثبت الصفات الخبرية كالوجه واليدين والإستواء ونحو ذلك قيل له أولا ليس هي هؤلاء من التشبيه ما امتازوا به عن غيرهم فإن هؤلاء يصرحون بأن صفات الله ليست كصفات الخلق وأنه منزه عما يختص بالمخلوقين من الحدوث والنقص وغير ذلك فإن كان هذا تشبيها لكون العباد لهم ما يسمى بهذه الأسماء كان جميع الصفاتية |
2 | 599 | مشبهة بل والمعتزلة والفلاسفة أيضا مشبهة لأنهم يقولون حي عليم قدير ويقولون موجود وحقيقة وذات ونفس والفلاسفة تقول عاقل ومعقول وعقل ولذيذ وملتذ ولذة وعاشق ومعشوق وعشق وغير ذلك من الأسماء الموجودة في المخلوقات وإن قال سموا مشبهة لأنهم يقولون إنه جسم والأجسام متماثلة بخلاف من أثبت الصفات ولم يقل هو جسم قيل أولا هذا باطل لأنك ذكرت الكرامية قسما غيرهم والكرامية تقول إنه جسم وقيل لك ثانيا لا يطلق لفظ الجسم إلا أئمتك الإمامية ومن وافقهم وقيل لك ثالثا فهذا مبنى على تماثل الأجسام وأكثر العقلاء يقولون إنها ليست متماثلة والقائلون بتماثلها من المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وطائفة من الفقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية ليست لهم حجة على تماثلها أصلا كما قد بسط ذلك في موضعه |
2 | 600 | وقد اعترف بذلك فضلاؤهم حتى الآمدي في كتاب أبكار الأفكار اعترف بأنه لا دليل لهم على تماثل الأجسام إلا تماثل الجواهر ولا دليل لهم على تماثل الجواهر والأشعري في الإبانة جعل هذا القول من أقوال المعتزلة التي أبطلها وسواء كان تماثلها حقا أو باطلا فمن قال إنه جسم كهشام بن الحكم وابن كرام لا يقول بتماثل الأجسام فإنهم يقولون إن حقيقة الله تعالى ليست مثل شيء من الحقائق فهم أيضا ينكرون التشبيه فإذا وصفوا به لاعتقاد الواصف أنه لازم لهم أمكن كل طائفة أن يصفوا الأخرى بالتشبيه لاعتقادها أنه لزم لها فالمعتزلة والشيعة توافقهم على أن أخص وصف الرب هو القدم وأن ما شاركه في القدم فهو مثله فإذا أثبتنا صفة قديمة لزم التشبيه وكل من أثبت صفة قديمة فهو مشبه وهم يسمون جميع من أثبت الصفات مشبها بناء على هذا |
2 | 601 | فإن قال هذا الإمامي فأنا ألتزم هذا قيل له تناقضت لأنك أخرجت الأشعرية والكرامية عن المشبهة في اصطلاحك فأنت تتكلم بألفاظ لا تفهم معناها ولا موارد استعمالها وإنما تقوم بنفسك صورة تبني عليها وكأنك والله أعلم عنيت بالحشوية المشبهة من ببغداد والعراق من الحنبلية ونحوهم أو الحنبلية دون غيرهم وهذا من جهلك فإنه ليس للحنبلية قول انفردوا به عن غيرهم من طوائف أهل السنة والجماعة بل كل ما يقولونه قد قاله غيرهم من طوائف أهل السنة بل يوجد في غيرهم من زيادة الإثبات ما لا يوجد فيهم ومذهب أهل السنة والجماعة مذهب قديم معروف قبل أن يخلق الله أبا حنيفة ومالكا والشافعي وأحمد فإنه مذهب الصحابة الذين تلقوه عن نبيهم ومن خالف ذلك كان مبتدعا عند أهل السنة والجماعة فإنهم متفقون على أن إجماع الصحابة حجة ومتنازعون في إجماع من بعدهم وأحمد بن حنبل وإن كان قد اشتهر بإمامة السنة والصبر في |
2 | 602 | المحنة فليس ذلك لأنه انفرد بقول أو ابتدع قولا بل لأن السنة التي كانت موجودة معروفة قبله علمها ودعا إليها وصبر على من امتحنه ليفارقها وكان الأئمة قبله قد ماتوا قبل المحنة فلما وقعت محنة الجهمية نفاة الصفات في أوائل المائة الثالثة على عهد المأمون وأخيه المعتصم ثم الواثق ودعوا الناس إلى التجهم وإبطال صفات الله |
2 | 603 | تعالى وهو المذهب الذي ذهب إليه متأخروا الرافضة وكانوا قد أدخلوا معهم من أدخلوه من ولاة الأمور فلم يوافقهم أهل السنة والجماعة حتى تهددوا بعضهم بالقتل وقيدوا بعضهم وعاقبوهم وأخذوهم بالرهبة والرغبة وثبت الإمام أحمد بن حنبل على ذلك الأمر حتى حبسوه مدة ثم طلبوا أصحابهم لمناظرته فانقطعوا معه في المناظرة يوما بعد يوم ولم يأتوا بما يوجب موافقته لهم بل بين خطأهم فيما ذكروه من الأدلة وكانوا قد طلبوا له أئمة الكلام من أهل البصرة وغيرهم مثل أبي عيسى محمد بن عيسى برغوث صاحب حسين النجار وأمثاله ولم تكن المناظرة مع المعتزلة فقط بل كانت |
2 | 604 | مع جنس الجهمية من المعتزلة والنجارية والضرارية وأنواع المرجئة فكل معتزلي جهمي وليس كل جهمي معتزليا لكن جهم أشد تعطيلا لأنه ينفى الأسماء والصفات والمعتزلة تنفى الصفات دون الأسماء وبشر المريسى كان من المرجئة لم يكن من المعتزلة بل كان من كبار الجهمية |
2 | 605 | وظهر للخليفة المعتصم أمرهم وعزم على رفع المحنة حتى ألح عليه ابن أبي دؤاد يشير عليه إنك إن لم تضر به وإلا انكسر ناموس الخلافة فضربه فعظمت الشناعة من العامة والخاصة فأطلقوه ثم صارت هذه الأمور سببا في البحث عن مسائل الصفات وما فيها من النصوص والأدلة والشبهات من جانبي المثبتة والنفاة للصفات وصنف الناس في ذلك مصنفات وأحمد وغيره من علماء أهل السنة والحديث مازالوا يعرفون فساد |
2 | 606 | مذهب الروافض والخوارج والقدرية والجهمية والمرجئة ولكن بسبب المحنة كثر الكلام ورفع الله قدر هذا الإمام فصار إماما من أئمة السنة وعلما من أعلامها لقيامه بإعلامها وإظهارها واطلاعه على نصوصها وآثارها وبيانه لخفى أسرارها لا لأنه أحدث مقالة أو ابتدع رأيا ولهذا قال بعض شيوخ المغرب المذهب لمالك والشافعي والظهور لأحمد يعنى أن مذاهب الأئمة في الأصول مذهب واحد وهو كما قال فتخصيص الكلام من أحمد وأصحابه في مسائل الإمامة والإعتزال كتخصيصه بالكلام معه في مسائل الخوارج الحرورية بل في نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم والرد على اليهود والنصارى والخطاب بتصديق الرسول فيما أخبر به وطاعته فيما أمر به قد شمل جميع العباد ووجب على كل أحد فأسعدهم أطوعهم لله وأتبعهم لرسول الله وإذا قدر أن في الحنبلية أو غيرهم من طوائف |
2 | 607 | أهل السنة من قال أقوالا باطلة لم يبطل مذهب أهل السنة والجماعة ببطلان ذلك بل يرد على من قال ذلك الباطل وتنصر السنة بالدلائل ولكن الرافضي أخذ ينكت على كل طائفة بما يظن أنه يجرحها به في الأصول والفروع ظانا أن طائفته هي السليمة من الجرح وقد اتفق عقلاء المسلمين على أنه ليس في طائفة من طوائف أهل القبلة أكثر جهلا وضلالا وكذبا وبدعا وأقرب إلى كل شر وأبعد عن كل خير من طائفته ولهذا لما صنف الأشعري كتابه في المقالات ذكر أولا مقالتهم وختم بمقالة أهل السنة والحديث وذكر أنه بكل ما ذكر من أقوال أهل السنة والحديث يقول وإليه يذهب وتسمية هذا الرافضي وأمثاله من الجهمية معطلة الصفات لأهل الإثبات مشبهة كتسميتهم لمن أثبت خلافة الخلفاء الثلاثة ناصبيا بناء على اعتقادهم فإنهم لما اعتقدوا أنه لا ولاية لعلي إلا بالبراءة من |
2 | 608 | هؤلاء جعلوا كل من لم يتبرأ من هؤلاء ناصبيا كما أنهم لما اعتقدوا أن القدمين متماثلان أو أن الجسمين متماثلان ونحو ذلك قالوا إن مثبتة الصفات مشبهة فيقال لمن قال هذا إن كان مرادك بالنصب والتشبيه بغض علي وأهل البيت وجعل صفات الرب مثل صفات العبد فأهل السنة ليسوا ناصبية ولا مشبهة وإن كنت تريد بذلك أنهم يوالون الخلفاء ويثبتون صفات الله تعالى فسم هذا بما شئت إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان والمدح والذم إنما يتعلق بالأسماء إذا كان لها أصل في الشرع كلفظ المؤمن والكافر والبر والفاجر والعالم والجاهل ثم من أراد أن يمدح أو يذم فعليه أن يبين دخول الممدوح والمذموم في تلك الأسماء التي علق الله ورسوله بها المدح والذم فأما إذا كان الإسم ليس له أصل في الشرع ودخول الداخل فيه مما ينازع فيه المدخل بطلت كل من المقدمتين وكان هذا الكلام مما لا يعتمد عليه إلا من لا يدري ما يقول |
2 | 609 | والكتاب والسنة ليس فيه لفظ ناصبية ولا مشبهة ولا حشوية ولا فيه أيضا لفظ رافضة ونحن إذا قلنا رافضة نذكره للتعريف لأن مسمى هذا الإسم يدخل فيه أنواع مذمومة بالكتاب والسنة من الكذب على الله ورسوله وتكذيب الحق الذي جاء به رسوله ومعاداة أولياء الله بل خيار أوليائه وموالاة اليهود والنصارى والمشركين كما تبين وجوه الذم وأهل السنة والجماعة لا يمكن أن يعمهم معنى مذموم في الكتاب والسنة بحال كما يعم الرافضة نعم يوجد في بعضهم ما هو مذموم ولكن هذا لا يلزم منه ذمهم كما أن المسلمين إذا كان فيهم من هو مذموم لذنب ركبه لم يستلزم ذلك ذم الإسلام وأهله القائمين بواجباته الوجه الرابع أن يقال أما القول بأنه جسم أو ليس بجسم فهذا مما تنازع فيه أهل الكلام والنظر وهي مسألة عقلية وقد تقدم أن الناس فها على ثلاثة أقوال نفي وإثبات ووقف وتفصيل وهذا هو الصواب الذي عليه السلف والأئمة ولهذا لما ذكر أبو عيسى برغوث لأحمد هذا في مناظرته إياه وأشار إلى أنه إذا قلت إن القرآن غير مخلوق لزم أن يكون الله جسما لأن |
2 | 610 | القرآن صفة وعرض ولا يكون إلا بفعل والصفات والأعراض والأفعال لا تقوم إلا بالأجسام أجابة الإمام أحمد بأنا نقول إن الله أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وأن هذا الكلام لا يدرى مقصود صاحبه به فلا نطلقه لا نفيا ولا أثباتا أما من جهة الشرع فلأن الله ورسوله وسلف الأمة لم يتكلموا بذلك لا نفيا ولا إثباتا فلا قالوا هو جسم ولا قالوا هو ليس بجسم ولما سلك من سلك في الإستدلال على حدوث العالم بحدوث الأجسام ودخلوا في هذا الكلام ذم السلف الكلام وأهله حتى قال أبو يوسف من طلب الدين بالكلام تزندق وقال الشافعي حكمى في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام وقال لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننت مسلما يقوله |
2 | 611 | ولأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه ما خلا الشرك بالله خيرا له من أن يبتلى بالكلام وقد صنفت في ذمهم مصنفات مثل كتاب أبي عبد الرحمن السلمي وكتاب شيخ الإسلام الأنصاري وغير ذلك وأما من جهة العقل فلأن هذا اللفظ مجمل يدخل فيه نافيه معاني يجب أثباتها لله ويدخل فيه مثبته ما ينزه الله تعالى عنه فإذا لم يدر مراد المتكلم به لم ينف ولم يثبت وإذا فسر مراده قبل الحق وعبر عنه بالعبارات الشرعية ورد الباطل وإن تكلم بلفظ لم يرد عن الشارع |
2 | 612 | للحاجة إلى إفهام المخاطب بلغته مع ظهور المعنى الصحيح لم يكن بذلك بأس فإنه يجوز ترجمة القرآن والحديث للحاجة إلى الإفهام وكثير ممن قد تعود عبارة معينة إن لم يخاطب بها لم يفهم ولم يظهر له صحة القول وفساده وربما نسب المخاطب إلى أنه لا يفهم ما يقول وأكثر الخائضين في الكلام والفلسفة من هذا الضرب ترى أحدهم يذكر له المعاني الصحيحة بالنصوص الشرعية فلا يقبلونها لظنهم أن في عبارتهم من المعاني ما ليس في تلك فإذا أخذ المعنى الذي دل عليه الشرع وصيغ بلغتهم وبين به بطلان قولهم المناقض للمعنى الشرعي خضعوا لذلك وأذعنوا له كالتركي والبربري والرومي والفارسي الذي يخاطبه بالقرآن العربي ويفسره فلا يفهمه حتى يترجم له شيئا بلغته فيعظم سروره وفرحه ويقبل الحق ويرجع عن باطله لأن المعاني التي جاء بها الرسول أكمل المعاني وأحسنها وأصحها لكن هذا يحتاج إلى كمال المعرفة لهذا ولهذا كالترجمان الذي يريد أن يكون حاذقا في فهم اللغتين |
2 | 613 | وهذا الإمامي يناظر في ذلك أئمته كهشام بن الحكم وأمثاله ولا يمكنه أن يقطعهم بوجه من الوجوه كما لا يمكنه أن يقطع الخوارج بوجه من الوجوه وإن كان في قول الخوارج والمجسمة من الفساد ما فيه فلا يقدر أن يدفعه إلا أهل السنة ونحن نذكر مثالا فنقول أهل السنة متفقون على أن الله لا يرى في الدنيا ويرى في الآخرة لم يتنازع أهل السنة إلا في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم مع أن أئمة السنة على أنه لم يره أحد بعينه في الدنيا مطلقا وقد ذكر عن طائفة أنهم يقولون إن الله يرى في الدنيا وأهل السنة يردون على هذا بالكتاب والسنة مثل استدلالهم بأن موسى عليه السلام منع منها فمن هو دونه أولى وبقول النبي صلى الله عليه وسلم واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت رواه مسلم في صحيحه وروى هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة وبطرق عقلية كبيانهم عجز الأبصار في الدنيا عن الرؤية ونحو ذلك |
2 | 614 | وأما هذا وأمثاله فليست لهم على هؤلاء حجة لا عقلية ولا شرعية فإن عمدتهم في نفى الرؤية أنه لو رئى لكان في جهة ولكان جسما وهؤلاء يقولون إنه يرى في الدنيا بل يقولون إنه في جهة وهو جسم فإن أخذوا في الإستدلال على نفى الجهة ونفى الجسم كان منتهاهم معهم إلى أنه لا تقوم به الصفات وهؤلاء يقولون تقوم به الصفات فإن استدلوا على ذلك كان منتهاهم معهم إلى أن الصفات أعراض وما قامت به الأعراض محدث وهؤلاء يقولون تقوم به الأعراض وهو قديم والأعراض عند هؤلاء تقوم بالقديم فإن قالوا الجسم لا يخلو عن الحركة أو السكون وما لا يخلو |
2 | 615 | عنهما فهو محدث لامتناع حوادث لا أول لها فهذا منتهى ما عند المعتزلة وأتباعهم من الشيعة قال لهم أولئك لا نسلم أن الجسم لا يخلوا عن الحركة والسكون الوجوديي بل يجوز خلوه عن الحركة لأن السكون عدم الحركة مطلقا وعدم الحركة عما من شأنه أن يقبلها فيجوز ثبوت جسم قديم ساكن لا يتحرك وقالوا لهم لا نسلم امتناع حوادث لا أول لها وطعنوا في أدلة نفى ذلك بالمطاعن المعروفة حتى حذاق المتأخرين كالرازي وأبي الحسن الآمدي وأبي الثناء الأرموي وغيرهم طعنوا في ذلك كله وطعن الرازي في ذلك في مواضع وإن كان اعتمد عليه في |
2 | 616 | مواضع والآمدي طعن في طرق الناس إلا طريقة ارتضاها وهي أضعف من غيرها طعن فيها غيره فهذان مقامان من المقامات العقلية لا يقدر هؤلاء أن يغلبوا فيها شيوخهم المتقدمين فإذا كانوا لا ينفون رؤيته في الدنيا إلا بهذه الطريق لم يكن لهم حجة إلا على من يقول إنه يرى ويصافح وأمثال |
2 | 617 | ذلك من المقالات مع أن هذا من أشنع المقالات عند أهل السنة والجماعة ولا يعرف له قائل معدود من أهل السنة والحديث وبيان هذا بالوجه الخامس وهو أن يقال هذه الأقوال حكاها الناس عن شرذمة قليلة أكثرهم من الشيعة وبعضهم من غلاة النساك وداود الجواربي قال الأشعري في المقالات وقال داود الجواربي ومقاتل بن سليمان إن الله جسم وأنه جثة وأعضاء على صورة الإنسان لحم ودم وشعر وعظم له |
2 | 618 | جوارح وأعضاء من يد ورجل ولسان ورأس وعينين وهو مع هذا لا يشبه غيره ولا يشبهه غيره وحكى عن داود الجواربي أنه كان يقول إنه أجوف من فيه إلى صدره ومصمت ما سوى ذلك وقال هشام بن سالم الجواليقي إن الله على صورة الإنسان وأنكر أن يكون لحما ودما وإنه نور ساطع يتلألأ بياضا وإنه ذوا حواس خمس كحواس الإنسان سمعه غير بصره وكذلك سائر حواسه له يد ورجل وأذن وعين وأنف وفم وإن له وفرة سوداء قلت أما داود الجواربي فقد عرف عنه القول المنكر الذي أنكره عليه أهل السنة وأما مقاتل فالله أعلم بحقيقة حاله والأشعري ينقل هذه المقالات من كتب المعتزلة وفيهم انحراف على مقاتل بن سليمان |
2 | 619 | فلعلهم زادوا في النقل عنه أو نقلو عنه أو نقلوا عن غير ثقة وإلا فما أظنه يصل إلى هذا الحد وقد قال الشافعي من أراد التفسير فهو عيال على مقاتل ومن أراد الفقه فهو عيال على أبي حنيفة ومقاتل بن سليمان وإن لم يكن ممن يحتج به في الحديث بخلاف مقاتل بن حيان فإنه ثقة لكن لا ريب في علمه بالتفسير وغيره واطلاعه كما أن أبا حنيفة وإن كان الناس خالفوه في أشياء |
2 | 620 | وأنكروها عليه فلا يستريب أحد في فقهه وفههمه وعلمه وقد نقلوا عنه أشياء يقصدون بها الشناعة عليه وهي كذب عليه قطعا مثل مسألة الخنزير البري ونحوها وما يبعد أن يكون النقل عن مقاتل من هذا الباب وهذا الإمامي نقل النقل المذكور عن داود الطائي وهذا جهل منه أو من نقله هو عنه فإن داود الطائي كان رجلا صالحا زاهدا عابدا |
2 | 621 | فقيها من أهل الكوفة في زمن أبي حنيفة والثوري وشريك وابن أبي ليلى وكان قد تفقه ثم انقطع للعبادة وأخباره وسيرته مشهورة عند العلماء ولم يقل الرجل شيئا من هذا الباطل وإنما القائل لذلك داود الجواربي فكأنه اشتبه عليه أو على شيوخه الجواربي بالطائي إن لم يكن الغلط في النسخة التي أحضرت إلى وداود الجواربي أظنه |
2 | 622 | كان من أهل البصرة متأخرا عن هذا وقصته معروفة قال الأشعري وفي الأمة قوم ينتحلون النسك يزعمون أنه جائز على الله تعالى الحلول في الأجسام وإذا رأوا شيئا يستحسنونه قالوا لا ندري لعلع ربما هو ومنهم من يقول إنه يرى الله في الدنيا على قدر الأعمال فمن كان عمله أحسن رأى معبوده أحسن ومنهم من يجوز على الله تعالى المعانقة والملامسة والمجالسة في الدنيا ومنهم من يزعم أن الله تعالى ذو أعضاء وجوارح وأبعاض لحم ودم على صورة الإنسان له ما للإنسان من الجوارح وكان من الصوفية رجل يعرف بأبي شعيب يزعم أن الله يسر ويفرح بطاعة أوليائه ويغتم ويحزن إذا عصوه |
2 | 623 | وفي النساك قوم يزعمون أن العبادة تبلغ بهم إلى منزلة تزول عنهم العبادات وتكون الأشياء المحظورات على غيرهم من الزنا وغيره مباحات لهم وفيهم من يزعم أن العبادة بتلغ بهم إلى أن يروا الله ويأكلوا من ثمار الجنة ويعانقوا الحور العين في الدنيا ويحاربوا الشياطين ومنهم من يزعم أن العبادة تبلغ بهم إلى أن يكونوا أفضل من النبيين والملائكة المقربين قلت هذه المقالات التي حكاها الأشعري وذكروا أعظم منها موجودة في الناس قبل هذا الزمان وفي هذا الزمان منهم من يقول بحلوله في الصور الجميلة ويقول إنه بمشاهدة الأمرد يشاهد معبوده أو صفات معبوده أو مظاهر جماله ومن هؤلاء من يسجد للأمرد ثم من هؤلاء من يقول بالحلول والإتحاد العام لكنه يتعبد بمظاهر الجمال لما في ذلك من اللذة له فيتخذ إلهه هواه وهذا موجود في كثير من المنتسبين إلى الفقر والتصوف ومنهم من يقول إنه يرى الله مطلقا ولا يعين الصورة الجميلة بل يقولون إنهم يرونه في صور مختلفة ومنهم من يقول إن المواضع المخضرة خطا عليها وإنما اخضرت من وطئه عليها وفي |
2 | 624 | ذلك حكايات متعددة يطول وصفها وأما القول بالإباحة وحل المحرمات أو بعضها للكاملين في العلم والعبادة فهذا أكثر من الأول فإن هذا قول أئمة الباطنية القرامطة الإسماعيلية وغير الإسماعيلية وكثير من الفلاسفة ولهذا يضرب بهم المثل فيقال فلان يستحل دمى كاستحال الفلاسفة محظورات الشرائع وقول كثير ممن ينتسب إلى التصوف والكلام وكذلك من يفضل نفسه أو متبوعه على الأنبياء موجود كثير في الباطنية والفلاسفة وغلاة المتصوفة وغيرهم وبسط الكلام على هذا له موضع آخر ففي الجملة هذه مقالات منكرة باتفاق علماء السنة والجماعة وهي وأشنع منها موجودة في الشيعة وكثير من النساك يظنون أنهم يرون الله في الدنيا بأعينهم وسبب ذلك أنه يحصل لأحدهم في قلبه بسبب ذكر الله تعالى وعبادته من الأنوار ما يغيب به عن حسه الظاهر حتى يظن أن ذلك هو شيء يراه بعينه الظاهرة وإنما هو موجود في قلبه ومن هؤلاء من تخاطبه تلك الصورة التي يراها خطاب الربوبية |
2 | 625 | ويخاطبها أيضا بذلك ويظن أن ذلك كله موجود في الخارج عنه وإنما هو موجود في نفسه كما يحصل للنائم إذا رأى ربه في صورة بحسب حاله فهذه الأمور تقع كثيرا في زماننا وقبله ويقع الغلط منهم حيث يظنون أن ذلك موجود في الخارج وكثير من هؤلاء يتمثل له الشيطان ويرى نورا أو عرشا أو نورا على العرش ويقول أنا ربك ومنهم من يقول أنا نبيك وهذا قد وقع لغير واحد ومن هؤلاء من تخاطبه الهواتف بخطاب على لسان الإلهية أو غير ذلك ويكون المخاطب له جنيا كما قد وقع لغير واحد لكن بسط الكلام على ما يرى ويسمع وما هو في النفس والخارج وتمييز حقه من باطله ليس هذا موضعه وقد تكلمنا عليه في غير هذا الموضع وكثير من الجهال أهل الحال وغيرهم يقولون إنهم يرون الله عيانا في الدنيا وأنه يخطوا خطوات وقد يقولون مع ذلك من المقالات ما هو أعظم من الكفر كقول بعضهم كل رزق لا يرزقنيه الشيخ فلان لا أريده وقول بعضهم إن شيخهم هو شيخ الله ورسوله وأمثال ذلك من مقالات الغلاة في الشيوخ لكن يوجد في جنس المنتسبين إلى الشيعة من الإسماعيلية والغلاة من |
2 | 626 | النصيرية وغيرهم ما هو أعظم غلوا وكفرا من هذه المقالاات فلا يكاد يوجد من المنتسبين إلى السنة مقالة خبيثة إلا وفي جنس الشيعة ما هو أخبث منها وأهل الوحدة القائلون بوحدة الوجود كأصحاب ابن عربي وابن سبعين وابن الفارض يدعون أنهم يشاهدون الله دائما فإن عندهم مشاهدته في الدنيا والآخرة على وجه واحد إذ كانت ذاته الوجود المطلق الساري في الكائنات فهذه المقالات وأمثالها موجودة في الناس ولكن المقالات الموجودة في الشيعة أشنع وأقبح كما هو موجود في الغالية من النصيرية وأمثالهم ولهذا كان النصيرية يعظمون القائلين بوحدة الوجود وكان التلمساني شيخ القائلين بالوحدة الذي شرح مواقف |
2 | 627 | النفرى وصنف غير ذلك قد ذهب إلى النصيرية وصنف لهم كتابا وهم يعظمونه جدا وحدثني نقيب الأشراف عنه أنه قال قلت له أنت نصيري قال نصير جزء مني والنصيرية يعظمونه غاية التعظيم وأما ما ذكره هذا الإمامي من رمده وعيادة الملائكة له وبكائه على طوفان نوح عليه السلام فهذا قد رأيناهم ينقلونه عن بعض اليهود ولم أحد هذا منقولا عمن أعرفه من المسلمين فإن كان هذا قد قاله |
2 | 628 | بعض أهل القبلة فلا ينكر وقوع مثل ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقدة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه لكن مشابهة الرافضة لليهود ووجود مثل هذا فيهم أظهر من وجوده في المنتسبين إلى السنة والجماعة وأما قوله إنه يفضل عنه العرش من كل جانب أربع أصابع |
2 | 629 | فهذا لا أعرف قائلا له ولا ناقلا ولكن روى في حديث عبدالله بن خليقة أنه ما يفضل من العرش أربع أصابع يروى بالنفى ويروى بالإثبات والحديث قد طعن فيه غير واحد من المحدثين كالإسماعيلي وابن الجوزي ومن الناس من ذكر له شواهد وقواه ولفظ النفى لا يرد عليه شيء فإن مثل هذا اللفظ يرد لعموم النفى كقول النبي صلى الله عليه وسلم ما في السماء موضع أربع أصابع إلا وملك قائم أو قاعد أو راكع أو ساجد أي ما فيها موضع |
2 | 630 | ومنه قول العرب ما في السماء قدر كف سحابا وذلك لأن الكف تقدر بها الممسوحات كما يقدر بالذراع وأصغر الممسوحات التي يقدرها الإنسان من أعضائه كفه فصار هذا مثلا لأقل شيء فإذا قيل إنه ما يفضل من العرش أربع أصابع كان المعنى ما يفضل منه شيء والمقصود هنا بيان أن الله أعظم وأكبر من العرش ومن المعلوم أن الحديث إن لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قد قاله فليس علينا منه وإن كان قد قاله فلم يجمع بين النفى والإثبات وإن كان قاله بالنفى لم يكن قاله بالإثبات والذين قالوه بالإثبات ذكروا فيه ما يناسب أصولهم كما قد بسط ي غير هذا الموضع فهذا وأمثاله سواء كان حقا أو باطلا لا يقدح في مذهب أهل السنة ولا يضرهم لأنه بتقدير أن يكون باطلا ليس هو قول جماعتهم بل غايته |
2 | 631 | أنه قد قالته طائفة ورواه بعض الناس وما كان باطلا رده جمهور أهل السنة كما يردون غير ذلك فإن كثيرا من المسلمين يقول كثيرا من الباطل فما يكون هذا ضار لدين المسلمين وفي أقوال الإمامية من المنكرات ما يعرف مثل هذا فيه لو كان قد قاله بعض أهل السنة فصل قال الإمامي وذهب بعضهم إلى أن الله ينزل كل ليلة جمعة بشكل أمرد راكبا على حمار حتى أن بعضهم ببغداد وضع على سطح داره معلفا يضع كل ليلة جمعة فيه شعيرا وتبنا لتجويز أن ينزل الله تعالى على حماره على ذلك السطح فيشتغل الحمار بالأكل ويشتغل الرب بالنداء هل من تائب هل من مستغفر تعالى الله عن مثل هذه العقائد الردية في حقه تعالى وحكى عن بعض المنقطعين المباركين من شيوخ الحشوية أنه اجتاز عليه في بعض الأيام نفاط ومعه أمرد حسن الصورة قطط |
2 | 632 | الشعر على الصفات التي يصفون ربهم بها فألح الشيخ بالنظر إليه وكرره وأكثر تصويبه إليه فتوهم فيه النفاط فجاء إليه ليلا وقال أيها الشيخ رأيتك تلح بالنظر إلى هذا الغلام وقد أتيتك به فإن كان لك فيه نية فأنت الحاكم فحرد الشيخ عليه وقال إنما كررت النظر إليه لأن مذهبي أن الله ينزل على صورته فتوهمت أنه الله تعالى فقال له النفاط ما أنا عليه من النفاطة أجود مما أنت عليه من الزهد مع هذه المقالة فيقال هذه الحكاية وأمثالها دائرة بين أمرين إما أن تكون كذبا محضا ممن افتراها على بعض شيوخ أهل بغداد وإما أن تكون قد وقعت لجاهل مغمور ليس بصاحب قول ولا مذهب وأدنى العامة أعقل منه وأفقه وعلى التقديرين فلا يضر ذلك أهل السنة شيئا لأنه من المعلوم لكل |
2 | 633 | ذي علم أنه ليس من العلماء المعروفين بالسنة من يقول مثل هذا الهذيان الذي لا ينطلي على صبي من الصبيان ومن المعلوم أن العجائب المحكية عن شيوخ الرافضة أكثر وأعظم من هذا مع أنها صحيحة واقعة وأما هذه الحكاية فحدثني طائفة من ثقات أهل بغداد أنها كذب محض عليهم وضعها إما هذا المصنف أو من حكاها له للشناعة وهذا هو الأقرب فإن أهل بغداد لهم من المعرفة والتمييز والذهن ما لا يروج عليهم معه مثل هذا ومما يبين كذب ذلك عليهم أن هذا الحديث الذي ذكره لم يروه أحد لا بإسناد صحيح ولا ضغيف ولا روى أحد من أهل الحديث أن الله تعالى ينزل ليلة الجمعة ولا أنه ينزل ليلة الجمعة إلى الأرض ولا أنه ينزل في شكل |
2 | 634 | أمرد بل لا يوجد في الآثار شيء من هذا الهذيان بل ولا في شيء |
2 | 635 | من الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله ينزل إلى الأرض وكل حديث روى فيه هذا فإنه موضوع كذب مثل حديث الجمل الأورق وأن الله ينزل عشية عرفة فيعانق الركبان ويصافح المشاة وحديث آخر أنه رأى ربه في الطواف وحديث آخر أنه رأى ربه في بطحاء مكة وأمثال ذلك فإن هذه كلها أحاديث مكذوبة باتفاق أهل المعرفة بالحديث والذين وضعوها منهم طائفة وضعوها على أهل الحديث ليقال إنهم ينقلون مثل هذا كما وضعوا مثل حديث عرق الخيل عليهم وطائفة من الجهال والضلال وضعوا مثل هذا الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم كما وضعت الروافض ما هو أعظم وأكثر من هذا الكذب ولو لم يكن إلا ما ذكره هذا الإمامي في مصنفه هذا من الأحاديث فإن فيها من الكذب الذي أجمع أهل العلم |
2 | 636 | بالحديث على كذبه ومن الكذب الذي لا يخفى أنه كذب إلا على مفرط في الجهل ما قد ذكره في منهاج الندامة وقد قدمنا القول بأن أهل السنة متفقون على أن الله لا يراه أحد بعينه في الدنيا لا نبي ولا غير نبي ولم يتنازع الناس في ذلك إلا في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاصة مع أن أحاديث المعراج المعروفة ليس في شيء منها أنه رآه أصلا وإنما روى ذلك بإسناد ضعيف موضوع من طريق أبي عبيدة ذكره الخلال والقاضي أبو يعلى في كتاب إبطال التأويل وأهل العلم بالحديث متفقون على أنه حديث موضوع كذب وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال قلت |
2 | 637 | يا رسول الله هل رأيت ربك قال نور أنى أراه ولم يثبت أن أحدا من الصحابة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرؤية إلا ما في الحديث وما يرويه بعض العامة أن أبا بكر سأله فقال رأيته وأن عائشة سألته فقال لم أره كذب باتفاق أهل العلم لم يروه أحد من أهل العلم بإسناد صحيح ولا ضعيف ولهذا اعتمد الإمام أحمد على قول أبي ذر في الرؤية وكذلك عثمان بن سعيد الدارمي وأما أحاديث النزول إلى السماء الدنيا كل ليلة فهي الأحاديث المعروفة الثابتة عند أهل العلم بالحديث وكذلك حديث دنوه عشية |
2 | 638 | عرفة رواه مسلم في صحيحه وأما النزول ليلة النصف من شعبان ففيه حديث اختلف في إسناده ثم إن جمهور أهل السنة يقولون إنه ينزل ولا يخلو منه العرش كما نقل مثل ذلك عن إسحان بن راهويه وحماد بن زيد وغيرهما ونقلوه |
2 | 639 | عن أحمد بن حنبل في رسالته إلى مسدد يقول وهم متفقون على أن الله ليس كمثله شيء وأنه لا يعلم كيف ينزل ولا تمثل صفاته بصفات خلقه وقد تنازعوا في النزول هل هو صفة فعل منفصل عن الرب في المخلوقات أو فعل من يقوم به على قولين معروفين لأهل السنة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم من أهل الحديث والتصوف وكذلك تنازعهم في الإستواء على العرش هل هو فعل منفصل عنه |
2 | 640 | يفعله بالعرش كتقريبه إليه أو فعل يقوم بذاته على قولين والأول قول ابن كلاب والأشعري والقاضي أبي يعلى وأبي الحسن التميمي وأهل بيته وأبي سليمان الخطابي وأبي بكر البيهقي وابن الزاغوني وابن عقيل وغيرهم ممن يقول إنه لا يقوم بذاته ما يتعلق بمشيئته وقدرته والثاني قول أئمة الحديث وجمهورهم كابن المبارك وحماد بن زيد والأوزاعي والبخاري وحرب الكرماني وابن خزيمة ويحيى بن عمار السجستاني وعثمان بن سعيد الدارمي وابن حامد وأبي بكر عبدالعزيز وأبي عبدالله بن مندة وأبي إسماعيل الأنصاري |
2 | 641 | وغيرهم وليس هذا موضعا لبسط الكلام في هذه المسائل وإنما المقصود التنبيه على أن ما ذكره هذا مما يعلم العقلاء أنه لا يقوله أحد من علماء أهل السنة ولا يعرف أنه قاله لا جاهل ولا عالم بل الكذب عليه ظاهر فصل قال الرافضي المصنف وقالت الكرامية إن الله في جهة فوق ولم يعلموا أن كل ما هو في جهة فهو محدث ومحتاج إلى تلك الجهة فيقال له أولا لا الكرامية ولا غيرهم يقولون إنه في جهة موجودة تحيط به أو يحتاج إليها بل كلهم متفقون على أن الله تعالى غني عن كل ما سواه سمى جهة أو لم يسم نعم قد يقولون هو في جهة ويعنون بذلك أنه فوق العالم فهذا مذهب الكرامية وغيرهم وهو أيضا مذهب أئمة الشيعة وقدمائهم كما |
2 | 642 | تقدم ذكره وأنت لم تذكر حجة على إبطاله فمن شنع على الناس بمذاهبهم فلا بد أن يشير إلى إبطاله وجمهور الخلق على أن الله فوق العالم وإن كان أحدهم لا يلفظ بلفظ الجهة فهم يعتقدون بقلوبهم ويقولون بألسنتهم أن ربهم فوق ويقولون إن هذا أمر فطروا عليه وجبلوا عليه كما قال الشيخ أبو جعفر الهمذاني لبعض |
2 | 643 | من أخذ ينكر الإستواء ويقولون لو استوى على العرش لقامت به الحوادث فقال أبو جعفر ما معناه إن الإستواء علم بالسمع ولو لم يرد به لم نعرفه وأنت قد تتأوله فدعنا من هذا وأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا فإنه ما قال عارف قط يا ألله إلا وقبل أن ينطق بلسانه يجد في قلبه معنى يطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة فهل عندك من حيلة في دفع هذه الضرورة عن قلوبنا فلطم المتكلم رأسه وقال حيرني الهمداني حيرني الهمداني حيرني الهمداني ومضمون كلامه أن دليلك على النفى لو صح فهو نظري ونحن نجد عندنا علما ضروريا بهذا فنحن مضطرون إلى هذا العلم وإلى |
2 | 644 | هذا القصد فهل عندك من حيلة في دفع هذا العلم الضروري والقصد الضروري الذي يلزمنا لزوما لا يمكننا دفعه عن أنفسنا ثم بعد ذلك قرر نقيضه وأما دفع الضروريات بالنظريات فغير ممكن لأن النظريات غايتها أن يحتج عليها بمقدمات ضرورية فالضروريات أصل النظريات فلو قدح في الضروريات بالنظريات لكان ذلك قدحا في أصل النظريات فتبطل الضروريات والنظريات فيلزمنا بطلان قدحه على كل تقدير إذ كان قدح الفرع في أصله يقتضى فساده في نفسه وإذا فسد بطل قدحه فيكون قدحه باطلا على تقدير صحته وعلى تقدير فساده فإن صحته مستلزمة لصحة أصله فإذا صح كان أصله صحيحا وفساده لا يستلزم فساد أصله إذ قد يكون الفساد منه ولو قدح في أصله للزم فساده وإذا كان فاسدا لم يقبل قدحه فلا يقبل قدحه بحال وهذا لأن الدليل النظري الموقوف على مقدمات وعلى تأليفها قد يكون فساده من فساد هذه المقدمة ومن فساد الأخرى ومن فساد النظم فلا يلزم إذا كان باطلا أن يبطل كل واحد من المقدمات بخلاف المقدمات فإنه متى كان واحد منها باطلا بطل الدليل |
2 | 645 | وأيضا فإن هؤلاء قرروا ذلك بأدلة عقلية كقولهم كل موجودين إما متباينان وإما متداخلان وقالوا إن العلم بذلك ضروري وقالوا إثبات موجود لا يشار إليه مكابرة للحس والعقل وأيضا فمن المعلوم أن القرآن نطق بالعلو في مواضع كثيرة جدا حتى قد قيل إنها نحو ثلثمائة موضع والسنن متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك وكلام السلف المنقول عنهم بالتواتر يقتضي اتفاقهم على ذلك وأنه لم يكن فيهم من ينكره ومن يريد التشنيع على الناس ودفع هذه الأدلة الشرعية والعقلية لا بد أن يذكر حجة ولنفرض أنه لا يناظره إلا أئمة أصحابه وهو لم يذكر دليلا إلا قوله ولم يعلموا أن كل ما هو في جهة فهو محدث ومحتاج إلى تلك الجهة فيقال له لم يعلموا ذلك ولم تذكر ما به يعلم ذلك فإن قولك ما هو محتاج إلى تلك الجهة إنما يستقيم إذا كانت الجهة أمرا وجوديا وكانت لازمة له لا يستغنى عنها فلا ريب أن من قال إن الباري لا يقوم |
2 | 646 | إلا بمحل يحل فيه لا يستغنى عن ذلك وهي مستغنية عنه فقد جعله محتاجا إلى غيره وهذا لم يقله أحد أيضا لم نعلم أحدا قال إنه محتاج إلى شيء من مخلوقاته فضلا عن أن يكون محتاجا إلى غير مخلوقاته ولا يقول أحد إن الله محتاج إلى العرش مع أنه خالق العرش والمخلوق مفتقر إلى الخالق لا يفتقر الخالق إلى المخلوق وبقدرته قام العرش وسائر المخلوقات وهو العنى عن العرش وكل ما سواه فقير إليه فمن فهم عن الكرامية وغيرهم من طوائف الإثبات أنهم يقولون إن الله محتاج إلى العرش فقد افترى عليهم كيف وهم يقولون إنه كان موجودا قبل العرش فإذا كان موجودا قائما بنفسه قبل العرش لا يكون إلا مستغنيا عن العرش وإذا كان الله فوق العرش لم يجب أن يكون محتاجا إليه فإن الله قد خلق العالم بعضه فوق بعض ولم يجعل عاليه محتاجا إلى سافله فالهواء فوق الأرض وليس محتاجا إليها وكذلك السحاب فوقها وليس محتاجا إليها وكذلك السماوات فوق السحاب والهواء والأرض وليس محتاجا إلى ذلك فكيف يكون العلي الأعلى خالق كل شيء محتاجا إلى مخلوقاته لكونه فوقها عاليا عليها |
2 | 647 | ونحن نعلم أن الله خالق كل شيء وأنه لا حول ولا قوة إلا به وأن القوة التي في العرش وفي حملة العرش هو خالقها بل نقول إنه خالق أفعال الملائكة الحاملين للعرش فإذا كان هو الخالق لهذا كله ولا حول ولا قوة إلا به امتنع أن يكون محتاجا إلى غيره ولو احتج عليه سلفه مثل يونس بن عبدالرحمن القمى وأمثاله ممن يقول بأن العرش يحمله بمثل هذا لم يكن له عليهم حجة فإنهم يقولون لم نقل إنه محتاج إلى غيره بل ما زال غنيا عن العرش وغيره ولكن قلنا إنه على كل شيء قدير فإذا جعلناه قادرا على هذا كان ذلك وصفا له بكمال الإقتدار لا بالحاجة إلى الأغيار |
2 | 648 | وقد قدمنا فيما مضى أن لفظ الجهة يراد به أمر موجود وأمر معدوم فمن قال إنه فوق العالم كله لم يقل إنه في جهة موجودة إلا أن يراد بالجهة العرش ويراد بكونه فيها أنه عليها كما قد قيل في قوله إنه في السماء أي على السماء وعلى هذا التقدير فإذا كان فوق الموجودات كلها وهو غنى عنها لم يكن عنده جهة وجودية يكن فيها فضلا عن أن يحتاج إليها وإن أريد بالجهة ما فوق العالم فذاك ليس بشيء ولا هو أمر موجود حتى يقال إنه محتاج إليه أو غير محتاج إليه وهؤلاء أخذوا لفظ الجهة بالإشتراك وتوهموا وأوهموا أنه إذا كان في جهة كان في كل شيء غيره كما يكون الإنسان في بيته وكما يكون الشمس والقمر والكواكب في السماء ثم رتبوا على ذلك أنه يكون محتاجا إلى غيره والله تعالى غنى عن كل ما سواه وهذه مقدمات كلها باطلة وكذلك قوله كل ما هو في جهة فهو محدث لم يذكر عليه دليلا وغايته ما تقدم من أن الله لو كان في جهة لكان جسما وكل جسم |
2 | 649 | محدث لأن الجسم لا يخلو من الحوادث وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث وكل هذه المقدمات فيها نزاع فمن الناس من يقول قد يكون في الجهة ما ليس بجسم فإذا قيل له هذا خلاف المعقول قال هذا أقرب إلى العقل من قول من يقول إنه لا داخل العالم ولا خارجه فإن قبل العقل ذاك قبل هذا بطريق الأولى وإن رد هذا رد ذاك بطريق الأولى وإذا رد ذاك تعين أن يكون في الجهة فثبت أنه في الجهة على التقديرين ومن الناس من لا يسلم أن كل جسم محدث كسلفه من الشيعة والكرامية وغيرهم والكلام معهم وهؤلاء لا يسلمون له أن الجسم لا يخلو من الحوادث بل يجوز عندهم خلو الجسم عن الحركة وكل حادث كما يجوز منازعوهم خلو الصانع من الفعل إلى أن فعل وكثير من أهل الحديث والكلام والفلسفة ينازعهم في قولهم إن ما لا يخلو عن الحادث فهو حادث |
2 | 650 | وكل مقام من هذه المقامات تعجز شيوخ الرافضة الموافقين للمعتزلة عن تقرير قولهم فيه على إخوانهم القدماء من الرافضة فضلا عن غيرهم من الطوائف تم الجزء الثاني بحمد الله ويليه الجزء الثالث إن شاء الله وأوله فصل قال الرافضي وذهب آخرون إلى أن الله تعالى لا يقدر على مثل مقدور العبد |