Difa e Islam | الدفاع عن الإسلام | دفاع الإسلام |
تغيير اللغة:

منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية - شيخ الإسلام ابن تيمية - ج3

الكاتب : شيخ الإسلام ابن تيمية ..

بسم الله الرحمن الرحيم 

اسم الكتاب

منهاج السنة النبوية

اسم المؤلف

شيخ الإسلام بن تيمية

عدد الاجزاء

دار النشر

مدينة النشر

سنة النشر

رقم الطبعة

8

مؤسسة قرطبة

 

1406

الأولى

اسم المحقـق

د. محمد رشاد سالم

الجزء

الصفحة

محتوى الصفحة

3

5

فصل قال الرافضي وذهب آخرون إلى أن الله تعالى لا يقدر على مثل مقدور العباد فيقال له هذه المسألة من دقيق الكلام وليست من خصائص أهل السنة ولا القائلون بخلافة الخلفاء متفقون عليها بل بعض القدرية يقول بذلك وأما أهل السنة المثبتون للقدر فليس فيهم من يقول بذلك وإنما يقوله من شيوخ القدرية الذين هم شيوخ هؤلاء الإمامية المتأخرين في مسائل التوحيد والعدل فإن جميع ما يذكره هؤلاء الإمامية المتأخرون في مسائل التوحيد والعدل كابن النعمان والموسوي الملقب بالمرتضى وأبي جعفر الطوسي وغيرهم هو مأخوذ من

3

6

كتب المعتزلة بل كثير منه منقول نقل المسطرة وبعضه قد تصرفوا فيه وكذلك ما يذكرونه من تفسير القرآن في آيات الصفات والقدر ونحو ذلك هو منقول من تفاسير المعتزلة كالأصم والجبائي وعبد الجبار بن أحمد الهمذاني والرماني وأبي مسلم الأصبهاني وغيرهم لا ينقل عن قدماء الإمامية من هذا حرف واحد لا في الأصول العقلية ولا في

3

7

تفسير القرآن وقدماؤهم كانوا أكثر اجتماعا بالائمة من متأخريهم يجتمعون بجعفر الصادق وغيره فإن كان هذا هو الحق فقدماؤهم كلهم ضلال وإن كان ضلالا فمتأخروهم هم الضلال فصل قال الرافضي وذهب الأكثر منهم إلى أن الله عز وجل يفعل القبائح وأن جميع أنواع المعاصي والكفر وأنواع الفساد واقعة بقضاء الله وقدره وأن العبد لا تأثير له في ذلك وأنه لا غرض لله في أفعاله وأنه لا يفعل لمصلحة العباد شيئا

3

8

وأنه تعالى يريد المعاصي من الكافر ولا يريد منه الطاعة وهذا يستلزم أشياء شنيعة فيقال الكلام على هذا من وجوه أحدها أنه قد تقدم غير مرة أن مسائل القدر والتعديل والتجوير ليست ملزومة لمسائل الإمامة ولا لازمة فإن كثيرا من الناس يقر بإمامة الخلافاء الثلاثة ويقول ما قاله في القدر وكثير من الناس بالعكس وليس أحد من الناس مرتبطا بالآخر أصلا وقد تقدم النقل عن الإمامية هل أفعال العباد خلق الله تعالى على قولين وكذلك الزيدية قال الأشعرى واختلفت الزيدية في خلق الأفعال وهم فرقتان فالفرقة الأولى منهم يزعمون أن أفعال العباد مخلوقة لله خلقها وأبدعها واخترعها بعد أن لم تكن فهي محدثة له مخترعة والفرقة الثانية

3

9

منهم يزعمون أنها غير مخلوقة لله ولا محدثة وأنها كسب للعباد أحدثوها واخترعوها وابتدعوها وفعلوها قلت بل غالب الشيعة الأولى كانوا مثبتين للقدر وإنما ظهر إنكاره في متأخريهم كإنكار الصفات فإن غالب متقدميهم كانوا يقرون بإثبات الصفات والمنقول عن أهل البيت في إثبات الصفات والقدر لا يكاد يحصى وأما المقرون بإمامة الخلفاء الثلاثة مع كونهم قدرية فكثيرون في المعتزلة وغير المعتزلة فعامة القدرية تقر بإمامة الخلفاء ولا يعرف أحد من متقدمي القدرية كان ينكر خلافة الخلفاء وإنما ظهر هذا لما صار بعض الناس رافضيا قدريا جهميا فجمع أصول البدع كصاحب هذا الكتاب وأمثالة والزيدية المقرون بخلافة الخلفاء الثلاثة هم من الشيعة وفيهم قدرية وغير قدرية والزيدية خير من الإمامية وأشبههم بالإمامية هم

3

10

الجارودية أتباع أبي الجارود الذين يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على علي بالوصف لا بالتسمية فكان هو الإمام من بعده وان الناس ضلوا وكفروا بتركهم الاقتداء به بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الحسن هو الإمام ثم الحسين ثم من هؤلاء من يقول أن عليا نص على إمامة الحسن والحسن نص على إمامة الحسين ثم هو شورى في ولدهما فمن خرج منهم يدعو إلى سبيل ربه وكان عالما فاضلا فهو الإمام

3

11

والفرقة الثانية من الزيدية السليمانية أصحاب سليمان بن جرير يزعمون أن الإمامة شورى وأنها تصلح بعقد رجلين من خيار المسلمين وأنها قد تصلح في المفضول وإن كان الفاضل أفضل في كل حال ويثبتون إمامة الشيخين أبي بكر وعمر وقد قيل إنها كانت خطأ لا يفسق صاحبها لأجل التأويل والثالثة البترية أصحاب كثير النواء قيل سموا بترية لأن كثيرا كان يلقب بالأبتر يزعمون أن عليا أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولاهم بالإمامة وأن بيعة أبي بكر وعمر ليست بخطأ لأن عليا ترك ذلك لهما ويقفون في عثمان وقتله ولا يقدمون عليه بإكفار كما يحكى عن السليمانية وهذه الطائفة أمثل الشيعة ويسمون

3

12

أيضا الصالحية لأنهم ينسبون إلى الحسن بن صالح بن حي الفقيه وهؤلاء الزيدية فيهم من هو في القدر على قول أهل السنة والجماعة وفيهم من هو على قول القدرية الوجه الثاني أن يقال نقله عن الأكثر أن العبد لا تأثير له في الكفر والمعاصي نقل باطل بل جمهور أهل السنة المثبتة للقدر من جميع الطوائف يقولون إن العبد فاعل لفعله حقيقة وأن له قدرة حقيقية واستطاعة حقيقية وهم لا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعية بل يقرون بما دل عليه الشرع والعقل من أن الله يخلق السحاب بالرياح وينزل الماء بالسحاب وينب النبات بالماء ولا يقولون إن القوى والطبائع الموجودة في المخلوقات لا تأثير لها بل يقرون أن لها تأثيرا لفظا ومعنى حتى جاء لفظ الأثر في مثل قوله تعالى ونكتب ما قدموا وآثارهم

3

13

وإن كان هناك التأثير هناك أعم منه في الآية لكن يقولون هذا التأثير هو تأثير الأسباب في مسبباتها والله تعالى خالق السبب والمسبب ومع أنه خالق السبب فلا بد له من سبب آخر يشاركه ولابد له من معارض يمانعه فلا يتم أثره مع خلق الله له إلا بأن يخلق الله السبب الآخر ويزيل الموانع ولكن هذا القول الذي حكاه هو قول بعض المثبتة للقدر كالأشعري ومن وافقه من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد حيث لا يثبتون في المخلوقات قوى ولا طبائع ويقولون إن الله فعل عندها لا بها ويقولون إن قدرة العبد لا تأثير لها في الفعل وأبلغ من ذلك قول الأشعري إن الله فاعل فعل العبد وإن عمل العبد ليس فعلا للعبد بل كسبا له وإنما هو فعل الله فقط وجمهور

3

14

الناس من أهل السنة من جميع الطوائف على خلاف ذلك وعلى أن العبد فاعل لفعله حقيقة وأما ما نقله من نفي الغرض الذي هو الحكمة وكون الله لا يفعل لمصلحة العباد فقد قدمنا أن هذا هو قول قليل منهم كالأشعري وطائفة توافقه في موضع ويتناقضون في قولهم في موضع آخر وجمهور أهل السنة يثبتون الحكمة في أفعال الله تعالى وأنه يفعل لنفع عباده ومصلحتهم ولكن لا يقولون بما تقوله المعتزلة ومن وافقهم بأن ما حسن منه حسن من خلقه وما قبح من خلقه قبح منه فلا هذا ولا هذا وأما لفظ الغرض فتطلقه المعتزلة وبعض المنتسبين لأهل السنة ويقولون إنه يفعل لغرض أي حكمة وكثير من أهل السنة يقولون يفعل لحكمة ولا يطلقون لفظ الغرض وأما قوله وأنه تعالى يريد المعاصي من الكافر ولا يريد منه الطاعة فهذا قول طائفة منهم وهم الذين يوافقون القدرية فيجعلون

3

15

المشيئة والإرادة والمحبة والرضا نوعا واحدا ويجعلون المحبة والرضا والغضب بمعنى الإرادة كما يقول ذلك الأشعري في المشهور عنه وأكثر أصحابه وطائفة ممن يوافقهم من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وأما جمهور أهل السنة من جميع الطوائف وكثير من أصحاب الأشعري وغيرهم فيفرقون بين الإرادة وبين المحبة والرضا فيقولون إنه وإن كان يريد المعاصي فهو لا يحبها ولا يرضاها بل يبغضها ويسخطها وينهى عنها وهؤلاء يفرقون بين مشيئة الله وبين محبته وهذا قول السلف قاطبة وقد ذكر أبو المعالي الجويني أن هذا قول القدماء من أهل السنة وأن الأشعري خالفهم فجعل الإرادة هي المحبة فيقولون ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فكل ماشاء الله فقد خلقه وأما المحبة فهي متعلقة بأمره فما أمر به فهو يحبه ولهذا اتفق الفقهاء على أن الحالف لو قال

3

16

والله لأفعلن كذا إن شاء الله لم يحنث إذا لم يفعله وإن كان واجبا أو مستحبا ولو قال إن أحب الله حنث إذا كان واجبا أو مستحبا والمحققون من هؤلاء يقولون الإرادة في كتاب الله تعالى نوعان إرادة خلقية قدرية كونية وإرادة دينية أمرية شرعية فالإرادة الشرعية الدينية هي المتضمنة للمحبة والرضا والكونية هي المشيئة الشاملة لجميع الحوادث كقول المسلمين ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وهذا كقوله تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء سورة الأنعام وقوله عن نوح ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون سورة هود فهذه الإرادة تعلقت بالإضلال والإغواء وهذه هي المشيئة فإن ما شاء الله كان ومنها قوله ولكن الله يفعل ما يريد سورة البقرة أي ما شاء خلقه لا ما يأمر به وقد يريد بالإرادة المحبة كما يقال لمن يفعل الفاحشة هذا فعل ما

3

17

لا يريده الله تعالى وقد يريد المشيئة كما يقولون لما لم يكن هذا لم يرده الله وأما الدينية فقول الله يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر سورة البقرة وقوله يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا سورةالنساء وقوله ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم سورة المائدة وقوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا سورة الأحزاب فهذه الإرادة في هذه الآيات ليست هي التي يجب مرادها كما في قوله فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام سورة الأنعام وقول المسلمين ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن بل هي المذكورة في مثل قول الناس لمن يفعل القبائح هذا يفعل ما لا يريده الله أي لا يحبه ولا يرضاه ولا يأمر به وهذا التقسيم في الإرادة قد ذكره غير واحد من أهل السنة وذكروا أن

3

18

المحبة والرضا ليست الإرادة الشاملة لكل المخلوقات كما ذكر ذلك من ذكره من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم كأبي بكر عبدالعزيز وغيره وإن كان طائفة أخرى يجعلون المحبة والرضا هي الإرادة والأول أصح وأيضا فالفرق ثابت بين إرادة المريد أن يفعل وبين إرادته من غيره أن يفعل والأمر لا يستلزم الإرادة الثانية دون الأولى فالله تعالى إذا أمر العباد بأمر فقد يريد إعانة المأمور على ما أمره به وقد لا يريد ذلك وإن كان مريدا منه فعله وتحقيق هذا مما يبين فصل النزاع في أمر الله هل هو مستلزم لإرادته أم لا فلما زعمت المعتزلة أنه لا بد أن يشاء ما يأمر به فيريده وزعموا أن ما نهى عنه ما شاء وجوده ولا أراده قابلهم كثير من متأخري المثبتين للقدر ممن اتبع أبا الحسن من المصنفين في أصول الفقه وغيرهم من أصحاب

3

19

مالك والشافعي وأحمد فقالوا إن الله يأمر بما لا يريده كالكفر والفسوق والعصيان واحتجوا على ذلك بما أنه لو حلف على واجب ليفعلنه وقال إن شاء الله فإنه لا يحنث وبأن الله أمر إبراهيم بذبح ولده ولم يرده منه بل نسخ ذلك قبل فعله وكذلك الخمسون صلاة ليلة المعراج وحقيقته أنه يأمر بما لا يشاء أن يخلقه لكن لا يأمر إلا بما يحبه ويرضاه فيريد من العبد أن يفعله بمعنى أنه يحب ذلك ولا يريد هو أن يخلقه فيعين العبد عليه وهذا كالكفر والفسوق والعصيان ولو حلف الحالف ليفعلن كذا إن شاء الله لم يحنث وإن كان واجبا ولو قال إن أحب الله حنث كما لو قال إن أمر الله ولو قال لأفعلنه إذا أراد الله فقد يريد بالإرادة المحبة كما يقولون لمن يفعل القبائح يفعل ما لا يريده الله وقد يريد المشيئة كما يقولون لما لم يكن هذا لم يرده الله تعالى فإن أراد هذا حنث

3

20

وأما أمر إبراهيم صلى الله عليه وسلم بذبح ابنه فإنه كان الذي يحبه ويريده منه في نفس الأمر أن قصد إبراهيم الامتثال وعزم على الطاعة فأظهر الأمر امتحانا له وابتلاء فلما أسلما وتله للجبين ناداه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين وكذلك الأمر بالخمسين فصل قال المصنف الرافضي وهذا يستلزم أشياء شنيعة منها أن يكون الله أظلم من كل ظالم لأنه يعاقب الكافر على كفره وهو قدره عليه ولم يخلق فيه قدرة على الإيمان فكما أنه يلزم الظلم لو عذبه على لونه وطوله وقصره لأنه لا قدرة له فيها كذا يكون ظالما لو عذبه على المعصية التي فعلها فيه فيقال الظلم قد تقدم أن للجمهور المثبتين للقدر في تفسيره قولين أحدهما أن الظلم ممتنع لذاته غير مقدور كما يصرح بذلك الأشعري والقاضي أبو بكر وأبو المعالي والقاضي أبو يعلى وابن الزاغوني وغير

3

21

هؤلاء يقولون إنه يمتنع أن يوصف بالقدرة على الكذب والظلم وغيرهما من أنواع القبائح ولا يصح وصفه بشيء من ذلك قالوا والدلالة على استحالة وقوع الظلم والقبيح منه أن الظلم والقبيح ما شرع الله وجوب ذم فاعله وذم الفاعل لما ليس له فعله ولن يكون كذلك حتى يكون متصرفا فيما غيره أملك به وبالتصرف فيه منه فوجب استحالة ذلك في حقه من حيث إنه لم يكن آمرا لنا بذمه ولا كان ممن يجوز دخول أفعاله تحت تكليف من نفسه لنفسه ولا يكون فعله تصرفا في شيء غيره أملك به فثبت بذلك استحالة تصوره في حقه وحقيقة قول هؤلاء أن الذم إنما يكون لمن تصرف في ملك غيره ومن عصى الآمر الذي فوقه والله سبحانه وتعالى يمتنع أن يأمره أحد ويمتنع أن يتصرف في ملك غيره فإن له كل شيء

3

22

وهذا القول يروى عن إياس بن معاوية قال ما خاصمت بعقلي كله إلا القدرية قلت لهم أخبروني ما الظلم قالوا أن يتصرف الإنسان في ما ليس له قلت فلله كل شيء وهم لا يسلمون أنه لو عذبه بسبب لونه وطوله وقصره كان ظالما حتى يحتج عليهم بهذا القياس بل يجوزون التعذيب لا بجرم سابق ولا لغرض لاحق وهذا المشنع لم يذكر دليلا على بطلانه فلم يذكر دليلا على بطلان قولهم والقول الثاني أن الظلم مقدور والله تعالى منزه عنه وهذا قول الجمهور من المثبتين للقدر ونفاته وهو قول كثير من النظار المثبتة للقدر كالكرامية وغيرهم وكثير من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم وهو قول القاضي أبي خازم بن القاضي أبي يعلى وغيره وهذا كتعذيب الإنسان بذنب غيره كما قال تعالى ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما سورة طه

3

23

وهؤلاء يقولون الفرق بين تعذيب الإنسان على فعله الاختياري وغير فعله الاختياري مستقر في فطر العقول فإن الإنسان لو كان له ابن في جسمه مرض أو عيب خلق فيه لم يحسن ذمه ولا عقابه على ذلك ولو ظلم ابنه أحدا لحسن عقوبته على ذلك ويقولون الاحتجاج بالقدر على الذنوب مما يعلم بطلانه بضرورة العقل فإن الظالم لغيره لو احتج بالقدر لاحتج ظالمه بالقدر أيضا فإن كان القدر حجة لهذا فهو حجة لهذا وإلا فلا والأولون أيضا يمنعون الاحتجاج بالقدر فإن الاحتجاج به باطل باتفاق أهل الملل وذوي العقول وإنما يحتج به على القبائح والمظالم من هو متناقض القول متبع لهواه كما قال بعض العلماء أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري أي مذهب وافق هواك تمذهبت به ولو كان القدر حجة لفاعل الفواحش والمظالم لم يحسن أن يلوم أحد أحدا ولا يعاقب أحد أحدا فكان للإنسان أن يفعل في دم غيره وماله وأهله ما يشتهيه من المظالم والقبائح ويحتج بأن ذلك مقدر عليه

3

24

والمحتجون على المعاصي بالقدر أعظم بدعة وأنكر قولا وأقبح طريقا من المنكرين للقدر فالمكذبون بالقدر من المعتزلة والشيعة وغيرهم المعظمون للأمر والنهي والوعد والوعيد خير من الذين يرون القدر حجة لمن ترك المأمور وفعل المحظور كما يوجد ذلك في كثير من المدعين للحقيقة الذين يشهدون القدر ويعرضون عن الأمر والنهي من الفقراء والصوفية والعامة وغيرهم فلا عذر لأحد في ترك مأمور ولا فعل محظور بكون ذلك مقدرا عليه بل لله الحجة البالغة على خلقه والقدرية المحتجون بالقدر على المعاصي شر من القدرية المكذبين بالقدر وهم أعداء الملل وأكثر ما أوقع الناس في التكذيب بالقدر احتجاج هؤلاء به ولهذا اتهم بمذهب القدر غير واحد ولم يكونوا قدرية بل كانوا لا يقبلون الاحتجاج على المعاصي بالقدر كما قيل للإمام أحمد كان ابن أبي ذئب قدريا فقال الناس كل من شدد عليهم المعاصي قالوا هذا قدري وقد قيل إنه بهذا السبب نسب إلى

3

25

الحسن القدر لكونه كان شديد الإنكار للمعاصي ناهيا عنها ولذلك نجد الواحد من هؤلاء ينكر على من ينكر المنكر ويقول هؤلاء قدر عليهم ما فعلوه فيقال لهذا وإنكار هذا المنكر أيضا بقدر الله فنقضت قولك بقولك وهؤلاء يقول بعض مشايخهم أنا كافر برب يعصى ويقول لو قتلت سبعين نبيا لم أكن مخطئا ويقول بعض شعرائهم أصبحت منفعلا لما يختاره مني ففعلي كله طاعات ومن الناس من يظن أن احتجاج آدم على موسى بالقدر كان من هذا الباب وهذا جهل عظيم فإن الأنبياء من أعظم الناس أمرا بما أمر الله به ونهيا عما نهى الله عنه وذما لمن ذمه الله وإنما بعثوا بالأمر بالطاعة لله والنهي عن معصية الله فكيف يسوغ أحد منهم أن يعصي عاص لله محتجا بالقدر ولأن آدم عليه السلام كان قد تاب من الذنب والتائب من الذنب كمن لا ذنب له ولأنه لو كان القدر حجة لكان حجة لإبليس وفرعون وسائر الكفار ولكن كان ملام موسى لآدم عليهما السلام لأجل المصيبة

3

26

التي لحقتهم بسبب أكله ولهذا قال له لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة والمؤمن مأمور أن يرجع إلى القدر عند المصائب لا عند الذنوب والمعاصي فيصبر على المصائب ويستغفر من الذنوب كما قال تعالى فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك سورة غافر وقال تعالى ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها الأية سورة الحديد وقال ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه سورة التغابن قال ابن مسعود رضي الله عنه هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم ولهذا قال غير واحد من السلف والصحابة والتابعين لهم بإحسان لا يبلغ الرجل حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما اخطأه لم يكن ليصيبه فالإيمان بالقدر والرضا بما قدره الله من المصائب والتسليم لذلك هو من حقيقة الإيمان وأما الذنوب فليس لأحد أن يحتج فيها بقدر الله

3

27

تعالى بل عليه أن لا يفعلها وإذا فعلها فعليه أن يتوب منها كما فعل آدم ولهذا قال بعض الشيوخ اثنان أذنبا ذنبا آدم وإبليس فآدم تاب فتاب الله عليه واجتباه وهداه وإبليس أصر واحتج بالقدر فمن تاب من ذنبه أشبه أباه آدم ومن أصر واحتج بالقدر أشبه إبليس وإذا كان الفرق بين الفاعل المختار وبين غيره مستقرا في بدائه العقول حصل المقصود وكذلك إذا كان مستقرا في بدائه العقول أن الأفعال الاختيارية تكسب نفس الإنسان صفات محمودة وصفات مذمومة بخلاف لونه وطوله وعرضه فإنها لا تكسبه ذلك فالعلم النافع والعمل الصالح والصلاة الحسنة وصدق الحديث وإخلاص العمل لله وأمثال ذلك تورث القلب صفات محمودة كما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال إن للحسنة لنورا في القلب وضياء في الوجه وسعة في الرزق وقوة في البدن ومحبة في قلوب الخلق وإن للسيئة لسوادا في الوجه وظلمة في القلب ووهنا في البدن ونقصا في الرزق وبغضا في قلوب الخلق

3

28

ففعل الحسنة له آثار محمودة موجودة في النفس وفي الخارج وكذلك فعل السيئات والله تعالى جعل الحسنات سببا لهذا والسيئات سببا لهذا كما جعل أكل السم سببا للمرض والموت وأسباب الشر لها أسباب تدفع بمقتضاها فالتوبة والأعمال الصالحة تمحى بها السيئات والمصائب في الدنيا تكفر بها السيئات كما أن السم تارة يدفع موجبه بالدواء وتارة يورث مرضا يسيرا ثم تحصل العافية وإذا قيل خلق الفعل مع حصول العقوبة عليه ظلم كان بمنزلة أن يقال خلق أكل السم ثم حصول الموت به ظلم والظلم وضع الشيء في غير موضعه واستحقاق هذا الفاعل لأثر فعله الذي هو معصية الله كاستحقاقه لأثره إذا ظلم العباد وهذا الآن ينزع إلى مسألة التحسين والتقبيح فإن الناس متفقون على أن كون الفعل يكون سببا لمنفعة العبد وحصول ما يلائمه وسببا لحصول مضرته وحصول ما ينافيه قد يعلم بالعقل وكذلك كونه قد يكون صفة كمال وصفة نقص وإنما تنازعوا في كونه يكون سببا للعقاب والذم على قولين مشهورين

3

29

والنزاع في ذلك بين أصحاب أحمد وبين اصحاب مالك وبين أصحاب الشافعي وغيرهم وأما أبو حنيفة وأصحابه فيقولون بالتحسين والتقبيح وهو قول جمهور الطوائف من المسلمين وغيرهم وفي الحقيقة فهذا النزاع يرجع إلى الملاءمة والمنافرة والمنفعة والمضرة فإن الذم والعقاب مما يضر العبد ولا يلائمه فلا يخرج الحسن والقبح عن حصول المحبوب والمكروه فالحسن ما حصل المحبوب المطلوب المراد لذاته والقبيح ما حصل المكروه البغيض فإذا كان الحسن يرجع إلى المحبوب والقبيح يرجع إلى المكروه بمنزلة النافع والضار والطيب والخبيث ولهذا يتنوع بتنوع الأحوال فكما أن الشيء الواحد يكون نافعا إذا صادف حاجة ويكون ضارا في موضع آخر كذلك الفعل كأكل الميتة يكون قبيحا تارة ويكون حسنا أخرى وإذا كان كذلك فهذا الأمر لا يختلف سواء كان العبد هو الفاعل بغير أن يخلق الله له القدرة والإرادة أو بأن يخلق الله له ذلك كما في سائر ما هو نافع وضار ومحبوب ومكروه وقد دلت الدلائل اليقينية على أن كل حادث فالله خالقه وفعل العبد من جملة الحوادث وكل ممكن يقبل الوجود والعدم فإن شاء الله كان وإن لم يشأ

3

30

لم يكن وفعل العبد من جملة الممكنات وذلك لأن العبد إذا فعل الفعل فنفس الفعل حادث بعد أن لم يكن فلا بد له من سبب وإذا قيل حدث بالإرادة فالإرادة أيضا حادثة فلا بد لها من سبب وإن شئت قلت الفعل ممكن فلا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح وعلى طريقة بعضهم فلا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح وكون العبد فاعلا له حادث ممكن فلا بد له من محدث مرجح ولا فرق في ذلك بين حادث وحادث والمرجح لوجود الممكن لا بد أن يكون تاما مستلزما وجود الممكن وإلا فلو كان مع وجود المرجح يمكن وجود الفعل تارة وعدمه أخرى لكان ممكنا بعد حصول المرجح يمكن وجوده وعدمه وحينئذ فلا يترجح وجوده علىعدمه إلا بمرجح وهذا المرجح إما أن يكون تاما مستلزما وجود الفعل وإما أن يكون الفعل معه يمكن وجوده وعدمه فإن كان الثاني لزم ان لا يوجد الفعل بحال ولزم التسلسل الباطل

3

31

فعلم أن الفعل لا يوجد إلا إذا وجد مرجح تام يستلزم وجوده وذلك المرجح التام هو الداعي التام والقدرة وهذا مما سلمه طائفة من المعتزلة كأبي الحسين البصري وغيره سلموا أنه إذا وجد الداعي التام والقدرة التامة لزم وجود الفعل وأن الداعي والقدرة خلق لله عز وجل وهذا حقيقة قول أهل السنة الذين يقولون إن الله خالق أفعال العباد كما أن الله خالق كل شيء فإن أئمة أهل السنة يقولون إن الله خالق الأشياء بالأسباب وأنه خلق للعبد قدرة يكون بها فعله وأن العبد فاعل لفعله حقيقة فقولهم في خلق فعل العبد بإرادته وقدرته كقولهم في خلق سائر الحوادث بأسبابها ولكن ليس هذا قول من ينكر الأسباب والقوى التي في الأجسام وينكر تأثير القدرة التي للعبد التي بها يكون الفعل ويقول إنه لا أثر لقدرة العبد أصلا في فعله كما يقول ذلك جهم وأتباعه والأشعري ومن وافقه وليس قول هؤلاء قول أئمة السنة ولا جمهورهم بل أصل هذا القول هو قول الجهم بن صفوان فإنه كان يثبت مشيئة الله تعالى وينكر أن يكون له

3

32

حكمة أو رحمة وينكر أن يكون للعبد فعل أو قدرة مؤثرة وحكي عنه أنه كان يخرج إلى الجذمي ويقول أرحم الراحمين يفعل مثل هذا إنكارا لأن تكون له رحمة يتصف به وزعما منه أنه ليس إلا مشيئة محضة لا اختصاص لها بحكمة بل يرجح أحد المتماثلين بلا مرجح وهذا قول طائفة من المتأخرين وهؤلاء يقولون إنه لم يخلق لحكمة ولم يأمر لحكمة وأنه ليس في القرآن لام كي لا في خلق الله ولا في أمر الله وهؤلاء الجهمية المجبرة هم والمعتزلة والقدرية في طرفين متقابلين وقول سلف الأمة وأئمة السنة وجمهورها ليس قول هؤلاء ولا قول هؤلاء وإن كان كثير من المثبتين للقدر يقول بقول جهم فالكلام إنما هو في أهل السنة المثبتين لإمامة أبي بكر وعمر وعثمان والمثبتين للقدر وهذا الاسم يدخل فيه الصحابة والتابعون لهم بإحسان وأئمة التفسير والحديث والفقه

3

33

والتصوف وجمهور المسلمين وجمهور طوائفهم لا يخرج عن هذا إلا بعض الشيعة وأئمة هؤلاء وجمهورهم على القول الوسط الذي ليس هو قول المعتزلة ولا قول جهم وأتباعه الجبرية فمن قال إن شيئا من الحوادث أفعال الملائكة والجن والإنس لم يخلقها الله تعالى فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع السلف والأدلة العقلية ولهذا قال بعض السلف من قال إن كلام الآدميين أو أفعال العباد غير مخلوقة فهو بمنزلة من قال إن سماء الله وأرضه غير مخلوقة والله تعالى يخلق ما يخلق لحكمة كما تقدم ومن جملة المخلوقات ما قد يحصل به ضرر عارض لبعض الناس كالأمراض والآلام وأسباب ذلك فخلق الصفات والأفعال التي هي أسبابه من جملة ذلك فنحن نعلم ان لله في ذلك حكمة وإذا كان قد فعل ذلك لحكمة خرج عن أن يكون سفها وإذا كان العقاب على فعل العبد الاختياري لم يكن ظلما فهذا الحادث بالنسبة إلى الرب له فيه حكمة يحسن لأجل تلك الحكمة وبالنسبة إلى العبد عدل لأنه عوقب على فعله فما ظلمه الله ولكن هو ظلم نفسه

3

34

واعتبر ذلك بأن يكون غير الله هو الذي عاقبه على ظلمه لو عاقبه ولي أمر على عدوانه على الناس فقطع يد السارق أليس ذلك عدلا من هذا الوالي وكون الوالي مأمورا بذلك يبين أنه عادل لكن المقصود هنا أنه مستقر في فطر الناس وعقولهم أن ولي الأمر إذا أمر الغاصب برد المغصوب إلى مالكه وضمن التالف بمثله أنه يكون حاكما بالعدل وما زال العدل معروفا في القلوب والعقول ولو قال هذا المعاقب أنا قد قدر علي هذا لم يكن هذا حجة له ولا مانعا لحكم الوالي أن يكون عدلا فالله تعالى أعدل العادلين إذا اقتص للمظلوم من ظالمه في الآخرة أحق بأن يكون ذلك عدلا منه فإن قال الظالم هذا كان مقدرا علي لم يكن هذا عذرا صحيحا ولا مسقطا لحق المظلوم وإذا كان الله هو الخالق لكل شيء فذاك لحكمة أخرى له في الفعل فخلقه حسن بالنسبة إليه لما له فيه من الحكمة والفعل القبيح المخلوق قبيح من فاعله لما عليه

3

35

فيه من المضرة كما أن أمر الوالي بعقوبة الظالم يسر الوالي لما فيه من الحكمة وهو عدله وأمره بالعدل وذلك يضر المعاقب لما عليه فيه من الألم ولو قدر أن هذا الوالي كان سببا في حصول ذلك الظلم على وجه لا يلام عليه لم يكن عذرا للظالم مثل حاكم شهد عنده بينة بمال لغريم فأمر بحبسه أو عقوبته حتى ألجأه ذلك إلى أخذ مال آخر بغير حق ليوفيه إياه فإن الحاكم أيضا يعاقبه فيه فإذا قال أنت حبستني وكنت عاجزا عن الوفاء ولا طريق لي إلى الخلاص إلا أخذ مال هذا لكان حبسه الأول ضررا عليه وعقوبته ثانيا على أخذ مال الغير ضررا عليه والوالي يقول أنا حكمت بشهادة العدول فلا ذنب لي في ذلك وغايتي أني أخطأت والحاكم إذا أخطأ له أجر وقد يفعل كل من الرجلين بالآخر من الضرر ما يكون فيه معذورا والآخر معاقبا بل مظلوما لكن بتأويل

3

36

وهذه الأمثال ليست مثل فعل الله تعالى فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله فإنه سبحانه يخلق الاختيار في المختار والرضا في الراضي والمحبة في المحب وهذا لا يقدر عليه إلا الله ولهذا أنكر الأئمة على من قال جبر الله العباد كالثوري والأوزاعي والزبيدي وأحمد بن حنبل وغيرهم وقالوا الجبر لا يكون إلا من عاجز كما يجبر الأب ابنته على خلاف مرادها والله خالق الإرادة والمراد فيقال جبل كما جاءت به السنة ولا يقال جبر فإن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح قال لأشج عبد القيس إن فيك لخلقين يحبهما الله الحلم والأناة فقال أخلقين تخلقت بهما أم خلقين جبلت عليهما قال بل خلقين جبلت عليهما فقال الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ومما يبين هذا أن الله سبحانه وتعالى جهة خلقه وتقديره غير جهة أمره وتشريعه فإن أمره وتشريعه مقصوده بيان ما ينفع العباد إذا فعلوه وما يضرهم بمنزلة أمر الطبيب للمريض بما ينفعه فأخبر الله على ألسن رسله بمصير السعداء والأشقياء وأمر بما يوصل إلى السعادة ونهى عما يوصل إلى الشقاوة

3

37

وخلقه وتقديره يتعلق به وبجملة المخلوقات فهو يفعل لما فيه حكمة متعلقة بعموم خلقه وإن كان في ضمن ذلك مضرة لبعض الناس كما أنه ينزل المطر لما فيه من الرحمة والنعمة العامة والحكمة وإن كان في ضمن ذلك تضرر بعض الناس بسقوط منزله وانقطاعه عن سفره وتعطيل معيشته وكذلك يرسل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم لما في إرساله من الرحمة العامة وإن كان في ضمن ذلك سقوط رياسة قوم وتألمهم بذلك فإذا قدر على الكافر كفره قدره الله لما له في ذلك من الحكمة والمصلحة العامة وعاقبه لاستحقاقه ذلك بفعله الاختياري وإن كان مقدرا ولما له في عقوبته من الحكمة والمصلحة العامة وقياس أفعال الله علىأفعال العباد خطأ ظاهر لأن السيد إذا أمر عبده بأمر أمره لحاجته إليه ولغرض السيد فإذا أثابه على ذلك كان من باب المعاوضة وليس له حكمة يطلبها إلا حصول ذلك المأمور به وليس هو الخالق لفعل المأمور فإذا قدر أن السيد لم يعوض المأمور أو لم يقم بحق عبده الذي يقضي حوائجه كان ظالما كالذي يأخذ سلعة ولا يعطي ثمنها أو يستوفي منفعة الأجير ولم يوفه أجره

3

38

والله تعالى غني عن العباد إنما أمرهم بما ينفعهم ونهاهم عما يضرهم فهو محسن إلى عباده بالأمر لهم محسن لهم بإعانتهم على الطاعة ولو قدر أن عالما صالحا أمر الناس بما ينفعهم ثم أعان بعض الناس على فعل ما أمرهم به ولم يعن آخرين لكان محسنا إلى هؤلاء إحسانا تاما ولم يكن ظالما لمن لم يحسن إليه وإذا قدر أنه عاقب المذنب العقوبة التي يقتضيها عدله وحكمته لكان أيضا محمودا على هذا وهذا وأين هذا من حكمة أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين فامره لهم إرشاد وتعليم وتعريف بالخير فإن أعانهم على فعل المأمور كان قد أتم النعمة على المأمور وهو مشكور علىهذا وهذا وإن لم يعنه وخذله حتى فعل الذنب كان له في ذلك حكمة أخرى وإن كانت مستلزمة تألم هذا فإنما تألم بأفعاله الاختيارية التي من شأنها أن تورثه نعيما أو ألما وإن كان ذلك الإيراث بقضاء الله وقدره فلا منافاة بين هذا وهذا فجعله المختار مختارا من كمال قدرته وحكمته وترتيب آثار الاختيار عليه من تمام حكمته وقدرته

3

39

لكن يبقى الكلام في نفس الحكمة الكلية في هذه الحوادث فهذه ليس على الناس معرفتها ويكفيهم التسليم لما قد علموا أنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه أرحم بعباده من الوالدة بولدها ومن المعلوم ما لو علمه كثير من الناس لضرهم علمه ونعوذ بالله من علم لا ينفع وليس اطلاع كثير من الناس بل أكثرهم على حكم الله في كل شيء نافعا لهم بل قد يكون ضارا قال تعالى لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وهذه المسألة مسألة غايات أفعال الله ونهاية حكمته مسألة عظيمة لعلها أجل المسائل الإلهية وقد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع وكذلك بسط الكلام على مسائل القدر وإنما نبهنا تنبيها لطيفا على امتناع أن يكون خلق الفعل ظلما سواء قيل إن الظلم ممتنع من الله أو قيل إنه مقدور فإن الظلم الذي هو ظلم أن يعاقب الإنسان على عمل غيره فأما عقوبته على فعله الاختياري وإنصاف المظلومين من الظالمين فهو من كمال عدل الله تعالى وهذا التفصيل في باب التعديل والتجوير بين مذهب القدرية الذين

3

40

يقيسون الله بخلقه في عدلهم وظلمهم وبين مذهب الجبرية الذين لا يجعلون لأفعال الله حكمة ولا ينزهونه عن ظلم يمكنه فعله ولا فرق عندهم بالنسبة إليه بين ما يقال هو عدل وإحسان وبين ما يقال هو ظلم وقول هؤلاء من الأسباب التي قويت بها شناعات القدرية حتى غلوا في الناحية الأخرى وخيار الأمور أوسطها ودين الله عدل بين الغالي فيه والجافي عنه وقد ظهر الفرق بين عقوبته على الكفر وغيره من المعاصي وبين عقوبته على اللون والطول كما يظهر الفرق بينهما إذا كان المعاقب بعض الناس فإن الكفر وإن كان خلق فيه إرادته وقدرته عليه فهو الذي فعله باختياره وقدرته وإن كان كذلك كله مخلوقا كما يعاقبه غيره عليه مع كون ذلك كله مخلوقا وأما قوله ولم يخلق فيه قدرة على الإيمان فهذا قاله على قول من يقول من أهل الإثبات إن القدرة لا تكون إلا مع الفعل فكل من لم يفعل شيئا لم يكن قادرا عليه ولكن يكون عاجزا عنه وهؤلاء قد يقولون لا يكلف

3

41

العبد ما يعجز عنه ولكن يكلف ما يقدر عليه بناء على أن القدرة لا تكون إلا مع الفعل وحقيقة قولهم أن كل من ترك واجبا لم يكن قادرا عليه وليس هذا قول جمهور أهل السنة بل جمهور أهل السنة يثبتون للعبد قدرة هي مناط الأمر والنهي وهذه قد تكون قبله لا يجب أن تكون معه ويقولون أيضا إن القدرة التي يكون بها الفعل لا بد ان تكون مع الفعل لا يجوزون أن يوجد الفعل بقدرة معدومة ولا بإرادة معدومة كما لا يوجد بفاعل معدوم وأما القدرية فيزعمون أن القدرة لا تكون إلا قبل الفعل ومن قابلهم من المثبتة يقولون لا تكون إلا مع الفعل وقول الأئمة والجمهور هو الوسط أنها لا بد أن تكون معه وقد تكون مع ذلك قبله كقدرة المأمور العاصي فإن تلك القدرة تكون متقدمة على الفعل بحيث تكون لمن لم يطع كما قال تعالى

3

42

ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا سورة آل عمران فأوجب الحج على المستطيع فلو لم يستطع إلا من حج لم يكن الحج قد وجب إلا على من حج ولم يعاقب أحد على ترك الحج وهذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام وكذلك قال تعالى فاتقوا الله مااستطعتم سورة التغابن فأوجب التقوى بحسب الاستطاعة فلو كان من لم يتق الله لم يستطع التقوى لم يكن قد أوجب التقوى إلا على من اتقى ولا يعاقب من لم يتق وهذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام وهؤلاء إنما قالوا هذا لأن القدرية والمعتزلة والشيعة وغيرهم قالوا القدرة لا تكون إلا قبل الفعل لتكون صالحة للضدين الفعل والترك وأما حين الفعل فلا يكون إلا الفعل فزعموا أو من زعم منهم أنه حينئذ لا يكون قادرا لأن القادر لا بد أن يقدر على الفعل والترك وحين الفعل لا يكون قادرا على الترك فلا يكون قادرا وأما أهل السنة فإنهم يقولون لا بد أن يكون قادرا حين الفعل ثم أئمتهم قالوا ويكون أيضا قادرا قبل الفعل وقالت طائفة منهم لا يكون

3

43

قادرا إلا حين الفعل وهؤلاء يقولون إن القدرة لا تصلح للضدين عندهم فإن القدرة المقارنة للفعل لا تصلح إلا لذلك الفعل وهي مستلزمة له لا توجد بدونه إذ لو صلحت للضدين على وجه البدل أمكن وجودها مع عدم أحد الضدين والمقارن للشيء مستلزم له لا يوجد مع عدمه فإن وجود الملزوم بدون اللازم ممتنع وما قالته القدرية فهو بناء على أصلهم الفاسد وهو أن إقدار الله المؤمن والكافر والبر والفاجر سواء فلا يقولون إن الله خص المؤمن المطيع بإعانة حصل بها الإيمان بل يقولون إن إعانته للمطيع والعاصي سواء ولكن هذا بنفسه رجح الطاعة وهذا بنفسه رجح المعصية كالوالد الذي أعطى كل واحد من ابنيه سيفا فهذا جاهد به في سبيل الله وهذا قطع به الطريق أو أعطاهما مالا فهذا أنفقه في سبيل الله وهذا أنفقه في سبيل الشيطان وهذا القول فاسد باتفاق أهل السنة والجماعة المثبتين للقدر فإنهم متفقون على أن لله على عبده المطيع المؤمن نعمة دينية خصه بها دون

3

44

الكافر وأنه أعانه على الطاعة إعانة لم يعن بها الكافر كما قال تعالى ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون سورة الحجرات فبين أنه حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم فالقدرية تقول هذا التحبيب والتزيين عام في كل الخلق أو هو بمعنى البيان وإظهار دلائل الحق والآية تقتضي أن هذا خاص بالمؤمنين ولهذا قال أولئك هم الراشدون والكفار ليسوا راشدين وقال تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء سورة الأنعام وقال أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون سورة الأنعام وقال تعالى وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين سورة الأنعام وقال تعال يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين سورة الحجرات

3

45

وقد أمر الله عباده أن يقولوا اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم والدعاء إنما يكون لشيء مستقبل غير حاصل يكون من فعل الله تعالى وهذه الهداية المطلوبة غير الهدي الذي هو بيان الرسول صلى الله عليه وسلم وتبليغه وقال تعالى يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام سورة المائدة وقال تعالى ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم أحد من أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم وقال الخليل صلى الله عليه وسلم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا سورة البقرة وقال تعالى وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون سورة السجدة وقال تعالى وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار سورة القصص ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة يبين سبحانه وتعالى اختصاصه عباده المؤمنين بالهدى والإيمان والعمل الصالح والعقل يدل على ذلك فإنه إذا قدر أن جميع الأسباب الموجبة للفعل من الفاعل كما هي من التارك كان

3

46

اختصاص الفاعل بالفعل ترجيحا لأحد المثلين على الآخر بلا مرجح وذلك معلوم الفساد بالضرورة وهو الأصل الذي بنوا عليه إثبات الصانع فإن قدحوا في ذلك انسد عليهم طريق إثبات الصانع وغايتهم أن قالوا القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح كالجائع والخائف وهذا فاسد فإنه مع استواء الأسباب الموجبة من كل وجه يمتنع الرجحان وأيضا فقول القائل يرجح بلا مرجح إن كان لقوله يرجح معنى زائد على وجود الفعل فذاك هو السبب المرجح وإن لم يكن له معنى زائد كان حال الفعل قبل وجود الفعل كحاله عند الفعل ثم الفعل حصل في إحدى الحالتين دون الأخرى بلا مرجح وهذا مكابرة للعقل فما كان أصل قول القدرية أن فاعل الطاعات وتاركها كلاهما في الإعانة والإقدار سواء امتنع على أصلهم أن يكون مع الفعل قدرة تخصه

3

47

لأن القدرة التي تخص الفعل لا تكون للتارك وإنما تكون للفاعل والقدرة لا تكون إلا من الله وما كان من الله لم يكن مختصا بحال وجود الفعل ثم لما رأوا أن القدرة لا بد أن تكون قبل الفعل قالوا لا تكون مع الفعل لأن القدرة هي التي يكون بها الفعل والترك وحال وجود الفعل يمتنع الترك فلهذا قالوا القدرة لا تكون إلا قبل الفعل وهذا باطل قطعا لأن وجود الأثر مع عدم بعض شروطه الوجودية ممتنع بل لا بد أن يكون جميع ما يتوقف عليه الفعل من الأمور الوجودية موجودا عند الفعل فنقيض قولهم حق وهو أن الفعل لا بد أن يكون معه قدرة لكن صار أهل الإثبات هنا حزبين حزبا قالوا لا تكون القدرة إلا معه ظنا منهم أن القدرة نوعا واحد لا تصلح للضدين وظنا من بعضهم أن القدرة عرض فلا تبقى زمانين فيمتنع وجودها قبل الفعل والصواب الذي عليه أئمة الفقه والسنة أن القدرة نوعان نوع مصحح للفعل يمكن معه الفعل والترك وهذه هي التي يتعلق بها الأمر والنهي فهذه تحصل للمطيع والعاصي وتكون قبل الفعل وهذه تبقى إلى حين

3

48

الفعل إما ببقائها عند من يقول ببقاء الأعراض وإما بتجدد أمثالها عند من يقول إن الأعرض لا تبقى وهذه قد تصلح للضدين وأمر الله لعباده مشروط بهذه الطاقة فلا يكلف الله من ليست معه هذه الطاقة وضد هذه العجز وهذه المذكورة في قول الله تعالى ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات سورة النساء وقوله تعالى وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون سورة التوبة وقوله في الكفارة فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا سورة المجادلة فإن هذا نفي لاستطاعة من لم يفعل فلا يكون مع الفعل ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب فإنما نفى استطاعة لا فعل معها

3

49

وأيضا فالاستطاعة المشروطة في الشرع أخص من الاستطاعة التي يمتنع الفعل مع عدمها فإن الاستطاعة الشرعية قد تكون مما يتصور الفعل مع عدمها وإن لم يعجز عنه فالشارع ييسر على عباده ويريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر وما جعل عليهم في الدين من حرج والمريض قد يستطيع القيام مع زيادة مرضه وتأخر برئه فهذا في الشرع غير مستطيع لأجل حصول الضرر عليه وإن كان يسميه بعض الناس مستطيعا فالشارع لا ينظر في الاستطاعة الشرعية إلى مجرد إمكان الفعل بل ينظر إلى لوازم ذلك فإذا كان الفعل ممكنا مع المفسدة الراجحة لم تكن هذه استطاعة شرعية كالذي يقدر أن يحج مع ضرر يلحقه في بدنه أو ماله أو يصلي قائما مع زيادة مرضه أو يصوم الشهرين مع انقطاعه عن معيشته ونحو ذلك فإن كان الشارع قد اعتبر في المكنة عدم المفسدة الراجحة فكيف يكلف مع العجز ولكن هذه الاستطاعة مع بقائها إلى حين الفعل لا تكفي في وجود الفعل ولو كانت كافية لكان التارك كالفاعل بل لا بد من إحداث إعانة

3

50

أخرى تقارن هذه مثل جعل الفاعل مريدا فإن الفعل لا يتم إلا بقدرة وإرادة والاستطاعة المقارنة للفعل تدخل فيها الإرادة الجازمة بخلاف المشروطة في التكليف فإنه لا يشترط فيها الإرادة والله تعالى يأمر بالفعل من لا يريده لكن لا يأمر به من لو أراده لعجز عنه وهذا الفرقان هو فصل الخطاب في هذا الباب وهكذا أمر الناس بعضهم لبعض فإن الإنسان يأمر عبده بما لا يريده العبد لكن لا يأمره بما يعجز عنه العبد وإذا اجتمعت الإرادة الجازمة والقوة التامة لزم وجود الفعل ولا بد أن يكون هذا المستلزم للفعل مقارنا له لا يكفي تقدمه عليه إن لم يقارنه فإنه العلة التامة للفعل والعلة التامة تقارن المعلول لا تتقدمه ولأن القدرة شرط في وجود الفعل وكون الفاعل قادرا والشرط في وجود الشيء الذي به القادر يكون قادرا لا يكون الشيء مع عدمه بل مع وجوده وإلا فيكون الفاعل فاعلا حين لا يكون قادرا أو غير القادر لا يكون قادرا

3

51

وهذا معنى قول أهل الاثبات الذي يذكره مثل القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وغيرهما لا خلاف بيننا وبين المعتزلة أن المصحح لكون الفاعل فاعلا هو كونه قادرا ووجدنا كل مصحح لأمر من الأمور فإنه يستحيل ثبوت ذلك الأمر والحكم مع عدم المصحح له ألا ترى أنه لما ثبت أن المصحح لكون القادر العالم كونه حيا استحال كونه عالما قادرا مع عدم كونه حيا وكذلك لما كان المصحح لكون المتلون متلونا وكونه متحركا كونه جوهرا استحال كونه متلونا ومتحركا وليس بجوهر وكذلك يستحيل كونه فاعلا في حال ليس هو فيها قادرا قالوا وهذا من الأدلة المعتمدة وهذا الدليل يقتضي أنه لا بد من وجود القدرة على الفعل ولكن لا ينفي وجودها قبل الفعل فإن المصحح يصح وجوده قبل وجود المشروط وبدون ذلك كما يصح وجود الحياة بدون العلم والجوهر بدون الحركة وهذا مما يحتج به على الفلاسفة في مسألة حدوث العالم فإنهم إذا قالوا العلة القديمة تحدث الدورة الثانية بشرط انقضاء الأولى قيل لهم لا بد عند وجود المحدث من العلة التامة وكون الفاعل قادرا

3

52

تام القدرة مريدا تام الإرادة فلا يكفي في الإحداث مجرد وجود شيء متقدم على الإحداث فكيف يكفي مجرد عدم شيء يتقدم عدمه على الإحداث بل لا بد حين الإحداث من المؤثر التام ثم كذلك عند حدوث المؤثر التام لا بد له من مؤثر تام فإذا لم يكن إلا علة تامة أزلية يقارنها معلولها لزم حدوث الحوادث بلا محدث أصلا وهذا يدل على أن الرب تعالى يتصف بما به يفعل الحوادث المخلوقة من الأقوال القائمة به الحاصلة بقدرته ومشيئته كما قد بسط في موضعه وهذا التفصيل في الإرادة والقدرة وتقسيمها إلى نوعين يزيل الاشتباه والاضطراب الحاصل في هذا الباب وعلى هذا ينبني تكليف ما لا يطاق فإن من قال القدرة لا تكون إلا مع الفعل يقول كل كافر وفاسق قد كلف ما لا يطيق وليس هذا الإطلاق قول جمهور أهل السنة وأئمتهم بل يقولون إن الله تعالى قد أوجب الحج على المستطيع حج أو لم يحج وكذلك أوجب صيام الشهرين في الكفارة على المستطيع كفر أو لم يكفر وأوجب العبادات على القادرين دون العاجزين فعلوا أو لم يفعلوا وما لا يطاق يفسر بشيئين يفسر بما لا يطاق للعجز عنه فهذا لم يكلفه

3

53

الله أحدا ويفسر بما لا يطاق للاشتغال بضده فهذا هو الذي وقع فيه التكليف كما في أمر العباد بعضهم بعضا فإنهم يفرقون بين هذا وهذا فلا يأمر السيد عبده الأعمى بنقط المصاحف ويأمره إذا كان قاعدا أن يقوم ويعلم الفرق بين هذا وهذا بالضرورة وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع وإنما نبهنا على نكتها بحسب ما يليق بهذا الموضع وعلى هذا فقوله لم يخلق فيه قدرة على الإيمان ليس هو قول جمهور أهل السنة بل يقولون خلق له القدرة المشروطة في التكليف المصححة للأمر والنهي كما في العباد إذا أمر بعضهم بعضا فما يوجد من القدرة في ذلك الأمر فهو موجود في أمر الله لعباده بل تكليف الله أيسر ورفعه للحرج أعظم والناس يكلف بعضهم بعضا أعظم مما أمرهم الله به ورسوله ولا يقولون إنه تكليف ما لا يطاق ومن تأمل أحوال من يخدم الملوك والرؤساء ويسعى في طاعتهم وجد عندهم من ذلك ما ليس عند المجتهدين في العبادة لله

3

54

فصل قال الرافضي ومنها إفحام الأنبياء وانقطاع حجتهم لأن النبي إذا قال للكافر آمن بي وصدقني يقول قل للذي بعثك يخلق في الإيمان والقدرة المؤثرة فيه حتى أتمكن من الإيمان وأومن بك وإلا فكيف تكلفني الإيمان ولا قدرة لي عليه بل خلق في الكفر وأنا لا أتمكن من مقاهرة الله تعالى فينقطع النبي ولا يتمكن من جوابه فيقال هذا مقام يكثر فيه خوض النفوس فإن كثيرا من الناس إذا أمر بما يجب عليه تعلل بالقدرة وقال حتى يقدر الله لي ذلك أو يقدرني الله على ذلك أو حتى يقضي الله ذلك وكذلك إذا نهي عن فعل ما حرم الله قال الله قضى علي بذلك أي حيلة لي في هذا ونحو هذا الكلام

3

55

والاحتجاج بالقدر حجة باطلة داحضة باتفاق كل ذي عقل ودين من جميع العالمين والمحتج به لا يقبل من غيره مثل هذه الحجة إذا احتج بها في ظلم ظلمه إياه أو ترك ما يجب عليه من حقوقه بل يطلب منه ما له عليه ويعاقبه على عدوانه عليه وإنما هو من جنس شبه السوفسطائية التي تعرض في العلوم فكما أنك تعلم فسادها بالضرورة وإن كانت تعرض كثيرا لكثير من الناس حتى قد يشك في وجود نفسه وغير ذلك من المعارف الضرورية فكذلك هذا يعرض في الأعمال حتى يظن أنها شبهة في إسقاط الصدق والعدل الواجب وغير ذلك وإباحة الكذب والظلم وغير ذلك ولكن تعلم القلوب بالضرورة ان هذه شبهة باطلة ولهذا لا يقبلها أحد من أحد عند التحقيق ولا يحتج بها أحد إلا مع عدم علمه بالحجة بما فعله فإذا كان معه علم بأن ما فعله هو المصلحة وهو المأمور به وهو الذي ينبغي فعله لم يحتج بالقدر وكذلك إذا كان معه علم بأن الذي لم يفعله ليس عليه أن يفعله أو ليس بمصلحة أو ليس هو مأمورا به لم يحتج بالقدر بل إذا كان متبعا لهواه بغير علم احتج بالقدر

3

56

ولهذا لما قال المشركون لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء سورة الأنعام قال الله تعالى قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين سورة الأنعام فإن هؤلاء المشركين يعلمون بفطرتهم وعقولهم أن هذه الحجة داحضة باطلة فإن أحدهم لو ظلم الآخر في ماله أو فجر بامرأته أو قتل ولده أو كان مصرا على الظلم فنهاه الناس عن ذلك فقال لو شاء الله لم أفعل هذا لم يقبلوا منه هذه الحجة ولا هو يقبلها من غيره وإنما يحتج بها المحتج دفعا للوم بلا وجه فقال الله لهم هل عندكم من علم فتخرجوه لنا بأن هذا الشرك والتحريم من أمر الله وأنه مصلحة ينبغي فعله إن تتبعون إلا الظن فإنه لا علم عندكم بذلك إن تظنون ذلك إلا ظنا وإن أنتم إلا تخرصون تحرزون وتفترون فعمدتكم في نفس الأمر ظنكم وخرصكم ليس عمدتكم في نفس الأمر كون الله شاء ذلك وقدره فإن مجرد المشيئة والقدر لا يكون عمدة لأحد في الفعل ولا حجة لأحد على أحد ولا

3

57

عذرا لأحد إذ الناس كلهم مشتركون في القدر فلو كان هذا حجة وعمدة لم يحصل فرق بين العادل والظالم والصادق والكاذب والعالم والجاهل والبر والفاجر ولم يكن فرق بين ما يصلح الناس من الأعمال وما يفسدهم وما ينفعهم وما يضرهم وهؤلاء المشركون المحتجون بالقدر على ترك ما أرسل الله به رسله من توحيده والايمان به لو احتج به بعضهم على بعض في إسقاط حقوقه ومخالفة أمره لم يقبله منه بل كان هؤلاء المشركون يذم بعضهم بعضا ويعادي بعضهم بعضا ويقاتل بعضهم بعضا على فعل ما يرونه تركا لحقهم أو ظلما فلما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى حق الله على عباده وطاعة امره احتجوا بالقدر فصاروا يحتجون بالقدر على ترك حق ربهم ومخالفة أمره بما لا يقبلونه ممن ترك حقهم وخالف أمرهم وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له يا معاذ أتدري ما حق الله على عباده حقه على

3

58

عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك حقهم عليه أن لا يعذبهم فالاحتجاج بالقدر حال أهل الجاهلية الذين لا علم عندهم بما يفعلون ويتركون إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون وهم إنما يحتجون به في ترك حق ربهم ومخالفة أمره لا في ترك ما يرونه حقا لهم ولا في مخالفة أمرهم ولهذا تجد كثيرا من المحتجين به والمستندين إليه من النساك والصوفية والفقراء والعامة والجند والفقهاء وغيرهم يفرون إليه عند اتباع الظن وما تهوى الأنفس فلو كان معهم علم وهدى لم يحتجوا بالقدر أصلا بل يعتمدون عليه لعدم الهدى والعلم

3

59

وهذا أصل شريف من اعتنى به علم منشأ الضلال والغي لكثير من الناس ولهذا تجد المشايخ والصالحين المتبعين للأمر والنهي كثيرا ما يوصون أتباعهم باتباع العلم والشرع لأنه كثيرا ما يعرض لهم إرادات في أشياء ومحبة لها فيتبعون فيها أهواءهم ظانين أنها دين الله وليس معهم إلا الظن والذوق والوجد الذي يرجع إلى محبة النفس وإرادتها فيحتجون تارة بالقدر وتارة بالظن والخرص وهم متبعون أهواءهم في الحقيقة فإذا اتبعوا العلم وهو ماجاء به الشارع صلى الله عليه وسلم خرجوا عن الظن وما تهوى الأنفس واتبعوا ما ماجاءهم من ربهم وهو الهدى كما قال تعالى فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى سورة طه وقد ذكر الله تعالى هذا المعنى عن المشركين في سورة الأنعام والنحل والزخرف كما قال تعالى وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون سورة الزخرف فبين أنه لا علم لهم بذلك إن هم إلا يخرصون

3

60

وقال في سورة الأنعام قل فلله الحجة البالغة سورة الأنعام أي بإرسال الرسل وإنزال الكتب كما قال تعالى لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل سورة النساء ثم أثبت القدر بقوله فلو شاء لهداكم أجمعين سورة الأنعام فأثبت الحجة الشرعية وبين المشيئة القدرية وكلاهما حق وقال في النحل وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين بين سبحانه أن هذا الكلام تكذيب للرسل فيما جاؤوهم به ليس حجة لهم فإن هذا لو كان حجة لاحتج به على تكذيب كل صدق وفعل كل ظلم ففي فطرة بني آدم أنه ليس حجة صحيحة بل من احتج به احتج لعدم العلم واتباع الظن كفعل الذين كذبوا الرسل بهذه المدافعة بل الحجة البالغة لله بإرسال الرسل وإنزال الكتب كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك مدح نفسه ولا أحد أغير

3

61

من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن فبين أنه سبحانه يحب أن يمدح وأن يعذر ويبغض الفواحش فيحب أن يمدح بالعدل والإحسان وأن لا يوصف بالظلم ومن المعلوم أنه من تقدم إلى أتباعه بأن افعلوا كذا ولا تفعلوا كذا وبين لهم وأزاح علتهم ثم تعدوا حدوده وأفسدوا أموره كان له أن يعذبهم وينتقم منهم فإذا قالوا أليس الله قدر علينا هذا لو شاء الله ما فعلنا هذا قيل لهم أنتم لا حجة لكم ولا عندكم ما تعتذرون به يبين أن ما فعلتموه كان حسنا أو كنتم معذورين فيه فهذا الكلام غير مقبول منكم وقد قامت الحجة عليكم بما تقدم من البيان والإعذار

3

62

ولو أن ولي الأمر أعطى قوما مالا ليوصلوه إلى بلد آخر فسافروا به وتركوه في البرية ليس عنده أحد وباتوا في مكان بعيد منه وكان ولي الأمر قد أرسل جندا له يغزون بعض الأعداء فاجتازوا تلك الطريق فرأوا ذلك المال فظنوه لقطة ليس له أحد فأخذوه وذهبوا لكان يحسن منه أن يعاقب الأولين على تفريطهم وتضييعهم حفظ ما أمرهم بحفظه ولو قالوا له أنت لم تعلمنا أنك تبعث خلفنا جندا حتى نحترز المال منهم قال لهم هذا لا يجب علي ولو فعلته لكان زيادة إعانة لكم لكن كان عليكم أن تحفظوا ذلك كما تحفظ الودائع والأمانات وكانت حجته عليهم قائمة ولم يكن إن عاقبهم ظالما وإن كان لم يعنهم بالإعلام بذلك الجند لكن عمل المصلحة في إرسال الأولين والآخرين والله تعالى وله المثل الأعلى حكيم عدل في كل ما يفعله ولا

3

63

يخرج شيء عن مشيئته وقدرته فإذا أمر الناس بحفظ الحدود وإقامة الفرائض لمصلحتهم كان ذلك من إحسانه إليهم وتعريفهم ما ينفعهم وإذا خلق أمورا أخرى فإذا فرطوا واعتدوا بسبب خلقه لأمور أخرى أوجبت الضرر الحاصل من تفريطهم وعدوانهم وكان له في خلق المخلوق الثاني حكمة ومصلحة أخرى كان عادلا حكيما في خلق هذا وخلق هذا والأمر بهذا والأمر بهذا وإن كان لم يمد الأولين بزيادة يحترسون بها من التفريط والعدوان لا سيما مع علمه بأن تلك الزيادة لو خلقها للزم منها تفويت مصلحة أرجح منها فإن الضدين لا يجتمعان والمقصود هنا أنه لا يحتج أحد بالقدر إلا حجة تعليل لعدم اتباع الحق الذي بينه العلم فإن الإنسان حي حساس متحرك بالإرادة ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم أصدق الأسماء الحارث وهمام فالحارث الكاسب العامل والهمام الكثير الهم والهم مبدأ

3

64

الإرادة والقصد فكل إنسان حارث همام وهو المتحرك بالإرادة وذلك لا يكون إلا بعد الحس والشعور فإن الإرادة مسبوقة بالشعور بالمراد فلا يتصور إرادة ولا حب ولا شوق ولا اختيار ولا طلب إلا بعد الشعور وما هو من جنسه كالحس والعلم والسمع والبصر والشم والذوق واللمس ونحو هذه الأمور فهذا الإدراك والشعور هو مقدمة الإرادة والحب والطلب والحي مفطور على حب ما يلائمه وينفعه وبغض ما يكرهه ويضره فإذا تصور الشيء الملائم النافع أراده وأحبه وإذا تصور الشيء الضار أبغضه ونفر عنه لكن ذلك التصور قد يكون علما وقد يكون ظنا وخرصا فإذا كان عالما بأن مراده هو النافع وهو المصلحة وهو الذي يلائمه كان على الهدى والحق وإذا لم يكن معه علم بذلك كان متبعا للظن وما تهوى نفسه فإذا جاءه العلم والبيان بأن هذا ليس مصلحة أخذ يحتج بالقدر حجة لدد وتعريج عن الحق لا حجة اعتماد على الحق والعلم فلا يحتج أحد في باطنه أو ظاهره بالقدر إلا لعدم العلم بأن ما هو عليه هو الحق

3

65

وإذا كان كذلك كان من احتج بالقدر على الرسل مقرا بأن ما هو عليه ليس معه به علم وإنما تكلم بغير علم ومن تكلم بغير علم كان مبطلا في كلامه ومن احتج بغير علم كانت حجته داحضة فإما أن يكون جاهلا فعليه أن يتبع العلم وإما أن يكون قد عرف الحق واتبع هواه فعليه أن يتبع الحق ويدع هواه فتبين أن المحتج بالقدر متبع لهواه بغير علم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله وحينئذ فالجواب في هذا المقام من وجوه أحدها أن هذا إنما يكون انقطاعا لو كان الاحتجاج بالقدر سائغا فأما إذا كان الاحتجاج بالقدر باطلا بطلانا ضروريا مستقرا في جميع الفطر والعقول لم يكن هذا السؤال متوجها وذلك أنه من المستقر في فطر الناس وعقولهم أنه من طلب منه فعل من الأفعال الاختيارية لم يكن له أن يحتج بمثل هذا ومن طلب دينا له على آخر لم يكن له أن يقول لا أعطيك حتى يخلق الله في العطاء ومن أمر عبده بأمر لم يكن له أن يقول لا أفعله حتى يخلق الله في فعله ومن

3

66

ابتاع شيئا وطلب منه الثمن لم يكن له أن يقول لا أقضيه حتى يخلق الله في القضاء أو القدرة على هذا وهذا أمر جبل الله عليه الناس كلهم مسلمهم وكافرهم مقرهم بالقدر ومنكرهم له ولا يخطر ببال أحد منهم الاعتراض بمثل هذا مع اعترافهم بالقدر فإذا كان هذا الاعتراض معروف الفساد في بدائه العقول ولم يكن لأحد أن يحتج به على الرسول الثاني أن الرسول يقول له أنا نذير لك إن فعلت ما أمرتك به نجوت وسعدت وإن لم تفعله عوقبت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما صعد على الصفا ونادى يا صباحاه فأجابوه فقال أرأيتم لو أخبرتكم أن عدوا مصبحكم أكنتم مصدقي قالوا ما جربنا عليك كذبا قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد وقال أنا النذير العريان

3

67

ومن المعلوم أن من أنذر بعدو يقصده لم يقل لنذيره قل لله يخلق في قدرة على الفرار حتى أفر بل يجتهد في الفرار والله هو الذي يعينه على الفرار فهذا الكلام لا يقوله إلا مكذب للرسل إذ ليس في الفطرة مع تصديق النذير الاعتلال بمثل هذا وإذا كان هذا تكذيبا حاق به ما حاق بالمكذبين الوجه الثالث أن يقول له أنا ليس لي أن أقول لربي مثل هذا الكلام بل علي أن أبلغ رسالاته وإنما علي ما حملت وعليك ما حملت وليس علي إلا البلاغ المبين وقد قمت به الرابع أن يقول ليس لي ولا لغيري أن يقول له لم لم تجعل في هذا كذا وفي هذا كذا فإن الناس على قولين من يقول إنه لا حكمة إلا محض المشيئة يقول إنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ومن يقول إن له حكمة يقول لم يفعل شيئا إلا لحكمة ولم يتركه إلا لانتفاء الحكمة فيه

3

68

وإذا كان كذلك لم يكن للعبد أن يقول له مثل ذلك ولهذا قال تعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون سورة الأنبياء الوجه الخامس أن يقول إعانتك على الفعل هو من أفعاله هو فما فعله فالحكمة وما لم يفعله فلانتفاء الحكمة وأما نفس الطاعة فمن أفعالك التي تعود مصلحتها عليك فإن أعانك كان فضلا عليك منه وإن خذلك كان عدلا منه فتكليفك ليس لحاجة له إلى ذلك ليحتاج إلى اعانتك كما يأمر السيد عبده بمصلحته فإذا كان العبد غير قادر أعانه حتى يحصل مراد الآمر الذي يعود إليه نفعه بل التكليف إرشاد وهدى وتعريف للعباد بما ينفعهم في المعاش والمعاد ومن عرف أن هذا الفعل ينفعه وهذا الفعل يضره وأنه يحتاج إلى ذلك الذي ينفعه لم يمكنه أن يقول لا أفعل الذي أنا محتاج إليه وهو ينفعني حتى يخلق في الفعل بل مثل هذا يخضع ويذل لله حتى يعينه على فعل ما ينفعه كما لو قيل هذا العدو قد قصدك أو هذا السبع أو هذا السيل المنحدر فإنه لا يقول لا أهرب وأتخلص

3

69

منه حتى يخلق الله في الهرب بل يحرص على الهرب ويسأل الله الإعانة على ذلك ويفر منه إذا عجز وكذلك إذا كان محتاجا إلى طعام أو شراب أو لباس فإنه لا يقول لا آكل ولا أشرب ولا ألبس حتى يخلق الله في ذلك بل يريد ذلك ويسعى فيه ويسأل الله تيسيره عليه فالفطرة مجبولة على حب ما تحتاج إليه ودفع ما يضرها وأنها تستعين الله عز وجل على ذلك هذا هو موجب الفطرة التي فطر الله عليها عباده وإيجابها ذلك ولهذا أمر الله العباد أن يسألوا الله أن يعينهم على فعل ما أمر الوجه السادس أن يقال مثل هذا الكلام إما أن يقوله من يريد الطاعة ويعلم أنها تنفعه أو من لا يريدها ولا يعلم أنها تنفعه وكلاهما يمتنع منه أن يقول مثل هذا الكلام أما الأول فمن أراد الطاعة وعلم أنها تنفعه أطاع قطعا إذا لم يكن عاجزا فإن نفس الإرادة الجازمة

3

70

للطاعة مع القدرة توجب الطاعة فإنها مع وجود القدرة والداعي التام توجب وجود المقدور فإذا كانت الطاعة بالتكلم بالشهادتين فمن أراد ذلك إرادة جازمة فعله قطعا لوجود القدرة والداعي التام ومن لم يفعله علم أنه لم يرده وإن كان لا يريد الطاعة فيمتنع أن يطلب من الرسول أن يخلقها الله فيه فإنه إذا طلب من الرسول أن يخلقها الله فيه كان مريدا لها فلا يتصور أن يقول مثل ذلك إلا مريد ولا يكون مريدا للطاعة المقدورة إلا ويفعلها وهذا يظهر بالوجه السابع وهو ان يقال أنت متمكن من الإيمان قادر عليه فلو أردته فعلته وإنما لم تؤمن لعدم إرادتك له لا لعجزك وعدم قدرتك عليه وقد بينا أن القدرة التي هي شرط في الأمر تكون موجودة قبل الفعل في المطيع والعاصي وتكون موجودة مع الأمر في المطيع بخلاف المختصة بالمطيع فإنها لا توجد إلا مع الفعل

3

71

وقد بيينا أن من جعل القدرة نوعا واحدا إما مقارنا للفعل وإما سابقا عليه فقد أخطأ هذا إذا عني بأحد النوعين مجموع ما يستلزم الفعل كما هو إصطلاح كثير من النظار وأما إذا لم يرده بالقدرة إلا المصحح فهي نوع واحد فإن للناس في القدرة هل هي مع الفعل أو قبله عدة أقوال أحدها أنها لا تكون إلا مع الفعل وهذا بناء على أنها المستلزمة للفعل وتلك لا تكون إلا معه وقد يبنونه على أن القدرة عرض والعرض لا يبقى زمانين والثاني أنها لا تكون إلا قبله بناء على أنها المصححة فقط وأنها لا تكون مقارنة الثالث أنها تكون قبله ومعه وهذا أصح الأقوال ثم من هؤلاء من يقول القدرة نوعان مصححة ومستلزمة فالمصححة قبله والمستلزمة معه ومنهم من يقول بل القدرة هي المصححة فقط وهي تكون معه وقبله وأما الاستلزام فإنما يحصل بوجود الإرادة مع القدرة لا بنفس

3

72

ما يسمى قدرة والإرادة ليست جزءا من مسمى القدرة وهذا القول هو الموافق للغة القرآن بل ولغات سائر الأمم هو أصح الأقوال وحينئذ فنقول أنت قادر متمكن خلق فيك القدرة على الإيمان ولكن أنت لا تريد الإيمان فإن قال له قل له يجعلني مريدا للإيمان قال له إن كنت تطلب منه ذلك فأنت مريد للإيمان وإن لم تطلب ذلك فأنت كاذب في قولك قل له يجعلني مريدا للإيمان فإن قال فكيف تأمرني بما لم يجعلني مريدا له لم يكن هذا طلبا للإرادة بل كان هذا مخاصمة وهذا ليس على الرسول جوابه بل ولا في ترك جوابه انقطاع فإن القدر ليس لأحد أن يحتج به الوجه الثامن أن يقال كل من دعاه غيره إلى فعل وأمره به فلا يخلو أن يكون مقرا بأن الله خالق أفعال العباد وإرادتهم وأنهم لا يفعلون إلا ما شاءه أو لا يكون مقرا بذلك بل يقول إنهم يفعلون ما لا يشاؤه وهم يحدثون إرادات أنفسهم بلا إرادته

3

73

فإن كان من القسم الأول فهو يقر بأن كل ظالم له أو لغيره قد خلقت إرادته للظلم فظلمه وهو لا يعذر الظالم في ذلك فيقال له أنت مقر بأن مثل هذا ليس بحجة لمن خالف ما أمر به كائنا ما كان فلا يسوغ لك الاحتجاج به وإن كان منكرا للقدر امتنع أن يحتج بهذا فثبت أن الاحتجاج بالقدر لإفحام الرسل لا يسوغ لا على قول هؤلاء ولا على قول هؤلاء فإن قال قائل المدعي ليس له مذهب يعتقده بل هو ساذج قيل له هب ان الأمر كذلك ففي نفس الأمر إما أن يكون الحق قول هؤلاء وإما أن يكون قول هؤلاء وعلى التقديرين فالاحتجاج بالقدر باطل فثبت بطلان الاحتجاج به باتفاق الطائفتين المثبتة والنفاة الوجه التاسع أن يقال مقصود الرسالة هوالإخبار بالعذاب لمن كذب وعصى كما قال موسى وهارون عليهما السلام لفرعون إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى سورة طه وحينئذ فإذا قال هو خلق في الكفر ولم يخلق في إرادة الإيمان

3

74

قيل له هذا لا يناقض وقوع العذاب بمن كذب وتولى فإن كان لم يخلق فيك الإيمان فأنت ممن يعاقبه وإن جعلك مؤمنا فأنت ممن يسعده ونحن رسل مبلغون لك منذرون لك فقد حصل مقصود الرسول وبلغ البلاغ المبين وإنما المكلف يخاصم ربه حيث أمره بما لم يعنه عليه وهذا لا يتعلق بالرسول ولا يضره والله سبحانه وتعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون الوجه العاشر أن يقال هذا السؤال وارد على هذا المصنف وعلى غيره من محققي المعتزلة والرافضة الذين اتبعوا أبا الحسين البصري حيث قال إنه مع وجود الداعي والقدرة يجب وجود المقدور وذلك أن الله خلق الداعي في العبد وقول أبي الحسين ومتبعيه في القدر وهو قول محققي أهل السنة الذين يقولون إن الله خلق قدرة العبد وإرادته وذلك مستلزم لخلقه فعل العبد ويقولون إن العبد فاعل لفعله حقيقة ومحدث لفعله والله سبحانه جعله فاعلا له محدثا له وهذا قول جماهير أهل

3

75

السنة من جميع الطوائف وهو قول كثير من أصحاب الأشعري كأبي إسحاق الإسفراييني وأبي المعالي والجويني الملقب بإمام الحرمين وغيرهما وإذا كان هذا قول محققي المعتزلة والشيعة وهو قول جمهور أهل السنة وأئمتهم بقي الخلاف بين القدرية الذين يقولون إن الداعي يحصل في قلب العبد بلا مشيئة من الله ولا قدرة وبين الجهمية المجبرة الذين يقولون إن قدرة العبد لا تأثير لها في فعله بوجه من الوجوه وأن العبد ليس فاعلا لفعله كما يقول ذلك الجهم بن صفوان إمام المجبرة ومن اتبعه وإن أثبت أحدهم كسبا لا يعقل كما أثبته الأشعري ومن وافقه وإذا كان هذا النزاع في هذا الأصل بين القدرية النفاة لكون الله يعين المؤمنين على الطاعة ويجعل فيهم داعيا إليها ويختصهم بذلك دون الكافرين وبين المجبرة الغلاة الذين يقولون إن العباد لا يفعلون شيئا ولا قدرة لهم على شيء أو لهم قدرة لا يفعلون بها شيئا ولا تأثير لها في شيء فكلا القولين باطل مع أن كثيرا من الشيعة يقولون بقول المجبرة وأما السلف والأئمة القائلون بإمامة الخلفاء الثلاثة فلا يقولون لا بهذا

3

76

ولا بهذا فتبين ان قول أهل السنة القائلين بخلافة الثلاثة هو الصواب وأن من أخطأ من أتباعهم في شيء فخطأ الشيعة أعظم من خطئهم وهذا السؤال إنما يتوجه على من يسوغ الاحتجاج بالقدر ويقيم عذر نفسه أو غيره إذا عصى بكون هذا مقدرا علي ويرى أن شهود هذا هو شهود الحقيقة أي الحقيقة الكونية وهؤلاء كثيرون في الناس وفيهم من يدعى أنه من الخاصة العارفين أهل التوحيد الذين فنوا في توحيد الربوبية ويقول إن العارف إذا فنى في شهود توحيد الربوبية لم يستحسن حسنة ولم يستقبح سيئة ويقول بعضهم من شهد الإرادة سقط عنه الأمر ويقول بعضهم الخضر إنما سقط عنه التكليف لأنه شهد الإرادة وهذا الضرب كثير في متأخري الشيوخ والنساك والصوفية والفقراء بل وفي الفقهاء والامراء والعامة ولا ريب أن هؤلاء شر من المعتزلة والشيعة الذين يقرون بالأمر والنهي

3

77

وينكرون القدر وبمثل هؤلاء طال لسان المعتزلة والشيعة في المنتسبين إلى السنة فإن من أقر بالأمر والنهي والوعد والوعيد وفعل الواجبات وترك المحرمات ولم يقل إن الله خلق أفعال العباد ولا يقدر على ذلك ولا شاء المعاصي هو قد قصد تعظيم الامر وتنزيه الله عن الظلم وإقامة حجة الله على نفسه لكن ضاق عطنه فلم يحسن الجمع بين قدرة الله التامة ومشيئته العامة وخلقه الشامل وبين عدله وحكمته وأمره ونهيه ووعده ووعيده فجعل لله الحمد ولم يجعل له تمام الملك والذين أثبتوا قدرته ومشيئته وخلقه وعارضو بذلك أمره ونهيه ووعده ووعيده شر من اليهود والنصارى كما قال هذا المصنف فإن قولهم يقتضي إفحام الرسل ونحن إنما نرد من أقوال هذا وغيره ما كان باطلا وأما الحق فعلينا أن نقبله من كل قائل وليس لأحد أن يرد بدعة ببدعة ولا يقابل باطلا بباطل والمنكرون للقدر وإن كانوا في بدعة فالمحتجون به على الأمر أعظم بدعة وإن كان أولئك يشبهون المجوس فهؤلاء يشبهون المشركين المكذبين للرسل الذين قالوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء وقد كان في أواخر عصر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين جماعة من هؤلاء القدرية وأما المحتجون بالقدر على الأمر فلا تعرف لهم طائفة

3

78

من طوائف المسلمين معروفة وإنما كثروا في المتأخرين وسموا هذا حقيقة وجعلوا الحقيقة تعارض الشريعة ولم يميزوا بين الحقيقة الدينية الشرعية التي تتضمن تحقيق أحوال القلوب كالإخلاص والصبر والشكر والتوكل والمحبة لله وبين الحقيقة الكونية القدرية التي يؤمن بها ولا يحتج بها على المعاصي لكن يسلم إليها عند المصائب فالعارف يشهد القدر في المصائب فيرضى ويسلم ويستغفر ويتوب من الذنوب والمعايب كما قال تعالى فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك سورة غافر فالعبد مأمور بأن يصبر على المصائب ويستغفر من المعايب ومن هذا الباب حديث احتجاج آدم وموسى عليهما السلام قد أخرجاه في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه وروي بإسناد جبر عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال احتج آدم وموسى وفي لفظ أن موسى قال يا رب أرني آدم الذي أخرجنا من الجنة بخطيئته فقال موسى يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة فقال له آدم أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه وكتب لك التوراة بيده فبكم تجد فيها مكتوبا وعصى آدم ربه فغوى قبل أن

3

79

أخلق قال بأربعين سنة قال فحج آدم موسى فحج آدم موسى فهذا الحديث ظن فيه طوائف أن آدم احتج بالقدر على الذنب وأنه حج موسى بذلك فطائفة من هؤلاء يدعون التحقيق والعرفان يحتجون بالقدر على الذنوب مستدلين بهذا الحديث وطائفة يقولون الاحتجاج بهذا سائغ في الآخرة لا في الدنيا وطائفة يقولون هو حجة للخاصة المشاهدين للقدر دون العامة وطائفة كذبت هذا الحديث كالجبائي وغيره وطائفة تأولته تأويلات فاسدة مثل قول بعضهم إنما حجة لأنه كان

3

80

قد تاب وقول آخر كان أباه والابن لا يلوم أباه وقول بعضهم كان الذنب في شريعة واللوم في أخرى وهكذا كله تعريج عن مقصود الحديث فإن الحديث إنما تضمن التسليم للقدر عند المصائب فإن موسى لم يلم آدم لحق الله الذي في الذنب وإنم لامه لأجل ما لحق الذرية من المصيبة ولهذا قال أرنا آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة وقال لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة وهذا روي في بعض طرق الحديث وإن لم يكن في جميعها وهو حق فإن آدم كان قد تاب من الذنب وموسى أعلم بالله من

3

81

أن يلوم تائبا وهو أيضا قد تاب حيث قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي سورة القصص وقال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين سورة الأعراف وقال فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك سورة الأعراف وأيضا فإن المذنبين من الآدميين كثير فتخصيص آدم باللون دون الناس لا وجه له وأيضا فآدم وموسى أعلم بالله من أن يحتج أحدهما على الذنب بالقدر ويقبله الآخر فإن هذا لو كان مقبولا لكان لإبليس الحجة بذلك أيضا ولقوم نوح وعاد وثمود وفرعون وإن كان من احتج على موسى بالقدر لركوب الذنب قد حجه ففرعون أيضا يحجه بذلك وإن كان آدم إنما حج موسى لأنه رفع اللوم عن المذنب لأجل القدر فيحتج بذلك عليه إبليس من امتناعه من السجود لآدم وفي الحقيقة هذا إنما هو احتجاج على الله وهؤلاء هم خصماء الله القدرية الذين يحشرون يوم القيامة إلى النار حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد

3

82

والآثار المروية في ذم القدرية تتناول هؤلاء أعظم من تناولها المنكرين للقدر تعظيما وتنزيها عن الظلم ولهذا يقرنون القدرية بالمرجئة لأن المرجئة تضعف أمر الإيمان والوعيد وكذلك هؤلاء القدرية تضعف أمر الله بالإيمان والتقوى ووعيده ومن فعل هذا كان ملعونا في كل شريعة كما روي لعنت القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبيا والخائضون في القدر بالباطل ثلاثة أصناف المكذبون به والدافعون للأمر والنهي به والطاعنون على الرب عز وجل بجمعه بين الأمر والقدر وهؤلاء شر الطوائف ويحكى في ذلك مناظرة عن إبليس والدافعون به للأمر بعدهم في الشر والمكذبون به بعد هؤلاء وأنت إذا رأيت تغليظ السلف على المكذبين بالقدر فإنما ذاك لأن الدافعين للأمر لم يكونوا يتظاهرون بذلك ولم يكونوا موجودين كثيرين وإلا فهم شر منهم كما أن الروافض شر من الخوارج في الاعتقاد ولكن الخوارج أجرأ على السيف والقتال منهم فلإظهار القول ومقاتلة المسلمين عليه جاء فيهم ما لا يجيء فيمن هم من جنس المنافقين الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم

3

83

فتبين أن آدم احتج على موسى بالقدر من جهة المصيبة التي لحقته ولحقت الذرية والمصيبة تورث نوعا من الجزع يقتضي لوم من كان سببها فتبين له أن هذه المصيبة وسببها كان مقدورا مكتوبا والعبد مأمور أن يصبر على قدر الله ويسلم لأمر الله فإن هذا من جملة ما أمره الله به كما قال تعالى ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه سورة التغابن قالت طائفة من السلف كابن مسعود هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم فهذا الكلام الذي قاله هذا المصنف وأمثال هذا الكلام يقال لمن احتج بالقدر على المعاصي ثم يعلم أن هذه الحجة باطلة بصريح العقل عند كل أحد مع الإيمان بالقدر وبطلان هذه الحجة لا يقتضي التكذيب بالقدر وذلك أن بني آدم مفطورون على احتياجهم إلى جلب المنفعة ودفع المضرة لا يعيشون ولا يصلح لهم دين ولا دنيا إلا بذلك فلا بد أن يأتمروا وإنما فيه تحصيل منافعهم ودفع مضارهم سواء بعث إليهم رسول أو لم يبعث لكن علمهم بالمنافع والمضار بحسب عقولهم وقصودهم والرسل صلوات الله عليهم

3

84

بعثوا بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها فأتباع الرسل أكمل الناس في ذلك والمكذبون للرسل انعكس الأمر في حقهم فصاروا يتبعون المفاسد ويعطلون المصالح فهم شر الناس ولا بد لهم مع ذلك من أمور يجتلبونها وأمور يجتنبونها وأن يتدافعوا جميعا ما يضرهم من الظلم والفواحش ونحو ذلك فلو ظلم بعضهم بعضا في دمه وماله وعرضه وحرمته فطلب المظلوم الاقتصاص والعقوبة لم يقبل أحد من ذوي العقول احتجاجه بالقدر ولو قال اعذروني فإن هذا كان مقدرا علي لقالوا له وأنت لو فعل بك هذا فاحتج عليك ظالمك بالقدر لم تقبل منه وقبول هذه الحجة يوجب الفساد الذي لا صلاح معه وإذا كان الاحتجاج بالقدر مردودا في فطر جميع الناس وعقولهم مع أن جماهير الناس مقرون بالقدر علم أن الإقرار بالقدر لا ينافي دفع الاحتجاج به بل لا بد من الإيمان به ولا بد من رد الاحتجاج به ولما كان الجدل ينقسم إلى حق وباطل والكلام ينقسم إلى حق وباطل وكان من لغة العرب أن الجنس إذا انقسم إلى نوعين أحدهما أشرف من الآخر خصوا الأشرف باسمه الخاص وعبروا عن الآخر

3

85

بالاسم العام كما في لفظ الجائز العام والخاص والمباح العام والخاص وذوي الأرحام العام والخاص ولفظ الحيوان العام والخاص فيطلقون لفظ الحيوان على غير الناطق لاختصاص الناطق باسم الإنسان وعملوا في لفظ الكلام والجدل كذلك فيقولون فلان صاحب كلام ومتكلم إذا كان قد يتكلم بلا علم ولهذا ذم السلف أهل الكلام وكذلك الجدل إذا لم يكن الكلام بحجة صحيحة لم يك إلا جدلا محضا والاحتجاج بالقدر من هذا الباب كما في الصحيح عن علي رضي الله عنه قال طرقني رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاطمة فقال ألا تقومان تصليان فقلت يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله إن شاء يبعثنا بعثنا قال فولى وهو يقول وكان الإنسان أكثر شيء جدلا سورة الكهف فإنه لما أمرهم بقيام الليل فاعتل علي

3

86

رضي الله عنه بالقدر وأنه لو شاء الله لأيقظنا علم النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا ليس فيه إلا مجرد الجدل الذي ليس بحق فقال وكان الإنسان أكثر شيء جدلا فصل قال الرافضي ومنها تجويز أن يعذب الله سيد المرسلين على طاعته ويثيب إبليس على معصيته لأنه يفعل لا لغرض فيكون فاعل الطاعة سفيها لأنه يتعجل بالتعب في الاجتهاد في العبادة وإخراج ماله في عمارة المساجد والربط والصدقات من غير نفع يحصل له لأنه قد يعاقبه على ذلك ولو فعل عوض ذلك ما يلتذ به ويشتهيه من أنواع المعاصي قد يثيبه فاختيار الأول يكون سفها عند كل عاقل والمصير إلى المذهب يؤدي إلى خراب العالم واضطراب أمور الشريعة المحمدية وغيرها والجواب من وجوه أحدها أن هذا الذي قاله باطل باتفاق

3

87

المسلمين فلم يقل أحد منهم أن الله قد يعذب أنبياءه ولا أنه قد يقع منه عذاب أنبيائه بل هم متفقون على أنه يثيبهم لا محالة لا يقع منه غير ذلك لأنه وعد بذلك وأخبر به وهو صادق الميعاد وعلم ذلك بالضرورة ثم من متكلمة أهل السنة المثبتين للقدر من يقول إنما علم ذلك بمجرد خبره الصادق وهي الدلالة السمعية المجردة ومنهم من يقول بل قد يعلم ذلك بغير الخبر ويعلم بأدلة عقلية وإن كان الشارع قد نبه عليها وأرشد إليها كما إذا علمت حكمته ورحمته وعدله علم أن ذلك يستلزم إكرام من هو متصف بالصفات المناسبة لذلك كما قالت خديجة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن تعلم أنه نبي والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق

3

88

وقد قال الله تعالى أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون سورة الجاثية وهذا إستفهام إنكار يقتضي الإنكار على من يحسب ذلك ويظنه وإنما ينكر على من ظن أو حسب ما هو خطأ باطل يعلم بطلانه لا من ظن ظنا ما ليس بخطأ ولا باطل فعلم أن التسوية بين أهل الطاعة وبين أهل المعصية مما يعلم بطلانه وأن ذلك من الحكم السييء الذي ينزه الله عنه ومثله قوله تعالى أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار سورة ص وقوله تعالى أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون سورة القلم وفي الجملة التسوية بين الأبرار

3

89

والفجار والمحسنين والظالمين وأهل الطاعة وأهل المعصية حكم باطل يجب تنزيه الله عنه فإنه ينافي عدله وحكمته وهو سبحانه كما ينكر التسوية بين المختلفات فهو يسوي بين المتماثلات كقوله سبحانه وتعالى أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر وقوله كدأب آل فرعون والذين من قبلهم الآية وقوله لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب وقوله فاعتبروا يا أولي الأبصار وقوله ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وقوله وتلك الأمثال نضربها للناس الوجه الثاني أن قوله ومنها تجويز تعذيب الأنبياء وإثابة الشياطين إن أراد به أنهم يقولون إن الله قادر على ذلك فهو لا ينازع في القدرة وإن أراد أنا هل نشك هل يفعله أو لا يفعله فمعلوم أنا لا نشك في ذلك بل نعلم انتفاءه وعلمنا بانتفائه مستلزم لانتفائه

3

90

وإن أراد أن من قال إنه يفعل لا لحكمة يلزمه تجويز وقوع ذلك منه وإمكان وقوعه منه وإنه لو فعل ذلك لم يكن ظالما فلا ريب أن هذا قول هؤلاء وهم يصرحون بذلك لكن أكثر أهل السنة لا يقولون بذلك بل عندهم أن الله منزه عن ذلك ومقدس عنه ولكن على هذا لا يلزم أن تكون الطاعة سفها فإنها إنما تكون سفها إذا كان وجودها كعدمها والمسلمون متفقون على أن وجودها نافع وعدمها مضر وإن كانوا متنازعين هل يجوز أن يفعل الرب خلاف ذلك فإن نزاعهم في الجواز لا في الوقوع الوجه الثالث أن يقال لو قدر أن ذلك جائز الوقوع لم تكن الطاعة سفها فإن هؤلاء الإمامية مع أهل السنة والجماعة يجوزون الغفران لأهل الكبائر والمعتزلة مع أهل السنة يجوزون تكفير الصغائر باجتناب الكبائر ومع هذا فلم يكن اجتناب الكبائر والصغائر سفها بل هذا الاجتناب واجب بالاتفاق الوجه الرابع أن يقال فعل النوافل ليس سفها بالاتفاق وإن جاز أن يثيب الله العبد بدون ذلك لأسباب أخر فالشيء الذي علم نفعه

3

91

يكون فعله حكمة محمودة وإن جوز المجوز أن يحصل النفع بدون ذلك كاكتساب الأموال وغيرها من المطالب بالأسباب المقتضية لذلك في العادة فإنه ليس سفها وإن جاز أن يحصل المال بغير سعي كالميراث الوجه الخامس قوله لأنه يفعل لا لغرض قد تقدم جوابه وبينا أن أكثر أهل السنة يقولون إنه يفعل لحكمة وهو مراد هذا بالغرض وبعض أهل السنة يصرح بأنه يفعل لغرض ومن قال من المثبتين للقدر إنه يفعل لا لحكمة فإنه يقول وإن كان يفعل ما يشاء فقد يعلم ما يشاؤه مما لا يشاؤه إما بإضطراد العادة وإما بإخبار الصادق وإما بعلم ضروري يجعله في قلوبنا وإما بغير ذلك فصل قال الرافضي ومنها أنه لا يتمكن أحد من تصديق أحد من الأنبياء لأن التوصل إلى ذلك والدليل عليه إنما يتم بمقدمتين إحداهما أن الله تعالى فعل المعجز على يد النبي صلى الله عليه وسلم لأجل التصديق والثانية أن

3

92

كل من صدقه الله فهو صادق وكلتا المقدمتين لا تتم على قولهم لأنه إذا استحال أن يفعل لغرض استحال أن يظهر المعجز لأجل التصديق وإذا كان فاعلا للقبيح ولأنواع الإضلال والمعاصي والكذب وغير ذلك جاز أن يصدق الكذاب فلا يصح الاستدلال على صدق أحد من الأنبياء ولا المنذرين بشيء من الشرائع والأديان الجواب من وجوه أحدها أن يقال إنه قد تقدم أن أكثر القائلين بخلافة الخلفاء الثلاثة يقولون إن الله يفعل لحكمة بل أكثر أهل السنة المثبتين للقدر يقولون بذلك أيضا وحينئذ فإن كان هذا القول هو الصواب فهو من أقوال أهل السنة وإن كان نفيه هو الصواب فهو من أقوال أهل السنة أيضا فعلى

3

93

التقديرين لا يخرج الحق عن قولهم بل قد يوجد في كل مذهب من المذاهب الأربعة النزاع بين أصحابه في هذا الأصل مع اتفاقهم على إثبات خلافة الخلفاء الثلاثة وعلى إثبات القدر وأن الله خالق أفعال العباد ونزاع أصحاب أحمد في هذا الأصل معروف وغير واحد من أصحاب أحمد وغيرهم كابن عقيل والقاضي أبي خازم وغيرهما يثبتون المعجزات بأن الرب حكيم لا يجوز في حكمته إظهار المعجزات على يد الكذاب وكذلك قال أبو الخطاب وغيره وكذلك أصحاب مالك والشافعي ولعل أكثر أصحاب أبي حنيفة يقولون بإثبات الحكمة في أفعاله أيضا الوجه الثاني أن يقال لا نسلم أن تصديق الرسول لا يمكن إلا بطريق الاستدلال بالمعجزات بل الطرق الدالة على صدقه طرق متعددة غير طريق المعجزات كما قد بسط في غير هذا الموضع ومن

3

94

قال إنه لا طريق إلا ذلك كان عليه الدليل فإن النافي عليه الدليل كما على المثبت الدليل وهو لم يذكر دليلا على النفي الوجه الثالث أن يقال لا نسلم أن دلالة المعجزة على الصدق موقوفة على أنه لا يجوز أن يفعل ما ذكر بل دلالة المعجزة عل الصدق دلالة ضرورية لا تحتاج إلى نظر فإن اقتران المعجزة بدعوى النبوة يوجب علما ضروريا بأن الله أظهرها لصدقه كما أن من قال لملك من الملوك إن كنت أرسلتني إلى هؤلاء فانقض عادتك وقم واقعد ثلاث مرات ففعل ذلك الملك علم بالضرورة أنه فعل ذلك لأجل تصديقه الوجه الرابع قول من يقول لو لم تدل المعجزة على الصدق للزم عجز البارىء عن تصديق رسوله والعجز ممتنع عليه لأنه لا طريق إلى التصديق إلا بالمعجزة وهذه طريقة كثير من أصحاب الأشعري ومن وافقهم وهي طريقة القاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلي وغيرهما والأولى طريقة كثير منهم أيضا وهي طريقة أبي المعالي ومن اتبعه وكلاهما طريقة للأشعري وعلى هذا فإظهار المعجزة على يد الكذاب المدعي للنبوة هل هو ممكن مقدور أم لا على القولين الوجه الخامس أن يقال قوله إنها موقوفة على أن كل من صدقه

3

95

الله فهو صادق إنما يصح أن لو كان المعجز بمنزلة التصديق بالقول وهذا فيه نزاع فمن الناس من يقول بل هي بمنزلة إنشاء الرسالة والإنشاء لا يحتمل التصديق والتكذيب فقول القائل لغيره أرسلتك أو وكلتك أو نحو ذلك إنشاء وإذا كانت دلالة المعجزة على إنشاء الرسالة لم يكن ذلك موقوفا على أنه لا يفعل إلا لغرض ولا على أنه لا يفعل القبائح فإن الإنشاء كالأمر والنهي ونحو ذلك الوجه السادس أن يقال قوله لأنه إذا استحال أن يفعل لغرض استحال أن يظهر المعجز لأجل التصديق يجيب عنه من يقول إنه لا يفعل شيئا لأجل شيء بأنه قد يفعل المتلازمين كما يفعل سائر الأدلة المستلزمة لمدلولاتها فيفعل المخلوقات الدالة على وجوده وقدرته وعلمه ومشيئته وهو قد أراد خلقها واراد أن تكون مستلزمة لمدلولها دالة عليه لمن نظر فيها كذلك خلق المعجزة هنا فأراد خلقها وأراد أن تكون

3

96

مستلزمة لمدلوها الذي هو صدق الرسول دالة على ذلك لمن نظر فيها وإذا أراد خلقها وأراد هذا التلازم حصل المقصود من دلالتها على الصدق وإن لم يجعل أحد المرادين لأجل الآخر إذ المقصود يحصل بإرادتهما جميعا فإن قيل المعجز لا يدل بنفسه وإنما يدل للعلم بأن فاعله اراد به التصديق قيل هذا موضع النزاع ونحن ليس مقصودنا نصر قول من يقول إنه يفعل لا لحكمة بل هذا القول مرجوح عندنا وإنما المقصود أن نبين حجة القائلين بالقول الآخر وأرباب هذا القول خير من المعتزلة والشيعة وأما قوله إذا كان فاعلا للقبيح جاز أن يصدق الكذاب هذه حجة ثانية وجواب ذلك أن يقال ليس في المسلمين من يقول إن الله يفعل ما هو قبيح منه ومن قال إنه خالق أفعال العباد يقول إن ذلك الفعل قبيح منهم لا منه كما أنه ضار لهم لا له ثم منهم من يقول إنه فاعل ذلك الفعل والأكثرون يقولون

3

97

إن ذلك الفعل مفعول له وهو فعل للعبد وأما نفس خرق العادة فليست فعلا للعباد حتى يقال إنها قبيحة منهم فلو قدر فعل ذلك لكان قبيحا منه لا من العبد والرب منزه عن فعل القبيح فمن قال إذا خلق الله ما هو ضار للعابد جاز أن يفعل ما هو ضار كان قوله باطلا كذلك إذا جاز أن يخلق فعل العبد الذي هو قبيح من العبد وليس خلقه قبيحا منه لم يستلزم أن يخلق ما هو قبيح منه لا فعل للعبد فيه وتصديق الكذاب إنما يكون بإخبار أنه صادق سواء كان ذلك بقول أو فعل يجري مجرى القول وذلك ممتنع منه لأنه صفة نقص والله سبحانه منزه عن النقائص بالعقل وباتفاق العقلاء ومن قال إنه لا يتصور منه فعل قبيح بل كل ما يمكن فعله فهو حسن إذا فعله يقول إن ما يستلزم سلب صفات الكمال وإثبات النقص له فهو ممتنع عليه كالعجز والجهل ونحو ذلك والكذب صفة نقص

3

98

بالضرورة والصدق صفة كمال وتصديق الكذاب نوع من الكذب كما أن تكذيب الصادق نوع من الكذب وإذا كان الكذب صفة نقص امتنع من الله ما هو نقص وهذا المقام له بسط مذكور في غير هذا الموضع ونحن لا نقصد تصويب قول كل من انتسب إلى السنة بل نبين الحق والحق أن أهل السنة لم يتفقوا قط على خطأ ولم تنفرد الشيعة عنهم قط بصواب بل كل ما خالفت فيه الشيعة جميع أهل السنة فالشيعة فيه مخطئون كما أن ما خالفت فيه اليهود والنصاري لجميع المسلمين فهم فيه ضالون وإن كان كثير من المسلمين قد يخطىء ومن وافق جهم بن صفوان من المثبتين للقدر على أن الله لا يفعل شيئا لحكمة ولا لسبب وأنه لا فرق بالنسبة إلى الله بين المأمور والمحظور ولا يحب بعض الأفعال ويبغض بعضها فقوله فاسد مخالف للكتاب والسنة واتفاق السلف وهؤلاء قد يعجزون عن بيان امتناع كثير من النقائص عليه لا سيما إذا قال من قال منهم إن تنزيهه عن النقص لا يعلم بالعقل بل بالسمع

3

99

فإذا قيل لهم لم قلتم إن الكذب ممتنع عليه قالوا لأنه نقص والنقص عليه محال فيقال لهم إن تنزيهه عندكم عن النقص لم يعلم إلا بالإجماع ومعلوم أن الإجماع منعقد على تنزيهه عن الكذب فإن صح الإحتجاج على هذا بالإجماع فلا حاجة إلى هذا التطويل وأيضا فالكلام إنما هو في العبارة الدالة على المعنى وهذا كما قاله بعضهم إن الله لا يجوز أن يتكلم بكلام ولا يعني به شيئا وقال خلافا للحشوية ومعلوم أن هذا القول لم يقله أحد من المسلمين وإنما النزاع هل يجوز أن ينزل كلاما لا يعلم العباد معناه لا أنه هو في نفسه لا يعني به شيئا ثم بتقدير أن يكون في هذا نزاع فإنه احتج على ذلك بأن هذا عبث والعبث على الله تعالى ممتنع وهذا المحتج يجوز على الله فعل كل شيء لا ينزهه عن فعل فهذا وأمثاله من تناقض الموافقين لقول الجهمية الجبرية في القدر كثير لكن ليس هذا قول أئمة السنة ولا جمهورهم والله أعلم

3

100

فصل قال الرافضي ومنها أنه لا يصح أن يوصف الله أنه غفور حليم عفو لأن الوصف بهذه إنما يثبت لو كان الله مستحقا للعقاب في حق الفساق بحيث إذا أسقطه عنهم كان غفورا عفوا رحيما وإنما يستحق العقاب لو كان العصيان من العبد لا من الله تعالى فيقال الجواب من وجوه أحدها أن كثيرا من أهل السنة يقولون لا نسلم أن الوصف بهذه إنما يثبت لو كان مستحقا بل الوصف بهذه يثبت إذا كان قادرا على العقاب مع قطع النظر عن الاستحقاق فإن تخصيص الاستحقاق بهذه الامور يقتضي أنه يستحق شيئا دون شيء وهذا ممنوع عند هؤلاء بل له أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فإذا كان قادرا على أن يعذب العصاة وهو يفعل ما يشاء صح منه مغفرته وحلمه وعفوه

3

101

الثاني أن يقال أن قول القائل يستحق العقاب يعني به أن عقابه للعصاة عدل منه أو يعني به أنه محتاج إلى ذلك أما الأول فهو متفق عليه فإن عقوبته للعصاة عدل منه باتفاق المسلمين وإذا كان كذلك كان عفوه ومغفرته إحسانا منه وفضلا وهذا يقول به من يقول إنه خالق أفعالهم والقائلون بأنها أفعال لهم مخلوقة له والقائلون بأنها أفعال له كسب لهم متفقون على أن العقاب عدل منه وإن عني به كونه محتاجا إليه فهذا باطل باتفاق المسلمين الثالث أن يقال المغفرة والرحمة والعفو إما أن يوصف بها وإن كان العقاب قبيحا على قول القائلين بذلك وإما أن لا يوصف بها إلا إذا كان العقاب سائغا غير قبيح فإن كان الأول لزم أن لا يكون غفارا لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى لأن عقاب هؤلاء قبيح والمغفرة لهم واجبة عند أهل هذا القول ويلزم أن لا يكون رحيما بمن يستحق الرحمة من الأنبياء والمؤمنين ويلزم ان لا يكون غفورا رحيما لمن ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء ولما كان قد ثبت بالقرآن أنه غفار للتائبين رحيم بالمؤمنين

3

102

علم أنه موصوف بالمغفرة والرحمة وإن كان العقاب منه ممتنعا بتقدير أن يكون مستحقا للعقاب فلا يمتنع أن يوصف بالمغفرة والرحمة كما في مغفرته ورحمته لمن لا يحسن عقابه عندهم الرابع أن العصيان من العبد بمعنى أنه فاعله عند الجمهور وبمعنى أنه كاسبه لا فاعله عند بعضهم وبهذا القدر يستحق الإنسان أن يعاقب الظالم فاستحقاق الله أن يعاقب الظالم أولى بذلك وأما كونه خالقا لذلك فذاك أمر يعود إليه وله في ذلك حكمة عند الجمهور القائلين بالحكمة وذلك لم يصدر إلا لمحض المشيئة عند من لا يعلل بالحكمة والله أعلم فصل قال الرافضي ومنها أنه يلزم تكليف ما لا يطاق لأنه تكليف للكافر بالإيمان ولا قدرة له عليه وهو قبيح عقلا

3

103

والسمع قد منع منه وقال الله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها سورة البقرة والجواب عنه من وجوه أحدها أن المثبتين للقدر لهم في قدرة العبد قولان أحدهما أن قدرته لا تكون إلا مع الفعل وعلى هذا فالكافر الذي سبق في علم الله أنه لا يؤمن لا يقدر على الإيمان أبدا وما ذكره وارد على هؤلاء والثاني أن القدرة نوعان فالقدرة المشروطة في التكليف تكون قبل الفعل وبدون الفعل وقد تبقى إلى حين الفعل والقدرة المستلزمة للفعل لا بد أن تكون موجودة عند وجوده وأصل قولهم إن الله خص المؤمنين بنعمة يهتدون بها لم يعطها الكافر وأن العبد لا بد أن يكون قادرا حين الفعل خلافا لمن زعم أنه لا يكون قادرا إلا قبل الفعل وأن النعمة على الكافر والمؤمن سواء وإذا كان لا بد من قدرته حال الفعل فإذا كان قادرا قبل الفعل وبقيت القدرة إلى حين الفعل لم ينقض هذا أصلهم لكن مجرد القدرة الصالحة للضدين يشترك فيها المؤمن والكافر فلا بد للمؤمن مما يخصه الله به من الأسباب التي بها يكون

3

104

مؤمنا وهذا يدخل فيه إرادته للإيمان وهذه الإرادة يدخلونها في جملة القدرة المقارنة للفعل وهو نزاع لفظي وقد بين هذا في غير هذا الموضع كما تقدم وحينئذ فعلى قول الجمهور من أهل السنة الذين يقولون إن الكافر يقدر على الإيمان يبطل هذا الإيراد وعلى قول الآخرين فإنهم يلتزمونه وأي القولين كان هو الصواب فهو غير خارج عن أقوال أهل السنة ولله الحمد الوجه الثاني أن يقال تكليف ما لا يطاق ينقسم إلى قسمين أحدهما ما لا يطاق للعجز عنه كتكليف الزمن المشي وتكليف الإنسان الطيران ونحو ذلك فهذا غير واقع في الشريعة عند جماهير أهل السنة المثبتين للقدر وليس فيما ذكره ما يقتضي لزوم وقوع هذا والثاني ما لا يطاق للاشتغال بضده كاشتغال الكافر بالكفر فإنه هو الذي صده عن الإيمان وكالقاعد في حال قعوده فإن اشتغاله بالقعود

3

105

يمنعه أن يكون قائما والإرادة الجازمة لأحد الضدين تنافي إرادة الضد الآخر وتكليف الكافر الإيمان من هذا الباب ومثل هذا ليس بقبيح عقلا عند أحد من العقلاء بل العقلاء متفقون على أمر الإنسان ونهيه بما لا يقدر عليه حال الأمر والنهي لاشتغاله بضده إذا أمكن أن يترك ذلك الضد ويفعل الضد المأمور به وإنما النزاع هل يسمى هذا تكليف ما لا يطاق لكونه تكليفا بما انتفت فيه القدرة المقارنة للفعل فمن المثبتين للقدر من يدخل هذا في تكليف ما لا يطاق كما يقوله القاضي أبو بكر والقاضي أبو يعلي وغيرهما ويقولون ما لا يطاق على وجهين منه ما لا يطاق للعجز عنه وما لا يطاق للاشتغال بضده ومنهم من يقول هذا لا يدخل فيما لا يطاق وهذا هو الأشبه بما في الكتاب والسنة وكلام السلف فإنه لا يقال للمستطيع المأمور بالحج إذا لم يحج إنه كلف بما لا يطيق ولا يقال لمن أمر بالطهارة والصلاة فترك ذلك كسلا أنه كلف ما لا يطيق وقوله تعالى وكانوا لا يستطيعون سمعا سورة الكهف لم يرد

3

106

به هذا فإن جميع الناس قبل الفعل ليس معهم القدرة الموجبة للفعل فلا يختص بذلك العصاة بل المراد أنهم يكرهون سماع الحق كراهة شديدة لا تستطيع أنفسهم معها سماعه لبغضهم لذلك لا لعجزهم عنه كما أن الحاسد لا يستطيع الإحسان إلى المحسود لبغضه لا لعجزه عنه وعدم هذه الاستطاعة لا يمنع الأمر والنهي فإن الله يأمر الإنسان بما يكرهه وينهاه عما يحبه كما قال تعالى كتب عليكم القتال وهو كره لكم سورة البقرة وقال وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى سورة النازعات وهو قادر على فعل ذلك إذا أراده وعلى ترك ما نهى عنه وليس من شرط المأمور به أن يكون العبد مريدا له ولا من شرط المنهي عنه أن يكون العبد كارها له فإن الفعل يتوقف على القدرة والإرادة والمشروط في التكليف أن يكون العبد قادرا على الفعل لا أن يكون مريدا له لكنه لا يوجد إلا إذا كان مريدا له فالإرادة شرط في وجوده لا في وجوبه الوجه الثالث أن تكليف ما لا يطاق إذا فسر بأنه الفعل الذي ليس له

3

107

قدرة عليه تقارن مقدورها كان دعوى امتناعه بهذا التفسير مورد النزاع فيحتاج نفيه إلى دليل الوجه الرابع أن من أهل الإثبات للقدر من يجوز تكليف ما لا يطاق للعجز عنه بل من غاليتهم من يجوز تكليف الممتنع لذاته وبعضهم يدعي أن ذلك واقع في الشريعة كتكليف أبي لهب الإيمان مع تكليف تصديق خبر الله أنه لا يؤمن وهذا القول وإن كان مرجوحا لكن هذا القدري لم يذكر دليلا على إبطال ذلك ولا على جواب معارضته بل اكتفى بمجرد قوله وهو قبيح عقلا وهؤلاء يقولون لا مجال للعقل في تحسين ولا تقبيح فإن لم يكمل البحث في هذه اللوازم لم يكن ما ذكره حجة عليهم فضلا عن أن يكون حجة على غيرهم من أهل الإثبات للقدر أو على المثبتين لخلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فصل قال الرافضي ومنها أنه يلزم أن تكون أفعالنا

3

108

الاختيارية الواقعة بحسب قصودنا ودواعينا مثل حركتنا يمنة ويسرة وحركة البطش باليد والرجل في الصنائع المطلوبة لنا كالأفعال الاضطرارية مثل حركة النبض وحركة الواقع من شاهق بإيقاع غيره لكن الضرورة قاضية بالفرق بينهما فإن كل عاقل يحكم بأنا قادرون على الحركة الاختيارية وغير قادرين على الحركة إلى السماء من الطيران وغير ذلك قال أبو الهذيل العلاف حمار بشر أعقل من بشر لأن حمار بشر لو أتيت به إلى جدول صغير وضربته للعبور فإنه يطفره ولو أتيت به إلى جدول كبير لم يطفره لأنه يفرق بين ما يقدر على طفره وما لا يقدر عليه وبشر لا يفرق بين المقدور عليه وغير المقدور عليه

3

109

والجواب أن هذا إنما يلزم من يقول إن العبد لا قدرة له على أفعاله الاختيارية وليس هذا قول إمام معروف ولا طائفة معروفة من طوائف أهل السنة بل ولا من طوائف المثبتين للقدر إلا ما يحكى عن الجهم بن صفوان وغلاة المثبتة أنهم سلبوا العبد قدرته وقالوا إن حركته كحركة الأشجار بالرياح إن صح النقل عنهم وأشد الطوائف قربا من هؤلاء هو الأشعري ومن وافقه من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم وهو مع هذا يثبت للعبد قدرة محدثة واختيارا ويقول إن الفعل كسب للعبد لكنه يقول لا تأثير لقدرة العبد في إيجاد المقدور فلهذا قال من قال إن هذا الكسب الذي أثبته الأشعري غير معقول وجمهور أهل الإثبات على أن العبد فاعل لفعله حقيقة وله قدرة واختيار وقدرته مؤثرة في مقدورها كما تؤثر القوى والطبائع وغير ذلك من الشروط والأسباب

3

110

فما ذكره لا يلزم جمهور اهل السنة وقد قلنا غير مرة نحن لا ننكر أن يكون في بعض أهل السنة من يقول الخطأ لكن لا يتفقون على خطأ كما تتفق الإمامية على خطأ بل كل مسألة خالفت فيها الإمامية أهل السنة فالصواب فيها مع أهل السنة وأما ما تنازع فيه أهل السنة وتنازعت فيه الإمامية فذاك لا اختصاص له بأهل السنة ولا بالإمامية وبالجملة فجمهور أهل السنة من السلف والخلف يقولون إن العبد له قدرة وإرادة وفعل وهو فاعل حقيقة والله خالق ذلك كله كما هو خالق كل شيء كما دل على ذلك الكتاب والسنة قال تعالى عن إبراهيم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك سورة البقرة وقال تعالى عن إبراهيم رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي سورة ابراهيم وقالتعالى وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا سورة السجدة وقال تعالى وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين سورة الأنبياء وقال إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا سورة المعارج فأخبر أن الله يجعل المسلم مسلما والمقيم الصلاة مقيم للصلاة والإمام الهادي إماما هاديا

3

111

وقال عن المسيح صلى الله عليه وسلم وجعلني مباركا أينما كنت إلى قوله وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا سورة مريم فبين أن الله هو الذي جعله برا بوالدته ولم يجعله جبارا شقيا وهذا صريح قول أهل السنة في أن الله عز وجل خالق أفعال العباد وقال تعالى عن فرعون وقومه وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار سورة القصص وقد قال تعالى لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين سورة التكوير وقال تعالى إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما سورة الإنسان وقوله كلا إنه تذكرة فمن شاء ذكره سورة المدثر فأثبت مشيئة العبد وقوله كلا إلا بمشيئة الرب تعالى وهذا صريح قول أهل السنة في إثبات مشيئة العبد وأنها لا تكون إلا بمشيئة الرب وقد أخبر أن العباد يفعلون ويصنعون ويعملون ويؤمنون ويكفرون

3

112

ويتقون ويفسقون ويصدقون ويكذبون ونحو ذلك في مواضع كثير وأخبر أن لهم استطاعة وقوة في غير موضع وأئمة أهل السنة وجمهورهم يقولون إن الله خالق هذا كله والخلق عندهم ليس هو المخلوق فيفرقون بين كون أفعال العباد مخلوقة مفعولة للرب وبين أن يكون نفس فعله الذي هو مصدر فعل يفعل فعلا فإنها فعل للعبد بمعنى المصدر وليست فعلا للرب تعالى بهذا الاعتبار بل هي مفعولة له والرب تعالى لا يتصف بمفعولاته ولكن هذه الشناعات لزمت من لا يفرق بين فعل الرب ومفعوله ويقول مع ذلك إن أفعال العباد فعل لله كما يقول ذلك الجهم بن صفوان وموافقوه والأشعري وأتباعه ومن وافقهم من أتباع الأئمة ولهذا ضاق بهؤلاء البحث في هذا الموضع كما قد بسط في موضعه وكذلك أيضا لزمت من لا يثبت في المخلوقات أسبابا وقوى وطبائع ويقول إن الله يفعل عندها لا بها فلزمه أن لا يكون فرق بين القادر

3

113

والعاجز وإن أثبت قدرة وقال إنها مقترنة بالكسب قيل له لم تثبت فرقا معقولا بين ما تثبته من الكسب وتنفيه من الفعل ولا بين القادر والعاجز إذا كان مجرد الاقتران لا اختصاص له بالقدرة فإن فعل العبد يقارن حياته وعلمه وإرادته وغير ذلك من صفاته فإذا لم يكن للقدرة تأثير إلا مجرد الاقتران فلا فرق بين القدرة وغيرها وكذلك قول من قال إن القدرة مؤثرة في صفة الفعل لا في أصله كما يقول القاضي أبو بكر ومن وافقه فإنه إن أثبت تأثيرا بدون خلق الرب لزم أن يكون بعض الحوادث لم يخلقه الله تعالى وإن جعل ذلك معلقا بخلق الرب فلا فرق بين الأصل والصفة وأما أئمة أهل السنة وجمهورهم فيقولون بما دل عليه الشرع والعقل قال الله تعالى سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات سورة الأعراف وقال وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها سورة البقرة وقال يهدي به

3

114

الله من اتبع رضوانه سبل السلام سورة المائدة وقال يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا سورة البقرة ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة يخبر الله تعالى أنه يحدث الحوادث بالأسباب وكذلك دل الكتاب والسنة على إثبات القوى والطبائع التي جعلها الله في الحيوان وغيره كما قال تعالى فاتقوا الله ما استطعتم سورة التغابن وقال أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة سورة فصلت وقال الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء سورة الروم وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبدالقيس إن فيك لخصلتين يحبهما الله الحلم والأناة فقال أخلقين تخلقت بهما أم خلقين جبلت عليهما فقال بل خلقين جبلت عليهما فقال الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ومثل هذا كثير ليس هذا موضع بسطه وهؤلاء يثبتون للعبد قدرة ويقولون إن تأثيرها في مقدورها كتأثير

3

115

سائر الأسباب في مسبباتها والسبب ليس مستقلا بالمسبب بل يفتقر إلى ما يعاونه فكذلك قدرة العبد ليست مستقلة بالمقدور وأيضا فالسبب له ما يمنعه ويعوقه وكذلك قدرة العبد والله تعالى خالق السبب وما يعينه وصارف عنه ما يعارضه ويعوقه وكذلك قدرة العبد وحينئذ فما ذكره هذا الإمامي من الفرق الضروري بين الأفعال الاختيارية الواقعة بحسب قصودنا ودواعينا وبين الأفعال الاضطرارية مثل حركة النبض وحركة الواقع من شاهق بإيقاع غيره حق يقوله جميع أهل السنة وجماعة أتباعهم لم ينازع في ذلك أحد من أئمة المسلمين الذين لهم في الأمة لسان صدق من الصحابة والتابعين لهم بإحسان والفقهاء المشهورين كمالك وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأمثال هؤلاء الذين هم أهل الاجتهاد في الدين وخلفاء المرسلين

3

116

وإذا كان في المثبتين للقدر من يلزمه بطلان الفرق كان قوله باطلا ومع هذا فقول نفاة القدر أبطل منه فهذا القدري رد باطلا بما هو أبطل منه وأهل السنة لا يوافقونه لا على هذا ولا على هذا لكن يقولون الحق ويعلمون أن قوله أبطل وذلك أن أفعال العباد حادثة كائنة بعد ان لم تكن فحكمها حكم سائر الحوادث وهي ممكنة من الممكنات فحكمها حكم سائر الممكنات فما من دليل يستدل به على أن بعض الحوادث والممكنات مخلوقة لله إلا وهو يدل على أن أفعال العباد مخلوقة لله فإنه قد علم أن المحدث لا بد له من محدث وهذه المقدمة ضرورية عند جماهير العقلاء وكذلك الممكن لا بد له من مرجح تام فإذا كان فعل العبد حادثا بعد أن لم يكن فلا بد له من محدث وإذا قيل المحدث هو العبد فيكون العبد صار محدثا له بعد أن لم يكن هو أيضا أمر حادث فلا بد له من محدث إذ لو كان العبد

3

117

لم يزل محدثا له لزم دوام ذلك الفعل الحادث وإذا كان إحداثه له حادثا فلا بد له من محدث وإذا قيل المحدث إرادة العبد قيل فإرادته أيضا حادثة فلا بد لها من محدث وإن قيل حدثت بإرادة من العبد قيل تلك الإرادة أيضا لا بد لها من محدث فأي محدث فرضته في العبد إن كان حادثا فالقول فيه كالقول في الحادث الأول وإن جعلته قديما أزليا كان هذا ممتنعا لأن ما يقوم بالعبد لا يكون قديما أزليا وإن قلت هو وصف للعبد وهي قدرته المخلوقة فيه مثلا لم ينفعك هذا لوجوه أحدها أن يقال فإذا كانت هذه القدرة المخلوقة فيه موجودة قبل حدوث الفعل وحين حدوثه فلا بد من سبب آخر حادث ينضم إليها وإلا لزم ترجيح أحد المثلين على الآخر بلا مرجح وحدوث الحوادث بلا سبب حادث وإلا فإذا كان حال العبد قبل أن

3

118

يفعل وحاله حين الفعل سواء لا مزية لأحد الحالين على الآخر وكان تخصيص هذه الحال بكونه فاعلا فيها دون الأخرى ترجيحا لأحد المتماثلين بدون مرجح وهكذا إذا قيل فعله يمكن أن يكون وأن لا يكون والممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح تام والمرجح إذا كان من العبد فالقول فيه كالقول في الفعل فلا بد أن يكون المرجح التام من الله تعالى وأن يستلزم وجوده وجود الفعل وإلا لم يكن تاما ولأجل هذا اتفق أهل السنة المثبتون للقدر على أن الله خص المؤمنين بنعمة دون الكافرين بأن هداهم للإيمان ولو كانت نعمته على المؤمنين مثل نعمته على الكافرين لم يكن المؤمن مؤمنا كما قال تعالى ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون سورة الحجرات وقال تعالى يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين سورة الحجرات وقال تعالى فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم سورة البقرة وقال تعالى أولئك

3

119

كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه سورة المجادلة وقال تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء سورة الأنعام والقدرية جعلوا نعمته الدينية على الصنفين سواء وقالوا إن العبد أعطي قدرة تصلح للإيمان والكفر ثم إنه يصدر عنه أحدهما بدون سبب حادث يصلح للترجيح وزعموا أن القادر المختار يرجح أحد طرفي مقدوره على الآخر بلا مرجح وادعوا هذا في قدرة الرب وقدرة العبد وقد وافقهم على هذا في قدرة الرب كثير من المثبتين للقدر القائلين بأن الرب لا يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته بل ووافقهم فيها كثير من المثبتين للقدر وصار الرازي وأمثاله ممن يحتج على القدرية بتلك الحجة يتناقضون فإذا ناظروهم في مسألة خلق الأفعال احتجوا عليهم بتلك وقالوا إن الممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح تام سواء صدر عن قادر مختار أو غيره وإذا تكلموا في مسألة حدوث العالم وقيل لهم الحادث لا بد له من سبب حادث أجابوا بجواب القدرية فقالوا

3

120

القادر المختار يرجح أحد طرفي مقدوره بلا مرجح وفرقوا بين القادر وغيره كما قالت القدرية وقد يفرقون بين فعل الرب وفعل العبد بأن الرب يرجح بمشيئته القديمة التي هي من لوازم ذاته بخلاف العبد فإن إرادته حادثة من غيره ولكن قال أكثر الناس هؤلاء الذين يقولون إن الإرادة القديمة الأزلية هي المرجحة من غير تجدد شيء قولهم من جنس قولهم فإن الإرادة نسبتها إلى جميع ما يقدر وقتا للحوادث نسبة واحدة ونسبتها إلى جميع الممكنات نسبة واحدة فترجح أحد المتماثلين على الآخر ترجيح بلا مرجح وإذا قدر حال الفاعل قبل الفعل وحين الفعل سواء ثم قدر إختصاص أحد الحالين بالفعل لزم الترجيح بلا مرجح وهذا منتهى نظر هؤلاء الطوائف ولهذا كان من لم يعرف كلامهم كالرازي وأمثاله مترددين بين عله الدهرية وقادر القدرية ومريد الكلابية لا يجعلون الرب قادرا في الأزل على الفعل والكلام بمشيئته وقدرته ولما كانت الجهمية والقدرية بهذه الحال لا يجعلون الرب قادرا في الأزل على الفعل والكلام بمشيئته جعلت الفلاسفة الدهرية كابن سينا وأمثاله هذا عمدتهم في امتناع حدوث العالم

3

121

ووجوب قدمه ولكن لا حجة لهم في ذلك على مذهبهم فإن غاية هذا أن يستلزم دوام فاعلية الرب تعالى لا يدل على قدم الفلك ولا غيره من أعيان العالم ولكن هؤلاء قالوا هذا يستلزم التسلسل والتسلسل محال ومرادهم التسلسل في تمام التأثير كما تقدم وأما التسلسل في الآثار فهو قولهم وقد ذكرنا أن التسلسل الممتنع هنا هو من جنس الدور الممتنع فإنه إذا قيل لا يفعل هذا الحادث حتى يحدث ما به يصير فاعلا له ويكون ذلك حادثا مع حدوثه وكذلك الثاني صار هذا تسلسلا في تمام التأثير وإذا قيل لا يحدث شيئا حتى يحدث شيئا كان هذا دورا ممتنعا فهو تسلسل إذا أطلق الكلام في الحوادث ودور إذا عين الحادث وهي حجة إلزامية لأولئك المتكلمين من الجهمية والقدرية ومن تبعهم من الأشعرية والمعتزلة والكرامية ومن وافقهم من الفقهاء وغيرهم

3

122

ودوامها عند من جعله لم يكن يمكنه أن يتكلم ولا يفعل بمشيئته وقدرته ثم صار ذلك ممكنا له يستلزم الترجيح بلا مرجح أو التسلسل المتفق على امتناعه والدور الممتنع وكل ذلك ممتنع والتسلسل المتفق على امتناعه هو التسلسل في المؤثرات وفي تمام التأثير فأما التسلسل في الآثار فهو مورد النزاع وأولئك يبطلون القسمين بناء على أن ما لا يتناهى يمتنع فيه التفاوت وجماهير الفلاسفة مع أئمة أهل الملل فإنهم لا ينكرون القسم الثاني وحينئذ فيقال لهؤلاء المتفلسفة إن كان التسلسل في الآثار ممتنعا بطل قولكم وإذا بطل القول بطلت حجته بالضرورة لأن القول الباطل لا تقوم عليه حجة صحيحة وإن كان ممكنا بطلت حجتكم لإمكان أن تكون كلماته لا نهاية لها وأنه لم يزل متكلما بمشيئته أو فعالا بمشيئته فعلا بعد فعل من غير قدم شيء بعينه من الأفعال والمفعولات فالحجة باطلة على التقديرين فإنه إذا كان تسلسل الآثار ممكنا أمكن حدوث الأفلاك بأسباب قبلها حادثة

3

123

والرسل صلوات الله عليهم أجمعين أخبرت بأن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وأن عرشه كان على الماء قبل ذلك وهذا مما علم بالاضطرار والنقل المتواتر من دين الرسل وأدلتكم ليس فيها ما يوجب قدم السموات فقولكم بقدمها ليس فيه حجة عقلية فهو تكذيب للرسل بلا سبب وأيضا فالعقل الصريح يبطل قولكم فإن الأفلاك وغيرها من العالم مستلزم للحوادث فلو كان قديما للزم أن يكون صادرا عن موجب له قديم فحينئذ يكون الموجب مستلزما لموجبه ومقتضاه لا يتأخر عنه إذ لو جاز تأخر موجبه عنه لم تكن علة تامة لاستلزام العلة التامة معلولها وإذا لم تكن علة تامة امتنع أن يقارنه موجبه لامتناع قدم المعلول بدون علة تامة وأيضا فلو جاز تأخر موجبه مع جواز مقارنته له في الأزل لافتقر تخصيصه بأحدهما إلى مرجح غير الموجب بذاته وليس هناك مرجح غيره فامتنع

3

124

وجود الأفلاك وغيرها وهذا باطل فإنها موجودة مشهودة عيانا وهم يسلمون هذا ويقولون بأنها معلول علة قديمة وهو موجب بالذات لا يتأخر عنه موجبه وإذا كان هذا معلوما بالعقل الصريح وهم يوافقون عليه بل هو أصل قولهم قيل لهم فما يستلزم الحوادث يمتنع أن يصدر عن موجب بالذات لأن الحوادث تحدث شيئا بعد شيء وما يحدث شيئا فشيئا لا تكون أجزاؤه قديمة أزلية فلا تكون صادرة عن موجب بالذات فامتنع أن تكون الحوادث صادرة عن موجب بالذات وامتنع صدور شيء من العالم بدون الحوادث اللازمة له لأن وجود الملزوم بدون اللازم ممتنع فتبين أنه يمتنع أن يكون الفلك قديما أزليا ولا يمكن أن يقال كان خاليا عن الحوادث في الأزل ثم حدثت فيه لأنه يقال حينئذ فلا بد لتلك الحوادث من سبب فالقول فيها كالقول في غيرها فإن جاز أن يحدث بدون سبب حادث أمكن ذلك في الفلك وبطلت حجتهم ولزم من ذلك ترجيح أحد المتماثلين بلا مرجح وإن كان لا بد لها من سبب لزم التسلسل ودوام الحوادث وأن الفلك وكل ما سوى الله لم يزل مقارنا للحوادث وكل ممكن قارن الحوادث امتنع أن يكون صادرا عن موجب بالذات فامتنع أن يكون قديما

3

125

والناس قد تنازعوا فيما يستلزم الحوادث وهو ما لا يخلو عن الحوادث وما لا بد أن تقارنه الحوادث هل يجب أن يكون حادثا أو لا يجب حدوثه بل يجوز قدمه سواء كان هو الواجب الفني عما سواه أو كان ممكنا أو يفرق بين الواجب بنفسه الفني عما سواه وبين الممكن الفقير إلى غيره على ثلاثة أقوال فالأول قول من يقول من طوائف النظار وأهل الكلام بامتناع دوام فاعلية الرب وامتناع فعل الرب وتكلمه بمشيئته وقدرته في الأزل وأن ذلك غير ممكن وهؤلاء متنازعون في إمكان دوام فاعليته في المستقبل على قولين والقول الثاني قول الفلاسفة الذين يقولون بقدم ما سوى الله إما الأفلاك وإما العقول وإما غير ذلك ويجعلون الرب سبحانه موجبا بذاته لا يمكنه إحداث شيء ولا تغيير شيء من العالم بل حقيقة قولهم إن الحوادث لم تصدر عنه بل صدرت وحدثت بلا محدث والقول الثالث قول أئمة أهل الملل الذين يقولون إن الله خالق

3

126

كل شيء وكل ما سوى الله كائن بعد أن لم يكن مع دوام قادرية الله وأنه لم يزل متكلما إذا شاء بل لم يزل فاعلا أفعالا تقوم بنفسه وأقوال أئمة الفلاسفة وأساطينهم الذين كانوا قبل أرسطو توافق قول هؤلاء بخلاف أرسطو وأتباعه الذين قالوا بقدم الأفلاك فإن قول هؤلاء معلوم الفساد بصحيح المنقول وصريح المعقول وأيضا فإن كون المفعول المعين لازما للفعل قديما بقدمه دائما بدوامه ممتنع لذاته وإن قدر أن الفاعل غير مختار فكيف إذا ثبت أنه يفعل بمشيئته وقدرته

3

127

وما يذكرونه من تقدم العلة على المعلول بالذات دون الزمان لا يعقل ولا يوجد إلا فيما يكون شرطا فإن الشرط قد يقارن المشروط أما العلة التي هي فعل فاعل للمعلول فهذه لا يعقل فيها مقارنتها للمعلول في الزمان وهم يمثلون تقدم العلة على المعلول بالذات دون الزمان بتقدم حركة اليد على حركة الخاتم وتقدم الحركة على الصوت وغير ذلك وجميع ما يمثلون به إما أن يكون شرطا لا فاعلا وإما أن يكون متقدما بالزمان وأما فاعل غير متقدم فلا يعقل قط وليس هذا موضع بسط هذه الأمور فإنها أضل مقالات أهل الأرض وقد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع والمقصود هنا التنبيه على أصل القدرية فإن حقيقة قولهم أن أفعال الحيوان تحدث بلا فاعل كما أن أصل قول الفلاسفة الدهرية أن حركة الفلك وجميع الحوادث تحدث بلا سبب حادث وكذلك من وافق

3

128

القدرية من أهل الإثبات على أن الرب تعالى لا تقوم به الأفعال وقالوا إن الفعل هو المفعول والخلق هو المخلوق كما تقوله الأشعرية ومن وافقهم فإنه يلزمه في فعل الرب ما لزم القدرية ولهذا عامة شناعات هذا الرافضي القدري هي على هؤلاء وهؤلاء طائفة من طوائف المثبتين لخلافة أبي بكر وعمر وعثمان وقد وافقهم في ذلك كثير من الشيعة الزيدية والإمامية وغيرهم وقولهم على كل حال أقل خطأ من قول القدرية بل أصل خطئهم موافقتهم للقدرية في بعض خطئهم وأئمة أهل السنة لا يقولون بشيء من هذا الخطأ وكذلك جماهير أهل السنة من أهل الحديث والفقه والتفسير والتصوف لا يقرون بهذه الأقوال المتضمنة للخطأ بل هم متفقون على أن الله خالق أفعال العباد وعلى أن العبد قادر مختار يفعل بمشيئته وقدرته والله خالق ذلك

3

129

كله وعلى الفرق بين الأفعال الاختيارية والاضطراية وعلى أن الرب يفعل بمشيئته وقدرته وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه لم يزل قادرا على الأفعال موصوفا بصفات الكمال متكلما إذا شاء وأنه موصوف بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل فيثبتون علمه المحيط ومشيئته النافذة وقدرته الكاملة وخلقه لكل شيء ومن هداه الله إلى فهم قولهم علم أنهم جمعوا محاسن الأقوال وأنهم وصفوا الله بغاية الكمال وأنهم هم المستمسكون بصحيح المنقول وصريح المعقول وأن قولهم هو القول السديد السليم من التناقض الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه فصل قال الرافضي الإمامي القدري ومنها أنه يلزم أن لا يبقى عندنا فرق بين من أحسن إلينا غاية الإحسان طول عمره وبين من أساء إلينا غاية الإساءة طول عمره ولم يحسن منا

3

130

شكر الأول وذم الثاني لأن الفعلين صادران من الله تعالى عندهم فيقال هذا باطل فإن اشتراك الفعلين في كون الرب خلقهما لا يستلزم إشتراكهما في سائر الأحكام فإنه من المعلوم بصريح العقل أن الأمور المختلفة تشترك في أمور كثيرة لا سيما في مثل هذا المقام فإن جميع ما سوى الله مشترك في أن الله خلقه وأنه ربه ومليكه ثم من المعلوم أن المخلوقات بينها من الافتراق ما لا يحصيه إلا الخلاق فالله تعالى جعل الظلمات والنور وقال وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور سورة فاطر والله خالق الجنة والنار ولا تستوي الجنة ولا النار والله خالق الظل والحرور ولا يستوي الظل ولا الحرور والله خالق الأعمى والبصير ولا يستوي الأعمى والبصير والله خالق الحي والميت والقادر والعاجز والعالم والجاهل ولا يستوي هذا وهذا والله خالق ما ينفع وما يضر وما يوجب اللذة وما يوجب الألم ولا يستوي هذا وهذا فإذا كان الله خالق الأطعمة

3

131

الطيبة والخبيثة ثم إن الطيب يحب ويشتهى ويمدح ويبتغى والخبيث يذم ويبغض ويجتنب والله خالق هذا وهذا والله خالق الملائكة والأنبياء وخالق الشياطين والحيات والعقارب وغيرها من الفواسق فهذا محمود معظم وهذا فاسق يقتل في الحل والحرم وهو سبحانه وتعالى خالق في هذا طبيعة كريمة تقتضي الخير والإحسان وفي هذا طبيعة خبيثة توجب الشر والعدوان مع ما بينهما من الفرق في الحب والبغض والمدح والذم ونحو ذلك وإذا كان الشرع والعقل متطابقين على أن ما جعل الله فيه منفعة للناس ومصلحة لهم يحب ويمدح ويطلب وإن كان جمادا أو حيوانا بهيميا فكيف لا يكون من جعله محسنا للناس يحصل لهم به منافع ومصالح أحق بأن يحب ويمدح ويثنى عليه وكذلك في جانب الشر والقدري يقول لا يكون العبد محمودا ومشكورا على إحسانه ومذموما على إساءته إلا بشرط أن لا يكون الله جعله محسنا إلينا ولا من به علينا إذا فعل الخير ولا ابتلانا به إذا فعل الشر وهذا حقيقة ما قاله هذا الرافضي القدري

3

132

ومعلوم فساد هذا القول شرعا وعقلا فإن حقيقته أنه حيث يشكر العبد لا يشكر الرب وحيث يشكر الرب لا يشكر العبد وحقيقته أنه لا يكون لله علنيا منة في تعليم الرسول وتبليغه إلينا رسالات ربه وقد قال تعالى لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة سورة آل عمران وعلى قول القدري يكون إرسال الله له من جنس إرسال مخلوق إلى مخلوق فذاك تفضل بنفس الإرسال لا بأن جعل الرسل تتلوا وتعلم وتزكي بل هذه الأفعال منتسبة عندهم فيها للرسول الذي خلقها عندهم دون المرسل الذي لم يحدث شيئا منها والقدري يقول الرسول نطق بنفسه لم ينطقه الله ولا أنطق الله شيئا بل جعل فيه قدرة على أن ينطق وأن لا ينطق وهو يحدث أحدهما مع استواء الحال قبل الإحداث وبعده بدون معونة الله له على إحداث النطق وتيسيره له وعلى قول القدري لا يكون لله نعمة على عباده باستغفار الملائكة لهم

3

133

وتعليم العلماء لهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وعدل ولاة الأمور عليهم ولا يكون الله مبتليا لهم إذا ظلمهم ولاة الأمور وفي الأثر المعروف يقول الله عز وجل أنا الله مالك الملوك قلوب الملوك ونواصيهم بيدي من أطاعني جعلتهم عليه رحمة ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة فلا تشتغلوا بسب الملوك وأطيعوني أعطف قلوبهم عليكم وعند القدري لا يقدر الله أن يجعل الملوك لا عادلين ولا جائرين ولا محسنين ولا مسيئين ولا يقدر أن يجعل أحدا محسنا إلى أحد ولا مسيئا إلى أحد ولا يقدر أن ينعم على أحد بمن يحسن إليه ويكرمه ولا يقدر على أن يبتليه بمن يعذبه ويهينه وعلى قول القدري لم يبعث الله عبادا له أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار فإنه لم يأمرهم بذلك ولا جعلهم فاعلين بل أعطاهم قدرة وكذلك عندهم لم يرسل الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا

3

134

وقد قال بعضهم إنه على قول القدري لايستحق الله أن يشكر بحال فإن الشكر إنما يكون على النعم والنعم إما دينية وأما دنيوية وإما أخروية فالنعم الدنيوية هي عنده واجبة على الله وكذلك ما يقدر عليه من الدينية كالإرسال وخلق القدرة وأما نفس الإيمان والعمل الصالح فهو عنده لا يقدر أن يجعل أحدا مؤمنا ولا مهتديا ولا صالحا ولا برا ولا تقيا فلا يستحق أن يشكر على شيء من هذه الامور التي لم يفعلها ولا يقدر عليها عنده وأما النعم الأخروية فالجزاء واجب عليه عنده كما يجب على المستأجر أن يوفي الأجير أجره ومعلوم أن هذا عنده من باب العدل المستحق لا من باب الفضل والإحسان بمنزلة من قضى دينا كان عليه فلا يستحق الشكر على فضل ولا إحسان ومن هذا حقيقة قوله كيف يعيب أهل الإيمان الذين يشكرون الله على كل حال ونعمة ويشكرون من أجرى الله الخير على يديه

3

135

فإنه من لم يشكر الناس لم يشكر الله ومن أساء إليهم يعتقدون جواز مقابلته بالعدل وأن العفو عنه أفضل إذا لم يكن في عقوبته حق لله ويرى أحدهم أن الله أنعم عليه بإحسان الأول ليشكره عليه وأنه ابتلاه بإساءة هذا إليه كما يبتليه بأنواع البلاء ليصبر ويستغفر من ذنوبه ويرضى بقضائه كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يقضي الله لمؤمن قضاء إلا كان خيرا له إن أصابته سراء فشكر كان خير له وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن

3

136

وقد قال تعالى إنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا سورة مريم وقال تعالى فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا سورة الإسراء فإرساله الشياطين وبعثه لهؤلاء المعتدين على بني اسرائيل أهو أمر شرعي أمرهم به كما أرسل رسله بالبينات والهدى وكما بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم أم هو تقدير وتسليط وإن كان المسلط ظالما معتديا عاصيا لدين الله وشرعه ثم من المعلوم أن عامة أهل الأرض مقرون بالقدر وهم مع هذا يمدحون المحسن ويذمون المسيء فطروا على هذا وعلى هذا فيقرون أن الله تعالى خالق كل شيء وربه وأنه قدر ذلك كله وسلط هذا ويسر هذا ويمدحون هذا ويذمون هذا وأهل الإثبات المقرون بالقدر يمدحون المحسن ويذمون المسيء مع اتفاقهم على أن الله خالق الفعلين فقولهم إنه يلزمهم أن لا يفرقوا بين هذا وهذا لزوم ما لا يلزم

3

137

وغاية الأمر أن يكون الله جعل هذا مستحقا للمدح والثواب وهذا مستحقا للذم والعقاب فإذا كان قد جعل هذا مستحقا وهذا مستحقا لم يمتنع أن يمدح هذا ويذم هذا لكن خلقه لهذين الزوجين كخلقه لغير ذلك يتعلق بالحكمة الكلية في خلق المخلوقات كما قد ذكر في غير هذا الموضع وعلى رأي القدري لا يستحق المدح والثناء والشكر إلا من لم يجعله الله محسنا ولا يستحق الذم إلا من لم يجعله الله مسيئا بل من لا يقدر الله أن يجعله محسنا ولا مسيئا فعنده لا مدح ولا ذم إلا بشرط عجز الله تعالى وقصور مشيئته وخلقه وحدوث الحوادث بدون محدث فصل قال الرافضي ومنها التقسيم الذي ذكره سيدنا ومولانا الإمام موسى بن جعفر الكاظم وقد سأله أبو حنيفة وهو صبي فقال المعصية ممن فقال الكاظم المعصية إما

3

138

من العبد أو من الله أو منهما فإن كانت من الله فهو أعدل وأنصف من أن يظلم عبده ويؤاخذه بما لم يفعله وإن كانت المعصية منهما فهو شريكه والقوي أولى بإنصاف عبده الضعيف وإن كانت المعصية من العبد وحده فعليه وقع الأمر وإليه توجه المدح والذم وهو أحق بالثواب والعقاب ووجب له الجنة أو النار فقال أبو حنيفة ذرية بعضها من بعض فيقال أولا هذه الحكاية لم يذكر لها إسنادا فلا تعرف صحتها فإن المنقولات إنما تعرف صحتها بالأسانيد الثابتة لا سيما مع كثرة الكذب في هذا الباب كيف والكذب عليها ظاهر فإن أبا حنيفة من المقرين بالقدر باتفاق أهل المعرفة به وبمذهبه وكلامه في الرد على

3

139

القدرية معروف في الفقه الأكبر وقد بسط الحجج في الرد عليهم بما لم يبسطه على غيرهم في هذا الكتاب وأتباعه متفقون على أن هذا هو مذهبه وهو مذهب الحنفية المتبعين له ومن انتسب إليه في الفروع وخرج عن هذا من المعتزلة ونحوهم فلا يمكنه أن يحكى هذا القول عنه بل هم عند أئمة الحنفية الذين يفتى بقولهم مذمومون معيبون من أهل البدع والضلالة فكيف يحكى عن أبي حنيفة أنه استصوب قول من يقول إن الله لم يخلق أفعال العباد وأيضا فموسى بن جعفر وسائر علماء أهل البيت متفقون على إثبات القدر والنقل بذلك عنهم ظاهر معروف وقدماء الشيعة كانوا متفقين على إثبات القدر والصفات وإنما شاع فيهم رد القدر من حين اتصلوا بالمعتزلة في دولة بني بويه

3

140

وأيضا فهذا الكلام المحكي عن موسى بن جعفر يقوله أصاغر القدرية وصبيانهم وهو معروف من حين حدثت القدرية قبل أن يولد موسى بن جعفر فإن موسى بن جعفر ولد بالمدينة سنة ثمان أو تسع وعشرين ومائة قبل الدولة العباسية بنحو ثلاث سنين وتوفي ببغداد سنة ثلاث وثمانين ومائة قال أبو حاتم ثقة صدوق إمام من أئمة المسلمين والقدرية حدثوا قبل هذا التاريخ بل حدثوا في أثناء المائة الأولى من زمن الزبير وعبد الملك وهذا مما يبين أن هذه الحكاية كذب فإن أبا حنيفة إنما اجتمع بجعفر بن محمد وأما موسى بن جعفر فلم يكن ممن سأله أبو حنيفة ولا اجتمع به وجعفر بن محمد هو من أقران أبي حنيفة ولم يكن أبو حنيفة ممن يأخذ عنه مع شهرته بالعلم فكيف يتعلم من موسى بن جعفر

3

141

وما ذكره في هذه الحكاية من قول القائل هو أعدل من أن يظلم عبده ويؤاخذه بما لم يفعله هو أصل كلام القدرية الذي يعرفه عامتهم وخاصتهم وهو أساس مذهبهم وشعاره ولهذا سموا أنفسهم العدلية فإضافة هذا إلى موسى بن جعفر لو كان حقا ليس فيه فضيلة له ولا مدح إذا كان صبيان القدرية يعرفونه فكيف إذا كان كذبا مختلقا عليه ويقال ثانيا الجواب عن هذا التقسيم أن يقال هذا التقسيم ليس بمنحصر وذلك أن قول القائل المعصية ممن لفظ

3

142

مجمل فإن المعصية والطاعة عمل وعرض قائم بغيره فلا بد له من محل يقوم به وهي قائمة بالعبد لا محالة وليست قائمة بالله تبارك وتعالى بلا ريب ومعلوم أن كل مخلوق يقال هو من الله بمعنى أنه خلقه بائنا عنه لا بمعنى أنه قام به واتصف به كما في قوله تعالى وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه سورة الجاثية وقوله تعالى وما بكم من نعمة فمن الله سورة النحل والله تعالى وإن كان خالقا لكل شيء فإنه خلق الخير والشر لما له في ذلك من الحكمة التي باعتبارها كان فعله حسنا متقنا كما قال الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين سورة السجدة وقال اتقن كل شيء سورة النمل فلهذا لا يضاف إليه الشر مفردا بل إما أن يدخل في العموم وإما أن يضاف إلى السبب وإما أن يحذف فاعله فالأول كقول الله تعالى الله خالق كل شيء سورة الزمر والثاني كقوله قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق سورة الفلق والثالث كقوله فيما حكاه عن الجن وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا سورة الجن وقد

3

143

قال في أم القرآن اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين سورة الفاتحة فذكر أنه فاعل النعمة وحذف فاعل الغضب وأضاف الضلال إليهم وقال الخليل عليه السلام وإذا مرضت فهو يشفين سورة الشعراء ولهذا كان لله الأسماء الحسنى فسمى نفسه بالأسماء الحسنى المقتضية للخير وإنما يذكر الشر في المفعولات كقوله اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم سورة المائدة وقوله في آخر سورة الأنعام إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم سورة الأعراف وقوله في الأعراف إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم وقوله نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم سورة الحجرات وقوله حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو وهذا لأن ما يخلقه من الأمور التي فيها شر بالنسبة إلى بعض الناس

3

144

فله فيها حكمة هو بخلقه لها حميد مجيد له الملك وله الحمد فليست بالإضافة إليه شرا ولا مذمومة فلا يضاف إليه ما يشعر بنقيض ذلك كما أنه سبحانه خالق الأمراض والأوجاع والروائح الكريهة والصور المستقبحة والأجسام الخبيثة كالحيات والعذرات لما له في ذلك من الحكمة البالغة فإذا قيل هذه العذرة وهذه الروائح الخبيثة من الله أوهم ذلك أنها خرجت منه والله منزه عن ذلك وكذلك إذا قيل القبائح من الله أو المعاصي من الله قد يوهم ذلك أنها خارجة من ذاته كما تخرج من ذات العبد وكما يخرج الكلام من المتكلم والله منزه عن ذلك أو يوهم ذلك أنها منه قبيحة وسيئة والله منزه عن ذلك بل جميع خلقه خلقه له حسن على قولي التفويض والتعليل وكذلك إذا قيل للطعوم والألوان والروائح ونحوها من الأعراض هذا الطعم الحلو والمر من الله أو من هذا النبات وهذه الروائح الطيبة أو الخبيثة من الله أو من هذه العين وأمثال ذلك وقد يوهم إذا قيل

3

145

إنها من الله أنه أمر بها والله لا يأمر بالفحشاء ولا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر وهذا مثل قول ابن مسعود لما سئل عن المفوضة أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه وكذلك قال أبو بكر في الكلالة وقال عمر نحو ذلك ومرادهم أن الصواب قد أمر الله به وشرعه وأحبه ورضيه والخطأ لم يأمر به ولم يحبه ولم يشرعه بل هو مما زينه الشيطان لنفسي ففعلته بأمر الشيطان فهو مني ومن الشيطان وحينئذ فالجواب من وجوه أحدها أن يقال الأعمال والأقوال والطاعات والمعاصي من العبد بمعنى أنها قائمة به وحاصلة بمشيئته وقدرته وهو المتصف بها المتحرك بها الذي يعود حكمها عليه فإنه قد يقال لما اتصف به المحل وخرج منه هذا منه وإن لم يكن له اختيار كما يقال هذه الريح من هذا الموضع وهذه الثمرة من هذه الشجرة وهذا الزرع من

3

146

هذه الأرض فلأن يقال ما صدر من الحي باختياره هذا منه بطريق الأولى وهي من الله بمعنى أنه خلقها قائمة بغيره وجعلها عملا له وكسبا وصفة وهو خلقها بمشيئة نفسه وقدرة نفسه بواسطة خلقه لمشيئة العبد وقدرته كما يخلق المسببات بأسبابها فيخلق السحاب بالريح والمطر بالسحاب والنبات بالمطر والحوادث تضاف إلى خالقها باعتبار وإلى أسبابها باعتبار فهي من الله مخلوقة له في غيره كما أن جميع حركات المخلوقات وصفاتها منه وهي من العبد صفة قائمة به كما أن الحركة من المتحرك المتصف بها وإن كان جمادا فكيف إذا كان حيوانا وحينئذ فلا شركة بين الرب وبين العبد لاختلاف جهة الإضافة كما أنا إذا قلنا هذا الولد من هذه المرأة بمعنى أنها ولدته ومن الله بمعنى أنه خلقه لم يكن بينهما تناقض وإذا قلنا هذه الثمرة من هذه الشجرة وهذا الزرع من الأرض بمعنى أنه حدث فيها ومن الله بمعنى أنه خلقه منها لم يكن بينهما تناقض

3

147

وقد قال تعالى أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون سورة الطور فالمشهور أم خلقوا من غير رب وقيل أم خلقوا من غير عنصر وكذلك قال موسى لما قتل القبطي هذا من عمل الشيطان سورة القصص وقال تعالى ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك سورة النساء مع قوله فيما تقدم قل كل من عند الله سورة النساء فالحسنات والسيئات المراد بها هنا النعم والمصائب ولهذا قال ما أصابك ولم يقل ما أصبت كما في قوله إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وقوله إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا ما أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون سورة التوبة فبين أن النعم والمصائب من عند الله فالنعمة من الله ابتداء والمصيبة بسبب من نفس الإنسان وهي معاصيه كما قال في الآية الأخرى وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير سورة الشورى وقال في الآية الأخرى

3

148

أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم سورة آل عمران وهذا لأن الله محسن عدل كل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل فهو محسن إلى العبد بلا سبب منه تفضلا وإحسانا ولا يعاقبه إلا بذنبه وإن كان قد خلق الأفعال كلها لحكمة له في ذلك فإنه حكيم عادل يضع الأشياء مواضعها ولا يظلم ربك أحدا وإذا كان غير الله يعاقب عبده على ظلمه وإن كان مقرا بأن الله خالق أفعال العباد وليس ذلك ظلما منه فالله أولى أن لا يكون ذلك ظلما منه وإذا كان الإنسان قد يفعل مصلحة اقتضتها حكمته لا تحصل إلا بتعذيب حيوان ولا يكون ذلك ظلما منه فالله أولى أن لا يكون ذلك ظلما منه الوجه الثاني أن يقال هي من الله خلقا لها في غيره وجعلا لها عملا لغيره وهي من العبد فعلا له قائما به وكسبا يجر به منفعة إليه أو يدفع به مضرة وكون العبد هو الذي قام به الفعل وإليه يعود حكمه الخاص انتفاعا به أو تضررا جهة لا تصلح لله فإن الله لا تقوم

3

149

به أفعال العباد ولا يتصف بها ولا تعود إليه أحكامها التي تعود إلى موصوفاتها وكون الرب هو الذي خلقها وجعلها عملا لغيره بخلق قدرة العبد ومشيئته وفعله جهة لا تصلح للعبد ولا يقدر على ذلك إلا الله ولهذا قال أكثر المثبتين للقدر إن أفعال العباد مخلوقة لله وهي فعل العبد وإذا قيل هي فعل الله فالمراد أنها مفعولة له لا أنها هي الفعل الذي هو مسمى المصدر وهؤلاء هم الذين يفرقون بين الخلق والمخلوق وهم أكثر الأئمة وهو آخر قولي القاضي ابي يعلي وقول اكثر أصحاب الإمام أحمد وهو قول ابنيه يعني أبني القاضي أبي يعلي القاضي أبي حازم والقاضي أبي الحسين وغيرهما الوجه الثالث أن قول القائل الله أعدل من أن يظلم عبده ويؤاخذه بما لم يفعل فنحن نقول بموجبه فإن الله لم يظلم عبده ولم يؤاخذه

3

150

إلا بما فعله العبد باختياره وقوته لا بفعل غيره من المخلوقين وأما كون الرب خالق كل شيء فذلك لا يمنع كون العبد هو الملوم على ذلك كما أن غيره من المخلوقين يلومه على ظلمه وعدوانه مع إقراره بأن الله خالق أفعال العباد وجماهير الأمم مقرة بالقدر وأن الله خالق كل شيء وهم مع هذا يذمون الظالمين ويعاقبونهم لدفع ظلمهم وعدوانهم كما أنهم يعتقدون أن الله خالق الحيوانات المضرة والنباتات المضرة وهم مع هذا يسعون في دفع ضررها وشرها وهم أيضا متفقون على أن الكاذب والظالم مذموم بكذبه وظلمه وأن ذلك وصف سيء فيه وأن نفسه المتصفة بذلك خبيثة ظالمة لا تستحق الإكرام الذي يناسب أهل الصدق والعدل وإن كانوا مقرين بأن كل ذلك مخلوق وليس في فطر الناس أن يجعلوا مقابلة الظالم على ظلمه ظلما له وإن كانوا مقرين بالقدر فالله أولى أن لا ينسب إلى الظلم لذلك وهذا على طريقة أهل الحكمة والتعليل من أهل السنة وأما على

3

151

طريقة أهل المشيئة والتفويض فالظلم ممتنع منه لذاته لأنه تصرف في ملك الغير أو تعدى ما حد له وكلاهما ممتنع في حق الله تعالى وبكل حال فالرب تعالى لا يمثل بالخلق لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله بل له المثل الأعلى فما ثبت لغيره من الكمال فهو أحق به وما تنزه عنه من النقص فهو أحق بتنزيهه وما كان سائغا للقادر الغني فهو أولى أن يكون سائغا له وليس كل ما قبح ممن يتضرر منه يكون قبيحا منه فإن العباد لن يبلغوا ضره فيضروه ولن يبلغوا نفعه فينفعوه الوجه الرابع أن يقال لا نزاع بين المسلمين أن الله عادل ليس ظالما لكن ليس كل ما كان ظلما من العبد يكون ظلما من الرب ولا ما كان قبيحا من العبد يكون قبيحا من الرب فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله تحقيق ذلك أنه لو كان الأمر كذلك كما يقوله من يقوله من القدرية للزم أن يقبح منه أمور فعلها فإن الواحد من العباد إذا أمر غيره بأمر لا ينتفع به الآمر وتوعده عليه بالعقاب وهو يعلم أن المأمور لا يفعله بل يعصيه فيستحق العقاب كان ذلك منه عبثا وقبيحا لعدم الفائدة في ذلك للآمر والمأمور

3

152

وكذلك لو قال مرادي مصلحة المأمور وهو يعلم أنه لا يترتب عليه مصلحة بل مفسدة لكان ذلك قبيحا منه وكذلك إذا فعل فعلا لمراد وهو يعلم أن ذلك المراد لا يحصل لكان ذلك قبيحا منه والقدرية يقولون إن الله خلق الكفار لينفعهم ويكرمهم وأراد ذلك بخلقهم وأمرهم مع علمه بأنهم يتضررون لا ينتفعون وكذلك الواحد من العباد لو رأى عبيده أو إماءه يزنون ويظلمون وهو قادر على منعهم ولم يمنعهم لكان مذموما مسيئا والله منزه عن أن يكون مذموما مسيئا والقدري يقول هو أراد بخلقه لهم أن يطيعوه ويثيبهم فخلقهم للنفع مع علمه أنهم لا ينتفعون ومعلوم أن مثل هذا قبيح من الخلق ولا يقبح من الخالق ومن المعلوم أن المخلوق إذا كان قادرا على منع عبيده من القبائح فمنعه لهم خير من أن يعرضهم للثواب مع علمه أنه لا يحصل لهم إلا العقاب كالرجل الذي يعطي ولده أو غلامه مالا ليربح فيه وهو يعلم أنه يشتري به سما يأكله فمنعه له من المال خير من أن يعطيه إياه مع علمه أنه يتضرر به

3

153

وكذلك إذا أعطى غيره سيفا ليقاتل به الكفار وهو يعلم أنه لا يقاتل به إلا الأنبياء والمؤمنين لكان ذلك قبيحا منه وإن قال قصدت تعريض هذا للثواب والله لا يقبح ذلك منه وهذا حال قدرة العبد عند القدرية والقدرية مشبهة الأفعال قاسوا أفعال الله على أفعال خلقه وعدله على عدلهم وهو من أفسد القياس الوجه الخامس أن يقال المعصية من العبد كما أن الطاعة من العبد ومعلوم أنه إذا كانت الطاعة منه بمعنى أنه فعلها بقدرته ومشيئته لم يمتنع أن يكون الله هو الذي جعله فاعلا لها بقدرته ومشيئته بل هذا هو الذي يدل عليه الشرع والعقل كما قال الخليل ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك سورة البقرة وقال رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي سورة ابراهيم وقال تعالى وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا سورة السجدة ولأن كونه فاعلا بعد أن لم يكن أمر حادث فلا بد له من محدث والعبد يمتنع أن يكون هو الفاعل لكونه فاعلا لأن كونه فاعلا إن كان حدث بنفس كونه فاعلا لزم أن يكون الشيء حدث بنفسه من غير إحداث وهو ممتنع

3

154

وإن كان بفاعليه أخرى فإن كانت هذه حدثت بالأولى لزم الدور القبلي وإن كانت حدثت بغيرها لزم التسلسل في الأمور المتناهية وكلاهما باطل فعلم أن كون الطاعة والمعصية من العبد يستحق عليها المدح والذم والثواب والعقاب لا يمنع أن يكون العبد فقيرا إلى الله في كل شيء لا يستغني عن الله في شيء قط وأن يكون الله خالق جميع أموره وأن يكون نفس فعله من الحوادث والممكنات المستندة إلى قدرة الله ومشيئته فصل قال الرافضي ومنها أنه يلزم أن يكون الكافر مطيعا بكفره لأنه قد فعل ما هو مراد الله تعالى لأنه أراد منه الكفر وقد فعله ولم يفعل الإيمان الذي كرهه الله منه فيكون قد أطاعه لأنه فعل مراده ولم يفعل ما كرهه ويكون النبي عاصيا لأنه يأمره بالإيمان الذي يكرهه الله منه وينهاه عن الكفر الذي يريده الله منه

3

155

الجواب من وجوه الأول أن هذا مبني على أن الطاعة هل هي موافقة الأمر أو موافقة الإرادة وهي مبنية على أن الأمر هل يستلزم الإرادة أم لا وأن نفس الطلب والاستدعاء هل هو الإرادة أو مستلزم للإرادة أو ليس واحدا منهما ومن المعلوم أن كثيرا من نظار أهل الإثبات للقدر يطلقون القول بأن الطاعة موافقة الأمر لا موافقة الإرادة وأن الأمر لا يستلزم الإرادة والكلام في ذلك مشهور وإذا كان كذلك فهذا القدري لم يبين صحة قوله ولا فساد قول منازعيه بل أخذ ذلك دعوى مجردة بناء على أن الطاعة موافقة الإرادة فإذا قال له منازعوه لا نسلم ذلك كفى في هذا المقام لعدم الدليل الثاني أنهم يستدلون على أن الأمر لا يستلزم الإرادة بما تقدم من أن الله خالق أفعال العباد وإنما يخلقها بإرادته وهو لم يأمر بالكفر والفسوق والعصيان فعلم بأنه قد يخلق بإرادته ما لم يأمر به وأيضا فقد ثبت بالكتاب والسنة وإجماع العلماء أنه لو حلف ليقضينه حقه في غد إن شاء الله تعالى فخرج الغد ولم يقضه مع

3

156

قدرته على القضاء من غير عذر وطالبه المستحق له لم يحنث ولو كانت المشيئة بمعنى الأمر لحنث لأنه مأمور بذلك وكذلك سائر الحلف على فعل مأمور إذا علقه بالمشيئة وأيضا فإنه قد قال تعالى ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا سورة يونس مع أنه قد أمرهم بالإيمان فعلم أنه قد أمرهم بالإيمان ولم يشأه وكذلك قوله ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا سورة الأنعام دليل على أنه أراد ضلاله وهو لم يأمره بالضلال الوجه الثالث طريقة أئمة الفقهاء وأهل الحديث وكثير من أهل النظر وغيرهم أن الإرادة في كتاب الله نوعان إرادة تتعلق بالأمر وإرادة تتعلق بالخلق فالإرادة المتعلقة بالأمر أن يريد من العبد فعل ما أمره به وأما إرادة الخلق فأن يريد ما يفعله هو فإرادة الأمر هي المتضمنة للمحبة والرضا وهي الإرادة الدينية والثانية المتعلقة بالخلق هي المشيئة وهي الإرادة الكونية القدرية

3

157

فالأولى كقوله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر سورة البقرة وقوله تعالى يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم سورة النساء إلى قوله يريد الله أن يخفف عنكم سورة النساء وقوله ما يريد الله يجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم سورة المائدة وقوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا سورة الأحزاب والثانية كقوله تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا وقول نوح لا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم ومن هذا النوع قول المسلمين ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ومن النوع الأول قولهم لمن يفعل القبائح هذا يفعل ما لا يريده الله وإذا كان كذلك فالكفر والفسوق والعصيان ليس مرادا للرب بالاعتبار الأول والطاعة موافقة تلك الإرادة أو موافقة للأمر المستلزم لتك الإرادة فأما موافقة مجرد النوع الثاني فلا يكون به مطيعا وحينئذ فالنبي يقول له بل الرب يبغض كفرك ولا يحبه ولا يرضاه لك

3

158

أن تفعله ولا يريده بهذا الاعتبار والنبي يأمره بالإيمان الذي يحبه الله ويرضاه له ويريده بهذا الاعتبار الوجه الرابع أن يقال هذه المسألة مبنية على أصل وهو أن الحب والرضا هل هو الإرادة أو هو صفة مغايرة للإرادة فكثير من أهل النظر من المعتزلة والأشعرية ومن اتبعهم من الفقهاء من أصحاب الإمام أحمد والشافعي وغيرهما يجعلونهما جنسا واحدا ثم القدرية يقولون بل هو يريد ذلك فيكون قد أحبه ورضيه وأولئك يتأولون الآيات المثبتة لإرادة هذه الحوادث كقوله تعالى ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا وسورة الأنعام قوله إن كان الله يريد أن يغويكم سورة هود وهؤلاء يتأولون الآيات النافية لمحبة الله ورضاه بها كقوله تعالى والله لا يحب الفساد سورة البقرة ولا يرضى لعباده الكفر سورة الزمر وقوله إذ يبيتون ما لا يرضى من القول سورة النساء

3

159

وأما جماهير الناس من أهل الكلام والفقه والحديث والتصوف فيفرقون بين النوعين وهو قول أئمة الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم وهو قول المثبتين للقدر قبل الأشعري مثل ابن كلاب كما ذكره أبو المعالي الجويني فإن النصوص قد صرحت بأن الله لا يرضى الكفر والفسوق والعصيان ولا يحب ذلك مع كون الحوادث كلها بمشيئة الله تعالى وتأويل ذلك بمعنى لا يرضاها من المؤمنين أو لا يرضاها ولا يحبها دينا بمعنى لا يريدها يقتضي أن يقال لا يرضى الإيمان أي من الكافر أو لا يريده غير دين والله تعالى قد أخبر أنه يكره المعاصي بقوله كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها سورة الإسراء وقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى كره لكم ثلاثا قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال

3

160

والأمة متفقة على أن الله يكره المنهيات دون المأمورات ويحب المأمورات دون المنهيات وأنه يحب المتقين والمحسنين والصابرين ويحب التوابين ويحب المتطهرين ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأنه يمقت الكافرين ويغضب عليهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ما أحد أحب إليه المدح من الله وما أحد أحب إليه العذر من الله وقال ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته وقال إن الله وتر يحب الوتر

3

161

إن الله جميل يحب الجمال وقال إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته وقال إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي إن الله يرضى لكم

3

162

ثلاثا أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم وقال لله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن من رجل أضل راحلته بأرض دوية مهلكة عليها طعامه وشرابه فطلبها فلم يجدها فاضطجع ينتظر الموت فلما أفاق إذا بدابته عليها طعامه وشرابه فالله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا الرجل براحلته وهذا الحديث في الصحاح من وجوه متعددة وهو مستفيض عن النبي صلى الله عليه وسلم متفق على صحته وثبوته وكذلك أمثاله وإذا كان كذلك فالطاعات يريدها من العباد الإرادة المتضمنة

3

163

لمحبته لها ورضاه بها إذا وقعت وإن لم يفعلها والمعاصي يبغضها ويمقتها ويكره من العباد أن يفعلوها وإن أراد أن يخلقها هو لحكمة اقتضت ذلك ولا يلزم إذا كرهها للعبد لكونها تضر العبد ويبغضها أيضا أن يكره أن يخلقها هو لما له فيها من الحكمة فإن الفعل قد يحسن من أحد المخلوقين ويقبح من الآخر لاختلاف حال الفاعلين فكيف يلزم أنه ما قبح من العبد قبح من الرب مع أنه لا نسبة للمخلوق مع الخالق وإذا كان المخلوق قد يريد ما لا يحبه كإرادة المريض لشرب الدواء الذي يبغضه ويحب ما لا يريده كمحبة المريض الطعام الذي يضره ومحبة الصائم الطعام والشراب الذي لا يريد أن يأكله ومحبة الإنسان للشهوات التي يكرهها بعقله ودينه فقد عقل ثبوت أحدهما دون الآخر وأن أحدهما ليس بمستلزم

3

164

للآخر في المخلوقات فكيف لا يمكن ثبوت أحدهما دون الآخر في حق الخالق تعالى وقد يقال كل هذه الأمور مرادة محبوبة لكن فيها ما يراد لنفسه فهو مراد بالذات محبوب لله مرضي له وفيها ما يراد لغيره وهو مراد بالعرض لكونه وسيلة إلى المراد المحبوب لذاته فالإنسان يريد العافية لنفسها ويريد شرب الدواء لكونه وسيلة إليها وهو يريد ذلك من هذه الجهة وإن لم يكن محبوبا في نفسه وإذا كان المراد ينقسم إلى مراد لنفسه وهو المحبوب لنفسه وإلى مراد لغيره لكونه وسيلة إلى غيره وهذا قد لا يحب لنفسه أمكن أن يجعل الفرق بين المحبة والإرادة من هذا الباب والإرادة نوعان فما كان محبوبا فهو مراد لنفسه وما كان في نفسه غير محبوب فهو مراد لغيره وعلى هذا تنبني مسألة محبة الرب عز وجل نفسه ومحبته لعباده فإن الذين جعلوا المحبة والرضا هو

3

165

الإرادة العامة قالوا إن الرب لا يحب في الحقيقة ولا يحب وتأولوا محبته تعالى لعباده بإرادته ثوابهم ومحبتهم له بإرادة طاعتهم له والتقرب إليه ومنهم طائفة كثيرة قالوا هو محبوب يستحق أن يحب ولكن محبته لغيره بمعنى مشيئته وأما السلف والأئمة وأئمة أهل الحديث وأئمة التصوف وكثير من أهل الكلام والنظر فأقروا بأنه محبوب لذاته بل لا يستحق أن يحب لذاته إلا هو وهذا حقيقه الأولوهية وهو حقيقة ملة إبراهيم ومن لم يقر بذلك لم يفرق بين الربوبية والإلهية ولم يجعل الله معبودا لذاته ولا اثبت التلذذ بالنظر إليه ولا أنه أحب إلى أهل الجنة من كل شيء وهذا القول في الحقيقة هو من أقوال الخارجين عن ملة إبراهيم من المنكرين لكون الله هو المعبود دون ما سواه ولهذا لما ظهر هذا القول في اوائل الإسلام قتل من أظهره وهو الجعد بن درهم يوم الأضحى قتله خالد بن عبد الله القسري برضا علماء الإسلام وقال ضحوا أيها

3

166

الناس تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا ثم نزل فذبحه وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناديا يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون ما هو ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه وهو الزيادة وقد روي في السنن من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك وروى الإمام أحمد والنسائي وغيرهما عن عمار بن ياسر أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقول في دعائه أسألك

3

167

لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة وأما الذين أثبتوا أنه محبوب وأن محبته لغيره بمعنى مشيئته فهؤلاء ظنوا أن كل ما خلقه فقد أحبه وهؤلاء قد يخرجون إلى مذاهب الإباحة فيقولون إنه يحب الكفر والفسوق والعصيان ويرضى ذلك وأن العارف إذا شهد هذا المقام لم يستحسن حسنة ولم يستقبح سيئة لشهوده القيومية العامة وخلق الرب لكل شيء وقد وقع في هذا طائفة من الشيوخ الغالطين من شيوخ الصوفية والنظار وهو غلط عظيم والكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة يبين أن الله يحب أنبياءه

3

168

وأولياءه ويحب ما أمر به ولا يحب الشياطين ولا ما نهى عنه وإن كان كل ذلك بمشيئته وهذه المسألة وقع النزاع فيها بين الجنيد بن محمد وطائفة من أصحابه فدعاهم إلى الفرق الثاني وهو أن يفرقوا في المخلوقات بين ما يحبه وما لا يحبه فأشكل هذا عليهم لما رأوا أن كل مخلوق فهو مخلوق بمشيئته ولم يعرفوا أنه قد يكون فيما خلقه بمشيئته ما لا يحبه ولا يرضاه وكان ما قاله الجنيد وأمثاله هو الصواب الوجه الخامس أن يقال الإرادة نوعان أحدهما بمعنى المشيئة وهو أن يري الفاعل أن يفعل فعلا فهذه الإرادة المتعلقة بفعله والثاني أن يريد من غيره أن يفعل فعلا فهذه إرادة لفعل الغير وكلا النوعين معقول في الناس لكن الذين قالوا إن الأمر لا يتضمن الإرادة لم يثبتوا إلا النوع الأول من الإرادة والذين

3

169

قالوا أن الله لم يخلق أفعال العباد لم يثبتوا إلا النوع الثاني وهؤلاء القدرية يمتنع عندهم أن يريد الله خلق أفعال العباد بالمعنى الأول لأنه لا يخلقها عندهم وأولئك المقابلون لهم يمتنع عندهم الإرادة من الله إلا بمعنى إرادة أن يخلق فما لم يرد أن يخلقه لا يوصف بأنه مريد له فعندهم هو مريد لكل ما خلق وإن كان كفرا لم يرد ما لم يخلقه وإن كان إيمانا وهؤلاء وإن كانوا أقرب إلى الحق لكن التحقيق إثبات النوعين كما أثبت ذلك السلف والأئمة ولهذا قال جعفر أراد بهم وأراد منهم فالواحد من الناس يأمر غيره وينهاه مريدا لنصحه وبيانا لما ينفعه وإن كان مع ذلك لا يريد أن يعينه على ذلك الفعل إذ ليس كل ما يكون مصلحتي في أن آمر به غيري وأنصحه يكون مصلحتي في أن أعاونه أنا عليه بل تكون مصلحتى إرادة ما يضاده كالرجل الذي يستشيره غيره في خطبة امرأة يأمره أن يتزوجها لأن ذلك مصلحة المأمور والآمر يرى أن مصلحته في أن يتزوجها هو دونه فجهة أمره لغيره نصحا غير جهة فعله لنفسه

3

170

وإذا أمكن الفرق في حق المخلوقين فهو في حق الله أولى بالإمكان فهو سبحانه أمر الخلق على ألسن رسله بما ينفعهم ونهاهم عما يضرهم ولكن منهم من أراد أن يخلق فعله فأراد هو سبحانه أن يخلق ذلك الفعل ويجعله فاعلا له ومنهم من لم يرد أن يخلق فعله فجهة خلقه سبحانه لأفعال العباد وغيرها من المخلوقات غير جهة أمره للعبد على وجه البيان لما هو مصلحة للعبد أو مفسدة وهو سبحانه إذا أمر فرعون وأبا لهب وغيرهما بالإيمان كان قد بين لهم ما ينفعهم ويصلحهم إذا فعلوه ولا يلزم إذا أمرهم أن يعينهم بل قد يكون في خلقه لهم ذلك الفعل وإعانتهم عليه وجه مفسدة من حيث هو فعل له فإنه يخلق ما يخلق لحكمة له ولا يلزم إذا كان الفعل المأمور به مصلحة للمأمور إذا فعله أن يكون مصلحة للآمر إذا فعله هو أو جعل المأمور فاعلا له فأين جهة الخلق من جهة الأمر

3

171

والقدرية تضرب مثلا فيمن أمر غيره بأمر فإنه لا بد أن يفعل ما يكون المأمور أقرب إلى فعله كالبشر والطلاقة وتهيئة المقاعد والمساند ونحو ذلك فيقال لهم هذا يكون على وجهين أحدهما أن يكون الآمر أمر غيره لمصلحة تعود إليه كأمر الملك جنده بما يؤيد ملكه وأمر السيد عبده بما يصلح ماله وأمر الإنسان شريكه بما يصلح الأمر المشترك بينهما ونحو ذلك والثاني أن يكون الآمر يرى الإعانة للمأمور مصلحة له كالأمر بالمعروف إذا أعان المأمور على البر والتقوى فإنه قد علم أن الله يثيبه على إعانته على الطاعة وأن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه فأما إذا قدر الآمر إنما أمر المأمور لمصلحة المأمور لا لنفع يعود عليه من فعله كالناصح المشير وقدر أنه إذا أعانه

3

172

لم يكن ذلك مصلحة له لأن في حصول مصلحة المأمور مضرة على الآمر كمن يأمر مظلوما أن يهرب من ظالمه وهو لو أعانه حصل بذلك ضرر لهما أو لأحدهما مثل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى وقال لموسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين سورة القصص فهذا مصلحته في أن يأمر موسى بالخروج لا في أن يعينه على ذلك إذ لو أعانه لضره قومه ومثل هذا كثير كالذي يأمر غيره بتزويج امرأة يريد أن يتزوجها أو شراء سلعة يريد شراءها أو استئجار مكان يريد استئجاره أو مصالحة قوم ينتفع بهم وهم أعداء الآمر يتقوون بمصالحته ونحو ذلك فإنه في مثل هذه الأمور لا يفعل ما يعين المأمور وإن كان ناصحا له بالأمر مريدا لذلك ففي الجملة أمر المأمور بالفعل لكون الفعل مصلحة له غير كون الآمر يعينه عليه إن كان من أهل الإعانة له

3

173

فإذا قيل إن الله أمر العباد بما يصلحهم وأراد مصلحتهم بالأمر لم يلزم من ذلك أن يعينهم هو على ما أمرهم به لا سيما وعند القدرية لا يقدر أن يعين أحدا على ما به يصير فاعلا فإنه إن لم يعلل أفعاله بالحكمة فإنه يفعل ما يشاء من غير تمييز مراد عن مراد ويمتنع على هذا أن يكون لفعله لمية فضلا عن أن يطلب الفرق وإن عللت أفعاله بالحكمة وقيل إن اللمية ثابتة في نفس الأمر وإن كنا نحن لا نعلمها فلا يلزم إذا كان في نفس الأمر له حكمة في الأمر أن يكون في الإعانة على المأمور به حكمة بل قد تكون الحكمة تقتضي أن لا يعينه على ذلك فإنه إذا أمكن في المخلوق أن يكون مقتضى الحكمة والمصلحة أن يأمر غيره بأمر لمصلحة المأمور وأن تكون الحكمة والمصلحة للآمر أن لا يعينه على ذلك فإمكان ذلك في حق الرب أولى وأحرى

3

174

فالله تعالى أمر الكفار بما هو مصلحة لهم لو فعلوه وهو لم يعنهم على ذلك ولم يخلق ذلك كما لم يخلق غيره من الأمور التي يكون من تمام الحكمة والمصلحة أن لا يخلقها والمخلوق إذا رأى أن مصلحة بعض رعيته أن يتعلم الرمي وأسباب الملك لينال الملك ورأى هو أن مصلحة ولده أن لا يتقوى ذلك الشخص لئلا يأخذ ذلك الملك من ولده أو يعدو عليه أمكن أن يأمر ذلك الشخص بما هو مصلحة له ويفعل هو ما هو مصلحة ولده ورعيته والمصالح والمفاسد بحسب ما يلائم النفوس وينافيها فالملائم للمأمور ما أمره به الناصح له والملائم للآمر أن لا يحصل لذلك مراده لما في ذلك من تفويت مصالح الآمر ومراداته وهذا نظر شريف وإنما يحققه من علم جهة حكمة الله في خلقه

3

175

وأمره واتصافه سبحانه بالمحبة والفرح ببعض الأمور دون بعض وأنه قد لا يمكن حصول المحبوب إلا بدفع ضده ووجود لازمه لامتناع اجتماع الضدين وامتناع وجود الملزوم بدون اللازم ولهذا كان الله سبحانه محمودا على كل حال له الملك وله الحمد في الدنيا والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون فكل ما في الوجود فهو محمود عليه وكل ما يعلم ويذكر فهومحمود عليه له الحمد على ماهو متصف به في ذاته من أسمائه وصفاته وله الحمد على خلقه وأمره فكل ما خلقه فهو محمود عليه وإن كان في ذلك نوع ضرر لبعض الناس لما له في ذلك من الحكمة وكل ما أمر به فله الحمد عليه لما له في ذلك من الهداية والبيان ولهذا كان له الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما ومل ما شاء من شيء بعد فإن هذا كله مخلوق له وكل ما يشاؤه بعد ذلك مخلوق له له الحمد على كل ما خلقه

3

176

والأمثلة التي تذكر في المخلوقين وإن لم يكن ذكر نظيرها في حق الرب فالمقصود هنا أنه يمكن في حق المخلوق الحكيم أن يأمر غيره بأمر ولا يعينه عليه فالخالق أولى بإمكان ذلك في حقه مع حكمته فمن أمره وأعانه على فعل المأمور كان ذلك المأمور به تعلق به خلقه وأمره فشاءه خلقا ومحبة فكان مرادا لجهة الخلق ومرادا لجهة الأمر ومن لم يعنه على فعل المأمور كان ذلك المأمور قد تعلق به أمره ولم يتعلق به خلقه لعدم الحكمة المقتضية لتعلق الخلق به ولحصول الحكمة المتعلقة بخلق ضده وخلق أحد الضدين ينافي خلق الضد الآخر فإن خلق المرض الذي يحصل به ذل العبد لربه ودعاؤه لربه وتوبته من ذنوبه وتكفيره خطاياه ويرق به قلبه ويذهب عنه الكبرياء والعظمة والعدوان يضاد خلق الصحة التي لا يحصل معها هذه المصالح وكذلك خلق ظلم الظالم الذي يحصل به للمظلوم من جنس ما يحصل بالمرض يضاد خلق عدله الذي لا يحصل به هذه المصالح وإن كانت مصلحته هو في أن يعدل

3

177

وتفصيل حكمة الله في خلقه وأمره يعجز عن معرفتها عقول البشر والقدرية دخلوا في التعليل على طريقة فاسدة مثلوا الله فيها بخلقه ولم يثبتوا حكمة تعود إليه فسلبوه قدرته وحكمته ومحبته وغير ذلك من صفات كماله فقابلهم خصومهم الجهمية المجبرة ببطلان التعليل في نفس الأمر كما تنازعوا في مسألة الحسن والقبح فأولئك أثبتوه على طريقة سووا فيها بين الله وخلقه وأثبتوا حسنا وقبحا لا يتضمن محبوبا ولا مكروها وهذا لا حقيقة له كما أثبتوا تعليلا لا يعود إلى الفاعل حكمه وخصومهم سووا بين جميع الأفعال ولم يثبتوا لله محبوبا ولا مكروها وزعموا أن الحسن لو كان صفة ذاتية للفعل لم يختلف حاله وغلطوا فإن الصفة الذاتية للموصوف قد يراد بها اللازمة له والمنطقيون يقسمون اللازم إلى ذاتي وعرضي وإن كان هذا التقسيم خطأ وقد يراد بالصفة الذاتية ما تكون ثبوتية قائمة بالموصوف احترازا عن الأمور النسبية الإضافية ومن هذا الباب اضطربوا في الأحكام الشرعية فزعم نفاة الحسن

3

178

والقبح العقليين أنها ليست صفة ثبوتية للأفعال ولا مستلزمة صفة ثبوتية للأفعال بل هي من الصفات النسبية الإضافية فالحسن هو المقول فيه أفعله أو لا بأس بفعله والقبيح هو المقول فيه لا تفعله قالوا وليس لمتعلق القول من القول صفة ثبوتية وذكروا عن منازعيهم أنهم قالوا الأحكام صفات ذاتية للأفعال ونقضوا ذلك بجواز تبدل أحكام الفعل مع كون الجنس واحدا وتحقيق الأمر أن الأحكام للأفعال ليست من الصفات اللازمة بل هي من العارضة للأفعال بحسب ملاءمتها ومنافرتها فالحسن والقبح بمعنى كون الشيء محبوبا ومكروها ونافعا وضارا وملائما ومنافرا وهذه صفة ثبوتية للموصوف لكنها تتنوع بتنوع أحواله فليست لازمة له ومن قال إن الأفعال ليس فيها صفات تقتضي الحسن والقبح فهو بمنزلة قوله ليس في الأجسام صفات تقتضي التسخين والتبريد والإشباع والإرواء فسلب صفات الأعيان المقتضية للآثار كسلب صفات الأفعال المقتضية للآثار وأما جمهور المسلمين الذين يثبتون طبائع الأعيان وصفاتها فهكذا يثبتون ما في الأفعال من حسن وقبح باعتبار ملاءمتها ومنافرتها كما

3

179

قال تعالى يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث سورة الأعراف فدل ذلك على أن الفعل في نفسه معروف ومنكر والمطعوم طيب وخبيث ولو كان لا صفة للأعيان والأفعال إلا بتعلق الأمر والنهي لكان التقدير يأمرهم بما يأمرهم وينهاهم عما ينهاهم ويحل لهم ما يحل لهم ويحرم عليهم ما يحرم عليهم والله منزه عن مثل هذا الكلام وكذلك قوله تعالى ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا سورة الإسراء وقال إن الله لا يأمر بالفحشاء سورة الأعراف ونظائر هذا كثيرة فصل قال الرافضي الإمامي ومنها أنه يلزم نسبة السفه إلى الله تعالى لأنه يأمر الكافر بالإيمان ولا يريده منه وينهاه عن المعصية وقد أرادها منه وكل عاقل ينسب من يأمر بما لا يريد وينهى عما يريد إلى السفه تعالى الله عن ذلك

3

180

فيقال له قد تقدم أن المحققين من أهل السنة يقولون إن الإرادة نوعان إرادة الخلق وإرادة الأمر فإرادة الأمر أن يريد من المأمور فعل ما أمر به وإرادة الخلق أن يريد هو خلق ما يحدثه من أفعال العباد وغيرها والأمر مستلزم للإرادة الأولى دون الثانية والله تعالى أمر الكافر بما أراده منه بهذا الاعتبار وهو ما يحبه ويرضاه ونهاه عن المعصية التي لم يردها منه أي لم يحبها ولم يرضها بهذا الاعتبار فإنه لا يرضى لعباده الكفر ولا يحب الفساد وقد قال تعالى إذ يبيتون ما لا يرضى من القول سورة النساء وإرادة الخلق هي المشيئة المستلزمة لوقوع المراد فهذه الإرادة لا تتعلق إلا بالموجود فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وفرق بين أن يريد هو أن يفعل فإن هذا يكون لا محالة لأنه قادر على ما يريده فإذا اجتمعت الإرادة والقدرة وجب وجود المراد وبين أن يريد من غيره أن يفعل ذلك الغير فعلا لنفسه فإن هذا لا يلزم أن يعينه عليه

3

181

وأما طائفة من المثبتين للقدر فظنوا أن الإرادة نوع واحد وأنها هي المشيئة فقالوا يأمر بما لا يريده ثم هؤلاء على قسمين فقسم قالوا يأمر بما يحبه ويرضاه وإن لم يرده أي لم يشأ وجوده وهذا مذهب جمهور القائلين بهذا القول من الفقهاء وغيرهم وقسم قالوا بل المحبة والرضا هي الإرادة وهي المشيئة فهو يأمر بما لم يرده ولم يحبه ولم يرضه وما وقع من الكفر والفسوق عند هؤلاء أحبه ورضيه كما أراده وشاءه ولكن يقولون لا يحبه ولا يرضاه دينا كما لا يريده دينا ولا يشاؤه دينا ولا يحبه ولا يرضاه ممن لم يقع منه كما لم يرده ممن لم يقع منه ولم يشأه ممن لم يقع منه وهذا قول الأشعري وأكثر أصحابه وحكاه هو عن طائفة من أهل الإثبات وحكي عنه كالقول الأول وأصحاب هذا القول هم القدرية من المعتزلة والشيعة وغيرهم

3

182

يجعلون الرضا والمحبة بمعنى الإرادة ثم قالت القدرية النفاة والكفر والفسوق والمعاصي لا يحبها ولا يرضاها بالنص وإجماع الفقهاء فلا يريدها ولا يشاؤها وقال هؤلاء المثبتة هو شاء ذلك بالنص وإجماع السلف فيكون قد أحبه ورضيه وأراده وأما جمهور الناس فيفرقون بين المشيئة والإرادة وبين المحبة والرضا كما يوجد الفرق بينهما في الناس فإن الإنسان قد يريد شرب الدواء ونحوه من الأشياء الكريهة التي يبغضها ولا يحبها ويحب أكل الأشياء التي يشتهيها كاشتهاء المريض لما حمي عنه واشتهاء الصائم الماء البارد مع عطشه ولا يريد فعل ذلك فقد تبين أنه يحب ما لا يريده ويريد ما لا يحبه وذلك أن المراد قد يراد لغيره فيريد الأشياء المكروهة لما في عاقبتها من الأشياء المحبوبة ويكره فعل بعض ما يحبه لأنه يفضي إلى ما يبغضه والله تعالى له الحكمة فيما يخلقه وهو سبحانه يحب المتقين

3

183

والمحسنين والتوابين ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويفرح بتوبة التائب أعظم من فرح الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في مهلكة إذا وجدها بعد الإياس منها كما استفاضت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما من غير وجه كقوله لله أشد فرحا بتوبة أحدكم من رجل أضل راحلته بأرض دوية مهلكة عليها طعامه وشرابه فطلبها فلم يجدها فنام ينتظر الموت فلما استيقظ إذا بدابته عليها طعامه وشرابه فالله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا براحلته والمتفلسفة يعبرون بلفظ البهجة واللذه والعشق ونحو ذلك عن الفرح والمحبة وما يتبع ذلك وإذا كان كذلك فهو سبحانه يريد وجود بعض الأشياء لإفضائها إلى ما يحبه ويرضاه وهو سبحانه قد لا يفعل بعض ما يحبه لكونه يستلزم وجود ما يكرهه ويبغضه فهو سبحانه قادر على أن يخلق من كل نطفة رجلا يجعله مؤمنا به يحبه ويحب إيمانه لكنه لم يفعل ذلك لما له في ذلك من الحكمة وقد يعلم أن ذلك يفضي إلى ما يبغضه ويكرهه

3

184

وإذا قيل فهلا يفعل هذا ويمنع ما يبغضه قيل من الأشياء ما يكون ممتنعا لذاته ومنها ما يكون ممتنعا لغيره واللذة الحاصلة بالأكل لا تحصل هي ولا نوعها بالشرب والسماع والشم وإنما تحصل لذة أخرى ووجود لذة الأكل في الفم تنافي حصول لذة الشرب في تلك الحال وتلذذ العبد بسماع بعض الأصوات يمنع تلذذه بسماع صوت آخر في تلك الحال فليس كل ما هو محبوب للعبد ولذيذ له يمكن اجتماعه في آن واحد بل لا يمكن حصول أحد الضدين إلا بتفويت الآخر وما من شيء مخلوق إلا له لوازم وأضداد فلا يوجد إلا بوجود لوازمه ومع عدم أضداده والرب تعالى إذا كان يحب من عبده أن يسافر للحج ويسافر للجهاد فأيهما فعله كان محبوبا له لكن لا يمكن في حال واحدة أن يسافر العبد إلى الشرق وإلى الغرب بل لا يمكن حصول هذين المحبوبين جميعا في وقت واحد فلا يحصل

3

185

أحدهما إلا بتفويت الآخر فإن كان الحج فرضا معينا والجهاد تطوعا كان الحج أحبهما إليه وإن كان كلاهما تطوعا أو فرضا فالجهاد أحبهما إليه فهو سبحانه يحب هذا المحبوب المتضمن تفويت ذلك المحبوب وذلك أنه لو قدر وجوده بدون تفويت هذا المحبوب لكان أيضا محبوبا ولو قدر وجوده بتفويت ما هو احب إليه منه لكان محبوبا من وجه مكروها من وجه آخر أعلى منه وهو سبحانه إذا لم يقدر طاعة بعض الناس كان له في ذلك حكمة كما أنه إذا لم يأمر هذا بأدنى المحبوبين كان له في ذلك حكمة والله تعالى على كل شيء قدير لكن اجتماع الضدين لا يدخل في عموم الأشياء فإنه محال لذاته وهذا بمنزلة أن يقال هلا أقدر هذا العبد أن يسافر في هذه الساعة إلى الغرب للحج وإلى الشرق للجهاد فيقال لأن كون الجسم الواحد في مكانين محال لذاته فلا

3

186

يمكن هذان السفران في آن واحد وليس هذا بشيء حتى يقال إنه مقدر بل هذا لا حقيقة له وليس بشيء بل هو أمر يتصوره الذهن كتصوره لنظيره في الخارج ليحكم عليه بالامتناع في الخارج وإلا فما يمكن الذهن أن يتصور هذا في الخارج ولكن الذهن يتصور اجتماع اللون والطعم في محل واحد كالحلاوة البيضاء والبياض ثم يقدر الذهن في نفسه هل يمكن أن يجتمع السواد والبياض في محل واحد كاجتماع اللون والطعم فيعلم أن هذا الاجتماع ممتنع في الخارج ويعلم أنه يمكن أن زيدا قد يكون في الشرق وعمرا في الغرب ويقدر في ذهنه هل يمكن أن يكون زيد نفسه في هذين المكانين كما كان هو وعمرو فيعلم أن هذا ممتنع فهذا ونحوه كلام من جعل الإرادة نوعين ويفرق بين أحد نوعيها

3

187

وبين المحبة والرضا وأما من يجعل الجميع نوعا واحدا فهو بين أمرين إن جعل الحب والرضا من هذا النوع لزمته تلك المحاذير الشنيعة وإن جعل الحب والرضا نوعا لا يستلزم الإرادة وقال إنه قد يحب ويرضى ما لا يريده بحال وحينئذ فيكون مقصوده بقوله لا يريده أي لا يريد كونه ووجوده وإلا فهو عنده يحبه ويرضاه فهذا يجعل الإرادة هي المشيئة لأن يخلق وهذا وإن كان اصطلاح طائفة من المنتسبين إلى السنة من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد فهو خلاف استعمال الكتاب والسنة وحينئذ فيكون النزاع معه لفظيا وأحق الناس بالصواب في المنازعات اللفظية من كان لفظه موافقا للفظ القرآن وقد تبين أن القرآن جعل هذا النوع مرادا فلا حاجة إلى إطلاق القول بأن الله يأمر بما لا يريده ثم تبين أن الإرادة نوعان وأنه يأمر بما يشاؤه فيأمر بما لا يريد أن يخلقه هو ولا يأمر إلا بما يحبه لعباده ويرضاه لهم أن يفعلوه

3

188

ولو قال رجل والله لأفعلن ما أوجب الله علي أو ما يحبه الله لي إن شاء الله ولم يفعل لم يحنث باتفاق الفقهاء ولو قال والله لأفعلن ما أوجب الله علي إن كان الله يحبه ويرضاه حنث إن لم يفعله بلا نزاع نعلمه وعلى هذا فقد ظهر بطلان حجة المكذبين بالقدر فإنه إذا قال كل عاقل ينسب من يأمر بما لا يريد وينهى عما يريد إلى السفه قيل له إذا أمر غيره بأمر لم يرد أن يفعله له هل يكون سفيها أم لا ومن المعلوم باتفاق العقلاء أن من أمر غيره بأمر ولم يرد أن يفعل هو ذلك الأمر ولا يعينه عليه لم يكن سفيها بل أوامر الحكماء والعقلاء كلها من هذا الباب والطبيب إذا أمر المريض بشرب الدواء لم يكن عليه أن يعاونه على شربه والمفتي إذا أمر المستفتي بما يجب عليه لم يكن عليه أن يعاونه والمشير إذا أمر المستشير بتجارة أو فلاحة أو نكاح لم يكن عليه أن يفعل هو ذلك

3

189

ومن كان يحب من غيره أن يفعل أمرا فأمره به والآمر لا يساعده عليه لما في ذلك من المفسدة له لم يكن سفيها فظهر بطلان ما ذكره هذا وأمثاله من القدرية وكذلك من نهى غيره عما يريد أن يفعله هو لم يلزم أن يكون سفيها فإنه قد يكون مفسدة لذلك مصلحة للناهي فالمريض الذي يشرب المسهلات إذا نهى ابنه الصغير عن شربها لم يكن سفيها والحاوي الذي يريد إمساك الحية إذا نهى ابنه عن إمساكها لم يكن سفيها والسابح في البحر إذا نهى العاجز عن السباحة لم يكن سفيها والملك الذي خرج لقتال عدوه إذا نهى نساءه عن الخروج معه لم يكن سفيها ونظائر هذا لا تحصى ولو نهى الناهي غيره عن فعل ما يضره فعله نصحا له إذ لو كان مصلحة الناهي أن يفعله هو به حمد على فعله وحمد على نصحه كما يوجد كثير من الناس ينهون من ينصحونه عن فعل أشياء وقد يطلبون فعلها منهم لمصلحتهم

3

190

لكن المثل المطابق لفعل الرب من كل وجه لا يمكن في حق المخلوق فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله وقد سئل بعض الشيوخ عن مثل هذه المسائل فأنشد ويقبح من سواك الفعل عندي فتفعله فيحسن منك ذاكا لكن المقصود أنه يمكن في المخلوق أمر الإنسان بما لا يريد أن يعين عليه المأمور ونهيه عما يريد الناهي أن يفعله هو لمصلحته فتبين أن هذا القدري وأمثاله تكلموا بلفظ مجمل فإذا قالوا من أمر بما لا يريد كان سفيها أوهموا الناس أنه أمر بما لا يريد للمأمور أن يفعله والله لم يأمر العباد بما لم يرض لهم أن يفعلوه ولم يحب لهم أن يفعلوه ولم يرد لهم أن يفعلوه بهذا المعنى وإنما أمر بعضهم بما لم يرد هو أن يخلقه لهم بمشيئته ولم يجعلهم فاعلين له ومن المعلوم أن الآمر ليس عليه أن يجعل المأمور فاعلا للمأمور به بل هذا ممتنع عند القدرية وعند غيرهم هو قادر عليه لكن له أن يفعله وله أن لا يفعله فعلى قول من يثبت المشيئة دون الحكمة الغائية يقول هذا كسائر الممكنات

3

191

إن شاء فعله وإن شاء لم يفعله ومن أثبت الحكمة قال له في أن لا يحدث هذا حكمة كما له في سائر ما لم يحدثه وقد يكون في إحداث هذا مفسدة لغير هذا المأمور أعظم من المصلحة الحاصلة له وقد يكون في فعل هذا المأمور تفويت مصلحة أعظم من المصلحة الحاصلة له والحكيم هوالذي يقدم أعلى المصلحتين ويدفع اعظم المفسدتين وليس على العباد أن يعلموا تفصيل حكمة الله تعالى بل يكفيهم العلم العام والإيمان التام ومن جعل الإرادة نوعا واحدا وإن كان قوله مرجوحا فهو خير من قول نفاة القدر الذين يجعلون الإرادة والمشيئة والمحبة شيئا واحدا وزعموا أنه يكون ما لا يشاؤه ويشاء ما لا يكون وذلك لأنه يقول السفه إنما يجوز على من يجوز عليه الأغراض والأغراض مستلزمة للحاجة إلى الغير وللنقص بدونها وذلك على الله ممتنع وهي في حق الله مستلزمة للتسلسل وقيام الحوادث به وهو ممتنع عند هذا الخصم فإذا كانت المعتزلة والشيعة الموافقون لهم يسلمون هذه الأصول

3

192

انقطعوا وذلك لأنهم إذا قالوا يفعل لغرض قيل لهم نسبة وجود الغرض وعدمه إليه على السواء أو وجود الغرض أولى به فإن قالوا هما على السواء امتنع مع هذا أن يفعل لما وجوده وعدمه بالنسبة إليه سواء وهذا معدود من السفهاء فينا وهذا هو العبث فينا فإن قالوا فعل لنفع العباد قيل الواحد من الناس إنما ينفع غيره لما له في ذلك من المصلحة في الدين أو الدنيا أما التذاذه بالإحسان إليه كما يوجد في النفوس الكريمة التي إنما تلتذ وتبتهج بالإحسان إلى غيرها وهذا مصلحة ومنفعة لها وأما دفع ألم الرقة عن نفسه فإن الواحد إذا رأى جائعا بردان تألم له فيعطيه فيزول الألم عن نفسه وزوال الألم منفعة له ومصلحة دع ما سوى هذا من رجاء المدح والثناء والمكافأة أو الأجر من الله تعالى فتلك مطالب منفصلة ولكن هذان أمران موجودان في نفس الفاعل فمن نفع غيره وكان وجود النفع وعدمه بالنسبة إليه سواء من

3

193

كل وجه كان هذا من أسفه السفهاء لو وجد فكيف إذا كان ممتنعا فإنه يمتنع أن يفعل المختار شيئا حتى يترجح عنده فيكون أن يفعله أحب إليه من أن لا يفعله وترجيح الأحب لذة ومنفعة فهؤلاء القدرية الذين يعللون بالغرض هم الذين يذكرون ما يمتنع أن يكون غرضا ولا يكون إلا ممتنعا أو سفها وإن أثبتوا غرضا قائما به لزم أن يكون محلا للحوادث وهم يحيلون ذلك ثم الغرض إن كان لغرض آخر لزم التسلسل وهم يحيلونه في الماضي ولهم في المستقبل قولان وإن لم يكن لغرض آخر جاز أن يحدث لا لغرض فهذه الأصول التي اتفقوا عليها هم والمثبتون للقدر هي حجة لأولئك عليهم فصل وفي الجملة من نفي قيام الأمور الاختيارية بذات الرب تعالى لا بد أن يقول أقوالا متناقضة فاسدة ولما كانت الجهمية المجبرة والقدرية المعتزلة

3

194

قد اشتركوا في أنه لا يقوم بذاته شيء من ذلك ثم تنازعوا بعد ذلك في تعليل أفعاله وأحكامه كان كل واحد من القولين يستلزم ما يبين فساده وتناقضه فمثبتة التعليل تقول من فعل لغير حكمة كان سفيها وهذا إنما يعلم فيمن فعل لغير حكمة تعود إليه وهم يزعمون أن البارىء فعل لا لحكمة تعود إليه فإن كان من فعل لا لحكمة سفيها لزمه إثبات السفه وإن لم يكن سفيها تناقضوا فإن ما أثبتوه من فعله لحكمة لا تعود إليه لا يعقل فضلا عن أن يكون حكيما وهذا نظير قولهم في صفاته وكلامه فإنهم قالوا لا يتكلم إلا بمشيئته وقدرته ويمتنع أن يكون القرآن قديما لما فيه من الأمور المنافية لقدمه وقالوا المتكلم لا يعقل إلا من تكلم بمشيئته وقدرته دون من يكون الكلام لازما لذاته لا يحصل بقدرته ومشيئته فيقال لهم وكذلك لا يعقل متكلم إلا من يقوم به الكلام أما متكلم لا يقوم به الكلام أو مريد لا تقوم به الإرادة أو عالم لا يقوم به العلم فهذا لا يعقل بل هو خلاف المعقول

3

195

بل قولهم في الكلام يتضمن أن من قام به الكلام لا يكون متكلما لأن المتكلم هو الذي أحدث في غيره الكلام وهذا خلاف المعقول وكذلك قولهم في رضاه وغضبه ومحبته وإرادته وغير ذلك أنها لا تقوم بذاته وإنما هي أمور منفصلة عنه فجعلوه موصوفا بامور لا تقوم به بل هي منفصلة عنه وهذا خلاف المعقول ثم هو تناقض فإنه يلزمهم أن يوصف بكل ما يحدثه من المخلوقات حتى يوصف بكل كلام خلقه فيكون ذلك كلامه فإذا أنطق ما ينطقه من مخلوقاته كان ذلك كلامه لا كلام من ينطقه وهذا مبسوط في موضعه والمقصود هنا أن كلامهم أنه يفعل لحكمة يستلزم أن يكون وجود الحكمة أرجح عنده من عدمها أو أنها تقوم به وغير ذلك من اللوازم التي لا يعقل من يفعل لحكمة إلا من يتصف بها وإلا فإذا قدر أن نسبة جميع الحوادث إليه سواء وامتنع أن يكون بعضها أرجح عنده من بعض امتنع أن يفعل بعضها لأجل بعض ثم الجهمية المجبرة لما رأت فساد قول هؤلاء القدرية وقد شاركوهم

3

196

في ذلك الأصل قالوا يمتنع أن يفعل شيئا لأجل شيء أصلا ويمتنع أن يكون بعض الأشياء أحب إليه من بعض ويمتنع أن يحب شيئا من مخلوقاته دون بعض أو يريد منها شيئا دون شيء بل كل ما حدث فهو مراد له محبوب مرضي سواء كان كفرا أو إيمانا أو حسنات أو سيئات أو نبيا أو شيطانا وكل ما لم يحدث فهو ليس محبوبا له ولا مرضيا له ولا مرادا كما أنه لم يشأه فعندهم ما شاء الله كان وأحبه ورضيه وأراده وما لم يشأه لم يكن ولا يحبه ولا يرضاه ولا يريده وأولئك القدرية يقولون كل ما أمر به فهو يشاؤه ويريده كما أنه يحبه ويرضاه وما لم يأمر به لا يشاؤه ولا يريده كما لا يحبه ولا يرضاه بل يكون في ملكه ما لا يشاء ويشاء ما لا يكون ثم إن الجهمية المجبرة إذا تلى عليهم قوله تعالى والله لا يحب الفساد سورةالبقرة ولا يرضى لعباده الكفر سورةالزمر قالوا معناه لا يحبه ولا يريده ولا يشاؤه ممن لم يوجد منه أو لا يحبه ولا يشاؤه ولا يريده دينا بمعنى أنه لا يشاء أن يثيب صاحبه وأما ما وقع من الكفر والفسوق والعصيان فعندهم أنه يحبه ويرضاه كما يشاؤه لكن لا يحب أن يثيب صاحبه كما لا يشاء أن يثيبه وعندهم يشاء تنعيم أقوام وتعذيب آخرين لا بسبب ولا لحكمة وليس في بعض

3

197

المخلوقات قوى ولا طبائع كان بها الحادث ولا فيها حكمة لأجلها كان الحادث ولا أمر بشيء لمعنى ولا نهى عنه لمعنى ولا اصطفى أحدا من الملائكة والنبيين لمعنى فيه ولا أباح الطيبات وحرم الخبائث لمعنى أوجب كون هذا طيبا وهذا خبيثا ولا أمر بقطع يد السارق لحفظ أموال الناس ولا أمر بعقوبة قطاع الطريق المعتدين لدفع ظلم العباد بعضهم عن بعض ولا أنزل المطر لشرب الحيوان ولإنبات النبات وهكذا يقولون في سائر ما خلقه لكن يقولون إنه إذا وجد مع شيء منفعة أو مضرة فإنه خلق هذا مع هذا لا لأجله ولا به وكذلك وجده المأمور مقارنا لهذا لا به ولا لأجله والاقتران أجرى به العادة من غير حكمة ولا سبب ولهذا لم تكن الأعمال عندهم إلا مجرد علامات محضة وأمارات لأجل ما جرت به العادة من الاقتران لا لحكمة ولا لسبب وفي كل من القولين من التناقض ما لا يكاد يحصى ولكن هذا الإمامي القدري لما أخذ يذكر تناقض أقوال أهل السنة مطلقا بين له أن القدرية كلهم يعجزون عن إقامة الحجة على مقابليهم من المجبرة كما تعجز الرافضة عن إقامة الحجة على مقابليهم

3

198

من الخوارج والنواصب فضلا عن أن يقيموا الحجة على أهل الاستقامة والاعتدال المتبعين للكتاب والسنة ولهذا نبهنا على بعض ما في أقوالهم من التناقض والفساد الذي لا يكاد ينضبط والأشعري وغيره من متكلمة أهل الإثبات انتدبوا لبيان تناقضهم في أصولهم وأوعبوا في بيان تناقض أقوالهم وحكاية الأشعري مع الجبائي في الإخوة الثلاثة مشهورة فإنهم يوجبون على الله أن يفعل بكل عبد ما هو الأصلح له في دينه وأما في الدنيا فالبغداديون من المعتزلة يوجبونه أيضا والبصريون لا يوجبونه فقال له إذا خلق الله ثلاثة إخوة فمات أحدهم صغيرا وبلغ الآخران أحدهما آمن والآخر كفر فأدخل المؤمن الجنة ورفع درجته وأدخل الصغير الجنة وجعل منزلته تحته قال له الصغير يا رب ارفعني إلى درجة أخي قال إنك لست مثله إنه آمن وعمل الصالحات

3

199

وأنت صغير لم تعمل عمله قال يا رب أنت امتني فلو كنت أبقيتني كنت أعمل مثل عمله فقال عملت مصلحتك لأني علمت أنك لو بلغت لكفرت فلهذا اخترمتك فصاح الثالث من أطباق النار وقال يا رب هلا اخترمتني قبل البلوغ كما اخترمت أخي الصغير فإن هذا كان مصلحة في حقي أيضا فيقال إنه لما أورد عليه هذا انقطع وذلك أنهم يوجبون عليه العدل بين المتماثلين وأن يفعل بكل واحد منهما ما هو أصلح وهنا قد فعل بأحدهما ما هو الأصلح عندهم دون الآخر وليس هذا موضع بسط ذلك وإذا كان الأمر كذلك بطل تشبيههم لله بخلقه وقال لهم هؤلاء

3

200

نحن وأنتم قد اتفقنا على أن فعل الله لا يقاس على فعل خلقه وإنا وإياكم نثبت فاعلا يفعل شيئا منفصلا عن نفسه بدون شيء حادث في نفسه وهذا غير معقول في الشاهد ونثبت فاعلا لم يزل غير فاعل حتى فعل من غير تجدد شيء وهذا غير معقول في الشاهد وأنتم تثبتون من الغرض ما ثبت فاعلا لم يزل غير فاعل حتى فعل من غير تجدد شيء وهذا غير معقول في الشاهد وأنتم تثبتون من الغرض ما لا يعقل في الشاهد وتدعون بذلك أنكم تنفون عنه السفه وتجعلونه حكيما والذي تذكرونه هو السفه المعقول في الشاهد المخالف للحكمة وإذا كان كذلك فقولكم إن كل عاقل ينسب من يأمر بما لا يريده ينهي عما يريده إلى السفه تعالى الله عن ذلك فيقال لكم إن كان هذا الفاعل من المخلوقين فلم قلتم إن الخالق كذلك مع ما اتفقنا عليه من الفرق بينهما والمخلوق محتاج إلى

3

201

جلب المنفعة ودفع المضرة والله تعالى منزه عن ذلك والعبد مأمور منهي والله منزه عن ذلك فهذه القضية إن أخذتموها كلية يدخل فيها الخالق منعنا الإجماع المحكي عن العقلاء وإن أخذتموها في المخلوق لتقيسوا به الخالق كان هذا قياسا فاسدا فلا يصح معكم هذا القياس لا على أنه قياس شمول ولا على أنه قياس تمثيل وقد أجابهم الأشعري بجواب آخر فقال لا نسلم أن أمر الإنسان بما لا يريده سفه مطلقا بل قد يكون حكمة إذا كان مقصوده امتحان المأمور ليبين عذره عند الناس في عقابه مثل من يكون له عبد يعصيه فيعاقبه فيلام على عقوبته فيعتذر بأن هذا يعصيني فيطلب منه تحقيق ذلك فيأمر أمر امتحان وهو هنا لا يريد أن يفعل المأمور به بل يريد أن يعصيه ليظهر عذره في عقابه وأثبت بهذا أيضا كلام النفس الذي يثبته وأن الطلب القائم بالنفس

3

202

ليس هو الإرادة ولا مستلزما لها كما أثبت معنى الخبر أنه ليس هوالعلم بإخبار الكاذب فاعتمد على أمر الممتحن وخبر الكاذب لكن جمهور أهل السنة لم يرضوا بهذا الجواب فإن هذا في الحقيقة ليس هو أمرا وإنما هو إظهار أمر وكذلك خبر الكاذب هو قال بلسانه ما ليس في قلبه فخبر الكاذب ليس خبرا عما في نفسه بل هو إظهار الخبر عما في نفسه فصار أمر الممتحن كأمر الهازل الذي لا يعلم المأمور هزله ونظائر ذلك ولهذا إذا عرف المأمور حقيقة أمر الممتحن ليعاقبه وأنه ليس مراده إلا أن يعصيه فإنه يطيعه في هذه الحال والممتحن نوعان نوع قصده أن يعصيه المأمور ليعاقبه مثل هذا المثال ونوع مراده طاعة المأمور وانقياده لأمره لا نفس الفعل المأمور به كأمر الله سبحانه وتعالى للخليل صلى الله عليه وسلم بذبح ابنه وكان المراد طاعة إبراهيم وبذل ذ بح ابنه في محبة الله وأن يكون

3

203

طاعة الله ومحبوبه ومراده أحب إليه من الابن فلما حصل هذا المراد فداه الله بالذبح العظيم كما قال تعالى فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم سورة الصافات وتصور هذه المعاني نافع جدا في هذا الباب الذي كثر فيه الاضطراب فصل قال الإمامي القدري ومنها أنه يلزم عدم الرضا بقضاء الله تعالى والرضا بقضائه وقدره واجب فلو كان الكفر بقضاء الله تعالى وقدره وجب علينا الرضا به لكن لا يجوز الرضا بالكفر والجواب عن هذا من وجوه أحدها جواب كثير من أهل الإثبات أنا لا نسلم بأن الرضا

3

204

واجب بكل المقضيات ولا دليل على وجوب ذلك وقد تنازع الناس في الرضا بالفقر والمرض والذل ونحوها هل هو مستحب أو واجب على قولين في مذهب أحمد وغيره وأكثر العلماء على أن الرضا بذلك مستحب وليس بواجب لأن الله أثنى على أهل الرضا بقوله رضي الله عنهم ورضوا عنه سورة البينة وإنما أوجب الله الصبر فإنه أمر به في غير آية ولم يأمر بالرضا بالمقدور ولكن أمر بالرضا بالمشروع فالمأمور به يجب الرضا به كما في قوله تعالى ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون سورة التوبة والقول الثاني إنه واجب لأن ذلك من تمام رضاه بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ولما روي من لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلوائي فليتخذ ربا سوائي

3

205

لكن هذا لا تقوم به الحجة لأن هذا لا يعرف ثبوته عن الله عز وجل وأما الرضا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم نبيا فهو واجب وهذا هو الرضا الذي دل عليه الكتاب والسنة وأما الرضا بكل ما يخلقه الله ويقدره فلم يدل عليه كتاب ولا سنة ولا قاله أحد من السلف بل قد أخبر الله تعالى أنه لا يرضى بأمور مع أنها مخلوقة كقوله ولا يرضى لعباده الكفر سورة النساء وقوله إذ يبيتون ما لا يرضى من القول سورة الزمر وقد بسطنا الكلام على هذا في مصنف مفرد في الرضا بالقضاء وكيف تحزب الناس فيه أحزابا حزب زعموا أنهم يرضون بما حرم الله لأنه من القضاء وحزب ينكرون قضاء الله وقدره لئلا يلزمهم الرضا به وكلا الطائفتين بنت ذلك على أن الرضا بكل ما خلقه الله مأمور به وليس الأمر كذلك بل هو سبحانه يكره ويبغض ويمقت كثيرا من الحوادث وقد أمرنا الله أن نكرهها ونبغضها

3

206

الوجه الثاني أن يقال الرضا يشرع بما يرضي الله به والله قد أخبر أنه لا يحب الفساد سورة البقرة ولا يرضى لعباده الكفر سورة النساء وقد قال تعالى إذ يبيتون ما لا يرضى من القول سور الزمر وهذا أمر موجود من أقوال العباد وقد أخبر الله أنه لا يرضاه فإذا لم يرضه كيف يأمر العبد بأن يرضاه بل الواجب أن العبد يسخط ما يسخطه الله ويبغض ما يبغضه الله ويرضى بما يرضاه الله قال الله تعالى ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم سورة محمد فذم من اتبع مساخطه وكره مراضيه ولم يذم من كره مساخطه فإذا قال فكيف يكون الله ساخطا مبغضا لما قدره وقضاه قيل نعم كما تقدم أما على طريقة الأكثرين فلأن المقضي شيء كونه وعندهم البغض مغاير للإرادة وأما على طريقة الأقلين فإنهم يقولون

3

207

سخطه له وبغضه هو إرادته عقوبة فاعله فقد أراد أن يكون سببا لعقوبة فاعله وأما نحن فمأمورون بأن نكره ما ينهى عنه لكن الجواب على هذا القول يعود إلى الجواب الأول فإن نفس ما أراده الله وأحبه ورضيه عند هؤلاء قد أمر العبد بأن يكرهه ويبغضه يسخطه فهؤلاء يقولون ليس كل مقدور مقضي مأمورا يرضى به الوجه الثالث أن يقال قد تقدم أن الله سبحانه وتعالى يفعل ما يفعله لما له في ذلك من الحكمة وأن ما يضر الناس من المعاصي والعقوبات يخلقها لما له في ذلك من الحكمة وان ما يضر الناس من المعاصي والعقوبات يخلقها لما له في ذلك من الحكمة والإنسان قد يفعل ما يكرهه كشربه الدواء الكريه لما له فيه من الحكمة التي يحبها كالصحة والعافية فشرب الدواء مكروه من وجه محبوب من وجه فالعبد يوافق ربه فيكره

3

208

الذنوب ويمقتها ويبغضها لأن الله يبغضها ويمقتها ويرضى بالحكمة التي خلقها الله لأجلها فهي من جهة فعل العبد لها مكروهة مسخوطة ومن جهة خلق الرب لها محبوبة مرضية لأن الله خلقها لما له في ذلك من الحكمة والعبد فعلها وهي ضارة له موجبة له العذاب فنحن ننكرها ونكرهها وننهى عنها كما أمرنا الله بذلك إذ كان هو أيضا سبحانه يسخطها ويبغضها ونعلم أن الله أحدثها لما له في ذلك من الحكمة فنرضى بقضائه وقدره فمتى لحظنا أن الله قضاها وقدرها رضينا عن الله وسلمنا لحكمه وأما من جهة كون العبد يفعلها فلا بد أن نكره ذلك وننهى عنه ونجتهد في دفعه بحسب إمكاننا فإن هذا هو الذي يحبه الله منا والله تعالى إذا أرسل الكافرين على المسلمين فعلينا أن نرضى بقضاء الله في إرسالهم وعلينا أن نجتهد في دفعهم وقتالهم وأحد الأمرين لا ينافي الآخر وهو سبحانه خلق الفأرة والحية والكلب العقور وأمرنا بقتل ذلك فنحن نرضى عن الله إذ خلق ذلك ونعلم أن له في ذلك حكمة ونقتلهم كما أمرنا فإن الله يحب ذلك ويرضاه

3

209

وقد أجاب بعضهم بجواب آخر وهو أنا نرضى بالقضاء لا بالمقضي وقد أجاب بعضهم بجواب آخر أنا نرضى بها من جهة كونها خلقا ونسخطها من جهة كونها كسبا وهذا يرجع إلى الجواب الثالث لكن إثبات الكسب إذا لم يجعل العبد فاعلا فيه كلام قد ذكر في غير هذا الموضع فالذين جعلوا العبد كاسبا غير فاعل من أتباع الجهم بن صفوان وحسين النجار وأبي الحسن الأشعري وغيرهم كلامهم متناقض ولهذا لم يمكنهم أن يذكروا في بيان هذا الكسب والفرق بينه وبين الفعل كلاما معقولا بل تارة يقولون هو المقدور بالقدرة الحادثة وتارة يقولون ما قام بمحل القدرة أو بمحل القدرة الحادثة وإذا قيل لهم ما القدرة الحادثة قالوا ما قامت بمحل الكسب ونحو ذلك من العبارات التي

3

210

تستلزم الدور ثم يقولون معلوم بالاضطرار الفرق بين حركة المختار وحركة المرتعش وهذا كلام صحيح لكنه حجة عليهم لا لهم فإن هذا الفرق يمتنع أن يعود إلى كون أحدهما مرادا دون الآخر إذ يمكن الإنسان أن يريد فعل غيره فرجع الفرق إلى أن للعبد على أحدهما قدرة يحصل بها الفعل دون الآخر والفعل هو الكسب لا يعقل شيئان في المحل أحدهما فعل والآخر كسب فصل قال الرافضي ومنها أنه يلزم أن نستعيذ بإبليس من الله تعالى ولا يحسن قوله تعالى فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم سورة النحل لأنهم نزهوا إبليس والكافر من المعاصي وأضافوها إلى الله تعالى فيكون الله تعالى على المكلفين شرا من إبليس عليهم تعالى الله عن ذلك فيقال هذا كلام ساقط وذلك من وجوه

3

211

أحدها إما أن يكون لإبليس فعل وإما أن لا يكون له فعل فإن لم يكن له فعل امتنع أن يستعاذ به فإنه حينئذ لا يعيذ أحدا ولا يفعل شيئا وإن كان له فعل بطل تنزيهه عن المعاصي فعلم أن هذا الإعتراض ساقط على قول مثبتة القدر ونفاته وهو إيراد من غفل عن القولين وكذلك بتقدير أن لا يكون لإبليس فعل فلا يكون منه شر حتى يقال إن غيره شر منه فضلا عن أن يقال إن الله تعالى شر من إبليس فدعوى هذا أن هؤلاء يلزمهم أن يكون الله شرا عليهم من إبليس دعوى باطلة إذ غاية ما يقوله القائل هو الجبر المحض كما يحكى عن الجهم وشيعته وغاية ذلك أن لا يكون لإبليس ولا غيره قدرة ولا مشيئة ولا فعل بل تكون حركته كحركة الهواء وعلى هذا التقدير فلا يكون منه لا خير ولا شر والله تعالى هو الخالق لهذا كله فكيف يقال على هذا التقدير إن بعض مخلوقاته شر منه

3

212

الثاني أن يقال إنما تحسن الاستعاذة بإبليس لو كان يمكنه أن يعيذهم من الله سواء كان الله خالقا لأفعال العباد أو لم يكن وهؤلاء القدرية كالمصنف وأمثاله هم مع قولهم إن إبليس يفعل ما لا يقدره الله ويفعل بدون مشيئة الله ويكون في ملك الله ما لا يشاؤه وإن الله لا يقدر على أن يحرك إبليس ولا غيره من الاحياء ولا ينقلهم من عمل إلى عمل لا من خير إلى شر ولا من شر إلى خير فهم مسلمون مع هذا القول والفعل والتسليط الذي أثبتوه لإبليس من دون الله أن إبليس لا يقدر أن يجير على الله ولا يعيذ أحدا منه فامتنع على هذا أن يستعاذ به ولو قدر والعياذ بالله ما ألزموه من كون غير إبليس شرا منه على الخلق لكنه مع هذا عاجز عن دفع قضاء الله وقدره فكان المستعيذ به بل بسائر المخلوقين مخذولا كما قال تعالى لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا سورة الإسراء وقال تعالى قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون

3

213

المؤمنون وقال تعالى مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون سورة العنكبوت الوجه الثالث أنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في سجوده اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وروي أنه كان يقول هذا في الوتر أيضا فإذا كان صلى الله عليه وسلم قد استعاذ ببعض صفاته وأفعاله من بعض حتى استعاذ به منه فأي امتناع أن يستعاذ به من بعض مخلوقاته الوجه الرابع أن يقال أهل السنة لا ينكرون أن يكون دعاء العبد

3

214

لربه واستعاذته به سببا لنيل المطلوب ودفع المرهوب كالأعمال الصالحة التي أمروا بها فهم إذا استعاذوا بالله من الشيطان كان نفس استعاذتهم به سببا لأن يعيذهم من الشيطان وقد يوجد في بعض المخلوقين من الظلمة القادرين من يأمر بضرر غيره ظلما وعدوانا فإذا استجار به مستجير وذل له دفع عنه ذلك الظالم الذي أمره هو بظلمه ولله المثل الأعلى وهو المنزه عن الظلم وهو أرحم الراحمين وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها فكيف يمتنع أن يستعاذ به من شر أسباب الشر التي قضاها بحكمته الوجه الخامس أن يقال هذا الاعتراض باطل على طريقة الطائفتين أما من لا يقول بالحكمة والعلة فإنه يقول إن الله خلق إبليس الضار لعباده وجعل استعاذة العباد به منه طريقا إلى دفع ضرره كما جعل إطفاء النار طريقا إلى دفع حريقها وكما جعل الترياق طريقا إلى دفع ضرر السم وهو سبحانه خلق النافع والضار وأمر العباد أن يستعملوا ما ينفعهم ويدفعوا به ما يضرهم ثم إن أعانهم على فعل ما أمرهم به كان محسنا إليهم وإلا فله أن يفعل ما يشاء ويحكم

3

215

ما يريد إذ لا مالك فوقه ولا آمر له ولم يتصرف في ملك غيره ولم يعص أمرا مطاعا وأما على الطريقة الثانية المثبتة للحكمة فإنهم يقولون خلق الله إبليس كما خلق الحيات والعقارب والنار وغير ذلك لما في خلقه ذلك من الحكمة وقد أمرنا أن ندفع الضرر عنا بكل ما نقدر عليه ومن أعظم الأسباب استعاذتنا به منه فهو الحكيم في خلق إبليس وغيره وهو الحكيم في أمرنا بالاستعاذة به منه وهو الحكيم إذ جعلنا نستعيذ به وهو الحكيم في إعاذتنا منه وهو الرحكيم بنا في ذلك كله المحسن إلينا المتفضل علينا إذ هو أرحم بنا من الوالدة بولدها إذ هو الخالق لتلك الرحمة فخالق الرحمة أولى بالرحمة من الرحماء الوجه السادس قوله لأنهم نزهوا إبليس والكافر من المعاصي وأضافوها إلى الله إلى آخره فرية عليهم فإنهم متفقون على أن العاصي هو المتصف بالمعصية المذموم عليها

3

216

المعاقب عليها والأفعال يتصف بها من قامت به لا من خلقها وإذا كان ما لا يتعلق بالإرادة كالطعوم والألوان يوصف بها محالها لا خالقها في محالها فكيف تكون الأفعال الاختيارية والله تعالى إذا خلق الفواسق كالحية والعقرب والكلب العقور وجعل هذه الفواسق فواسق هل يكون هو سبحانه موصوفا بذلك وإذا خلق الخبائث كالعذرة والدم والخمر وجعل الخبيث خبيثا هل يكون متصفا بذلك وأين إضافة الصفة إلى الموصوف بها التي قامت به من إضافة المخلوق إلى خالقه فمن لم يفهم هذان الفرقان فقد سلب خاصية الإنسان الوجه السابع أن الله تعالى قد أمرنا أن نستعيذ من عذاب جهنم وعذاب القبر وغير ذلك من مخلوقاته التي هي مخلوقاته باتفاق المسلمين فعلم أنه لا يمتنع أن نستعيذ مما خلقه من الشر كما قال تعالى قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق سورة الفلق ولا فرق في ذلك بين إبليس وغيره

3

217

فصل قال الرافضي ومنها أنه لا يبقى وثوق بوعد الله ووعيده لأنهم إذا جوزوا استناد الكذب في العالم إليه جاز أن يكذب في إخباراته كلها فتنتفي فائدة بعثه الأنبياء بل وجاز منه إرسال الكذاب فلا يبقى لنا طريق إلى تمييز الصادق من الأنبياء والكاذب والجواب عن هذا من وجوه أحدها أنه تقدم غير مرة أنه فرق بين ما خلقه صفة لغيره وبين ما اتصف هو به في نفسه وفرق بين إضافة المخلوق إلى خالقه وإضافة الصفة إلى الموصوف بها وهذا الفرق معلوم باتفاق العقلاء فإنه إذا خلق لغيره حركة لم يكن

3

218

هو المتحرك بها وإذا خلق للرعد صوتا لم يكن هو المتصف بذلك الصوت وإذا خلق الألوان في النباتات والحيوانات والجمادات لم يكن هوالمتصف بتلك الألوان وإذا خلق في غيره علما وقدرة وحياة لم تكن تلك المخلوقات في غيره صفات له وإذا خلق في غيره عمى وصمما وبكما لم يكن هو الموصوف بذلك العمى والبكم والصمم وإذا خلق في غيره خبثا أو فسوقا لم يكن هو المتصف بذلك الخبث والفسوق وإذا خلق في غيره كذبا وكفرا لم يكن هو المتصف بذلك الكذب وبذلك الكفر كما أنه إذا قدر أنه خلق فيه طوافا وسعيا ورمي جمار وصياما وركوعا وسجودا لم يكن هو الطائف الساعي الراكع الساجد الرامي بتلك الحجارة وقوله تعالى وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى سورة الأنفال معناه ما أصبت إذ حذفت ولكن الله هو الذي أصاب فالمضاف إليه الحذف باليد والمضاف إلى الله تعالى الإيصال إلى العدو وإصابتهم به وليس المراد بذلك ما يظنه بعض الناس أنه لما خلق الرامي والرمي قالوا كان هو الرامي في الحقيقة فإن ذلك لو كان صحيحا لكونه خالقا لرميه لاطرد ذلك في سائر الأفعال فكان يقول

3

219

وما مشيت إذا مشيت ولكن الله مشى وما لطمت ولكن الله لطم وما طعنت ولكن الله طعن وما ضربت بالسيف ولكن الله ضرب وما ركبت الفرس ولكن الله ركب وما صمت وما صليت وما حججت ولكن الله صام وصلى وحج ومن المعلوم بالضرورة بطلان هذا كله وهذا من غلو المثبتين للقدر ولهذا يروى عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنهم كانوا يرمونه بالحجارة لما حصر فقال لهم لماذا ترمونني فقالوا ما رميناك ولكن الله رماك فقال لو أن الله رماني لأصابني ولكن أنتم ترمونني وتخطئونني وهذا مما احتج به القدرية النفاة على أن الصحابة لم يكونوا يقولون إن الله خالق أفعال العباد كما احتج بعض المثبتة بقوله تعالى ولكن الله رمى سورة الأنفال وكلاهما خطأ فإن الله إذا خلق في

3

220

عبد فعلا لم يجب أن يكون ذلك المخلوق صوابا من العبد كما أنه إذا خلق في الجسم طعما أو ريحا لم يجب أن يكون ذلك طيبا وإذا خلق للعبد عينين ولسانا لم يجب أن يكون بصيرا ناطقا فاستناد الكذب الذي في الناس كاستناد جميع ما يكون في المخلوقين من الصفات القبيحة والاحوال المذمومة وذلك لا يقتضي أنه في نفسه مذموم ولا أنه موصوف بتلك الصفات ولكن لفظ الاستناد لفظ مجمل أتراه أنه إذا استند إليه العجز المخلوق في الناس لكونه خالقه يكون هو عاجزا فهذا مما يبين فساد هذه الحجة الوجه الثاني أنهم يجوزون أنه يخلق القدرة على الكذب مع علمه بأن صاحبها يكذب ويخلق القدرة على الظلم والفواحش مع علمه أن صاحبها يظلم ويفحش ومعلوم أن الواحد منا يجري تمكينه من القبائح وإعانته عليها مجرى فعله لها فمن أعان غيره على الكذب بإعطاء أمور يستعين بها على الكذب كان بمنزلة الكذب في القبح

3

221

فلا يجوز لنا أن نعين على إثم ولا عدوان كما نهى الله عن ذلك فإن كان ما قبح منه قبح منا فيلزم أن يجوزوا عليه إذا أعان على الكذب أن يكذب ويلزمهم المحذور فإن قالوا إنما أعطاه القدرة ليطيع لا ليعصي قيل إذا كان عالما بأنه يعصي كان بمنزلة من يعطي الرجل سيفا ليقاتل به الكفار مع علمه بأنه يقتل به نبيا وهذا لا يجوز في حقنا فإن من فعل فعلا لغرض مع علمه بأن الغرض لا يحصل به كان سفيها فينا والله تعالى منزه عن ذلك فعلم أن حكمه في أفعاله مخالف لأفعال عباده وإن عللوا ذلك بعلة يمكن استقامتها قيل لهم وكذلك ما يخلقه في غير له حكمة كما للإعانة عليه بالقدرة حكمة الوجه الثالث أن يقال ليس كل ما كان قادرا عليه وهو ممكن نشك في وقوعه بل نحن نعلم بالضرورة أنه لا يفعل أشياء مع أنه قادر عليها وهي ممكنة فنعلم أنه لا يقلب البحار أدهانا ولا الجبال يواقيت ولا يمسخ جميع الآدميين ثعالب ولا يجعل الشمس والقمر عودى ريحان وأمثال هذه الأمور التي لا تحصى وعلمنا بأن الله منزه عن الكذب وأنه يمتنع عليه أعظم من علمنا بهذا

3

222

الوجه الرابع أنا نقول نحن نعلم أن الله موصوف بصفات الكمال وأن كل كمال ثبت لموجود فهو أحق به وكل نقص تنزه عنه موجود فهو أحق بالتنزيه عنه ونحن نعلم أن الحياة والعلم القدرة صفات كمال فالرب تعالى أحق أن يتصف بها من العباد وكذلك الصدق هو صفة كمال فهو أحق بالاتصاف به من كل من اتصف به كما قال تعالى الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا سورة النساء وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته إن أصدق الكلام كلام الله الوجه الخامس أن يقال قد اتفق السلف وأتباعهم على أن كلام الله غير مخلوق بل قائم به ثم تنازعوا هل يتكلم بمشيئته وقدرته

3

223

على قولين معروفين فالأول قول السلف والجمهور والثاني قول ابن كلاب ومن تبعه ثم تنازع أتباع ابن كلاب هل القديم الذي لا يتعلق بمشيئته وقدرته معنى قائم بذاته أو حرف أو حروف وأصوات أزلية على قولين كما قد بسط في موضعه وإذا كان كذلك فمن قال إنه لا يتعلق بمشيئته امتنع أن يقوم به غير ما اتصف به والصدق عندهم هو العلم أو معنى يستلزمه العلم ومعلوم أن علمه من لوازم ذاته ولوازم العلم من لوازم ذاته فيكون الصدق من لوازم ذاته فيمتنع اتصافه بنقيضه فإن لازم الذات القديمة الواجبه بنفسها يمتنع عدمه كما يمتنع عدمها فإن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم وأيضا فالصدق والكذب حينئذ مثل البصر والعمى والسمع والصمم والكلام والخرس وكما وجب أن يتصف بالبصر دون العمى وبالسمع دون الصمم وبالكلام دون الخرس وجب أيضا أن يتصف بالصدق دون الكذب

3

224

وأما من قال الكلام يتعلق بمشيئته وقدرته فهؤلاء عامتهم يقولون إنه يتكلم لحكمة ويفعل لحكمة وأنه سبحانه منزه عن فعل القبيح وأدلة هؤلاء على تنزيهه عن فعل القبائح أعظم من أدلة المعتزلة وأقوى فإن كل دليل يدل على تنزيهه عن فعل قبيح منفصل عنه فإنه يدل على تنزيهه عن فعل قبيح يقوم به بطريق الأولى والأحرى فإن كون ما يقوم به من القبائح نقصا هو أظهر من كون فعل المستقبحات المنفصلة نقصا فإذا امتنع هذا فذاك أولى بالامتناع الوجه السادس أن يقال الأدلة العقلية دلت على امتناع اتصافه سبحانه بالنقائص والقبائح وإنما يتصف بما يقوم به منها والكلام قائم بالمتكلم فيمتنع أن يتكلم بكذب لأن كلامه قائم به فيمتنع أن يقوم به القبيح الذي اختاره وهذا طريق يختص به أهل الإثبات لتنزيهه عن الكذب والمعتزلة لا يمكنهم ذلك لأن كلامه منفصل عنه عندهم فإذا قال لهم هؤلاء المثبتة الدليل إنما دل على تنزيهه عن الاتصاف في نفسه بالقبائح وعن فعله لها والفعل ما قام بالفاعل وأما المنفصل فهو مفعول له لا فعل له وأنتم لم تذكروا دليلا على امتناع وقوع ذلك في مفعولاته وهو محل النزاع كانت حجة هؤلاء حجة ظاهرة على القدرية

3

225

الوجه السابع أن كلامه القائم بذاته غير مخلوق عند أهل السنة فإن الكلام صفة كمال فلا بد أن يتصف بها سواء قالوا إنه لا يتعلق بمشيئته وقدرته وهو معنى قائم بالنفس أو هو حروف وأصوات قديمة أو قالوا إنه يتعلق بمشيئته وقدرته أو إنه تكلم بعد أن لم يكن متكلما أو إنه لم يزل متكلما إذا شاء فعلى الأقوال كلها هو قائم بذاته والكذب صفة نقص كالصمم والبكم والعمى والله منزه عن قيام النقائص به مع أنه يخلق خلقه متصفين بالنقائص فيخلق العمى والصمم والبكم ولا يقوم به ذلك فكذلك يخلق الكذب في الكاذب ولا يقوم به الكذب الوجه الثامن أن يقال هذا السؤال وارد عليهم فإنهم يقولون إن الله يخلق في غيره كلاما يكون هو كلامه مع كونه قائما بغيره وهو محدث مخلوق والكلام الذي يتكلم به العباد هوعندهم

3

226

ليس مخلوقا له ولا هو كلامه فإذا كان هذا صدقا وهذا صدقا فلا بد أن يعرفوا أن هذا كلامه وليس هذا بكلامه وأما قوله وجاز منه إرسال الكذاب فجوابه من وجوه أحدها أنه لا ريب أن الله يرسل الكذاب كإرسال الشياطين في قوله ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا سورة مريم ويبعثهم كما في قوله تعالى بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد سورة الإسراء لكن هذا لا يكون إلا مقرونا بما يبين كذبهم كما في مسيلمة الكذاب والأسود العنسي ولكن ليس في مجرد إرسال الكذاب ما يمنع التمييز بينه وبين الصادق كما أنه يرسل الظالم وليس في إرساله ما يمنع التمييز بينه وبين العادل ويرسل الجاهل والفاجر والأعمى والأصم وليس في إرسال هؤلاء مايمنع التمييز بينهم وبين غيرهم ولفظ الإرسال يتناول إرسال الرياح وإرسال الشياطين وغير ذلك الثاني أن يقال هم يجوزون أن يخلق من يعلم أنه كاذب وإعطاءه القدرة على الكذب كما خلق مسيلمة الكذاب والعنسي فإن كان

3

227

خلقه لهذا جائزا مع أنه ميز بينه وبين الصادق كذلك خلق الكذاب بكذبه الثالث أنه إذا خلق من يدعي النبوة وهو كاذب فإن قالوا يجوز إظهار أعلام الصدق عليه كان هذا ممنوعا وهو باطل بالاتفاق وإن قالوا لم يجز ذلك لم يكن مجرد دعوى النبوة بلا علم على الصدق ضارا فإن الشخص لو ادعى أنه طبيب أو صانع بلا دليل يدل على صدقه لم يلتفت إليه فكيف بمدعي النبوة وإن قالوا إذا جوزتم عليه أن يخلق الكذب في الكذاب فجوزوا عليه أن يظهر على يديه أعلام الصدق قيل هذا ممتنع لأن أدلة الصدق تستلزم الصدق لأن الدليل مستلزم للمدلول فإظهار أعلام الصدق على يد الكذاب ممتنع لذاته فلا يمكن بحال وإن قالوا فجوزوا أن يظهر على يديه خارق قلنا نعم فنحن نجوز أن يظهر الخارق على يد من يدعي

3

228

الإلهية كالدجال لأن ذلك لا يدل على صدقة لظهور كذبه في دعوى الإلهية والممتنع ظهور دليل الصدق على الكذب فإن قالوا فجوزوا ظهور الخوارق على يد مدعي النبوة مع كذبه قلنا نعم ويجوز ذلك على وجه لا يدل على صدقه مثل ما يظهر السحرة والكهان من الخوارق المقرونة بما يمنع صدقهم والكلام على هذا مبسوط في موضعه الوجه الرابع أن دليل النبوة وأعلامها وما به يعرف صدق النبي ليست محصورة في الخوارق بل طرق معرفة الصدق متنوعة كما أن طرق معرفة الكذب متنوعة كما قد بسط في موضعه فصل قال الرافضي ومنها أنه يلزم تعطيل الحدود والزواجر عن

3

229

المعاصي فإن الزنا إذا كان واقعا بإرادة الله تعالى والسرقة إذا صدرت عن الله وإرادته هي المؤثرة لم يجز للسلطان المؤاخذة عليها لأنه يصد السارق عن مراد الله ويبعثه على ما يكرهه الله ولو صد الواحد منا غيره عن مراده وحمله على ما يكرهه استحق منه اللوم ويلزم أن يكون الله مريدا للنقيضين لأن المعصية مرادة لله والزجر عنها مراد له أيضا فيقال فيما قدمناه ما يبين الجواب عن هذا لكن نوضح جواب هذا إن شاء الله تعالى من وجوه أحدها أن الذي قدره وقضاه من ذلك هو ما وقع دون ما لم يكن بعد وما وقع لا يقدر أحد أن يرده وإنما يرد بالحدود والزواجر ما لم يقع بعد فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فقوله لأنه يصد السارق عن مراد الله كذب منه لأنه إنما

3

230

يصده عما لم يقع بعد وما لم يقع لم يرده الله ولهذا لو حلف ليسرقن هذا المال إن شاء الله ولم يسرقه لم يحنث باتفاق المسلمين لأن الله لم يشأ سرقته ولكن القدرية عندهم الإرادة لا تكون إلا بمعنى الأمر فيزعمون أن السرقة إذا كانت مرادة كانت مأمورا بها وقد أجمع المسلمون وعلم بالإضطرار من دينهم أن الله لم يأمر بالسرقة ومن قال إن ما وقع منها مراد يقول إنه مراد غير مأمور به فلا يقول إنه مأمور به إلا كافر لكن هذا قد يقال للمباحية المحتجين بالقدر على المعاصي فإن منهم من لا يرى أن يعارض الإنسان فيما يظنه مقدرا عليه من المعاصي ومنهم من يرى أن يعاونه على ذلك معاونة لما ظن أنه مراد وهذا الفعل وإن كان محرما ومعصية فهم لم يصدوا عن مراد الله فتبين أن الصد عن مراد الله ليس واقعا على كل تقدير الوجه الثاني أن يقال قد تقدم أن تناهي الناس عن المعاصي والقبائح والظلم ودفع الظالم وأخذ حق المظلوم منه ورد احتجاج

3

231

من احتج على ذلك بالقدر أمر مستقر في فطر جميع الناس وعقولهم مع إقرار جماهيرهم بالقدر وأنه لا يمكن صلاح حالهم ولا بقاؤهم في الدنيا إذا مكنوا كل أحد أن يفعل ما يشاء من مفاسدهم ويحتج بالقدر وقد بينا أن المحتجين بالقدر على المعاصي إذا طردوا قولهم كانوا أكفر من اليهود والنصارى وهم شر من المكذبين بالقدر الوجه الثالث أن الأمور المقدورة بالاتفاق إذا كان فيها فساد يحسن ردها وإزالتها بعد وقوعها كالمرض ونحوه فإنه من فعل الله بالاتفاق مراد لله مع هذا يحسن من الإنسان أن يمنع وجوده بالاحتماء واجتناب أسبابه ويحسن منه السعي في إزالته بعد حصوله وفي هذا إزالة مراد الله وإن قيل إن قطع السارق يمنع مراد الله كان شرب الدواء لزوال المرض مانعا لمراد الله وكذلك دفع السيل الآتي من صبب والنار التي تريد أن تحرق الدور وإقامة الجدار الذي يريد أن ينقض كما أقام الخضر ذلك الجدار وكذلك إزالة الجوع الحاصل بالأكل وإزالة البرد الحاصل بالاستدفاء وإزالة الحر بالظل

3

232

وقد قيل للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أرأيت أدوية نتداوى بها ورقي نسترقي بها وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئا قال هي من قدر الله فبين صلى الله عليه وسلم أنه يرد قدر الله بقدر الله إما دفعا وإما رفعا إما دفعا لما انعقد سبب لوجوده وإما رفعا لما وجد كرفع المرض ودفعه ومن هذا قوله تعالى له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله سورة الرعد قيل معقبات من أمر الله يحفظونه وقيل يحفظونه من أمر الله الذي ورد ولم يحصل يحفظونه أن يصل إليه وحفظهم بأمر الله الوجه الرابع قوله ويلزم أن يكون الله مريدا للنقيضين لأن المعصية مرادة لله والزجر عنها مراد الله كلام ساقط فإن النقيضين ما لا يجتمعان ولا يرتفعان أو ما لا يجتمعان وهما المتضادان

3

233

والزجر ليس عما وقع وأريد بل هو عقوبة على الماضي وزجر عن المستقبل والزجر الواقع بإرادته إن حصل مقصوده لم يحصل المزجور عنه فلم يرده فيكون المراد الزجر فقط وإن لم يحصل مقصوده لم يكن زجرا تاما بل يكن المراد فعل هذا الزاجر وفعل ذاك كما يراد ضرب هذا لهذا بهذا السيف وحياة هذا وكما يراد المرض المخوف الذي قد يكون سببا للموت ويراد معه الحياة فإرادة السبب ليست موجبة لإرادة المسبب إلا إذا كان السبب تاما موجبا والزجر سبب للانزجار والامتناع كسائر الأسباب كما أن المرض المخوف سبب للموت وكما أن الأمر بالفعل والترغيب فيه سبب لوقوعه ثم قد يقع المسبب وقد لا يقع فإن وقع كانا مرادين وإلا كان المراد ما وقع خاصة الوجه الخامس أنه قد تقدم أن الإرادة نوعان نوع بمعنى المشيئة لما خلق فهذا متناول لكل حادث دون ما لا يحدث ونوع بمعنى المحبة لما أمر به فهذا إنما يتعلق بالطاعات وإذا كان كذلك فما

3

234

وقع من المعاصي فهو مراد بالمعنى الأول فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فكل ما وقع فقد شاء كونه والزجر عنها مراد بالمعنى الثاني فإنه يحب النهي عن المنكر ويرضاه ويثيب فاعله بخلاف المنكر نفسه فإنه لا يحبه ولا يرضاه ولا يثيب فاعله ثم الزجر إنما يكون عما لم يقع والعقوبة تكون على ما وقع فإذا وقعت سرقة بالقضاء والقدر وقد أمر الله سبحانه بإقامة الحد فيها فإقامة الحد مأمور به يحبه ويرضاه ويريده إرادة أمر لا إرادة خلق فإن أعان عليه كان قد أراده خلقا وكان حينئذ إقامة الحد مرادة شرعا وقدرا خلقا وأمرا قد شاءها وأحبها وإن لم يقع كان ما وقع من المعصية قد شاءه خلقا ولم يرده ولم يحبه شرعا ويذكر أن رجلا سرق فقال لعمر سرقت بقضاء الله وقدره فقال له وأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره وهكذا يقال لمن تعدى حدود الله وأعان العباد على عقوبته الشرعية كما يعين المسلمين على جهاد الكفار إن الجميع واقع بقضاء الله وقدره لكن ما أمر به يحبه ويرضاه ويريده شرعا ودينا كما شاءه خلقا وكونا بخلاف ما نهى عنه

3

235

فصل قال الرافضي ومنها أنه يلزم مخالفة المعقول والمنقول أما المعقول فلما تقدم من العلم الضروري باستناد أفعالنا الاختيارية إلينا ووقوعها بحسب إرادتنا فإذا أردنا الحركة يمنة لم تقع يسرة وبالعكس والشك في ذلك عين السفسطة فيقال الجواب من وجوه أحدها أن جمهور أهل السنة قائلون بهذا وأن أفعال الإنسان الأختيارية مستنده إليه وأنه فاعل لها ومحدث لها وإنما ينازع في هذا من يقول إنها ليست فعلا للعبد ولا لقدرته تأثير فيها ولا أحدثها العبد وهؤلاء طائفة من متكلمي أهل الإثبات والجمهور من أهل السنة لا يقولون بذلك كما جاءت به النصوص فإن الله ورسوله وصف العبد بأنه يعمل ويفعل

3

236

الوجه الثاني أن يقال بل النفاة خالفوا العلم الضروري فإن كون العبد مريدا فاعلا بعد أن لم يكن فاعلا أمر حادث بعد أن لم يكن فإما أن يكون له محدث وأما أن لا يكون له محدث فإن لم يكن له محدث لزم حدوث الحوادث بلا محدث وإن كان له محدث فإما أن يكون هو العبد أو الرب تعالى أو غيرهما فإن كان هو العبد فالقول في إحداثه لتلك الفاعلية كالقول في إحداث أحداثها ويلزم التسلسل وهو هنا باطل بالاتفاق لأن العبد كائن بعد أن لم يكن فيمتنع أن تقوم به حوادث لا أول لها وإن كان غير الله فالقول فيه كالقول في العبد فتعين أن يكون الله هو الخالق لكون العبد مريدا فاعلا وهو المطلوب وأهل السنة يقولون بهذا العلم الضروري فيقولون إن العبد فاعل والله خلقه فاعلا والعبد مريد مختار والله جعله مريدا مختار قال الله تعالى إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا وما تشاءون إلا أن يشاء الله سورة الإنسان وقال تعالى لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين سورة التكوير

3

237

فأثبت مشيئة العبد وجعلها لا تحصل إلا بمشيئة الله تعالى وقال الخليل صلى الله عليه وسلم رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي سورة إبراهيم وقال فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وقال هو وإسماعيل صلى الله عليهما وسلم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك سورة البقرة وقال وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا سورة الأنبياء وقال وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار سورة القصص وأمثال ذلك في الكتاب والسنة فدليلهم اقتضى مشيئة العبد وأنه فاعل بالاختيار وهذا الدليل اقتضى أن هذه المشيئة والاختيار حصلت بمشيئة الرب فكلا الأمرين حق فمن قال إن العبد لا مشيئة له ولا اختيار أو قال إنه لا قدرة له أو أنه لم يفعل ذلك الفعل أو لا أثر لقدرته فيه ولم يحدث تصرفاته فقد أنكر موجب الضرورة الأولى

3

238

ومن قال إن إرادته وفعله حدثت بغير سبب اقتضى حدوث ذلك وأن العبد أحدث ذلك وحاله عند إحداثه كما كان قبل إحداثه بل خص أحد الزمانين بالإحداث من غير سبب اقتضى تخصيصه وأنه صار مريدا فاعلا محدثا بعد أن لم يكن كذلك من غير شيء جعله كذلك فقد قال بحدوث الحوادث بلا فاعل وإذا قالوا الإرادة لا تعلل كان هذا كلاما لا حقيقة له فإن الأرادة أمر حادث فلا بد له من محدث وهذا كما قالوا إن البارىء يحدث إرادة لا في محل بلا سبب اقتضى حدوثها ولا إرادة فارتكبوا ثلاث محالات حدوث حادث بلا إرادة من الله وحدوث حادث بلا سبب حادث وقيام الصفة بنفسها لا في محل وإن شئت قلت كونه مريدا أمر ممكن والممكن لايترجح وجوده على عدمه ولا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح تام وهذا مما يحتج به الرازي عليهم وهو صحيح في نفسه لكنه تناقض في مسألة حدوث العالم

3

239

والحجة التي ذكرها هذا الإمامي مذكورة عن أبي الحسين البصري وهي صحيحة كما أن الأخرى صحيحة فيجب القول بهما جميعا مع أن جمهور القدرية يقولون العلم بكون العبد محدثا لأفعاله نظري لا ضروري وهؤلاء يخالفون أبا الحسين وأبو الحسين يقول مع ذلك إن الفعل يتوقف على الداعي والقدرة وعندهما يجب الفعل وهو حقيقة قول أهل الإثبات ولهذا يعبر غير واحد منهم بنحو ذلك كأبي المعالي والرازي وغيرهما لكن إذا قيل مع ذلك إن الله خالق أفعال العباد أمكن الجمع بينهما عند من يقول إن الله خلق الأشياء بالأسباب ومن لم يقل ذلك يقول خلق الفعل عند هذه الأمور لا بها وهو قول من لم يجعل للقدرة أثرا في مقدورها كالأشعري وغيره فإن قيل كيف يكون الله محدثا لها والعبد محدثا لها قيل إحداث الله لها بمعنى أن خلقها منفصلة عنه قائمة بالعبد فجعل العبد فاعلا لها بقدرته ومشيئته التي خلقها الله تعالى

3

240

وإحداث العبد لها بمعنى أنه حدث منه هذا الفعل القائم به بالقدرة والمشيئة التي خلقها الله فيه وكل من الإحداثين مستلزم للآخر وجهة الإضافة مختلفة فما أحدثه الرب فهو مباين له قائم بالمخلوق وفعل العبد الذي أحدثه قائم به فلا يكون العبد فاعلا للفعل بمشيئته وقدرته حتى يجعله الله كذلك فيحدث قدرته ومشيئته والفعل الذي كان بذلك وإذا جعله الله فاعلا وجب وجود ذلك فخلق الرب لفعل العبد يستلزم وجود الفعل وكون العبد فاعلا له بعد أن لم يكن يستلزم كون الرب خالقا له بل جميع الحوادث بأسبابها هي من هذا الباب فإن قيل هذا قول من يقول هي فعل للرب وفعل للعبد قيل من قال هي فعل لهما بمعنى الشركة فقد أخطأ ومن قال إن فعل الرب هو ما انفصل عنه وقال إنها فعل لهما كما قاله أبو إسحاق الإسفراييني فلا بد أن يفسر كلامه بشيء يعقل وأما على قول جمهور أهل السنة الذين يقولون إنها مفعولة للرب

3

241

لا فعل له إذا فعله ما قام به والفعل عندهم غير المفعول فيقولون إنها مفعولة للرب لا فعل له وإنها فعل للعبد كما يقولون في قدرة العبد إنها قدرة للعبد مقدورة للرب لا أنها نفس قدرة الرب وكذلك إرادة العبد هي إرادة للعبد مرادة للرب وكذلك سائر صفات العبد هي صفات له وهي مفعولة للرب مخلوقة له ليست بصفات له ومما يبين ذلك أن الله تعالى قد أضاف كثيرا من الحوادث إليه وأضافه إلى بعض مخلوقاته إما أن يضيف عينه أو نظيره كقوله تعالى الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى سورة الزمر وقال تعالى هو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار سورة الأنعام مع قوله تعالى قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم سورة السجدة وقوله توفته رسلنا وهم لا يفرطون سورة الأنعام وكذلك قوله تعالى في الريح تدمر كل شيء بأمر ربها سورة الأحقاف

3

242

وقال ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون سورةالأعراف وقال تعالى إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم سورة الإسراء وقال يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام سورة المائدة وقال نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن سورة يوسف وقال إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون سورة النمل وقال ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب سورة النساء أي ما يتلى عليكم في الكتاب يفتيكم فيهن وقال فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج سورة الحج فأضاف الإنبات إليها وقال تعالى والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج سورة الحجر وقال تعالى هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات سورة النحل وقال تعالى حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها

3

243

أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا سورة يونس وقال تعالى إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها سورة الكهف وقال تعالى إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب سورة الصافات وقال تعالى يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها سورة الحديد وقال تعالى ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء سورة النحل وقال نزل به الروح الأمين سورة الشعراء وقال وبالحق أنزلناه وبالحق نزل سورة الإسراء وقال وأنزلنا من السماء ماء سورة المؤمنون وقال تعالى وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء سورة فصلت وقال سليمان عليه الصلاة والسلام يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء سورة النمل وقال تعالى فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون سورة الذاريات فهم نطقوا وهو انطقهم وهو الذي أنطق كل شيء فإذا كان تبارك وتعالى قد جعل في الجمادات قوى تفعل وقد أضاف الفعل إليها ولم يمنع ذلك أن يكون خالقا لأفعالها فلأن لا

3

244

يمنع إضافة الفعل إلى الحيوان وإن كان الله خالقه بطريق الأولى فإن القدرية لا تنازع في أن الله خالق ما في الجمادات من القوى والحركات وقد أخبر الله أن الأرض تنبت وأن السحاب يحمل الماء كما قال تعالى فالحاملات وقرا سورة الذاريات والريح تنقل السحاب كما قال تعالى وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت سورة الأعراف وأخبر أن الريح تدمر كل شيء وأخبر أن الماء طغى بقوله تعالى إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية سورة الحاقة بل قد أخبر بما هو أبلغ من ذلك من سجود هذه الأشياء وتسبيحها كما في قوله تعالى ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب سورة الحج وهذا التفصيل يمنع حمل ذلك على أن المراد كونها مخلوقة دالة على الخالق وأن المراد شهادتها بلسان الحال فإن هذا عام لجميع الناس وقد قال تعالى يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد سورة سبأ وقال إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب سورة ص

3

245

فأخبر أن الجبال تؤوب معه والطير وأخبر أنه سخرها تسبح وقال ألم تر أن الله يسبح له من في السموات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه سورة النور وقال تعالى وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم سورة الإسراء وقال ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها سورة الرعد وقال ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله سورة البقرة وبسط الكلام على سجود هذه الأشياء وتسبيحها مذكور في غير هذا الموضع والمقصود هنا أن هذا كله مخلوق لله بالاتفاق مع جعل ذلك فعلا لهذه الأعيان في القرآن فعلم أن ذلك لا ينافي كون الرب تعالى خالقا لكل شيء فإن قيل قولكم إذا جعلنا الله فاعلا وجب وجود ذلك الفعل وخلق الفعل يستلزم وجوده ونحو ذلك من الأقوال يقتضي الجبر وهو قول باطل

3

246

قيل لفظ الجبر لم يرد في كتاب ولا سنة لا بنفي ولا إثبات واللفظ إنما يكون له حرمة إذا ثبت عن المعصوم وهي ألفاظ النصوص فتلك علينا أن نتبع معاينها وأما الألفاظ المحدثة مثل لفظ الجبر فهو مثل لفظ الجهة والحيز ونحو ذلك ولهذا كان المنصوص عن أئمة الإسلام مثل الأوزاعي والثوري وعبدالرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل وغيرهم أن هذا اللفظ لا يثبت ولا ينفي مطلقا فلا يقال مطلقا جبر ولا يقال لم يجبر فإنه لفظ مجمل ومن علماء السلف من أطلق نفيه كالزبيدي صاحب الزهري وهذا نظر إلى المعنى المشهور من معناه في اللغة فإن المشهور إطلاق لفظ الجبر والإجبار على ما يفعل بدون إرادة المجبور بل مع كراهته كما يجبر الأب ابنته على النكاح وهذا المعنى منتف في حق الله تعالى فإنه سبحانه لا يخلق فعل العبد الاختياري بدون اختياره بل هو الذي جعله مريدا مختارا وهذا لا يقدر عليه أحد إلا الله ولهذا قال من قال من السلف الله أعظم وأجل من أن يجبر إنما يجبر غيره من لا يقدر على جعله مختارا والله تعالى يجعل العبد مختارا فلا يحتاج إلى إجباره

3

247

ولهذا قال الاوزاعي والزبيدي وغيرهما نقول جبل ولا نقول جبر لأن الجبل جاءت به السنة كما في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأشج عبدالقيس إن فيك خلقين يحبهما الله الحلم والأناة فقال أخلقين تخلقت بهما أم خلقين جبلت عليهما فقال بل خلقين جبلت عليهما فقال الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله فقد يراد بلفظ الجبر نفس فعل ما يشاؤه وإن خلق اختيار العبد كما قال محمد بن كعب القرظي الجبار هو الذي جبر العباد على ما أراده وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال في الدعاء المأثور عنه اللهم داحي المدحوات وسامك المسموكات جبار القلوب على فطرتها شقيها وسعيدها فإذا أريد بالجبر هذا فهذا حق وإن أريد به الأول فهو باطل ولكن الإطلاق يفهم منه الأول فلا يجوز إطلاقه فإذا قال السائل أنا أريد بالجبر المعنى الثاني وهو أن نفس جعل الله للعبد فاعلا قادرا

3

248

يستلزم الجبر ونفس كون الداعي والقدرة يستلزم وجود الفعل جبر قيل هذا المعنى حق ولا دليل لك على إبطاله وحذاق المعتزلة كأبي الحسين البصري وأمثاله يسلمون هذا فيسلمون أن مع وجود الداعي والقدرة يجب وجود الفعل وصاحب هذا الكتاب قد سلك هذه الطريقة فلا يمكنه مع هذا إنكار الجبر بهذا التفسير ولهذا نسب أبو الحسين إلى التناقض في هذه المسألة فإنه وأمثاله من حذاق المعتزل إذا سلموا أنه مع الداعي والقدرة يجب وجود الفعل وسلموا أن الله خلق الداعي والقدرة لزم أن يكون الله خالق أفعال العباد فحذاق المعتزلة سلموا المقدمتين ومنعوا النتيجة والطوسي الذي قد عظمه هذا الإمامي ذكر في تلخيص المحصل لما ذكر احتجاج الرازي بأن الفعل يجب عند وجود المرجح التام ويمتنع عند عدمه فبطل قول المعتزلة بالكلية يعني الذين يقولون إنه يفعل على وجه

3

249

الجواز وهو المشهور من مذهبهم فاعترض عليه الطوسي وقال إنه قد ذكر فيما مر أن المختار متمكن من ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر بلا مرجح وهنا حكم بأن ذلك محال ثم على تقدير الاحتياج إلى المؤثر وامتناع عدم حصول الأثر قال فقد بطل قول المعتزلة بالكلية قال وذلك غير وارد لأنه قد ذكر أن أبا الحسين من المعتزلة

3

250

وقال في موضع آخر إنه رجل المعتزلة وقال هنا إنه قد ذهب إلى أن القدرة والإرادة يوجبان وجود المقدور فكيف بطل قولهم بالكلية وبيانه أنهم يقولون إن معنى الاختيار هو استواء الطرفين بالنسبة إلى القدرة وحدها ووجوب وقوع أحدهما بحسب الإرادة فمتى حصل المرجح التام وهو الإرادة وجب الفعل ومتى لم يحصل امتنع ذلك وذلك غير مناف لاستواء الطرفين بالقياس إلى القدرة وحدها فإذا اللزوم الذي ذكره غير قاطع في إبطال قولهم قلت القول الذي قطع بطلانه الرازي هو القول المشهور عنهم وهو أن الفعل لا يتوقف على الداعي بل القادر يرجح أحد مقدوريه على الأخر بلا مرجح فيحدث الداعي له الفعل كالإرادة بمجرد كونه قادرا مع استواء القدرة بالنسبة إلى وجود ذلك وعدمه والداعي قد يفسر بالعلم أو الاعتقاد أو الظن وقد يفسر بالإرادة وقد يفسر بالمجموع وقد يفسر بما اشتمل عليه المراد مما يقتضي إرادته والرازي يقول إن أبا الحسين متناقض فإن الرازي ذكر في الأقوال

3

251

قول الذين يقولون إن الفعل موقوف على الداعي فإذا حصلت القدرة وانضم إليها الداعي صار مجموعهما علة لوجوب الفعل قال وهذا قول جمهور الفلاسفة واختيار أبي الحسين البصري من المعتزلة وهو وإن كان يدعي الغلو في الاعتزال حتى ادعى أن العلم بأن العبد موجد لأفعاله ضروري إلا أنه كان من مذهبه أن الفعل موقوف على الداعي فإذا كان عند الاستواء يمتنع وقوعه فحال المرجوحية أولى بالامتناع وإذا امتنع المرجوح وجب الراجح لأنه لا خروج عن النقيضين وهذا عين القول بالجبر لأن الفعل واجب الوقوع عند حصول المرجح وممتنع الوقوع عند عدم المرجح فثبت أن أبا الحسين كان عظيم الغلو في القول بالجبر وإن كان يدعي في ظاهر الأمر أنه عظيم الغلو في الاعتزال قلت هذا القول هو قول جماهير أهل السنة وأئمتهم ويقرب منه قول أبو المعالي الجويني والقاضي أبي خازم بن القاضي أبي يعلى وقول الكرامية وهو حقيقة القول بأن الله خالق فعل العبد وهو ظاهر على قول جمهور أهل السنة المثبتين للأسباب الذين يقولون لقدرة العبد تأثير في الفعل

3

252

وأما من قال لا تأثير لها كالأشعري فإذا فسر الوجوب بالوجوب العادي لم يمتنع ذلك وإن فسر بالعقلي امتنع وأما لفظ الجبر فالنزاع فيه لفظي كما تقدم وليس هو في اللغة ظاهرا في هذا المعنى ولهذا أنكر السلف إطلاقه فإذا قالت القدرية هذا ينافي كونه مختارا لأنه لا معنى للمختار إلا كونه قادرا على الفعل والترك وأنه إذا شاء فعل هذا وإذا شاء فعل هذا قيل لهم هذا مسلم ولكن يقال هو قادر على الفعل والترك على سبيل البدل أو على سبيل الجمع والثاني باطل فإنه في حال كونه فاعلا لا يقدر أن يكون تاركا مع كونه فاعلا وكذلك حال كونه تاركا لا يقدر على كونه فاعلا مع كونه تاركا فإن الفعل والترك ضدان واجتماعهما ممتنع والقدرة لا تكون على ممتنع فعلم أن قولنا قادر على الفعل والترك أي يقدر أن يفعل في حال عدم الترك ويقدر أن يترك في حال عدم الفعل وكذلك قول القائل القادر إن شاء فعل وإن شاء ترك هو على سبيل البدل لا يقدر أن يشاء الفعل والترك معا بل حال مشيئته للفعل لا يكون مريدا للترك وحال مشيئته للترك لا يكون مريدا للفعل وإذا كان كذلك فالقادر الذي إن شاء فعل وإن شاء ترك حال كونه

3

253

شاء الفعل مع القدرة التامة يجب وجود الفعل وحال وجود الفعل يمتنع أن يكون مريدا للترك مع الفعل وأن يكون قادرا على وجود الترك مع الفعل بل قدرته على الفعل بمعنى أنه يكون بعد الفعل تاركا له فيكون قادرا على الترك في الزمن الثاني من وجود الفعل لا حال وجود الفعل وإذا قال القائل هذا يقتضي أن يكون الفعل واجبا لا ممكنا فإن أراد به أنه يصير واجبا بغيره بعد كونه ممكنا في نفسه فهذا حق كما أنه يصير موجودا بعد أن كان معدوما وفي حال وجوده يمتنع أن يكون معدوما وكل ما خلقه الله تعالى فهو بهذه المثابة فإنه ما شاء كان فوجب وجوده بمشيئة الله وقدرته وما لم يشأ لم يكن فيمتنع وجوده لعدم مشيئة الله له مع أن ما شاءه مخلوق محدث مفعول له وكان قبل أن يخلقه يمكن أن يوجد ويمكن أن لا يوجد فأما بعد أن صار موجودا بمشيئة الله وقدرته فلا يمكن أن يكون معدوما مع كونه موجودا وإنما يمكن أن يعدم بعد وجوده وليس في الأشياء ما يمكن وجوده وعدمه معا في حال واحدة بل يمكن وجوده بدلا عن عدمه وعدمه بدل عن وجوده

3

254

فإذا وجد كان وجوده مادام موجودا واجبا بغيره وإذا سمى ممكنا بمعنى أنه مخلوق ومفعول وحادث فهو صحيح لا بمعنى أنه في حال وجوده يمكن عدمه مع وجوده فإنه إذا أريد أنه حال وجوده يمكن عدمه مع وجوده فهذا باطل فإنه جمع بين النقيضين وإن أراد أنه يمكن عدمه بعد هذا الوجود فهو صحيح ولكن هذا لا يناقض وجوب وجوده بغيره مادام موجودا وهذا موجود بالقادر لا بنفسه وهو ممكن في هذه الحال بمعنى أنه محدث مخلوق مفتقر إلى الله تعالى لا بمعنى كونه يمكن أن يكون معدوما حال وجوده ومن فهم هذا انحلت عنه إشكالات كثيرة أشكلت على كثير من الناس في مسائل القدر بل وفي إثبات كون الرب قادرا مختارا ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن والقدر يتعلق بقدرة الله تعالى ولهذا قال الإمام أحمد القدر قدرة الله تعالى يشير إلى أن من أنكر القدر فقد أنكر قدرة الله تعالى وأنه يتضمن إثبات قدرة الله تعالى على كل شيء ولهذا جعل الأشعري وغيره أخص وصف الرب تبارك وتعالى قدرته علىالاختراع

3

255

وأيضا فقول القائل القادر هو الذي إن شاء فعل وإن شاء ترك بمعنى أنه قبل الفعل والترك إن شاء وجود الفعل في الزمن الثاني وإن شاء الترك فيه وهذا التخيير بينهما إنما يكون عند عدمهما جميعا فأما حال الفعل فيمتنع الترك وحال الترك فيمتنع الفعل وحينئذ فالفعل واجب حال وجوده لا في الحال التي يكون مخيرا فيها بين الفعل والترك فحال التخيير لم يكن واجبا وحال وجوبه لم يكن مخيرا نعم قد يكون حال الفعل شائيا للترك بعد الفعل وهذا ترك ثان ليس هو ترك ذلك الفعل في حال وجوده فالقادر قط لا يكون مخيرا بين الشيئين في حال وجود أحدهما إلا بمعنى التخيير في الزمن الثاني وإلا ففي حال وجود أحدهما لا يكون مخيرا بين وجوده وعدمه مع وجوده وحالما يكون الفاعل فاعلا يمتنع أن يكون تاركا فيمتنع أن يكون هذا الترك مقدورا له لأن الممتنع لا يكون مقدورا والقدرة على الضدين قدرة على كل واحد منهما على سبيل البدل ليست قدرة على جمعهما وهذا كما يقال إنه قادر على تسويد الثوب وتبييضه ويسافر إلى الشرق والغرب ويذهب يمينا وشمالا وقادر على أن يتزوج هذه الأخت وهذه الأخت

3

256

فصل قال الرافضي وأما المنقول فالقرآن مملوء من استناد أفعال البشر إليهم كقوله تعالى وإبراهيم الذي وفى سورة النجم فويل للذين كفروا سورة مريم ولا تزر وازرة وزر أخرى سورة الأنعام ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون سورة النحل اليوم تجزى كل نفس بما كسبت سورة غافر اليوم تجزون ما كنتم تعملون سورة الجاثية لتجزى كل نفس بما تسعى سورة طه هل تجزون إلا ما كنتم تعملون سورة النمل من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها سورة الأنعام ليوفيهم أجورهم سورة فاطر لها ما كسبت وعليها ما

3

257

اكتسبت فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات سورة النساء كل امرىء بما كسب رهين سورة الطور من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها سورة فصلت ذلك بما قدمت يداك سورة الحج وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم سورة الشورى إلخ فيقال الجواب من وجوه أحدها أن يقال كل هذا حق وجمهور أهل السنة قائلون بذلك وهم قائلون إن العبد فاعل لفعله حقيقة لا مجازا وإنما نازع في ذلك طائفة من متكلمة أهل الاثبات كالأشعري ومن اتبعه الثاني أن يقال والقرآن مملوء بما يدل على أن أفعال العباد حادثة بمشيئة الله وقدرته وخلقه فيجب الإيمان بكل ما في القرآن ولا يجوز أن نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض

3

258

قال الله تعالى ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد سورة البقرة وقال تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء سورة الأنعام وقال تعالى ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون سورة الأنعام وقال تعالى ولا تقولن لشيء إني فاعل غدا إلا أن يشاء الله سورة الكهف وأجمع علماء المسلمين على أن الرجل لو قال لأصلين الظهر غدا إن شاء الله أو لأقضين الدين الذي علي وصاحبه مطالبه أو لأردن هذه الوديعة ونحو ذلك ثم لم يفعله أنه لا يحنث في يمينه ولو كانت المشيئة بمعنى الأمر لحنث وقال عن إبراهيم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا سورة البقرة وقال تعالى يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا سورة البقرة وقال تعالى واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه سورة الأنفال

3

259

وقال تعالى إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون سورة يس وقال تعالى وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا سورة الأنبياء وقال تعالى وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا سورة الأنبياء وقال عن بني إسرائيل وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بأياتنا يوقنون سورة السجدة وقال عن آل فرعون وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون سورة القصص وقال عن الخليل صلى الله عليه وسلم رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء سورة إبراهيم وقال ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وقال تعالى وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون سورة يسن والفلك من مصنوعات بني آدم وهذا مثل قوله تعالى والله خلقكم وما تعملون سورة الصافات

3

260

فإن طائفة المثبتة للقدر قالوا إن ما هاهنا مصدرية وأن المراد خلقكم وخلق أعمالكم وهذا ضعيف جدا والصواب أن ما هاهنا بمعنى الذي وأن المراد والله خلقكم والأصنام التي تعملونها كما في حديث حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله خلق كل صانع وصنعته وأنه قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون سورة الصافات فذمهم وأنكر عليهم عبادة ما ينحتونه من الأصنام ثم ذكر أن الله خلق العابد والمعبود والمنحوت وهو سبحانه الذي يستحق أن يعبد ولو أريد والله خلقكم

3

261

وأعمالكم كلها لم يكن هذا مناسبا فإنه قد ذمهم على العبادة وهي من أعمالهم فلم يكن في ذكر كونه خالقا لأعمالهم ما يناسب الذم بل هو إلى العذر أقرب ولكن هذه الآية تدل على أنه خالق لأعمال العباد من وجه آخر وهو أنه إذا خلق المعمول الذي عملوه وهو الصنم المنحوت فقد خلق التأليف القائم به وذلك مسبب من عمل ابن آدم وخالق المسبب خالق السبب بطريق الأولى وصار هذا كقوله وخلقنا لهم من مثله ما يركبون سورة يس ومعلوم أن السفن إنما ينجر خشبها ويركبها بنو آدم فالفلك معمولة لهم كما هي الأصنام معمولة لهم وكذلك سائر ما يصنعونه من الثياب والأطعمة والأبنية فإذا كان الله قد أخبر أنه خلق الفلك المشحون وجعل ذلك من آياته ومما أنعم الله به على عباده علم أنه خالق أفعالهم وعلى قول القدرية لم يخلق إلا الخشب الذي يصلح أن يكون سفنا وغير سفن ومعلوم أن مجرد خلق المادة لا يوجب خلق الصورة التي حصلت بأفعال بني آدم إن لم يكن خالقا للصورة

3

262

ومثل هذا قوله تعالى الله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم سورة النحل النحل إلى قوله والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون ومعلوم أن خلق البيوت المبنية والسرابيل المصنوعة هو كخلق السفن المنجورة وقد أخبر الله أن الفلك صنعة بني آدم مع إخباره أنه خلقها كما قال تعالى عن نوح عليه السلام ويصنع الفلك وأيضا ففي القرآن من ذكر تفصيل أفعال العباد التي بقلوبهم وجوارحهم وأنه هو تبارك وتعالى يحدث من ذلك ما يطول وصفه كقوله تعالى فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة سورة الأعراف وقوله تعالى فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه سورة البقرة وقوله ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون سورة الحجرات ومعلوم أنه لم يرد بذلك الهداية المشتركة بين المؤمن والكافر مثل إرسال الرسل والتمكين من الفعل وإزاحة العلل بل أراد ما يختص به المؤمن

3

263

كما دل عليه القرآن في مثل قوله تعالى واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم سورة الأنعام وقوله وآتيناهما الكتاب المستبين وهديناهما الصراط المستقيم سورة الصافات ومنه قولنا في الصلاة اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين سورة الفاتحة فإن الهداية المشتركة حاصلة لا تحتاج أن تسأل وإنما تسأل الهداية التي خص بها المهتدين ومن تأول ذلك بمعنى زيادة الهدى والتثبيت وقال كان ذلك جزاء كان متناقضا فإنه يقال هذا المطلوب إن لم يكن حاصلا باختيار العبد لم يثب عليه فإنه إنما يثاب على ما فعله باختياره وإن كان باختيارة فقد ثبت أن الله يحدث الفعل الذي يختاره العبد وهذا مذهب أهل السنة وكذلك ما أخبر الله في القرآن من إضلال وهدى ونحو ذلك فإنهم قد يتأولون ذلك بأنه جزاء على ما تقدم وعامة تأويلاتهم مما يعلم بالاضطرار أن الله ورسوله لم يردها بكلامه مع أن هذا الاجزاء مما يثاب الفاعل عليه وإن جوزوا أن الله يثيب العبد على ما ينعم به على العبد

3

264

من فعله الاختياري جاز أن ينعم عليه ابتداء باختياره الطاعة وإن لم يجز عندهم الثواب والعقاب على ما يجعل العبد فاعلا له بطل أن يريد هدى أو ضلالة يثاب عليها أو يعاقب عليها وامتنع أن يكون ما أخبر أنه فعله من جعل الأغلال في أعناقهم وجعله من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا ونحو ذلك هو مما يعاقبون عليه وقد قال تعالى إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل سورة النحل فأخبر أنه من أضله اللهلا يهتدي وفي الجملة ففي القرآن من الآيات المبينة أن الله خالق أفعال العباد وأنه هو الذي يقلب قلوب العباد فيهدي من يشاء ويضل من يشاء وأنه هو المنعم بالهدى على من أنعم عليه ما يتعذر استقصاؤه في هذه المواضع وكذلك فيه ما يبين عموم خلقه لكل شيء كقوله الله خالق كل شيء سورة الرعد وغير ذلك وفيه ما يبين أنه فعال لما يريد وفيه ما يبين أنه لو شاء لهدى الناس جميعا وأمثال ذلك مما يطول وصفه وإذا قيل هذه متأولة عند القدرية لأنها من المتشابه عندهم

3

265

كان الجواب من وجهين أحدهما أن هذا مقابل بتأويلات الجبرية لما احتجوا به وبقولهم هذا متشابه وهو لم يذكر إلا مجرد النصوص فذكرنا النصوص من الطرفين الثاني أن نبين فساد تأويلاتهم واحدا واحدا كما بسط في موضع آخر وفي تأويلاتهم من تحريف الكلم عن مواضعه ومخالفة اللغة وتناقض المعاني ومخالفة إجماع سلف الأمة وأئمتها ما يبين بعضه بطلان تحريفاتهم ويبين أنه ليس في القرآن محكم يناقض هذا حتى يقال إن هذا متشابه وذلك محكم بل القرآن يصدق بعضه بعضا ومن فتح هذا الباب من أهل البدع لم يكن له ثبات فإن خصمه يفعل كما يفعل فلا يبقى في يده حجة سليمة عن المعارضة بمثلها كيف وعامة تأويلاتهم مما يعلم بالاضطرار أن الله ورسوله لم يردها بكلامه فصل قال الرافضي قال الخصم القادر يمتنع أن يرجح مقدوره من غير مرجح ومع الترجيح يجب الفعل فلا قدرة

3

266

ولأنه يلزم أن يكون الإنسان شريكا لله ولقوله تعالى والله خلقكم وما تعملون سورة الصافات قال والجواب عن الأول المعارضة بالله تعالى فإنه تعالى قادر فإن افتقرت القدرة إلى المرجح وكان المرجح موجبا للأثر لزم أن يكون الله موجبا لا مختارا فيلزم الكفر والجواب عن الثاني أي شركة هنا والله هو القادر على قهر العبد وإعدامه ومثل هذا أن السلطان إذا ولى شخصا بعض البلاد فنهب وظلم وقهر فإن السلطان متمكن من قتله والانتقام منه واستعادة ما أخذه وليس يكون شريكا للسلطان والجواب عن الثالث أنه إشارة إلى الأصنام التي كانوا ينحتونها ويعبدونها فأنكر عليهم وقال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون سورة الصافات

3

267

فيقال لم يذكر من أدلة أهل الإثبات إلا شيئا يسيرا ولم يذكر تقرير أدلتهم على وجهها ومع هذا فالأدلة الثلاثة التي ذكرها لهم ليس عنها جواب صحيح أما الأول فإن المستدل بذلك الدليل لا يقول إنه إذا وجب الفعل فلا قدرة فإن أهل الإثبات يقولون إن العبد له قدرة وهذا مذهب عامة أهل السنة حتى غلاة المثبتين للقدر كالأشعرية فإنهم متفقون على أن العبد له قدرة وهذ الدليل المذكور قد احتج به أبو عبدالله الرازي وغيره وهو يصرح بأنه يقول بالجبر ومع هذا فإنه يقول إن للعبد قدرة وإن كانوا متنازعين هل هي مؤثرة في مقدورها أو في بعض صفاته أو لا تأثير لها قال أبو الحسين البصري وغيره من المعتزلة إن الفعل لا يكفي فيه مجرد القدرة بل يتوقف على الداعي فيقولون إن القادر المختار لا

3

268

يرجح بمجرد القدرة بل بداع يقرن مع القدرة كما يقول ذلك أكثر المثبتين للقدر فإنهم يقولون إن الرب تعالى لا يرجح بمجرد القدرة بل بإرادة مع القدرة وكذلك يقول كثير منهم في حق العبد لا يرجح بمجرد القدرة بل بداع مع القدرة وقد قال هذا كثير من أصحاب الأئمة الأربعة وقاله من أصحاب أحمد القاضي أبو خازم بن القاضي أبي يعلى وقد تقدم أن القول الوسط في ذلك أن لها تأثيرا من جنس تأثير الأسباب في مسبباتها ليس لها تأثير الخلق والإبداع ولا وجودها كعدمها وتوجيه هذا الدليل أن القادر يمتنع أن يرجح أحد مقدوريه إلا بمرجح وذلك أنه إذا كان الفعل والترك نسبتهما إلى القادر سواء كان ترجيح أحدهما على الآخر ترجيحا لأحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح وهذا ممتنع في بدائه العقول وهذا مبسوط في موضع آخر وتبين فيه خطأ من زعم أن القادر

3

269

يرجح أحد المقدورين المتماثلين بلا مرجح وذلك المرجح لا يكون من العبد لأن القول فيه كالقول في فعل العبد فإن كان المرجح له قدرة العبد فالقادر لا يرجح إلا بمرجح فلا بد أن يكون المرجح من الله وعند وجود المرجح يجب وجود الفعل وإلا لم يكن مرجحا تاما فإنه إذا كان بعد وجود المرجح يجوز وجود الفعل وعدمه كما كان قبل المرجح كان ممكنا والممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح فلا بد من مرجح تام يجب عنده وجود الفعل وإذا كان العبد لا يحصل فعله إلا بمرجح من الله تعالى وعند وجود ذلك المرجح يجب وجود الفعل كان فعله كسائر الحوادث التي تحدث بأسباب يخلقها الله تعالى يجب وجود الحادث عندها وهذا معنى كون الرب تبارك وتعالى خالقا لفعل العبد ومعنى ذلك أن الله تعالى يخلق في العبد القدرة التامة والإرادة الجازمة وعند وجودهما يجب وجود الفعل لأن هذا سبب تام للفعل فإذا وجد السبب التام وجب وجود المسبب

3

270

والله هو الخالق للمسبب أيضا كما أنه إذا خلق النار في الثوب فإنه لا بد من وجود الحريق عقيب ذلك والكل مخلوق لله تعالى وأما معارضة ذلك بفعل الله تعالى فالجواب عن ذلك من وجوه أحدها أن هذا برهان عقلي يقيني واليقينيات لا يمكن أن يكون لها معارض يبطلها وقدر أن المحتج بهذا من يقول بالموجب بالذات فهذا لا ينقطع بما ذكرته لا سيما وعندهم هذه المسألة من العقليات التي تعلم بدون السمع فلا بد فيها من جواب عقلي الثاني أن يقال قدرة الرب لا يفعل بها إلا مع وجود مشيئته فإن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وليس كل ما كان قادرا عليه فعله قال تعالى بلى قادرين على أن نسوي بنانه سورة القيامة وقال تعالى قل هوالقادر علىأن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض سورة الأنعام وقد ثبت في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه أنه لما نزلت هذه الآية قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم قال

3

271

النبي صلى الله عليه وسلم أعوذ بوجهك أو من تحت أرجلكم قال أعوذ بوجهك أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض قال هاتان أهون وقال تعالى ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا سورة يونس وقد قال تعالى ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة سورة هود وقال ولو شاء الله ما اقتتلوا سورة البقرة ومثل هذا متعدد في القرآن وإذا كان لو شاءه لفعله دل على أنه قادر عليه فإنه لا يمكن فعل غير المقدور وإذا كان كذلك علم أن الفعل لو وجد بمجرد كونه قادرا لوقع كل مقدور بل لا بد مع القدرة من الإرادة وحينئذ قول القائل فقدرة الرب تفتقر إلى مرجح لكن المرجح هو إرادة الله تعالى وإرادة الله لا يجوز أن تكون من غيره بخلاف إرادة العبد وإذا كان المرجح إرادة الله كان فاعلا باختياره لا موجبا بذاته بدون اختياره وحينئذ فلا يلزم الكفر الثالث أن يقال ما تعني بقولك يلزم أن يكون الله موجبا بذاته أتعني به ان يكون موجبا للأثر بلا قدرة ولا إرادة أو تعني

3

272

به أن يكون الأثر واجبا عند وجود المرجح الذي هو الإرادة مثلا مع القدرة فإذا عنيت الأول لم يسلم التلازم فإن الفرض أنه قادر وأنه مرجح بمرجح فهنا شيئان قدرة وأمر آخر وقد فسرنا ذلك بالإرادة فكيف يقال إنه مرجح بلا قدرة ولا إرادة وإن أردت أنه يجب وجود الأثر إذا حصلت الإرادة مع القدرة فهذا حق وهذا مذهب المسلمين وإن سمى مسم هذا موجبا بالذات كان نزاعا لفظيا والمسلمون يقولون ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فما شاء الله وجوده وجب وجوده بمشيئته وقدرته وما لم يشأ وجوده امتنع وجوده لعدم مشيئته وقدرته فالأول واجب بالمشيئة والثاني ممتنع لعدم المشيئة وأما ما يقوله القدرية من أن الله يشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء فهذا الذي أنكره أهل السنة والجماعة عليهم والرابع أن يقال له إنه هو سبحانه قادر فإذا أراد حدوث مقدور فإما أن يجب وجوده وإما أن لا يجب فإن وجب حصل

3

273

المطلوب وتبين وجوب الأثر عند المرجح سواء سميت هذا موجبا بالذات أو لم تسمه وإن لم يجب وجوده كان وجوده ممكنا قابلا للوجود والعدم فوجوده دون عدمه ممكن فلا بد له من مرجح وهكذا هلم جرا كل ما قدر قابلا للوجود ولم يجب وجوده كان وجوده ممكنا محتملا للوجود والعدم فلا يوجد حتى يحصل المرجح التام الموجب بالذات لوجوده فتبين أن كل ما وجد فقد وجب وجوده بمشيئة الله وقدرته وهوالمطلوب وهذا قول طائفة من المعتزلة كأبي الحسين البصري وغيره وطائفة من القدرية في هذا الباب يقولون عند وجود المرجح صار الفعل أولى به ولا تنتهي الأولوية إلى حد الوجوب كما يقول ذلك محمود الخوارزمي الزمخشري ونحوه

3

274

وهو باطل فإنه إذا لم ينته إلى حد الوجوب كان ممكنا فيحتاج إلى مرجح فما ثم إلا واجب أو ممكن والممكن يقبل الوجود والعدم وطائفة ثالثة من القدرية والجهمية ومن اتبعهم من أصحاب أبي الحسين وغيرهم من المتكلمين وطوائف من أصحاب الأئمة الأربعة والشيعة وغيرهم يقولون القادر يرجح بلا مرجح فيجلعون الإرادة حادثة بلا مرجح لحدوثها ويجعلون إرادة الله حادثة لا في محل ويجعلون الفعل معها ممكنا لا واجبا وهذا من أصولهم التي اضطربوا فيها في مسألة فعل الله وحدوث العالم وفي مسألة فعل العبد والقدر الوجه الخامس أن يقال لفظ الموجب بالذات لفظ فيه إجمال فإن عني به ما يعنيه الفلاسفة من أنه علة تامة مستلزمة للعالم فهذا باطل لأن العلة التامة تستلزم معلولها ولو كان العالم معلولا لازما لعلة أزلية لم يكن فيه حوادث فإن الحوادث لا تحدث عن علة تامة أزلية وهذا خلاف المحسوس

3

275

وسواء إن تلك العلة التامة ذات مجردة عن الصفات كما يقوله نفاة الصفات من المتفلسفة كابن سينا وأمثاله أو قيل إنه ذات موصوفة بالصفات لكنها مستلزمة لمعلولها فإنه باطل أيضا وإن فسر الموجب بالذات بأنه يوجب بمشيئته وقدرته كل واحد واحد من المخلوقات في الوقت الذي أحدثه فيه فهذا دين المسلمين وغيرهم من أهل الملل ومذهب أهل السنة فإذا قالوا إنه بمشيئته وقدرته يوجب أفعال العباد وغيرها من الحوادث فهو موافق لهذا المعنى لا للمعنى الذي قالته الدهرية الوجه السادس أن يقال ما ذكرته أنت من الحجة العقلية وهو استناد أفعالنا الاختيارية إلينا ووقوعها بحسب اختيارنا معارض بما ليس من أفعالنا مثل الألوان فإن الإنسان يحصل اللون الذي يريد حصوله في الثوب بحسب اختياره وهو مستند إلى طبيعته وصنعته ومع هذا فليس اللون مفعولا له

3

276

وأيضا فما ينبت من الزرع والشجر قد يحصل بحسب اختياره وهو مستند إلى ازراعه وليس الإنبات من فعله فليس كل ما استند إلى العبد ووقع بحسب اختياره كان مفعولا له وهذه المعارضة أصح من تلك فإنها معارضة عقلية بنفس ألفاظ الدليل وتلك ليست معارضة عقلية ولا هي بنفس ألفاظ الدليل الوجه السابع أن يقال هذا الإمامي وأمثاله متناقضون فإنه قد ذكر في غير هذا الموضع أنه مع الداعي والقدرة يجب الفعل وهنا قال إنه مع الداعي والقدرة لا يجب الفعل فعلم أن القوم يتكلمون بحسب ما يرونه ناصرا لقولهم لا يعتمدون على حق يعلمونه ولا يعرفون حقا يقصدون نصره فصل وأما قوله أي شركة هنا فيقال إذا كانت الحوادث حادثة بغير فعل الله ولا قدرته فهذه

3

277

مشاركة لله صريحة ولهذا شبه هؤلاء بالمجوس الذين يجعلون فاعل الشر غير فاعل الخير فيجعلون لله شريكا آخر وما ذكره من التمثيل بالسلطان يقرر المشاركة فإن نواب السلطان شركاء له في ملكه وهو محتاج إليهم ليس هو خالقهم ولا ربهم بل ولا خالق قدرتهم بل هم معاونون له على تدبير الملك بأمور خارجة عن قدرته ولولا ذلك لكان عاجزا عن الملك فمن جعل أفعال العباد مع الله بمنزلة أفعال نواب السلطان معه فهذا صريح الشرك الذي لم يكن يرتضيه عباد الأصنام لأنه شرك في الربوبية لا في الألوهية فإن عباد الأصنام كانوا يعترفون بأنها مملوكة لله فيقولون لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه ملك وهؤلاء يجعلون ما يملكه العبد من أفعاله ملكا لله

3

278

ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما الإيمان بالقدر نظام التوحيد فمن وحد الله وآمن بالقدر تم توحيده ومن وحد الله وكذب بالقدر نقص تكذيبه توحيده وقول القدرية يتضمن الإشراك والتعطيل فإنه يتضمن إخراج بعض الحوادث عن أن يكون لها فاعل ويتضمن إثبات فاعل مستقل غير الله وهاتان شعبتان من شعب الكفر فإن أصل كل كفر التعطيل أو الشرك وبيان ذلك أنهم يقولون إن الإنسان صار مريدا فاعلا بإرادته بعد أن لم يكن كذلك بدون محدث أحدث ذلك فإنه لم يكن مريدا للفعل ولا فاعلا له ثم صار مريدا للفعل فاعلا له وهذا الأمر حادث بعد أن لم يكن وهو عندهم حادث بلا إحداث أحد وهذا أصل التعطيل فمن جوز أن يحدث حادث بلا إحداث أحد وأن يترجح وجود الممكن على عدمه بلا مرجح وأن يتخصص أحد المتماثلين بلا مخصص كان هذا تعطيلا لجنس الحوادث والممكنات

3

279

أن يكون لها فاعل والله فاعلها بلا شك فهو تعطيل له أن يكون خالقا لمخلوقاته وأما الشرك فلأنهم يقولون العبد مستقل بإحداث هذا الفعل من غير أن يكون الله جعله محدثا له كأعوان الملوك الذين يفعلون أفعالا بدون أن يكون الملوك جعلتهم فاعلين لها وهذا إثبات شركاء مع الله يخلقون كبعض مخلوقاته وهذان المحذوران التعطيل والإشراك في الربوبية لازمان لكل من أثبت فاعلا مستقلا غير الله كالفلاسفة الذين يقولون إن الفلك يتحرك حركة اختيارية بسببها تحدث الحوادث من غير أن يكون قد حدث من جهة الله ما يوجب حركته ولا كان فوقه متجدد يقتضي حركته وذلك لأن حركة الفلك حينئذ باختياره تكون كحركة الإنسان باختياره فيقال مصير الفلك متحركا باختياره وقدرته أمر ممكن لا واجب بنفسه فلا بد له من مرجح تام وما من وقت إلا وهو يتحرك فيه

3

280

باختياره وقدرته فلا بد لكونه متحركا من أمر أوجب ذلك وإلا لزم حدوث الحوادث بلا محدث فإن قيل الموجب بذاته هو المرجح أو الفاعل سواء كان بواسطة أو بلا واسطة وهي ما صدر عنه من العقل أو العقول قيل هذا باطل لأن الموجب بذاته على حال واحدة عندهم من الأزل إلى الأبد فيمتنع أن يصدر عنه حادث بعد أن لم يكن ذلك الحادث صادرا عنه وكل جزء من أجزاء الحركة حادث بعد أن لم يكن فيمتنع أن يكون ذلك الحادث ثابتا في الأزل فامتنع أن يكون فاعله علة تامة في الأزل فعلم امتناع صدور هذه الحوادث عن علة تامة في الأزل وأيضا فمرجح الحوادث إن كان مرجحا تاما في الأزل لزمه المفعول ولم يحدث عنه بعد ذلك شيء وإن لم يكن مرجحا تاما في الأزل فقد صار مرجحا بعد أن لم يكن ويمتنع أن يكون غيره جعله مرجحا فيكون المرجح له ما يقوم به من إرادته ونحو ذلك وتلك الأمور لم تكن

3

281

مرجحا تاما في الأزل وإلا لبطلت الحوادث فامتنع أن يكون صدر عن المرجح في الأزل شيء مقارن له فامتنع قدم الفلك وأيضا صار مرجحا لما يرجحه بعد أن لم يكن كذلك فوجب إضافة الحوادث إليه لوجوب إضافة الحوادث إلى المرجح التام فثبت أن فوق الأفلاك مؤثرا يتجدد تأثيره وهو المطلوب وهؤلاء إذا لم يثبتوا ذلك كانوا معطلين لحركة الفلك والحوادث أن يكون لها فاعل وهذا التعطيل أعظم من تعطيل أفعال العباد أن يكون لها محدث وأيضا فقد جعلوا الفلك يفعل بطريق الاستقلال كما جعلت القدرية الحيوان يفعل بطريق الاستقلال من غير أن يخلق الله له عند كل حركة قدرة مقارنة للحركة لأن الفلك عندهم تحدث عنه الثانية بعد الأولى فشرط الثانية انقضاء الأولى كالذي يقطع مسافة شيئا بعد شيء ولكن ذاك الذي يقطع المسافة إنما قطع الثانية بقدرة وإرادة قامت به وحركات قطع بها الثانية فالفاعل تجددد له من الإرادة والقوة ما قطع به المسافة الثانية فكان يجب أن يتجدد للفلك في كل وقت من

3

282

الإرادة والقدرة ما يتحرك به لكن المجدد له ذلك لا بد أن يكون غيره لأنه ممكن لا واجب فالحوادث فيه لا يجوز أن تكون منه لأنه إن أحدث الثاني بعد الأول لزم أن يكون المؤثر التام موجودا عند الثاني وإن كان حصل له كمال التأثير في الثاني بعد انقضاء الأول فلا بد لذلك الكمال من فاعل وهؤلاء يجوزون أن يكون فاعله ما تقدم فوجب أن يكون له في كل حال من الأحوال فاعل يحدث ما به يتحرك وهذا بخلاف الواجب بنفسه فإن ما يقوم به من الأفعال لا يجوز أن يصدر عن غيره وشرك هؤلاء المتفلسفة وتعطيلهم أعظم بكثير من شرك القدرية وتعطيلهم فإن هؤلاء يجعلون الفلك هوالمحدث للحوادث التي في الأرض كلها فلم يجعلوا لله شيئا أحدثه بخلاف القدرية فإنهم أخرجوا عن إحداثه أفعال الحيوان وما تولد عنها فقد لزمهم التعطيل من إثبات حوادث بلا محدث وتعطيل الرب عن إحداث شيء من الحوادث وإثبات شريك فعل جميع الحوادث

3

283

ومن العجب أنهم ينكرون علىالقدرية وغيرهم قولهم إن الرب ما زال عاطلا عن الفعل حتى أحدث العالم وهم يقولون ما زال ولا يزال معطلا عن الإحداث بل عن الفعل فإن ما لزم الذات فهو من باب الصفات بمنزلة لون الإنسان وطوله فإنه ذاته كالعقل والفلك ليس هو في الحقيقة فعلا له إذ الفعل لا يفعل إلا شيئا بعد شيء فأما ما لزم يمتنع أن يكون فعلا له بخلاف حركاته فإنها فعل له وإن قدر أنه لم يزل متحركا كما يقال في نفس الإنسان إنها لم تزل تتحول من حال إلى حال وإن القلب أشد تقلبا من القدر إذا استجمعت غليانا فكون الفاعل الذي هو في نفسه يقوم به فعله يحدث شيئا بعد شيء معقول بخلاف ما لزمه لازم يقارنه في الأزل فهذا لا يعقل أن يكون مفعولا له فتبين أنهم في الحقيقة لا يثبتون للرب فعلا أصلا فهم معطلة حقا

3

284

وأرسطو وأتباعه إنما أثبتوا العلة الأولى من جهة كونها علة غائية كحركة الفلك فإن حركة الفلك عندهم بالاختيار كحركة الإنسان والحركة الاختيارية لا بد لها من مراد فيكون هو مطلوبها ومعنى ذلك عندهم أن الفلك يتحرك للتشبه بالعلة الأولى كحركة المؤتم بإمامه والمقتدي بقدوته وهذا معنى تشبيهه بحركة المعشوق للعاشق ليس المعنى أن ذات الله محركة للفلك إنما مرادهم أن مراد الفلك أن يكون مثله بحسب الإمكان وهذا باطل من وجوه لبسطها موضع آخر فقالوا إن العلة الأولى وهي التي يتحرك الفلك لأجلها علة له تحركه كما تحرك العاشق للمعشوق بمنزلة الرجل الذي اشتهى طعاما فمد يده أحيه او رآى من يحبه فسعى إليه فذاك المحبوب هوالمحرك لكون المتحرك إليه لا لكونه أبدع الحركة ولا فعلها

3

285

وحينئذ فلا يكون قد أثبتوا لحركة الفلك محدثا أحدثها غير الفلك كما لم تثبت القدرية لأفعال الحيوان محدثا أحدثها غير الحيوان ولهذا كان الفلك عندهم حيوانا كبيرا بل يقولون إن الفلك يتحرك للتشبه بالعلة الأولى لأن العلة الأولى معبودة له محبوبة له ولهذا قالوا إن الفلسفة هي التشبه بالإله على حسب الطاقة ففي الحقيقة ليس عندهم الرب إلا إلها للعالم ولا ربا للعالمين بل غاية ما يثبتونه أنه يكون شرطا في وجود العالم وأن كمال المخلوق في أن يكون متشبها به فهذا هو الألوهية عندهم وذلك هوالربوبية ولهذا كان قولهم شرا من قول اليهود والنصارى وهم أبعد عن المعقول والمنقول منهم كما قد بسط في غير هذا الموضع

3

286

فتبين أن هؤلاء المتفلسفة قدرية في جميع حوادث العالم وأنهم من أضل بني آدم ولهذا يضيفون الحوادث إلى الطبائع التي في الأجسام فإنها بمنزلة القوى التي في الحيوان فيجعلون كل محدث فاعلا مستقلا كالحيوان عند القدرية ولا يثبتون محدثا للحوادث وحقيقة قول القوم الجحود لكون الله رب العالمين فلا يثبتون أن يكون الله رب العالمين بل غايتهم أن يجعلوه شرطا في وجود العالم وفي التحقيق هم معطلة لكون الله رب العالمين كقول من قال أن الفلك واجب الوجود بنفسه منهم لكن هؤلاء أثبتوا علة إما غائية عند قدمائهم وإما فاعلية عند متأخريهم وعند التحقيق لا حقيقة لما أثبتوه ولهذا أنكره الطبائعيون منهم وإذا قدر أن الفلك يتحرك باختياره من غير أن يكون الله خالقا لحركته فلا دليل على أن المحرك له علة معشوقة يتشبه بها بل يجوز

3

287

أن يكون المتحرك هو المحرك كما قد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع وتبين الكلام على بطلان ما ذكره أرسطو في العلم الإلهي من وجوه متعددة وأن هؤلاء من أجهل الناس بالله عز وجل من دخل في أهل الملل منهم كالمنتسبين إلى الإسلام كالفارابي وابن سينا ونحوهما من ملاحدة المسلمين وموسى بن ميمون ونحوه من ملاحدة اليهود ومتى ويحيى بن عدي ونحوهما من ملاحدة النصارى فهم مع كونهم من ملاحدة أهل الملل فهم أصح عقلا ونظرا في العلم الإلهي من المشائين كأرسطو وأتباعه وإن كان لأولئك من تفصيل الأمور الطبيعية والرياضية أمور كثيرة سبقوا هؤلاء إليها فالمقصود هنا أن الأمور الإلهية أولئك أجهل بها وأضل فيها فإن هؤلاء حصل لهم نوع ما من نور أهل الملل وعقولهم وهداهم فصاروا به أقل ظلمة من أولئك ولهذا عدل ابن سينا عن طريقة سلفه في إثبات العلة الأولى وسلك الطريقة المعروفة له في تقسيم الوجود إلى واجب وممكن وأن الممكن مستلزم للواجب

3

288

وهذه الطريقة هي المعروفة له ولمن اتبعه كالسهروردي المقتول ونحوه من الفلاسفة وأبي حامد والرازي والآمدي وغيرهم من متأخري أهل الكلام الذين خلطوا الفلسفة بالكلام وهؤلاء المتكلمون المتأخرون الذين خلطوا الفلسفة بالكلام كثر اضطرابهم وشكوكهم وحيرتهم بحسب ما ازدادوا به من ظلمة هؤلاء المتفلسفة الذين خلطوا الفلسفة بالكلام فأولئك قلت ظلمتهم بما دخلوا فيه من كلام أهل الملل وهؤلاء كثرت ظلمتهم بما دخلوا فيه من كلام أولئك المتفلسفة هذا مع أن في المتكلمين من أهل الملل من الاضطراب والشك في أشياء والخروج عن الحق في مواضع واتباع الأهواء في مواضع والتقصير في الحق في مواضع ما ذمهم لأجله علماء الملة وأئمة الدين فإنهم قصروا في معرفة الأدلة العقلية التي ذكرها الله في كتابه فعدلوا

3

289

عنها إلى طرق أخرى مبتدعة فيها من الباطل ما لأجله خرجوا عن بعض الحق المشترك بينهم وبين غيرهم ودخلوا في بعض الباطل المبتدع وأخرجوا من التوحيد ما هو منه كتوحيد الإلهية وإثبات حقائق أسماء الله وصفاته ولم يعرفوا من التوحيد إلا توحيد الربوبية وهو الإقرار بأن الله خالق كل شيء وربه وهذا التوحيد كان يقر به المشركون الذين قال الله عنهم ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله سورة لقمان وقال تعالى قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون الله الآيات سورة المؤمنون وقال عنهم ومايؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون سورة يوسف قال طائفة من السلف يقول لهم من خلق السماوات والأرض فيقولون الله وهم مع هذا يعبدون غيره وإنما التوحيد الذي أمر الله به العباد هو توحيد الألوهية المتضمن

3

290

لتوحيد الربوبية بأن يعبد الله وحده لا يشركون به شيئا فيكون الدين كله لله ولا يخاف إلا الله ولا يدعى إلا الله ويكون الله أحب إلى العبد من كل شيء فيحبون لله ويبغضون لله ويعبدون الله ويتوكلون عليه والعبادة تجمع غاية الحب وغاية الذل فيحبون الله بأكمل محبة ويذلون له أكمل ذل ولا يعدلون به ولا يجعلون له أندادا ولا يتخذون من دونه أولياء ولا شفعاء كما قد بين القرآن هذا التوحيد في غير موضع وهو قطب رحى القرآن الذي يدور عليه القرآن وهو يتضمن التوحيد في العلم والقول والتوحيد في الإرادة والعمل فالأول كما في قوله تعالى قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد سورة الإخلاص ولهذا كانت هذه السورة تعدل ثلث القرآن لأنها صفة الرحمن والقرآن ثلثه توحيد وثلثه قصص وثلثه أمر ونهي لأنه كلام الله والكلام إما إنشاء وإما إخبار والإخبار إما عن الخالق وإما عن

3

291

المخلوق فصار ثلاثة أجزاء جزء أمر ونهي وإباحة وهو الإنشاء وجزء إخبار عن المخلوقين وجزء إخبار عن الخالق فقل هو الله أحد صفة الرحمن محضا وقد بسطنا الكلام على تحقيق قول النبي صلى الله عليه وسلم أنها تعدل ثلث القرآن في مجلد وفي تفسيرها في مجلد آخر وأما التوحيد في العبادة والإرادة والعمل فكما في سورة قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين

3

292

الكافرون فالتوحيد الأول يتضمن إثبات نعوت الكمال لله بإثبات أسمائه الحسنى وما تتضمنه من صفاته والثاني يتضمن إخلاص الدين له كما قال وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين سورة البينة فالأول براءة من التعطيل والثاني براءة من الشرك وأصل الشرك إما التعطيل مثل تعطيل فرعون موسى والذي حاج إبراهيم في ربه خصم إبراهيم والدجال مسيح الضلال خصم مسيح الهدى عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم وإما الإشراك وهو كثير في الامم أكثر من التعطيل وأهله خصوم جمهور الأنبياء وفي خصوم إبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم معطلة ومشركة لكن التعطيل المحض للذات قليل وأما الكثير فهو تعطيل صفات الكمال وهو مستلزم لتعطيل الذات فإنهم يصفون واجب الوجود بما يوجب أن يكون ممتنع الوجود

3

293

ثم إنه كل من كان إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين لهم بإحسان أقرب كان أقرب إلى كمال التوحيد والإيمان والعقل والعرفان وكل من كان عنهم أبعد كان عن ذلك أبعد فمتأخرو متكلمة الإثبات الذين خلطوا الكلام بالفلسفة كالرازي والآمدي ونحوهما هم دون أبي المعالي الجويني وأمثاله في تقرير التوحيد وإثبات صفات الكمال وأبو المعالي وأمثاله دون القاضي أبي بكر بن الطيب وأمثاله في ذلك وهؤلاء دون أبي الحسن والأشعري في ذلك والأشعري في ذلك دون أبي محمد بن كلاب وابن كلاب دون السلف والأئمة في ذلك ومتكلمة أهل الإثبات الذين يقرون بالقدر هم خير في التوحيد وإثبات صفات الكمال من القدرية من المعتزلة والشيعة وغيرهم لأن أهل الإثبات يثبتون لله كمال القدرة وكمال المشيئة وكمال الخلق وأنه منفرد

3

294

بذلك فيقولون إنه وحده خالق كل شيء من الأعيان والأعراض ولهذا جعلوا أخص صفة الرب القدرة على الاختراع والتحقيق أن القدرة على الاختراع من جملة خصائصه ليست هي وحدها أخص صفاته وأولئك يخرجون أفعال الحيوان عن أن تكون مخلوقة له وحقيقة قولهم تعطيل هذه الحوادث عن خالق لها وإثبات شركاء لله يفعلونها وكثير من متأخرة القدرية يقولون إن العباد خالقون لها ولم يكن سلفهم يجترئون على ذلك وأيضا فمتكلمة أهل الإثبات يثبتون لله صفات الكمال كالحياة والعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر وهؤلاء يثبتون ذلك لكن قصروا في بعض صفات الكمال وقصروا في التوحيد فظنوا أن كمال التوحيد هو توحيد الربوبية ولم يصعدوا إلى توحيد الإلهية الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب

3

295

وذلك أن كثيرا من كلامهم أخذوه من كلام المعتزلة والمعتزلة مقصرون في هذا الباب فإنهم لم يوفوا توحيد الربوبية حقه فكيف بتوحيد الإلهية ومع هذا فأئمة المعتزلة وشيوخهم وأئمة الأشعرية والكرامية ونحوهم خير في تقرير توحيد الربوبية من متفلسفة الأشعرية كالرازي والآمدي وأمثال هؤلاء فإن هؤلاء خلطوا ذلك بتوحيد الفلاسفة كابن سينا وأمثاله وهو أبعد الكلام عن التحقيق في التوحيد وإن كان خيرا من كلام قدمائهم أرسطو وذويه وذلك أن غايتهم أنهم أثبتوا واجب الوجود وهذا حق لم ينازع فيه لا معطل ولا مشرك بل الناس متفقون على إثبات وجود واجب اللهم إلا ما يحكى عن بعض الناس قال إن هذا العالم حدث بنفسه وكثير من الناس يقولون إن هذا لم تقله طائفة معروفة وإنما يقدر تقديرا كما تقدر الشبه السوفسطائية ليبحث عنها وهذا مما يخطر في قلوب

3

296

بعض الناس كما يخطر أمثاله من السفطسة لا أنه قول معروف لطائفة معروفة يذبون عنه فإن ظهور فساده أبين من أن يحتاج إلى دليل إذ حدوث الحوادث بلا محدث من أظهر الأمور امتناعا والعلم بذلك من أبين العلوم الضرورية ثم إنهم لما قرروا واجبا بذاته أرادوا أن يجعلوه واحدا وحده لا يوجد إلا في الأذهان لا في الأعيان وهو وجود مطلق بشرط الإطلاق ليس له حقيقة في الخارج لأن الوجود المطلق بشرط الإطلاق لا يوجد إلا في الأذهان لا في الأعيان أو مقيدا بالسلوب والإضافات كما يقوله ابن سينا وأتباعه وهذا أدخل في التعطيل من الأول وزعمو أن هذا هو محض التوحيد مضاهاة للمعتزلة الذين شاركوهم في نفي الصفات وسموا ذلك توحيدا فصاروا يتباهون في التعطيل الذي سموه توحيدا أيهم فيه أحذق حتى فروعهم تباهوا بذلك

3

297

كتباهيهم كابن سبعين وأمثاله من أتباع الفلاسفة وابن التومرت وأمثاله من أتباع الجهمية فهذا يقول بالوجود المطلق وهذا يقول بالوجود المطلق وأتباع كل منهما يباهون أتباع الآخرين في الحذق في هذا التعطيل كما قد اجتمع بي طوائف من هؤلاء وخاطبتهم في ذلك وصنفت لهم مصنفات في كشف أسرارهم ومعرفة توحيدهم وبيان فساده فإنهم يظنون أن الناس لا يفهمون كلامهم فقالوا لي إن لم تبين و تكشف لنا حقيقة هذا الكلام الذي قالوه ثم تبين فساده وإلا لم

3

298

نقبل ما يقال من رده فكشفت لهم حقائق مقاصدهم فاعترفوا بأن ذلك هو المراد ووافقهم على ذلك رؤوسهم ثم بينت ما في ذلك من الفساد والإلحاد حتى رجعوا وصاروا يصنفون في كشف باطل سلفهم الملحدين الذين كانوا عندهم أئمة التحقيق والتوحيد والعرفان واليقين وعمدة هؤلاء الفلاسفة في توحيدهم الذين هو تعطيل محض في الحقيقة حجتان إحداهما أنه لو كان واجبان لاشتركا في الوجوب وامتاز أحدهما عن الآخر بما يخصه وما به الاشتراك غير ما به الامتياز فيلزم أن يكون واجب الوجود مركبا والمركب مفتقر إلى أجزائه وأجزاؤه غيره والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بنفسه والثانية أنهما إذا اتفقا في الوجوب وامتاز كل منهما عن الآخر بما يخصه لزم أن يكون المشترك معلولا للمختص كما إذا اشترك اثنان في الإنسانية وامتاز كل منهما عن الآخر بشخصه فالمشترك معلول للمختص وهذا باطل هنا

3

299

وذلك لأن كلا من المشترك والمختص إن كان أحدهما عارضا للآخر لزم أن يكون الوجوب عارضا للواجب أو معروضا له وعلى التقديرين فلا يكون الوجوب صفة لازمة للواجب وهذا محال لأن الواجب لا يمكن أن يكون غير واجب وإن كان أحدهما لازما للآخر لم يجز أن يكون المشترك علة للمختص لأنه حيث وجدت العلة وجد المعلول فيلزم أنه حيث وجد المشترك وجد المختص والمشترك في هذا وهذا فيلزم أن يكون ما يختص بهذا في هذا وما يختص بهذا في هذا وهذا محال يرفع الاختصاص وهذا ملخص ما ذكره ابن سينا في إشاراته هو وشارحو الإشارات كالرازي والطوسي وغيرهما وهاتان الحجتان ملخص ما ذكره الفارابي والسهروردي وغيرهما من

3

300

الفلاسفة وقد ذكرهما بمعناهما أبو حامد الغزالي في تهافت الفلاسفة وقد أجاب عنهما الرازي والآمدي بمنع كون الوجوب صفة ثبوتية ونحو ذلك من الأجوبة التي نرضاها لكن الجواب من وجهين أحدهما المعارضة وذلك أن الوجود ينقسم إلى واجب وممكن وكل واحد من الوجودين يمتاز عن الآخر بخاصته فيلزم أن يكون الواجب مركبا مما به الاشتراك ومما به الامتياز وأيضا فيلزم أن يكون الوجود الواجب معلولا والمعارضة أيضا بالحقيقة فإن الحقيقة تنقسم إلى واجب وممكن والواجب يمتاز عن الممكن بما يخصه فيلزم أن تكون الحقيقة الواجبة مركبة من المشترك والمختص ويلزم أن تكون الحقيقة الواجبة معلولة والمعارضة بلفظ الماهية فإنها تنقسم إلى واجب وممكن إلى آخره والثاني حل الشبهة وذلك أن الشيئين الموجودين في الخارج سواء كانا واجبين أو ممكنين وسواء قدر التقسيم في موجودين أو جوهرين أو جسمين أو حيوانين أو إنسانين أو غير ذلك لم يشرك

3

301

أحدهما الآخر في الخارج في شيء من خصائصه لا في وجوبه ولا في وجوده ولا في ماهيته ولا غير ذلك وإنما شابهه في ذلك والمطلق الذي اشتركا فيه لا يكون كليا مشتركا فيه إلا في الذهن وهو في الخارج ليس بكلي عام مشترك فيه بل إذا قيل الواجبان إذا اشتركا في الوجوب فلا بد أن يمتاز كل منهما عن الآخر بما يخصه فهو مثل أن يقال إذا اشتركا في الحقيقة فلا بد أن يمتاز كل منهما عن الآخر بما يخصه فالحقيقة توجد عامة وخاصة كما أن الوجوب يوجد عاما وخاصا فالعام لا يكون عاما مشتركا فيه إلا في الذهن ولا يكون في الخارج إلا خاصا لا اشتراك فيه فما فيه الاشتراك لا امتياز فيه وما فيه الامتياز لا اشتراك فيه فلم يبق في الخارج شيء واحد فيه مشترك ومميز لكن فيه وصف يشابه الآخر فيه ووصف لا يشابهه فيه وغلط هؤلاء في هذه الإلهيات من جنس غلطهم في المنطق في

3

302

الكليات الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض العام حيث توهموا أنه يكون في الخارج كلي مشترك فيه وقد قدمنا التنبيه على هذا وبينا أن الكلي المشترك فيه لا يوجد في الخارج إلا مختصا لا اشتراك فيه والاشتراك والعموم والكلية إنما تعرض له إذا كان ذهنيا لا خارجيا وهم قسموا الكلي ثلاثة أقسام طبيعي ومنطقي وعقلي فالطبيعي هو المطلق لا بشرط كالإنسان من حيث هو هو مع قطع النظر عن جميع قيوده والمنطقي كونه عاما وخاصا وكليا وجزئيا فنفس وصفه بذلك منطقي لأن المنطق يبحث في القضايا من جهة كونها كلية وجزئية والعقلي هو مجموع الأمرين وهو الإنسان الموصوف بكونه عاما ومطلقا وهذا لا يوجد إلا في الذهن عندهم إلا ما يحكى عن شيعة أفلاطون من إثبات المثل الأفلاطونية ولا ريب في بطلان هذا فإن الخارج لا يوجد فيه عام وأما المنطقي فهو كذلك في الذهن وأما الطبيعي فقد يقولون إنه ثابت في الخارج فإذا قلنا هذا الإنسان ففيه الإنسان من حيث هو هو لكن يقال هو ثابت في الخارج لكن بقيد التعيين والتخصيص لا بقيد الإطلاق ولا مطلقا لا

3

303

بشرط فليس في الخارج مطلق لا بشرط ولا مطلق بشرط الإطلاق بل إنما فيه المعين المخصص فالذي يقدره الذهن مطلقا لا بشرط التقييد يوجد في الخارج بشرط التقييد وهؤلاء اشتبه عليهم ما في الأذهان بما في الأعيان وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبينا من غلط المنطقيين ما هو سبب الضلال في الأمور الإلهية والطبيعية كاعتقاد الأمور العقلية التي لا تكون إلا في العقل أمورا موجودة في الخارج وغير ذلك مما ليس هذا موضع بسطه وهؤلاء المنطقيون الإلهيون منهم وغيرهم يقولون أيضا إن الكليات لا تكون إلا في الأذهان لا في الأعيان فيوجد من كلامهم في مواضع ما يظهر به خطأ كلامهم في مواضع فإن الله فطر عباده على الصحة والسلامة وفساد الفطرة عارض فقل من يوجد له كلام فاسد إلا وفي كلامه ما يبين فساد كلامه الأول ويظهر به تناقضه والمقصود هنا التنبيه على توحيد هؤلاء الفلاسفة وهؤلاء أصابهم في لفظ الواجب ما أصاب المعتزلة في لفظ القديم فقالوا الواجب لا يكون إلا واحدا فلا يكون له صفة ثبوتية كما قال أولئك لا يكون القديم إلا واحدا فلا يكون له صفة ثبوتية وبهذا وغيره ظهر الزلل في كلام متأخري المتكلمين الذين خلطوا الكلام

3

304

بالفلسفة كما ظهر أيضا الغلط في كلام من خلط التصوف بالفلسفة كصاحب مشكاة الأنوار والكتب المضنون بها على غير أهلها وأمثال ذلك مما قد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع حتى أن هؤلاء المتأخرين لم يهتدوا إلى تقرير متقدميهم لدليل التوحيد وهو دليل التمانع واستشكلوه وأولئك ظنوا أن هذا الدليل هو الدليل المذكور في القرآن في قوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا وليس الأمر كذلك بل أولئك قصروا في معرفة ما في القرآن وهؤلاء قصروا في معرفة كلام أولئك المقصرين فلما قصروا في معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم عدلوا إلى ما أورثهم الشك والحيرة والضلال وهذا مبسوط في غير هذا الموضع لكن ننبه عليه هنا وذلك أن دليل التمانع المشهور عند المتكلمين أنه لو كان للعالم صانعان لكان أحدهما إذا أراد أمرا وأراد الآخر خلافه مثل أن

3

305

يريد أحدهما إطلاع الشمس من مشرقها ويريد الآخر إطلاعها من مغربها أو من جهة أخرى امتنع أن يحصل مرادهما لأن ذلك جمع بين الضدين فيلزم إما أن لا يحصل مراد واحد منهما فلا يكون واحد منهما ربا وإما أن يحصل مراد أحدهما دون الآخر فيكون الذي حصل مراده هو الرب دون الآخر وقد يقرر ذلك بأن يقال إذا أراد مالا يخلو المحل عنهما مثل أن يريد أحدهما تحريك جسم ويريد الآخر تسكينه امتنع حصول مرادهما وامتنع عدم مرادهما جميعا لأن الجسم لا يخلو عن الحركة والسكون فتعين أن يحصل مراد أحدهما دون الآخر فيكون هو الرب وعلى هذا سؤال مشهور وهو أنه يجوز أن تتفق الإرادتان فلا يفضي إلى الاختلاف وقد أجاب كثير من المتأخرين عن ذلك بوجوه عارضهم فيها غيرهم كما قد بسط في موضعه ولم يهتد هؤلاء إلى تقرير القدماء كالأشعري والقاضي أبي بكر وأبي الحسين البصري والقاضي أبي يعلى وغيرهم

3

306

فإن هؤلاء علموا أن وجوب اتفاقهما في الإرادة يستلزم عجز كل منهما كما أن تمانعهما يستلزم عجز كل منهما فمنهم من أعرض عن ذكر هذا التقرير لأن مقصوده أن يبين أن فرض اثنين يقتضي عجز كل منهما فإذا قيل إن أحدهما لا يمكنه مخالفة الآخر كان ذلك أظهر في عجزه ومنهم من بين ذلك كما بينوا أيضا امتناع استقلال كل منهما وذلك أنه يقال إذا فرض ربان فإما أن يكون كل منهما قادرا بنفسه أو لا يكون قادرا إلا بالآخر فإن لم يكن قادرا إلا بالآخر كان هذا ممتنعا لذاته مقتضيا للدور في العلل والفاعلين فإنه يستلزم أن يكون كل منهما جعل الآخر قادرا ولا يكون أحدهما فاعلا حتى يكون الآخر قادرا فإذا كان كل منهما جعل الآخر قادرا فقد جعله فاعلا ولا يكون كل منهما جعل الآخر ربا لأن الرب لا بد أن يكون قادرا فيكون هذا جعل هذا قادرا فاعلا ربا وكذلك الآخر

3

307

وهذا ممتنع في الربين الواجبين بأنفسهما القديمين لأن هذا لا يكون قادرا ربا فاعلا حتى يجعله الآخر كذلك وكذلك الآخر فهو بمنزلة أن يقال لا يكون هذا موجودا حتى يجعله الآخر موجودا وهذا ممتنع بالضرورة كما تقدم فيما قبل بالإشارة إلى ذلك وهو أن الدور القبلي ممتنع لذاته باتفاق العقلاء كالدور في الفاعلين والعلل فيمتنع أن يكون كل من الشيئين علة للآخر وفاعلا له أو جزءا من العلة والفاعل فإذا كان كل منهما لا يكون قادرا أو فاعلا إلا بالآخر لزم أن يكون كل منهما علة فاعلة أو علة لتمام ما به يصير الآخر قادرا فاعلا وذلك ممتنع بالضرورة واتفاق العقلاء فلزم أن الرب لا بد أن يكون قادرا بنفسه وإذا كان قادرا بنفسه فإن أمكنه إرادة خلاف ما يريد الآخر أمكن اختلافهما وإن لم يمكنه أن يريد إلا ما يريده الآخر لزم لعجز فإذا فرض أن هذا لا يمكنه أن يريد ويفعل إلا ما يريده الآخر ويفعل لزم عجز كل منهما بل هذا أيضا ممتنع لنفسه كما أنه إذا كان هذا لا يقدر حتى يقدر هذا كان ذلك ممتنعا لذاته فإذا كان هذا

3

308

لا يكون ممكنا إلا بتمكين الآخر فهو بمنزلة أن يقال لا يكون قادرا إلا بإقدار الآخر وأيضا فإنه في هذا التقدير يكون المانع لكل منهما من الانفراد هو الآخر فيكون كل منهما مانعا ممنوعا وهذا لا يكون مانعا إلا إذا كان قادرا على المنع ومن كان قادرا على منع غيره من الفعل فقدرته على أن يكون فاعلا أولى فصار كل منهما لا يكون فاعلا حتى يكون قادرا على الفعل وإذا كان قادرا على الفعل امتنع أن يكون ممنوعا منه فامتنع كون كل واحد منهما مانعا ممنوعا وذلك لازم لوجوب اتفاقهما علىالفعل فعلم امتناع وجوب اتفاقهما على الفعل وثبت إمكان اختلافهما فمتى فرض لزوم اتفاقهما كان ذلك ممتنعا لذاته وإنما يمكن هذا في المخلوقين لأن القدرة لهم مستفادة من غيرهما فإذا قيل لا يقدر هذا حتى يقدر هذا كان يمكن أن يكون هناك ثالث يجعلهما قادرين ومن هنا أمكن المخلوق أن يعاون المخلوق وامتنعت المعاونة على خالقين لأن المخلوقين المتعاونين لكل منهما قدرة

3

309

من غير الآخر أعانه بها وجعله بها قادرا لأن كلا منهما كان قبل إعانة الآخر له قدرة وعند اجتماعهما زادت قوة كل منهما بقوة الآخر بمنزلة اليدين اللتين ضمت إحداهما إلى الأخرى فإن كل منهما كان لها قوة وبالاجتماع زادت قوتهما لأن هذا زاد ذلك تقوية وذاك زاد هذا تقوية فصار كل منهما معطيا للآخر وآخذا منه فزادت القوة بالاجتماع وهذا ممتنع في الخالقين فإن قدرة الخالق القديم الواجب بنفسه من لوازم ذاته لا يجوز أن تكون مستفادة من غيره لأن كل منهما إن كان قادرا عند الانفراد أمكنه أن يفعل عند الانفراد ما يقدر عليه ولم يشترط في فعله معاونة الآخر وحينئذ فيمكن أحدهما أن يفعل ما يريده الآخر أو ما يريد خلافه وإن لم يكن قادرا عند الانفراد امتنع أن يحصل عند الاجتماع لهما قوة لما في ذلك من الدور لأن هذا لا يقدر حتى يقدر ذاك ولا يقدر ذاك حتى يقدر هذا وليس هنا ثالث غيرهما يجعلهما قادرين فلا يقدر أحد منهما والمخلوقان اللذان لا قدرة لهما عند الانفراد لا يحصل لهما قدرة عند

3

310

الاجتماع إلا من غيرهما والخالقان لا يمكن أن يكون لهما ثالث يعطيهما قدرة فلا بد أن يكونا قادرين عند الانفراد وإذا قيل أحدهما يقدر على ما يوافقه الآخر عليه لم يمكن قادرا إلا بموافقته وإذا قيل يقدر على مالا يخالفه الآخر فيه كان كل منهما مانعا للآخر من مقدوره فلا يكون واحد منهما قادرا وأيضا فإن منع هذا لذاك لا يكون إلا بقدرته ومنع ذاك لهذا لا يكون إلا بقدرته فيلزم أن يكون كل منهما قادرا حال التمانع وهو حال المخالفة فيكونان قادرين عند الاتفاق وعند الاختلاف وأيضا فلا يكون هذا ممنوعا حتى يمنعه الآخر وبالعكس فلا يكون أحدهما ممنوعا إلا بمنع الآخر وأيضا فيكون هذا مانعا لذاك وذاك مانعا لهذا فيكون كل منهما مانعا ممنوعا وهذا جمع بين النقيضين وهذه الوجوه وغيرها مما يبين امتناع ربين كل منهما معاون للآخر أو كل منهما مانع للآخر فلم يبقى إلا أن يكون كل منهما قادرا مستقلا

3

311

وحينئذ فيمكن اختلافهما وإذا اختلفا لزم أن لا يفعل واحد منهما شيئا ولزم عجزهما ولزم كون كل واحد منهما مانعا ممنوعا فتبين امتناع ربين سواء فرضا متفقين أو مختلفين وأما إذا فرضا مستقلين وفرض كل منهما مستقلا بخلق العالم فهذا أظهر امتناعا لأن استقلال أحدهما يمنع أن يكون له فيه شريك فكيف إذا كان الآخر مستقلا به فتقدير استقلال كل منهما يقتضي أن يكون كل منهما فعله كله وأن لا يكون واحد منهما فعل منه شيئا فيلزم اجتماع النقيضين مرتين ولهذ امتنع أن يكون مؤثران تامان مستقلان يجتمعان على أثر واحد فإن مثال ذلك أن نقول هذا خاط الثوب وحده وهذا خاط ذلك الثوب بعينه وحده أو أن نقول هذا أكل جميع الطعام ونقول هذا أكل جميع ذاك الطعام بعينه وهذا كله مما يعرف امتناعه ببديهة العقل بعد تصوره ولكن بعض الناس لا يتصور هذا تصورا جيدا بل يسبق إلى ذهنه المشتركان من الناس في فعل من الأفعال والمشتركان لا يفعل أحدهما جميع ذلك الفعل ولا كانت قدرته حاصلة بالاشتراك بل بالاشتراك زادت قدرته وكان كل

3

312

منهما يمكنه حال الانفراد أن يفعل شيئا من الأشياء ويريد خلاف ما يريد الآخر وإذا آراد خلافه فإن تقاومت قدرتهما تمانعا فلم يفعلا شيئا وأن قوي أحدهما قهر الآخر وإن لم يكن لأحدهما قدرة حال الانفراد لم تحصل له حال الاجتماع إلا من غيرهما مع أن هذا لا يعرف له وجود بل المعروف أن يكون لكل منهما حال الانفراد قدرة ما فتكمل عند الاجتماع وأيضا فالمشتركان في الفعل والمفعول لا بد أن يتميز فعل كل منهما عن الآخر لا يكون الشيء الواحد بعينه مشتركا فيه بحيث يكون هذا فعله والآخر فعله فإن هذا ممتنع كما تقدم فلو كان ربان لكان مخلوق كل واحد منهما متميزا عن مخلوق الآخر كما قال تعالى إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سورة المؤمنون فذكر سبحانه وجوب امتياز المفعولين ووجوب قهر أحدهما للآخر كما تقدم تقريره وكلاهما ممتنع فهذه الطرق وأمثالها مما يبين به بها أئمة النظار توحيد الربوبية وهي طرق صحيحة عقلية لم يهتد هؤلاء المتأخرون إلى معرفة توجيهها وتقريرها

3

313

ثم إن أولئك المتقدمين من المتكلمين ظنوا أنها هي طرق القرآن وليس الأمر كذلك بل القرآن قرر فيه توحيد الإلهية المتضمن توحيد الربوبية وقرره أكمل من ذلك واعتبر ذلك بقوله تعالى ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سورة المؤمنون فهذه الآية ذكر فيها برهانين يقينيين على امتناع أن يكون مع الله إله آخر بقوله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض وقد عرف أنه لم يذهب كل إله بما خلق ولا علا بعضهم على بعض وترك ذكر هذا لعلم المخاطبين به وأن ذكره تطويل بلا فائدة وهذه طريقة القرآن وطريقة الكلام الفصيح البليغ بل وطريقة عامة الناس في الخطاب يذكرون المقدمة التي تحتاج إلى بيان ويتركون مالا يحتاج إلى بيان مثل أن يقال لم قلتم إن كل مسكر حرام فيقال لأنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كل مسكر خمر وكل خمر

3

314

حرام وقد علم أن قول النبي صلى الله عليه وسلم حجة يجب اتباعها فلا يحتاج أن نذكر هذا ومثل هذا قوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا سورة الأنبياء أي وما فسدتا فليس فيهما آلهة إلا الله وهذا بين لا يحتاج إلى أن يبين بالخطاب فإن المقصود من الخطاب البيان وبيان البين قد يكون من نوع العي وبيان الدليل قد يكون محتاجا إلى مقدمة واحدة وقد يكون محتاجا إلى مقدمتين وإلى ثلاث وأكثر فيذكر المستدل ما يحتاج إلى بيان دون ما لا يحتاج إلى بيان وأما ما يقوله المنطقيون من أن كل دليل نظري فلا بد فيه من مقدمتين لا يحتاج إلى أكثر ولا يجزيء أقل وإذا اكتفى بواحدة قالوا حذفت

3

315

الأخرى ويسمونه قياس الضمير وإن كان ثلاثا أو أربعا قالوا هذه قياسات لا قياس واحد فهذا مجرد وضع ودعوى لا يستند إلى أصل عقلي ولا عادة عامة وقد بسطنا الكلام على هذا في الكلام على المنطق وغيره فقال سبحانه إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سورة المؤمنون وهذا اللازم منتف فانتفى الملزوم وهو ثبوت إله مع الله وبيان التلازم أنه إذا كان معه إله امتنع أن يكون مستقلا بخلق العالم مع أن الله تعالى مستقل بخلق العالم كما تقدم أن فساد هذا معلوم بالضرورة لكل عاقل وأن هذا جمع بين النقيضين وامتنع أيضا أن يكون مشاركا للآخر معاونا له لأن ذلك يستلزم عجز كل منهما والعاجز لا يفعل شيئا فلا يكون لا ربا ولا إلها لأن أحدهما إذا لم يكن قادرا إلا بإعانة الآخر لزم عجزه حال الانفراد وامتنع أن يكون قادرا حال الاجتماع لأن ذلك دور قبلي فإن هذا لا يكون قادرا حتى يجعله الآخر قادرا أو حتى يعينه الآخر وذاك لا يجعله قادرا ولا

3

316

يعينه حتى يكون هو قادرا وهو لا يكون قادرا حتى يجعله ذاك أو يعينه فامتنع إذا كان كل منهما محتاجا إلى إعانة الآخر في الفعل أن يكون أحدهما قادرا فامتنع أن يكون لكل واحد منهما فعل حال الانفراد وحال الاجتماع فتعين أن يكون كل واحد منهما قادرا عند الانفراد فلا بد إذا فرض معه إله أن يكون كل منهما قادرا عند انفراده وإذا كان كذلك ففعل أحدهما إن كان مستلزما لفعل الآخر بحيث لا يفعل شيئا حتى يفعل الآخر فيه شيئا لزم أن لا يكون أحدهما قادرا علىالانفراد وعاد احتياجهما في أصل الفعل إلى التعاون وذلك ممتنع بالضرروة فلا بد أن يمكن أحدهما أن يفعل فعلا لا يشاركه الآخر فيه وحينئذ فيكون مفعول هذا متميزا عن مفعول هذا ومفعول هذا متميزا عن مفعول هذا فيذهب كل إله بما خلق هذا بمخلوقاته وهذا بمخلوقاته فتبين أنه لو كان معه إله لذهب كل إله بمخلوقاته وهذا غير

3

317

واقع فإنه ليس في العالم شيء إلا وهو مرتبط بغيره من أجزاء العالم كما تقدم التنبيه عليه ولهذا إذا فعل المتعاونان شيئا كان فعل كل منهما الذي يقوم به متميزا عن فعل الآخر وأما ما يحدث عنه في الخارج فلا يمكن أحدا أن يستقل بشيء منفصل عنه بل لا بد له فيه من معاون عند من يقول إن فعل العبد ينقسم إلى مباشر وغير مباشر وأما من يقول إن فعله لا يخرج عن محل قدرته فليس له مفعول منفصل عنه ثم إذا اختلط مفعول هذا بمفعول هذا كالحاملين للخشبة كان كل منها مفتقرا إلى الآخر حال الاجتماع ولكل منهما قدرة يختص بها حال الانفراد وحال الاجتماع يمكنه أن يفعل بها فعلا منفردا به عن الآخر ويمتاز به عن الآخر فلا بد أن يكون لكل منهما فعل يختص به متميز عن فعل الآخر فلا يتصور إلهان حتى يكون مفعول هذا متميزا عن مفعول ذاك فيذهب كل إله بما خلق واللازم منتف فانتفى الملزوم

3

318

وأما البرهان الثاني وهو قوله ولعلا بعضهم على بعض سورة المؤمنون فإنه يمتنع أن يكونا متساويين في القدرة لأنهما إذا كان متساويين في القدرة كان مفعول كل منهما متميزا عن مفعول الآخر وهو باطل كما تقدم ولأنهما إذا كان متكافئين في القدرة لم يفعلا شيئا لا حال الاتفاق ولا حال الاختلاف سواء كان الاتفاق لازما لهما أو كان الاختلاف هو اللازم أو جاز الاتفاق وجاز الاختلاف لأنه إذا قدر أن الاتفاق لازم لهما فلأن أحدهما لا يريد ولا يفعل حتى يريد الآخر ويفعل وليس تقدم أحدهما أولى من تقدم الآخر لتساويهما فيلزم أن لا يفعل واحد منهما وإذا قدر أن إرادة هذا وفعله مقارن لإرادة الآخر وفعله فالتقدير أنه لا يمكنه أن يريد ويفعل إلا مع الآخر فتكون إرادته وفعله مشروطة بإرادة الآخر وفعله فيكون بدون ذلك عاجزا عن الإرادة والفعل فيكون كل منهما عاجزا حال الانفراد ويمتنع مع ذلك أن يصيرا قادرين حال الاجتماع كما تقدم وإذا كان الاختلاف لازما لهما امتنع مع تساويهما أن يفعلا شيئا لأن هذا يمنع هذا وهذا يمنع هذا لتكافؤ القدرتين فلا يفعلان شيئا وأيضا فإن امتناع أحدهما مشروط بمنع الآخر فلا يكون هذا ممنوعا

3

319

حتى يمنعه ذاك ولا يكون ذاك ممنوعا حتى يمنعه هذا فيلزم أن يكون كل منهما مانعا ممنوعا وهذا ممتنع ولأن زوال قدرة كل منهما حال التمانع إنما هي بقدرة الآخر فإذا كانت قدرة هذا لا تزول حتى تزيلها قدرة ذاك وقدرة ذاك لا تزول حتى تزيلها قدرة هذا فلا تزول واحدة من القدرتين فيكونان قادرين وكونهما قادرين على الفعل مطيقين في حال كون كل منهما ممنوعا بالآخر عن الفعل عاجزا عنه بمنع الآخر له محال لأن ذلك كله جمع بين النقيضين وأما إذا قدر إمكان اتفاقهما وإمكان اختلافهما كان تخصيص الاتفاق بدون الاختلاف وتخصيص الاختلاف بدون الاتفاق محتاجا إلى من يرجح أحدهما علىالآخر ولا مرجح إلا هما وترجيح أحدهما بدون الآخر محال وترجيح أحدهما مع الآخر هو اتفاق فيفتقر تخصيصه إلى مرجح آخر فيلزم التسلسل في العلل وهو ممتنع باتفاق العقلاء وأيضا فاتفاقهما في نفسه ممتنع واختلافهما في نفسه ممتنع سواء قدر لازما أو لم يقدر لأنهما إذا اتفقا لم يمكن أحدهما حال الاتفاق أن يفعل إلا

3

320

أن يفعل الآخر معه فيكون كل منهما عند الاتفاق عاجزا عن فعل شيء يستقل به وإذا كان كل منهما عند الاتفاق عاجزا عن فعل شيء يستقل به كان عاجزا عند الانفراد ومن كان عاجزا عند الانفراد عن كل شيء كان عاجزا أيضا عند الاجتماع والناس المتشاركون كل منهم لا بد أن ينفرد عن الآخر بفعل حال الاشتراك فإن الحركة التي يفعلها أحدهما يستقل بها دون الآخر حال تمكنه وكذلك يمكنه حال الانفراد أن يؤثر أثرا دون الآخر فيمتنع اتفاق اثنين كل منهما عاجز عند الانفراد في مخلوق أو خالق سواء كان الاتفاق لازما أو ممكنا وإن قدر في المخلوقين أنهما لا يكونان قادرين إلا عند الاجتماع فذلك لأن هناك ثالثا غيرهما يجعل لهما قوة عند الاجتماع وهنا يمتنع أن يكون للخالق القديم الواجب بنفسه فوقه من يجعله قادرا فيمتنع أن يكون فوقهما من يجعل لهما قوة عند الاجتماع دون الانفراد إذ كل ما سواهما مخلوق فيمتنع أن يجعل الخالق قادرا

3

321

وأما امتناع اختلافهما وإن لم يكن لازما فهو أظهر فإنه عند الاختلاف يحصل التمانع وهذه المعاني كيفما عبرت عنها تجدها معاني صحيحة يمتنع وجود اثنين متفقين أو مختلفين إلا أن يكون كل منهما قادرا عند انفراده وإذا كان كل منهما قادرا عند الانفراد كان لكل منهما فعل ومفعول يختص به منفردا عن الآخر فلا يكونان متفقين في كل فعل وكل مفعول ولا يمكن أن يتفقا في شيء واحد أصلا لأن ذلك الفعل الحادث لا يكون ما يقوم بأحدهما نفس ما يقوم بالآخر فإن هذا ممتنع لذاته والمخلوق المنفصل لا يكون نفس أثر هذا فيه هو نفس أثر الآخر فيه بل لا بد من أثرين فإن كان أحدهما شرطا في الآخر كان كل منهما مفتقرا إلى الآخر فلا يكون قادرا عند الانفراد وإن لم يكن كذلك كان مفعول هذا ليس هو مفعول الآخر ولا بلازم له فلا يكون هناك اتفاق في مفعول واحد أصلا وهذا من جنس ما تقدم من ذهاب كل إله بما خلق لكن الذي يختص به هذا أن الشيئين اللذين يشترط في كل واحد منهما أن يكون مع الآخر لا بد أن يكون لهما ثالث غيرهما يحدثهما كما في

3

322

الأجيرين لملعم واحد والمفتيين الراجعين إلى النصوص والمتشاورين الراجعين إلى أمر يوجب اجتماعهما فلا بد أن يكون بين المتشاركين ثالث يجمعهما وأما الخالقان فلا شيء فوقهما ولو قيل إنهما يفعلان ماهو المصلحة أو غير ذلك فكل هذه المحدثات تابعة لهما وعنهما ولا يكون شيء إلا بعلمهما وقدرتهما بخلاف المخلوق الذي يحدث أمورا بدونه فيعاونه على ما هو المصلحة له وإذا قيل علما ما سيكون فالعلم بالحادث تابع للمعلوم الحادث والحادث تابع لإرادة محدثه والإرادة تابعة لهما وأما الخالقان فإنه لا بد أن تكون إرادة كل منهما من لوازم نفسه أو تكون نفسه مستقلة بإرادته وحينئذ لا تكون إرادته موقوفة على شرط إرادة غيره فإنها إذا توقفت على ذلك لم يكن مستقلا بالإرادة ولا كانت

3

323

من لوازم نفسه لأنه إذا كان هذا لا يريد ويفعل إلا مع إرادة الآخر وفعله كانت إرادة كل منهما وفعله جزءا من المقتضى لكون الآخر مريدا فاعلا وهذا دور في جزء العلة والدور في جزء المقتضي ممتنع كالدور في نفس المقتضي وإذا جوز في المتضايفين كالأبوة والبنوة أن يتلازما فلأن المقتضي التام لهما غيرهما فلو كانت الإرادتان والفعلان متلازمين لكان المقتضي التام لهما غير هذا وغير هذا وذلك ممتنع إذ لا شيء فوقهما يجعلهما كذلك فيلزم أن لا يكون كل واحد منهما مريدا ولا فاعلا وهذه كلها أمور معقولة محققة مبرهنة كلما تصورها المتصور تصورا صحيحا علم صحتها وهي مبسوطة في غير هذا الموضع فتين أنه لو قدر إلهان متكافئان في القدرة لم يفعلا شيئا لا حال الاتفاق ولا حال الاختلاف فلا بد حينئذ إذا قدر إلهان أن يكون أحدهما أقدر من الآخر والأقدر عال على من دونه في القدرة بالضرورة فلو كان ثم آلهة لوجب علو بعضهم على بعض ولو علا بعضهم علىبعض لم

3

324

يكن المستقل بالفعل إلا العالي وحده فإن المقهور إن كان محتاجا في فعله إلى إعانة الأول كان عاجزا بدون الإعانة وكانت قدرته من غيره وما كان هكذا لم يكن إلها بنفسه والله تعالى لم يجعل من مخلوقاته إلها فامتنع أن يكون المقهور إلها وإن كان المقهور يستقل بفعل بدون الإعانة من العالي لم يمكن العالي إذا أن يمنعه مما هو مستقل به فيكون العالي عاجزا عن منع المقهور فلا يكون عاليا وقد فرض أنه عال هذا خلف وهو جمع بين النقيضين فتبين أنه مع علو بعضهم على بعض لا يكون المغلوب إلها بوجه بل يمتنع أن يكون إلها مع إعانة الآخر له ويمتنع أن يكون إلها منفردا غنيا عن الآخر إذ كان الغني عن غيره لا يعلو غيره عليه ولا يقدر أن

3

325

يعلو غيره عليه ومتى قدر أن يعلو عليه كان مفتقرا إليه محتاجا إلى امتناعه من علوه عليه وانكفافه عن ذلك العلو ومن غلبه غيره لا يكون عزيزا منيعا يدفع عن نفسه فكيف يدفع عن غيره والعرب تقول عز يعز بالفتح إذا قوي وصلب وعز يعز بالكسر إذا امتنع وعز يعز بالضم إذا غلب فإذا قويت الحركة قوى المعنى والضم أقوى من الكسر والكسر أقوى من الفتح فإذا كان مغلوبا لم يكن منيعا وإذا لم يكن منيعا لم يكن قويا بطريق الأولى ومن لا يكون قويا لا يكون ربا فاعلا فتبين أنه لو كان معه إله لعلا بعضهم على بعض كما تبين أنه كان يذهب كل إله بما خلق وهذا بعض تقرير البرهانين اللذين في القرآن ومما يوضح ذلك أنك

3

326

لا تجد في الوجود شريكين متكافئين إن لم يكن فوقهما ثالث يرجعان إليه فإذا قدر ملكان متكافئان في الملك لم يرجع أحدهما إلى الآخر ولا ثالث لهما يرجعان إليه كان ذلك ممتنعا بل إذا قدر طباخان لقدر واحدة متكافئان في العمل لا يرجع أحدهما إلى الآخر ولا فوقهما ثالث يرجعان إليه لم يمكن ذلك وكذلك البانيان لدار واحدة وكذلك الغارسان لشجرة واحدة وكذلك كل آمرين بمأمور واحد كالطبيبين والمفتيين وكذلك الخياطان لثوب واحد فلا يتصور في جميع هذه المشاركات اتفاق اثنين إلا أن يكون أحدهما فوق الآخر وأن يكون لهما ثالث فوقهما وذلك لأن فعل كل واحد منهما إذا كان مشروطا بفعل الآخر لم يرد هذا ولم يأمر ولم يفعل حتى يريد هذا ويأمر ويفعل الآخر كذلك فلا يريد واحد منهما ولا يأمر ولا يفعل فلا يفعلان شيئا فاشتراك اثنين متكافئين ليس فوقهما ثالث ممتنع وإذا اشترك شريكان

3

327

شرعيان كان ما يفعلانه من الأفعال راجعا إلى أمر الشارع الذي هو فوقهما أو راجعا إلى قول أهل الخبرة بالتجارة التي اشتركا فيها فعليهما أن يريدا ذلك فإن تنازعا فصل بينهما الشارع أو أهل الخبرة الذين عليهما أن يرجعا إليهم وعلى ذلك تشاركا وتشارطا وأما إن لم يرجعا إلى ثالث أو لم يكن أحدهما تابعا للآخر فيمتنع اشتراكهما لكن قد يرجع هذا إلى هذا تارة وهذا إلى هذا تارة كالمتعارضين وحينئذ فكل واحد منهما حال رجوع الآخر إليه هوالأصل والآخر فرع له ولهذا وجب نصب الإمارة في أقصر مدة وأقل اجتماع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يحل لثلاثة أن يكونوا في سفر حتى يؤمروا أحدهم رواه الإمام أحمد فإن الرأس ضروري في الاجتماع

3

328

فلا بد للناس من رأس وإذا لم يكن لهم رأس امتنع الاجتماع فإذا كان لهما رأسان متكافئان يشتركان في رياسة جماعة بطل الاجتماع وهذا مما هو مستقر في فطر الناس كلهم فإذا كان ولاة الأمر اثنين فلا بد أن يتناوبا في الأمر بحيث يطيع هذا هذا تارة وهذا هذا تارة كما يوجد في أعوان الملوك ووزرائهم إذا بدأ هذا بأمر أعانه الآخر عليه فإن لم يتفقا رجع الأمر إلى من فوقهما وإلا فالأمر الواحد لا يصدر عن اثنين معا إلا ان يكونا تابعين فيه لثالث فالتمانع حاصل بين الأصلين المتكافئين سواء قدر اتفاقهما أو اختلافهما ولكن التمانع مع الاختلاف أظهر وكذلك هما يتمانعان مع الاتفاق فإن أحدهما لا يمكنه أن يفعل حتى يفعل الآخر وذاك لا يمكنه حتى يفعل الآخر وليس لهما ثالث يحركهما إلى الفعل وليس تقدم أحدهما أولى من تقدم الآخر ووقوع الفعل منهما مع كون فعل كل منهما لا بد له من قدرة عليه وهو لا يقدر إلا

3

329

بالآخر ممتنع فإن هذا لا يقدر حتى يعينه الآخر وهذا لا يقدر حتى يعينه الآخر فتكون إعانة كل منهما سابقة مسبوقة وقدرة كل منهما سابقة مسبوقة إذ كان لا إعانة إلا بقدرته ولا قدرة له إلا بإعانة ذاك ولا إعانة لذاك إلا بقدرته ولا قدرة له إلا بإعانة هذا فتكون إعانة هذا موقوفة على قدرته الموقوفة على إعانة ذاك الموقوفة على قدرة هذا فيكون الشيء قبل قبل قبل نفسه وعلة علة علة نفسه فتبين امتناع اجتماع ربين متوافقين أو متخالفين وأنه إذا فرض مع الله إله لزم أن يذهب كل إله بما خلق وأن يعلو بعضهم على بعض وأحد البرهانين ليس مبنيا على الآخر بل كل منهما مستقل وكل منهما لازم على تقدير إله آخر ليس اللازم أحدهما فإنه لما امتنع الاشتراك في فعل واحد ومفعول واحد على سبيل الاستقلال وعلى سبيل التعاون لزم أن يذهب كل إله بما خلق ولما امتنع اجتماع ربين متكافئين لزم علو بعضهم على بعض وكل منهما منتف لأن المخلوقات مرتبط بعضها ببعض ولأن المقهور ليست قدرته من نفسه بل من غيره فيكون مربوبا لا ربا

3

330

والمشركون كانوا يقرون بهذا التوحيد الذي هو نفي خالقين لم يكن مشركو العرب تنازع فيه ولهذا قال الله لهم أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون سورة النحل فكانوا يعترفون بأن آلهتهم لا تخلق ولهذا ذكر الله تعالى هذا التقرير بعد قوله قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون سورة المؤمنون ولم يكن إشراكهم أنهم جعلوهم خالقين بل أن جعلوهم وسائط في العبادة فاتخذوهم شفعاء وقالوا إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى كما قال الله تعالى عنهم ويعبدون من دون الله مالا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في

3

331

السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون سور يونس فالذين أثبتوا فاعلا مستقلا غير الله كالفلك والآدميين وجعلوا هذه الحركات الحادثة ليست مخلوقة لله فيهم من الشرك والتعطيل ما ليس في مشركي العرب فإن مشركي العرب كانوا يقرون بالقدر وأن الله وحده خالق كل شيء ولهذا قال في الآية الأخرى قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا سورة الإسراء فهم كانوا يقولون إنهم وسائل ووسائط وشفعاء لم يكونوا يقولون إنهم يخلقون كخلقه فقال تعالى لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا كما قال في الآية الأخرى قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا سورة الإسراء فتبين أن ما يدعى من دونه من الملائكة والأنبياء وغيرهم يبتغى به الوسيلة إلى الله والتقرب إليه وذلك لأنه هو الإله المعبود الحق الذي كل ما سواه مفتقر إليه من جهة أنه ربه ليس له شيء إلا منه ومن جهة أنه إلهه لا منتهى لإرادته دونه فلو لم يكن هو المعبود لفسد

3

332

العالم إذ لو كانت الإرادات ليس لها مراد لذاته والمراد إما لنفسه وإما لغيره والمراد لغيره لا بد أن يكون ذلك الغير مرادا حتى ينتهي الأمر إلى مراد لنفسه فكما أنه يمتنع التسلسل في العلل الفاعلية فيمتنع التسلسل في العلل الغائية وقد يظن أنه بهذا الطريق أثبت قدماء الفلاسفة أرسطو وأتباعه الأول لكنهم أثبتوه من جهة كونه علة غائية فقط لكن أولئك جعلوه علة غائية بمعنى التشبه به ولهذا قالوا الفلسفة هي التشبه بالإله على قدر الطاقة لم يجعلوه معبودا محبوبا لذاته كما جاءت الرسل بذلك ولهذا كان من تعبد وتصوف على طريقتهم من المتأخرين يقعون في دعوى الربوبية والإلهية وهم في نوع من الفرعونية بل قد يعظم بعضهم فرعون ويفضلونه على موسى عليه السلام كما يوجد ذلك في كلام طائفة منهم

3

333

والواجب إثبات الأمرين أنه سبحانه رب كل شيء وإله كل شيء فإذا كانت الحركات الإرادية لا تقوم إلا بمراد لذاته وبدون ذلك يفسد ولا يجوز أن يكون مرادا لذاته إلا الله كما لا يكون موجودا بذاته إلا الله علم أنه لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا وهذه الآية فيها بيان أنه لا إله إلا الله وأنه لو كان فيهما آلهة غيره لفسدتا وتلك الآية قال فيها إذا لذهب كل إله بما خلق سورة المؤمنون ووجه بيان لزوم الفساد أنه إذا قدر مدبران ما تقدم من أنه يمتنع أن يكونا غير متكافئين لكون المقهور مربوبا لا ربا وإذا كانا متكافئين امتنع التدبير منهما لا على سبيل الاتفاق ولا على سبيل الاختلاف فيفسد العالم بعدم التدبير لا على سبيل الاستقلال ولا على سبيل الاشتراك كما تقدم وهذا من جهة امتناع الربوبية لاثنين ويلزم من امتناعهما امتناع

3

334

الإلهية فإن ما لايفعل شيئا لا يصلح أن يكون ربا يعبد ولم يأمر الله أن يعبد ولهذا بين الله امتناع الإلهية لغيره تارة ببيان أنه ليس بخالق وتارة أنه لم يأمر بذلك لنا كقوله تعالى قل أرايتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين سورة الأحقاف وذلك لأن عبادة ما سوى الله تعالى قد يقال إن الله أذن فيه لما فيه من المنفعة فبين سبحانه أنه لم يشرعه كما قال تعالى واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون سورة الزخرف وهذ مبسوط في موضع آخر والمقصود هنا أن في هذه الآية بيان امتناع الألوهية من جهة الفساد الناشىء عن عبادة ما سوى الله تعالى لأنه لا صلاح للخلق إلا بالمعبود المراد لذاته من جهة غاية أفعالهم ونهاية حركاتهم وما سوى الله

3

335

لا يصلح فلو كان فيهما معبود غيره لفسدتا من هذه الجهة فإنه سبحانه هوالمعبود المحبوب لذاته كما أنه هو الرب خالق بمشيئته وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل ولهذا قال الله في فاتحة الكتاب إياك نعبد وإياك نستعين وقدم اسم الله على اسم الرب في أولها حيث قال الحمد لله رب العالمين فالمعبود هو المقصود المطلوب المحبوب لذاته وهو الغاية والمعين وهو البارىء المبدع الخالق ومنه ابتداء كل شيء والغايات تحصل بالبدايات والبدايات بطلب الغايات فالإلهية هي الغاية وبها تتعلق حكمته وهو الذي يستحق لذاته أن يعبد ويحب ويحمد ويمجد وهو سبحانه يحمد نفسه ويثني على نفسه ويمجد نفسه ولا أحد أحق بذلك منه حامدا ومحمودا

3

336

وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع وقد تبين بما ذكرناه أن من جعل عباد الله كأعوان السلطان فهو من أعظم المشركين بالله وأما جوابه عن احتجاجهم بقوله تعالى والله خلقكم وما تعملون سورة الصافات بأن المراد بذلك الأصنام فلا ننازعه في أن المراد بذلك الأصنام فإن هذا هو أصح القولين وما بمعنى الذي ومن قال إنها مصدرية والمراد والله خلقكم وعملكم فهو ضعيف فإن سياق الكلام إنما يدل على الأول لأنه قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون فأنكر عليهم عبادة المنحوت فالمناسب أن يذكر ما يتعلق بالمنحوت وأنه مخلوق لله والتقدير والله خلق العابد والمعبود ولأنه لو قال والله خلقكم وعملكم لم يكن في هذا ما يقتضي ذمهم على الشرك بل قد يقال إنه إقامة عذر لهم وذلك لأن الواو في قوله والله خلقكم وما تعملون واو

3

337

الحال والحال هنا شبه الظرف كلاهما قد يتضمن معنى التعليل كما يقال أتذم فلانا وهو رجل صالح وتسيء إليه وهو محسن إليك فتقرر بذلك ما يوجب ذمه ونهيه عما أنكرته عليه وهو سبحانه ينكر عليهم عبادة ما ينحتون فذكر قوله والله خلقكم وما تعملون متضمنا ما يوجب ذمهم على ذلك ونهيهم عنه وذلك كون الله تعالى خلق معمولهم ولو أريد والله خلقكم وعملكم الذي هو الكفر وغيره لم يكن في ذلك ما يناسب ذمهم ولم يكن في بيان خلق الله تعالى لأفعال عباده ما يوجب ذمهم على الشرك لكن يقال هذه الآية تدل على أن أعمال العباد مخلوقة لأنه قال والله خلقكم والذي تعملونه من الأصنام والأصنام كانو ينحتونها فلا يخلو إما أن يكون المراد خلقه لها قبل النحت والعمل أو قبل ذلك وبعده فإن كان المراد ذكر كونها مخلوقة قبل ذلك لم يكن فيها حجة على أن المخلوق هو المعمول المنحوت لكن المخلوق ما لم يعمل ولم ينحت وإن كان المراد خلقها بعد العمل والنحت فمن المعلوم أن النحت الذي فيها هو أثرهم وعملهم

3

338

وعند القدرية أن المتولد عن فعل العبد فعله لا فعل الله فيكون هذا النحت والتصوير فعلهم لا فعل الله فإذا ثبت أن الله خلقها بما فيها من التصوير والنحت ثبت أنه خالق ما تولد عن فعلهم والمتولد لازم للفعل المباشر وملزوم له وخلق أحد المتلازمين ويسلتزم خلق الآخر فدلت الآية أنه خالق أفعالهم القائمة بهم وخالق ما تولد عنها وخالق الأعيان التي قام بها المتولد ولا يمكن أن يكون أحد المتلازمين عن الرب والآخر عن غيره فإنه يلزم افتقاره إلى غيره وأيضا فنفس حركاتهم تدخل في قوله تعالى والله خلقكم فإن أعراضهم داخلة في مسمى أسمائهم فالله تعالى خلق الإنسان بجميع أعراضه وحركاته من أعراضه فقد تبين أنه خلق أعمالهم بقوله والله خلقكم وما تولد عنها

3

339

من النحت والتصوير بقوله وما تعملون فثبت أنها دالة على أنه خالق هذا وهذا وهو المطلوب مع أن الآيات الدالة على خلق أعمال العباد كثيرة كما تقدم التنبيه عليها لكن خلقه للمصنوعات مثل الفلك والأبنية واللباس هو نظير خلق المنحوتات كقوله تعالى وآيه لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون سورة يس وقوله تعالى والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون سورة النحل

3

340

فصل قال الرافضي وذهبت الأشاعرة إلى أن الله يرى بالعين مع أنه مجرد من الجهات وقد قال الله تعالى لا تدركه الأبصار سورة الأنعام وخالفوا الضرورة من أن المدرك بالعين يكون مقابلا أو في حكمه وخالفوا جميع العقلاء في ذلك وذهبوا إلى تجويز أن يكون بين أيدينا جبال شاهقة من الأرض إلى السماء مختلفة الألوان لا نشاهدها وأصوات هائلة لا نسمعها وعساكر مختلفة متحاربة بانواع الأسلحة بحيث تماس أجسامنا أجسامهم لا نشاهد صورهم ولا حركاتهم ولا نسمع أصواتهم الهائلة وأن نشاهد

3

341

جسما أصغر الأجسام كالذرة في المشرق ونحن في المغرب مع كثرة الحائل بيننا وبينها وهذا هو السفسطة فيقال له الكلام على هذا من وجوه أحدها أن يقال أما إثبات رؤية الله تعالى بالأبصار في الآخرة فهو قول سلف الأمة وأئمتها وجماهير المسلمين من أهل المذاهب الأربعة وغيرها وقد تواترت فيه الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم عند علماء الحديث وجمهور القائلين بالرؤية يقولون يرى عيانا مواجهة كما هو المعروف بالعقل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إنكم سترون ربكم عز وجل يوم القيامة كما ترون الشمس والقمر لا تضامون في رؤيته وفي لفظ كما ترون الشمس والقمر صحوا وفي لفظ هل تضارون في رؤية الشمس صحوا ليس دونها سحاب قالوا لا قال فهل تضارون في رؤية القمر صحوا ليس دونه سحاب قالوا لا قال فإنكم ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر

3

342

وإذا كان كذلك فتقدير أن يكون بعض أهل السنة المثبتين للرؤية أخطأوا في بعض أحكامها لم يكن ذلك قدحا في مذهب أهل السنة والجماعة فإنا لا ندعي العصمة لكل صنف منهم وإنما ندعي أنهم لا يتفقون على ضلالة وأن كل مسألة اختلف فيها أهل السنة والجماعة والرافضة فالصواب فيها مع أهل السنة وحيث تصيب الرافضة فلا بد أن يوافقهم على الصواب بعض أهل السنة وللروافض خطأ لا يوافقهم أحد عليه من أهل السنة وليس للرافضة مسألة واحدة لا يوافقهم فيها أحد انفردوا بها عن جميع أهل السنة والجماعة إلا وهم مخطئون فيها كإمامة الاثني عشر وعصمتهم والجواب الثاني أن الذين قالوا إن الله يرى بلا مقابلة هم الذين قالوا إن الله ليس فوق العالم فلما كانوا مثبتين للرؤية نافين للعلو احتاجوا إلى الجمع بين هاتين المسألتين وهذا قول طائفة من الكلابية والأشعرية وليس هو قولهم كلهم بل ولا قول أئمتهم بل أئمة القوم يقولون إن الله بذاته فوق العرش ومن نفى ذلك منهم فإنما نفاه

3

343

لموافقته المعتزلة في نفي ذلك ونفى ملزوماته فإنهم لما وافقوهم على صحة الدليل الذي استدلت به المعتزلة على حدوث العالم وهو أن الجسم لا يخلو عن الحركة والسكون وما لا يخلو عنهما فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها قالوا فيلزم حدوث كل جسم فيمتنع أن يكون البارىء جسما لأنه قديم ويمتنع أن يكون في جهة لأنه لا يكون في الجهة إلا جسم فيمتنع أن يكون مقابلا للرائي لأن المقابلة لا تكون إلا بين جسمين ولا ريب أن جمهور العقلاء من مثبتي الرؤية ونفاتها يقولون إن هذا القول معلوم الفساد بالضرورة ولهذا يذكر الرازي أن جميع فرق الأمة تخالفهم في ذلك لكن هم يقولون لهذا المشنع عليهم نحن أثبتنا الرؤية ونفينا الجهة فلا يلزم ما ذكرته فإن أمكن رؤية المرئي لا في جهة من الرائي صح قولنا وإن لم يكن لزم خطؤنا في إحدى المسالتين إما في نفي الرؤية وأما في نفي مباينة الله لخلقه وعلوه عليهم

3

344

وإذا لزم الخطأ في أحداهما لم يتعين الخطأ في نفي الرؤية بل يجوز أن يكون الخطأ في نفي العلو والمباينة وليست موافقتنا لك حجة لك فليس تناقضنا دليلا على صواب قولك في نفي علو الله على خلقه بل الرؤية ثابتة بالنصوص المستفيضة واجماع السلف مع دلالة العقل عليها وحينئذ فلازم الحق حق ونحن إذا أثبتنا هذا الحق ونفينا بعض لوازمه كان هذا التناقض أهون من نفي الحق ولوازمه وأنتم نفيتم الرؤية ونفيتم العلو والمباينة فكان قولكم أبعد عن المعقول والمنقول من قولنا وقولنا أقرب من قولكم وإن كان في قولنا تناقض فالتناقض في قولكم أكثر ومخالفتكم لنصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أظهر وهذا بين فإن ما في النصوص الإلهية ونصوص سلف الأمة من إثبات الصفات والرؤية وعلو الله متواتر مستفيض والنفاة لا يستندون لا إلى كتاب ولا إلى سنة ولا إلى

3

345

إجماع بل عارضوا برأيهم الفاسد ما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وأما التناقض فإن هؤلاء النفاة للرؤية يقولون إنه موجود لا داخل العالم ولا خارجه ولا مباين له ولا يقرب من شيء ولا يقرب منه شيء ولا يراه أحد ولا يحجب عن رؤيته شيء دون شيء ولا يصعد إليه شيء ولا ينزل من عنده شيء إلى أمثال ذلك وإذا قيل لهم هذا مخالف للعقل وهذا صفة المعلوم المعدوم الممتنع وجوده قالوا هذا النفي من حكم الوهم فيقال لهم إذا عرض على العقل موجود ليس بجسم قائم بنفسه يمكن رؤيته كان العقل قابلا لهذا لا ينكروه فإذا قيل مع ذلك إنه يرى بلا مواجهة فإن قيل هذا ممكن بطل قولهم وإن قيل هذا مما يمنعه العقل قيل منع العقل لما جعلتموه موجودا واجبا أعظم

3

346

فإن قلتم إنكار ذلك من حكم الوهم قيل لكم وإنكار هذا حينئذ أولى أن يكون من حكم الوهم وإن قلتم بل هذا الإنكار من حكم العقل قيل لكم وذلك الإنكار من حكم العقل بطريق الأولى فإنكم تقولون حكم الوهم الباطل أن يحكم فيما ليس بمحسوس بحكم المحسوس وحينئذ إذا قلتم إن البارىء تعالى غير محسوس يمكن أن تقبلوا فيه الحكم الذي يمتنع في المحسوس وهو امتناع الرؤية بدون المقابلة وإن قلتم إنه محسوس أي يمكن الاحساس به لم يبطل فيه حكم الوهم فامتنع أن يكون لا داخل العالم ولا خارجه وحينئذ فيجوز رؤيته وإن قلتم إذا كان غير محسوس فهو غير مرئي قيل إن أردتم بالمحسوس الحس المعتاد فالرؤية التي يثبتها

3

347

مثبتة الرؤية بلا مقابلة ليست هي الرؤية المعتادة بل هي رؤية لا نعلم صفتها كما أثبتم وجود موجود لا نعلم صفته فكل ما تلزمونهم به من الشناعات والمناقضات يلزمكم أكثر منه الجواب الثالث أن يقال أهل الحديث والسنة المحضة متفقون على إثبات العلو والمباينة وإثبات الرؤية وحينئذ فمن أثبت أحدهما ونفى الآخر أقرب إلى الشرع والعقل ممن نفاهما جميعا فالأشعرية الذين أثبتوا الرؤية ونفوا الجهة أقرب إلى الشرع والعقل من المعتزلة والشيعة الذين نفوهما أما كونهم أقرب إلى الشرع فلأن الآيات والأحاديث والآثار المنقولة عن الصحابة في دلالتها على العلو وعلى الرؤية أعظم من أن تحصر وليس مع نفاة الرؤية والعلو ما يصلح أن يذكر من الأدلة الشرعية وإنما يزعمون أن عمدتهم العقل فنقول قول الأشعرية المتناقضين خير من قول هؤلاء وذلك

3

348

أنا إذا عرضنا على العقل وجود موجود لا يشار إليه ولا يقرب منه شيء ولا يصعد إليه شيء ولا ينزل منه شيء ولا هو داخل العالم ولا خارجه ولا ترفع إليه الأيدي ونحو ذلك كانت الفطرة منكرة لذلك والعقلاء جميعهم الذين لم تتغير فطرتهم ينكرون ذلك ولا يقر بذلك إلا من لقن أقوال النفاة وحجتهم وإلا فالفطر السليمة متفقة على إنكار ذلك أعظم من إنكار خرق العادات لأن العادات يجوز انخراقها باتفاق أهل الملل وموافقة عقلاء الفلاسفة لهم على ذلك فنقول إن كان قول النفاة حقا مقبولا في العقل فإثبات وجود الرب على العرش من غير أن يكون جسما أقرب إلى العقل وأولى بالقبول وإذا ثبت أنه فوق العرش فرؤية ما هو فوق الإنسان وإن لم يكن جسما أقرب إلى العقل وأولى بالقبول من إثبات قول النفاة فتبين أن الرؤية على قول هؤلاء أقرب إلى العقل من قول النفاة وإذا قدر أن هذا خلاف المعتاد فتجويز انخراق العادة أولى من قول النفاة فإن قول النفاة ممتنع في فطر العقلاء لا يمكن جوازه وأما انخراق العادة فجائز

3

349

الجواب الرابع أن الأشعرية تقول إن الله قادر على أن يخلق بحضرتنا ما لا نراه ولا نسمعه من الأجسام والأصوات وأن يرينا ما بعد منا لا يقولون إن هذا واقع بل يقولون إن الله قادر عليه وليس كل ما كان قادرا عليه يشكون في وقوعه بل يعلمون أن هذا ليس واقعا الآن وتجويز الوقوع غير الشك في الوقوع وعبارة هذا الناقل تقتضي أنهم يجوزون أن يكون هذا الآن موجودا ونحن لا نراه وهذا لا يقوله عاقل ولكن هذا قيل لهم بطريق الإلزام قيل لهم إذا جوزتم الرؤية في غير جهة فجوزا هذا فقالوا نعم نجوز كما أنهم يقولون رؤية الله جائزة في الدنيا أي هو قادر على أن يرنا نفسه وهم يعلمون مع هذا أن أحدا من الناس لا يرينا الله في الدنيا إلا ما تنوزع فيه من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ومن شك منهم في وقوع الرؤية في الدنيا فلجهله بالأدلة النافية لذلك وقد ذكر الأشعري في وقوع الرؤية بالأبصار في الدنيا لغير النبي صلى تعالى الله عليه وسلم قولين لكن الذي عليه أهل السنة قاطبة أن الله لم يره أحد بعينيه في الدنيا وقد ذكر الإمام أحمد وغيره اتفاق السلف على هذا

3

350

النفي وأنهم لم يتنازعوا إلا في النبي صلى الله عليه وسلم خاصة وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت وقد سأل موسى عليه السلام الرؤية فمنعها فلا يكون آحاد الناس أفضل من موسى وفي الجملة ليس كل ما قال قائل إنه ممكن مقدور يشك في وقوعه فالأشعرية ومن وافقهم من أتباع الشافعي ومالك وأحمد وإن كانوا يقولون بجواز أمور ممتنعة في العادة في الرؤية فيقولون إنه لا حجاب بين الله وبين العبد إلا عدم خلق الرؤية في العين وكذلك يقولون في سائر المرئيات فكانوا ينفون أن يكون في العين قوة امتازت بها فحصلت بها الرؤية ويمنعون أن يكون بين الأسباب ومسبباتها ملازمة وأن يكون بين

3

351

الموانع وممنوعاتها ممانعة ويجعلون ذلك كله عادة محضة استندت إلى محض المشيئة ويجوزون خرقها بمحض المشيئة فهم يقولون إنا نعلم انتفاء كثير مما يعلم إمكانه كما نعلم أن البحر لم ينقلب دما ولا الجبال ياقوتا ولا الحيوانات أشجارا بل يجعلون العلم بمثل هذا من العقل الذي يتميز به العاقل عن المجنون وهم وإن كانوا يتناقضون وفي قولهم ماهو باطل عقلا ونقلا فأقوالهم في القدر والصفات والرؤية خير من أقوال المعتزلة وموافقيهم من الشيعة وإن كان الصواب هو ما عليه السلف وأئمة السنة وهو قول الأئمة الأربعة وجمهور كبار أصحابهم والنصوص المأثورة في ذلك عن الأئمة المذكورين في غير هذا الموضع والبيان التام هو ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه أعلم

3

352

الخلق بالحق وأنصح الخلق للخلق وأفصح الخلق في بيان الحق فما بينه من أسماء الله وصفاته وعلوه ورؤيته هو الغاية في هذا الباب ولله الموفق للصواب فصل قال الرافضي وذهبت الأشاعرة إلى أن الله أمرنا ونهانا في الأزل ولا مخلوق عنده قائلا يا أيها النبي اتق الله سورة الأحزاب يا ايها الذين آمنوا اتقوا الله سورة البقرة يا أيها الناس اتقوا ربكم سورة النساء ولو جلس شخص في مكان خال ولا غلام عنده فقال يا سالم قم يا غانم كل يا نجاح ادخل قيل لمن تنادي قال لعبيد أريد أن أشتريهم بعد عشرين سنة نسبه كل عاقل

3

353

إلى السفه والحمق فكيف يحسن منهم أن ينسبوا إلى الله ذلك في الأزل والجواب عن هذا من وجوه أحدها أن يقال هذا قول الكلابية وهم طائفة من الذين يقولون كلام الله غير مخلوق وهؤلاء طائفة من الذين يقولون بإمامة الخلفاء الثلاثة فقولهم سواء كان حقا أو باطلا لا يقتضي صحة مذهب الرافضة ولا بطلان قول اهل السنة والجماعة فهذا القول الذي ذكره إذا كان باطلا فأكثر القائلين بإمامة الخلفاء الثلاثة لا يقولون به لا من يقول القرآن مخلوق كالمعتزلة ولا من يقول هو كلام الله غير مخلوق كالكرامية والسالمية والسلف وأهل الحديث من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم فليس في ذكر مثل هذا حصول مقصود الرافضي الوجه الثاني أن يقال أكثر أئمة الشيعة يقولون القرآن غير مخلوق وهو الثابت عن أئمة أهل البيت وحينئذ فهذا قول من أقوال هؤلاء فإن لم يكن حقا أمكن أن يقال بغيره من أقوالهم

3

354

الوجه الثالث أن يقال إن كان الكلابية والأشعرية إنما قالوا هذا لموافقتهم المعتزلة في الأصل الذي اضطرهم إلى ذلك فإنهم وافقوهم كما تقدم على صحة دليل حدوث الأجسام فلزمهم أن يقولوا بحدوث ما لا يخلو عن الحوادث ثم قالوا وما يقوم به الحوادث لا يخلو منها فإذا قيل الجسم لم يخل عن الحركة والسكون فإن الجسم إما أن يكون متحركا وإما أن يكون ساكنا قالوا والسكون الأزلي يمتنع زواله لأنه موجود أزلي وكل موجود أزلي يمتنع زواله وكل جسم يجوز عليه الحركة فإذا جاز عليه الحركة وهو أزلي وجب أن تكون حركته أزلية لامتناع زوال السكون الأزلي ولو جاز أن تكون حركته أزلية لزم حوادث لا أول لها وذلك ممتنع فلزم من ذلك أن الباري لا تقوم به الحوادث لأنها لو قامت به لم يخل منها لأن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها وقد علموا بالأدلة اليقينية أن الكلام يقوم بالمتكلم كما يقوم العلم

3

355

بالعالم والقدرة بالقادر والحركة بالمتحرك وأن الكلام الذي يخلقه الله في غيره ليس كلاما له بل لذلك المحل الذي خلقه فيه فإن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل ولم يعد على غيره واشتق لذلك المحل منه اسم ولم يشتق لغيره فلو كان الكلام المخلوق في غيره كلاما له لزم أربعة أمور باطلة ثبوت حكم الصفة والاسم المشتق منها لغير الله وانتفاء الحكم والاسم عن الله لازمان عقليان ولازمان سمعيان يلزمان بكون الكلام صفة لذلك المحل لا لله فيكون هو المنادى بما يقوم به فتكون الشجرة التي خلق فيها نداء موسى هي القائلة إنني أنا الله لا يكون الله هو المنادي بذلك ويلزم أن تسمى هي متكلمة منادية لموسى ويلزم أن لا يكون الله متكلما ولا مناديا ولا مناجيا

3

356

وهذا خلاف ما علم بالاضطرار من دين المسلمين وهذا قد بسط في غير هذا الموضع وقالوا أيضا لو لم يكن متكلما في الأزل لزم اتصافه بنقيض الكلام من السكوت أو الخرس وقالوا أيضا لو كان كلامه مخلوقا لكان إن خلقه في محل كان كلاما لذلك المحل وإن خلقه قائما بنفسه لزم أن تقوم الصفة والعرض بنفسها وإن خلقه في نفسه لزم أن تكون نفسه محلا للمخلوقات وهذه اللوازم الثلاثة باطلة تبطل كونه مخلوقا كما هو مبسوط في غير هذا الموضع فلما ثبت عندهم أن الكلام لا بد أن يقوم بالمتكلم وقد وافقوا المعتزلة على أن الحوادث لا تقوم بالقديم لزم من هذين الأصلين أن يكون الكلام قديما قالوا وقدم الأصوات ممتنع لأن الصوت لا يبقى زمانين فتعين أن يكون القديم معنى ليس بحرف ولا صوت وإذا كان كذلك كان معنى واحد لأنه لو زاد على واحد لم يكن له حد محدود ويمتنع وجود معان لا نهاية لها

3

357

فهذا أصل قولهم فهم يقولون نحن وافقناكم على امتناع أن يقوم بالرب ما هو مراد له مقدور وخالفناكم في كون كلامه مخلوقا منفصلا عنه فلزم ما ذكرتموه من مناقضتنا فإن كان الجمع بين هذين ممكنا لم نكن متناقضين وإن تعذر ذلك لزم خطؤنا في إحدى المسألتين ولم يتعين الخطأ فيما خالفناكم فيه بل قد نكون مخطئين فيما وافقناكم فيه من كون الرب لا يتكلم بمشيئته وقدرته بكلام يقوم به مع أن إثبات هذا القول هو قول جمهور أهل الحديث وطوائف من أهل الكلام من المرجئة والكرامية والشيعة وغيرهم بل لعله قول أكثر أهل الطوائف وإن لزم خطؤنا في إحدى المسألتين لا بعينها لا يلزم صوابكم أنتم بل نحن إذا اضطررنا إلى موافقة إحدى الطائفتين كانت موافقتنا لمن يقول إن الرب يتكلم بكلام يقوم به بمشيئته وقدرته خيرا من موافقتنا لمن يقول إن كلامه إنما هو ما يخلقه في غيره فإن فساد

3

358

هذا القول في الشرع والعقل أظهر من فساد القول بكونه يتكلم بكلام يقوم به يتعلق بمشيئته وقدرته ثم القائلون بأنه يتكلم بمشيئته وقدرته بكلام يقوم به وهم جمهور المسلمين اختلفوا على قولين منهم قال إنه يتكلم بمشيئته وقدرته بكلام بعد أن لم يكن الكلام موجودا فيه كما تقوله الكرامية وموافقوهم ومنهم من يقول لم يزل متكلما إذا شاء وكيف شاء كما تقوله أئمة أهل السنة والحديث كعبدالله بن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما من أئمة أهل السنة والكلابية يقولون لو اضطررنا إلى موافقة من يقول كلامه مخلوق ومن يقول كلامه قائم بذاته وجنس الكلام حادث في ذاته بعد أن لم يكن كلام هؤلاء أخفى فسادا من قول المعتزلة وقول

3

359

المعتزلة أظهر فسادا فإن الحجة النافية لهذا وهو أن القابل للشيء لا يخلو منه ومن ضده حجة ضعيفة اعترف بضعفها حذاق الطوائف واعترف منصفوهم أنه لا يقوم لهم دليل عقلي بل ولا سمعي على نفي قيام الحوادث به إلا ما ينفي الصفات مطلقا وذلك في غاية الفساد فكيف يمكن أن يصير إلى القول الآخر قول السلف وأهل الحديث وبالجملة فكون الرب لم يزل متكلما إذا شاء كما هو قول أهل الحديث مبني على مقدمتين على أنه تقوم به الأمور الاختيارية وأن كلامه لا نهاية له قال الله تعالى قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا سورة الكهف وقال ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم سورة لقمان وقد قال غير واحد من العلماء إن مثل هذا الكلام يراد به الدلالة

3

360

على أن كلام الله لا ينقضي ولا ينفد بل لا نهاية له ومن قال إنه يتكلم بمشيئته وقدرته بكلام يقوم بذاته يقولون إنه لا نهاية له في المستقبل وأما في الماضي فلهم قولان منهم من يقول لها بداية في الماضي وأئمتهم يقولون لا بداية لها في الماضي كما لا نهاية لها في المستقبل وهذا يستلزم وجود ما لا نهاية له أزلا وأبدا من الكلمات والكلام صفة كمال والمتكلم بمشيئته وقدرته أكمل ممن لا يتكلم بمشيئته وقدرته بل لا يعقل متكلم إلا كذلك ولا يكون الكلام صفة كمال إلا إذا قام بالمتكلم وأما الأمور المنفصلة عن الذات فلا يتصف بها ألبته فضلا عن أن تكون صفة كمال أو نقص قالوا ولم نعرف عن أحد من السلف لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان ولا غيرهم من أئمة المسلمين من أنكر هذا الأصل ولا قال إنه يمتنع وجود كلمات لا نهاية لها لا في الماضي ولا في المستقبل ولا قالوا ما يستلزم امتناع هذا

3

361

وإنما قال ذلك أهل الكلام المحدث المبتدع المذموم عند السلف والأئمة الذين أحدثوا في الإسلام نفي صفات الله وعلوه على خلقه ورؤيته في الآخرة وقالوا إنه لا يتكلم ثم قالوا إنه يتكلم بكلام مخلوق منفصل عن الله قالوا وإنما قلنا ذلك لأنا استدللنا على حدوث العالم بحدوث الأجسام وإنما استدللنا على حدوثها بقيام الحوادث بها وأن ما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها فلو قلنا إنه تقوم به الصفات والكلام لزم قيام الحوادث به لأنه هذه أعراض حادثة فقال لهم أهل السنة أحدثتم بدعا تزعمون أنكم تنصرون بها الإسلام فلا للإسلام نصرتم ولا لعدوه كسرتم بل سلطتم عليكم أهل الشرع والعقل فالعالمون بنصوص المرسلين يعلمون أنكم خالفتموها وأنكم أهل بدعة وضلالة والعالمون بالمعاني المعقولة يعلمون أنكم قلتم ما يخالف المعقول وأنكم أهل خطأ وجهالة

3

362

والفلاسفة الذين زعمتم أنكم تحتجون عليهم بهذه الطريق تسلطوا عليكم بها ورأوا أنكم خالفتم صريح العقل والفلاسفة أجهل منكم بالشرع والعقل في الإلهيات لكن لما ظنوا أن ما جئتم به هو الشرع وقد رأوه يخالف العقل صاروا أبعد عن الشرع والعقل منكم لكن عارضوكم بأدلة عقلية بل وشرعية ظهر بها عجزكم في هذا الباب عن بيان حقيقة الصواب وكان ذلك مما زادهم ضلالا في أنفسهم وتسلطا عليكم ولو سلكتم معهم طريق العارفين بحقيقة المعقول والمنقول لكان ذلك أنصر لكم وأتبع لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولكنكم كنتم بمنزلة من جاهد الكفار بنوع من الكذب والعدوان وأوهمهم أن هذا يدخل في حقيقة الإيمان فصار ما عرفه أولئك من كذب هؤلاء وعدوانهم مما يوجب القدح فيما ادعوه من إيمانهم ولما رأى أولئك في الملك والرياسة والمال من جنس هذه المخادعة والمحال سلكوا

3

363

طريقا أبلغ في المخادعة والمحال من طرق أولئك المبتدعين الضالين فسلطوا عليهم عقوبة لهم على خروجهم عن الدين قال الله تعالى أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم آل عمران وقال إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم آل عمران وقال وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين آل عمران فما جاء به الرسول حق محض يتصادق عليه صريح المعقول وصحيح المنقول والأقوال المخالفة لذلك وإن كان كثير من أصحابها مجتهدين مغفورا لهم خطؤهم فلا يملكون نصرها بالأدلة العلمية ولا الجواب عما يقدح فيها بالأجوبة العلمية فإن الأدلة العقلية الصحيحة لا تدل إلا على القول الحق والأجوبة الصحيحة المفسدة لحجة الخصم لا تفسدها إلا إذا كانت باطلة فإن ما هو باطل لا يقوم عليه دليل صحيح وما هو حق لا يمكن دفعه بحجة صحيحة

3

364

والمقصود هنا أن من قال قولا أصاب فيه من وجه وأخطأ فيه من وجه آخر حتى تناقض في ذلك القول بحيث جمع فيه بين أمرين متناقضين يقول لمن يناقضه بمقدمة جدلية سلمها له تناقضي إنما يدل على خطئي في أحد القولين إما القول الذي سلمته لك وإما القول الذي ألزمتني بالتزامه وهذا لا يدل على صحة قولك بل يمكن أن يكون القول الآخر هو الصواب فالأشعرية العارفون بأن كلام الله غير مخلوق وبأن هذا قول السلف والأئمة وبما دل على ذلك من الأدلة الشرعية والعقلية إذا قيل لهم القول بقدم القرآن ممتنع أمكنهم أن يقولوا هنا قولان آخران لمن يقول أنه غير مخلوق كما تقدم ولا يلزم واحدا من القولين لازم إلا ولازم قول من يقول إنه مخلوق أعظم فسادا فالعاقل لا يكون مستجيرا من الرمضاء بالنار بل إذا انتقل ينتقل من قول مرجوح إلى راجح والذين قالوا إنه يتكلم بمشيئته وقدرته

3

365

بعد أن لم يكن متكلما لا حجة للمعتزلة ونحوهم عليهم إلا حجة نفي الصفات وهي حجة داحضة ولا حجة للكلابية عليهم إلا أن ذلك يستلزم دوام الحوادث لأن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده ولأن القابلية للحوادث تكون من لوازم ذاته وهذه الحجج مما قد التزم هؤلاء ما هو أضعف منها كما قد بسط في مواضعه واعترف حذاقهم بضعف جميع هذه الحجج العقلية في هذا الباب وأما السمعيات فهي مع المثبتة لا مع النفاة والقول بدوام كونه متكلما إذا شاء وأن الكلام لازم لذات الرب معه من الحجج ما يضيق هذا الموضع عن استقصائها وأي القولين صح أمكن الانتقال إليه والرازي وغيره يقولون إن جميع طوائف العقلاء يلزمهم القول بقيام الحوادث به فإن صح هذا أمكن القول بأنه يتكلم بمشيئته وقدرته وقد بسطنا الكلام على نهايات عقول العقلاء في هذه المسائل ومادل عليه الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة في كتاب درء تعارض العقل والنقل وغير ذلك

3

366

وبالجملة فما ذكر من الحجة مبنى على أن السكون أمر وجودي وعلى أن الله يصير فاعلا بعد أن لم يكن كذلك فتكون الحوادث غير دائمة ومن المعلوم أن فساد هذين القولين ليس ظاهرا لا سيما وعند التحقيق يظهر صحتهما أو صحة أحدهما وأيهما صح أمكن معه القول بأن الله يتكلم بكلام يقوم به بمشيئته وقدرته قال الأشعرية وإذا كان هذا هو الحق فنحن إذا قلنا إن كلامه يقوم به فليس متعلقا بمشيئته وقدرته قلنا ببعض الحق وتناقضنا فكان هذا خيرا ممن يقول إنه ليس لله كلام إلا ما يخلقه في غيره لما في هذا القول من مخالفة الشرع والعقل الوجه الرابع أن يقال الخطاب لمعدوم لم يوجد بعد بشرط وجوده أقرب إلى العقل من متكلم لا يقوم به كلامه ومن كون الرب مسلوب صفات الكمال لا يتكلم ومن أن يخلق كلاما في غيره فيكون ذلك ليس كلاما لمن خلقه فيه بل لخالقه وهو إذا خلق في غيره حركة كانت الحركة حركة للمحل المخلوقة فيه لا للخالق لها وكذلك سائر

3

367

الأعراض فما خلق الله من عرض في جسم إلا كان صفة لذلك الجسم لا لله تعالى وأما خطاب من لم يوجد بشرط وجوده فإن الموصي قد يوصي بأشياء ويقول أنا آمر الوصي بعد موتي أن يعمل كذا ويعمل كذا فإذا بلغ ولدي فلان يكون هو الوصي وأنا آمره بكذا وكذا بل يقف وقفا يبقى سنين ويأمر الناظر الذي يخلفه بعد بأشياء وأما القائل يا سالم ويا غانم فإن قصد به خطاب حاضر ليس بموجود فهذا قبيح بالاتفاق وأما إن قصد به خطاب من سيكون مثل أن يقول قد أخبرني الصادق أن أمتي تلد غلاما ويسمى غانما فإذا ولدته فهو حر وقد جعلته وصيا على أولادي وأنا آمرك يا غانم بكذا وكذا لم يكن هذا ممتنعا وذلك لأن الخطاب هنا هو لحاضر في العلم وإن كان مفقودا في العين والإنسان يخاطب من يستحضره في نفسه ويتذكر أشخاصا قد أمرهم بأشياء فيقول يا فلان أما قلت لك كذا

3

368

والشيعة والسنية يروون عن علي رضي الله عنه أنه لما مر بكربلاء قال صبرا أبا عبد الله صبرا أبا عبدالله يخاطب الحسين لعلمه بأنه سيقتل وهذا قبل أن يحضر الحسين بكربلاء ويطلب قتله والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال وخروجه وأنه قال يا عباد الله اثبتوا وبعد لم يوجد عباد الله أولئك والمسلمون يقولون في صلاتهم السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته وليس هو حاضرا عندهم ولكنه حاضر في قلوبهم وقد قال تعالى إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون سورة يس وهذا عند أكثر العلماء هو خطاب يكون لمن يعلمه الرب تعالى في نفسه وإن لم يوجد بعد ومن قال إنه عبارة عن شرعة التكوين فقد خالف مفهوم الخطاب وحمل الآية على ذلك يستدعي استعمال الخطاب في مثل هذا المعنى وأن هذا من اللغة التي نزل بها القرآن وإلا فليس لأحد أن يحمل خطاب الله ورسوله على ما يخطر

3

369

بل القرآن نزل بلغة العرب بل بلغة قريش وقد علمت العادة المعروفة في خطاب الله ورسوله فليس لأحد أن يخرج عنها وبالجملة فنحن ليس مقصودنا هنا نصر قول من يقول القرآن قديم فإن هذا القول أول من عرف أنه قاله في الإسلام أبو محمد عبدالله بن سعيد بن كلاب واتبعه على ذلك طوائف فصاروا حزبين حزبا يقول القديم هو معنى قائم بالذات وحزبا يقول هو حروف أو حروف وأصوات وقد صار إلى كل من القولين طوائف من المنتسبين إلى السنة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم وليس هذا القول ولا هذا القول قول أحد من الأئمة الأربعة بل الأئمة الأربعة وسائر الأئمة متفقون على أن كلام الله منزل غير مخلوق وقد صرح غير واحد منهم إن الله تعالى متكلم بمشيئته وقدرته وصرحوا بأنه لم يزل متكلما إذا شاء كيف شاء وغير ذلك من الأقوال المنقولة عنهم وهذه المسألة قد تكلم فيها السلف لكن اشتهر النزاع فيها في المحنة المشهورة لما امتحن أئمة الإسلام وكان الذي ثبته الله في المحنة وأقامه لنصر السنة هو الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى وكلامه وكلام غيره في ذلك موجود في كتب كثيرة وإن كان طائفة من متأخري

3

370

أصحابه وافقوا بن كلاب على قوله إن القرآن قديم فأئمة أصحابه على نفي ذلك وأن كلامه قديم بمعنى أنه لم يزل متكلما بمشيئته وقدرته ولهم قولان هل يوصف الله بالسكوت عن كل كلام أو أنه لم يزل متكلما وإنما يوصف بالسكوت عن بعض الأشياء ذكرهما أبو بكر عبدالعزيز وأبو عبدالله بن حامد وغيرهما وأكثر أئمتهم وجمهورهم على أنه لم يزل متكلما إنما يوصف بالسكوت عن بعض الأشياء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم الحلال ما أحله الله في كتابه والحرام ما حرمه الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه وأحمد وغيره من السلف يقولون إن الله تعالى يتكلم بصوت لكن لم يقل أحد منهم إن ذلك الصوت المعين قديم

3

371

يقولون إن الله تعالى يتكلم بصوت لكن لم يقل أحد منهم إن ذلك الصوت المعين قديم فصل قال الرافضي وذهب جميع من عدا الإمامية والإسماعيلية إلى أن الأنبياء والأئمة غير معصومين فجوزوا بعثة من يجوز عليه الكذب والسهو والخطأ والسرقة فأي وثوق يبقى للعامة في أقوالهم وكيف يحصل الانقياد إليهم وكيف يجب اتباعهم مع تجويز أن يكون ما يأمرون به خطأ ولم يجعلوا الأئمة محصورين في عدد معين بل كل من بايع قرشيا انعقدت إمامته عندهم ووجب طاعته على جميع الخلق إذا كان مستور الحال وإن كان على غاية من الكفر والفسوق والنفاق

3

372

فيقال الكلام على هذا من وجوه أحدها أن يقال ما ذكرته عن الجمهور من نفي العصمة عن الأنبياء وتجويز الكذب والسرقة والأمر بالخطأ عليهم فهذا كذب على الجمهور فإنهم متفقون على أن الأنبياء معصومون في تبليغ الرسالة ولا يجوز أن يستقر في شيء من الشريعة خطأ باتفاق المسلمين وكل ما يبلغونه عن الله عز وجل من الأمر والنهي يجب طاعته فيه باتفاق المسلمين وما أخبروا به وجب تصديقهم فيه بإجماع المسلمين وما أمروهم به ونهوهم عنه وجبت طاعتهم فيه عند جميع فرق الأمة إلا عند طائفة من الخوارج يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم فيما يبلغه عن الله لا فيما يأمر هو به وينهى عنه وهؤلاء ضلال باتفاق أهل السنة والجماعة وقد ذكرنا غير مرة أنه إذا كان في بعض المسلمين من قال قولا خطأ لم يكن ذلك قدحا في المسلمين ولو كان كذلك لكان خطأ الرافضة

3

373

عيبا في دين المسلمين فلا يعرف في الطوائف أكثر خطأ وكذبا منهم وذلك لا يضر المسلمين شيئا فكذلك لا يضرهم وجود مخطىء آخر غير الرافضة وأكثر الناس أو كثير منهم لا يجوزون عليهم الكبائر والجمهور الذي يجوزون الصغائر هم ومن يجوز الكبائر يقولون إنهم لا يقرون عليها بل يحصل لهم بالتوبة منها من المنزلة أعظم مما كان قبل ذلك كما تقدم التنبيه عليه وبالجملة فليس في المسلمين من يقول إنه يجب طاعة الرسول مع جواز أن يكون أمره خطأ بل هم متفقون على أن الأمر الذي يجب طاعته لا يكون إلا صوابا فقوله كيف يجب اتباعهم مع تجويز أن يكون ما يأمرون به خطأ قول لا يلزم أحدا من الأمة وللناس في تجويز الخطأ عليهم في الاجتهاد قولان معروفان وهم متفقون على أنهم لا يقرون عليه وإنما يطاعون فيما أقروا عليه لا فيما غيره الله ونهى عنه ولم يأمر بالطاعة فيه

3

374

وأما عصمة الأئمة فلم يقل بها إلا كما قال الإمامية والإسماعيليه وناهيك بقول لم يوافقهم عليه إلا الملاحدة المنافقون الذين شيوخهم الكبار أكفر من اليهود والنصارى والمشركين وهذا دأب الرافضة دائما يتجاوزون عن جماعة المسلمين إلى اليهود والنصارى والمشركين في الأقوال والموالاة والمعاونة والقتال وغير ذلك فهل يوجد أضل من قوم يعادون السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ويوالون الكفار والمنافقين وقد قال الله تعالى ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ماهم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون أعد الله لهم عذابا شديدا إنهم ساء ما كانوا يعملون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون يوم يبعثم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا أنهم هم الكاذبون استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين كتب

3

375

الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز لا نجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا أن حزب الله هم المفلحون سورة المجادلة فهذه الآيات نزلت في المنافقين وليس المنافقون في طائفة أكثر منهم في الرافضة حتى أنه ليس في الروافض إلا من فيه شعبة من شعب النفاق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا أؤتمن خان وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر أخرجاه في الصحيحين ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون سورة المائدة

3

376

وقال تعالى لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا سورة المائدة وهم غالبا لا يتناهون عن منكر فعلوه بل ديارهم أكثر البلاد منكرا من الظلم والفواحش وغير ذلك وهم يتولون الكفار الذين غضب الله عليهم فليسوا مع المؤمنين ولا مع الكفار كما قال تعالى ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم سورة المجادلة ولهذا هم عند جماهير المسلمين نوع آخر حتى أن المسلمين لما قاتلوهم بالجبل الذي كانوا عاصين فيه بساحل الشام يسفكون دماء المسلمين ويأخذون أموالهم ويقطعون الطريق استحلالا لذلك وتدينا به فقاتلهم صنف من التركمان فصاروا يقولون نحن مسلمون فيقولون لا أنتم جنس آخر فهم بسلامة قلوبهم علموا أنهم جنس آخر خارجون عن المسلمين لامتيازهم عنهم

3

377

وقد قال الله تعالى ويحلفون على الكذب وهم يعلمون سورة المجادلة وهذا حال الرافضة وكذلك اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إلى قوله لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله الأية سورة المجادلة وكثير منهم يواد الكفار من وسط قلبه أكثر من موادته للمسلمين ولهذا لما خرج الترك والكفار من جهة المشرق فقاتلوا المسلمين وسفكوا دماءهم ببلاد خرسان والعراق والشام والجزيرة وغيرها كانت الرافضة معاونة لهم على قتال المسلمين ووزير بغداد المعروف بالعلقمي هو وأمثاله كانوا من أعظم الناس معاونة لهم على المسلمين وكذلك الذين كانوا بالشام بحلب وغيرها من الرافضة كانوا من أشد الناس معاونة لهم على قتال المسلمين وكذلك النصارى

3

378

الذين قاتلهم المسلمون بالشام كانت الرافضة من أعظم أعوانهم وكذلك إذا صار اليهود دولة بالعراق وغيره تكون الرافضة من أعظم أعوانهم فهم دائما يوالون الكفار من المشركين واليهود والنصارى ويعاونونهم على قتال المسلمين ومعاداتهم ثم إن هذا ادعى عصمة الأئمة دعوى لم يقم عليها حجة إلا ما تقدم من أن الله لم يخل العالم من أئمة معصومين لما في ذلك من المصلحة واللطف ومن المعلوم المتيقن أن هذا المنتظر الغائب المفقود لم يحصل به شيء من المصلحة واللطف سواء كان ميتا كما يقوله الجمهور أو كان حيا كما تظنه الإمامية وكذلك أجداده المتقدمون لم يحصل بهم شيء من المصلحة واللطف الحاصلة من إمام معصوم ذي سلطان كما كان النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد الهجرة فإنه كان إمام المؤمنين الذي يجب عليهم طاعته ويحصل بذلك سعادتهم ولم يحصل بعده

3

379

أحد له سلطان تدعى له العصمة إلا علي رضي الله عنه زمن خلافته ومن المعلوم بالضرورة أن حال اللطف والمصلحة التي كان المؤمنون فيها زمن الخلفاء الثلاثة أعظم من اللطف والمصلحة الذي كان في خلافة علي زمن القتال والفتنة والافتراق فإذا لم يوجد من يدعي الإمامية فيه أنه معصوم وحصل له سلطان بمبايعة ذي الشوكة إلا علي وحده وكان مصلحة المكلفين واللطف الذي حصل لهم في دينهم ودنياهم في ذلك الزمان أقل منه في زمن الخلفاء الثلاثة علم بالضرورة أن ما يدعونه من اللطف والمصلحة الحاصلة بالأئمة المعصومين باطل قطعا وهو من جنس الهدى والإيمان الذي يدعى في رجال الغيب بجبل لبنان وغيره من الجبال مثل جبل قاسيون بدمشق ومغارة الدم وجبل الفتح بمصر ونحو ذلك من الجبال والغيران فإن

3

380

هذه المواضع يسكنها الجن ويكون بها الشياطين ويتراءون أحيانا لبعض الناس ويغيبون عن الأبصار في أكثر الأوقات فيظن الجهال أنهم رجال من الإنس وإنما هم رجال من الجن كما قال تعالى وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا سورة الجن وهؤلاء يؤمن بهم وبمن ينتحلهم من المشايخ طوائف ضالون لكن المشايخ الذين ينتحلون رجال الغيب لا يحصل بهم من الفساد ما يحصل بالذين يدعون الإمام المعصوم بل المفسدة والشر الحاصل في هؤلاء أكثر فإنهم يدعون الدعوة إلى إمام معصوم ولا يوجد لهم أئمة ذوو سيف يستعينون بهم إلا كافر أو فاسق أو منافق أو جاهل لا تخرج رؤوسهم عن هذه الأقسام والإسماعيلية شر منهم فإنهم يدعون إلى الإمام المعصوم ومنتهى دعوتهم إلى رجال ملاحدة منافقين فساق ومنهم من هو شر في الباطن من اليهود والنصارى فالداعون إلى المعصوم لا يدعون إلى سلطان معصوم بل إلى سلطان كفور أو ظلوم وهذا أمر مشهور يعرفه كل من له خبرة بأحوالهم وقد قال تعالى يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي

3

381

الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وذلك خير وأحسن تأويلا سورة النساء فأمر الله المؤمنين عند التنازع بالرد إلى الله والرسول ولو كان للناس معصوم غير الرسول صلى الله عليه وسلم لأمرهم بالرد إليه فدل القرآن على أنه لا معصوم إلا الرسول صلى الله عليه وسلم فصل وأما قوله ولم يجعلوا الائمة محصورين في عدد معين فهذا حق وذلك أن الله تعالى قال يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم سورة النساء ولم يوقتهم بعدد معين وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الثابتة عنه المستفيضة لم يوقت ولاة الأمور في عدد معين ففي الصحيحين عن أبي ذر قال إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع وإن كان عبدا حبشيا مجدع الأطراف

3

382

وفي صحيح مسلم عن أم الحصين أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بمنى أو بعرفات في حجة الوداع يقول لو استعمل عليكم عبد أسود مجدع يقودكم بكتاب الله فاسمعوا وأطيعوا وروى البخاري عن أنس بن مالك قال قال رسول صلى الله عليه وسلم اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة وفي الصحيحين عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان

3

383

وفي البخاري ما بقي منهم اثنان وفي الصحيحين عن جابر بن سمرة قال دخلت مع أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول إن هذا الأمر ما ينقضي حتى يمضي منهم اثنا عشر خليفة ثم تكلم بكلمة خفيفة لم أفهمها أو قال خفيت علي فقلت لأبي ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلهم من قريش وفي لفظ في الصحيحين قال لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة وفي الصحيحين عن جابر

3

384

أيضا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر أمير كلهم من قريش وفي الصحيحين عن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال كتبت إلى جابر بن سمرة مع غلامي نافع أن أخبرني بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب إلي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جمعة عشية رجم الأسلمي قال لا يزال هذا الدين قائما حتى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس تبع لقريش في هذا الشأن مسلمهم تبع لمسلمهم وكافرهم تبع لكافرهم

3

385

وعن جابر بن عبد الله قال قال النبي صلى الله عليه وسلم الناس تبع لقريش في الخير والشر وفي البخاري عن معاوية رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحدا إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين خرجه في باب الأمراء من قريش فصل وأما قوله عنهم كل من بايع قرشيا انعقدت إمامته ووجبت طاعته على جميع الخلق إذا كان مستور الحال وإن كان على غاية من الفسق والكفر والنفاق

3

386

فحوابه من وجوه أحدها أن هذا ليس قول أهل السنة والجماعة وليس مذهبهم أنه بمجرد مبايعة واحد قرشي تنعقد بيعته ويجب على جميع الناس طاعته وهذا وإن كان قد قاله بعض أهل الكلام فليس هو قول أئمة أهل السنة والجماعة بل قد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه من بايع رجلا بغير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا الحديث رواه البخاري وسيأتي بكماله إن شاء الله تعالى

3

387

الوجه الثاني أنهم لا يوجبون طاعة الإمام في كل ما يأمر به بل لا يوجبون طاعته إلا فيما تسوغ طاعته فيه في الشريعة فلا يجوزون طاعته في معصية الله وإن كان إماما عادلا وإذا أمرهم بطاعة الله فأطاعوه مثل أن يأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والصدق والعدل والحج والجهاد في سبيل الله فهم في الحقيقة إنما أطاعوا الله والكافر والفاسق إذا أمر بما هو طاعة لله لم تحرم طاعة الله ولا يسقط وجوبها لأجل أمر ذلك الفاسق بها كما أنه إذا تكلم بحق لم يجز تكذيبه ولا يسقط وجوب اتباع الحق لكونه قد قاله فاسق فأهل السنة لا يطيعون ولاة الأمور مطلقا إنما يطيعونهم في ضمن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم سورة النساء فأمر بطاعة الله مطلقا وأمر بطاعة الرسول لأنه لا يأمر إلا بطاعة الله ومن يطع الرسول فقد أطاع الله وجعل طاعة أولي الأمر داخلة في ذلك فقال وأولي الأمر منكم ولم يذكر لهم طاعة ثالثة لأن ولي الأمر لا يطاع طاعة مطلقة إنما يطاع في المعروف

3

388

كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إنما الطاعة في المعروف وقال لا طاعة في معصية الله ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وقال ومن أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه

3

389

وقول هؤلاء الرافضة المنسوبين إلى شيعة علي رضي الله عنه أنه تجب طاعة غير الرسول صلى الله عليه وسلم مطلقا في كل ما أمر به أفسد من قول من كان منسوبا إلى شيعة عثمان رضي الله عنه من أهل الشام أنه يجب طاعة ولي الامر مطلقا فإن أولئك كانوا يطيعون ذا السلطان وهو موجود وهؤلاء يوجبون طاعة معصوم مفقود وأيضا فأولئك لم يكونوا يدعون في أئمتهم العصمة التي تدعيها الرافضة بل كانوا يجعلونهم كالخلفاء الراشدين وأئمة العدل الذين يقلدون فيما لم تعرف حقيقة أمره أو يقولون إن الله يقبل منهم الحسنات ويتجاوز لهم عن السيئات وهذا أهون ممن يقول إنهم معصومون لا يخطئون فتبين أن هؤلاء المنسوبين إلى النصب من شيعة عثمان وإن كان

3

390

فيهم خروج عن بعض الحق والعدل فخروج الإمامية عن الحق والعدل أكثر وأشد فكيف بقول أئمة السنة الموافق للكتاب والسنة وهو الأمر بطاعة ولي الأمر فيما يأمر به من طاعة الله دون ما يأمر به من معصية الله الوجه الثالث أن يقال إن الناس قد تنازعوا في ولي الأمر الفاسق والجاهل هل يطاع فيما يأمر به من طاعة الله وينفذ حكمه وقسمه إذا وافق العدل أو لا يطاع في شيء ولا ينفذ شيء من حكمه وقسمه أو يفرق في ذلك بين الإمام الأعظم وبين القاضي ونحوه من الفروع على ثلاثة أقوال أضعفها عند أهل السنة هو رد جميع أمره وحكمه وقسمه وأصحها عند أهل الحديث وأئمة الفقهاء هو القول الأول وهو أن يطاع في طاعة الله مطلقا وينفذ حكمه وقسمه إذا كان فعله عدلا مطلقا حتى أن القاضي الجاهل والظالم ينفذ حكمه بالعدل وقسمه بالعدل على هذا القول كما هو قول أكثر الفقهاء والقول الثالث هو الفرق بين الإمام الأعظم وبين غيره لأن ذلك لا يمكن عزله إذا فسق إلا بقتال وفتنة بخلاف الحاكم ونحوه فإنه

3

391

يمكن عزله بدون ذلك وهو فرق ضعيف فإن الحاكم إذا ولاه ذو الشوكة لا يمكن عزله إلا بفتنة ومتى كان السعي في عزله مفسدة أعظم من مفسدة بقائه لم يجز الإتيان بأعظم الفسادين لدفع أدناهما وكذلك الإمام الأعظم ولهذا كان المشهور من مذهب أهل السنة أنهم لا يرون الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف وإن كان فيهم ظلم كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم لأن الفساد في القتال والفتنة أعظم من الفساد الحاصل بظلمهم بدون قتال ولا فتنة فلا يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما ولعله لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته والله تعالى لم يأمر بقتال كل ظالم وكل باغ كيفما كان ولا أمر بقتال الباغين ابتداء بل قال وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغى حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل سورة الحجرات فلم يأمر بقتال الباغية ابتداء فكيف يأمر بقتال ولاة الأمر ابتداء

3

392

وفي صحيح مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سيكون أمراء فتعرفون وتنكرون فمن عرف برىء ومن أنكر سلم ولكن رضي وتابع قالوا أفلا نقاتلهم قال لا ماصلوا فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتالهم مع إخباره أنهم يأتون أمورا منكرة فدل على أنه لا يجوز الإنكار عليهم بالسيف كما يراه من يقاتل ولاة الأمر من الخوارج والزيدية والمعتزلة وطائفة من الفقهاء وغيرهم وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكم سترون بعدي أثرة وأمورا تنكرونها قالوا فما تأمرنا يا رسول الله قال تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الامراء يظلمون ويفعلون أمورا منكرة ومع هذا فأمرنا أن نؤتيهم الحق الذي لهم ونسأل الله الحق الذي لنا ولم يأذن في أخذ الحق بالقتال ولم يرخص في ترك الحق الذي لهم وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى

3

393

الله عليه وسلم قال من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية وفي لفظ فإنه من خرج من السلطان شبرا فمات مات ميتة جاهلية واللفظ للبخاري وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم لما ذكر أنهم لا يهتدون بهديه ولا يستنون بسنته قال حذيفة كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك قال تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع فهذا أمر بالطاعة مع ظلم الأمير

3

394

وتقدم قوله صلى الله عليه وسلم من ولى عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا عن طاعة وهذا نهي عن الخروج عن السلطان وإن عصى وتقدم حديث عبادة بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله قال إلا إن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان وفي رواية وأن نقول أو نقوم بالحق حيث ما كنا لا نخاف في الله لومة لائم فهذا

3

395

أمر بالطاعة مع استئثار ولي الأمر وذلك ظلم منه ونهى عن منازعة الأمر أهله وذلك نهي عن الخروج عليه لأن أهله هم أولو الأمر الذين أمر بطاعتهم وهم الذين لهم سلطان يأمرون به وليس المراد من يستحق أن يولى ولا سلطان له ولا المتولى العادل لأنه قد ذكر أنهم يستأثرون فدل على أنه نهى عن منازعة ولي الأمر وإن كان مستأثرا وهذا باب واسع الوجه الرابع أنا إذا قدرنا أنه يشترط العدل في كل متول فلا يطاع إلا من كان ذا عدل لا من كان ظالما فمعلوم أن اشترط العدل في الولاة ليس بأعظم من اشتراطه في الشهود فإن الشاهد قد يخبر بما لا يعلم فإن لم يكن ذا عدل لم يعرف صدقه فيما أخبر به وأما ولي الأمر فهو يأمر بأمر يعلم حكمه من غيره فيعلم هل هو طاعة لله أو معصية

3

396

ولهذا قال تعالى إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا سورة الحجرات فأمر بالتبين إذا جاء الفاسق بنبأ ومعلوم أن الظلم لا يمنع من فعل الطاعة ولا من الأمر بها وهذا مما يوافق عليه الإمامية فإنهم لا يقولون بتخليد أهل الكبائر في النار فالفسق عندهم لا يحبط الحسنات كلها بخلاف من خالف في ذلك من الزيدية والمعتزلة والخوارج الذين يقولون إن الفسق يحبط الحسنات كلها ولو حبطت حسناته كلها لحبط إيمانه ولو حبط إيمانه لكان كافرا مرتدا فوجب قتله ونصوص الكتاب والسنة والإجماع تدل على أن الزاني والسارق والقاذف لا يقتل بل يقام عليه الحد فدل على أنه ليس بمرتد وكذلك قوله تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما الأية سورة الحجرات يدل على وجود الإيمان والأخوة مع الاقتتال والبغي

3

397

وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من كانت عنده لأخيه مظلمة من عرض أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون درهم ولا دينار إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فطرحت عليه ثم ألقي في النار أخرجاه في الصحيحين فثبت أن الظالم يكون له حسنات فيستوفي المظلوم منها حقه وكذلك ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما تعدون المفلس فيكم قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا دينار قال المفلس من يأتي يوم القيامة وله حسنات أمثال الجبال وقد شتم هذا وأخذ مال هذا وسفك دم هذا وقذف هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإذا فنيت

3

398

حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار رواه مسلم وقد قال تعالى إن الحسنات يذهبن السيئات سورة هود فدل ذلك على أنه في حال إساءته يفعل حسنات تمحو إساءاته وإلا لو كانت السيئات قد زالت قبل ذلك بتوبة ونحوها لم تكن الحسنات قد أذهبتها وليس هذا موضع بسط ذلك والمقصود هنا أن الله جعل الفسق مانعا من قبل النبأ والفسق ليس مانعا من فعل كل حسنة وإذا كان كذلك وقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أنه لا يستشهد إلا ذوو العدل ثم يكفي في ذلك الظاهر فإذا اشترط العدل في الولاية فلأن يكفي في ذلك الظاهر أولى فعلم أنه لا يشترط في الولاية من العلم والعدالة أكثر مما يشترط في

3

399

الشهادة يبين ذلك أن الإمامية وجميع الناس يجوزون أن يكون نواب الإمام غير معصومين وأن لا يكون الإمام عالما بعصمتهم بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ولى الوليد بن عقبة بن أبي معيط ثم أخبره بمحاربة الذين أرسله إليهم فأنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين سورة الحجرات وعلي رضي الله عنه كان كثير من نوابه يخونه وفيهم من هرب عنه وله مع نوابه سير معلومة فعلم أنه ليس في كون الإمام معصوما ما يمنع اعتبار الظاهر ووجود مثل هذه المفاسد وأن اشتراط العصمة في الأئمة شرط ليس بمقدور ولا مأمور ولم يحصل به منفعة لا في الدين ولا في الدنيا

3

400

مثل كثير من النساك الذين يشترطون في الشيخ أن يعلم أمورا لا يكاد يعلمها أحد من البشر فيصفون الشيخ بصفات من جنس صفات المعصوم عند الإمامية ثم منتهى هؤلاء اتباع شيخ جاهل أو ظالم واتباع هؤلاء لمتول ظالم أو جاهل مثل الذي جاع وقال لا يأكل من طعام البلد حتى يحصل له مثل طعام أهل الجنة فخرج إلى البرية فصار لا يحصل له إلا علف البهائم فبينا هو يدعو إلى مثل طعام الجنة انتهى أمره إلى علف الدواب كالكلأ النابت في المباحات وهكذا من غلا في الزهد والورع حتى خرج عن حد العدل الشرعي ينتهي أمره إلى الرغبة الفاسدة وانتهاك المحارم كما قد رؤي ذلك وجرب فصل قال الرافضي وذهب الجميع منهم إلى القول بالقياس والأخذ بالرأي فأدخلوا في دين الله ما ليس منه

3

401

وحرفوا أحكام الشريعة وأحدثوا مذاهب أربعة لم تكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا زمن صحابته وأهملوا أقاويل الصحابة مع أنهم نصوا على ترك القياس وقالوا أول من قاس إبليس فيقال الجواب عن هذا من وجوه أحدها أن دعواه على جميع أهل السنة المثبتين لإمامة الخلفاء الثلاثة أنهم يقولون بالقياس دعوى باطلة فقد عرف فيهم طوائف لا يقولون بالقياس كالمعتزلة البغداديين وكالظاهرية كداود وابن حزم وغيرهما وطائفة من أهل الحديث والصوفية وأيضا ففي الشيعة من يقول بالقياس كالزيدية فصار النزاع فيه بين الشيعة كما هو بين أهل السنة والجماعة الثاني أن يقال القياس ولو قيل إنه ضعيف هو خير من تقليد من لم يبلغ في العلم مبلغ المجتهدين فإن كل من له علم

3

402

وإنصاف يعلم أن مثل مالك والليث بن سعد والأوزاعي وأبي حنيفة والثوري وابن أبي ليلى ومثل الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور أعلم وأفقه من العسكريين وأمثالهما وأيضا فهؤلاء خير من المنتظر الذي لا يعلم ما يقول فإن الواحد من هؤلاء إن كان عنده نص منقول عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا ريب أنلا النص الثابت عن النبي مقدم على القياس بلا ريب وإن لم يكن عنده نص ولم يقل بالقياس كان جاهلا فالقياس الذي يفيد الظن خير من الجهل الذي لا علم معه ولا ظن فإن قال هؤلاء كل ما يقولونه هو ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم كان هذا أضعف من قول من قال كل ما يقوله المجتهد فإنه قول النبي صلى الله عليه وسلم فإن هذا يقوله طائفة من أهل الرأي وقولهم أقرب من قول الرافضة فإن قول أولئك كذب صريح وأيضا فهذا كقول من يقول عمل أهل المدينة متلقى عن

3

403

الصحابة وقول الصحابة متلقى عن النبي صلى الله عليه وسلم وقول من يقول ما قاله الصحابة في غير مجاري القياس فإنه لا يقوله إلا توقيفا عن النبي صلى الله عليه وسلم وقول من يقول قول المجتهد أو الشيخ العارف هو إلهام من الله ووحي يجب اتباعه فإن قال هؤلاء تنازعوا قيل وأولئك تنازعوا فلا يمكن أن يدعى دعوى باطلة إلا أمكن معارضتهم بمثلها أو بخير منها ولا يقولون حقا إلا كان في أهل السنة والجماعة من يقول مثل ذلك الحق أو ما هو خير منه فإن البدعة مع السنة كالكفر مع الإيمان وقد قال تعالى ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا سورة الفرقان الثالث أن يقال الذين أدخلوا في دين الله ما ليس منه وحرفوا

3

404

أحكام الشريعة ليسوا في طائفة أكثر منهم في الرافضة فإنهم أدخلوا في دين الله من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يكذبه غيرهم وردوا من الصدق ما لم يرده غيرهم وحرفوا القرآن تحريفا لم يحرفه غيرهم مثل قولهم إن قوله تعالى إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون سورة المائدة نزلت في علي لما تصدق بخاتمه في الصلاة وقوله تعالى مرج البحرين سورة الرحمن علي وفاطمة يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان سورة الرحمن الحسن والحسين وكل شيء أحصيناه في إمام مبين سورة يس علي بن أبي طالب إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وعمران سورة آل عمران هم آل أبي طالب وإسم أبي طالب عمران فقاتلوا أئمة الكفر سورة التوبة طلحة والزبير والشجرة الملعونة في القرآن سورة الإسراء

3

405

هم بنو أمية إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة سورة البقرة عائشة و لئن أشركت ليحبطن عملك سورة الزمر لئن اشركت بين أبي بكر وعلي في الولاية وكل هذا وأمثاله وجدته في كتبهم ثم من هذا دخلت الإسماعيليه والنصيرية في تأويل الواجبات والمحرمات فهم أئمة التأويل الذي هو تحريف الكلم عن مواضعه ومن تدبر ما عندهم وجد فيه من الكذب في المنقولات والتكذيب بالحق منها والتحريف لمعانيها ما لا يوجد في صنف من المسلمين فهم قطعا أدخلوا في دين الله ما ليس منه أكثر من كل أحد وحرفوا كتابه تحريفا لم يصل غيرهم إلى قريب منه الوجه الرابع قوله وأحدثوا مذاهب أربعة لم تكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا زمن صحابته وأهملوا أقاويل الصحابة فيقال له متى كان مخالفة الصحابة والعدول عن أقاويلهم منكرا

3

406

عند الإمامية وهؤلاء متفقون على محبة الصحابة وموالاتهم وتفضيلهم على سائر القرون وعلى أن إجماعهم حجة وعلى أنه ليس لهم الخروج عن إجماعهم بل عامة الأئمة المجتهدين يصرحون بأنه ليس لنا أن نخرج عن أقاويل الصحابة فكيف يطعن عليهم بمخالفة الصحابة من يقول إن إجماع الصحابة ليس بحجة وينسبهم إلى الكفر والظلم فإن كان إجماع الصحابة حجة فهو حجة على الطائفتين وإن لم يكن حجة فلا يحتج به عليهم وإن قال أهل السنة يجعلونه حجة وقد خالفوه قيل أما أهل السنة فلا يتصور أن يتفقوا على مخالفة إجماع الصحابة وأما الإمامية فلا ريب أنهم متفقون على مخالفة إجماع العترة النبوية مع مخالفة إجماع الصحابة فإنه لم يكن في العترة النبوية بنو هاشم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر

3

407

وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم من يقول بإمامة الإثني عشر ولا بعصمة أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم ولا بكفر الخلفاء الثلاثة بل ولا من يطعن في إمامتهم بل ولا من ينكر الصفات ولا من يكذب بالقدر فالإمامية بلا ريب متفقون على مخالفة إجماع العترة النبوية مع مخالفتهم لإجماع الصحابة فكيف ينكرون على من لم يخالف لا إجماع الصحابة ولا إجماع العترة الوجه الخامس أن قوله أحدثوا مذاهب أربعة لم تكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أراد بذلك أنهم اتفقوا على أن يحدثوا هذه المذاهب مع مخالفة الصحابة فهذا كذب عليهم فإن هؤلاء الأئمة لم يكونوا في عصر واحد بل أبو حنيفة توفي سنة خمسين ومائة ومالك سنة تسع وسبعين ومائة والشافعي سنة أربع ومائتين وأحمدبن حنبل سنة إحدى وأربعين ومائتين وليس في هؤلاء

3

408

من يقلد الآخر ولا من يأمر باتباع الناس له بل كل منهم يدعو إلى متابعة الكتاب والسنة وإذا قال غيره قولا يخالف الكتاب والسنة عنده رده ولا يوجب على الناس تقليده وإن قلت إن أصحاب هذه المذاهب اتبعهم الناس فهذا لم يحصل بموطأة بل اتفق أن قوما اتبعوا هذا وقوما اتبعوا هذا كالحجاج الذين طلبوا من يدلهم على الطريق فرأى قوم هذا دليلا خبيرا فاتبعوه وكذلك الآخرون وإذا كان كذلك لم يكن في ذلك اتفاق أهل السنة على باطل بل كل قوم منهم ينكرون ما عند غيرهم من الخطأ فلم يتفقوا على أن الشخص المعين عليه أن يقبل من كل هؤلاء ما قاله بل جمهورهم لا يأمرون العامي بتقليد شخص معين غير النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يقوله والله تعالى قد ضمن العصمة للأمة فمن تمام العصمة أن يجعل

3

409

عددا من العلماء إن أخطأ الواحد منهم في شيء كان الآخر قد أصاب فيه حتى لا يضيع الحق ولهذا لما كان في قول بعضهم من الخطأ مسائل كبعض المسائل التي اوردها كان الصواب في قول الآخر فلم يتفق أهل السنة على ضلالة أصلا وأما خطأ بعضهم في بعض الدين فقد قدمنا غير مرة أن هذا لا يضر كخطأ بعض المسلمين وأما الشيعة فكل ما خالفوا فيه أهل السنة كلهم فهم مخطئون فيه كما أخطأ اليهود والنصارى في كل ما خالفوا فيه المسلمين الوجه السادس أن يقال قوله إن هذه المذاهب لم تكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة إن أراد أن الأقوال التي لهم لم تنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة بل تركوا قول النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وابتدعوا خلاف ذلك فهذا كذب عليهم فإنهم لم يتفقوا على مخالفة الصحابة بل هم وسائر أهل السنة متبعون للصحابة في أقوالهم وإن قدر أن بعض أهل السنة خالف الصحابة لعدم علمه بأقاويلهم فالباقون يوافقونهم ويثبتون خطأ من يخالفهم وإن أراد أن نفس أصحابها لم

3

410

يكونوا في ذلك الزمان فهذا لا محذور فيه فمن المعلوم أن كل قرن يأتي يكون بعد القرن الأول الوجه السابع قوله وأهملوا أقاويل الصحابة كذب منه بل كتب أرباب المذاهب مشحونة بنقل أقاويل الصحابة والاستدلال بها وإن كان عند كل طائفة منها ما ليس عند الأخرى وإن قال أردت بذلك أنهم لا يقولون مذهب أبي بكر وعمر ونحو ذلك فسبب ذلك أن الواحد من هؤلاء جمع الآثار وما استنبطه منها فأضيف ذلك إليه كما تضاف كتب الحديث إلى من جمعها كالبخاري ومسلم وأبي داود وكما تضاف القراءات إلى من اختارها كنافع وابن كثير وغالب ما يقوله هؤلاء منقول عمن قبلهم وفي قول بعضهم ما ليس منقولا عمن قبله لكنه استنبطه من تلك الاصول ثم قد جاء بعده من تعقب أقواله فبين منها ما كان خطأ عنده كل ذلك حفظا لهذا الدين حتى يكون أهله كما وصفهم الله به يأمرون

3

411

بالمعروف وينهون عن المنكر سورة التوبة فمتى وقع من أحدهم منكر خطأ أو عمدا أنكره عليه غيره وليس العلماء بأكثر من الأنبياء وقد قال تعالى وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما سورة الأنبياء وثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه عام الخندق لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة فأدركتهم صلاة العصر في الطريق فقال بعضهم لم يرد منا تفويت الصلاة فصلوا في الطريق وقال بعضهم لا نصلي إلا في بني قريظة فصلوا العصر بعد ما غربت الشمس فما عنف واحدة من الطائفتين فهذا دليل على أن

3

412

المجتهدين يتنازعون في فهم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس كل واحد منهم آثما الوجه الثامن أن أهل السنة لم يقل أحد منهم إن إجماع الأئمة الأربعة حجة معصومة ولا قال إن الحق منحصر فيها وإن ما خرج عنها باطل بل إذا قال من ليس من أتباع الأئمة كسفيان الثوري والأوزعي والليث بن سعد ومن قبلهم ومن بعدهم من المجتهدين قولا يخالف قول الأئمة الأربعة رد ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله وكان القول الراجح هو القول الذي قام عليه الدليل الوجه التاسع قوله الصحابة نصوا على ترك القياس يقال له الجمهور الذين يثبتون القياس قالوا قد ثبت عن الصحابة أنهم قالوا بالرأي واجتهاد الرأي وقاسوا كما ثبت عنهم ذم ما

3

413

ذموه من القياس قالوا وكلا القولين صحيح فالمذموم القياس المعارض للنص كقياس الذين قالوا إنما البيع مثل الربا وقياس إبليس الذي عارض به أمر الله له بالسجود لآدم وقياس المشركين الذين قالوا أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتله الله قال الله تعالى وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون سورة الأنعام وكذلك القياس الذي لا يكون الفرع فيه مشاركا للأصل في مناط الحكم فالقياس يذم إما لفوات شرطه وهو عدم المساواة في مناط الحكم وإما لوجود مانعه وهوالنص الذي يجب تقديمه عليه وإن كانا متلازمين في نفس الأمر فلا يفوت الشرط إلا والمانع موجود ولا يوجد المانع إلا والشرط مفقود فأما القياس الذي يستوي فيه الأصل والفرع في مناط الحكم ولم يعارضه ما هو أرجح منه فهذا هو القياس الذي يتبع ولا ريب أن القياس فيه فاسد وكثير من الفقهاء قاسوا أقيسة فاسدة

3

414

بعضها باطل بالنص وبعضها مما أتفق السلف على بطلانه لكن بطلان كثير من القياس لا يقتضي بطلان جميعه كما أن وجود الكذب في كثير من الحديث لا يوجب كذب جميعه ومدار القياس على أن الصورتين يستويان في موجب الحكم ومقتضاه فمتى كان كذلك كان القياس صحيحا لا شك ولكن قد يظن القايس ما ليس مناط الحكم مناطا فيغلط ولهذا كان عمدة القياس عند القايسين على بيان تأثير المشترك الذي يسمونه جواب سؤال المطالبة وهو أن يقال لا نسلم أن علة الحكم في الأصل هو الوصف المشترك بين الأصل والفرع حتى يلحق هذا الفرع به فإن القياس لا تثبت صحته حتى تكون الصورتان مشتركتين في المشترك المستلزم للحكم إما في العلة نفسها وإما في دليل العلة تارة بإبداء الجامع وتارة بإلغاء الفارق فإذا عرف أنه ليس بين الصورتين فرق يؤثر علم استواؤهما في الحكم وإن لم يعلم عين الجامع وهم يثبتون قياس الطرد وهو إثبات مثل حكم الأصل في الفرع لاشتراكهما في مناط الحكم وقياس العكس وهو نفي حكم الأصل عن الفرع لافتراقهما في مناط الحكم فهذا يفرق بينهما لأن العلة المثبتة للحكم في الأصل

3

415

منتفية في الفرع وذاك يجمع بينهما لوجود العلة المثبتة في الفرع وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع فصل قال الرافضي وذهبوا بسبب ذلك إلى أمور شنيعة كإباحة البنت المخلوقة من الزنا وسقوط الحد عمن نكح أمه أو أخته أو بنته مع علمه بالتحريم والنسب بواسطة عقد يعقده وهو يعلم بطلانه وعمن لف على ذكره خرقه وزنى بأمه أو بنته وعن اللائط مع أنه أفحش من الزنا وأقبح وإلحاق نسب المشرقية بالمغربي فإذا زوج الرجل ابنته وهي في المشرق برجل هو وأبوها في المغرب ولم يفترقا ليلا ولا نهارا حتى مضت مدة ستة أشهر فولدت البنت في المشرق التحق الولد بالرجل وهو وأبوها في المغرب

3

416

مع أنه لا يمكنه الوصول إليها إلا بعد سنين متعددة بل لو حبسه السلطان من حين العقد وقيده وجعل عليه حفظة مدة خمسين سنة ثم وصل إلى بلد المرأة فرأى جماعة كثيرة من أولادها وأولاد أولادها إلى عدة بطون التحقوا كلهم بالرجل الذي لم يقرب هذه المرأة ولا غيرها ألبتة وإباحة النبيذ مع مشاركته الخمر في الإسكار والوضوء به والصلاة في جلد الكلب وعلى العذرة اليابسة وحكى بعض الفقهاء لبعض الملوك وعنده بعض فقهاء الحنفية صفة صلاة الحنفي فدخل دارا مغصوبة وتوضأ بالنبيذ وكبر وقرأ بالفارسية من غير نية وقرأ مدهامتان سورة الرحمن لا غير بالفارسية ثم طأطأ

3

417

رأسه من غير طمأنينة وسجد كذلك ورفع رأسه بقدر حد السيف ثم سجد وقام ففعل كذلك ثانية ثم أحدث في مقام التسليم فتبرأ الملك وكان حنفيا من هذا المذهب وأباحوا المغصوب لو غير الغاصب الصفة فقالوا لو أن سارقا دخل بدار شخص له فيه دواب ورحى وطعام فطحن السارق الطعام بالدواب والأرحية ملك ذلك الطحين بذلك فلو جاء المالك ونازعه كان المالك ظالما والسارق مظلوما فلو تقاتلا فإن قتل المالك كان هدرا وإن قتل السارق كان شهيدا وأوجبوا الحد على الزانى إذا كذب الشهود وأسقطوه إذا صدقهم فأسقط الحد مع إجتماع الإقرار والبينة وهذا

3

418

ذريعة إلى إسقاط حدود الله تعالى فإن كل من شهد عليه بالزنا فصدق الشهود يسقط عنه الحد وإباحة أكل الكلب واللواط بالعبيد وإباحة الملاهي كالشطرنج والغناء وغير ذلك من المسائل التي لا يحتملها هذا المختصر والجواب من وجوه أحدها أنه في هذه المسائل ما هو كذب على جميع أهل السنة وأما سائرها فليس في هذه المسائل مسألة إلا وجمهور أهل السنة على خلافها وإن كان قد قالها بعضهم فإن كان قوله خطأ فالصواب مع غيره من أهل السنة وإن كان صوابا فالصواب مع أهل السنة أيضا فعلى التقديرين لا يخرج الصواب عن قول أهل السنة الثاني أن يقال الرافضة يوجد فيهم من المسائل ما لا يقوله مسلم يعرف دين الإسلام منها ما يتفقون عليه ومنها ما يقوله بعضهم مثل ترك الجمعة والجماعة فيعطلون المساجد التي أمر

3

419

الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه عن الجمعة والجماعات ويعمرون المشاهد التي حرم الله ورسوله بناءها ويجعلونها بمنزلة دور الأوثان ومنهم من يجعل زيارتها كالحج كما صنف المفيد كتاب سماه مناسك حج المشاهد وفيه من الكذب والشرك ما هو من جنس كذب النصارى وشركهم ومنها تأخير صلاة المغرب مضاهاة لليهود ومنها وتحريم ذبائح أهل الكتاب وتحريم نوع من السمك وتحريم بعضهم لحم الجمل واشتراط بعضهم في الطلاق الشهود على الطلاق وإيجابهم أخذ خمس مكاسب المسلمين وجعلهم الميراث كله للبنت دون العم وغيره من العصبة والجمع الدائم بين الصلاتين ومثل صوم بعضهم بالعدد لا بالهلال يصومون قبل الهلال ويفطرون قبله ومثل ذلك من الأحكام التي يعلم علما يقينيا أنها خلاف دين المسلمين الذي

3

420

بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم وأنزل به كتابه وقد قدمنا ذكر بعض أمورهم التي هي من أظهر الأمور إنكارا في الشرع والعقل ولهم مقالات باطلة وإن كان قد وافقهم عليها بعض المتقدمين مثل إحلال المتعة وأن الطلاق المعلق بالشرط لا يقع وإن قصد إيقاعه عند الشرط وأن الطلاق لا يقع بالكنايات وأنه يشترط فيه الإشهاد الثالث أن يقال هذه المسائل لها مأخذ عند من قالها من الفقهاء وإن كانت خطأ عند جمهورهم فأهل السنة أنفسهم يثبتون خطأها فلا يخرج بيان الصواب عنهم كما لا يخرج الصواب عنهم فالمخلوقات من ماء الزنا يحرمها جمهورهم كأبي حنيفة وأحمد ومالك في أظهر الروايتين وحكى ذلك قولا للشافعي

3

421

وأحمد لم يكن يظن أن في هذه المسائل نزاعا حتى أفتى بقتل من فعل ذلك والذين قالوها كالشافعي وابن الماجشون رأوا النسب منتفيا لعدم الإرث فانتفت أحكامه كلها والتحريم من أحكامه والذين أنكروها قالوا أحكام الأنساب تختلف فيثبت لبعض الأنساب من الأحكام ما لا يثبت لبعض فباب التحريم يتناول ما شمله اللفظ ولو مجازا حتى تحرم بنت البنت بل يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب فالمخلوقة من مائه أولى بالتحريم بخلاف الإرث فإنه يختص بمن ينسب إلى الميت من ولده فيثبت لولد البنين دون ولد البنات وأما عقده على ذوات المحارم فأبو حنيفة جعل ذلك شبهة تدرأ الحد لوجود صورة العقد وأما جمهور الفقهاء فلم يجعلوا ذلك شبهة بل قالوا هذا مما يوجب تغليظ الحد وعقوبه لكونه فعل محرمين العقد والوطء

3

422

وكذلك اللواط أكثر السلف يوجبون قتل فاعله مطلقا وإن لم يكن محصنا وقيل إن ذلك إجماع الصحابة وهو مذهب أهل المدينة كمالك وغيره ومذهب أحمد في أصح الروايتين عنه والشافعي في أحد قوليه وعلى هذا القول يقتل المفعول به مطلقا إذا كان بالغا والقول الآخر أن حده حد الزاني وهو قول أبي يوسف ومحمد والشافعي وأحمد في أحد قوليهما وإذا قيل الفاعل كالزاني فقيل يقتل المفعول به مطلقا وقيل لا يقتل وقيل بالفرق كالفاعل وسقوط الحد من مفردات أبي حنيفة وأما إلحاق النسب في تزويج المشرقية بالمغربي فهذا أيضا من مفاريد أبي حنيفة وأصله في هذا الباب أن النسب عنده يقصد به المال فهو يقسم المقصود به فإذا ادعت امرأتان ولدا ألحقه بهما بمعنى أنهما يقتسمان ميراثه لا بمعنى أنه خلق منهما وكذلك فيما إذا طلق المرأة قبل التمكن من وطئها فجعل الولد له بمعنى أنهما يتوارثان لا بمعنى أنه خلق من مائه

3

423

وحقيقة مذهبه أنه لا يشترط في الحكم بالنسب ثبوت الولادة الحقيقية بل الولد عنده للزوج الذي هو للفراش مع قطعه أنه لم يحبلها وهذا كما أنه إذا طلق إحدى امرأتيه ومات ولم تعرف المطلقة فإنه يقسم الميراث بينهما وأما أحمد فإنه يقرع بينهما وأما الشافعي فتوقف في الأمر فلم يحكم بشيء حتى يتبين له الأمر أو يصطلحا وجمهور العلماء يخالفونه ويقولون إذا علم انتفاء الولادة لم يجز إثبات النسب ولا حكم من أحكامه وهو يقول قد ثبت بعض الأحكام مع انتفاء الولادة كما يقول فيما إذا قال لمملوكه الذي هو أكبر منه أنت ابني يجعل ذلك كناية في عتقه لا إقرارا بنسبه وجمهور العلماء يقولون هو إقرار علم كذبه فيه فلا يثبت به شيء فالشناعة التي شنع بها على أبي حنيفة إن كان حقا فجمهور أهل السنة يوافقون عليها وإن كانت باطلا لم تضرهم شيئا مع

3

424

أنه يشنع تشنيع من يظن أن أبا حنيفة يقول إن هذا الولد مخلوق من ماء هذا الرجل الذي لم يجتمع بامرأته وهذا لا يقوله أقل الناس عقلا فكيف بمثل أبي حنيفة ولكنه يثبت حكم النسب بدون الولادة وهو أصل انفرد به وخالفه فيه الجمهور وخطأوا من قال به ثم منهم من يثبت النسب إذا أمكن وطء الزوج لها كما يقوله الشافعي وكثير من أصحاب أحمد ومنهم من يقول لا يثبت النسب إلا إذا دخل بها وهذا هو القول الآخر في مذهب أحمد وقول مالك وغيره وكذلك مسألة حل الأنبذة قد علم أن جمهور أهل السنة يحرمون ذلك ويبالغون فيه حتى يحدون الشارب المتأول ولهم في فسقه قولان مذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين يفسق ومذهب الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى لا يفسق ومحمد بن الحسن يقول بالتحريم وهذا هو المختار عند أهل الإنصاف من أصحاب أبي حنيفة كأبي الليث السمرقندي ونحوه وقول هذا الرافضي وإباحة النبيذ مع مشاركته الخمر في

3

425

الإسكار احتجاج منه على أبي حنيفة بالقياس فإن كان القياس حقا بطل إنكاره وإن كان باطلا بطلت هذه الحجة ولو احتج عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم كل مسكر خمر وكل خمر حرام لكان أجود وأما الوضوء بالنبيذ فجمهور العلماء ينكرونه وعن أبي حنيفة فيه روايتان أيضا وإنما أخذ ذلك لحديث روي في هذا الباب حديث ابن مسعود وفيه تمرة طيبة وماء طهور والجمهور منهم من يضعف هذا الحديث ويقولون إن كان صحيحا فهو منسوخ

3

426

بآية الوضوء وآية تحريم الخمر مع أنه قد يكون لم يصر نبيذا وإنما كان الماء باقيا لم يتغير أو تغير تغيرا يسيرا أو تغيرا كثيرا مع كونه ماء على قول من يجوز الوضوء بالماء المضاف كماء الباقلاء وماء الحمص ونحوهما وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في أكثر الروايات عنه وهو أقوى في الحجة من القول الآخر لأن قوله فلم تجدوا ماء سورة النساء نكرة في سياق النفي فيعم ما تغير بإلقاء هذه الطاهرات فيه كما يعم ما تغير بأصل خلقته أو بما لا يمكن صونه عنه إذ شمول اللفظ لهما سواء كما يجوز التوضؤ بماء البحر وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له أنتوضأ من ماء البحر فإنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الطهور ماؤه الحل ميتته قال الترمذي حديث صحيح فماء البحر طهور مع

3

427

كونه في غاية الملوحة والمرارة والزهومة فالمتغير بالطاهرات أحسن حالا منه لكن ذاك تغير أصلي وهذا طارىء وهذا الفرق لا يعود إلى اسم الماء ومن اعتبره جعل مقتضى القياس أنه لا يتوضأ بماء البحر ونحوه ولكن أبيح لأنه لا يمكن صونه عن المغيرات والأصل ثبوت الأحكام على وفق القياس لا على خلافه فإن كان هذا داخلا في اللفظ دخل الآخر وإلا فلا وهذه دلالة لفظية لا قياسية حتى يعتبر فيها المشقة وعدمها وأما الصلاة في جلد الكلب فإنما يجوز ذلك أبو حنيفة إذا كان مدبوغا وهذا قول طائفة من العلماء ليس هذا من مفاريده وحجتهم قوله صلى الله عليه وسلم أيما إهاب دبغ فقد طهر وهذه مسألة اجتهاد وليست هذه من مسائل الشناعات ولو قيل

3

428

لهذا المنكر هات دليلا قاطعا على تحريم ذلك لم يجده بل لو طولب بدليل على تحريم الكلب ليرد به على مالك في إحدى الروايتين عنه فإنه يكرهه ولا يحرمه لم يكن هذا الرد من صناعته مع أن الصحيح الذي عليه جمهور العلماء أن جلد الكلب بل وسائر السباغ لا يطهر بالدباغ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة أنه نهى عن جلود السباع وقوله صلى الله عليه وسلم أيما إهاب دبغ فقد طهر ضعفه أحمد وغيره من أئمة الحديث وقد رواه مسلم

3

429

وكذلك تحريم الكلب دلت عليه أدلة شرعية لكن هؤلاء الإمامية تعجز عن إقامة دليل يردون به على مالك في إحدى الروايتين وأما الصلاة علىالعذرة اليابسة بلا حائل فليس هذا مذهب أبي حنيفة ولا أحد من الأئمة الأربعة ولكن إذا أصابت الأرض نجاسة فذهبت بالشمس أو الريح أو الاستحالة فمذهب الأكثرين طهارة الأرض وجواز الصلاة عليها هذا مذهب أبي حنيفة وأحد القولين في مذهب مالك وأحمد وهو القول القديم للشافعي وهذا القول أظهر من قول من لا يطهرها بذلك وأما ما ذكره من صفة الصلاة التي يجيزها أبو حنيفة وفعلها عند بعض الملوك حتى رجع عن مذهبه فليس بحجة على فساد مذهب أهل السنة لأن أهل السنة يقولون إن الحق لا يخرج عنهم لا يقولون إنه لم يخطىء أحد منهم وهذه الصلاة ينكرها جمهور أهل السنة كمذهب مالك والشافعي وأحمد والملك الذي ذكره هو محمود بن سبكتكين وإنما رجع إلى ما ظهر عنده أنه سنة النبي صلى الله عليه وسلم وكان من خيار الملوك

3

430

وأعدلهم وكان من أشد الناس قياما على أهل البدع لا سيما الرافضة فإنه كان قد أمر بلعنتهم ولعنة أمثالهم في بلاده وكان الحاكم العبيدي بمصر كتب إليه يدعوه فأحرق كتابه على رأس رسوله ونصر أهل السنة نصرا معروفا عنه قوله وأباحوا المغصوب لو غير الغاصب الصفة فقالوا لو أن سارقا دخل مدارا لشخص له فيه دواب ورحى وطعام فطحن السارق طعام صاحب المدار بدوابه وأرحيته ملك الطحين بذلك فلو جاء المالك ونازعه كان المالك ظالما والسارق مظلوما فلو تقاتلا فإن قتل المالك كان هدرا وإن قتل السارق كان شهيدا فيقال أولا هذه المسألة ليست قول جمهور علماء السنة

3

431

وإنما قالها من ينازعه فيها جمهورهم ويردون قوله بالأدلة الشرعية فهي قول بعض العلماء ولكن الفقهاء متنازعون في الغاصب إذا غير المغصوب بما أزال اسمه كطحن الحب فقيل هذا بمنزلة إتلافه فيجب للمالك القيمة وهذا قول أبي حنيفة وقيل بل هو باق على ملك صاحبه والزيادة له والنقص على الغاصب وهو قول الشافعي وقيل بل يخير المالك بين أخذ العين والمطالبة بالنقص إن نقص وبين المطالبة بالبدل وترك العين للغاصب وهذا هو المشهور من مذهب مالك وإذا أخذ العين فقيل يكون الغاصب شريكا بما أحدثه فيه من الصنعة وقيل لا شيء له وهذه الأقوال في مذهب أحمد وغيره وحينئذ فالقول الذي أنكره خلاف قول جمهور أهل السنة ثم إنه كذب في نقله بقوله لو تقاتلا كان المالك ظالما فإن

3

432

المالك إن كان متأولا لا يعتقد غير هذا القول لم يكن ظالما ولم تجز مقاتلته بل إذا تنازعا ترافعا إلى من يفصل بينهما إذا كان اعتقاد هذا أن هذه العين ملكه واعتقاد الآخر أنها ملكه وأيضا فقد يفرق بين من غصب الحب ثم اتفق أنه طحنه وبين من قصد بطحنه تملكه فإن معاقبة هذا بنقيض قصده من باب سد الذرائع وبالجملة فهذه المسائل التي أنكرها كلها من مذهب أبي حنيفة ليس فيها لغيره إلا مسألة المخلوقة من ماء الزنا للشافعي فيقال له الشيعة تقول إن مذهب أبي حنيفة أصح من بقية المذاهب الثلاثة ويقولون إنه إذا اضطر الإنسان إلى استفتاء بعض المذاهب الأربعة استفتى الحنفية ويرجحون محمد بن الحسن على أبي يوسف فإنهم لنفورهم عن الحديث والسنة ينفرون عمن كان أكثر تمسكا بالحديث والسنة فإذا كان كذلك فهذه الشناعات في مذهب أبي حنيفة فإن كان قوله هو الراجح من مذاهب الأئمة الأربعة كان تكثير التشنيع عليه دون غيره تناقضا منهم وكانوا قد رجحوا مذهبا وفضلوه على غيره ثم بينوا فيه

3

433

من الضعف والنقص ما يقتضي أن يكون أنقص من غيره وما هذا التناقض بعيد منهم فإنهم لفرط جهلهم وظلمهم يمدحون ويذمون بلا علم ولا عدل فإن كان مذهب أبي حنيفة هو الراجح كان ما ذكروه من اختصاصه بالمسائل الضعيفة التي لا يوجد مثلها لغيره تناقضا وإن لم يكن الراجح كان ترجيحه على بقية المذاهب باطلا فيلزم بالضرورة أن يكون الشيعة على الباطل على كل تقدير ولا ريب أنهم أصحاب جهل وهوى فيتكلمون في كل موضع بما يناسب أغراضهم سواء كان حقا أو باطلا وقصدهم في هذا المقام ذم جميع طوائف أهل السنة فينكرون من كل مذهب ما يظنونه مذموما فيه سواء صدقوا في النقل أو كذبوا وسواء كان ما ذكروه من الذم حقا أو باطلا وإن كان في مذهبهم من المعايب أعظم وأكثر من معايب غيرهم وأما قوله وأوجب الحد على الزاني إذا كذب الشهود وأسقطه إذا صدقهم فأسقط الحد مع اجتماع الإقرار والبينة وهذا ذريعة إلى إسقاط حدود الله تعالى فإن كل من شهد عليه بالزنا فصدق الشهود يسقط عنه الحد

3

434

فيقال وهذا أيضا من أقوال أبي حنيفة وخالفه فيها الجمهور كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم ومأخذ أبي حنيفة أنه إذا أقر سقط حكم الشهادة ولا يؤخذ بالإقرار إلا إذا كان أربع مرات وأما الجمهور فيقولون الإقرار يؤكد حكم الشهادة ولا يبطلها لأنه موافق لها لا مخالف لها وإن لم يحتج إليه كزيادة عدد الشهود على الأربعة وكإقراره أكثر من أربع مرات وبالجملة فهذا قول جمهور أهل السنة فإن كان صوابا فهو قولهم وإن كان الآخر هو الصواب فهو قولهم ثم يقال له من المعلوم أن جمهور أهل السنة ينكرون هذه المسائل ويردون على من قالها بحجج وأدلة لا تعرفها الإمامية وأما قوله وإباحة أكل الكلب واللواط بالعبيد وإباحة الملاهي كالشطرنج والغناء وغير ذلك من المسائل التي لا يحتملها هذا المختصر فيقال نقل هذا عن جميع أهل السنة كذب وكذلك نقله عن جمهورهم بل فيه ما قاله بعض المقرين بخلافة الخلفاء الثلاثة

3

435

وفيه ما هو كذب عليهم لم يقله أحد منهم وذلك الذي قاله بعض هؤلاء أنكره جمهورهم فلم يتفقوا على ضلالة ثم أن الموجود في الشيعة من الأمور المنكرة الشنيعة المخالفة للكتاب والسنة والإجماع أعظم وأشنع مما يوجد في أي طائفة فرضت من طوائف السنة فما من طائفة من طوائف السنة يوجد في قولها ما هو ضعيف إلا ويوجد ما هو أضعف منه وأشنع من أقوال الشيعة فتبين على كل تقدير أن كل طائفة من أهل السنة خير منهم فإن الكذب الذي يوجد فيهم والتكذيب بالحق وفرط الجهل والتصديق بالمحالات وقلة العقل والغلو في اتباع الأهواء والتعلق بالمجهولات لا يوجد مثله في طائفة أخرى وأما ما حكاه من إباحة اللواط بالعبيد فهو كذب لم يقله أحد من علماء أهل السنة وأظنه قصد التشنيع به على مالك فإني رأيت من الجهال من يحكي هذا عن مالك وأصل ذلك ما يحكى عنه في حشوش

3

436

النساء فإنه لما حكي عن طائفة من أهل المدينة إباحة ذلك وحكي عن مالك فيه روايتان ظن الجاهل أن أدبار المماليك كذلك وهذا من أعظم الغلط على من هو دون مالك فكيف على مالك مع جلالة قدره وشرف مذهبه وكمال صيانته عن الفواحش وأحكامه بسد الذرائع وأنه من أبلغ المذاهب إقامة للحدود ونهيا عن المنكرات والبدع ولا يختلف مذهب مالك في أن من استحل إتيان المماليك أنه يكفر كما أن هذا قول جميع أئمة المسلمين فإنهم متفقون على أن استحلال هذا بمنزلة استحلال وطء أمته التي هي بنته من الرضاعة أو أخته من الرضاعة أو هي موطوءة ابنه أو أبيه فكما أن مملوكته إذا كانت محرمة برضاع أو صهر لا تباح له باتفاق المسلمين فملوكه أولى بالتحريم فإن هذا الجنس محرم مطلقا لا يباح بعقد نكاح ولا ملك يمين بخلاف وطء الإناث ولهذا كان مذهب مالك وعلماء المدينة أن اللوطي يقتل رجما

3

437

محصنا كان أو غير محصن سواء تلوط بمملوكه أو غير مملوكه فإنه يقتل عندهم الفاعل والمفعول به كما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال اقتلوا الفاعل والمفعول به رواه أبو داود وغيره وهذا مذهب أحمد في الرواية المنصوصة عنه وهو أحد قولي الشافعي فمن يكون مذهبه أن هذا أشد من الزنا كيف يحكى عنه أنه أباح ذلك وكذلك لم يبحه غيره من العلماء بل هم متفقون على تحريم ذلك ولكن كثير من الأشياء يتفقون على تحريمها ويتنازعون في إقامة الحد على فاعلها هل يحد أو يعزر بما دون الحد كما لو وطيء أمته التي هي ابنته من الرضاعة وأما قوله وإباحة الملاهي كالشطرنح والغناء فيقال مذهب جمهور العلماء أن الشطرنج حرام وقد ثبت عن

3

438

علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج فقال ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون وكذلك النهي عنها معروف عن أبي موسى وابن عباس وابن عمر وغيره من الصحابة وتنازعوا في أيهما أشد تحريما الشطرنج أوالنرد فقال مالك الشطرنج أشد من النرد وهذا منقول عن ابن عمر وهذا لأنها تشغل القلب بالفكر الذي يصد عن ذكر الله وعن الصلاة أكثر من النرد وقال أبو حنيفة وأحمد النرد أشد فإن العوض يدخل فيها أكثر وأما الشافعي فلم يقل إن الشطرنج حلال ولكن قال النرد حرام والشطرنج دونها ولا يتبين لي أنها حرام فتوقف في التحريم ولأصحابه في تحريمها قولان فإن كان التحليل هو الراجح فلا ضرر

3

439

وإن كان التحريم هو الراجح فهو قول جمهور أهل السنة فعلى التقديرين لا يخرج الحق عنهم قوله وإباحة الغناء فيقال له هذا من الكذب على الأئمة الأربعة فإنهم متفقون على تحريم المعازف التي هي آلات اللهو كالعود ونحوه ولو أتلفها متلف عندهم لم يضمن صورة التالف بل يحرم عندهم اتخاذها وهل يضمن المادة على قولين مشهورين لهم كما لو أتلف أوعية الخمر فإنه لو أتلف ما يقوم به المحرم من المادة لم يضمنه في أحد قوليهم كما هو مذهب مالك وأشهر الروايتين عن احمد كما أتلف موسى العجل المتخذ من الذهب وكما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبدالله بن عمرو أن يحرق الثوبين المعصفرين اللذين كانا عليه

3

440

وكما أمرهم عام خيبر بكسر القدور التي كان فيها لحوم الحمر ثم أذن لهم في إراقة ما فيها فدل على جواز الأمرين وكما أمر لما حرمت الخمر بشق الظروف وكسر الدنان وكما أن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما أمرا بتحريق المكان الذي يباع فيه الخمر ومن لم يجوز ذلك من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد في

3

441

إحدى الروايتين عنه قالوا هذه عقوبات مالية وهي منسوخة وأولئك يقولون لم ينسخ ذلك شيء فإن النسخ لا يكون إلا بنص متأخر عن الأول يعارضه ولم يرد شيء من ذلك بل العقوبات المالية كالعقوبات البدنية تستعمل على الوجه المشروع بل هي أولى بالاستعمال فإن إتلاف الأبدان والأعضاء أعظم من إتلاف الأموال فإذا كان جنس الأول مشروعا فجنس الثاني بطريق الأولى وقد تنازعوا أيضا في القصاص في الأموال إذا خرق له ثوبا هل له أن يخرق نظيره من ثيابه فيتلف ماله كما أتلف ماله على قولين هما روايتان عن أحمد فمن قال لا يجوز ذلك قال لأنه فساد ومن قال يجوز قال إتلاف النفس والطرف أشد فسادا وهو جائز على وجه العدل والاقتصاص لما فيه من كف العدوان وشفاء نفس المظلوم ومن منع قال النفوس لو لم يشرع فيها القصاص لم تنكف النفوس فإن القاتل إذا علم أنه لا يقتل بل يؤدي دية أقدم على القتل وأدى الدية

3

442

بخلاف الأموال فإنه يؤخذ من المتلف نظير ما أتلفه فحصل القصاص بذلك الزجر وأما إتلاف ذلك فضرره علىالمتلف عليه فإنه يذهب ماله وعوض ماله عليه وذلك يقول بل فيه نوع من شفاء غيظ المظلوم وأما إذا تعذر القصاص منه إلا بإتلاف ماله فهذا أظهر جوازا لأن القصاص عدل وجزاء سيئة سيئة مثلها فإذا أتلف ماله ولم يكن الاقتصاص منه إلا بإتلافه جاز ذلك ولهذا اتفق العلماء على جواز إتلاف الشجر والزرع الذي للكفار إذا فعلوا بنا مثل ذلك أو لم يقدر عليهم إلا به وفي جوازه بدون ذلك نزاع معروف وهو روايتان عن أحمد والجواز مذهب الشافعي وغيره والمقصود هنا أن آلات اللهو محرمة عند الأئمة الأربعة ولم يحك عنهم نزاع في ذلك إلا أن المتأخرين من الخراسانيين من أصحاب الشافعي ذكروا في النزاع وجهين والصحيح التحريم وأما

3

443

العراقيون وقدماء الخراسانيين فلم يذكروا في ذلك نزاعا وأما الغناء المجرد فمحرم عن أبي حنيفة ومالك وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد وعنهما أنه مكروه وذهبت طائفة من أصحاب أحمد إلى أن الغناء المجرد مباح فإن كان هذا القول حقا فلا ضرر وإن كان باطلا فجمهور أهل السنة على التحريم فلم يخرج الحق عن أهل السنة فصل قال الرافضي الوجه الثاني في الدلالة على وجوب اتباع مذهب الإمامية ما قاله شيخنا الإمام الأعظم خواجه نصير الملة والحق والدين محمد بن الحسن الطوسي قدس الله روحه وقد سألته عن المذاهب فقال بحثنا عنها وعن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة منها فرقة ناجية والباقي في النار وقد عين

3

444

الفرقة الناجية والهالكة في حديث آخر صحيح متفق عليه وهو في قوله مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق فوجدنا الفرقة الناجية هي فرقة الإمامية لأنهم باينوا جميع المذاهب وجميع المذاهب قد اشتركت في أصول العقائد فيقال الجواب من وجوه أحدها أن هذا الإمامي قد كفر من قال إن الله موجب بالذات كما تقدم من قوله يلزم أن يكون الله موجبا بذاته لا مختار فيلزم الكفر

3

445

وهذا الذي قد جعله شيخه الأعظم واحتج بقوله هو ممن يقول بأن الله موجب بالذات ويقول بقدم العالم كما ذكر في كتاب شرح الإشارات له فيلزم على قوله أن يكون شيخه هذا الذي احتج به كافرا والكافر لا يقبل قوله في دين المسلمين الثاني أن هذا الرجل اشتهر عند الخاص والعام أنه كان وزير الملاحدة الباطنية الإسماعيلية بالألموت ثم لما قدم الترك المشركون إلى بلاد المسلمين وجاءوا إلى بغداد دار الخلاقة كان هذا منجما مشيرا لملك الترك المشركين هولاكو أشار عليه بقتل الخليفة

3

446

وقتل أهل العلم والدين واستبقاء أهل الصناعات والتجارات الذين ينفعونه في الدنيا وأنه استولى على الوقف الذي للمسلمين وكان يعطي منه ما شاء الله لعلماء المشركين وشيوخهم من البخشية السحرة وأمثالهم وأنه لما بنى الرصد الذي بمراغة على طريقة الصابئة المشركين كان أبخس الناس نصيبا منه من كان إلى أهل الملل أقرب وأوفرهم نصيبا من كان أبعدهم عن الملل مثل الصابئة المشركين ومثل المعطلة وسائر المشركين وإن ارتزقوا بالنجوم والطب ونحو ذلك

3

447

ومن المشهور عنه وعن أتباعه الاستهتار بواجبات الإسلام ومحرماته لا يحافظون على الفرائض كالصلوات ولا ينزعون عن محارم الله من الفواحش والخمر وغير ذلك من المنكرات حتى أنهم في شهر رمضان يذكر عنهم من إضاعة الصلوات وارتكاب الفواحش وشرب الخمور ما يعرفه أهل الخبرة بهم ولم يكن لهم قوة وظهور إلا مع المشركين الذين دينهم شر من دين اليهود والنصارى ولهذا كان كلما قوي الإسلام في المغل وغيرهم من الترك ضعف أمر هؤلاء لفرط معاداتهم للإسلام وأهله ولهذا كانوا من أنقص الناس منزلة عند الأمير نوروز المجاهد في سبيل الله الشهيد الذي دعا ملك المغل غازان إلى الإسلام والتزم له أن ينصره إذا أسلم وقتل المشركين الذين لم يسلموا من البخشية السحرة وغيرهم

3

448

وهدم البذخانات وكسر الأصنام ومزق سدنتها كل ممزق وألزم اليهود والنصارى بالجزية والصغار وبسببه ظهر الإسلام في المغل وأتباعهم وبالجملة فأمر هذا الطوسي وأتباعه عند المسلمين أشهر وأعرف من أن يعرف ويوصف ومع هذا فقد قيل إنه كان في آخر عمره يحافظ على الصلوات الخمس ويشتغل بتفسير البغوى وبالفقه ونحو ذلك فإن كان قد تاب من الإلحاد فالله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات والله تعالى يقول يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا سورة الزمر لكن ما ذكره عنه هذا إن كان قبل التوبة لم يقبل قوله وإن كان بعد التوبة لم يكن قد تاب من الرفض بل من الإلحاد وحده وعلى

3

449

التقديرين فلا يقبل قوله والأظهر أنه إنما كان يجتمع به وبأمثاله لما كان منجما للمغل المشركين والإلحاد معروف من حاله إذ ذاك فمن يقدح في مثل أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ويطعن على مثل مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وأتباعهم ويعيرهم بغلطات بعضهم في مثل إباحة الشطرنج والغناء كيف يليق به أن يحتج لمذهبه بقول مثل هؤلاء الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ويستحلون المحرمات المجمع على تحريمها كالفواحش والخمر في مثل شهر رمضان الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وخرقوا سياج الشرائع واستخفوا بحرمات الدين وسلكوا غير طريق المؤمنين فهم كما قيل فيهم الدين يشكو بلية من فرقة فلسفية لا يشهدون صلاة إلا لأجل التقية ولا ترى الشرع إلا سياسة مدنية ويؤثرون عليه مناهجا فلسفية

3

450

ولكن هذا حال الرافضة دائما يعادون أولياء الله المتقين من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ويوالون الكفار والمنافقين فإن أعظم الناس نفاقا في المنتسبين إلى الإسلام هم الملاحدة الباطنية الإسماعيلية فمن احتج بأقوالهم في نصرة قوله مع ما تقدم من طعنه على أقوال أئمة المسلمين كان من أعظم الناس موالاة لأهل النفاق ومعاداة لأهل الإيمان ومن العجب أن هذا المصنف الرافضي الخبيث الكذاب المفتري يذكر أبا بكر وعمر وعثمان وسائر السابقين الأولين والتابعين وسائر أئمة المسلمين من أهل العلم والدين بالعظائم التي يفتريها عليهم هو وإخوانه ويجيء إلى من قد اشتهر عند المسلمين بمحادته لله ورسوله فيقول قال شيخنا الأعظم ويقول قدس الله روحه مع شهادته بالكفر عليه وعلى أمثاله ومع لعنة طائفته لخيار المؤمنين من الأولين والآخرين

3

451

وهؤلاء داخلون في معنى قوله تعالى ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن يجد له نصيرا سورة النساء فإن هؤلاء الإمامية أوتوا نصيبا من الكتاب إذ كانوا مقرين ببعض ما في الكتاب المنزل وفيهم شعبة من الإيمان بالجبت وهو السحر والطاغوت وهو يعبد من دون الله فإنهم يعظمون الفلسفة المتضمنة لذلك ويرون الدعاء والعبادة للموتى واتخاذ المساجد على القبور ويجعلون السفر إليها حجا له مناسك ويقولون مناسك حج المشاهد وحدثني الثقات أن فيهم من يرون الحج إليها أعظم من الحج إلى البيت العتيق فيرون الإشراك بالله أعظم من عبادة الله وهذا من أعظم الإيمان بالطاغوت وهم يقولون لمن يقرون بكفره من القائلين بقدم العالم ودعوة الكواكب والمسوغين للشرك هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا فإنهم فضلوا هؤلاء الملاحدة المشركين على السابقين الأولين من

3

452

المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وليس هذا ببدع من الرافضة فقد عرف من موالاتهم لليهود والنصارى والمشركين ومعاونتهم على قتال المسلمين ما يعرفه الخاص والعام حتى قيل إنه ما اقتتل يهودي ومسلم ولا نصراني ومسلم ولا مشرك ومسلم إلا كان الرافضي مع اليهودي والنصراني والمشرك والوجه الثالث أنه قد عرف كل أحد أن الإسماعيلية والنصيرية هم من الطوائف الذين يظهرون التشيع وإن كانوا في الباطن كفارا منسلخين من كل ملة والنصيرية هم من غلاة الرافضة الذين يدعون إلهية علي وهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى باتفاق المسلمين والإسماعيلية الباطنية أكفر منهم فإن حقيقة قولهم التعطيل أما أصحاب الناموس الأكبر والبلاغ الأعظم الذي هو آخر المراتب عندهم فهم من الدهرية القائلين بأن العالم لا فاعل له لا علة ولا

3

453

خالق ويقولون ليس بيننا وبين الفلاسفة خلاف إلا في واجب الوجود فإنهم يثبتونه وهو شيء لا حقيقة له ويستهزئون بأسماء الله عز وجل ولا سيما هذا الاسم الذي هوالله فإن منهم من يكتبه على أسفل قدميه ويطؤه وأما من هو دون هؤلاء فيقولون بالسابق والتالي الذين عثروا بهما عن العقل والنفس عند الفلاسفة وعن النور والظلمة عند المجوس وركبوا لهم مذهبا من مذاهب الصابئة والمجوس ظاهره التشيع ولا ريب أن المجوس والصابئة شر من اليهود والنصارى ولكن تظاهروا بالتشيع قالوا لأن الشيعة أسرع الطوائف استجابة لنا لما فيهم من الخروج عن الشريعة ولما فيهم من الجهل وتصديق المجهولات

3

454

ولهذا كان أئمتهم في الباطن فلاسفة كالنصير الطوسي هذا وكسنان البصري الذي كان بحصونهم بالشام وكان يقول قد رفعت عنهم الصوم والصلاة والحج والزكاة فإذا كانت الإسماعيلية إنما يتظاهرون في الإسلام بالتشيع ومنه دخلوا وبه ظهروا وأهله هم المهاجرون إليهم لا إلى الله ورسوله وهم أنصارهم لا أنصار الله ورسوله علم أن شهادة الإسماعيلية للشيعة بأنهم على الحق شهادة مردودة باتفاق العقلاء فإن هذا الشاهد إن كان يعرف أن ما هو عليه مخالف لدين الإسلام في الباطن وإنما أظهر التشيع لينفق له عند المسلمين فهو محتاج إلى تعظيم التشيع وشهادته له شهادة المرء لنفسه فهو كشهادة الآدمي لنفسه لكنه في هذه الشهادة يعلم أنه يكذب وإنما ذكب فيها كما

3

455

كذب في سائر أحواله وإن كان يعتقد دين الإسلام في الباطن ويظن أن هؤلاء على دين الإسلام كان أيضا شاهدا لنفسه لكن مع جهله وضلاله وعلى التقديرين فشهادة المرء لنفسه لا تقبل سواء علم كذب نفسه أو اعتقد صدق نفسه كما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين ولا ذي غمر على أخيه وهؤلاء خصماء أظناء متهمون ذوو غمر على أهل السنة والجماعة فشهادتهم مردودة بكل طريق الوجه الرابع أن يقال أولا أنتم قوم لا تحتجون بمثل هذه

3

456

الأحاديث فإن هذا الحديث إنما يرويه أهل السنة بأسانيد أهل السنة والحديث نفسه ليس في الصحيحين بل قد طعن فيه بعض أهل الحديث كابن حزم وغيره ولكن قد رواه أهل السنن كأبي داود والترمذي وابن ماجه ورواه أهل الأسانيد كالإمام أحمد وغيره فمن أين لكم على أصولكم ثبوته حتى تحتجوا به وبتقدير ثبوته فهو من أخبار الأحاد فكيف يجوز أن تحتجوا في أصل من أصول الدين وإضلال جميع المسلمين إلا فرقة واحد بأخبار الآحاد التي لا يحتجون هم بها في الفروع العلمية وهل هذا إلا من أعظم التنافض والجهل الوجه الخامس أن الحديث روي تفسيره فيه من وجهين أحدهما أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الفرقة الناجية فقال من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي وفي الرواية الأخرى قال هم الجماعة وكل من التفسيرين يناقض قول الإمامية ويتقضي أنهم

3

457

خارجون عن الفرقة الناجية فإنهم خارجون عن جماعة المسلمين يكفرون أو يفسقون أئمة الجماعة كأبي بكر وعمر وعثمان دع معاوية وملوك بني أمية وبني العباس وكذلك يكفرون أو يفسقون علماء الجماعة وعبادهم كمالك والثوري والأوزاعي والليث بن سعد وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وإسحق وأبي عبيد وإبراهيم بن أدهم والفضيل بن عياض وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي وأمثال هؤلاء وهم أبعد الناس عن معرفة سير الصحابة والاقتداء بهم لا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولا بعده فإن هذا إنما يعرفه أهل العلم بالحديث والمنقولات والمعرفة بالرجال الضعفاء والثقات وهم من أعظم الناس جهلا بالحديث وبغضا له ومعاداة لأهله فإذا كان وصف الفرقة الناجية أتباع الصحابة علىعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك شعار السنة والجماعة كانت الفرقة الناجية هم أهل السنة والجماعة فالسنة ما كان صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه عليه

3

458

في عهده مما أمرهم به أو أقرهم عليه أو فعله هو والجماعة هم المجتمعون الذين ما فرقوا دينهم وكانوا شيعا فالذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا خارجون عن الجماعة قد برأ الله نبيه منهم فعلم بذلك أن هذا وصف أهل السنة والجماعة لا وصف الرافضة وأن الحديث وصف الفرقة الناجبة باتباع سنته التي كان عليها هو وأصحابه وبلزوم جماعةالمسلمين فإن قيل فقد قال في الحديث من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي فمن خرج عن تلك الطريقة بعده لم يكن على طريقة الفرقة الناجية وقد ارتد ناس بعده فليسوا من الفرقة الناجية قلنا نعم وأشهر الناس بالردة خصوم أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأتباعه كمسيلمة الكذاب وأتباعه وغيرهم وهؤلاء تتولاهم الرافضة كما ذكر ذلك غير واحد من شيوخهم مثل هذا الإمامي وغيره ويقولون إنهم كانوا على الحق وأن الصديق قاتلهم بغير حق ثم من أظهر

3

459

الناس ردة الغالية الذين حرقهم علي رضي الله عنه بالنار لما ادعوا فيه الإلهية وهم السبائية أتباع عبدالله بن سبأ الذين أظهروا سب أبي بكر وعمر وأول من ظهر عنه دعوى النبوة من المنتسبين إلى الإسلام المختار بن ابي عبيد وكان من الشيعة فعلم أن أعظم الناس ردة هم في الشيعة أكثر منهم في سائر الطوائف ولهذا لا يعرف ردة أسوأ حالا من ردة الغالية كالنصيرية ومن ردة الإسماعيلية الباطنية ونحوهم وأشهر الناس بقتال المرتدين هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه فلا يكون المرتدون في طائفة أكثر منها في خصوم أبي بكر الصديق فدل ذلك على أن المرتدين الذين لم يزالون مرتدين على اعقابهم هم بالرافضة أولى منهم بأهل السنة والجماعة وهذا بين يعرفه كل عاقل يعرف الإسلام وأهله ولا يستريب أحد أن جنس المرتدين في المنتسبين إلى التشيع أعظم وأفحش كفرا من

3

460

جنس المرتدين والمنتسبين إلى أهل السنة والجماعة إن كان فيهم مرتد الوجه السادس أن يقال هذه الحجة التي احتج بها هذا الطوسي على أن الإمامية هم الفرقة الناجية كذب في وصفها كما هي باطلة في دلاتها وذلك أن قوله باينوا جميع المذاهب وجميع المذاهب قد اشتركت في أصول العقائد إن أراد بذلك أنهم باينوا جميع المذاهب فيما اختصوا به فهذا شأن جميع المذاهب فإن الخوارج أيضا باينوا جميع المذاهب فيما اختصوا به من التكفير بالذنوب ومن تكفير علي رضي الله عنه ومن إسقاط طاعة الرسول فيما لم يخبر به عن الله وتجويز الظلم عليه في قسمه والجور في حكمه وإسقاط أتباع السنة المتواترة التي تخالف ما يظن أنه ظاهر القرآن كقطع السارق من المنكب وأمثال ذلك قال الأشعري في المقالات أجمعت الخوارج على إكفار

3

461

علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذ حكم وهم مختلفون هل كفره شرك أم لا قال وأجمعوا على أن كل كبيرة كفر إلا النجدات فإنها لا تقول بذلك وأجمعوا على أن الله يعذب أصحاب الكبائر عذابا دائما إلا النجدات أصحاب نجدة وكذلك المعتزلة باينوا جميع الطوائف فيما اختصوا به من المنزلة بين المنزلتين وقولهم إن أهل الكبائر يخلدون في النار وليسوا بمؤمنين ولا كفار فإن هذا قولهم الذي سموا به معتزلة فمن وافقهم فيه بعد ذلك من الزيدية فعنهم أخذوا بل الطوائف المنتسبون إلى السنة والجماعة تباين كل طائفة منهم سائر أهل السنة والجماعة فيما اختصت به فالكلابية باينوا سائر الناس في قولهم إن الكلام معنى واحد أو معان متعددة أربعة أو

3

462

خمسة تقوم بذات المتكلم هو الأمر والنهي والخبر إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة فإن هذا لم يقله أحد من الطوائف غيرهم وكذلك الكرامية باينوا سائر الطوائف في قولهم إن الإيمان هو القول باللسان فمن أقر بلسانه كان مؤمنا وإن جحد بقلبه قالوا وهو مؤمن مخلد في النار فإن هذا لم يقله غيرهم بل طوائف أهل السنة والعلم لكل طائفة قول لا يوافقهم عليه بقية الطوائف فلكل واحد من أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد مسائل تفرد بها عن الأئمة الثلاثة كثيرة وإن أراد بذلك أنهم اختصوا بجميع أقوالهم فليس كذلك فإنهم في توحيدهم موافقون للمعتزلة وقدماؤهم كانوا مجسمة وكذلك في القدر هم موافقون للمعتزلة فقدماؤهم كان كثير منهم يثبت القدر وإنكار القدر في قدمائهم أشهر من إنكار الصفات وخروج أهل الذنوب من النار وعفو الله عز وجل عن أهل الكبائر لهم فيه قولان ومتأخروهم موافقون فيه الواقفية الذين يقولون لا ندري هل يدخل

3

463

النار أحد من أهل القبلة أم لا وهم طائفة من الأشعرية وإن قالوا إنا نجزم بأن كثيرا من أهل الكبائر يدخل النار فهذا قول الجمهور من أهل السنة ففي الجملة لهم أقوال اختصوا بها وأقوال شاركهم غيرهم فيها كما أن الخوارج والمعتزلة وغيرهم كذلك وأما أهل الحديث والسنة والجماعة فقد اختصوا باتباعهم الكتاب والسنة والثابتة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم في الأصول والفروع وما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف الخوارج والمعتزلة والروافض ومن وافقهم في بعض أقوالهم فإنهم لا يتبعون الأحاديث التي رواها الثقات عن النبي صلى الله عليه وسلم التي يعلم أهل الحديث صحتها فالمعتزلة يقولون هذه أخبار آحاد وأما الرافضة فيطعنون في الصحابة ونقلهم وباطن أمرهم الطعن في الرسالة والخوارج يقول قائلهم أعدل يا محمد فإنك لم تعدل فيجوزون على النبي صلى الله عليه وسلم أنه يظلم ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم

3

464

لأولهم ويلك من يعدل إذا لم أعدل لقد خبت وخسرت إن لم أعدل فهم جهال فارقوا السنة والجماعة عن جهل وأما الرافضة فأصل بدعتهم عن نفاق ولهذا فيهم من الزندقة ما ليس في الخوارج قال الأشعري في المقالات هذه حكاية أصحاب الحديث وأهل السنة جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يردون من ذلك شيئا وأنه إله واحد فرد صمد لا إله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأن محمدا عبده ورسوله وأن الجنة حق وأن النار حق وأن الساعة

3

465

آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأن الله على عرشه كما قال الرحمن على العرش استوى وأن له يدين بلا كيف كما قال خلقت بيدي سورة ص وكما قال بل يداه مبسوطتان سورة المائدة وساق الكلام إلى آخره فإن قال أن مراده بالمباينة انهم يكفرون كل أهل دار غير دارهم كما أفتى غير واحد من شيوخهم بأن الدار إذا كان الظاهر فيها مذهب النصب مثل المسح على الخفين وحل شرب الفقاع وتحريم المتعة كانت دار كفر وحكم بنجاسة ما فيها من المائعات وإن كان الظاهر مذهب الطائفة المحقة يعني الإمامية حكم بطهارة ما فيها من المائعات وإن كان كلا الأمرين ظاهرا كانت دار وقف فينظر فمن كان فيها من طائفتهم كان ما عنده من المائعات طاهرا ومن كان من غيرهم حكم بنجاسة ما عنده من المائعات قيل هذا الوصف يشاركهم فيه الخوارج والخوارج في ذلك أقوى منهم فإن الخوارج ترى السيف وحروبهم مع الجماعة مشهورة وعندهم كل دار غير دارهم فهي دار كفر وقد نازع بعضهم

3

466

في التكفير العام كما نازع بعض الإمامية في التكفير العام وقد وافقوهم في أصل التكفير وأما السيف فإن الزيدية ترى السيف والإمامية لا تراه قال الأشعري وأجمعت الروافض على إبطال الخروج وإنكار السيف ولو قتلت حتى يظهر لها الإمام وحتى يأمرها بذلك قلت ولهذا لا يغزون الكفار ولا يقاتلون مع أئمة الجماعة إلا من يلتزم مذهبه منهم فقد تبين أن المباينة والمشاركة في أصول العقائد قدر مشترك بين الرافضة وغيرهم الوجه السابع أن يقال مباينتهم لجميع المذاهب هو على فساد قولهم أدل منه على صحة قولهم فإن مجرد انفراد طائفة عن جميع الطوائف لا يدل على أنه هو الصواب واشتراك أولئك في قول لا يدل على أنه باطل فإن قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل أمته ثلاثة وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة فدل على أنها لا بد أن تفارق هذه الواحدة سائر الاثنتين وسبعين فرقة

3

467

قلنا نعم وكذلك يدل الحديث على مفارقة الثنتين وسبعين بعضها بعضا كما فارقت هذه الواحدة فليس في الحديث ما يدل على اشتراك الثنتين والسبعين في أصول العقائد بل ليس في ظاهر الحديث إلا مباينة الثلاث والسبعين كل طائفة للأخرى وحينئذ فمعلوم أن جهة الافتراق جهة ذم لا جهة مدح فإن الله تعالى أمر بالجماعة والائتلاف وذم التفرق والاختلاف فقال تعالى واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا سورة آل عمران وقال ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذي اسودت وجوههم الأية سورة آل عمران قال ابن عباس وغيره تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة وقال تعالى إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء سورة الأنعام وقال وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم البقرة وقال وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة سورة البينة وإذا كان كذلك فأعظم الطوائف مفارقة للجماعة وافتراقا في نفسها

3

468

أولى الطوائف بالذم وأقلها افتراقا ومفارقة للجماعة أقربها إلى الحق وإذا كانت الإمامية أولى بمفارقة سائر طوائف الأمة فهم أبعد عن الحق لا سيما وهم في أنفسهم أكثر اختلافا من جميع فرق الأمة حتى يقال إنهم ثنتان وسبعون فرقة وهذا القدر فيما نقله عن هذا الطوسي بعض أصحابه وقال كان يقول الشيعة تبلغ فرقهم ثنتين وسبعين فرقة أو كما قال وقد صنف الحسن بن موسى النوبختي وغيره في تعديد فرق الشيعة وأما أهل الجماعة فهم أقل اختلافا في أصول دينهم من سائر الطوائف وهم أقرب إلى كل طائفة من كل طائفة إلى ضدها فهم الوسط في أهل الإسلام كما أن أهل الإسلام هم الوسط في أهل الملل هم وسط في باب صفات الله بين أهل التعطيل وأهل التمثيل

3

469

وقال صلى الله عليه وسلم خير الأمور أوسطها وحينئذ أهل السنة والجماعة خير الفرق وفي باب القدر بين أهل التكذيب به وأهل الاحتجاج به وفي باب الأسماء والأحكام بين الوعيدية والمرجئة وفي باب الصحابة بين الغلاة والجفاة فلا يغلون في علي غلو الرافضة ولا يكفرونه تكفير الخوارج ولا يكفرون أبا بكر وعمر وعثمان كما تكفرهم الروافض ولا يكفرون عثمان وعليا كما يكفرهما الخوارج الوجه الثامن أن يقال إن الشيعة ليس لهم قول واحد اتفقوا عليه فإن القول الذي ذكره هذا قول من أقوال الإمامية ومن الإمامية طوائف تخالف هؤلاء في التوحيد والعدل كما تقدم حكايته وجمهور الشيعة تخالف الإمامية في الاثني عشر

3

470

فالزيدية والإسماعيلية وغيرهم متفقون على إنكار إمامة الإثني عشر قال الناقلون لمقالات الناس الشيعة ثلاثة أصناف وإنما قيل لهم الشيعة لأنهم شايعوا عليا وقدموه على سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنهم الغالية سموا بذاك لأنهم غلوا في علي وقالوا فيه قولا عظيما مثل اعتقادهم إلاهيته أو نبوته وهؤلاء أصناف متعددة والنصيرية منهم والصنف الثاني من الشيعة الرافضة قال الأشعري وطائفة سموا رافضة لرفضهم إمامة أبي بكر وعمر

3

471

قلت الصحيح أنهم سموا رافضة لما رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب لما خرج بالكوفة أيام هشام بن عبد الملك وقد ذكر هذا أيضا الاشعري وغيره قالوا وإنما سمو الزيدية لتمسكهم بقول زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وكان زيد بويع له بالكوفة في أيام هشام بن عبدالملك وكان أمير الكوفة يوسف بن عمر الثقفي وكان زيد يفضل علي بن أبي طالب على سائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويتولى أبا بكر وعمر ويرى الخروج على أئمة الجور فلما ظهر بالكوفة في أصحابة الذين بايعوه وسمع من بعضهم الطعن على أبي بكر وعمر فأنكر ذلك على من سمعه منه فتفرق عنه الذين بايعوه فقال لهم رفضمتوني قالوا نعم فيقال إنهم

3

472

سموا رافضة لقول زيد بن علي لهم رفضتموني وبقي في شرذمة فقاتل يوسف بن عمر فقتل قالوا والرافضة مجمعون على أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على استخلاف علي بن أبي طالب باسمه وأظهر ذلك وأعلنه وأن أكثر الصحابة ضلوا بتركهم الاقتداء به بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وأن الإمامة لا تكون إلا بنص وتوقيف وأنها قرابة وأنه جائز للإمام في حال التقية أن يقول إنه ليس بإمام وأبطلوا جميعا الاجتهاد في الأحكام وزعموا أن الإمام لا يكون إلا أفضل الناس وزعموا أن عليا كان مصيبا في جميع أحواله وأنه لم يخطىء في شيء من أمور الدين إلا الكاملية أصحاب أبي كامل فإنهم أكفروا الناس بترك الاقتداء به وأكفروا عليا بترك الطلب وأنكروا الخروج على أئمة الجور وقالوا ليس يجوز ذلك دون الإمام

3

473

المنصوص على إمامته وهم سوى الكاملية أربع وعشرون فرقة وهم يدعون الإمامية لقولهم بالنص على إمامة علي فالفرقة الأولى وهم القطعية وإنما سموا القطعية لأنهم قطعوا على موت موسى بن جعفر بن محمد وهم وجمهور الشيعة يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على إمامة علي وأن عليا نص على إمامة الحسن وأن الحسن نص على إمامة الحسين والحسين نص على إمامة ابنه علي بن الحسين وعلي بن الحسين نص على إمامة ابنه أبي جعفر محمد ومحمد نص على إمامة جعفر بن محمد وجعفر نص على إمامة ابنه موسى وموسى نص على إمامة ابنه علي وعلي

3

474

نص على إمامة ابنه محمد بن علي ومحمد نص على إمامة ابنه علي بن محمد وعلي بن محمد نص على إمامة ابنه الحسن والحسن نص على إمامة ابنه محمد بن الحسن وهو الغائب المنتظر عندهم الذين يدعون أنه يظهر فيملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا والفرقة الثانية منهم الكيسانية وهم إحدى عشرة فرقة سموا كيسانية لأن المختار الذي خرج وطلب بدم الحسين بن علي ودعا إلى محمد بن الحنفية كان يقال له

3

475

كيسان ويقال إنه مولى لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه فمن الكيسانية من يدعي أن عليا نص على إمامة محمد بن الحنفية لأنه دفع إليه الراية بالبصرة ومنهم من يقول بل الحسين نص على إمامة محمد بن الحنفية ومنهم من يقول إن محمد بن الحنفية حي بجبال رضوى أسد عن يمينه ونمر عن شماله يحفظانه يأتيه رزقه غدوة وعشية إلى وقت خروجه وزعموا أن السبب الذي من أجله صبر على هذه الحال أن يكون مغيبا عن الخلق أن لله فيه تدبيرا لا يعلمه غيره قالوا ومن القائلين بهذا المذهب كثير الشاعر وفي ذلك يقول ألا إن الأئمة من قريش ولاة الحق أربعة سواء

3

476

علي والثلاثة من بنيه هم الأسباط ليس بهم خفاء فسبط سبط إيمان وبر وسبط غيبته كربلا وسبط لا يذوق الموت حتى يقود الخيل يقدمها اللوا تغيب لا يرى فيهم زمانا برضوى عنده عسل وماء ومعلوم أن هؤلاء مع أن قولهم معلوم البطلان ضرورة فقول الإمامية أبطل من قولهم فإن هؤلاء ادعوا بقاء من كان موجودا حيا معروفا وأولئك ادعوا بقاء من لم يوجد بحال ومن هؤلاء من يقول إن محمد ابن الحنفية مات وإن الإمام بعده ابنه أبو هاشم عبدالله ثم من هؤلاء من يقول إن أبا هاشم عبدالله أوصى إلى أخيه الحسن وإن الحسن أوصى إلى ابنه علي بن الحسن وإن عليا هلك ولم يعقب فهم ينتظرون رجعة محمد بن الحنفية ويقولون إنه يرجع ويملك فهم

3

477

اليوم في التيه لا إمام لهم إلى أن يرجع إليهم محمد بن الحنفية في زعمهم ومنهم من يقول إن الإمام بعد أبي هاشم محمد بن علي بن عبدالله بن عباس أو أبوه علي قالوا وذلك أن أبا هاشم مات بأرض الشراة منصرفة من الشام وأوصى هناك إلى محمد بن علي بن عبدالله بن عابس وأوصى محمد بن علي إلى ابنه إبراهيم بن محمد ثم أوصى إبراهيم بن محمد إلى ابي العباس السفاح ثم أفضت الخلافة إلى أبي جعفر المنصور بوصية بعضهم إلى بعض قال ثم رجع بعض هؤلاء عن هذا القول وزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على العباس بن عبدالمطلب ونصبه إمام ثم نص العباس على إمامة ابنه عبدالله ونص عبدالله على إمامة ابنه علي بن عبدالله ثم ساقوا الإمامة إلى أن انتهوا بها إلى أبي جعفر المنصور وهؤلاء هم الراوندية

3

478

وافترقت هذه الفرقة في أمر أبي مسلم على مقالتين فزعمت فرقة منهم تدعى الرزامية أصحاب رجل يقال له رزام أن أبا مسلم قتل وقالت فرقة أخرى إن أبا مسلم لم يمت ويحكى عنهم الاستحلال لما لم يحلل لهم أسلافهم ومن الكيسانية طائفة يزعمون أن أبا هاشم نصب عبدالله بن عمرو بن حرب إماما وتحولت روح أبي هاشم فيه ثم وقفوا على كذب عبدالله بن عمرو فصاروا إلى المدينة يلتمسون إماما فلقوا عبدالله بن معاوية بن عبدالله بن جعفر بن ابي طالب فدعاهم إلى أن يأتموا به فاتخذوه إماما وادعوا له الوصية ثم منهم من قال إنه مات ومنهم من قال إنه لم يمت حتى يقوم ومنهم من قال بل هو المهدي المبشر به وأنه حي بجبال أصبهان

3

479

ومنهم من يقول إن أبا هاشم أوصى إلى بيان بن سمعان ومنهم من يقول أوصى إلى علي بن الحسين فهذه أقوال من يقول بوصول النص إلى محمد بن الحنفية ثم أبي هاشم ومن الرافضة من قال بل النص بعد الحسين بن علي على ابنه علي بن الحسين ثم إلى ابنه أبي جعفر وأن أبا جعفر أوصى إلى المغيرة بن سعيد فهم يأتمون به إلى أن يخرج المهدي والمهدي فيما زعموا هو محمد بن عبدالله بن الحسن بن علي بن أبي طالب وزعموا أنه حي مقيم بناحية الحاجر وأنه لا يزال مقيما هناك إلى أوان خروجه ومن الرافضة من يقول إن الإمام بعد أبي جعفر محمد بن علي هو محمد بن عبدالله بن الحسن الخارج بالمدينة في خلافة أبي جعفر المنصور وقصته مشهورة وزعموا أنه المهدي وأنكروا إمامة المغيرة بن سعيد

3

480

ومن الرافضة من قال إن أبا جعفر اوصى إلى أبي منصور ثم من هؤلاء من قال إنه أوصى إلى ابنه الحسن بن أبي منصور ومنهم من مال إلى تثبيت أمر محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسين وقالوا إنما أوصى أبو جعفر إلى أبي منصور دون بني هاشم كما أوصى موسى عليه السلام إلى يوشع بن نون دون ولده ودون ولد هارون عليه السلام ثم إن الأمر بعد أبي منصور راجع إلى ولد علي كما رجع الأمر بعد يوشع إلى ولد هارون ومنهم من قال إن أبا جعفر نص على ابنه جعفر بن محمد وأن جعفرا حي لم يمت ولا يموت حتى يظهر امره وهو القائم المهدي

3

481

ومن الرافضة من يقول إن جعفر بن محمد مات وأن الإمام بعد جعفر ابنه إسماعيل وأنكروا أن يكون إسماعيل مات في حياة أبيه وقالوا لا يموت حتى يملك لأن أباه قد كان يخبر أنه وصيه والإمام بعده ومن الرافضة القرامطة يزعمون أن خلافة النبي صلى الله عليه وسلم اتصلت بالنص إلى جعفر كما يقوله الاثنا عشرية وأن جعفرا نص على إمامة ابن ابنه محمد بن إسماعليل وزعموا أن محمد بن إسماعيل حي إلى اليوم يعني إلى اوائل المائة والرابعة لم يمت ولا يموت حتى يملك الأرض وأنه هو المهدي الذي تقدمت البشارة به واحتجوا في ذلك باخبار رووها عن أسلافهم يخبرون فيها أن سابع الأئمة قائمهم وهؤلاء يقال لهم السبعية كما يقال لأولئك الاثنا عشرية وهؤلاء ذكر المصنفون مقالاتهم في أوائل الأمر قبل المائة الرابعة قبل ظهورهم بالمغرب والقاهرة فإن هؤلاء انتشر من أمرهم في أثناء المائة

3

482

الرابعة وبعدها ما يطول وصفه وظهر فيهم من الزندقة والإلحاد ما لم يعهد مثله لا في الغلاة ولا غيرهم ومن بقايا هؤلاء الملاحدة الذين كانوا بخراسان والشام وغيرهما وكان أهل بيت ابن سينا من المستجيبين لدعوتهم زمن الحاكم وكذلك هذا الطوسي وأمثاله من أعوانهم وكذلك سنان وغيره وأذكياءهم يعلمون كذبهم وجهلهم ولكن بسبب خدمتهم يحصل لهم من الرياسة والمال والشهوات ما لا يحصل بدون ذلك فهم يعاونونهم كما يعاون أمثالهم من أهل الكذب والظلم لتنال بهم الأغراض ومن الرافضة من يقول إنها في ولد محمد بن إسماعيل ومنهم من يقول إنها في ولد محمد بن جعفر بن محمد لا في إسماعيل وابنه ولا في موسى بن جعفر ومنهم من يقول إنها في ابنه عبدالله بن جعفر وكان أكبر من خلف من ولده وهؤلاء يقال لهم الفطحية لأن عبدالله بن جعفر كان أفطح الرجلين قالوا وهؤلاء عدد كثير

3

483

ومن الرافضة من يقول بإمامة موسى بن جعفر بن محمد بعد أبيه ولكن يقول إن موسى بن جعفر حي لم يمت ولا يموت حتى يملك مشرق الأرض ومغربها وهذا الصنف يدعون الواقفة لأنهم وقفوا على موسى بن جعفر ولم يجاوزوه ويسمون الممطورة لأن يونس بن عبدالرحمن ناظرهم فقال أنتم أهون علي من الكلاب الممطورة فلزمهم هذا اللقب ومنهم قوم وقفوا في أمر موسى بن جعفر فقالوا لا ندري أمات أم لم يمت ومنهم من يقول إن موسى بن جعفر نص على إمامة ابنه أحمد ومن الرافضة من قال إن بعد محمد بن الحسن المنتظر عند الأثني

3

484

عشرية إماما آخر هوالقائم الذي يظهر فيملأ الدنيا عدلا ويقمع الظلم فهذا بعض اختلاف الرافضة القائلين بالنص فإذا كانوا أعظم تباينا واختلافا من سائر طوائف الأمة امتنع ان تكون هي الطائفة الناجية لأن أقل ما في الطائفة الناجية أن تكون متفقة في أصول دينها كاتفاق أهل السنة والجماعة على أصول دينهم وهؤلاء الإمامية الاثنا عشرية يقولون إن اصول الدين أربعة التوحيد والعدل والنبوة والإمامة وهم مختلفون في التوحيد والعدل والإمامة وأما النبوة فغايتهم أن يكونوا مقرين بها كإقرار سائر الأمة واختلافهم في الإمامة أعم من اختلاف سائر الأمة فإن قالت الإثنا عشرية نحن أكثر من هذه الطوائف فيكون الحق معنا

3

485

دونهم قيل لهم وأهل السنة أكثر منكم فيكون الحق معهم دونكم فغايتكم أن تكون سائر فرق الإمامية معكم بمنزلتكم مع سائر المسلمين والإسلام هو دين الله الذي يجمع أهل الحق فصل قال الرافض الوجه الثالث أن الإمامية جازمون بحصول النجاة لهم ولأئمتهم قاطعون بذلك وبحصول ضدها لغيرهم وأهل السنة لا يجيزون ولا يجزمون بذلك لا لهم ولا لغيرهم فيكون اتباع أولئك أولى لأنا لو فرضنا مثلا خروج شخصين من بغداد يريدان الكوفة فوجدا طريقين سلك كل منهما طريقا فخرج ثالث يطلب الكوفة فسأل أحدهما إلى أين تذهب فقال إلى الكوفة فقال له هل طريقك

3

486

توصلك إليها وهل طريقك آمن أم مخوف وهل طريق صاحبك تؤديه إلى الكوفة وهل هو آمن أم مخوف فقال لا أعلم شيئا من ذلك ثم سأل صاحبه عن ذلك فقال أعلم أن طريقي يوصلني إلى الكوفة وأنه آمن وأعلم أن طريق صاحبي لا يؤديه إلى الكوفة وأنه ليس بآمن فإن الثالث إن تابع الأول عده العقلاء سفيها وإن تابع الثاني نسب إلى الأخذ بالحزم هكذا ذكره في كتابه والصواب أن يقال وسأل الثاني فقال له الثاني لا أعلم أن طريقي تؤديني إلى الكوفة ولا أعلم أنه آمن أم مخوف والجواب على هذا من وجوه أحدها أن يقال إن كان اتباع الأئمة الذين تدعي لهم الطاعة المطلقة وأن ذلك لا يوجب لهم النجاة واجبا كان اتباع خلفاء

3

487

بني أمية الذين كانوا يوجبون طاعة أئمتهم طاعة مطلقا ويقولون إن ذلك يوجب النجاة مصيبين على الحق وكانوا في سبهم عليا وغيره وقتالهم لمن قاتلوه من شيعة على مصيبين لأنهم كانوا يعتقدون أن طاعة الأئمة واجبة في كل شيء وأن الإمام لا يؤاخذه الله بذنب وأنه لا ذنب لهم فيما أطاعوا فيه الإمام بل أولئك أولى بالحجة من الشيعة لأنهم كانوا مطيعين أئمة أقامهم الله ونصبهم وأيدهم وملكهم فإذا كان من مذهب القدرية أن الله لا يفعل إلا ما هو الأصلح لعباده كان تولية أولئك الأئمة مصلحة لعباده ومعلوم أن اللطف والمصلحة التي حصلت بهم أعظم من اللطف والمصلحة التي حصلت بإمام معدوم أو عاجز ولهذا حصل لأتباع خلفاء بني أمية من المصلحة في دينهم ودنياهم أعظم مما حصل لأتباع المنتظر فإن هؤلاء لم يحصل لهم إمام يأمرهم بشيء من المعروف ولا ينهاهم عن شيء من المنكر ولا يعينهم على شيء من مصلحة دينهم ولا دنياهم بخلاف أولئك فإنهم انتفعوا بأئمتهم منافع كثيرة في دينهم ودنياهم أعظم مما انتفع هؤلاء بأئمتهم

3

488

فتبين أنه إن كانت حجة هؤلاء المنتسبين إلى مشايعة علي رضي الله عنه صحيحة فحجة أولئك المنتسبين إلى مشايعة عثمان رضي الله عنه أولى بالصحة وإن كانت باطلة فهذه أبطل منها فإذا كان هؤلاء الشيعة متفقين مع سائر أهل السنة على أن جزم اولئك بنجاتهم إذا أطاعوا أولئك الأئمة طاعة مطلقة خطأ وضلال فخطأ هؤلاء وضلالهم إذا جزموا بنجاتهم لطاعتهم لمن يدعي أنه نائب المعصوم والمعصوم لا عين له ولا أثر أعظم وأعظم فإن الشيعة ليس لهم أئمة يباشرونهم بالخطاب إلا شيوخهم الذين يأكلون أموالهم بالباطل ويصدونهم عن سبيل الله ويصدونهم عن سبيل الله الوجه الثاني أن هذا المثل إنما كان يكون مطابقا لو ثبت مقدمتنان إحداهما أن لنا إماما معصوما والثانية أنه أمر بكذا وكذا وكلتا المقدمتين غير معلومة بل باطلة دع المقدمة الأولى بل الثانية فإن الأئمة الذين يدعى فيهم العصمة قد ماتوا منذ سنين

3

489

كثيرة والمنتظر له غائب أكثر من أربعمائة وخمسين سنة وعند آخرين هو معدوم لم يوجد والذين يطاعون شيوخ من شيوخ الرافضة أو كتب صنفها بعض شيوخ الرافضة وذكروا أن ما فيها منقول عن أولئك المعصومين وهؤلاء الشيوخ المصنفون ليسوا معصومين بالاتفاق ولا مقطوعا لهم النجاة فإذا الرافضة لا يتبعون إلا أئمة لا يقطعون بنجاتهم ولا سعادتهم فلم يكونوا قاطعين لا بنجاتهم ولا بنجاة أئمتهم الذين يباشرونهم بالأمر والنهي وهم أئمتهم حقا وإنما هم في انتسابهم إلى أولئك الأئمة بمنزلة كثير من أتباع شيوخهم الذين ينتسبون إلى شيخ قد مات من مدة ولا يدرون بماذا أمر ولا عماذا نهى بل له أتباع يأكلون أموالهم بالباطل ويصدون عن سبيل الله يأمرونهم بالغلو في ذلك الشيخ وفي خلفائه وأن يتخذوهم أربابا وكما تأمر شيوخ الشيعة

3

490

أتباعهم وكما تأمر شيوخ النصارى أتباعهم فهم يأمرونهم بالإشراك بالله وعبادة غير الله ويصدونهم عن سبيل الله فيخرجون عن حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإن حقيقة التوحيد أن نعبد الله وحده فلا يدعى إلا هو ولا يخشى إلا هو ولا يتقى إلا هو ولا يتوكل إلا عليه ولا يكون الدين إلا له لا لأحد من الخلق وأن لا نتخذ الملائكة والنبيين أربابا فكيف بالأئمة والشيوخ والعلماء والملوك وغيرهم والرسول صلى الله عليه وسلم هو المبلغ عن الله أمره ونهيه فلا يطاع مخلوق طاعة مطلقة إلا هو فإذا جعل الإمام والشيخ كأنه إله يدعى مع مغيبة وبعد موته ويستغاث به ويطلب منه الحوائج والطاعة إنما هي لشخص حاضر يأمر بما يريد وينهى عما يريد كان الميت مشبها بالله تعالى والحي مشبها برسول الله صلى الله عليه وسلم فيخرجون عن حقيقة الإسلام الذي أصله شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله

3

491

ثم إن كثيرا منهم يتعلقون بحكايات تنقل عن ذلك الشيخ وكثير منها كذب عليه وبعضها خطأ منه فيعدلون عن النقل الصدق عن القائل المعصوم إلى نقل غير مصدق عن قائل غير معصوم فإذا كان هؤلاء مخطئين في هذا فالشيعة أكثر وأعظم خطأ لأنهم أعظم كذبا فيما ينقلونه عن الأئمة وأعظم غلوا في دعوى عصمة الأئمة وإذا كان الواحد من هؤلاء أتباع الشيوخ الأحياء المضلين الغالين في شيخ قد مات مخطئين في قطعهم بالنجاة فخطأ الشيعة في قطعهم بالنجاة أعظم وأعظم وإن قدر أن طريق الشيعة صواب لما فيه من القطع والجزم بالنجاة فطريق المشايخية صواب لما فيه من القطع بالنجاة وحينئذ فيكون طريق من يعتقد أن يزيد بن معاوية كان من الأنبياء الذين يشربون الخمر وأن الخمر حلال له لأنه شربها الأنبياء ويزيد كان منهم طريقا صوابا وإذا كان يزيد نبيا كان من خرج على نبي كافرا فيلزم من ذلك كفر الحسين وغيره ويلزم من ذلك أن يكون طريق من يقول كل رزق لا يرزقنيه الشيخ لا أريده طريقا

3

492

صحيحا وطريق من يقول إن الله ينزل إلى الأرض وأن كل مسجد فإن الله قد وضع قدمه عليه طريقا صحيحا وطريق من يقول على الدرة البيضاء كان اجتماعنا وفي قاب قوسين اجتماع الأحبة طريقا صحيحا وطريق من يقول إن شيخه قد أسقط عنه الصلاة طريقا صحيحا وأمثال هذه الضلالات التي توجد في كثير من العامة أتباع المشايخ فإن كثيرا من هؤلاء جازمون بنجاتهم وسعادة مشايخهم أعظم من قطع الإثني عشرية للأئمة وأتباعهم فإن كان ما ذكره من أتباع الجازم بالنجاة واجبا وجب أتباع هؤلاء ومن جملة اتباع هؤلاء القدح في الشيعة وإبطال طريقتهم فيلزم من اتباع الجازم إبطال قول الشيعة وإن لم يكن اتباع الجازم مطلقا طريقا صحيحا بطلت حجته وكذلك يقال لهؤلاء وهؤلاء إن كان اتباع أهل الجزم أولى بالاتباع من طريقة الذين يأمرون بطاعة الله ورسوله ويتبعون أهل

3

493

العلم والدين فيما يأمرون به من طاعة الله ورسوله ولا يوجبون طاعة معين إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يضمنون السعادة إلا لمن أطاع الله ورسوله ويقولون إن من سواه يخطىء ويصيب فلا يطاع مطلقا فإن كان اتباع هؤلاء نقصا وخطأ والصواب اتباع أهل الجزم مطلقا وجب أتباع شيعة الأئمة المعصومين وشيعة المشايخ المحفوظين وشيعة هؤلاء يقدحون في هؤلاء وشيعة هؤلاء يقدحون في هؤلاء فيلزم أن يكون كل من الطريقين باطلا حقا وهذا جمع بين النقيضين وهذا إنما لزم لأن الأصل فاسد وهو اتباع من يجزم بلا علم ولا دليل فكل من جعل اتباع الشيخ الجازم والمجازف بلا حجة ولا دليل أو الإمامي الجازم المجازف بالنجاة بلا حجة ولا دليل مما يجب اتباعه لزم تناقض أقوالهم بخلاف الاقوال التي ترجع إلى أصل صحيح فإنها لا تتناقض

3

494

الوجه الثالث منع الحكم في هذا المثال الذي ضربه وجعله أصلا قاس عليه فإن الرجل إذا قال له أحد الرجلين طريقي آمن يوصلني وقال له الآخر لا علم لي بأن طريقي آمن يوصلني أو قال ذلك الأول لم يحسن في العقل تصديق الأول بمجرد قوله بل يجوز عند العقلاء أن يكون هذا محتالا عليه يكذب حتى يصحبه في الطريق فيقتله ويأخذ ماله ويجوز أن يكون جاهلا لا يعرف ما في الطريق من الخوف وأما ذاك الرجل فلم يضمن للسائل شيئا بل رده إلى نظره فالحزم في مثل هذا أن ينظر الرجل أي الطريقين أولى بالسلوك أحد ذينك الطريقين أو غيرهما ولو كان كل من قال إن طريقي آمن موصل يكون أولى بالتصديق ممن توقف لكان كل مفتر وجاهل يدعي في المسائل المشتبهة أن قولي فيها هو الصواب وأنا قاطع بذلك فيكون اتباعي أولى من طريق هؤلاء الذين ينظرون ويستدلون وكان ينبغي أن يكون الشيوخ الكذابون الذين يضمنون لمريدهم الجنة وأن لهم في الآخرة كذا وكذا وأن كل من أحبهم دخل الجنة وأن من أعطاهم المال أعطوه

3

495

الحال الذي يقر به إلى ذي الجلال أولى بالاتباع من ذوي العلم والصدق والعدل الذين لا يضمنون له إلا ما ضمنه الله ورسوله لمن أطاعه وكان أيضا ينبغي أن يكون أئمة الإسماعيلية كالمعز والحاكم وأمثالهما أولى بالاتباع من أئمة الإثني عشرية لأن أولئك يدعون من علم الغيب وكشف باطن الشريعة وعلو الدرجة أعظم مما تدعيه الإثنا عشرية لأصحابهم ويضمنون له هذا مع استحلال المحرمات وترك الواجبات فيقولون له قد أسقطنا عنك الصلاة والصوم والحج والزكاة وضمنا لك بموالاتنا الجنة ونحن قاطعون بذلك والاثنا عشرية يقولون لا يستحق الجنة حتى يؤدي الواجبات ويترك المحرمات فإن كان اتباع الجازم بمجرد جزمه أولى كان اتباع هؤلاء أولى من اتباع من يقول أنت إذا أذنبت يحتمل أن تعاقب ويحتمل أن يعفى عنك فيبقى بين الخوف والرجاء ونظائر هذا كثيرة فتبين أن مجرد الإقدام على الجزم لا يدل على علم صاحبه ولا على صدقه وأن التوقف والإمساك حتى يتبين الدليل هو عادة العقلاء الوجه الرابع أن يقال قوله إنهم جازمون بحصول النجاة لهم دون أهل السنة كذب فإنه إن أراد بذلك أن كل واحد ممن

3

496

اعقتد اعتقادهم يدخل الجنة وإن ترك الواجبات وفعل المحرمات فليس هذا قول الإمامية ولا يقوله عاقل وإن كان حب علي حسنة لا يضر معها سيئة فلا يضره ترك الصلوات ولا الفجور بالعلويات ولا نيل أغراضه بسفك دماء بني هاشم إذا كان يحب عليا فإن قالوا المحبة الصادقة تستلزم الموافقة عاد الأمر إلى انه لا بد من أداء الواجبات وترك المحرمات وإن أراد بذلك أنهم يعتقدون أن كل من اعتقد الاعتقاد الصحيح وأدى الواجبات وترك المحرمات يدخل الجنة فهذا اعتقاد أهل السنة فإنهم يجزمون بالنجاة لكل من اتقى الله كما نطق به القرآن وإنما يتوقفون في الشخص المعين لعدم العلم بدخوله في المتقين فإنه إذا علم أنه مات على التقوى علم أنه من أهل الجنة ولهذا يشهدون بالجنة لمن شهد له الرسول صلى

3

497

الله عليه وسلم ولهم فيمن استفاض في الناس حسن الثناء عليه قولان فتبين أنه ليس في الإمامية جزم محمود اختصوا به عن أهل السنة والجماعة وإن قالوا إنا نجزم لكل شخص رأيناه ملتزما للواجبات عندنا تاركا للمحرمات بأنه من أهل الجنة من غير أن يخبرنا بباطنه معصوم قيل هذه المسألة لا تتعلق بالإمامية بل إن كان إلى هذا طريق صحيح فهو طريق لأهل السنة وهم بسلوكه أحذق وإن لم يكن هنا طريق صحيح إلى ذلك كان ذلك قولا بلا علم فلا فضيلة فيه بل في عدمه ففي الجملة لا يدعون علما صحيحا إلا وأهل السنة أحق به وما ادعوه من الجهل فهو نقص وأهل السنة أبعد عنه والقول بكون الرجل المعين من أهل الجنة قد يكون سببه إخبار المعصوم وقد يكون سببه تواطؤ شهادات المؤمنين الذين هم شهداء الله في الأرض

3

498

كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال وجبت وجبت ومر عليه بجنازة فأثنوا عليها شرا فقال وجبت وجبت فقالوا يا رسول الله ما قولك وجبت وجبت قال هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرا فقلت وجبت لها الجنة وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرا فقلت وجبت لها النار أنتم شهداء الله في الأرض وفي المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوشك أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار قالوا بم يا ر سول الله قال بالثناء الحسن والثناء السيء

3

499

وقد يكون سبب ذلك تواطؤ رؤيا المؤمنين فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لم يبق بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها الرجل المؤمن الصالح أو ترى له وسئل عن قوله تعالى لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة سورة يونس قال هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له وقد فسرها أيضا بثناء المؤمنين فقيل يا رسول الله الرجل يعمل

3

500

العمل لنفسه فيحمده الناس عليه فقال تلك عاجل بشرى المؤمن والرؤيا قد تكون من الله وقد تكون من حديث النفس وقد تكون من الشيطان فإذا تواطأت رؤيا المؤمنين على أمر كان حقا كما إذا تواطأت رواياتهم أو رأيهم فإن الواحد قد يغلط أو يكذب وقد يخطىء في الرأي أو يتعمد الباطل فإذا إجتمعوا لم يجتمعوا على ضلالة وإذا تواترت الروايات أورثت العلم وكذلك الرؤيا قال النبي صلى الله عليه وسلم أرى رؤياكم قد تواطأت على أنها في السبع الأواخر فمن كان منكم متحريها فيلتحرها في السبع الأواخر

3

501

وهذه الأسباب كلها عند أهل السنة أكمل وأتم مما هي عند الشيعة فلا طريق لهم إلى العلم بالسعادة وحصولها إلا وذلك الطريق أكمل لأهل السنة الوجه الخامس أن أهل السنة يجزمون بحصول النجاة لأئمتهم أعظم من جزم الرافضة وذلك أن أئمتهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار وهم جازمون بحصول النجاة لهؤلاء فإنهم يشهدون أن العشرة في الجنة ويشهدون أن الله قال لأهل بدر اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم بل يقولون

3

502

إنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم فهؤلاء أكثر من ألف وأربعمائة إمام لأهل السنة يشهدون أنه لا يدخل النار منهم أحد وهي شهادة بعلم كما دل على ذلك الكتاب والسنة الوجه السادس أن يقال أهل السنة يشهدون بالنجاة إما مطلقا وإما معينا شهادة مستندة إلى علم وأما الرافضة فإنهم إن شهدوا شهدوا بما لا يعلمون أو شهدوا بالزور الذي يعلمون أنه كذب فهم كما قال الشافعي رحمه الله ما رأيت قوما أشهد بالزور من الرافضة

3

503

الوجه السابع أن الإمام الذي شهد له بالنجاة إما أن يكون هو المطاع في كل شيء وإن نازعه غيره من المؤمنين أو هو المطاع فيما يأمر به من طاعة الله ورسوله وفيما يقوله باجتهاده إذا لم يعلم أن غيره أولى منه ونحو ذلك فإن كان الإمام هو الأول فلا إمام لأهل السنة بهذا الإعتبار إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه ليس عندهم من يجب أن يطاع في كل شيء إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون كما قال مجاهد والحاكم ومالك وغيرهم كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يشهدون لإمامهم أنه خير الخلائق ويشهدون بأن كل من ائتم به ففعل ما أمر به وترك ما نهى عنه دخل الجنة وهذه الشهادة بهذا وهذا هم فيها أتم من الرافضة من شهادتهم للعسكريين وأمثالهما بانه من أطاعهم دخل الجنة فثبت أن إمام أهل السنة أكمل وشهادتهم له ولهم إذا أطاعوه

3

504

أكمل ولا سواء ولكن قال الله تعالى آلله خير أما يشركون سورة النمل فعند المقابلة يذكر فضل الخير المحض على الشر المحض وإن كان الشر المحض لا خير فيه وإن أرادوا بالإمام الإمام المقيد فذاك لا يوجب أهل السنة طاعته إن لم يكن ما أمر به موافقا لأمر الإمام المطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم إذا أطاعوه فيما أمر الله بطاعته فيه فإنما هم مطيعون لله ورسوله فلا يضرهم توقفهم في الإمام المقيد هل هو في الجنة أم لا كما لا يضر أتباع المعصوم عندهم إذا أطاعوا نوابه مع أن نوابه قد يكونون من أهل النار لا سيما ونواب المعصوم عندهم لا يعلم أنهم يأمرون بما يأمر به المعصوم لعدم العلم بما يقوله معصومهم وأما أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم فهي معلومة فمن أمر بها فقد علم أنه وافقها ومن أمر بخلافها علم أنه خالفها وما خفى منها فاجتهد فيه نائبه فهذا خير من طاعة نائب لمن تدعى

3

505

عصمته ولا أحد يعلم بشيء مما أمر به هذا الغائب المنتظر فضلا عن العلم بكون نائبه موافقا أو مخالفا فإن ادعوا أن النواب عالمون بأمر من قبله فعلم علماء الأمة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أتم وأكمل من علم هؤلاء بقول من يدعون عصمته ولو طولب أحدهم بنقل صحيح ثابت بما يقولونه عن علي أو عن غيره لما وجدوا إلى ذلك سبيلا وليس لهم من الإسناد والعلم بالرجال الناقلين ما لأهل السنة الوجه الثامن أن يقال إن الله قد ضمن السعادة لمن أطاعه وأطاع رسوله وتوعد بالشقاء لمن لم يفعل ذلك فمناط السعادة طاعة الله ورسوله كما قال تعالى ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا سورة النساء وأمثال ذلك وإذا كان كذلك والله تعالى يقول فاتقوا الله مااستطعتم سورة التغابن فمن اجتهد في طاعة الله ورسوله بحسب استطاعته كان من أهل الجنة فقول الرافضة لن يدخل الجنة إلا من كان إماميا كقول اليهود والنصارى لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم

3

506

قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ومن المعلوم أن المنتظر الذي يدعيه الرافضي لا يجب على أحد طاعته فإنه لا يعلم له قول منقول عنه فإذا من أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم دخل الجنة وإن لم يؤمن بهذا الإمام ومن آمن بهذا الإمام لم يدخل الجنة إلا إذا أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم فطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم هي مدار السعادة وجودا وعدما وهي الفارقة بين أهل الجنة والنار ومحمد صلى الله عليه وسلم فرق بين الناس والله سبحانه وتعالى قد دل الخلق على طاعته بما بينه لهم فتبين أن أهل السنة جازمون بالسعادة والنجاة لمن كان من أهل السنة تم بحمد الله الجزء الثالث من كتاب منهاج السنة في نقض كلام الشيعة القدرية لابن تيمية ويتلوه إن شاء الله الجزء الرابع وأوله فصل قال الرافضي الوجه الرابع أن الإمامية أخذوا مذهبهم عن الأئمة المعصومين إلخ