Difa e Islam | الدفاع عن الإسلام | دفاع الإسلام |
تغيير اللغة:

منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية - شيخ الإسلام ابن تيمية - ج5

الكاتب : شيخ الإسلام ابن تيمية ..

بسم الله الرحمن الرحيم 

اسم الكتاب

منهاج السنة النبوية

اسم المؤلف

شيخ الإسلام بن تيمية

عدد الاجزاء

دار النشر

مدينة النشر

سنة النشر

رقم الطبعة

8

مؤسسة قرطبة

 

1406

الأولى

اسم المحقـق

د. محمد رشاد سالم

الجزء

الصفحة

محتوى الصفحة

5

5

الفصل الثاني قال الرافض السادس إن الإمامية لما رأوا فضائل أمير المؤمنين وكمالاته لا تحصى قد رواها المخالف والموافق ورأوا الجمهور قد نقلوا عن غيره من الصحابة مطاعن كثيرة ولم ينقلوا في علي طعنا ألبتة اتبعوا قوله وجعلوه إماما لهم حيث نزهه المخالف والموافق وتركوا غيره حيث روى فيه من يعتقد إمامته من المطاعن ما يطعن في إمامته ونحن نذكر هنا شيئا يسيرا مما هو صحيح عندهم ونقلوه في المعتمد من قولهم وكتبهم ليكون حجة عليهم يوم القيامة فمن ذلك ما رواه أبو الحسن الأندلسي في الجمع بين الصحاح الستة موطأ مالك وصحيحي البخاري ومسلم

5

6

وسنن أبي داود وصحيح الترمذي وصحيح النسائي عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن قوله تعالى إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا سورة الأحزاب أنزلت في بيتها وأنا جالسة عند الباب فقلت يا رسول الله ألست من أهل البيت فقال إنك على خير إنك من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت وفي البيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين فجللهم بكساء وقال اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا والجواب أن يقال إن الفضائل الثابتة في الأحاديث الصحيحة لأبي بكر وعمر أكثر وأعظم من الفضائل الثابتة لعلي والأحاديث التي ذكرها هذا وذكر أنها في الصحيح عند الجمهور وأنهم نقلوها في المعتمد من قولهم وكتبهم هو من أبين الكذب على علماء الجمهور فإن هذه الأحاديث التي ذكرها أكثرها كذب أو ضعيف باتفاق أهل المعرفة بالحديث والصحيح الذي فيها ليس فيه ما يدل على إمامة علي ولا على فضيلته على أبي بكر

5

7

وعمر بل وليست من خصائصه بل هي فضائل شاركه فيها غيره بخلاف ما ثبت من فضائل أبي بكر وعمر فإن كثيرا منها خصائص لهما لا سيما فضائل أبي بكر فإن عامتها خصائص لم يشركه فيها غيره وأما ما ذكره من المطاعن فلا يمكن أن يوجه على الخلفاء الثلاثة من مطعن إلا وجه على علي ما هو مثله أو أعظم منه فتبين أن ما ذكره في هذا الوجه من أعظم الباطل ونحن نبين ذلك تفصيلا وأما قوله إنهم جعلوه إماما لهم حيث نزهه المخالف والموفق وتركوا غيره حيث روى من يعتقد إمامته من المطاعن ما يطعن في إمامته فيقال هذا كذب بين فإن عليا رضي الله عنه لم ينزهه المخالفون بل القادحون في علي طوائف متعددة وهم أفضل من القادحين في أبي بكر وعمر وعثمان والقادحون فيه أفضل من الغلاة فيه فإن الخوارج متفقون على كفره وهم عند المسلمين كلهم خبر من الغلاة الذين يعتقدون إلاهيته أو نبوته بل هم والذين قاتلوه من الصحابة والتابعين خير عند جماهير المسلمين من الرافضة الأثنى عشرية الذين اعتقدوه إماما معصوما

5

8

وأبو بكر وعمر وعثمان ليس في الأمة من يقدح فيهم إلا الرافضة والخوارج المكفرون لعلي يوالون أبا بكر وعمر ويترضون عنهما والمروانية الذين ينسبون عليا إلى الظلم ويقولون أنه لم يكن خليفة يوالون أبا بكر وعمر مع أنهما ليسا من أقاربهم فكيف يقال مع هذا إن عليا نزهه المؤالف والمخالف بخلاف الخلفاء الثلاثة ومن المعلوم أن المنزهين لهؤلاء أعظم وأكثر وأفضل وأن القادحين في علي حتى بالكفر والفسوق والعصيان طوائف معروفه وهم أعلم من الرافضة وأدين والرافضة عاجزون معهم علما ويدا فلا يمكن الرافضة أن تقيم عليهم حجة تقطعهم بها ولا كانوا معهم في القتال منصورين عليهم والذين قدحوا في علي رضي الله عنه وجعلوه كافرا وظالما ليس فيهم طائفة معروفة بالردة عن الإسلام بخلاف الذين يمدحونه ويقدحون في الثلاثة كالغالية الذين يدعون إلاهيته من النصيرية وغيرهم وكالإسماعيلية الملاحدة الذين هم شر من النصيريه وكالغالية الذين يدعون نبوته فإن هؤلاء كفار مرتدون كفرهم

5

9

بالله ورسوله ظاهر لا يخفى على عالم بدين الإسلام فمن اعتقد في بشر الإلهية أو اعتقد بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبيا أو أنه لم يكن نبيا بل كان علي هو النبي دونه وإنما غلط جبريل فهذه المقالات ونحوها مما يظهر كفر أهلها لمن يعرف الإسلام أدنى معرفة بخلاف من يكفر عليا ويلعنه من الخوارج وممن قاتله ولعنه من أصحاب معاوية وبني مروان وغيرهم فإن هؤلاء كانوا مقرين بالإسلام وشرائعه يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويصومون رمضان ويحجون البيت العتيق ويحرمون ما حرم الله ورسوله وليس فيهم كفر ظاهر بل شعائر الإسلام وشرائعه ظاهرة فيهم معظمة عندهم وهذا أمر يعرفه كل من عرف أحوال الإسلام فكيف يدعي مع هذا أن جميع المخالفين نزهوه دون الثلاثة بل إذا اعتبر الذين كانوا يبغضونه ويوالون عثمان والذين كانوا يبغضون عثمان ويحبون عليا وجد هؤلاء خيرا من أولئك من وجوه متعددة فالمنزهون لعثمان القادحون في علي أعظم وأدين

5

10

وأفضل من المنزهين لعلي القادحين في عثمان كالزيدية مثلا فمعلوم أن الذين قاتلوه ولعنوه وذموه من الصحابة والتابعين وغيرهم هم أعلم وأدين من الذين يتولونه ويلعنون عثمان ولو تخلى أهل السنة عن موالاة علي رضي الله عنه وتحقيق إيمانه ووجوب موالاته لم يكن في المتولين له من يقدر أن يقاوم المبغضين له من الخوارج والأموية والمروانية فإن هؤلاء طوائف كثيرة ومعلوم أن شر الذين يبغضونه هم الخوارج الذين كفروه واعتقدوا أنه مرتد عن الإسلام واستحلو قتله تقربا إلى الله تعالى حتى قال شاعرهم عمران بن حطان يا ضربة من تقى ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا إني لأذكره حينا فأحسبه أوفى البرية عند الله ميزانا فعارضه شاعر أهل السنة فقال ياضربة من شقى ما أراد بها إلا ليبلغ من ذى العرش خسرانا إني لأذكره حينا فألعنه لعنا وألعن عمران بن حطانا

5

11

وهؤلاء الخوارج كانوا ثمان عشرة فرقة كالأزارقة أتباع نافع بن الأزرق والنجدات أتباع نجدة الحروري والإباضية أتباع عبدالله

5

12

بن إباض ومقالاتهم وسيرهم مشهورة في كتب المقالات والحديث والسير وكانوا موجودين في زمن الصحابة والتابعين يناظرونهم ويقاتلونهم والصحابة اتفقوا على وجوب قتالهم ومع هذا فلم يكفروهم ولا كفرهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأما الغالية في علي رضي الله عنه فقد اتفق الصحابة وسائر المسلمين على كفرهم وكفرهم علي بن أبي طالب نفسه وحرقهم بالنار وهؤلاء الغالية يقتل الواحد منهم المقدور عليه وأما الخوارج فلم يقاتلهم علي حتى قتلوا واحدا من المسلمين وأغاروا على أموال الناس فأخذوها فأولئك حكم فيهم علي وسائر الصحابة بحكم المرتدين وهؤلاء لم يحكموا فيهم بحكم المرتدين

5

13

وهذا مما يبين أن الذين زعموا أنهم والوه دون أبي بكر وعمر وعثمان يوجد فيهم من الشر والكفر باتفاق علي وجميع الصحابة ما لا يوجد في الذين عادوه وكفروه ويبين أن جنس المبغضين لأبي بكر وعمر شر عند علي وجميع الصحابة من جنس المبغضين لعلي فصل وأما حديث الكساء فهو صحيح رواه أحمد والترمذي من حديث أم سلمة ورواه مسلم في صحيحه من حديث عائشة قالت خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود فجاء الحسن بن علي فأدخله ثم جاء الحسين فأدخله معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء علي فأدخله ثم قال إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا صورة الاحزاب وهذا الحديث قد شركه فيه فاطمة وحسن وحسين رضي الله عنهم

5

14

فليس هو من خصائصه ومعلوم أن المرأة لا تصلح للإمامة فعلم أن هذه الفضيله لاتختص بالأئمة بل يشركهم فيها غيرهم ثم إن مضمون هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لهم بأن يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيرا وغاية ذلك أن يكون دعا لهم بأن يكونوا من المتقين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم واجتناب الرجس واجب على المؤمنين والطهارة مأمور بها كل مؤمن قال الله تعالى ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم سورة المائدة وقال خذ بين أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها سورة التوبة وقال تعالى إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين سورة البقرة فغاية هذا أن يكون هذا دعاء لهم بفعل المأمور وترك المحظور والصديق رضي الله عنه قد أخبر الله عنه بأنه الأتقى الذي يؤتى ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى سورة الليل وأيضا فإن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفور العظيم سورة التوبة لا بد أن يكونوا قد فعلوا المأمور وتركوا المحظور فإن هذا الرضوان وهذا

5

15

الجزاء إنما ينال بذلك وحينئذ فيكون ذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم من الذنوب بعض صفاتهم فما دعا به النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكساء هو بعض ما وصف به السابقين الأولين والنبي صلى الله عليه وسلم دعا لغير أهل الكساء بأن يصلي الله عليهم ودعا لأقوام كثيرين بالجنة والمغفرة وغير ذلك مما هو أعظم من الدعاء بذلك ولم يلزم أن يكون من دعا له بذلك أفضل من السابقين الأولين ولكن أهل الكساء لما كان قد أوجب عليهم اجتناب الرجس وفعل التطهير دعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعينهم على فعل ما أمرهم به لئلا يكونوا مستحقين للذم والعقاب ولينالوا المدح والثواب الفصل الثالث قال الرافض في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة سورة المجادلة قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يعمل بهذه الآية غيري وبي خفف الله عن هذه الأمة أمر هذه الآية

5

16

والجواب أن يقال الأمر بالصدقة لم يكن واجبا على المسلمين حتى يكونوا عصاة بتركه وإنما أمر به من أراد النجوى واتفق أنه لم يرد النجوى إذ ذاك إلا علي رضي الله عنه فتصدق لأجل المناجاة وهذا كأمره بالهدى لمن تمتع بالعمرة إلى الحج وأمره بالهدى لمن أحصر وأمره لمن به أذى من رأسه بفدية من صيام أو صدقة أو نسك وهذه الآية نزلت في كعب بن عجرة لما مر به النبي صلى الله عليه وسلم وهو ينفخ تحت قدر وهوام رأسه تؤذيه وكأمره لمن كان مريضا أو على سفر بعدة من أيام أخر وكأمره لمن حنث في يمينه بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة وكأمره إذا قاموا إلى الصلاة أن يغسلوا وجوههم وأيديهم إلى المرافق وكأمره إذا قرأوا القرآن أن يستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم ونظائر هذا متعددة فالأمر المعلق بشرط إذا لم يوجد ذلك الشرط إلا في حق واحد لم يؤمر

5

17

به غيره وهكذا آية النجوى فإنه لم يناج الرسول قبل نسخها إلا علي ولم يكن على من ترك النجوى حرج فمثل هذا العمل ليس من خصائص الأئمة ولا من خصائص علي رضي الله عنه ولا يقال إن غير على ترك النجوى بخلا بالصدقة لأن هذا غير معلوم فإن المدة لم تطل وفي تلك المدة القصيرة قد لا يحتاج الواحد إلى النجوى وإن قدر أن هذا كان يخص بعض الناس لم يلزم أن يكون أبو بكر وعمر رضي الله عنهما من هؤلاء كيف وأبو بكر رضي الله عنه قد أنفق ماله كله يوم رغب النبي صلى الله عليه وسلم في الصدقة وعمر رضي الله عنه جاء بنصف ماله بلا حاجة إلى النجوى فكيف يبخل أحدهما بدرهمين أو ثلاثة يقدمها بين يدي نجواه وقد روى زيد بن أسلم عن أبيه قال سمعت عمر يقول أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق فوافق ذلك مالا عندي فقلت اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما فجئت بنصف مالي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أبقيت لأهلك يا عمر فقلت مثله قال وأتى أبو بكر بكل مال عنده فقال يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك فقال أبقيت لهم الله ورسوله فقلت لا أسابقك إلى شيء أبدا

5

18

الفصل الرابع قال الرافض وعن محمد بن كعب القرظي قال افتخر طلحة بن شيبة من بني عبد الدار وعباس بن عبد المطلب وعلي ابن ابي طالب فقال طلحة بن شيبة معي مفاتيح البيت ولو أشاء بت فيه وقال العباس أنا صاحب السقاية والقائم عليها ولو أشاء بت في المسجد وقال علي ما أدري ما تقولان لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس وأنا صاحب الجهاد فأنزل الله تعالى أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين سورة التوبة والجواب أن يقال هذا اللفظ لا يعرف في شيء من كتب الحديث المعتمدة بل دلالات الكذب عليه ظاهرة منها أن طلحة بن شيبة لا وجود له وإنما خادم الكعبة هو شيبة بن عثمان بن أبي

5

19

طلحة وهذا مما يبين لك أن الحديث لم يصح ثم فيه قول العباس لو أشاء بت في المسجد فأي كبير أمر في مبيته في المسجد حتى يتبجح به ثم فيه قول علي صليت ستة أشهر قبل الناس فهذا مما يعلم بطلانه بالضرورة فإن بين إسلامه وإسلام زيد وأبي بكر وخديحة يوما أو نحوه فكيف يصلي قبل الناس بستة أشهر وأيضا فلا يقول أنا صاحب الجهاد وقد شاركه فيه عدد كثير جدا وأما الحديث فيقال الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه ولفظه عن النعمان بن بشير قال كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال رجل ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج وقال آخر ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر

5

20

المسجد الحرام وقال آخر الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم فزجرهم عمر وقال لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوم الجمعة ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه فأنزل الله عز وجل أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله سورة التوبة الآية إلى آخرها وهذا الحديث ليس من خصائص الأئمة ولا من خصائص علي فإن الذين آمنوا بالله واليوم الآخر وجاهدوا في سبيل الله كثيرون والمهاجرون والأنصار يشتركون في هذا الوصف وأبو بكر وعمر أعظمهم إيمانا وجهادا لا سيما وقد قال الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله سورة الأنفال ولا ريب أن جهاد أبي بكر بماله ونفسه أعظم من جهاد علي وغيره كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح إن أمن الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر

5

21

وقال ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكره وأبو بكر كان مجاهدا بلسانه ويده وهو أول من دعا إلى الله وأول من أوذي في الله بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأول من دافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان مشاركا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في هجرته وجهاده حتى كان هو وحده معه في العريش يوم بدر وحتى أن أبا سفيان يوم أحد لم يسأل إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر لما قال أفيكم محمد فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تجيبوه فقال أفيكم ابن أبي قحافة فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تجيبوه فقال أفيكم ابن الخطاب فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تجيبوه فقال أما هؤلاء فقد كفيتموهم فلم يملك عمر نفسه فقال كذبت عدو الله إن الذين عددت لأحياء وقد أبقى الله لك

5

22

ما يخزيك ذكره البخاري وغيره الفصل الخامس قال الرافضي ومنها ما رواه أحمد بن حنبل عن أنس بن مالك قال قلنا لسلمان سل النبي صلى الله عليه وسلم من وصيه فقال له سلمان يا رسول الله من وصيك فقال يا سلمان من كان وصى موسى فقال يوشع بن نون قال فإن وصيى ووارثي يقضي ديني وينجز موعدي علي بن أبي طالب

5

23

والجواب أن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث ليس هو في مسند الإمام أحمد بن حنبل وأحمد قد صنف كتابا في فضائل الصحابة ذكر فيه فضل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وجماعة من الصحابة وذكر فيه ما روى في ذلك من صحيح وضعيف للتعريف بذلك وليس كل ما رواه يكون صحيحا ثم إن في هذا الكتاب زيادات من روايات ابنه عبد الله وزيادات من رواية القطيعي عن شيوخه وهذه الزيادات التي زادها القطيعي غالبها كذب كما سيأتي ذكر بعضها إن شاء الله وشيوخ القطيعي يروون عمن في طبقة أحمد وهؤلاء الرافضة جهاد إذا رأوا فيه حديثا ظنوا أن القائل لذلك أحمد بن حنبل ويكون القائل لذلك هو القطيعي وذاك الرجل من شيوخ القطيعي الذين يروون عمن في طبقة أحمد وكذلك في المسند زيادات زادها ابنه عبد الله لا سيما في مسند علي بن أبي طالب رضي الله عنه فإنه زاد زيادات كثيرة

5

24

الفصل السادس قال الرافضي وعن يزيد بن أبي مريم عن علي رضي الله عنه قال انطلقت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتينا العكبة فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم اجلس فصعد على منكبي فذهبت لأنهض به فرأى مني ضعفا فنزل وجلس لي نبي الله صلى الله عليه وسلم وقال اصعد على منكبي فصعدت على منكبه قال فنهض بي قال فإنه تخيل لي أني لو شئت لنلت أفق السماء حتى صعدت على البيت وعليه تمثال صفر أو نحاس فجعلت أزاوله عن يمينه وعن شماله وبين يديه ومن خلفه حتى إذا استمكنت منه قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم اقذف به فقذفت به فتكسر كما تنكسر القوارير ثم نزلت

5

25

فانطلقت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نستبق حتى توارينا في البيوت خشية أن يلقانا أحد من الناس والجواب أن هذا الحديث إن صح فليس فيه شيء من خصائص الأئمة ولا خصائص علي فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة بنت أبي العاص بن الربيع على منكبه إذا قام حملها وإذا سجد وضعها وكان إذا سجد جاء الحسن فارتحله ويقول إن ابني ارتحلني وكان يقبل زبيبة الحسن فإذا كان يحمل الطفلة والطفل لم يكن في حمله لعلي ما يوجب أن يكون ذلك من خصائصه بل قد أشركه فيه غيره وإنما حمله لعجز علي عن

5

26

حمله فهذا يدخل في مناقب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفضيلة من يحمل النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من فضيلة من يحمله النبي صلى الله عيله وسلم كما حمله يوم أحد من حمله من الصحابة مثل طلحة بن عبيد الله فإن هذا نفع النبي صلى الله عليه وسلم وذاك نفعه النبي صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن نفعه بالنفس والمال أعظم من انتفاع الإنسان بنفس النبي صلى الله عليه وسلم وماله الفصل السابع قال الرافضي وعن ابن أبي ليلى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الصديقون ثلاثة حبيب النجار مؤمن آل ياسين

5

27

ياسين وحزقيل مؤمن آل فرعون وعلي بن أبي طالب وهو أفضلهم الجواب أن هذا كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قد ثبت عنه في الصحيح أنه وصف أبا بكر رضي الله عنه بأنه صديق وفي الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا فهذا يبين أن الصديقين كثيرون وأيضا فقد قال تعالى عن مريم ابنة عمران إنها صديقة وهي امرأة

5

28

وقال النبي صلى الله عليه وسلم كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع فالصديقون من الرجال كثيرون الفصل الثامن قال الرافضي وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي أنت مني وأنا منك

5

29

والجواب أن هذا حديث صحيح أخرجاه في الصحيحين من حديث البراء بن عازب لما تنازع علي وجعفر وزيد في ابنة حمزة فقضى بها لخالتها وكانت تحت جعفر وقال لعلي أنت مني وأنا منك وقال لجعفر أشبهت خلقي وخلقي وقال لزيد أنت أخونا ومولاناه لكن هذا اللفظ قد قاله النبي صلى الله عليه وسلم لطائفة من أصحابه كما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قلت نفقة عيالهم في المدينة جمعوا ما كان معهم في ثوب واحد ثم قسموه بينهم بالسوية هم مني وأنا منهم وكذلك قال عن جليبيب هو مني وأنا منه فروى مسلم في صحيحه عن أبي برزة قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في مغزى له فأفاء الله عليه فقال لأصحابه هل تفقدون من أحد

5

30

قالوا نعم فلانا وفلانا ثم قال هل تفقدون من أحد قالوا نعم فلانا وفلانا وفلانا ثم قال هل تفقدون من أحد قالوا لا قال لكني أفقد جليبيبا فاطلبوه فطلبوه في القتلى فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فوقف عليه فقال قتل سبعة ثم قتلوه هذا مني وأنا منه هذا مني وأنا منه قال فوضعه علي على ساعديه ليس له إلا ساعدا النبي صلى الله عليه وسلم قال فحفر له فوضع في قبره ولم يذكر غسلا فتبين أن قوله لعلي أنت مني وأنا منك ليس من خصائصه بل قال ذلك للأشعريين وقال لجليبيب وإذا لم يكن من خصائصه بل قد شاركه في ذلك غيره من هو دون الخلفاء الثلاثة في الفضيلة لم يكن دالا على الأفضلية ولا على الإمامة الفصل التاسع قال الرافضي وعن عمرو بن ميمون قال لعلي بن أبي

5

31

طالب عشر فضائل ليست لغيره قال له النبي صلى الله عليه وسلم لأبعثن رجلا لا يخزيه الله أبدا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله فاستشرف إليها من استشرف قال أين علي بن أبي طالب قالوا هو أرمد في الرحى يطحن قال وما كان أحدهم يطحن قال فجاء وهو أرمد لايكاد أن يبصر قال فنفث في عينيه ثم هز الراية ثلاثا وأعطاه إياه فجاء بصفية بنت حيي قال ثم بعث أبا بكر بسورة التوبة فبعث عليا خلفه فأخذها منه وقال لا يذهب بها إلا رجل هو مني وأنا منه

5

32

وقال لبني عمه أيكم يواليني في الدنيا والآخرة قال وعلي معهم جالس فأبوا فقال علي أنا أواليك في الدنيا والآخرة قال فتركه ثم أقبل على رجل رجل منهم فقال إيكم يواليني في الدنيا والآخرة فأبوا فقال علي أنا أواليك في الدنيا والآخرة فقال أنت وليي في الدنيا والآخرة قال وكان علي أول من أسلم من الناس بعد خديجة قال وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه فوضعه على علي وفاطمة والحسن والحسين فقال إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا سورة الأحزاب قال وشرى علي نفسه ولبس ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نام مكانه وكان المشركون يرمونه بالحجارة وخرج النبي صلى الله عليه وسلم بالناس في غزاة تبوك فقال له علي أخرج معك قال لا فبكى علي فقال له

5

33

أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنك لست بنبي لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت وليي في كل مؤمن بعدي قال وسد أبواب المسجد إلا باب علي قال وكان يدخل المسجد جنبا وهو طريقه ليس له طريق غيره وقال له من كنت مولاه فعلي مولاه وعن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا أنه بعث أبا بكر في براءة إلى مكة فسار بها ثلاثا ثم قال لعلي الحقة فرده وبلغها أنت ففعل فلما قدم أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم بكى وقال يا رسول الله حدث في شيء قال لا ولكن أمرت أن لا يبلغها إلا أنا أو رجل مني

5

34

والجواب أن هذا ليس مسندا بل هو مرسل لو ثبت عن عمرو بن ميمون وفيه ألفاظ هي كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنك لست بنبي لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب غير مرة وخليفته على المدينة غير علي كما اعتمر عمرة الحديبية وعلي معه وخليفته غيره وغزا بعد ذلك خيبر ومعه علي وخليفته بالمدينة غيره وغزا غزوة الفتح وعلي معه وخليفته في المدينة غيره وغزا حنينا والطائف وعلي معه وخليفته بالمدينة غيره وحج حجة الوداع وعلي معه وخليفته بالمدينة غيره وغزا غزوة بدر ومعه علي وخليفته بالمدينة غيره وكل هذا معلوم بالأسانيد الصحيحة وباتفاق أهل العلم بالحديث وكان علي معه في غالب الغزوات وإن لم يكن فيها قتال فإن قيل استخلافه يدل على أنه لا يستخلف إلا الأفضل لزم أن يكون علي مفضولا في عامة الغزوات وفي عمرته وحجته لا سيما وكل مرة كان يكون الإستخلاف على رجال مؤمنين وعام تبوك ما كان الإستخلاف إلا على النساء والصبيان ومن عذر الله وعلى الثلاثة الذين

5

35

خلفوا أو متهم بالنفاق وكانت المدينة آمنة لا يخاف على أهلها ولا يحتاج المستخلف إلى جهاد كما يحتاج في أكثر الاستخلافات وكذلك قوله وسد الأبواب كلها إلا باب علي فإن هذا مما وضعته الشيعة على طريق المقابلة فإن الذي في الصحيح عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في مرضه الذي مات فيه إن أمن الناس علي في ماله وصحبته أبو بكر ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخوة الإسلام ومودته لا يبقين في المسجد خوخه إلا سدت إلا خوخه أبي بكر ورواه ابن عباس أيضا في الصحيحين ومثل قوله أنت وليي في كل مؤمن بعدي فإن هذا

5

36

موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث والذي فيه من الصحيح ليس هو من خصائص الأئمة بل ولا من خصائص علي بل قد شاركه فيه غيره مثل كونه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ومثل استخلافه وكونه منه بمنزلة هارون من موسى ومثل كون علي مولى من النبي صلى الله عليه وسلم مولاه فإن كل مؤمن موال لله ورسوله ومثل كون براءة لا يبلغها إلا رجل من بني هاشم فإن هذا يشترك فيه جميع الهاشميين لما روى أن العادة كانت جارية بأن لا ينقض العهود ويحلها إلا رجل من قبيلة المطاع الفصل العاشر قال الرافضى ومنها ما رواه أخطب خوارزم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يا علي لو أن عبدا عبد الله عز

5

37

وجل مثل ما قام نوح في قومه وكان له مثل أحد ذهبا فأنفقه في سبيل الله ومد في عمره حتى حج ألف عام على قدميه ثم قتل بين الصفا والمروة مظلوما ثم لم يوالك يا علي لم يشم رائحة الجنه ولم يدخلها وقال رجل لسلمان ما أشد حبك لعلي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من أحب عليا فقد أحبني ومن أبغض عليا فقد أبغضني وعن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خلق الله من نور وجه علي سبعين ألف ملك يستغفرون له ولمحبيه إلى يوم القيامة وعن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحب عليا قبل الله عنه صلاته وصيامه وقيامه واستجاب دعاءه ألا ومن أحب عليا أعطاه الله بكل عرق من بدنه مدينة في الجنة ألا ومن أحب آل محمد أمن من الحساب والميزان والصراط ألا ومن مات على حب آل محمد فأنا كفيله في الجنة مع الأنبياء ألا ومن أبغض آل محمد جاء يوم القيامة

5

38

مكتوبا بين عيينه آيس من رحمة الله وعن عبد الله بن مسعود قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من زعم أنه آمن بي وبما جئت به وهو يبغض عليا فهو كاذب ليس بمؤمن وعن أبي برزة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن جلوس ذات يوم والذي نفسي بيده لا يزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأله الله تبارك وتعالى عن أربع عن عمره فيما أفناه وعن جسده فيما أبلاه وعن ماله مم اكتسبه وفيم أنفقه وعن حبنا أهل البيت فقال له عمر فما آية حبكم من بعدكم فوضع يده على رأس علي بن أبي طالب وهو إلى جانبه فقال إن حبي من بعدي حب هذا

5

39

وعن عبد الله بن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سئل بأي لغه خاطبك ربك ليلة المعراج فقال خاطبني بلغة علي فألهمني أن قلت يا رب خاطبتني أم علي فقال يا محمد أنا شيء لست كالأشياء لا أقاس بالناس ولا أوصف بالأشياء خلقتك من نوري وخلقت عليا من نورك فاطلعت على سرائر قلبك فلم أجد إلى قلبك أحب من علي فخاطبتك بلسانه كيما يطمئن قلبك وعن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أن الرياض أقلام والبحر مداد والجن حساب والإنس كتاب ما أحصوا فضائل علي بن أبي طالب وبالإسناد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى جعل الأجر على فضائل علي لا يحصى كثرة

5

40

فمن ذكر فضيلة من فضائله مقرا بها غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ومن كتب فضيلة من فضائله لم تزل الملائكة تستغفر له ما بقي لتلك الكتابة رسم ومن استمع فضيلة من فضائله غفر الله له الذنوب التي اكتسبها بالإستماع ومن نظر إلى كتاب من فضائله غفر الله له الذنوب التي اكتسبها بالنظر ثم قال النظر إلى وجه أمير المؤمنين علي عبادة وذكره عبادة لا يقبل الله إيمان عبد إلا بولايته والبراءة من أعدائه وعن حكيم بن حزام عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمبارزة علي لعمرو بن عبد ود يوم الخندق أفضل من عمل أمتي إلى يوم القيامة وعن سعد بن أبي وقاص قال أمر معاوية بن أبي سفيان سعدا بالسب فأبى فقال ما منعك أن تسب علي بن أبي طالب قال ثلاث قالهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن

5

41

أسبه لأن يكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي وقد خلفه في بعض مغازيه فقال له علي تخلفني مع النساء والصبيان فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي وسمعته يقول يوم خبير لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله قال فتطاولنا فقال ادعوا لي عليا فأتاه به رمد فبصق في عينيه ودفع الراية إليه ففتح الله عليه وأنزلت هذه الآية فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم سورة آل عمران دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة والحسن والحسين فقال هؤلاء أهلي والجواب أن أخطب خوارزم هذا له مصنف في هذا الباب فيه من

5

42

الأحاديث المكذوبة ما لا يخفى كذبه على من له أدنى معرفة بالحديث فضلا عن علماء الحديث وليس هو من علماء الحديث ولا ممن يرجع إليه في هذا الشأن ألبتة وهذه الأحاديث مما يعلم أهل المعرفة بالحديث أنها من المكذوبات وهذا الرجل قد ذكر أنه يذكر ما هو صحيح عندهم ونقلوه في المعتمد من قولهم وكتبهم فكيف يذكر ما أجمعوا على أنه كذب موضوع ولم يرو في شيء من كتب الحديث المعتمدة ولا صححه أحد من أئمة الحديث فالعشرة الأول كلها كذب إلى آخر حديث قتله لعمرو بن عبد ود وأما حديث سعد لما أمره معاوية بالسب فأبى فقال ما منعك أن تسب علي بن أبي طالب فقال ثلاث قالهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن أسبه لأن يكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم الحديث فهذا حديث صحيح رواه مسلم في صحيحه وفيه ثلاث فضائل لعلي لكن ليست من خصائص الأئمة ولا من خصائص

5

43

علي فإن قوله وقد خلفه في بعض مغازيه فقال له علي يا رسول الله تخلفني مع النساء والصبيان فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أما ترضى أن تكون مني بنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ليس من خصائصه فإنه استخلف على المدينة غير واحد ولم يكن هذا الاستخلاف أكمل من غيره ولهذا قال له علي أتخلفني مع النساء والصبيان لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في كل غزاة يترك بالمدينة رجالا من المهاجرين والأنصار إلا في غزوة تبوك فإنه أمر المسلمين جميعهم بالنفير فلم يتخلف بالمدينة إلا عاص أو معذور غير النساء والصبيان ولهذا كره علي الإستخلاف وقال أتخلفني مع النساء والصبيان يقول تتركني مخلفا لا تستصحبني معك فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن الإستخلاف ليس نقصا ولا غضاضة فإن موسى استخلف هارون على قومه لأمانته عنده وكذلك أنت استخلفتك لأمانتك عندي لكن موسى استخلف نبيا وأنا لا نبي بعدي وهذا تشبيه في أصل الإستخلاف فإن موسى استخلف هارون على جميع بني إسرائيل والنبي صلى الله عليه وسلم استخلف عليا على قليل من المسلمين وجمهورهم استصحبهم في الغزاة وتشبيهه بهارون ليس بأعظم من تشبيه أبي بكر وعمر هذا بإبراهيم وعيسى وهذا بنوح وموسى فإن هؤلاء الأربعة أفضل من هارون وكل من أبي بكر وعمر شبه باثنين لا بواحد فكان هذا التشبيه أعظم من تشبيه

5

44

علي مع أن استخلاف علي له فيه أشباه وأمثال من الصحابه وهذا التشبيه ليس لهذين فيه شبيه فلم يكن الإستخلاف من الخصائص ولا التشبيه بنبي في بعض أحواله من الخصائص وكذلك قوله لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله قال فتطاولنا فقال ادعوا لي عليا فأتاه وبه رمد فبصق في عينيه ودفع الراية إليه ففتح الله على يديه وهذا الحديث أصح ما روي لعلي من الفضائل أخرجاه في الصحيحين من غير وجه وليس هذا الوصف مختصا بالأئمة ولا بعلي فإن الله ورسوله يحب كل مؤمن تقي وكل مؤمن تقي يحب الله ورسوله لكن هذا الحديث من أحسن ما يحتج به على النواصب الذين يتبرؤون منه ولا يتولونه ولا يحبونه بل قد يكفرونه أو يفسقونه كالخوارج فإن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له بأنه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله لكن هذا الاحتجاج لا يتم على قول الرافضة الذين يجعلون النصوص الدالة على فضائل الصحابة كانت قبل ردتهم فإن الخوارج تقول في علي مثل ذلك لكن هذا باطل فإن الله ورسوله لا يطلق هذا المدح على من يعلم أنه يموت كافرا وبعض أهل الأهواء من

5

45

المعتزلة وغيرهم وبعض المروانية ومن كان على هواهم الذين كانوا يبغضونه ويسبونه كذلك حديث المباهلة شركة فيه فاطمة وحسن وحسين كما شركوه في حديث الكساء فعلم أن ذلك لا يختص بالرجال ولا بالذكور ولا بالأئمة بل يشركه فيه المرأة والصبي فإن الحسن والحسين كانا صغيرين عند المباهلة فإن المباهلة كانت لما قدم وفد نجران بعد فتح مكه سنة تسع أو عشر والنبي صلى الله عليه وسلم مات ولم يكمل الحسين سبع سنين والحسن أكبر منه بنحو سنة وإنما دعا هؤلاء لأنه أمر أن يدعو كل واحد من الأقربين الأبناء والنساء والأنفس فيدعو الواحد من أولئك أبناءه ونساءه وأخص الرجال به نسبا وهؤلاء أقرب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم نسبا وإن كان غيرهم أفضل منهم عنده فلم يؤمر أن يدعو أفضل أتباعه لأن المقصود أن يدعو كل واحد منهم أخص الناس به لما في جبلة الإنسان من الخوف عليه وعلى ذوي رحمه الأقربين إليه ولهذا خصهم في حديث الكساء

5

46

والدعاء لهم والمباهلة مبناها على العدل فأولئك أيضا يحتاجون أن يدعوا أقرب الناس إليهم نسبا وهم يخافون عليهم ما لا يخافون على الأجانب ولهذا امتنعوا عن المباهلة لعلمهم بأنه على الحق وأنهم إذا باهلوه حقت عليهم بهلة الله وعلى الأقربين إليهم بل قد يحذر الإنسان على ولده ما لا يحذره على نفسه فإن قيل فإذا كان ما صح من فضائل علي رضي الله عنه كقوله صلى الله عليه وسلم لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله وقوله أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى وقوله اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ليس من خصائصه بل له فيه شركاء فلماذا تمنى بعض الصحابة أن يكون له ذلك كما روى عن سعد وعن عمر فالجواب أن في ذلك شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بإيمانه باطنا وظاهرا وإثباتا لموالاته لله ورسوله ووجوب موالاة المؤمنين له وفي ذلك رد على النواصب الذين يعتقدون كفره أو فسقه كالخوارج المارقين الذين كانوا من أعبد الناس كما قال النبي صلى الله عليه

5

47

وسلم فيهم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم وهؤلاء يكفرونه ويستحلون قتله ولهذا قتله واحد منهم وهو عبدالرحمن بن ملجم المرادي مع كونه كان من أعبد الناس وأهل العلم والسنة يحاتجون إلى إثبات إيمان علي وعدله ودينه للرد على هؤلاء أعظم مما يحتاجون إلى مناظرة الشيعة فإن هؤلاء أصدق وأدين والشبه التي يحتجون بها أعظم من الشبه التي تحتج بها الشيعة كما أن المسلمين يحتاجون في أمر المسيح صلوات الله وسلامه عليه إلى مناظرة اليهود والنصارى فيحتاجون أن ينفوا عنه ما يرميه به اليهود من أنه كاذب ولد زنا وإلى نفي ما تدعيه النصارى من الإلهية وجدل اليهود أشد من جدل النصارى ولهم شبه لا يقدر النصارى أن يجيبوهم عنها وإنما يجيبهم عنها المسلمون كما أن للنواصب شبها

5

48

لا يمكن الشيعة أن يجيبوا عنها وإنما يجيبهم عنها أهل السنة فهذه الاحاديث الصحيحة المثبته لإيمان علي باطنا وظاهرا رد على هؤلاء وإن لم يكن ذلك من خصائص كالنصوصه الدالة على إيمان أهل بدر وبيعة الرضوان باطنا وظاهر فإن فيها ردا على من ينازع في ذلك من الروافض والخوارج وإن لم يكن ما يستدل به من خصائص واحد منهم وإذا شهد النبي صلى الله عليه وسلم لمعين بشهادة أو دعا له بدعاء أحب كثير من الناس أن يكون له مثل تلك الشهادة ومثل ذلك الدعاء وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم يشهد بذلك لخلق كثير ويدعو به لخلق كثير وكان تعيينه لذلك المعين من أعظم فضائله ومناقبه وهذا كالشهادة بالجنة لثابت بن قيس بن شماس وعبد الله بن سلام وغيرهما وإن كان قد شهد بالجنة لآخرين والشهادة بمحبة الله

5

49

ورسوله لعبد الله حمار الذي ضرب في الخمر وإن شهد بذلك لمن هو أفضل منه وكشهادته لعمرو بن تغلب بأنه ممن لا يعطيه لما في قلبه من الغنى والخير لما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح إني لأعطي رجالا وأدع رجالا والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي أعطي رجالا لما في قلوبهم من الهلع والجزع وأكل رجالا إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير منهم عمرو بن تغلب وفي الحديث الصحيح لما صلى على ميت قال اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم منزله ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله وقه فتنة القبر وعذاب النار وافسح له في قبره ونور له فيه قال عوف بن

5

50

مالك فتمنيت أن أكون أنا ذلك الميت وهذا العداء ليس مختصا بذلك الميت الفصل الحادي عشر قال الرافضي وعن عامر بن واثلة قال كنت مع علي عليه السلام يوم الشورى يقول لهم لأحتجن عليكم بما لا يستطيع عربيكم ولاعجميكم تغيير ذلك ثم قال أنشدكم بالله أيها النفر جميعا أفيكم أحد وحد الله تعالى

5

51

قبلي قالوا اللهم لا قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد له أخ مثل أخي جعفر الطيار في الجنة مع الملائكة غيري قالوا اللهم لا قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد له عم مثل عمي حمزة أسد الله وأسد رسوله سيد الشهداء غيري قالوا اللهم لا قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد له زوجة مثل زوجتي فاطمة بنت محمد سيدة نساء أهل الجنة غيري قالوا اللهم لا قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد له سبطان مثل سبطي الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة غيري قالوا اللهم لا قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد ناجى رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر مرات قدم بين يدى نجواه صدقة غيري قالوا اللهم لا قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ليبلغ الشاهد الغائب غيري

5

52

قالوا اللهم لا قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم ائتنى بأحب خلقك إليك وإلي يأكل معي من هذا الطير فأتاه فأكل معه غيري قالوا اللهم لا قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله لا يرجع حتى يفتح الله على يديه إذ رجع غيري منهزما غيري قالوا اللهم لا قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني وكيعة لتنتهن أو لأبعثن إليكم رجلا نفسه كنفسي وطاعته كطاعتي ومعصيته كعصيتي يفصلكم بالسيف غيري قالوا اللهم لا قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال

5

53

له رسول الله صلى الله عليه وسلم كذب من زعم أنه يحبني ويبغض هذا غيري قالوا اللهم لا قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد سلم عليه في ساعة واحدة ثلاثة آلاف من الملائكة جبرائيل وميكائيل وإسرافيل حيث جئت بالماء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من القليب غيري قالوا اللهم لا قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد نودي به من السماء لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي غيري قالوا اللهم لا قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له جبريل هذه هي المواساة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه مني وأنا منه فقال جبريل وأنا منكما غيري قالوا اللهم لا قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم تقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين على لسان النبي صلى الله عليه وسلم غيري قالوا اللهم لا قال

5

54

فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إني قاتلت على تنزيل القرآن وأنت تقاتل على تأويله غيري قالوا اللهم لا قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد ردت عليه الشمس حتى صلى العصر في وقتها غيري قالوا اللهم لا قال فأنشدكم بالله فيكم أحد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ براءة من أبي بكر فقال له أبو بكر يا رسول الله أنزل في شيء فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه لا يؤدي عني إلا علي غيري قالوا اللهم لا قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق كافر غيري قالوا اللهم لا قال فأنشدكم بالله هل تعلمون أنه أمر بسد أبوابكم وفتح بابي فقلتم في ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أنا سددت أبوابكم ولا فتحت بابه بل الله سد أبوابكم وفتح بابه

5

55

غيري قالوا اللهم لا قال فأنشدكم بالله أتعلمون أنه ناجاني يوم الطائف دون الناس فأطال ذلك فقلتم ناجاه دوننا فقال ما أنا انتجيته بل الله انتجاه غيري قالوا اللهم نعم قال فأنشدكم بالله أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الحق مع علي وعلي مع الحق يزول الحق مع علي كيفما زال قالوا اللهم نعم قال فأنشدكم بالله أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي لن تضلوا ما استمسكتم بهما ولن يفترقا حتى يردا على الحوض قالوا اللهم نعم قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد وقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه من المشركين واضطجع في مضجعه غيري

5

56

قالوا اللهم لا قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد بارز عمرو بن عبد ود العامري حيث دعاكم إلى البراز غيري قالوا اللهم لا قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد نزل فيه آية التطهير حيث يقول إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا سورة الأحزاب غيري قالوا اللهم لا قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت سيد المؤمنين غيري قالوا اللهم لا قال فأنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سألت الله شيئا إلا وسألت لك مثله غيري قالوا اللهم لا ومنها ما رواه أبو عمرو الزاهد عن ابن عباس قال لعلي

5

57

أربع خصال ليست لأحد من الناس غيره هو أول عربي وعجمي صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي كان لواؤه معه في كل زحف وهو الذي صبر معه يوم حنين وهو الذي غسله وأدخله قبره وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال مررت ليلة المعراج بقوم تشرشر أشداقهم فقلت يا جبريل من هؤلاء قال قوم يقطعون الناس بالغيبة قال ومررت بقوم وقد ضوضؤا فقلت يا جبريل من هؤلاء قال هؤلاء الكفار قال ثم عدلنا عن الطريق فلما انتهينا إلى السماء الرابعة رأيت عليا يصلي فقلت يا جبريل هذا علي قد سبقنا قال لا ليس هذا عليا قلت فمن هو قال إن الملائكة

5

58

المقربين والملائكة الكروبيين لما سمعت فضائل علي وخاصته وسمعت قولك فيه أنت منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي اشتاقت إلى علي فخلق الله تعالى لها ملكا على صورة علي فإذا اشتاقت إلى علي جاءت إلى ذلك المكان فكأنها قد رأت عليا وعن ابن عباس قال إن المصطفى صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم وهو نشيط أنا الفتى ابن الفتى أخو الفتى قال فقوله أنا الفتى يعني هو فتى العرب وقوله ابن الفتى يعني إبراهيم من قوله تعالى سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم سورة الأنبياء وقوله أخو الفتى يعني عليا وهو معنى قول جبريل في يوم بدر وقد عرج إلى السماء وهو فرح وهو يقول لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي

5

59

وعن ابن عباس قال رأيت أبا ذر وهو متعلق بأستار الكعبة وهو يقول من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أبو ذر لو صمتم حتى تكونوا كالأوتار وصليتم حتى تكونوا كالحنايا ما نفعكم ذلك حتى تحبوا عليا والجواب أما قوله عن عامر بن واثلة وما ذكره يوم الشورى فهذا كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث ولم يقل على رضي الله عنه يوم الشورى شيئا من هذا ولاما يشابهه بل قال له عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه لئن أمرتك لتعدلن قال نعم قال وإن بايعت عثمان لتسمعن وتطيعن قال نعم وكذلك قال لعثمان ومكث عبدالرحمن ثلاثة أيام يشاور المسلمين ففي الصحيحين وهذا لفظ البخاري عن عمرو بن ميمون في

5

60

مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلما فرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط فقال عبد الرحمن أجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم قال الزبير قد جعلت أمري إلى علي وقال طلحة قد جعلت أمري إلى عثمان وقال سعد قد جعلت أمري إلى عبدالرحمن فقال عبدالرحمن أيكم تبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه فأسكت الشيخان فقال عبدالرحمن أتجعلونه إلي والله على أن لا ألو عن أفضلكم قالا نعم فأخذ بيد أحدهما فقال لك قرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والقدم في الإسلام ما قد علمت فالله عليك لئن أمرتك لتعدلن ولئن أمرت عليك لتسمعن ولتطيعن ثم خلا بالآخر فقال له مثل ذلك فلما أخذ المثاق قال أرفع يدك يا عثمان

5

61

وفي حديث المسور بن مخرمة قال المنسور إن الرهط الذي ولاهم عمر اجتمعوا فتشاوروا قال لهم عبدالرحمن لست بالذي أتكلم في هذا الأمر ولكنكم إن شئتم اخترت لكم منكم فجعلوا ذلك إلى عبدالرحمن فلما ولوا عبد الرحمن أمرهم مال الناس على عبدالرحمن حتى ما أرى أحدا من الناس يتبع ذلك الرهط ولا يطأ عقبه ومال الناس على عبدالرحمن يشاورونه تلك الليالي حتى إذا كانت الليلة التي أصبحنا منها فبايعنا عثمان قال المسور طرقني عبد الرحمن بعد هجع من الليل فضرب الباب حتى استيقظت فقال أراك نائما فوالله ما اكتحلت هذه الليلة بكبير نوم انطلق فادع الزبير وسعدا فدعوتهما له فشاورهما ثم دعاني فقال ادع لي عليا فدعوته فناجاه حتى إبهار الليل ثم قام على من عنده وهو على طمع وقد كان عبد الرحمن يخشى

5

62

من علي شيئا ثم قال ادع لي عثمان فدعوته فناجاه حتى فرق بينهما المؤذن بالصبح فلما صلى الناس الصبح واجتمع أولئك الرهط عند المنبر أرسل إلي من كان حاضرا من المهاجرين والأنصار وأرسل إلى أمراء الأجناد وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر فلما اجتمعوا تشهد عبدالرحمن ثم قال أما بعد يا علي إني قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان فلا تجعلن على نفسك سبيلا فقال أبايعك على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده فبايعه عبدالرحمن وبايعه الناس والمهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون هذا لفظ البخاري وفي هذا الحديث الذي ذكره هذا الرافضي أنواع من الأكاذيب التي نزه الله عليا عنها مثل احتجاجه بأخيه وعمه وزوجته وعلي رضي الله عنه أفضل من هؤلاء وهو يعلم أن أكرم الخلق عند الله أتقاهم ولو قال العباس هل فيكم مثل أخي حمزة ومثل أولاد إخوتي محمد وعلي وجعفر لكانت هذه الحجة من جنس تلك بل احتجاج الإنسان بيني إخوته أعظم من احتجاجه بعمه ولو قال عثمان هل فيكم من تزوج بنتي نبي لكان من جنس قول القائل هل فيكم من زوجته كزوجتي وكانت فاطمة قد ماتت قبل الشورى كما ماتت زوجتا عثمان فإنها ماتت

5

63

بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بنحو ستة أشهر وكذلك قوله هل فيكم من له ولد كولدي وفي أكاذيب متعددة مثل قوله ما سألت الله شيئا إلا وسألت لك مثله وكذلك قوله لا يؤدي عني إلا علي من الكذب وقال الخطابي في كتاب شعار الدين وقوله لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي هو شيء جاء به أهل الكوفة عن زيد بن يثيع وهو متهم في الرواية منسوب إلى الرفض وعامة من بلغ عنه غير أهل بيته فقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أسعد بن زرارة إلى المدينة يدعو الناس إلى الإسلام ويعلم الأنصار القرآن ويفقههم في الدين وبعث العلاء بن الحضرمي إلى البحرين في مثل ذلك وبعث معاذا وأبا موسى إلى اليمن وبعث عتاب بن أسيد إلى مكة فأين قول من زعم أنه لا يبلغ عنه إلا رجل من أهل بيته وأما حديث ابن عباس ففيه أكاذيب منها قوله كان لواؤه معه في كل

5

64

زحف فإن هذا من الكذب المعلوم إذا لواء النبي صلى الله عليه وسلم كان يوم أحد مع مصعب بن عمير باتفاق الناس ولواؤه يوم الفتح كان مع الزبير بن العوام وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يركز رايته بالحجون فقال العباس للزبير بن العوام أهاهنا أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز الراية أخرجه البخاري في صحيحه وكذلك قوله وهو الذي صبر معه يوم حنين وقد علم أنه لم يكن أقرب إليه من العباس بن عبد المطلب وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب والعباس آخذ بلجام بغلته وأبو سفيان بن الحارث آخذ بركابه وقال له النبي صلى الله عليه وسلم ناد أصحاب السمرة قال فقلت بأعلى صوتي أين أصحاب السمرة فوالله كأن عطفتهم على حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها فقالوا يالبيك يالبيك والنبي صلى الله عليه وسلم يقول أنا النبي لاكذب أنا ابن عبد المطلب ونزل عن بغلته وأخذ كفا من حصى فرمى بها القوم وقال انهزموا ورب الكعبة قال العباس فوالله ما هو إلا

5

65

أن رماهم فما زلت أرى حدهم كليلا وأمرهم مدبرا حتى هزمهم الله أخرجاه في الصحيحين وفي لفظ للبخاري قال وأبو سفيان آخذ بلجام بغلته وفيه قال العباس لزمت أنا وأبو سفيان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلم نفارقه وأما غسله صلى الله عليه وسلم وإدخاله قبره فاشترك فيه أهل بيته

5

66

كالعباس وأولاده ومولاه شقران وبعض الأنصار لكن علي كان يباشر الغسل والعباس حاضر لجلالة العباس وأن عليا أولادهم بمباشرة ذلك وكذلك قوله هو أول عربي وعجمي صلى يناقض ما هو المعروف عن ابن عباس فصل وأما حديث المعراج وقوله فيه إن الملائكة المقربين والملائكة الكروبيين لما سمعت فضائل علي وخاصته وقول النبي صلى الله عليه وسلم أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى اشتقات إلى علي فخلق الله لها ملكا على صورة علي فالجواب أن هذا من كذب الجهال الذين لا يحسنون أن يكذبوا فإن المعراج كان بمكة قبل الهجرة بإجماع الناس كما قال تعالى سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير سورة الإسراء

5

67

وكان الإسراء من المسجد الحرام وقال والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى سورة النجم إلى قوله أفتمارونه على ما يرى ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى سورة النجم إلى قوله أفرأيتم اللات والعزى سورة النجم وهذا كله نزل بمكة بإجماع الناس وقوله أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى قاله في غزوة تبوك وهي آخر الغزوات عام تسع من الهجرة فكيف يقال إن الملائكة ليلة المعراج سمعوا قوله أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ثم قد علم أن الإستخلاف على المدينة مشترك فكل الإستخلافات التي قبل غزوة تبوك وبعد تبوك كان يكون بالمدينة رجال من المؤمنين المطيعين يستخلف عليهم وغزوة تبوك لم يكن فيها رجل مؤمن مطيع إلا من عذره الله ممن هو عاجز عن الجهاد فكان المستخلف عليهم في غزوة تبوك أقل وأضعف من المستخلف عليهم في جميع أسفاره ومغازيه وعمره وحجه وقد سافر النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة قريبا من ثلاثين سفرة وهو يستخلف فيها من يستخلفه كما استخلف في غزوة الأبواء سعد بن عبادة واستخلف في غزوة

5

68

بواط سعد بن معاذ ثم لما رجع وخرج في طلب كرز بن جابر الفهري استخلف زيد بن حارثة واستخلف في غزوة العشيرة أبا سلمة بن عبد الأشهل وفي غزوة بدر استخلف ابن أم مكتوم واستخلفه في غزوة قرقرة الكدر ولما ذهب إلى بني سليم وفي غزوة حمراء الأسد وغزوة بني النضير وغزوة بني قريظة وإستخلفه لما خرج في طلب اللقاح التي استاقها عيينة بن حصن ونودي ذلك اليوم يا خيل الله اركبي وفي غزوة الحديبية واستخلفه في غزوة الفتح واستخلف

5

69

أبا لبابة في غزوة بني قينقاع وغزوة السويق واستخلف عثمان بن عفان في غزوة غطفان التي يقال لها غزوة أنمار واستخلفه في غزوة ذات الرقاع واستخلف ابن رواحة في غزوة بدر الموعد واستخلف سباع بن عرفطة الغفاري في غزوة دومة الجندل وفي غزوة خيبر واستخلف زيد بن حارثة في غزوة المريسيع واستخلف أبا رهم في عمرة القضية وكانت تلك الاستخلافات أكمل من استخلاف علي رضي الله عنه عام تبوك وكلهم كانوا منه بمنزلة هارون من موسى إذ المراد التشبيه في أصل الاستخلاف وإذا قيل في تبوك كان السفر بعيدا قيل ولكن كانت المدينة وما حولها أمنا لم يكن هناك عدو يخاف لأنهم كلهم أسلموا ومن لم يسلم ذهب وفي غير تبوك كان العدو موجودا حول المدينة وكان يخاف على من بها فكان خليفته يحتاج إلى مزيد اجتهاد ولا يحتاج إليه في الإستخلاف في تبوك فصل وكذلك الحديث المذكور عن ابن عباس أن المصطفى صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم وهو نشيط أنا الفتى ابن الفتى أخو الفتى قال

5

70

فقوله أنا الفتى يعني فتى العرب وقوله ابن الفتى يعني إبراهيم الخليل صلوات الله عليه من قوله سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم سورة الأنبياء وقوله أخو الفتى يعني عليا وهو معنى قول جبريل في يوم بدر وقد عرج إلى السماء وهو فرح وهو يقول لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي فإن هذا الحديث من الأحاديث المكذوبة الموضوعة باتفاق أهل المعرفة بالحديث وكذبه معروف من غير جهة الإسناد من وجوه منها أن لفظ الفتى في الكتاب والسنة ولغة العرب ليس من هو من أسماء المدح كما ليس هو من أسماء الذم ولكن بمنزلة اسم الشاب والكهل والشيخ ونحو ذلك والذين قالوا عن إبراهيم سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم هم الكفار ولم يقصدوا مدحه بذلك وإنما الفتى كالشاب الحدث

5

71

ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أجل من أن يفتخر بجده وابن عمه ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤاخ عليا ولا غيره وحديث المؤاخاة لعلي ومؤاخاة أبي بكر لعمر من الأكاذيب وإنما آخى بين المهاجرين والأنصار ولم يؤاخ بين مهاجري ومهاجري ومنها أن هذه المناداة يوم بدر كذب ومنها أن ذا الفقار لم يكن لعلي وإنما كان سيفا من سيوف أبي جهل غنمه المسلمون منه يوم بدر فلم يكن يوم بدر ذو الفقار من سيوف المسلمين بل من سيوف الكفار كما روى ذلك أهل السنن فروى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم تنقل سيفه ذا الفقار يوم بدر ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بعد النبوة كهلا قد تعدى سن الفتيان

5

72

فصل وأما حديث أبي ذر الذي رواه الرافضي فهو موقوف عليه ليس مرفوعا فلا يحتج به مع أن نقله عن أبي ذر فيه نظر ومع هذا فحب علي واجب وليس ذلك من خصائصه بل علينا أن نحبه كما علينا أن نحب عثمان وعمر وأبا بكر وأن نحب الأنصار ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار وفي صحيح مسلم عن علي رضي الله عنه أنه قال إنه لعهد النبي الأمي إلى أنه لا يحبني الا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق فصل قال الرافضي ومنها ما نقله صاحب الفردوس في كتابه عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال حب

5

73

علي حسنة لا تضر معها سيئة وبغضه سيئة لا ينفع معها حسنة والجواب أن كتاب الفردوس فيه من الأحاديث الموضوعات ما شاء الله ومصنفه شيرويه بن شهردار الديلمي وإن كان من طلبه الحديث ورواته فإن هذه الأحاديث التي جمعها وحذف أسانيدها نقلها من غير اعتبار لصحيحها وضعيفها وموضوعها فلهذا كان فيه من الموضوعات أحاديث كثيرة جدا وهذا الحديث مما يشهد المسلم بأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقوله فإن حب الله ورسوله أعظم من حب علي والسيئات تضر مع ذلك وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يضرب عبد الله بن حمار في

5

74

الخمر وقال إنه يحب الله ورسوله وكل مؤمن فلا بد أن يحب الله ورسوله والسيئات تضره وقد أجمع المسلمون وعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الشرك يضر صاحبه ولا يغفره الله لصاحبه ولو أحب علي ابن أبي طالب فإن أباه أبا طالب كان يحبه وقد ضره الشرك حتى دخل النار والغالية يقولون إنهم يحبونه وهم كفار من أهل النار وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها وقد علم بالإضطرار من دين الإسلام أن الرجل لو سرق لقطعت يده وإن كان يحب عليا ولو زنى أقيم عليه الحد ولو كان يحب عليا ولو قتل لأقيد بالمقتول وإن كان يحب عليا وحب النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من حب علي ولو ترك رجل الصلاة والزكاة وفعل الكبائر لضره ذلك مع حب النبي صلى الله عليه وسلم فكيف لا يضره ذلك مع حب علي

5

75

ثم من المعلوم أن المحبين له الذين رأوه وقاتلوا معه أعظم من غيرهم وكان هو دائما يذمهم ويعيبهم ويطعن عليهم ويتبرأ من فعلهم به ودعا الله عليهم أن يبدله بهم خيرا منهم ويبدلهم به شرا منه ولو لم تكن إلا ذنوبهم بتخاذلهم في القتال معه ومعصيتهم لأمره فإذا كان أولئك خيار الشيعة وعلي يبين أن تلك الذنوب تضرهم فكيف بما هو أعظم منها لمن هو شر من أولئك وبالجملة فهذا القول كفر ظاهر يستتاب صاحبه ولا يجوز أن يقول هذا من يؤمن بالله واليوم الآخر وكذلك قوله وبغضه سيئة لا ينفع معها حسنة فإن من أبغضه إن كان كافرا فكفره هو الذي أشقاه وإن كان مؤمنا نفعه إيمانه وإن أبغضه وكذلك الحديث الذي ذكره عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حب آل محمد يوما خير من عبادة سنة ومن مات عليه دخل الجنة وقوله عن علي أنا وهذا حجة الله على خلقه هما حديثان

5

76

موضوعان عند أهل العلم بالحديث وعبادة سنة فيها الإيمان والصلوات الخمس كل يوم وصوم شهر رمضان وقد أجمع المسلمون على أن هذا لا يقوم مقامه حب آل محمد شهرا فضلا عن حبهم يوما وكذلك حجة الله على عبادة قامت بالرسل فقط كما قال تعالى لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل سورة النساء ولم يقل بعد الرسل والأئمة أو الأوصياء أو غير ذلك وكذلك قوله لو اجتمع الناس على حب علي لم يخلق الله النار من أبين الكذب باتفاق أهل العلم والإيمان ولو اجتمعوا على حب علي لم ينفعهم ذلك حتى يؤمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويعملوا صالحا وإذا فعلوا ذلك دخلوا الجنة وإن لم يعرفوا عليا بالكلية ولم يخطر بقلوبهم لا حبه ولا بغضه

5

77

قال الله تعالى بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون سورة البقرة وقال تعالى ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا سورة النساء وقال تعالى وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين سورة آل عمران فهؤلاء في الجنة ولم يشترط عليهم ما ذكروه من حب علي وكذلك قوله تعالى إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين سورة المعارج إلى قوله أولئك في جنات مكرمون سورة المعارج وأمثال ذلك ولم يشترط حب علي وقد قدم على النبي صلى الله عليه وسلم عدة وفود وآمنوا به وآمن

5

78

به طوائف ممن لم يره وهم لم يسمعوا بذكر علي ولا عرفوه وهم من المؤمنين المتقين المستحقين للجنة وقد اجتمع على دعوى حبه الشيعة الرافضة والنصيرية والإسماعيلية وجمهورهم من أهل النار بل مخلدون في النار فصل وكذلك الحديث الذي ذكره في العهد الذي عهده الله في علي وأنه راية الهدى وإمام الأولياء وهو الكلمة التي ألزمها للمتقين الخ

5

79

فإن هذا كذب موضوع بأتفاق أهل المعرفة بالحديث والعلم ومجرد رواية صاحب الحلية ونحوه لا تفيد ولا تدل على الصحة فإن صاحب الحلية قد روى في فضائل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والأولياء وغيرهم أحاديث ضعيفة بل موضوعة باتفاق العلماء وهو وأمثاله من الحفاظ الثقات أهل الحديث ثقات فيما يروونه عن شيوخهم لكن الآفة ممن هو فوقهم وهم لم يكذبوا في النقل عمن نقلوا عنه لكن يكون واحد من رجال الإسناد ممن يتعمد الكذب أو يغلط وهم يبلغون عمن حدثهم ما سمعوه منه ويروون الغرائب لتعرف وعامة الغرائب ضعيفة كما قال الإمام أحمد اتقوا هذه الغرائب فإن عامتها ضعيفة وقوله في الحديث هو كلمة التقوى مما يبين أن هذا كذب فإن تسميته كلمة من جنس تسمية المسيح عليه السلام كلمة الله والمسيح سمي بذلك لأن مثله عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون فهو مخلوق بالكلمة وأما علي فهو مخلوق كما خلق

5

80

سائر الناس وكلمة التقوى مثل لا إله إلا الله والله أكبر من الكلمات التي يصدق المؤمنون بمضمونها إن كانت خبرا ويطيعونها إن كانت أمرا فمثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة وكلمة التقوى اسم جنس لكل كلمة يتقى الله فيها وهو الصدق والعدل فكل من تحرى الصدق في خبره والعدل في أمره فقد لزم كلمة التقوى وأصدق الكلام وأعدله قول لا إله إلا الله فهو أخص الكلمات بأنها كلمة التقوى وكذلك حديث عمار وابن عباس كلاهما من الموضوعات

5

81

فصل قال الرافضي وأما المطاعن في الجماعة فقد نقل الجمهور منها أشياء كثيرة حتى صنف الكلبي كتابا في مثالب الصحابة ولم يذكر فيه منقصة واحدة لأهل البيت والجواب أن يقال قبل الأجوبة المفصلة عما يذكر من المطاعن أن ما ينقل عن الصحابة من المثالب فهو نوعان أحدهما ما هو كذب إما كذب كله وإما محرف قد دخله من الزيادة والنقصان ما يخرجه إلى الذم والطعن وأكثر المنقول من المطاعن الصريحة هو من هذا الباب يرويها الكذابون المعروفون بالكذب مثل أبي مخنف لوط بن يحيى ومثل هشام بن محمد بن السائب الكلبي وأمثالهما من الكذابين ولهذا استشهد هذا الرافضي بما صنفه هشام الكلبي في ذلك وهو من أكذب

5

82

الناس وهو شيعي يروي عن أبيه وعن أبي مخنف وكلاهما متروك كذاب وقال الإمام أحمد في هذا الكلبي ما ظننت أن أحدا يحدث عنه إنما هو صاحب سمر وشبه وقال الدارقطني هو متروك وقال ابن عدي هشام الكلبي الغالب عليه الأسمار ولا أعرف له في المسند شيئا وأبوه أيضا كذاب وقال زائدة والليث وسليمان التيمي هو كذاب وقال يحيى ليس بشيء كذاب ساقط وقال ابن حبان وضوح الكذب فيه أظهر من أن يحتاج إلى الإغراق في وصفه النوع الثاني ما هو صدق وأكثر هذه الأمور لهم فيها معاذير تخرجها

5

83

عن أن تكون ذنوبا وتجعلها من موارد الاجتهاد التي إن أصاب المجتهد فيها فله أجران وإن أخطأ فله أجر وعامة المنقول الثابت عن الخلفاء الراشدين من هذا الباب وما قدر من هذه الأمور ذنبا محققا فإن ذلك لا يقدح فيما علم من فضائلهم وسوابقهم وكونهم من أهل الجنة لأن الذنب المحقق يرتفع عقابه في الآخرة بأسباب متعددة منها التوبة الماحية وقد ثبت عن أئمة الإمامية أنهم تابوا من الذنوب المعروفة عنهم ومنها الحسنات الماحية للذنوب فإن الحسنات يذهبن السيئات وقد قال تعالى إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم سورة النساء ومنها المصائب المكفرة ومنها دعاء المؤمنين بعضم لبعض وشفاعة نبيهم فما من سبب يسقط به الذم والعقاب عن أحد من الأمة إلا والصحابة أحق بذلك فهم أحق بكل مدح ونفي كل ذم ممن بعدهم من الأمة ونحن نذكر قاعدة جامعة في هذا الباب لهم ولسائر الأمة فنقول لا بد أن يكون مع الإنسان أصول كلية يرد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل ثم يعرف الجزيئات كيف وقعت وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات وجهل وظلم في الكليات فيتولد فساد عظيم

5

84

فنقول الناس قد تكلموا في تصويب المجتهدين وتخطئتهم وتأثيمهم وعدم تأثيمهم في مسائل الفروع والأصول ونحن نذكر أصولا جامعة نافعة الأصل الأول أنه هل يمكن كل أحد أن يعرف باجتهاده الحق في كل مسألة فيها نزاع وإذا لم يمكنه فاجتهد واستفرغ وسعه فلم يصل إلى الحق بل قال ما اعتقد أنه هو الحق في نفس الأمر ولم يكن هو الحق في نفس الأمر هل يستحق أن يعاقب أم لا هذا أصل هذه المسائل وللناس في هذا الأصل ثلاثة أقوال كل قول عليه طائفة من النظار الأول قول من يقول إن الله قد نصب على الحق في كل مسألة دليلا يعرف به يمكن كل من اجتهد واستفرغ وسعه أن يعرف الحق وكل من لم يعرف الحق في مسألة أصولية أو فروعية فإنما هو لتفريطه فيما يجب عليه لا لعجزه وهذا القول هو المشهور عن القدرية والمعتزلة و هو قول طائفة من أهل الكلام غير هؤلاء ثم قال هؤلاء أما المسائل العلمية فعليها أدلة قطعية تعرف بها فكل من لم يعرفها فإنه لم يستفرغ وسعه في طلب الحق فيأثم وأما المسائل العملية الشرعية فلهم فيها مذهبان أحدهما أنها كالعلمية وأنه على كل مسألة دليل قطعي من خالفه فهو آثم وهؤلاء

5

85

الذين يقولون المصيب واحد في كل مسألة أصلية وفرعية وكل من سوى المصيب فهو آثم لأنه مخطىء والخطأ والإثم عندهم متلازمان وهذا قول بشر المريسي وكثير من المعتزلة البغداديين الثاني أن المسائل العملية إن كان عليها دليل قطعي فإن من خالفه آثم مخطىء كالعلمية وإن لم يكن عليها دليل قطعي فليس لله فيها حكم في الباطن وحكم الله في حق كل مجتهد ما أداه اجتهاده إليه وهؤلاء وافقوا الأولين في أن الخطأ والإثم متلازمان وأن كل مخطىء آثم لكن خالفوهم في المسائل الإجتهادية فقالوا ليس فيها قاطع والظن ليس عليه دليل عند هؤلاء وإنما هو من جنس ميل النفوس إلى شيء دون شيء فجعلوا الإعتقادات الظنية من جنس الإرادات وادعوا أنه ليس في نفس الأمر حكم مطلوب بالإجتهاد ولاثم في نفس الأمر أمارة أرجح من أمارة وهذا القول قول أبي الهذيل العلاف ومن اتبعه كالجبائي وابنه وهو أحد قولي الأشعري وأشهرهما وهو اختيار القاضي أبي بكر الباقلاني وأبي حامد الغزالي وأبي بكر بن العربي ومن اتبعهم وقد بسطنا القول في ذلك بسطا كثيرا في غير هذا الموضع

5

86

والمخالفون لهم كأبي إسحاق الإسفراييني وغيره من الأشعرية وغيرهم يقولون هذا القول أوله سفسطة وآخره زندقة وهذا قول من يقول إن كل مجتهد في المسائل الشرعية الإجتهادية العملية فهو مصيب باطنا وظاهرا ولا يتصور عندهم أن يكون مجتهدا مخطئا إلا بمعنى أنه خفى عليه بعض الأمور وذلك الذي خفى عليه ليس هو حكم الله لا في حقه ولا في حق أمثاله وأما من كان مخطئا وهو المخطىء في المسائل القطعية فهو آثم عندهم والقول الثاني في أصل المسألة إن المجتهد المستدل قد يمكنه أن يعرف الحق وقد يعجز عن ذلك لكن إذا عجز عن ذلك فقد يعاقبه الله تعالى وقد لا يعاقبه فإن له أن يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء بلا سبب أصلا بل لمحض المشيئة وهذا قول الجهمية والأشعرية وكثير من الفقهاء أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم ثم قال هؤلاء قد علم بالسمع أن كل كافر فهو في النار فنحن نعلم أن كل كافر فإن الله يعذبه سواء كان قد اجتهد وعجز عن معرفة صحة دين الإسلام أو لم يجتهد وأما المسلمون المختلفون فإن كان اختلافهم في الفروعيات فأكثرهم يقول لا عذاب فيها وبعضهم يقول لأن الشارع عفا عن الخطأ فيها وعلم ذلك بإجماع السلف على أنه لا إثم على

5

87

المخطىء فيها وبعضهم يقول لأن الخطأ في الظنيات ممتنع كما تقدم ذكره عن بعض الجهمية والأشعرية وأما القطعيات فأكثرهم يؤثم المخطىء فيها ويقول إن السمع قد دل على ذلك ومنهم من لا يؤثمه والقول المحكى عن عبيد الله بن الحسن العنبري هذا معناه أنه كان لا يؤثم المخطىء من المجتهدين من هذه الأمة لا في الأصول ولا في الفروع وأنكر جمهور الطائفتين من أهل الكلام والرأي على عبيد الله هذا القول وأما غير هؤلاء فيقول هذا قول السلف وأئمة الفتوى كأبي حنيفة والشافعي والثوري وداود بن علي وغيرهم لا يؤثمون مجتهدا مخطئا لا في المسائل الأصولية ولا في الفروعية كما ذكر ذلك عنهم ابن حزم وغيره ولهذا كان أبو حنيفة والشافعي وغيرهما يقبلون شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية ويصححون الصلاة خلفهم والكافر لا تقبل شهادته على المسلمين ولا يصلى خلفه وقالوا هذا هو القول المعروف عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين إنهم لا يكفرون ولا يفسقون ولا يؤثمون أحدا من المجتهدين المخطئين لا في مسألة عملية ولا علمية قالوا والفرق بين مسائل الأصول والفروع إنما هو من أقوال أهل البدع

5

88

من أهل الكلام من المعتزلة والجهمية ومن سلك سبيلهم وانتقل هذا القول إلى أقوام تكلموا بذلك في أصول الفقه ولم يعرفوا حقيقة هذا القول ولا غوره قالوا والفرق في ذلك بين مسائل الأصول والفروع كما أنه بدعة محدثة في الإسلام لم يدل عليها كتاب ولا سنة ولا إجماع بل ولا قالها أحد من السلف والأئمة فهي باطلة عقلا فإن المفرقين بين ما جعلوه مسائل أصول ومسائل فروع لم يفرقوا بينهما بفرق صحيح يميز بين النوعين بل ذكروا ثلاثة فروق أو أربعة كلها باطلة فمنهم من قال مسائل الأصول هي العلمية الإعتقادية التي يطلب فيها العلم والإعتقاد فقط ومسائل الفروع هي العملية التي يطلب فيها العمل قالوا وهذا فرق باطل فإن المسائل العملية فيها ما يكفر جاحده مثل وجوب الصلوات الخمس والزكاة وصوم شهر رمضان وتحريم الزنا والربا والظلم والفواحش وفي المسائل العلمية مالا يأثم المتنازعون فيه كتنازع الصحابة هل رأى محمد ربه وكتنازعهم في بعض النصوص هل قاله النبي صلى الله عليه وسلم أم لا وما أراد بمعناه وكتنازعهم في بعض الكلمات هل هي من القرآن أم لا وكتنازعهم في بعض معاني القرآن

5

89

والسنة هل أراد الله ورسوله كذا وكذا وكتنازع الناس في دقيق الكلام كمسألة الجوهر الفرد وتماثل الأجسام وبقاء الأعراض ونحو ذلك فليس في هذا تكفير ولا تفسيق قالوا والمسائل العملية فيها علم وعمل فإذا كان الخطأ مغفورا فيها فالتي فيها علم بلا عمل أولى أن يكون الخطأ فيها مغفورا ومنهم من قال المسائل الأصولية هي ما كان عليها دليل قطعي والفرعية ما ليس عليها دليل قطعي قال أولئك وهذا الفرق خطأ أيضا فإن كثيرا من المسائل العملية عليها أدلة قطعية عند من عرفها وغيرهم لم يعرفها وفيها ما هو قطعي بالإجماع كتحريم المحرمات الظاهرة ووجوب الواجبات الظاهرة ثم لو أنكرها الرجل بجهل وتأويل لم يكفر حتى تقام عليه الحجة كما أن جماعة استحلوا شرب الخمر على عهد عمر منهم قدامة ورأوا أنها حلال لهم ولم يكفرهم الصحابة حتى بينوا لهم خطأهم فتابوا ورجعوا وقد كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم طائفة أكلوا بعد طلوع الفجر حتى يتبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ولم يؤثمهم النبي صلى الله عليه وسلم فضلا عن تكفيرهم وخطؤهم قطعي وكذلك أسامة بن زيد وقد قتل الرجل المسلم وكان خطؤه قطعيا

5

90

وكذلك الذي وجدوا رجلا في غنم له فقال إني مسلم فقتلوه وأخذوا ماله كان خطؤهم قطعيا وكذلك خالد بن الوليد لما قتل بني جذيمة وأخذ أموالهم كان مخطئا قطعا وكذلك الذين تيمموا إلى الأباط وعمار الذي تمعك في التراب للجنابة كما تمعك الدابة بل والذين أصابتهم جنابة فلم يتيمموا ولم يصلوا كانوا مخطئين قطعا وفي زماننا لو أسلم قوم في بعض الأطراف ولم يعلموا وجوب الحج أو لم يعلموا تحريم الخمر لم يحدوا على ذلك وكذلك لو نشأوا بمكان جهل وقد زنت على عهد عمر امرأة فلما أقرت به قال عثمان إنها لتستهل به استهلال من لم يعلم أنه حرام فلما تبين للصحابة أنها لا تعرف التحريم لم يحدوها واستحلال الزنا خطأ قطعا والرجل إذا حلف على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه فهو مخطىء قطعا حقا ولا إثم عليه بالإتفاق وكذلك لا كفارة عليه عند الأكثرين ومن اعتقد بقاء الفجر فأكل فهو مخطىء قطعا إذا تبين له الأكل بعد الفجر ولا إثم عليه وفي القضاء نزاع وكذلك من اعتقد غروب الشمس فتبين بخلافه ومثل هذا كثير

5

91

وقول الله تعالى في القرآن ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا سورة البقرة قال الله تعالى قد فعلت ولم يفرق بين الخطأ القطعي والظني بل لا يجزم بأنه خطأ إلا إذا كان أخطأ قطعا قالوا فمن قال إن المخطىء في مسألة قطعية أو ظنية يأثم فقد خالف الكتاب والسنة والإجماع القديم قالوا وأيضا فكون المسألة قطعية أو ظنية هو أمر إضافي بحسب حال المعتقدين ليس هو وصفا للقول في نفسه فإن الإنسان قد يقطع بأشياء علمها بالضرورة أو بالنقل المعلوم صدقه عنده وغيره لا يعرف ذلك لا قطعا ولا ظنا وقد يكون الإنسان ذكيا قوي الذهن سريع الإدراك علما وظنا فيعرف من الحق ويقطع به ما لا يتصوره غيره ولا يعرفه لا علما ولا ظنا فالقطع والظن يكون بحسب ما وصل إلى الإنسان من الأدلة وبحسب قدرته على الإستدلال والناس يختلفون في هذا وهذا فكون المسألة قطعية أو ظنية ليس هو صفة ملازمة للقول المتنازع فيه حتى يقال كل من خالفه قد خالف القطعي بل هو صفة لحال الناظر المستدل المعتقد وهذا مما يختلف فيه الناس فعلم أن هذا الفرق لا يطرد ولا ينعكس ومنهم من فرق بفرق ثالث وقال المسائل الأصولية هي المعلومة

5

92

بالعقل فكل مسألة علمية استقل العقل بدركها فهي من مسائل الأصول التي يكفر أو يفسق مخالفها والمسائل الفروعية هي المعلومة بالشرع قالوا فالأول كمسائل الصفات والقدر والثاني كمسائل الشفاعة وخروج أهل الكبائر من النار فيقال لهم ما ذكرتموه بالضد أولى فإن الكفر والفسق أحكام شرعية ليس ذلك من الأحكام التي يستقل بها العقل فالكافر من جعله الله ورسوله كافرا والفاسق من جعله الله ورسوله فاسقا كما أن المؤمن والمسلم من جعله الله ورسوله مؤمنا ومسلما والعدل من جعله الله ورسوله عدلا والمعصوم الدم من جعله الله ورسوله معصوم الدم والسعيد في الآخرة من أخبر الله ورسوله عنه أنه سعيد في الآخرة والشقي فيها من أخبر الله ورسوله عنه أنه شقي فيها والواجب من الصلاة والصيام والصدقة والحج ما أوجبه الله ورسوله والمستحقون لميراث الميت من جعلهم الله ورسوله وارثين والذي يقتل حدا أو قصاصا من جعله الله ورسوله مباح الدم بذلك والمستحق للفيء والخمس من جعله الله ورسوله مستحقا لذلك والمستحق للموالاة والمعاداة من جعله الله

5

93

ورسوله مستحقا للموالاة والمعاداة والحلال ما أحله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله والدين ما شرعه الله ورسوله فهذه المسائل كلها ثابتة بالشرع وأما الأمور التي يستقل بها العقل فمثل الأمور الطبيعية مثل كون هذا المرض ينفع فيه الدواء الفلاني فإن مثل هذا يعلم بالتجربة والقياس وتقليد الأطباء الذين علموا ذلك بقياس أو تجربة وكذلك مسائل الحساب والهندسة ونحو ذلك هذا مما يعلم بالعقل وكذلك مسألة الجوهر الفرد وتماثل الأجسام أو إختلافها وجواز بقاء الأعراض وامتناع بقائها فهذه ونحوها تعلم بالعقل وإذا كان كذلك فكون الرجل مؤمنا وكافرا وعدلا وفاسقا هو من المسائل الشرعية لا من المسائل العقلية فكيف يكون من خالف ما جاء به الرسول ليس كافرا ومن خالف ما ادعى غيره أنه معلوم بعقله كافرا وهل يكفر أحد بالخطأ في مسائل الحساب والطب ودقيق الكلام فإن قيل هؤلاء لا يكفرون كل من خالف مسألة عقلية لكن يكفرون من خالف المسائل العقلية التي يعلم بها صدق الرسول فإن العلم بصدق الرسول مبني عليها على مسائل معينة فإذا أخطأ فيها لم يكن عالما بصدق الرسول فيكون كافرا

5

94

قيل تصديق الرسول ليس مبنيا على مسائل معينة من مسائل النزاع بل ما جعله أهل الكلام المحدث أصلا للعلم بصدق الرسول كقول من قال من المعتزلة والجهمية إنه لا يعلم صدق الرسول إلا بأن يعلم أن العالم حادث ولا يعلم ذلك إلا بأن يعلم أن الأجسام محدثة ولا يعلم ذلك إلا بالعلم بأنها لا تنفك من الحوادث إما الأعراض مطلقا وإما الأكوان وإما الحركات ولا يعلم حدوثها حتى يعلم امتناع حوادث لا أول لها ولا يعلم أنه صادق حتى يعلم أن الرب غني ولا يعلم غناه حتى يعلم أنه ليس بجسم ونحو ذلك من الأمور التي تزعم طائفة من أهل الكلام أنها أصول لتصديق الرسول لا يعلم صدقه بدونها هي مما يعلم بالاضطرار من دين الرسول أنه لم يكن يجعل إيمان الناس موقوفا عليها بل ولا دعا الناس إليها ولا ذكرت في كتاب ولا سنة ولا ذكرها أحد من الصحابة لكن الأصول التي بها يعلم صدق الرسول مذكورة في القرآن وهي غير هذه كما قد بين في غير هذا الموضع وهؤلاء الذين ابتدعوا أصولا زعموا أنه لا يمكن تصديق الرسول إلا بها وأن معرفتها شرط في الإيمان أو واجبة على الأعيان هم من أهل

5

95

البدع عند السلف والأئمة وجمهور العلماء يعلمون أن أصولهم بدعة في الشريعة لكن كثير من الناس يظن أنها صحيحة في العقل وأما الحذاق من الأئمة ومن اتبعهم فيعلمون أنها باطلة في العقل مبتدعة في الشرع وأنها تناقض ما جاء به الرسول وحينئذ فإن كان الخطأ في المسائل العقلية التي يقال إنها أصول الدين كفرا فهؤلاء السالكون هذه الطرق الباطلة في العقل المبتدعة في الشرع هم الكفار لا من خالفهم وإن لم يكن الخطأ فيها كفرا فلا يكفر من خالفهم فيها فثبت أنه ليس كافرا في حكم الله ورسوله على التقديرين ولكن من شأن أهل البدع أنهم يبتدعون أقوالا يجعلونها واجبة في الدين بل يجعلونها من الإيمان الذي لا بد منه ويكفرون من خالفهم فيها ويستحلون دمه كفعل الخوارج والجهمية والرافضة والمعتزلة وغيرهم وأهل السنة لا يبتدعون قولا ولا يكفرون من اجتهد فأخطأ وإن كان مخالفا لهم مكفرا لهم مستحلا لدمائهم كما لم تكفر الصحابة الخوارج مع تكفيرهم لعثمان وعلي ومن والاهما واستحلاهم لدماء المسلمين المخالفين لهم وكلام هؤلاء المتكلمين في هذه المسائل بالتصويب والتخطئة والتأثيم ونفيه والتكفير ونفيه لكونهم بنوا على القولين المتقدمين قول القدرية الذين يجعلون كل مستدل قادرا على معرفة الحق فيعذب كل من

5

96

لم يعرفه وقول الجهمية الجبرية الذين يقولون لا قدرة للعبد على شيء أصلا بل الله يعذب بمحض المشيئة فيعذب من لم يفعل ذنبا قط وينعم من كفر وفسق وقد وافقهم على ذلك كثير من المتأخرين وهؤلاء يقولون يجوز أن يعذب الأطفال والمجانين وإن لم يفعلوا ذنبا قط ثم منهم من يجزم بعذاب أطفال الكفار في الآخرة ومنهم من يجوزه ويقول لا أدري ما يقع وهؤلاء يجوزون أن يغفر لأفسق أهل القبلة بلا سبب أصلا ويعذب الرجل الصالح على السيئة الصغيرة وإن كانت له حسنات أمثال الجبال بلا سبب أصلا بل بمحض المشيئة وأصل الطائفتين أن القادر المختار يرجح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح لكن هؤلاء الجهمية يقولون إنه في كل حادث يرجح بلا مرجح وأولئك القدرية والمعتزلة والكرامية وطوائف غيرهم من الفقهاء والصوفية وأهل الحديث وغيرهم يقولون أصل الإحداث والإبداع كان ترجيحا بلا مرجح وأما بعد ذلك فقد خلق أسبابا وحكما علق الحوادث بها واختلفت القدرية والجهمية الجبرية في الظلم فقالت القدرية الظلم في حقه هو ما نعرفه من ظلم الناس بعضهم بعضا فإذا قيل إنه خالق أفعال العباد وإنه مريد لكل ما وقع وقيل مع ذلك إنه يعذب العاصي كان هذا ظلما كظلمنا وسموا أنفسهم العدلية وقالت الجهمية الظلم في حقه هو ما يمتنع وجوده فأما كل ما يمكن وجوده فليس بظلم فإن الظلم إما مخالفة أمر من تجب طاعته وإما التصرف في ملك الغير بغير

5

97

إذنه فالإنسان يوصف بالظلم لأنه مخالف لأمر ربه ولأنه قد يتصرف في ملك غيره بغير إذنه والرب تعالى ليس فوقه آمر ولا لغيره ملك بل إنما يتصرف في ملكه فكل ما يمكن فليس بظلم بل إذا نعم فرعون وأبا جهل وأمثالهما ممن كفر به وعصاه وعذب موسى ومحمدا ممن أمن به وأطاعه فهو مثل العكس الجميع بالنسبة إليه سواء ولكن لما أخبر أنه ينعم المطيعين وأنه يعذب العصاة صار ذلك معلوم الوقوع لخبره الصادق لا لسبب اقتضى ذلك والأعمال علامات على الثواب والعقاب ليست أسبابا فهذا قول جهم وأصحابه ومن وافقه كالأشعري ومن وافقه من أتباع الفقهاء الأربعة والصوفية وغيرهم ولهذا جوز هؤلاء أن يعذب العاجز عن معرفة الحق ولو اجتهد فليس عندهم في نفس الأمر أسباب للحوادث ولا حكم ولا في الأفعال صفات لأجلها كانت مأمورا بها ومنهيا عنها بل عندهم يمتنع أن يكون في خلقه وأمره لام كى وأما القدرية فيثبتون له شريعة فيما يجب عليه ويحرم عليه بالقياس على عباده وقد تكلمنا على قول الفريقين في مواضع وذكرنا فصلا في ذلك في هذا الكتاب فيما تقدم لما تكلمنا على ما نسبه هذا الرافضي إلى جميع أهل السنة من قول هؤلاء الجهمية الجبرية وبينا أن هذه المسألة لا تتعلق بمسألة الإمامة والتفضيل بل من الشيعة من يقول بالجبر والقدر وفي أهل السنة من يقول بهذا وبهذا

5

98

والمقصود هنا أن نبين أن الكلام في تصويب المتنازعين مصيبين أو مخطئين مثابين أو معاقبين مؤمنين أو كفارا هو فرع عن هذا الأصل العام الشامل لهذه المسائل وغيرها وبهذا يظهر قول الثالث في هذا الأصل وهو أنه ليس كل من اجتهد واستدل يتمكن من معرفة الحق ولا يستحق الوعيد إلا من ترك مأمورا به أو فعل محظورا وهذا هو قول الفقهاء والأئمة وهو القول المعروف عن سلف الأمة وقول جمهور المسلمين وهذا القول يجمع الصواب من القولين فالصواب من القول الأول قول الجهمية الذين وافقوا فيه السلف والجمهور وهو أنه ليس كل من طلب واجتهد واستدل على الشيء يتمكن من معرفة الحق فيه بل استطاعة الناس في ذلك متفاوتة والقدرية يقولون إن الله تعالى سوى بين المكلفين في القدرة ولم يخص المؤمنين بما فضلهم به على الكفار حتى آمنوا ولا خص المطيعين بما فضلهم به على العصاة حتى أطاعوا وهذا من أقوال القدرية والمعتزلة وغيرهم التي خالفوا بها الكتاب والسنة وإجماع السلف والعقل الصريح كما بسط في موضعه ولهذا قالوا إن كل مستدل فمعه قدرة تامة يتوصل بها الى معرفة الحق

5

99

ومعلوم أن الناس إذا اشتبهت عليهم القبلة في السفر فكلهم مأمورون بالإجتهاد والاستدلال على جهة القبلة ثم بعضهم يتمكن من معرفة جهتها وبعضهم يعجز عن ذلك فيغلط فيظن في بعض الجهات أنها جهتها ولا يكون مصيبا في ذلك لكن هو مطيع لله ولا إثم عليه في صلاته إليها لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها فعجزه عن العلم بها كعجزه عن التوجه إليها كالمقيد والخائف والمحبوس والمريض الذي لا يمكنه التوجه إليها ولهذا كان الصواب في الأصل الثاني قول من يقول إن الله لا يعذب في الأخرة إلا من عصاه بترك المأمور أو فعل المحظور والمعتزلة في هذا وافقوا الجماعة بخلاف الجهمية ومن اتبعهم من الأشعرية وغيرهم فإنهم قالوا بل يعذب من لا ذنب له أو نحو ذلك ثم هؤلاء يحتجون على المعتزلة في نفس الإيجاب والتحريم العقلي بقوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا سورة الأسراء وهو حجة عليهم أيضا في نفي العذاب مطلقا إلا بعد إرسال الرسل وهم يجوزون التعذيب قبل إرسال الرسل فأولئك يقولون يعذب من لم يبعث إليه رسولا لأنه فعل القبائح العقلية وهؤلاء يقولون بل يعذب من لم يفعل قبيحا قط كالأطفال وهذا مخالف للكتاب والسنة والعقل أيضا قال تعالى وما كنا

5

100

معذبين حتى نبعث رسولا سورة الاسراء وقال تعالى عن النار كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير سورة الملك فقد أخبر سبحانه وتعالى بصيغة العموم أنه كلما ألقي فيها فوج سألهم الخزنة هل جاءهم نذير فيعترفون بأنهم قد جاءهم نذير فلم يبق فوج يدخل النار إلا وقد جاءهم نذير فمن لم يأته نذير لم يدخل النار وقال تعالى لإبليس لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين سورة ص فقد أقسم سبحانه أنه يملؤها من إبليس وأتباعه وإنما أتباعه من أطاعه فمن لم يعمل ذنبا لم يطعه فلا يكون ممن تملأ به النار وإذا ملئت بأتباعه لم يكن لغيرهم فيها موضع وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يزال يلقى في النار وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه وفي رواية فيضع قدمه عليها فتقول قط قط وينزوى بعضها إلى بعض أي تقول حسبي

5

101

حسبي وأما الجنة فيبقى فيها فضل فينشىء الله لها خلقا فيسكنهم فضول الجنة هكذا روي في الصحاح من غير وجه ووقع في بعض طرق البخاري غلط قال فيه وأما النار فيبقى فيها فضل والبخاري رواه في سائر المواضع على الصواب ليبين غلط هذا الراوي كما جرت عادته بمثل ذلك إذا وقع من بعض الرواة غلط في لفظ ذكر ألفاظ سائر الرواة التي يعلم بها الصواب وما علمت وقع فيه غلط إلا

5

102

وقد بين فيه الصواب بخلاف مسلم فإنه وقع في صحيحه عدة أحاديث غلط أنكرها جماعة من الحفاظ على مسلم والبخاري قد أنكر عليه بعض الناس تخريج أحاديث لكن الصواب فيها مع البخاري والذي أنكر على الشيخين أحاديث قليلة جدا وأما سائر متونهما فمما اتفق علماء المحدثين على صحتها وتصديقها وتلقيها بالقبول لا يستريبون في ذلك وقد قال تعالى يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون سورة الأنعام

5

103

فقط خاطب الجن والإنس واعترف المخاطبون بأنهم جاءتهم رسل يقصون عليهم آياته وينذرونهم لقاء يوم القيامة ثم قال ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون أي هذا بهذا السبب فعلم أنه لا يعذب من كان غافلا ما لم يأته نذير فكيف الطفل الذي لا عقل له ودل أيضا على أن ذلك ظلم تنزه سبحانه عنه وإلا فلو كان الظلم هو الممتنع لم يتصور أن يهلكهم بظلم بل كيفما أهلكهم فإنه ليس بظلم عند الجهمية الجبرية وقد قال تعالى وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون سورة القصص وقال تعالى وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون سورة هود وقال تعالى ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما سورة طه قال المفسرون الظلم أن يحمل عليه سيئات غيره والهظم أن ينقص من حسناته فجعل سبحانه عقوبته بذنب غيره ظلما ونزه نفسه عنه ومثل هذا كثير كقوله لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت سورة البقرة وقوله ولا تزر وازرة وز أخرى سورة الانعام وكذلك قوله ولا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد سورة ق فبين سبحانه أنه قدم

5

104

بالوعيد وأنه ليس بظلام للعبيد كما قال في الآية الأخرى ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب سورة هود فهو سبحانه نزه نفسه عن ظلمهم وبين أنهم هم الذين ظلموا أنفسهم بشركهم فمن لم يكن ظالما لنفسه تكون عقوبته ظلما تنزه الله عنه وقال في الآية الأخرى إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين سورة الزخرف وهذا الظلم الذي نزه نفسه عنه إن كان هو الممتنع الذي لا يمكن فعله فأي فائدة في هذا وهل أحد يخاف أن يفعل به ذلك وأي تنزيه في هذا وإذا قيل هو لا يفعل إلا ما يقدر عليه قيل هذا معلوم لكل أحد وكل أحد لا يفعل إلا ما يقدر عليه فأي مدح في هذا مما يتميز به الرب سبحانه عن العالمين فعلم أن من الأمور الممكنة ما هو ظلم تنزه الله سبحانه عنه مع قدرته عليه وبذلك يحمد ويثنى عليه فإن الحمد والثناء يقع بالأمور الاختيارية من فعل وترك كعامة ما في القرآن من الحمد والشكر أخص

5

105

من ذلك يكون على النعم والمدح أعم من ذلك وكذلك التسبيح فإنه تنزيه وتعظيم فإذا سبح بحمده جمع له بين هذا وهذا كما قد بسطنا الكلام على حقيقة التسبيح والتحميد ومعنى التسبيح بحمده في غير هذا الموضع وقد قال سبحانه وتعالى وقالوا اخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون سورة الأنبياء فالإتخاذ فعل من الأفعال وقد نزه سبحانه نفسه عنه فعلم أن من الأفعال ما نزه سبحانه نفسه عنه والجبرية عندهم لا ينزه عن فعل من الأفعال وفي حديث البطاقة الذي رواه الترمذي وصححه وغيره ورواه الحاكم في صحيحه قال فيه فينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر ثم يقال لا ظلم عليك إن لك عندنا بطاقة فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة فثقلت البطاقة وطاشت السجلات فقوله لا ظلم عليك دليل على أنه إن لم يجاز بتلك

5

106

الحسنات وتوزن حسناته مع سيئاته كان ذلك ظلما يقدس الله عنه فإنه القائم بالقسط وقد قال تعالى ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا سورة الكهف فهل يقال هذا النفي أنه لا يفعل مع أحد مالا يمكن ولا يقدر عليه أو لا يظلمهم شيئا من حسناتهم بل يحصيها كلها ويثيبهم عليها فدل على أن العبد يثاب على حسناته ولا ينقص شيئا منها ولا يعاقب إلا على سيئاته وأن عقوبته بغير ذنب ونجس حسناته ظلم ينزه الرب تبارك وتعالى عنه وأيضا فقوله تعالى أفنجعل المسلمين كالمجرمين سورة القلم وقال تعالى أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار سورة ص وقال أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون سورة الجاثية إلى غير ذلك فدل على أن التسوية بين هذين المختلفين من الحكم السيء الذي ينزه عنه وأن ذلك منكر لا يجوز نسبته الى الله تعالى وأن من جوز ذلك

5

107

فقد جوز منكرا لا يصلح أن يضاف إلى الله تعالى فإن قوله أفنجعل المسلمين كالمجرمين سورة القلم استفهام إنكار فعلم أن جعل هؤلاء مثل هؤلاء منكر لا يجوز أن يظن بالله أنه يفعله فلو كان هذا وضده بالنسبة إليه سواء جاز أن يفعل هذا وهذا وقوله ساء ما يحكمون سورة الأنعام دل على أن هذا حكم سيء والحكم السيء هو الظلم الذي لا يجوز فعلم أن الله تعالى منزه عن هذا ومن قاله إنه يسوي بين المختلفين فقد نسب إليه الحكم السيء وكذلك تفضيل أحد المتماثلين بل التسوية بين المتماثلين والتفضيل بين المختلفين هو من العدل والحكم الحسن الذي يوصف به الرب سبحانه وتعالى والظلم وضع الشيء في غير موضعه فإذا جعل النور كالظلمة والمحسن كالمسيء والمسلم كالمجرم كان هذا ظلما وحكما سيئا يقدس وينزه عنه سبحانه وتعالى وقال تعالى أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون سورة المائدة وعند هؤلاء لو حكم بحكم الجاهلية لكان حسنا وليس في نفس الأمر حكم حسن وحكم غير حسن بل الجميع سواء فكيف يقال مع هذا ومن أحسن من الله حكما فدل هذا النص على أن حكمه حسن لا أحسن منه والحكم الذي يخالفه

5

108

سيء ليس بحسن وذلك دليل على أن الحسن صفة لحكمه فلو لم يكن الحسن إلا ما تعلق به الأمر أو مالم ينه عنه لم يكن في الكلام فائدة ولم يقسم الحكم إلى حسن وأحسن لأن عندهم يجوز أن يحكم الرب بكل ما يمكن وجوده وذلك كله حسن فليس عندهم حكم ينزه الرب عنه وقال تعالى وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته سورة الأنعام فدل على أنه أعلم بالمحل الذي يناسب الرسالة ولو كان الناس مستوين والتخصيص بلا سبب لم يكن لهذا العلم معلوم يختص به محل الرسالة وقال تعالى ولقد جاء آل فرعون النذر كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر سورة القمر وقال أهم خيرأم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين سورة الدخان فهذا يبين أن أولئك إذا كانوا كفارا وقد عذبناهم والكفار الذين كذبوا محمد ليسوا خيرا من أولئك بل هم مثلهم استحقوا من العقوبة ما استحقه أولئك ولو كانوا خير منهم لم يستحقوا ذلك فعلم انه سبحانه يسوي بين المتماثلين ويفضل صاحب الخير فلا يسوي بينه وبين من هو دونه

5

109

وكذلك قوله تعالى هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولى الأبصار سورة الحشر إلى قوله تعالى ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب سورة الأنفال والإعتبار أن يعبر منهم إلى أمثالهم فيعرف أن من فعل كما فعلوا استحق كما استحقوا ولو كان تعالى قد يسوي بين المتماثلين وقد لا يسوي لم يمكن الإعتبار حتى يعلم أن هذا المعين مما يسوى بينه وبين نظيره وحينئذ فلا يمكن الإعتبار إلا بعد معرفة حكم ذلك المعين وحينئذ فلا يحتاج إلى الإعتبار ومن العجب أن أكثر أهل الكلام احتجوا بهذه الآية على القياس وإنما تدل عليه لكون الإعتبار يتضمن التسوية بين المتماثلين فعلم أن الرب يفعل هذا في حكمه فإذا اعتبروا بها في أمره الشرعي لدلالة مطلق الإعتبار على ذلك فهلا استدلوا بها على حكمه الخلقي الكوني في الثواب والعقاب وهو الذي قصد بالآية فدلالتها عليه أولى فعلم أن المتماثلين في الذنب متماثلان في استحقاق العقاب

5

110

بخلاف من لم يشركهما في ذلك وإذا قيل هذا قد علم بخبره قيل هو لم يخبر قبل بهذا بل دل على أن هذا هو حكمه الذي لا يجوز أن يضاف إليه سواه كما دل على ذلك ما تقدم من الآيات وأيضا فالنصوص قد أخبرت بالميزان بالقسط وأن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تلك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما فدل هذا على أن مثقال ذرة إذا زيد في السيئات أو نقص من الحسنات كان ظلما ينزه الله عنه ودل على أنه يزن الأعمال بالقسط الذي هو العدل فدل على أن خلاف ذلك ليس قسطا بل ظلم تنزه الله عنه ولو لم يكن هنا عدل لم يحتج إلى الموازنة فإنه إذا كان التعذيب والتنعيم بلا قانون عدلي بل بمحض المشيئة لم يحتج إلى الموازنة وقال تعالى تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين سورة آل عمران قال الزجاج وغيره قد أعلمنا أنه يعذب من عذبه لاستحقاقه وقال آخر معناه أنه لا يعاقبهم بلا جرم فسمى هذا ظلما وأيضا فإن الله تعالى قد أخبر في غير موضع أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها كقوله تعالى والذين أمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها سورة الأعراف وقوله لا تكلف نفس إلا وسعها سورة البقرة وقوله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها

5

111

سورة الطلاق وأمر بتقواه بقدر الإستطاعة فقال فاتقوا الله ما استطعتم سورة التغابن وقد دعاه المؤمنون بقولهم ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به سورة البقرة فقال قد فعلت فدلت هذه النصوص على أنه لا يكلف نفسا ما تعجز عنه خلافا للجهمية المجبرة ودلت على أنه لا يؤاخذ المخطىء والناسي خلافا للقدرية والمعتزلة وهذا فصل الخطاب في هذا الباب فالمجتهد المستدل من إمام وحاكم وعالم وناظر ومناظر ومفت وغير ذلك إذا اجتهد واستدل فاتقى الله ما استطاع كان هذا هو الذي كلفه الله إياه وهو مطيع لله مستحق للثواب إذا اتقاه ما استطاع ولا يعاقبه الله البتة خلافا للجهمية المجبرة وهو مصيب بمعنى أنه مطيع لله لكن قد يعلم الحق في نفس الأمر وقد لا يعلمه خلافا للقدرية والمعتزلة في قولهم كل من استفرغ وسعه علم الحق فإن هذا باطل كما تقدم بل كل من استفرغ وسعه استحق الثواب وكذلك الكفار من بلغته دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في دار الكفر وعلم أنه رسول الله فآمن به وآمن بما أنزل عليه واتقى الله ما استطاع كما فعل النجاشي وغيره ولم يمكنه الهجرة إلى دار الإسلام

5

112

ولا التزام جميع شرائع الإسلام لكونه ممنوعا من الهجرة وممنوعا من إظهار دينه وليس عنده من يعلمه جميع شرائع الإسلام فهذا مؤمن من أهل الجنة كما كان مؤمن آل فرعون مع قوم فرعون وكما كانت إمرأة فرعون بل وكما كان يوسف الصديق عليه السلام مع أهل مصر فإنهم كانوا كفارا ولم يكن يمكنه أن يفعل ومهم كل ما يعرفه من دين الإسلام فإنه دعاهم إلى التوحيد والإيمان فلم يجيبوه قال تعالى عن مؤمن آل فرعون ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا سورة غافر وكذلك النجاشي هو وإن كان ملك النصارى فلم يطعه قومه في الدخول في الإسلام بل إنما دخل معه نفر منهم ولهذا لما مات لم يكن هناك من يصلي عليه فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة خرج بالمسلمين إلى المصلى فصفهم صفوفا وصلى عليه وأخبرهم بموته يوم مات وقال إن أخا لكم صالحا من أهل الحبشة مات

5

113

وكثير من شرائع الإسلام أو أكثرها لم يكن دخل فيها لعجزه عن ذلك فلم يهاجر ولم يجاهد ولا حج البيت بل قد روى أنه لم يكن يصلي الصلوات الخمس ولا يصوم شهر رمضان ولا يؤدي الزكاة الشرعية لأن ذلك كان يظهر عند قومه فينكرونه عليه وهو لا يمكنه مخالفتهم ونحن نعلم قطعا أنه لم يكن يمكنه أن يحكم بينهم بحكم القرآن والله قد فرض على نبيه بالمدينة أنه إذا جاءه أهل الكتاب لم يحكم بينهم إلا بما أنزل الله إليه وحذره أن يفتنوه عن بعض ما أنزل الله إليه وهذا مثل الحكم في الزنا للمحصن بحد الرجم وفي الديات بالعدل والتسوية في الدماء بين الشريف والوضيع النفس بالنفس والعين بالعين وغير ذلك والنجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بحكم القرآن فإن قومه لا يقرونه على ذلك وكثيرا ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضيا بل وإماما وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكنه ذلك بل هناك من يمنعه ذلك ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها وعمر بن عبد العزيز عودي وأوذي على بعض ما أقامه من العدل وقيل إنه سم على ذلك

5

114

فالنجاشي وأمثاله سعداء في الجنة وإن كانوا لم يلتزموا مع شرائع الإسلام ما لا يقدرون على التزامه بل كانوا يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم بها ولهذا جعل الله هؤلاء من أهل الكتاب قال تعالى وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب سورة آل عمران وهذه الآية قد طائفة من السلف إنها نزلت في النجاشي ويروى هذا عن جابر وابن عباس وأنس ومنهم من قال فيه وفي أصحابه كما قال الحسن وقتادة وهذا مراد الصحابة لكن هو المطاع فإن لفظ الآية لفظ الجمع لم يرد بها واحد وعن عطاء قال نزلت في أربعين من أهل نجران وثلاثين من أهل الحبشة وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم

5

115

ولم يذكر هؤلاء من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة مثل عبد الله بن سلام وغيره ممن كان يهوديا وسلمان الفارسي وغيره ممن كان نصرانيا لأن هؤلاء صاروا من المؤمنين فلا يقال فيهم وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم سورة آل عمران ولا يقول أحد إن اليهود والنصارى بعد إسلامهم وهجرتهم ودخولهم في جملة المسلمين المهاجرين المجاهدين يقال إنهم من أهل الكتاب كما لا يقال عن الصحابة الذين كانوا مشركين وإن من المشركين لمن يؤمن بالله ورسوله فإنهم بعد الإيمان ما بقوا يسمون مشركين فدل على أن هؤلاء قوم من أهل الكتاب أي من جملتهم وقد آمنوا بالرسول كما قال تعالى في المقتول خطأ فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة سورة النساء فهو من العدو ولكن هو كان قد آمن وما أمكنه الهجرة وإظهار الإيمان والتزام شرائعه فسماه مؤمنا لأنه فعل من الإيمان ما يقدر عليه وهذا كما أنه قد كان بمكة جماعة من المؤمنين يستخفون

5

116

بإيمانهم وهم عاجزون عن الهجرة قال تعالى إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فإولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا إلا المستضفعين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا سوة النساء فعذر سبحانه المستضعف العاجز عن الهجرة وقال تعالى ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا سورة النساء فأولئك كانوا عاجزين عن إقامة دينهم فقد سقط عنهم ما عجزو عنه فإذا كان هذا فيمن كان مشركا وآمن فما الظن بمن كان من أهل الكتاب وآمن وقوله فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن سورة النساء قيل هو الذي يكون عليه لباس أهل الحرب مثل أن يكون في صفهم فيعذر القاتل لأنه مأمور بقتاله فتسقط عند الدية وتجب الكفارة وهو قول الشافعي وأحمد في أحد القولين

5

117

وقيل بل هو من أسلم ولم يهاجر كما يقوله أبو حنيفة لكن هذا قد أوجب فيه الكفارة وقيل إذا كان من أهل الحرب لم يكن له وارث فلا يعطى أهل الحرب ديته بل تجب الكفارة فقط وسواء عرف أنه مؤمن وقتل خطأ أو ظن أنه كافر وهذا ظاهر الآية وقد قال بعض المفسرين إن هذه الآية نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه كما نقل عن ابن جريج ومقاتل وابن زيد يعني قوله وإن من أهل الكتاب وبعضهم قال إنها في مؤمني أهل الكتاب من اليهود والنصارى فهذا إن أراد به من كان في الظاهر معدودا من أهل الكتاب فهو كالقول الأول وإن أراد العموم فهو كالثاني وهذا قول مجاهد ورواه أبو صالح عن ابن عباس وقول من أدخل فيها مثل ابن سلام وأمثاله ضعيف فإن هؤلاء من المؤمنين ظاهرا وباطنا من كل وجه لا يجوز أن يقال فيهم وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب سورة آل عمران أما أولا فلأن ابن سلام أسلم في أول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وقال فلما رأيت وجهه علمت أنه وجهه ليس بوجه كذاب

5

118

وسورة آل عمران إنما نزل ذكر أهل الكتاب فيها لما قدم وفد نجران سنة تسع أو عشر وثانيا أن ابن سلام وأمثاله هو واحد من جملة الصحابة والمؤمنين وهو من أفضلهم وكذلك سلمان الفارسي فلا يقال فيه إنه من أهل الكتاب وهؤلاء لهم أجور مثل أجور سائر المؤمنين بل يؤتون أجرهم مرتين وهم ملتزمون جميع شرائع الإسلام فأجرهم أعظم من أن يقال فيه أولئك لهم أجرهم عند ربهم وأيضا فإن أمر هؤلاء كان ظاهرا معروفا ولم يكن أحد يشك فيهم فأي فائدة في الإخبار بهم وما هذا إلا كما يقال الإسلام دخل فيه من كان مشركا ومن كان كتابيا وهذا معلوم لكل أحد بأنه دين لم يكن يعرف قبل محمد صلى الله عليه وسلم فكل من دخل فيه كان قبل ذلك إما مشركا وإما من أهل الكتاب إما كتابيا وإما أميا فأي فائدة في الإخبار بهذا

5

119

بخلاف أمر النجاشي وأصحابه ممن كانوا متظاهرين بكثير مما عليه النصارى فأن أمرهم قد يشتبه ولهذا ذكروا في سبب نزول هذه الآية أنه لما مات النجاشي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال قائل نصلي على هذا العلج النصراني وهو في أرضه فنزلت هذه الآية هذا منقول عن جابر وأنس بن مالك وابن عباس وهم من الصحابة الذين باشروا الصلاة على النجاشي وهذا بخلاف ابن سلام وسلمان الفارسي فإنه إذا صلى على واحد من هؤلاء لم ينكر ذلك أحد وهذا مما يبين أن المظهرين للإسلام فيهم منافق لا يصلى عليه كما نزل في حق ابن أبي وأمثاله وأن من هو في أرض الكفر قد يكون مؤمنا يصلى عليه كالنجاشي ويشبه هذه الآية أنه لما ذكر تعالى أهل الكتاب فقال ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله

5

120

واليوم الآخر يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين سورة آل عمران وهذه الآية قيل إنها نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه وقيل إن قوله منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون هو عبد الله بن سلام وأصحابه وهذا والله أعلم من نمط الذي قبله فإن هولاء ما بقوا من أهل الكتاب وإنما المقصود من هو منهم في الظاهر وهو مؤمن لكن لا يقدر على ما يقدر عليه المؤمنون المهاجرون المجاهدون كمؤمن آل فرعون هو من آل فرعون وهو مؤمن ولهذا قال تعالى وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم سورة غافر فهو من آل فرعون وهو مؤمن

5

121

وكذلك هؤلاء منهم المؤمنون ولهذا قال تعالى وأكثرهم الفاسقون سورة آل عمران وقد قال قبل هذا ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم سورة آل عمران ثم قال منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون سورة آل عمران ثم قال لن يضروكم إلا أذى سورة آل عمران وهذا عائد إليهم جميعهم لا إلى أكثرهم ولهذا قال وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون سورة آل عمران وقد يقاتلون وفيهم مؤمن يكتم إيمانه يشهد القتال معهم ولا يمكنه الهجرة وهو مكره على القتال ويبعث يوم القيامة على نيته كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يغزو جيش هذا البيت فبينما هم ببيداء من الأرض إذ خسف بهم فقيل يا رسول الله وفيهم المكره فقال يبعثون على نياتهم

5

122

وهذا في ظاهر الأمر وإن قتل وحكم عليه بما يحكم على الكفار فالله يبعثه على نيته كما أن المنافقين منا يحكم لهم في الظاهر بحكم الإسلام ويبعثون على نياتهم فالجزاء يوم القيامة على ما في القلوب لا على مجرد الظواهر ولهذا روي أن العباس قال يا رسول الله كنت مكرها قال أما ظاهرك فكان علينا وأما سريرتك فإلى الله وبالجملة لا خلاف بين المسلمين أن من كان في دار الكفر وقد آمن وهو عاجز عن الهجرة لا يجب عليه من الشرائع ما يعجز عنها بل الوجوب بحسب الإمكان وكذلك ما لم يعلم حكمه فلو لم يعلم أن الصلاة واجبة عليه وبقى مدة لم يصل لم يجب عليه القضاء في أظهر قولي العلماء وهذا مذهب أبي حنيفة وأهل الظاهر وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد وكذلك سائر الواجبات من صوم شهر رمضان وأداء

5

123

الزكاة وغير ذلك ولو لم يعلم تحريم الخمر فشربها لم يحد باتفاق المسلمين وإنما اختلفوا في قضاء الصلاة وكذلك لو عامل بما يستحله من ربا أو ميسر ثم تبين له تحريم ذلك بعد القبض هل يفسخ العقد أم لا كما لا يفسخه لو فعل ذلك قبل الإسلام وكذلك لو تزوج نكاحا يعتقد صحته على عادتهم ثم لما بلغه شرائع الإسلام رأى أنه قد أخل ببعض شروطه كما لو تزوج في عدة وقد انقضت فهل يكون هذا فاسدا أو يقر عليه كما لو عقده قبل الإسلام ثم أسلم وأصل هذا كله أن الشرائع هل تلزم من لم يعلمها أم لا تلزم أحدا إلا بعد العلم أو يفرق بين الشرائع الناسخة والمبتدأة هذا فيه ثلاثة أقوال هي ثلاثة أوجه في مذهب أحمد ذكر القاضي أبو يعلى الوجهين المطلقين في كتاب له وذكر هو وغيره الوجه المفرق في أصول الفقه وهو أن النسخ لا يثبت في حق المكلف حتى يبلغه الناسخ وخرج أبو الخطاب وجها بثبوته ومن هذا الباب من ترك الطهارة الواجبة ولم يكن علم بوجوبها أو صلى في الموضع المنهى عنه قبل علمه بالنهي هل يعيد الصلاة

5

124

فيه روايتان منصوصتان عن أحمد والصواب في هذا الباب كله أن الحكم لا يثبت إلا مع التمكن من العلم وأنه لا يقضى ما لم يعلم وجوبه فقد ثبت في الصحيح أن من الصحابة من أكل بعد طلوع الفجر في رمضان حتى تبين له الحبل الأبيض من الأسود ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء ومنهم من كان يمكث جنبا مدة لا يصلي ولم يكن يعلم جواز الصلاة بالتيمم كأبي ذر وكعمر بن الخطاب وعمار

5

125

لما أجنبا ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أحدا منهم بالقضاء ولا شك أن خلقا من المسلمين بمكة والبوادي صاروا يصلون إلى بيت المقدس حتى بلغهم النسخ ولم يؤمروا بالإعادة ومثل هذا كثير وهذا يطابق الأصل الذي عليه السلف والجمهور أن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها فالوجوب مشروط بالقدرة والعقوبة لا تكون إلا على ترك مأمور أو فعل محظور بعد قيام الحجة

5

126

فصل وقد ذكرنا في غير هذا الموضوع حكم الناس في الوعد والوعيد والثواب والعقاب وأن فاعل السيئات تسقط عنه عقوبة جهنم بنحو عشرة أسباب فإذا كان هذا الحكم في المجتهدين وهذا الحكم في المذنبين حكما عاما في جميع الأمة فكيف في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا كانوا المتأخرون من المجتهدين ومن المذنبين يندفع عنهم الذم والعقاب بما ذكر من الأسباب فكيف بالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ونحن نبسط هذا وننبه بالأدنى على الأعلى فنقول كلام الذام للخلفاء ولغيرهم من الصحابة من رافضي وغيره هو من باب الكلام في الأعراض وفيه حق لله تعالى لما يتعلق به من الولاية والعداوة والحب والبغض وفيه حق للأدميين أيضا ومعلوم أنا إذا تكلمنا فيمن هو دون الصحابة مثل الملوك المختلفين على الملك والعلماء والمشايخ المختلفين في العلم والدين وجب أن يكون الكلام بعلم وعدل لا بجهل وظلم فإن العدل واجب لكل أحد على كل أحد في كل حال والظلم محرم مطلقا لا يباح قط بحال قال تعالى ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب

5

127

للتقوى سورة المائدة وهذه الآية نزلت بسبب بغضهم للكفار وهو بغض مأمور به فإذا كان البغض الذي أمر الله به قد نهى صاحبه أن يظلم من أبغضه فكيف في بغض مسلم بتأويل وشبهة أو بهوى نفس فهو أحق أن لا يظلم بل يعدل عليه وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق من عدل عليهم في القول والعمل والعدل مما اتفق أهل الأرض على مدحه ومحبته والثناء على أهله ومحبتهم والظلم مما اتفقوا على بغضه وذمه وتقبيحه وذم أهله وبغضهم وليس المقصود الكلام في التحسين والتقبيح العقلي فقد تكلمنا عليه في غير هذا الموضوع في مصنف مفرد ولكن المقصود أن العدل محمود محبوب باتفاق أهل الأرض وهو محبوب في النفوس مركوز حبه في القلوب تحبه القلوب وتحمده وهو من المعروف الذي تعرفه القلوب والظلم من المنكر الذي تنكره القلوب فتبغضه وتذمه والله تعالى أرسل الرسل ليقوم الناس بالقسط قال الله تعالى لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط سورة الحديد وقال تعالى الله الذي أنزل الكتاب بالحق

5

128

والميزان سورة الشورى وقال تعالى إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل سورة النساء وقال فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين سورة المائدة وقال فأحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق سورة المائدة فأمره أن يحكم بالقسط وأن يحكم بما أنزل الله فدل ذلك على أن القسط هو ما أنزل الله فما أنزل الله هو القسط والقسط هو ما أنزل الله ولهذا وجب على كل من حكم بين أثنين أن يحكم بالعدل لقوله تعالى وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل سورة النساء فليس لحاكم أن يحكم بظلم أبدا والشرع الذي يجب على حكام المسلمين الحكم به عدل كله ليس في الشرع ظلم أصلا بل حكم الله أحسن الأحكام والشرع هو ما أنزل الله فكل من حكم بما أنزل الله فقد حكم بالعدل لكن العدل قد يتنوع بتنوع الشرائع والمناهج فيكون العدل في كل شرعة بحسبها ولهذا قال تعالى وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب

5

129

المقسطين وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين إنا نزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانوين والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون سورة المائدة إلى قوله وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فأحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم وأحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون سورة المائدة ذكر سبحانه حكم التوراة والإنجيل ثم ذكر أنه أنزل القرآن وأمر نبيه أن يحكم بينهم بالقرآن ولا يتبع أهواءهم عما جاءه من الكتاب وأخبر أنه جعل لكل واحد من الأنبياء شرعة ومنهاجا فجعل لموسى وعيسى ما في التوراة والإنجيل من الشرعة والمنهاج وجعل للنبي صلى الله عليه

5

130

وسلم ما في القرآن من الشرعة والمنهاج وأمره أن يحكم بما أنزل الله وحذره أن يفتنوه عن بعض ما أنزل الله وأخبره أن ذلك هو حكم الله ومن ابتغى غيره فقد ابتغى حكم الجاهلية وقال ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون سورة المائدة ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلا من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر فإنه من أمة إلا وهي تأمر بالحكم بالعدل وقد يكون العدل في دينها ما رآه أكابرهم بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام يحكمون بعاداتهم التي لم ينزلها الله سبحانه وتعالى كسوالف البادية وكأوامر المطاعين فيهم ويرون أن هذا هو الذي ينبغي الحكم به دون الكتاب والسنة وهذا هو الكفر فإن كثيرا من الناس أسلموا ولكن مع هذا لا يحكمون إلا بالعادات الجارية لهم التي يأمر بها المطاعون فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز الحكم إلا بما أنزل الله فلم يلتزموا ذلك بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله فهم كفار وإلا كانوا جهالا كمن تقدم أمرهم وقد أمر الله المسلمين كلهم إذا تنازعوا في شىء أن يردوه إلى الله

5

131

والرسول فقال تعالى يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وذلك خير ؤأحسن تأويلا سورة النساء وقال تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما سورة النساء فمن لم يلتزم تحكيم الله ورسوله فيما شجر بينهم فقد أقسم الله بنفسه أنه لا يؤمن وأما من كان ملتزما لحكم الله ورسوله باطنا وظاهرا لكن عصى واتبع هواه فهذا بمنزلة أمثاله من العصاة وهذه الآية مما يحتج بها الخوارج على تكفير ولاة الأمر الذين لا يحكمون بما أنزل الله ثم يزعمون أن اعتقادهم هو حكم الله وقد تكلم الناس بما يطول ذكره هنا وما ذكرته يدل عليه سياق الآية والمقصود أن الحكم بالعدل واجب مطلقا في كل زمان ومكان على كل أحد ولكل أحد والحكم بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم هو عدل خاص وهو أكمل أنواع العدل وأحسنها والحكم به واجب على النبي صلى الله عليه وسلم وكل من اتبعه ومن لم يلتزم حكم الله ورسوله فهو كافر وهذا واجب على الأمة في كل ما تنازعت فيه من الأمور الإعتقادية والعملية قال تعالى كل الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما

5

132

اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات سورة البقرة وقال تعالى وما اختلفتم فيه من شىء فحكمه إلى الله سورة الشورى وقال فإن تنازعتم في شىء فردوه إلى الله والرسول سورة النساء فالأمور المشتركة بين الأمة لا يحكم فيها إلا الكتاب والسنة ليس لأحد أن يلزم الناس بقول عالم ولا أمير ولا شيخ ولا ملك ومن اعتقد أنه يحكم بين الناس بشىء من ذلك ولا يحكم بينهم بالكتاب والسنة فهو كافر وحكام المسلمين يحكمون في الأمور المعينة لا يحكمون في الأمور الكلية وإذا حكموا في المعينات فعليهم أن يحكموا بما في كتاب الله فإن لم يكن فبما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم يجدوا اجتهد الحاكم برأيه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاض في الجنة فمن علم الحق وقضى به فهو في الجنة ومن علم الحق وقضى بخلافة فهو في النار ومن قضى للناس على جهل فهو في النار وإذا حكم بعلم وعدل فإذا اجتهد فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر كما ثبت ذلك في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجهين

5

133

والمقصود هنا أنه إذا وجب فيما شجر بين عموم المؤمنين أن لا يتكلم إلا بعلم وعدل ويرد ذلك إلى الله والرسول فذاك في أمر الصحابة أظهر فلو طعن طاعن في بعض ولاة الأمور من ملك وحاكم وأمير وشيخ ونحو ذلك وجعله كافرا معتديا على غيره في ولاية أو غيرها وجعل غيره هو العالم العادل المبرأ من كل خطأ وذنب وجعل كل من أحب الأول وتولاه كافرا أو ظالما مستحقا للسب وأخذ يسبه فإنه يجب الكلام في ذلك بعلم وعدل والرافضة سلكوا في الصحابة مسلك التفرق فوالوا بعضهم وغلوا فيه وعادوا بعضهم وغلوا في معاداته وقد يسلك كثير من الناس ما يشبه هذا في أمرائهم وملوكهم وعلمائهم وشيوخهم فيحصل بينهم رفض في غير الصحابة تجد أحد الحزبين يتولى فلانا ومحبيه ويبغض فلانا ومحبيه وقد يسب ذلك بغير حق وهذا كله من التفرق والتشيع الذي نهى الله عنه ورسوله فقال تعالى إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء سورة الأنعام وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا تقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا سورة آل عمران وقال تعالى ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما

5

134

الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون سورة آل عمران قال ابن عباس تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة ولهذا كان أبو أمامة الباهلي وغيره يتأولها في الخوارج فالله تعالى قد أمر المؤمنين كلهم أن يعتصموا بحبله جميعا ولا يتفرقوا وقد فسر حبله بكتابه وبدينه وبالإسلام وبالإخلاص وبأمره وبعهده وبطاعته وبالجماعة وهذه كلها منقولة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وكلها صحيحة فإن القرآن يأمر بدين الإسلام وذلك هو عهده وأمره وطاعته والإعتصام به جميعا إنما يكون في الجماعة ودين الإسلام حقيقته الإخلاص لله وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله يرضى لكم ثلاثا أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم

5

135

والله تعالى قد حرم ظلم المسلمين أحيائهم وأمواتهم وحرم دماءهم وأموالهم وأعراضهم وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حجة الوداع إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذ ألا هل بلغت ألا ليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع وقد قال تعالى والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا سورة الأحزاب فمن آذى مؤمنا حيا أو ميتا بغير ذنب يوجب ذلك فقد دخل في هذه الآية ومن كان مجتهدا لا إثم عليه فإذا آذاه مؤذ فقد آذاه بغير ما اكتسب ومن كان مذنبا وقد تاب من ذنبه أو غفر له بسبب آخر بحيث لم يبق عليه عقوبة فآذاه مؤذ فقد آذاه بغير ما اكتسب وإن حصل له بفعله مصيبة ولما حاج موسى آدم وقال لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة فقال آدم بكم وجدت مكتوبا علي قبل أن أخلق وعصى آدم ربه فغوى سورة طه قال بأربعين سنة قال فحج آدم موسى وهذا الحديث ثابت في الصحيحين لكن غلط كثير من الناس في معناه فظنوا أن آدم احتج بالقدر على أن الذنب لا يلام عليه ثم تفرقوا بعد هذا بين مكذب بلفظه ومتأول لمعناه تأويلات فاسدة وهذا فهم

5

136

فاسد وخطأ عظيم لا يجوز أن يظن بأقل الناس علما وإيمانا أن يظن أن كل من أذنب فلا ملام عليه لكون الذنب مقدرا عليه وهو يسمع ما أخبر الله به في القرآن من تعذيبه لقوم نوح وعاد وثمود وقوم فرعون ومدين وقوم لوط وغيرهم والقدر شامل لجميع الخلق فلو كان المذنب معذورا لم يعذب هؤلاء على ذنوبهم وهو يعلم ما أرسل الله به رسله محمدا وغيره من عقوبات المعتدين كما في التوراة والقرآن وما أمرالله به من إقامة الحدود على المفسدين ومن قتال الكافرين وما شرعه الله من إنصاف المظلومين من الظالمين وما يقضي به يوم القيامة بين عباده من عقوبة الكفار والاقتصاص للمظلوم من الظالم وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع لكن مقصود الحديث أن ما يصيب العبد من المصائب فهي مقدرة عليه ينبغي أن يسلم لقدر الله كما قال تعالى ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه سورة التغابن قال علقمة هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم وروى الوالبي عن ابن عباس يهد قلبه لليقين فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه وقال ابن السائب وابن قتيبة إنه إذا ابتلى صبر وإذا أنعم عليه شكر وإذا ظلم غفر

5

137

وإن كانت المصيبة بسبب فعل الأب أو الجد فإن آدم قد تاب من الأكل فما بقى عليه ملام للتوبة والمصيبة كانت مقدرة فلا معنى للوم آدم عليها فليس للإنسان أن يؤذي مؤمنا جرى له على يديه ما هو مصيبة في حقه والمؤمن إما معذور وإما مغفور له ولا ريب أن كثير ممن حصل له مصيبة أو فوات غرض ببعض الماضين يسرع بذمه كما يظن بعض الرافضة أن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كانوا هم السبب في منع حقهم ظلما وهذا كذب عليهم أو يقولون بسببهم ظلمنا غيرهم وهذا عدوان عليهم فإن القوم كانوا عادلين متبعين لأمر الله ورسوله ومن أصابته مصيبة بسبب ما جاء به الرسول فبذنوبه أصيب فليس لأحد أن يعيب الرسول وما جاء به لكونه فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد المنافقين أو لكونه بسبب تقديمه أبا بكر وعمر قدمهما المسلمون بعده كما يذكر عن بعض الرافضة أنه آذى الله ورسوله بسبب تقديم الله ورسوله لأبي بكر وعمر وعن بعضهم أنهم كانوا يقرؤون شيئا من الحديث في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فأتوا على فضائل أبي بكر فلما سمعها قال

5

138

لأصحابه تعلمون والله بلاءكم من صاحب هذا القبر يقول مروا أبا بكر فليصل بالناس لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر وهذا كما أنه ليس لأحد أن يقول بسبب نزول القرآن بلسان العرب اختلفت الأمة في التأويل واقتتلوا إلى أمثال هذه الأمور التي يجعل الشر الواقع فيها بسبب ما جاء به الرسول فإن هذا كله باطل وهو من كلام الكفار قال تعالى عن الكفار الذين قالوا لرسلهم قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون سورة يس وقال عن قوم فرعون فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله سورة الأعراف وقال لما ذكر الأمر بالجهاد وأن من الناس من يبطىء عنه أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك سورة النساء

5

139

والمراد بالحسنات والسيئات هنا النعم والمصائب كما قد سمى الله ذلك حسنات وسيئات في غير هذا الموضع من القرآن كقوله وبلوناهم بالحسنات والسيئات سورة الأعراف وقوله إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون سورة التوبة ولهذا قال ما أصابك ولم يقل ما أصبت وهكذا قال السلف ففي رواية أبي صالح عن ابن عباس أن الحسنة الخصب والمطر والسيئة الجدب والغلاء وفي رواية الوالبي عنه أن الحسنة الفتح والغنيمة والسيئة والهزيمة والجراح ونحو ذلك وقال في هذه الرواية ما أصابك من حسنة ما فتح الله عليه يوم بدر والسيئة ما أصابه يوم أحد وكذلك قال ابن قتيبة الحسنة الغنيمة والنعمة والسيئة البلية وروى ذلك عن أبي العالية وروى عنه أن الحسنة الطاعة والسيئة المعصية وهذا يظنه طائفة من المتأخرين ثم اختلف هؤلاء فقال مثبتة القدر هذا حجة لنا لقوله سبحانه قل كل من عند الله سورة النساء وقال نفاته بل هو حجة لنا لقوله وما أصابك من سيئة فمن نفسك سورة النساء وحجة كل فريق تدل على فساد قول الآخر والقولان

5

140

باطلان في هذه الآية فإن المراد النعم والمصائب ولهذا قال وإن تصبهم والضمير قد قيل إنه يعود على المنافقين وقيل على اليهود وقيل على الطائفتين والتحقيق أنه يعود على من قال هذا من أي صنف كان ولهذا قيل هذا لا يعين قائله لأنه دائما يقوله بعض الناس فكل من قاله تناولته الآية فإن الطاعنين فيما جاء به الرسول من كافر ومنافق بل ومن في قلبه مرض أو عنده جهل يقول مثل ذلك وكثير من الناس يقول ذلك في بعض ما جاء به الرسول ولا يعلم أنه جاء به لظنه خطأ صاحبه ويكون هو المخطىء فإذا أصابهم نصر ورزق قالوا هذا من عند الله لا يضيفه إلى ما جاء به الرسول وإن كان سببا له وإن أصابهم نقص رزق وخوف من العدو وظهوره قالوا هذا من عندك لأنه أمر بالجهاد فجرى ما جرى وأنهم تطيروا بما جاء به كما تطير قوم فرعون بما جاء به موسى والسلف ذكروا المعنيين فعن ابن عباس قال بشؤمك وعن ابن زيد قال بسوء تدبيرك قال تعالى قل كل من عند الله سورة النساء وعن ابن عباس الحسنة والسيئة أما الحسنة فأنعم بها عليك وأما السيئة فابتلاك بها فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا وقد قيل في مثل هذا لم يفقهوه ولم يكادوا وأن النفي مقابل الإثبات وقيل بل معناه فقهوه بعد أن كادوا لا يفقهونه كقوله فذبحوها

5

141

وما كادوا يفعلون سورة البقرة فالمنفي بها مثبت والمثبت بها منفي وهذا هو المشهور وعليه عامة الاستعمال وقد يقال يراد بها هذا تارة وهذا تارة فإذا صرحت بإثبات الفعل فقد وجد فإذا لم يؤت إلا بالنفي المحض كقوله لم يكد يراها و لا يكادون يفقهون حديثا فهذا نفي مطلق ولا قرينة معه تدل على الإثبات فيفرق بين مطلقها ومقيدها وهذه الأقوال الثلاثة للنحاة وقال بكل قول طائفة وقد وصف الله تعالى المنافقين بعدم الفقه في مثل قوله تعالى هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السموات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون سورة المنافقون وفي مثل قوله ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولذك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهوائهم سورة محمد فدل على أنهم لم يكونوا يفقهون القرآن لكن قوله حديثا نكرة في سياق النفي فتعم كما قال في الكهف وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا سورة الكهف ومعلوم أنهم لا بد أن يفقهوا بعض الأقوال وإلا فلا يعيش الإنسان بدون ذلك فعلم أن المراد أنهم يفقهون بعد أن كادوا لم يفقهوه

5

142

وكذلك في الرواية وهذا أظهر أقوال النحاة وأشهرها والمقصود أن هؤلاء لو فقهوا القرآن لعلموا أنك ما أمرتهم إلا بخير وما نهيتهم إلا عن شر وأنه لم تكن المصيبة الحاصلة لهم بسببك بل بسبب ذنوبهم ثم قال الله تعالى ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك سورة النساء قال ابن عباس وأنا كتبتها عليك وقيل إنها في حرف عند الله وأنا قدرتها عليك وهذا كقوله وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير سورة الشورى وقوله أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم سورة آل عمران وقوله وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور سورة الشورى وأما رواية كردم عن يعقوب فمن نفسك فمعناها يناقض القراءة المتواترة فلا يعتمد عليها ومعنى هذه الآية كما في الحديث الصحيح الإلهي يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ومعنى هذه الآية متناول لكل من نسب ما أصابه من المصيبة إلى ما

5

143

أمر الله به ورسوله كائنا من كان فمن قال إنه بسبب تقديمه لأبي بكر وعمر واستخلافه في الصلاة أو بسبب ولايتهما حصل لهم مصيبة قيل مصيبتكم بسبب ذنوبكم ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب سورة الطلاق بل هذا كله من أذى المؤمنين بغير ما اكتسبوا وقد قال تعالى ولا يغتب بعضكم بعضا سورة الحجرات وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الغيبة ذكرك أخاك بما يكره قيل أرأيت إن كان في أخي ما أقول قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته فمن رمى أحدا بما ليس فيه فقد بهته فكيف إذا كان ذلك في لصحابة ومن قال عن مجتهد إنه تعمد الظلم وتعمد معصية الله ورسوله ومخالفة الكتاب والسنة ولم يكن كذلك فقد بهته وإذا كان فيه ذلك فقد اغتابه لكن يباح من ذلك ما أباحه الله ورسوله وهو ما يكون

5

144

على وجه القصاص والعدل وما يحتاج إليه لمصلحة الدين ونصيحة المسلمين فالأول كقول المشتكى المطلوب فلان ضربني وأخذ مالي ومنعني حقي ونحو ذلك قال تعالى لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم سورة النساء وقد نزلت فيمن ضاف قوما فلم يقروه لأن قرى الضيف واجب كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة فلما منعوه حقه كان له ذكر ذلك وقد أذن له النبي صلى الله عليه وسلم أن يعاقبهم بمثل قراه في زرعهم ومالهم وقال نصره واجب على كل مسلم لأنه قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال أنصر أخاك ظالما أو مظلوما قلت يا رسول الله أنصره مظلوما فكيف أنصره ظالما قال تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه وأما الحاجة فمثل استفتاء هند بنت عتبة كما ثبت في الصحيح أنها

5

145

قالت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني وبني ما يكفيني بالمعروف فقال النبي صلى الله عليه وسلم خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف أخرجاه في الصحيحين من حديث عائشة فلم ينكر عليها قولها وهو من جنس قول المظلوم وأما النصيحة فمثل قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس لما استشارته فيمن خطبها فقالت خطبني أبو جهم ومعاوية فقال أما معاوية فصعلوك لا مال له وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه وفي لفظ يضرب النساء أنكحي أسامه فلما استشارته حتى تتزوج ذكر ما تحتاج إليه وكذلك من استشار رجلا فيمن يعامله والنصيحة مأمور بها ولو لم

5

146

يشاوره فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الدين النصيحة الدين النصيحة ثلاثا قالوا لمن يا رسول الله قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم وكذلك بيان أهل العلم لمن غلط في رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم أو تعمد الكذب عليه أو على من ينقبل عنه العلم وكذلك بيان من غلط في رأي رآه في أمر الدين من المسائل العلمية والعملية فهذا إذا تكلم فيه الإنسان بعلم وعدل وقصد النصيحة فالله تعالى يثيبه على ذلك لا سيما إذا كان المتكلم فيه داعيا إلى بدعة فهذا يجب بيان أمره للناس فإن دفع شره عنهم أعظم من دفع شر قاطع الطريق وجكم المتكلم باجتهاده في العلم والدين حكم أمثاله من المجتهدين ثم قد يكون مجتهدا مخطئا أو مصيبا وقد يكون كل من الرجلين المختلفين باللسان أو اليد مجتهدا يعتقد الصواب معه وقد يكونان جميعا مخطئين مغفورا لهما كما ذكرنا نظير ذلك مما كان يجري بين الصحابة ولهذا ينهى عما شجر بين هؤلاء سواء كانوا من الصحابة أو ممن بعدهم فإذا تشاجر مسلمان في قضية ومضت ولا تعلق للناس بها ولا يعرفون حقيقتها كان كلامهم فيها كلاما بلا علم ولا عدل يتضمن أذاهما بغير حق ولو عرفوا أنهما مذنبان أو مخطئان لكان ذكر ذلك

5

147

من غير مصلحة راجحة من باب الغيبة المذمومة لكن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين أعظم حرمة وأجل قدرا وأنزه أعراضا وقد ثبت من فضائلهم خصوصا وعموما ما لم يثبت لغيرهم فلهذا كان كلام الذي فيه ذمهم على ما شجر بينهم أعظم إثما من الكلام في غيرهم فإن قيل فأنتم في هذا المقام تسبون الرافضة وتذمونهم وتذكرون عيوبهم قيل ذكر الأنواع المذمومة غير ذكر الأشخاص المعينة وإنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم لعن أنواع كثيرة كقوله لعن الله الخمر وشاربها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها وآكل ثمنها ولعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه ولعن الله من غير منار الأرض وقال المدينة

5

148

حرم ما بين عير إلى ثور فمن أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا وقال لعن الله من عمل عمل قوم لوط وقال لعن الله المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء وقال من ادعى إلى غير أبيه

5

149

أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا وقال الله تعالى في القرآن أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا سورة الأعراف فالقرآن والسنة مملوءان من ذم الأنواع المذمومة وذم أهلها ولعنهم تحذيرا من ذلك الفعل وإخبارا بما يلحق أهله من الوعيد ثم المعاصي التي يعرف صاحبها أنه عاص يتوب منها والمبتدع الذي يظن أنه على حق كالخوارج والنواصب الذي نصبوا العداوة والحرب لجماعة المسلمين فابدعوا بدعة وكفروا من لم يوافقهم عليها فصار بذلك ضررهم على المسلمين أعظم من ضرر الظلمة الذين يعلمون أن الظلم محرم وإن كانت عقوبة أحدهم في الآخرة لأجل التأويل قد تكون أخف لكن أمر النبي صلى الله عليه وسلم

5

150

بقتالهم ونهى عن قتال الأمراء الظلمة وتواترت عنه بذلك الأحاديث الصحيحة فقال في الخوارج يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وقراءته مع قراءتهم وصيامه مع صيامهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم وقال في بعضهم يقتلون أهل الإيمان ويدعون أهل الأوثان وقال للأنصار إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى نلقوني على الحوض أي تلقون من يستأثر عليكم بالمال ولا ينصفكم فأمرهم بالصبر ولم يأذن لهم في قتالهم وقال أيضا سيكون عليكم بعدي أمراء يطلبون منكم حقكم ويمنعونكم حقهم قالوا فما تأمرنا يالرسول الله قال آدوا إليهم

5

151

حقهم وسلوا الله حقكم وقال من رأى من أميره شيئا فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه وقال من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية وقال خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويعلنونكم قالوا أفلا نقاتلهم قال لا ما صلوا وهذه الأحاديث كلها في الصحيح إلى أحاديث أمثالها فهذا أمره بقتال الخوارج وهذا نهيه عن قتال الولاة الظلمة وهذا مما يستدل به على أنه ليس كل ظالم باغ يجوز قتاله ومن أسباب ذلك أن الظالم الذي يستأثر بالمال والولايات لا يقاتل في العادة إلا لأجل الدنيا يقاتله الناس حتى يعطيهم المال والولايات وحتى لا يظلمهم فلم يكن أصل قتالهم ليكون الدين كله لله ولتكون كلمة الله هي العليا ولا كان قتالهم من جنس قتال المحاربين قطاع الطريق الذين قال فيهم من قتل دون ماله فهو

5

152

شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون حرمته فهو شهيد لأن أولئك معادون لجميع الناس وجميع الناس يعينون على قتالهم ولو قدر أنه ليس كذلك العداوة والحرب فليسوا ولاة أمر قادرين على الفعل والأخذ بل هم بالقتال يريدون أن يأخذوا أموال الناس ودماءهم فهم مبتدؤون الناس بالقتال بخلاف ولاة الأمور فإنهم لا يبتدؤون بالقتال للرعية وفرق بين من تقاتله دفعا وبين من تقاتله ابتداء ولهذا هل يجوز في حال الفتنة قتال الدفع فيه عن أحمد روايتان لتعارض الآثار والمعاني وبالجملة العادة المعروفة أن الخروج على ولاة الأمور يكون لطلب ما في أيديهم من المال والإمارة وهذا قتال على الدنيا

5

153

ولهذا قال أبو برزة الأسلمي عن فتنة ابن الزبير وفتنة القراء مع الحجاج وفتنة مروان بالشام هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء إنما يقاتلون على الدنيا وأما أهل البدع كالخوارج فهم يريدون إفساد دين الناس فقتالهم قتال على الدين والمقصود بقتالهم أن تكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله فلهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا ونهى عن ذلك ولهذا كان قتال علي رضي الله عنه للخوارج ثابتا بالنصوص الصريحة وبإجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر علماء المسلمين وأما قتال الجمل وصفين فكان قتال فتنة كرهه فضلاء الصحابة والتابعين له بإحسان وسائر العلماء كما دلت عليه النصوص حتى الذين حضروه كانوا كارهين له فكان كارهه في الأمة أكثر وأفضل من حامده وقد ثبت في الصحيحين من غير وجه أنه صلى الله عليه وسلم كان يقسم مالا فجاء ذو الخويصرة التميمي وهو محلوق الرأس كث اللحية ناتىء الجبين بين عينيه أثر السجود فقال يا محمد أعدل فإنك لم تعدل فقال ويحك ومن يعدل إذا لم أعدل ثم قال أيأمنني من في السماء ولا تأمنوني فقال له بعض الصحابة دعني

5

154

أضرب عنقه فقال يخرج من ضئضىء هذا أقوام يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم الحديث فهذا كلامه في هؤلاء العباد لما كانوا مبتدعين وثبت عنه في الصحيح أن رجلا كان يشرب الخمر وكان النبي صلى الله عليه وسلم كلما أتي به إليه جلده الحد فأتي به إليه مرة فلعنه رجل وقال ما أكثر ما يؤتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقال لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله فنهى عن لعن هذا المعين المدمن الذي يشرب الخمر وشهد له بأنه يحب الله ورسوله مع لعنة شارب الخمر عموما فعلم الفرق بين العام المطلق والخاص المعين وعلم أن أهل الذنوب الذين يعترفون بذنوبهم أخف ضررا على المسلمين من أمر أهل البدع الذين يبتدعون بدعة يستحلون بها عقوبة من يخالفهم والرافضة أشد بدعة من الخوارج وهم يكفرون من لم تكن الخوارج تكفره كأبى بكر وعمر ويكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة كذبا ما كذب أحد مثله والخوارج لا يكذبون لكن الخوارج كانوا أصدق وأشجع منهم وأوفى بالعهد منهم فكانوا أكثر قتالا منهم وهؤلاء أكذب وأجبن وأغدر وأذل

5

155

وهم يستعينون بالكفار على المسلمين فقد رأينا ورأى المسلمون أنه إذا ابتلي المسلمون بعدو كافر كانوا معه على المسلمين كما جرى لجنكزخان ملك التتر الكفار فإن الرافضة أعانته على المسلمين وأما إعانتهم لهولاكو ابن ابنه لما جاء إلى خراسان والعراق والشام فهذا أظهر وأشهر من أن يخفى على أحد فكانوا بالعراق وخراسان من أعظم أنصاره ظاهرا وباطنا وكان وزير الخليفة ببغداد الذي يقال له ابن العلقمي منهم فلم يزل يمكر بالخليفة والمسلمين ويسعى في قطع أرزاق عسكر المسلمين وضعفهم وينهى العامة عن قتالهم ويكيد أنواعا من الكيد حتى دخلوا فقتلوا من المسلمين ما يقال إنه بضعة عشر ألف ألف إنسان أوأكثر أو أقل ولم ير في الإسلام ملحمة مثل ملحمة الترك الكفار المسمين بالتتر وقتلوا الهاشميين وسبوا نساءهم من العباسيين وغير العباسيين فهل يكون مواليا لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم من يسلط الكفار على قتلهم وسبيهم وعلى سائر المسلمين

5

156

وهم يكذبون على الحجاج وغيره أنه قتل الأشراف ولم يقتل الحجاج هاشميا مع ظلمه وغشمه فإن عبد الملك نهاه عن ذلك وإنما قتل ناسا من أشراف العرب غير بني هاشم وقد تزوج هاشمية وهي بنت عبد الله بن جعفر فما مكنه بنو أمية من ذلك وفرقوا بينه وبينها وقالوا ليس الحجاج كفوا لشريفة هاشمية وكذلك من كان بالشام من الرافضة الذين لهم كلمة أو سلاح يعينون الكفار من المشركين ومن النصارى أهل الكتاب على المسلمين على قتلهم وسبيهم وأخذ أموالهم والخوارج ما عملت من هذا شيئا بل كانوا هم يقاتلون الناس لكن ما كانوا يسلطون الكفار من المشريك وأهل الكتاب على المسلمين

5

157

ودخل في الرافضة من الزنادقة المنافقين الإسماعيلية والنصيرية وغيرهم ممن لم يكن يجترىء أن يدخل عسكر الخوارج لأن الخوارج كانوا عبادا متورعين كما قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم الحديث فأين هؤلاء الرافضة من الخوارج والرافضة فيهم من هو متعبد متورع زاهد لكن ليسوا في ذلك مثل غيرهم من أهل الأهواء فالمعتزلة أعقل منهم وأعلم وأدين والكذب والفجور فيهم أقل منه في الرافضة والزيدية من الشيعة خير منهم أقرب إلى الصدق والعدل والعلم وليس في أهل الأهواء أصدق ولا أعبد من الخوارج ومع هذا فأهل السنة يستعملون معهم العدل والإنصاف ولا يظلمونهم فإن الظلم حرام مطلقا كما تقدم بل أهل السنة لكل طائفة من هؤلاء خير من بعضهم لبعض بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعض وهذا مما يعترفون هم به ويقولون أنتم تنصفوننا ما لا ينصف

5

158

بعضنا بعضا وهذا لأن الأصل الذي اشتركوا فيه أصل فاسد مبنى علي جهل وظلم وهم مشتركون في ظلم سائر المسلمين فصاروا بمنزلة قطاع الطريق المشتركين في ظلم الناس ولا ريب أن المسلم العالم العادل أعدل عليهم وعلى بعضهم من بعض والخوارج تكفر أهل الجماعة وكذلك أكثر المعتزلة يكفرون من خالفهم وكذلك أكثر الرافضة ومن لم يكفر فسق وكذلك أكثر أهل الأهواء يبتدعون رأيا ويكفرون من خالفهم فيه وأهل السنة يتبعون الحق من ربهم الذي جاء به الرسول ولا يكفرون من خالفهم فيه بل هم أعلم بالحق وأرحم بالخلق كما وصف الله به المسلمين بقوله كنتم خير أمة أخرجت للناس آل عمران قال أبو هريرة كنتم خير الناس للناس وأهل السنة نقاوة المسلمين فهم خير الناس للناس وقد علم أنه كان بساحل الشام جبل كبير فيه ألوف من الرافضة يسفكون دماء الناس ويأخذون أموالهم وقتلوا خلقا عظيما وأخذوا أموالهم ولما أنكسر المسلمون سنة غازان أخذوا الخيل والسلاح

5

159

والأسرى وباعوهم للكفار النصارى بقبرص وأخذوا من مر بهم من الجند وكانوا أضر على المسلمين من جميع الأعداء وحمل بعض أمرائهم راية النصارى وقالوا له أيما خير المسلمون أو النصارى فقال بل النصارى فقالوا له مع من تحشر يوم القيامة فقال مع النصارى وسلموا إليهم بعض بلاد المسلمين

5

160

ومع هذا فلما استشار بعض ولاة الأمر في غزوهم وكتبت جوابا مبسوطا في غزوهم وذهبنا إلى ناحيتهم وحضر عندي جماعة منهم وجرت بيني وبينهم مناضرات ومفاوضات يطول وصفها فلما فتح المسلمون بلدهم وتمكن المسلمون منهم نهيتهم عن قتلهم وعن سبيهم وأنزلناهم في بلاد المسلمين متفرقين لئلا يجتمعوا فما أذكره في هذا الكتاب من ذم الرافضة وبيان كذبهم وجهلهم قليل من كثير مما أعرفه منهم ولهم شر كثير لا أعرف تفصيله ومصنف هذا الكتاب وأمثاله من الرافضة إنما نقابلهم ببعض ما فعلوه بأمة محمد صلى الله عليه وسلم سلفها وخلفها فإنهم عمدوا إلى خيار أهل الأرض من الأولين والآخرين بعد النبيين والمرسلين وإلى خيار أمة أخرجت للناس فجعلوهم شرار الناس وافتروا عليهم العظائم وجعلوا حسناتهم سيئات وجاؤوا إلى شر من انتسب إلى الإسلام من أهل الأهواء وهم الرافضة بأصنافها غاليها وإماميها وزيديها والله يعلم وكفى بالله عليما ليس في جميع الطوائف المنتسبة إلى الإسلام مع بدعة وضلالة شر منهم لا أجهل ولا أكذب ولا أظلم ولا أقرب إلى الكفر والفسوق والعصيان وأبعد عن حقائق

5

161

الإيمان منهم فزعموا أن هؤلاء هم صفوة الله من عباده فإن ما سوى أمة محمد كفار وهؤلاء كفروا الأمة كلها أو ضللوها سوى طائفتهم التي يزعمون أنها الطائفة المحقة وأنها لا تجتمع على ضلالة فجعلوهم صفوة بني آدم فكان مثلهم كمن جاء إلى غنم كثيرة فقيل له أعطنا خير هذه الغنم لنضحي بها فعمد إلى شر تلك الغنم إلى شاة عوراء عجفاء عرجاء مهزولة لا نقى لها فقال هذه خيار هذه الغنم لا تجوز الأضحية إلا بها وسائر هذه الغنم ليست غنما وإنما هي خنازير يجب قتلها ولا تجوز الأضحية بها وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من حمى مؤمنا من منافق حمى الله لحمه من نار جهنم يوم القيامة وهؤلاء الرافضة إما منافق وإما جاهل فلا يكون رافضي ولا جهمي إلا منافقا أو جاهلا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكون فيهم أحد عالما بما جاء به الرسول مع الإيمان به فإن مخالفتهم لما جاء

5

162

به الرسول وكذبهم عليه لا يخفى قط إلا على مفرط في الجهل والهوى وشيوخهم المصنفون فيهم طوائف يعلمون أن كثيرا مما يقولونه كذب ولكن يصنفون لهم لرياستهم عليهم وهذا المصنف يتهمه الناس بهذا ولكن صنف لأجل أتباعه فإن كان أحدهم يعلم أن ما يقوله باطل ويظهره ويقول إنه حق من عند الله فهو من جنس علماء اليهود الذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون وإن كان يعتقد أنه حق دل ذلك على نهاية جهله وضلاله فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وأن كنت تدري فالمصيبة أعظم وهم في دينهم لهم عقليات وشرعيات فالعقليات متأخروهم فيها أتباع المعتزلة إلا من تفلسف منهم فيكون إما فيلسوفا وإما ممتزجا من فلسفة واعتزال ويضم إلى ذلك الرفض مثل مصنف هذا الكتاب وأمثاله فيصيرون بذلك من أبعد الناس عن الله ورسوله وعن دين المسلمين المحض وأما شرعياتهم فعمدتهم فيها على ما ينقل عن بعض أهل البيت مثل أبي جعفر الباقر وجعفر بن محمد الصادق وغيرهما

5

163

ولا ريب أن هؤلاء من سادات المسلمين وأئمة الدين ولأقوالهم من الحرمة والقدر ما يستحقه أمثالهم لكن كثير مما ينقل عنهم كذب والرافضة لا خبرة لها بالأسانيد والتمييز بين الثقات وغيرهم بل هم في ذلك من أشباه أهل الكتاب كل ما يجدونه في الكتب منقولا عن أسلافهم قبلوه بخلاف أهل السنة فإن لهم من الخبرة بالأسانيد ما يميزون به بين الصدق والكذب وإذا صح النقل عن علي بن الحسين فله أسوة نظرائه كالقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وغيرهما كما كان علي ابن أبي طالب مع سائر الصحابة وقد قال تعالى فإن تنازعتم في شيء فروده إلى الله والرسول سورة النساء فأمر برد ما تنازع فيه المسلمون إلى الله والرسول والرافضة لا تعتني بحفظ القرآن ومعرفة معانية وتفسيره وطلب الأدلة الدالة على معانيه ولا تعتنى أيضا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة صحيحه من سقيمه والبحث عن معانيه ولا تعتنى بآثار الصحابة والتابعين حتى تعرف مآخذهم ومسالكهم ويرد ما

5

164

تنازعوا فيه إلى الله ورسول بل عمدتها آثار تنقل عن بعض أهل البيت فيها صدق وكذب وقد أصلت لها ثلاثة أصول أحدها أن كل واحد من هؤلاء إمام معصوم بمنزلة النبي لا يقول إلا حقا ولا يجوز لأحد أن يخالفه ولا يرد ما ينازعه فيه غيره إلى الله والرسول فيقولون عنه ما كان هو وأهل بيته يتبرون منه والثاني أن كل ما يقوله واحد من هؤلاء فإنه قد علم منه أنه قال أنا أنقل كل ما أقوله عن النبي صلى الله عليه وسلم ويا ليتهم قنعوا بمراسيل التابعين كعلي بن الحسين بل يأتون إلى من تأخر زمانه كالعسكريين فيقولون كل ما قاله واحد من أولئك فالنبي قد قاله وكل من له عقل يعلم أن العسكريين بمنزلة أمثالهما ممن كان في زمانهما من الهاشميين ليس عندهم من العلم ما يمتازون به عن غيرهم ويحتاج إليهم فيه أهل العلم ولا كان أهل العلم يأخذون عنهم كما يأخذون عن علماء زمانهم وكما كان أهل العلم في زمن علي بن الحسين وابنه أبي جعفر وابن ابنه جعفر بن محمد فإن هؤلاء الثلاثة رضي الله عنهم قد أخذ أهل العلم عنهم كما كانوا يأخذون

5

165

عن أمثالهم بخلاف العسكريين ونحوهما فإنه لم يأخذ أهل العلم المعروفون بالعلم عنهم شيئا فيريدون أن يجعلوا ما قاله الواحد من هؤلاء هو قول الرسول الذي بعثه الله إلى جميع العالمين بمنزلة القرآن والمتواتر من السنن وهذا مما لا يبني عليه دينه إلا من كان من أبعد الناس عن طريقة أهل العلم والإيمان وأصلوا أصلا ثالثا وهو أن إجماع الرافضة هو إجماع العترة وإجماع العترة معصوم والمقدمة الأولى كاذبة بيقين والثانية فيها نزاع فصارت الأقوال التي فيها صدق وكذب على أولئك بمنزلة القرآن لهم وبمنزلة السنة المسموعة من الرسول وبمنزلة إجماع الأمة وحدها وكل عاقل يعرف دين الإسلام وتصور هذا فإنه يمجه أعظم مما يمج الملح الأجاج والعلقم لا سيما من كان له خبرة بطرق أهل العلم لا سيما مذاهب أهل الحديث وما عندهم من الروايات الصادقة التي لا ريب فيها عن المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى فإن هؤلاء جعلوا الرسول الذي بعثه الله إلى الخلق هو إمامهم المعصوم عنه يأخذون دينهم فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه والدين ما شرعه وكل قول يخالف قوله فهو مردود عند هم وإن كان الذي قاله من خيار المسلمين وأعلمهم وهو مأجور فيه على اجتهاده لكنهم لا يعارضون قول الله وقول رسوله بشيء أصلا لا نقل نقل عن غيره ولا رأي رآه غيره ومن سواه من أهل العلم فإنما هم وسائط في التبليغ عنه إما للفظ حديثه وإما لمعناه فقوم بلغوا ما سمعوا منه من قرآن وحديث وقوم

5

166

تفقهوا في ذلك عرفوا معناه وما تنازعوا فيه ردوه إلى الله والرسول فلهذا لم يجتمع قط أهل الحديث على خلاف قوله في كلمة واحدة والحق لا يخرج عنهم قط وكل ما اجتمعوا عليه فهو مما جاء به الرسول وكل من خالفهم من خارجي ورافضي ومعتزلي وجهمي وغيرهم من أهل البدع فإنما يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بل من خالف مذاهبهم في الشرائع العملية كان مخالفا للسنة الثابتة وكل من هؤلاء يوافقهم فيما خالف فيه الآخر فأهل الأهواء معهم بمنزلة أهل الملل مع المسلمين فإن أهل السنة في الإسلام كأهل الإسلام في الملل كما قد بسط في موضعه فإن قيل فإذا كان الحق لايخرج عن أهل الحديث فلم لم يذكر في أصول الفقه أن إجماعهم حجة وذكر الخلاف في ذلك كما تكلم على إجماع أهل المدينة وإجماع العترة قيل لأن أهل الحديث لا يتفقون إلا على ما جاء عن الله ورسوله وما هو منقول عن الصحابة فيكون الاستدلال بالكتاب والسنة وبإجماع الصحابة مغنيا عن دعوى إجماع ينازع في كونه حجة بعض الناس وهذا بخلاف من يدعي إجماع المتأخرين من أهل المدينة إجماعا فإنهم يذكرون ذلك في مسائل لا نص فيها بل النص على خلافها وكذلك المدعون إجماع العترة يدعون ذلك في مسائل لا نص معهم

5

167

فيها بل النص على خلافها فاحتاج هؤلاء إلى دعوى ما يدعونه من الإجماع الذي يزعمون أنه حجة وأما أهل الحديث فالنصوص الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هي عمد تهم وعليها يجمعون إذا أجمعوا لا سيما وأئمتهم يقولون لا يكون قط إجماع صحيح على خلاف نص إلا ومع الإجماع نص ظاهر معلوم يعرف أنه معارض لذلك النص الآخر فإذا كانوا لا يسوغون أن تعارض النصوص بما يدعى من إجماع الأمة لبطلان تعارض النص والإجماع عندهم فكيف إذا عورضت النصوص بما يدعى من إجماع العترة أو أهل المدينة وكل من سوى أهل السنة والحديث من الفرق فلا ينفرد عن أئمة الحديث بقول صحيح بل لا بد أن يكون معه من دين الإسلام ما هو حق وبسب ذلك وقعت الشبهة وإلا فالباطل المحض لا يشتبه على أحد ولهذا سمي أهل البدع أهل الشبهات وقيل فيهم إنهم يلبسون الحق بالباطل وهكذا أهل الكتاب معهم حق وباطل ولهذا قال تعالى لهم ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون سورة البقرة وقال أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض سورة البقرة وقال عنهم ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا سورة النساء وقال عنهم وإذا قيل لهم آمنوا

5

168

بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم سورة البقرة وذلك لأنهم ابتدعوا بدعا خلطوها بما جاءت به الرسل وفرقوا دينهم وكانوا شيعا فصار في كل فريق منهم حق وباطل وهم يكذبون بالحق الذي مع الفريق الآخر ويصدقون بالباطل الذي معهم وهذا حال أهل البدع كلهم فإن معهم حقا وباطلا فهم فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل فريق يكذب بما مع الآخر من الحق ويصدق بما معه من الباطل كالخوارج والشيعة فهؤلاء يكذبون بما ثبت من فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ويصدقون بما روي في فضائل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ويصدقون بما ابتدعوه من تكفيره وتكفير من يتولاه ويحبه وهؤلاء يصدقون بما روي في فضائل علي بن أبي طالب ويكذبون بما روي في فضائل أبي بكر وعمر ويصدقون بما ابتدعوه من التكفير والطعن في أبي بكر وعمر وعثمان ودين الإسلام وسط بين الأطراف المتجاذبة فالمسلمون وسط في التوحيد بين اليهود والنصارى فاليهود تصف الرب بصفات لنقص التي يختص بها المخلوق ويندبهون الخالق بالمخلوق كما قالوا إنه بخيل وإنه فقير وإنه لما خلق السموات والأرض تعب وهو سبحانه

5

169

الجواد الذي لا يبخل والغني الذي لا يحتاج إلى غيره والقادر الذي لا يمسه لغوب والقدرة والإرادة والغنى عما سواه هي صفات الكمال التي تستلزم سائرها والنصارى يصفون المخلوق بصفات الخالق التي يختص بها ويشبهون المخلوق بالخالق حيث قالوا إن الله هو المسيح بن مريم وإن الله ثالث ثلاثة وقالوا المسيح ابن الله واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون فالمسلمون وحدوا الله ووصفوه بصفات الكمال ونزهوه عن جميع صفات النقص ونزهوه عن أن يماثله شيء من المخلوقات في شيء من الصفات فهو موصوف بصفات الكمال لا بصفات النقص وليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله وكذلك في النبوات فاليهود تقتل بعض الأنبياء وتستكبر عن أتباعهم وتكذبهم وتتهمهم بالكبائر والنصارى يجعلون من ليس بنبي ولا رسول نبيا ورسولا كما يقولون في الحواريين إنهم رسل بل يطيعون أحبارهم ورهبانهم كما تطاع الأنبياء فالنصارى تصدق بالباطل واليهود تكذب بالحق ولهذا كان في مبتدعة أهل الكلام شبه من اليهود وفي مبتدعة أهل

5

170

التعبد شبه من النصارى فآخر أولئك الشك والريب وآخر هؤلاء الشطح والدعاوي الكاذبة لأن أولئك كذبوا بالحق فصاروا إلى الشك وهؤلاء صدقوا بالباطل فصاروا إلى الشطح فأولئك كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض وهؤلاء كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا فمبتدعة أهل العلم والكلام طلبوا العلم بما ابتدعوه ولم يتبعوا العلم المشروع ويعملوا به فانتهوا إلى الشك المنافي للعلم بعد أن كان لهم علم بالمشروع لكن زاغوا فأزاغ الله قلوبهم وكانوا مغضوبا عليهم ومبتدعة العباد طلبوا القرب من الله بما ابتدعوه في العبادة فلم يحصل لهم إلا البعد منه فإنه ما ازداد مبتدع اجتهادا إلا ازداد من الله تعالى بعدا والبعد عن رحمته هو اللعنة وهو غاية النصارى وأما الشرائع فاليهود منعوا الخالق أن يبعث رسولا بغير شريعة الرسول الأول وقالوا لا يجوز أن ينسخ ما شرعه والنصارى جوزوا لأحبارهم أن يغيروا من الشرائع ما أرسل الله بهم رسوله فأولئك عجزوا الخالق ومنعوه ما

5

171

تقتضيه قدرته وحكمته في النبوات والشرائع وهؤلاء جوزوا للمخلوق أن يغير ما شرعه الخالق فضاهوا المخلوق بالخالق وكذلك في العبادات فالنصارى يعبدونه ببدع ابتدعوها ما أنزل الله بها من سلطان واليهود معرضون عن العبادات حتى في يوم السبت الذي أمرهم الله أن يتفرغوا فيه لعبادته إنما يشتغلون فيه بالشهوات فالنصارى مشركون به واليهود مستكبرون عن عبادته والمسلمون عبدوا الله وحده بما شرع ولم يعبدوه بالبدع وهذا هو دين الإسلام الذي بعث الله به جميع النبيين وهو أن يستسلم العبد لله لا لغيره وهو الحنيفية دين إبراهيم فمن استسلم له ولغيره كان مشركا ومن لم يستسلم له فهو مستكبر وقد قال تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء سورة النساء وقال إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين سورة غافر وكذلك في أمر الحلال والحرام في الطعام واللباس وما يدخل في ذلك من النجاسات فالنصارى لا تحرم ما حرمه الله ورسوله ويستحلون الخبائث المحرمه كالميتة والدم ولحم الخنزير حتى أنهم يتعبدون بالنجاسات كالبول والغائط ولا يغتسلون من جنابة ولا يتطهرون للصلاة وكلما كان الراهب عندهم أبعد عن الطهارة وأكثر ملابسة للنجاسة كان معظما عندهم

5

172

واليهود حرمت عليهم طيبات أحلت لهم فهم يحرمون من الطيبات ما هو منفعة للعباد ويجتنبون الأمور الطاهرات مع النجاسات فالمرأة الحائض لا يأكلون معها ولا يجالسونها فهم في آصار وأغلال عذبوا بها فأولئك يتناولون الخبائث المضرة مع أن الرهبان يحرمون على أنفسهم طيبات أحلت لهم فيحرمون الطيبات ويباشرون النجاسات وهؤلاء يحرمون الطيبات النافعة مع أنهم من أخبث الناس قلوبا وأفسدهم بواطن وطهارة الظاهر إنما يقصد بها طهارة القلب فهم يطهرون ظواهرهم وينجسون قلوبهم وكذلك أهل السنة في الإسلام متوسطون في جميع الأمور فهم في علي وسط بين الخوارج والروافض وكذلك في عثمان وسط بين المرواينة وبين الزيدية وكذلك في سائر الصحابة وسط بين الغلاة فيهم والطاعنين عليهم وهم في الوعيد وسط بين الخوارج والمعتزلة وبين المرجئة وهم في القدر وسط بين القدرية من المعتزلة ونحوهم وبين القدرية المجبرة من الجهمية ونحوهم وهم في الصفات وسط بين المعطلة وبين الممثلة والمقصود أن كل طائفة سوى أهل السنة والحديث المتبعين آثار

5

173

رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينفردون عن سائر طوائف الأمة إلا بقول فاسد لا ينفردون قط بقول صحيح وكل من كان عن السنة أبعد كان انفراده بالأقوال والأفعال الباطلة أكثر وليس في الطوائف المنتسبين إلى السنة أبعد عن آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرافضة فلهذا تجد فيما انفردوا به عن الجماعة أقوالا في غاية الفساد مثل تأخيرهم صلاة المغرب حتى يطلع الكوكب مضاهاة لليهود وقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بتعجيل المغرب ومثل صومهم قبل الناس بيومين وفطرهم قبل الناس بيومين مضاهاة لمبتدعة أهل الكتاب الذين عدلوا عن الصوم بالهلال إلى الإجتماع وجعلوا الصوم بالحساب وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إنا أمة أمية لا تحسب ولا تكتب إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له وفي رواية فأكملوا العدة

5

174

ومثل تحريمهم بعض أنواع السمك مضاهاة لليهود في تحريم الطيبات ومثل معاونة الكفار على قتال المسلمين وترغيب الكفار في قتال المسلمين وهذا لا يعرف لأحد من فرق الأمة ومثل تنجيس المائعات التي يباشرها أهل السنة وهذا من جنس دين السامرة وهم رافضة اليهود هم في اليهود كالرافضة في المسلمين والرافضة تشابههم من وجوه كثيرة فإن السامرة لا تؤمن بنبي بعد موسى وهارون غير يوشع وكذلك الرافضة لا تقر لأحد من الخلفاء والصحابة بفضل ولا إمامة إلا لعلي والسامرة تنجس وتحرم ما باشره غيرهم من المائعات وكذلك الرافضة والسامرة لا يأكلون إلا ذبائح أنفسهم وكذلك الرافضة فإنهم يحرمون ذبائح أهل الكتاب ويحرم أكثرهم ذبائح الجمهور لأنهم مرتدون عندهم وذبيحة المرتد لا تباح والسامرة فيهم كبر ورعونة وحمق ودعاو كاذبة مع القلة والذلة وكذلك الرافضة

5

175

والرافضة تجعل الصلوات الخمس ثلاث صلوات فيصلون دائما الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا وهذا لم يذهب إليه غيرهم من فرق الأمة وهو يشبه دين اليهود فإن الصلوات عندهم ثلاث وغلاة العباد يوجبون على أصحابهم صلاة الضحى والوتر وقيام الليل فتصير الصلاة عندهم سبعا وهو دين النصارى والرافضة لا تصلي جمعة ولا جماعة لا خلف أصحابهم ولا غير أصحابهم ولا يصلون إلا خلف المعصوم ولا معصوم عندهم وهذا لا يوجد في سائر الفرق أكثر مما يوجد في الرافضة فسائر أهل البدع سواهم لا يصلون الجمعة والجماعة إلا خلف أصحابهم كما هو دين الخوارج والمعتزلة وغيرهم وأما أنهم لا يصلون ذلك بحال فهذا ليس إلا للرافضة ومن ذلك أنهم لا يؤمنون في الصلاة هم أو بعضهم وهذا ليس لأحد من فرق الأمة بل هو دين اليهود فإن اليهود حسدوا المؤمنين على التأمين وقد حكى طائفة عن بعضهم أنه يحرم لحم الإبل وكان ذلك لركوب عائشة على الجمل وهذا من أظهر الكفر وهو من جنس دين اليهود

5

176

وكثير من عوامهم يقول إن الطلاق لا يكون إلا برضا المرأة وعلماؤهم ينكرون هذا وهذا لم يقله أحد غيرهم وهم يقولون بإمام منتظر موجود غائب لا يعرف له عين ولا أثر ولا يعلم بحس ولا خبر لا يتم الإيمان إلا به ويقولون أصول الدين أربعة التوحيد والعدل والنبوة والإمامة وهذا منتهى الإمام عندهم الإيمان بأنه معصوم غائب عن الأبصار كائن في الأمصار سيخرج الدينار من قعر البحار يطبع الحصى ويورق العصا دخل سرداب سامرا سنة ستين ومائتين وله من العمر إما سنتان وإما ثلاث وإما خمس أو نحو ذلك فإنهم مختلفون في قدر عمره ثم إلى الآن لم يعرف له خبر ودين الخلق مسلم إليه فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه والدين ما شرعه ولم ينتفع به أحد من عباد الله وكذلك كراهتهم لأسماء نظير أسماء من يبغضونه ومحبتهم لأسماء نظير أسماء من يحبونه من غير نظر إلى المسمى وكراهتهم لأن يتكلم أو يعمل بشيء عدده عشرة لكراهتهم نفرا عشرة واشتفاؤهم ممن

5

177

يبغضونه كعمر وعائشة وغيرهما بأن يقدروا جمادا كالحيس أو حيوانا كالشاة الحمراء أنه هو الذي يعادونه ويعذبون تلك الشاة تشفيا من العدو من الجهل البليغ الذي لم يعرف عن غيرهم وكذلك إقامة المآتم والنوائح ولطم الخدود وشق الجيوب وفرش الرماد وتعليق المسوح وأكل المالح حتى يعطش ولا يشرب ماء تشبها بمن ظلم وقتل وإقامة مأتم بعد خمسمائة أو ستمائة سنة من قتله لا يعرف لغيرهم من طوائف الأمة ومفاريد الرافضة التي تدل على غاية الجهل والضلال كثيرة لم نقصد ذكرها هنا لكن المقصود أن كل طائفة سوى أهل السنة والحديث المتبعين لآثار النبي صلى الله عليه وسلم لا ينفردون عن سائر الطوائف بحق والرافضة أبلغ في ذلك من غيرهم وأما الخوارج والمعتزلة والجهمية فإنهم أيضا لم ينفردوا عن أهل السنة والجماعة بحق بل كل ما معهم من الحق ففي أهل السنة من يقول به لكن لم يبلغ هؤلاء من قلة العقل وكثرة الجهل ما بلغت الرافضة

5

178

وكذلك الطوائف المنتسبون إلى السنة من أهل الكلام والرأي مثل الكلابية والأشعرية والكرامية والسالمية ومثل طوائف الفقه من الحنفية والمالكية والسفيانية والأوزاعية والشافعية والحنبلية والداوودية وغيرهم مع تعظيم الأقوال المشهورة عن أهل السنة والجماعة لا يوجد لطائفة منهم قول انفردوا به عن سائر الأمة وهو صواب بل ما مع كل طائفة منهم من الصواب يوجد عند غيرهم من الطوائف وقد ينفردون بخطأ لا يوجد عند غيرهم لكن قد تنفرد طائفة بالصواب عمن يناظرها من الطوائف كأهل المذاهب الأربعة قد يوجد لكل واحد منهم أقوال انفرد بها وكان الصواب الموافق للسنة معه دون الثلاثة لكن يكون قوله قد قاله غيره من الصحابة والتابعين وسائر علماء الأمة بخلاف ما انفردوا به ولم ينقل عن غيرهم فهذا لا يكون إلا خطأ وكذلك أهل الظاهر كل قول انفردوا به عن سائر الأمة فهو خطأ وأما ما انفردوا به عن الأربعة وهو صواب فقد قاله غيرهم من السلف وأما الصواب الذي ينفرد به كل طائفة من الثلاثة فكثير لكن الغالب أنه يوافقه عليه بعض أتباع الثلاثة وذلك كقول أبي حنيفة بأن المحرم يجوز له أن يلبس الخف المقطوع وما أشبهه كالجمجم والمداس وهو وجه في مذهب أحمد وغيره وقوله بأن الجد يسقط الإخوة وقد وافقه عليه بعض أصحاب الشافعي وأحمد كقوله بأن طهارة المسح

5

179

يشترط لها دوام الطهارة دون ابتدائها وقوله إن النجاسة تزول بكل ما يزيلها وهذا أحد الأقوال الثلاثة في مذهب أحمد ومذهب مالك وكذلك قوله بأنها تطهر بالاستحالة ومثل قول مالك بأن الخمس مصرفة مصرف الفيء وهو قول في مذهب أحمد فإنه عنه روايتان في خمس الركاز هل يصرف مصرف الفيء أو مصرف الزكاة وإذا صرف مصرف الفيء فإنما هو تابع لخمس الغنيمة ومثل قوله بجواز أخذ الجزية من كل كافر جازت معاهدته لا فرق بين العرب والعجم ولا بين أهل الكتاب وغيرهم فلا يعتبر قط أمر النسب بل الدين في الذمة والإسترقاق وحل الذبائح والمناكح وهذا أصح الأقوال في هذا الباب وهو أحد القولين في مذهب أحمد فإنه لا يخالفه إلا في أخذ الجزية من مشركي العرب ولم يبق من مشركي العرب أحد بعد نزول آية الجزية بل كان جميع مشركي العرب قد أسلموا ومثل قول مالك إن أهل مكة يقصرون الصلاة بمنى وعرفة وهو قول في مذهب أحمد وغيره ومثل مذهبه في الحكم بالدلائل والشواهد وفي إقامة الحدود

5

180

ورعاية مقاصد الشريعة وهذا من محاسن مذهبه ومذهب أحمد قريب من مذهبه في أكثر ذلك ومثل قول الشافعي بأن الصبي إذا صلى في أول الوقت ثم بلغ لم يعد الصلاة وكثير من الناس يعيب هذا على الشافعي وغلطوا في ذلك بل الصواب قوله كما بسط في موضعه وهو وجه في مذهب أحمد وقوله بفعل ذوات الأسباب في وقت النهي وهو إحدى الروايتين عن أحمد وكذلك قوله بطهارة المني كقول أحمد في أظهر الروايتين ومثل قول أحمد في نكاح البغي لا يجوز حتى تتوب وقوله بأن الصيد إذا جرح ثم غاب أنه يؤكل ما لم يوجد فيه أثر آخر وهو قول في مذهب الشافعي وقوله بأن صوم النذر يصام عن الميت بل وكل المنذورات تفعل عن الميت ورمضان يطعم عنه وبعض الناس يضعف هذا القول وهو قول الصحابة ابن عباس وغيره ولم يفهموا غوره وقوله إن المحرم إذا لم يجد النعلين والإزار لبس الخفين والسراويل بلا قطع ولا فتق فإن هذا كان آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم

5

181

وقوله بأن مرور المرأة والكلب الأسود والحمار يقطع الصلاة وقوله بأن الجدة ترث وابنها حي وقوله بصحة المساقاة والمزارعة وما أشبه ذلك وإن كان البذر من العامل على إحدى الروايتين عنه وكذلك طائفة من أصحاب الشافعي وقوله في إحدى الروايتين إن طلاق السكران لا يقع وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة والشافعي وقوله بأن الوقف إذا تعطل نفعه بيع واشتري به ما يقوم مقامه وفي مذهب أبي حنيفة ما هو أقرب إلى قول أحمد من غيره وكذلك في مذهب مالك وكذلك قوله في إبدال الوقف كإبدال مسجد بغيره ويجعل الأول غير مسجد كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفي مذهب أبي حنيفة ومالك جواز الإبدال للحاجة في مواضع وقوله بقبول شهادة العبد وقوله بأن صلاة المنفرد خلف الصف يجب عليه فيها الإعادة وقوله إن فسخ الحج إلى العمرة جائز مشروع بل هو أفضل وقوله بأن القارن إذا ساق الهدي فقرانه أفضل من التمتع والإفراد كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ومثل قوله إن صلاة الجماعة فرض على الأعيان

5

182

وبالجملة فما اختص به كل إمام من المحاسن والفضائل كثير ليس هذا موضع استقصائه فإن المقصود أن الحق دائما مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثاره الصحيحة وإن كان كل طائفة تضاف إلى غيره إذا انفردت بقول عن سائر الأمة لم يكن القول الذي انفردوا به إلا خطأ بخلاف المضافين إليه أهل السنة والحديث فإن الصواب معهم دائما ومن وافقهم كان الصواب معه دائما لموافقته إياهم ومن خالفهم فإن الصواب معهم دونه في جميع أمور الدين فإن الحق مع الرسول فمن كان أعلم بسنته وأتبع لها كان الصواب معه وهؤلاء هم الذين لا ينتصرون إلا لقوله ولا يضافون إلا إليه وهم أعلم الناس بسنته وأتبع لها وأكثر سلف الأمة كذلك لكن التفرق والاختلاف كثير في المتأخرين والذين رفع الله قدرهم في الأمة هو بما أحيوه من سنته ونصرته وهكذا سائر طوائف الأمة بل سائر طوائف الخلق كل حير معهم فيما جاءت به الرسل عن الله وما كان معهم من خطأ أو ذنب فليس من جهة الرسل ولهذا كان الصحابة إذا تكلموا في مسألة باجتهادهم قال أحدهم أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه كما قال أبو بكر رضي الله عنه في الكلالة وكما قال ابن مسعود في المفوضة إذا مات عنها زوجها وكلاهما أصاب فيما قاله برأيه لكن قال الحق فإن القول إذا كان

5

183

صوابا فهو مما جاء به الرسول عن الله فهو من الله وإن كان خطأ فالله لم يبعث الرسول بخطأ فهو من نفسه ومن الشيطان لا من الله ورسوله والمقصود بالإضافة إليه الإضافة إليه من جهة إلاهيته من جهة الأمر والشرع وال وأنه يحبه ويرضاه ويثيب فاعله عليه وأما من جهة الخلق فكل الأشياء منه والناس لم يسألوا الصحابة عما من الله خلقا وتقديرا فقد علموا أن كل ما وقع فمنه والعرب كانت في جاهليتها تقر بالقضاء والقدر قال ابن قتيبة وغيره ما زالت العرب في جاهليتها وإسلامها مقر بالقدر وقد قال عنترة يا عبل أين من المنية مهرب إن كان ربي في السماء قضاها وإنما كان سؤال الناس عما من الله من جهة أمره ودينه وشرعه الذي يرضاه ويحبه ويثيب أهله وقد علم الصحابة أن ما خالف الشرع والدين فإنه يكون من النفس والشيطان وإن كان بقضاء الله وقدره وإن كان يعفى عن صاحبه كما يعفى عن النسيان والخطأ ونسيان الخير يكون من الشيطان كما قال تعالى وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين سورة الأنعام وقال فتى موسى صلى الله عليه وسلم وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره سورة الكهف وقال فأنساه الشيطان ذكر ربه سورة يوسف

5

184

ولما نام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الوادي عن الصلاة قال هذا واد حضرنا فيه الشيطان وقال إن الشيطان أتى بلالا فجعل يهديه كما يهدي الصبي حتى نام فإنه كان وكل بلالا أن يكلأ لهم الصبح مع قوله ليس في النوم تفريط وقال إن الله قبض

5

185

أرواحنا وقال له بلال أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك وقال من نام عن صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك ومع قوله تعالى عن المؤمنين ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا سورة البقرة قال تعالى قد فعلت وكذلك الخطأ في الإجتهاد من النفس والشيطان وإن كان مغفورا لصاحبه وكذلك الإحتلام في المنام من الشيطان وفي الصحيحين عنه أنه قال الرؤيا ثلاثة رؤيا من الله ورؤيا من الشيطان ورؤيا مما يحدث به المرء نفسه في اليقظة فيراه في المنام فالنائم يرى في منامه ما يكون من الشيطان وهو كما قال صلى الله عليه وسلم رفع

5

186

القلم عن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق وعن الصبي حتى يحتلم وأعذرهم النائم ولهذا لم يكن لشىء من أقواله التي تسمع منه في المنام حكم باتفاق العلماء فلو طلق أو أعتق أو تبرع أو غير ذلك في منامه كان لغوا بخلاف الصبي المميز فإن أقواله قد تعتبر إما بإذن الولي وإما بغير إذنه في مواضع بالنص وفي مواضع بالإجماع وكذلك الوسواس في النفس يكون من الشيطان تارة ومن النفس تارة قال تعالى ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه سورة ق وقال فوسوس إليه الشيطان سورة طه وقال فوسوس لهما الشيطان فأخرجهما مما كانا فيه سورة الأعراف والوسوسة من جنس الوشوشة بالشين المعجمة ومنه وسوسة الحلى وهو الكلام الخفي والصوت الخفي

5

187

وقد قال تعالى قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس سورة الناس وقد قيل إن المعنى من الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة ومن الناس وأنه جعل الناس أولا تتناول الجنة والناس فسماهم ناسا كما سماهم رجالا قاله الفراء وقيل المعنى من شر الموسوس في صدور الناس من الجن ومن شر الناس مطلقا قاله الزجاج ومن المفسرين كأبي الفرج بن الجوزى من لم يذكر غيرهما وكلاهما ضعيف والصحيح أن المراد القول الثالث وهو أن الإستعاذة من شر الموسوس من الجنة ومن الناس في صدور الناس فأمر بالإستعاذة من شر شياطين الإنس والجن كما قال تعالى وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون سورة الأنعام وفي حديث أبي ذر الطويل الذي رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه

5

188

بطوله قال يا أبا ذر تعوذ بالله من شياطين الإنس والجن فقال يا رسول الله أو للإنس شياطين قال نعم شر من شياطين الجن وقد قال تعالى وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون سورة البقرة والمنقول عن عامة المفسرين أن المراد شياطين الإنس وما علمت أحدا قال إنهم شياطين الجن فعن ابن مسعود وابن عباس والحسن والسدي أنهم رؤوسهم في الكفر وعن أبي العالية ومجاهد إخوانهم من المشركين وعن الضحاك وابن السائب كهنتهم والآية تتناول هذا كله وغيره ولفظها يدل على أن المراد شياطين الإنس لأنه قال وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم سورة البقرة ومعلوم أن شيطان الجن معهم لما لقوا الذين آمنوا لا يحتاج أن يخلوا به وشيطان الجن هو

5

189

الذي أمرهم بالنفاق ولم يكن ظاهرا حتى يخلوا معهم ويقول إنا معكم لا سيما إذا كانوا يظنون أنهم على حق كما قال تعالى وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون سورة البقرة ولو علموا أن الذي يأمرهم بذلك شيطان لم يرضوه وقد قال الخليل بن أحمد كل متمرد عند العرب شيطان وفي اشتقاقه قولان أصحهما أنه من شطن يشطن إذا بعد عن الخير والنون أصلية قال أمية بن أبي الصلت في صفة سليمان عليه السلام أيما شاطن عصاه عكاه ثم يلقى في السجن والأغلال عكاه أوثقه وقال النابغة نأت بسعاد عنك نوى شطون فبانت والفؤاد بها رهين ولهذا قرنت به اللعنة فإن اللعنة هي البعد من الخير والشيطان بعيد من الخير فيكون وزنه فيعالا وفيعال نظير فعال وهو من صفات المبالغة مثل القيام والقوام فالقيام فيعال والقوام فعال ومثل العياذ والعواذ وفي قراءة عمر الحي القيام

5

190

فالشيطان المتصف بصفة ثابتة قوية في كثرة البعد عن الخير بخلاف من بعد عنه مرة وقرب منه أخرى فإنه لا يكون شيطانا ومما يدل على ذلك قولهم تشيطن يتشيطن شيطنة ولو كان من شاط يشيط لقيل تشيط يتشيط والذي قال هو من شاط يشيط إذا احترق والتهب جعل النون زائدة وقال وزنه فعلان كما قال الشاعر وقد يشيط على أرماحنا البطل وهذا يصح في الإشتقاق الأكبر الذي يعتبر فيه الإتفاق في جنس الحروف كما يروى عن أبي جعفر أنه قال العامة مشتق من العمى ما رضى الله أن يشبههم بالأنعام حتى قال بل هم أضل سبيلا وهذا كما يقال السرية مأخوذة من السر وهو النكاح ولو جرت على القياس لقيل سريرة فإنها على وزن فعيلة ولكن العرب تعاقب بين الحرف المضاعف والمعتل كما يقولون تقضي البازي وتقضض قال الشاعر تقضى البازى إذا البازى كسر ومنه قوله تعالى فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه سورة البقرة وهذه الهاء تحتمل أن تكون أصلية فجزمت بلم ويكون من سانهت وتحتمل أن تكون هاء السكت كالهاء من كتابيه

5

191

وحسابيه واقتده وماليه وسلطانيه وأكثر القراء يثبتون الهاء وصلا ووقفا وحمزة والكسائي يحذفانها من الوصل هنا ومن اقتده فعلى قراءتهما يجب أن تكون هاء السكت فإن الأصلية لا تحذف فتكون لفظة لم يتسن كما تقول لم يتغن وتكون مأخوذة من قولهم تسنى يتسنى وعلى الإحتمال الآخر تكون من تسنه يتسنه والمعنى واحد قال ابن قتيبة أى لم يتغير بمر السنين عليه قال واللفظ مأخوذ من السنه يقال سانهت النخلة إذا حملت عاما وحالت عاما فذكر ابن قتيبة لغة من جعل الهاء أصلية وفيها لغتان يقال عاملته مسانهة ومساناة ومن الشواهد لما ذكره ابن قتيبه قول الشاعر فليست بسنهاء ولا رجبية ولكن عرايا في السنين الجوائح يمدح النخلة والمقصود مدح صاحبها بالجود فقال إنه يعريها لمن يأكل ثمرها لا يرجبها لتخلية ثمرها ولا هي بسنهاء والمفسرون من أهل اللغة يقولون في الآية معناه لم يتغير وأما لغة من قال إن أصله سنوة فهي مشهورة ولهذا يقال في جمعها سنوات

5

192

ويشابهه في الإشتقاق الأكبر الماء الآسن وهو المتغير المنتن ويشابهه في الإستقاق الأصغر الحمأ المسنون فإنه من سن يقال سننت الحجر على الحجر إذا حككته والذي يسيل بينهما سنن ولا يكون إلا منتنا وهذا أصح من قول من يقول المسنون المصبوب على سنة الوجه أو المصبوب المفرغ أي أبدع صورة الإنسان فإن هذا أنما كان بعد أن خلق من الحمأ المسنون ونفس الحمأ لم يكن على صورة الإنسان ولا صورة وجه ولكن المراد المنتن فقوله لم يتسنه بخلاف قوله ماء غير آسن سورة محمد فإنه من قولهم أسن يأسن فهذا من جنس الاشتقاق الأكبر لاشتراكهما في السين والنون والنون الأخرى والهمزة والهاء متقاربتان فإنهما حرفا حلق وهذا باب واسع والمقصود أن اللفظين إذا اشتركا في أكثر الحروف وتفاوتا في بعضها قيل أحدهما مشتق من الآخر وهو الإشتقاق الأكبر والأوسط أن يشتركا في الحروف لا في ترتيبها كقول الكوفيين الإسم مشتق من السمة والإشتقاق الأصغر الخاص الإشتراك في الحروف وترتيبها وهو المشهور كقولك علم يعلم فهو عالم

5

193

وعلى هذا فالشيطان مشتق من شطن وعلى الإشتقاق الأكبر هو من باب شاط يشيط لأنهما اشتركا في الشين والطاء والنون والياء متقاربتان فهو سبحانه أمر في سورة الناس بالإستعاذة من شر الوسواس من الجنة والناس الذي يوسوس في صدور الناس ويدخل في ذلك وسوسة نفس الإنسان له ووسوسة غيره له والقول في معنى الآية مبسوط في مصنف مفرد والمقصود هنا أنه قد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وابن عباس أن العبد إذا هم بخطيئة لم تكتب عليه فإن تركها لله كتبت له حسنة كاملة فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة وأنه إذا هم بحسنة كتبت له حسنه كاملة فإن عملها كتبت له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة

5

194

وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين فإذا قضى التأذين أقبل فإذا ثوب بالصلاة أدبر يعني الإقامة فإذا قضى التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه يقول اذكر كذا اذكر كذا لما لم يكن يذكر حتى يضل الرجل إن يدري كم صلى فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين

5

195

فقد أخبر أن هذا التذكير والوسواس من الشيطان وأنه ينسيه حتى لا يدري كم صلى وأمره بسجدتي السهو ولم يؤثمه بذلك والوسواس الخفيف لا يبطل الصلاة باتفاق العلماء وأما إذا كان هو الأغلب فقيل عليه الإعادة وهو اختيار أبي عبد الله بن حامد والصحيح الذي عليه الجمهور وهو المنصوص عن أحمد وغيره أنه لا إعادة عليه فإن حديث أبي هريرة عام مطلق في كل وسواس ولم يأمر بالإعادة لكن ينقص أجره بقدر ذلك قال ابن عباس ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها وفي السنن عن عمار بن ياسر أنه صلى صلاة فخففها فقيل له في ذلك فقال هل نقصت منها شيئا قالوا لا قال فإني بدرت الوسواس وإن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الرجل لينصرف من صلاته ولم يكتب له منها إلا عشرها إلا تسعها إلا ثمنها حتى قال إلا نصفها وهذا الحديث حجة على ابن حامد فإن أدنى ما ذكر نصفها وقد ذكر إنه يكتب له عشرها وأداء الواجب له مقصودان أحدهما براءة الذمة بحيث يندفع عنه الذم والعقاب المستحق بالترك فهذا لا تجب معه الإعادة فإن الإعادة يبقى مقصودها حصول ثواب مجرد وهو شأن

5

196

التطوعات لكن حصول الحسنات الماحية للسيئات لا يكون إلا مع القبول الذي عليه الثواب فبقدر ما يكتب له من الثواب يكفر عنه به من السيئات الماضية وما لا ثواب فيه لا يكفر وإن برئت به الذمة كما في الحديث المأثور رب صائم ليس حظه من صيامه إلا الجوع والعطش ورب قائم حظه من قيامه السهر يقول إنه تعب ولم يحصل له منفعة لكن برئت ذمته فسلم من العقاب فكان على حاله لم يزدد بذلك خيرا والصوم إنما شرع لتحصيل التقوى كما قال تعالى يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات سورة البقرة وقال النبي صلى الله عليه وسلم الصيام جنة فإذا كان أحدكم

5

197

صائما فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل إني صائم وفيها ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره قيل يقول في نفسه فلا يرد عليه وقيل يقول بلسانه وقيل يفرق بين الفرض فيقول بلسانه والنفل يقول في نسفه فإن صوم الفرض مشترك والنفل يخاف عليه من الرياء والصحيح أنه يقول بلسانه كما دل عليه الحديث فإن القول المطلق لا يكون إلا باللسان وأما ما في النفس فمقيد كقوله عما حدثت به أنفسها ثم قال ما لم تتكلم أو تعمل به فالكلام المطلق إنما هو الكلام المسموع وإذا قال بلسانه إني صائم بين عذره في إمساكه عن الرد وكان أزجر لمن بدأه بالعدوان وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه بين

5

198

صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى لم يحرم على الصائم الأكل لحاجته إلى ترك الطعام والشراب كما يحرم السيد على عبيده بعض ماله بل المقصود محبة الله تعالى وهو حصول التقوى فإذا لم يأت به فقد أتى بما ليس فيه محبة ورضا فلا يثاب عليه ولكن لا يعاقب عقوبة التارك والحسنات المقبوله تكفر السيئات ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر ولو كفر الجميع بالخمس لم يحتج إلى الجمعة لكن التكفير بالحسنات المقبولة وغالب الناس لا يكتب له من الصلاة إلا بعضها فيكفر ذلك بقدره والباقي يحتاج إلى تكفير ولهذا جاء من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من أعماله الصلاة فإن أكملت وإلا قيل انظروا هل له من تطوع فإن كان له تطوع أكملت به الفريضة ثم يصنع في سائر الأعمال كذلك

5

199

وتكميل الفرائض بالتطوع مطلق فإنه يكون يوم القيامة يوم الجزاء فإنه إذا ترك بعض الواجبات استحق العقوبة فإذا كان له من جنسه تطوع سد مسده فلا يعاقب وإن كان ثوابه ناقصا وله تطوع سد مسده فكمل ثوابه وهو في الدنيا يؤمر بأن يعيد حيث تمكن إعادة ما فعله ناقصا من الواجبات أو يجبره بما ينجبر به كسجدتي السهو في الصلاة وكالدم الجابر لما تركه من الواجبات الحج ومثل صدقة الفطر التي فرضت طهرة للصائم من اللغو والرفث وذلك لأنه إذا أمكنه أن يأتي بالواجب كان ذلك عليه ولم يكن قد برئ من عهدته بل هو مطلوب به كما لو لم يفعله بخلاف ما إذا تعذر فعله يوم الجزاء فإنه لم يبق هناك إلا الحسنات ولهذا كان جمهور العلماء على أن من ترك واجبا من واجبات الصلاة

5

200

عمدا فعليه إعادة الصلاة ما دام يمكن فعلها وهو إعادتها في الوقت هذا مذهب مالك والشافعي وأحمد لكن مالك وأحمد يقولان قد يجب فيها ما يسقط بالسهو ويكون سجود السهو عوضا عنه وسجود السهو واجب عندهما وأما الشافعي فيقول كل ما وجب بطلت الصلاة بتركه عمدا أو سهوا وسجود السهو عنده ليس بواجب فإن ما صحت الصلاة مع السهو عنه لم يكن واجبا ولا مبطلا والأكثرون يوجبون سجود السهو كمالك وأبي حنيفة وأحمد ويقولون قد أمر به النبي صلى الله عليه وسلم والأمر يقتضي الإيجاب ويقولون الزيادة في الصلاة لو فعلها عمدا بطلت الصلاة بالإتفاق مثل أن يزيد ركعة خامسة عمدا أو يسلم عمدا قبل إكمال الصلاة ثم إذا فعله سهوا سجد للسهو بالسنة والإجماع فهذا سجود لما تصح الصلاة مع سهوة دون عمده وكذلك ما نقصه منها فإن السجود يكون للزيادة تارة وللنقص أخرى كسجود النبي صلى الله عليه وسلم لما ترك التشهد الأول ولو فعل ذلك أحد عمدا بطلت صلاته عند مالك وأحمد وأما أبو حنيفة فيوجب في الصلاة ما لا تبطل بتركه لا عمدا ولا سهوا ويقول هو مسيء بتركه كالطمأنينة وقراءة الفاتحة

5

201

وهذا مما نازعه فيه الأكثرون وقالوا من ترك الواجب عمدا فعليه الإعادة الممكنة لأنه لم يفعل ما أمر به وهو قادر على فعله فلا يسقط عنه وقد أخرجا في الصحيحين حديث المسيء في صلاته لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم ارجع فصل فإنك لم تصل وأمره بالصلاة التي فيها طمأنينة فدل هذا الحديث الصحيح على أن من ترك الواجب لم يكن ما فعله صلاة بل يؤمر بالصلاة والشارع صلى الله عليه وسلم لا ينفي الإسم إلا لانتفاء بعض واجباته فقوله فإنك لم تصل لأنه ترك بعض واجباتها ولم تكن صلاته تامة مقامة الإقامة المأمور بها في قوله تعالى فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة سورة النساء فقد أمر بإتمامها ولهذا لما أمر بإتمام الحج والعمره بقوله وأتموا الحج والعمرة لله

5

202

سورة البقرة ألزم الشارع فيهما فعل جميع الواجبات فإذا ترك بعضها فلا بد من الجبران فعلم أنه إن لم يأت بالمأمور به تاما التمام الواجب وإلا فعليه ما يمكن من إعادة أو جبران وكذلك أمر الذي رآه يصلي خلف الصف وحده أن يعيد وقال لا صلاة لفذ خلف الصف وقد صححه أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وابن حزم وغيرهم من علماء الحديث فإن قيل ففي حديث المسيء الذي رواه أهل السنن من حديث

5

203

رفاعة بن رافع أنه جعل ما تركه من ذلك يؤاخذ بتركه فقط ويحسب له ما فعل ولا يكون كمن لم يصل قيل وكذلك نقول من فعلها وترك بعض واجباتها لم يكن بمنزلة من لم يأت بسيء منها بل يثاب على ما فعل ويعاقب على ما ترك وإنما يؤمر بالإعادة لدفع عقوبة ما ترك وترك الواجب سبب للعقاب فإذا كان يعاقب على ترك البعض لزمه أن يفعلها فإن كان له جبران أو أمكن فعله وحده وإلا فعله مع غيره فإنه لا يمكن فعله مفردا فإن قيل فإذا لم يكن فعله مفردا طاعة لم يثب عليه أولا قيل هو أولى فعله ولم يكن يعلم أنه لا يجوز أو كان ساهيا كالذي يصلي بلا وضوء أو يسهو عن القراءة والسجود المفروض فيثاب على ما فعل ولا يعاقب بنسيانه وخطئه لكن يؤمر بالإعادة لأنه لم يفعل ما أمر به أولا كالنائم إذا استيقظ في الوقت فإنه يؤمر بالصلاة لأنها واجبة عليه في وقتها إذا أمكن وإلا صلاها أي وقت استيقظ فإنه حينئذ يؤمر بها وأما إذا أمر بالإعادة فقد علم أنه لا يجوز فعل ذلك مفردا فلا يؤمر به مفردا

5

204

فإن قيل فلو تعمد أن يفعلها مع ترك الواجبات التي يعلم وجوبها قيل هذا مستحق للعقاب فإنه عاص بهذا الفعل وهذا قد يكون إثمه كإثم التارك وإن قدر أن هذا قد يثاب فإنه لا يثاب عليه ثواب من فعله مع غيره كما أمر به بل أكثر ما يقال إن له عليه ثوابا بحسبه لكن الذي يعرف أنه إذا لم يكن يعرف أن هذا واجب أو منهي عنه فإنه يثاب على ما فعله قال الله تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره سورة الزلزلة والقرآن وذكر الله ودعاؤه خير وإلا فالمسلم لا يصلى إلى غير قبلة أو بغير وضوء أو ركوع أو سجود ومن فعل ذلك كان مستحقا للذم والعقاب ومع هذا فقد يمكن إذا فعل ذلك مع اعترافه بأنه مذنب لا على طريق الإستهانة والإستهزاء والإستخفاف بل على طريق الكسل أن يثاب على ما فعله كمن ترك واجبات الحج المجبورة بدم لكن لا يكون ثوابه كما إذا فعل ذلك مع غيره على الوجه المأمور به وبهذا يتبين الجواب عن شبهة أهل البدع من الخوارج والمرجئة وغيرهم ممن يقول إن الإيمان لا يتبعض ولا يتفاضل ولا ينقص قالوا لأنه إذا ذهب منه جزء ذهب كله لأن الشيء المركب من أجزاء

5

205

متى ذهب منه جزء ذهب كله كالصلاة إذا ترك منها واجبا بطلت ومن هذا الأصل تشعبت بهم الطرق وأما الصحابة وأهل السنة والحديث فقالوا إنه يزيد وينقص كما قال النبي صلى الله عليه وسلم يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان

5

206

وعلى هذا فنقول إذا نقص شيء من واجباته فقد ذهب ذلك الكمال والتمام ويجوز نفي الإسم إذا أريد به نفي ذلك الكمال وعليه أن يأتي بذلك الجزء إن كان ترك واجبا فعله أو كان ذنبا استغفر منه وبذلك يصير من المؤمنين المستحقين لثواب الله المحض الخالص عن العقاب وأما إذا ترك واجبا منه أو فعل محرما فإنه يستحق العقاب على ذلك ويستحق الثواب على ما فعل والمنفي إنما هو المجموع لا كل جزء من أجزائه كما إذا ذهب واحد من العشرة لم تبق العشرة عشرة لكن بقي أكثر أجزائها وكذلك جاءت السنة في سائر الأعمال كالصلاة وغيرها أنه يثاب على ما فعله منها ويعاقب على الباقي حتى إنه إن كان له تطوع جبر ما ترك بالتطوع ولو كان ما فعل باطلا وجوده كعدمه لا يثاب عليه لم يجبر بالنوافل شيء وعلى ذلك دل حديث المسيء الذي في السنن أنه إذا نقص منها شيئا أثيب على ما فعله فإن قلت فالفقهاء يطلقون أنه قد بطلت صلاته وصومه وحجه إذا ترك منه ركنا قيل لأن الباطل في عرفهم ضد الصحيح والصحيح في عرفهم ما

5

207

حصل به مقصوده وترتب عليه حكمه وهو براءة الذمة ولهذا يقولون الصحيح ما أسقط القضاء فصار قولهم بطلت بمعنى وجب القضاء لا بمعنى أنه لا يثاب عليها بشيء في الآخرة وهكذا جاء النفي في كلام الله ورسوله كقوله صلى الله عليه وسلم لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن وقوله لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له وقوله تعالى إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم سورة الانفال وقوله إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون سورة الحجرات فإن نفي الإيمان عمن ترك واجبا منه أو فعل محرما

5

208

فيه كنفي غيره كقوله لا صلاة إلا بأم القرآن وقوله للمسيء ارجع فصل فإنك لم تصل وقوله للمنفرد خلف الصف لما أمره بالإعادة لا صلاة لفذ خلف الصف وقوله من سمع النداء ثم لم يجب من غير عذر فلا صلاة له ومن قال من الفقهاء إن هذا لنفي الكمال قيل له إن أردت الكمال المستحب فهذا باطل لوجهين أحدهما أن هذا لا يوجد قط في لفظ الشارع أنه ينفي عملا فعله العبد على الوجه الذي وجب عليه ثم ينفيه لترك بعض المستحبات بل الشارع لا ينفي عملا إلا إذا لم يفعله العبد كما وجب عليه

5

209

الثاني أنه لو نفى بترك مستحب لكان عامة الناس لا صلاة لهم ولا صيام فإن الكمال المستحب متفاوت ولا أحد يصلي كصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أفكل من لم يكملها كتكميل الرسول يقال لا صلاة له فإن قيل فهؤلاء الذين يتركون فرضا من الصلاة أو غيرها يؤمرون بإعادة الصلاة والإيمان إذا ترك بعض فرائضه لا يؤمر باعادته قيل ليس الأمر بالإعادة مطلقا بل يؤمر بالممكن فإن أمكن الإعادة أعاد وإن لم يمكن أمر أن يفعل حسنات غير ذلك كما لو ترك الجمعة فإنه وإن أمر بالظهر فلا تسد مسد الجمعة بل الإثم الحاصل يترك الجمعة لايزول جميعه بالظهر وكذلك من ترك واجبات الحج عمدا فإنه يؤمر بها ما دام يمكن فعلها في الوقت فإذا فات الوقت أمر بالدم الجابر ولم يكن ذلك مسقطا عنه إثم التفويت مطلقا بل هذا الذي يمكنه من البدل وعليه أن يتوب توبة تغسل إثم التفويت كمن فعل محرما فعليه أن يتوب منه توبة تغسل إثمه ومن ذلك أن يأتي بحسنات تمحوه وكذلم من فوت واجبا لا يمكنه استدراكه وأما إذا أمكنه استدراكه فعله بنفسه وهكذا نقول فيمن ترك بعض واجبات الإيمان بل كل مأمور تركه فقد ترك جزءا من إيمانه فيستدركه بحسب الإمكان فإن فات وقته تاب وفعل حسنات أخر غيره

5

210

ولهذا كان الذي اتفق عليه العلماء أنه يمكن إعادة الصلاة في الوقت الخاص والمشترك كما يصلي الظهر بعد دخول العصر ويؤخر العصر إلى الإصفرار فهذا تصح صلاته وعليه إثم التأخير وهو من المذمومين في قوله تعالى فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون سورة الماعون وقوله فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة وأتبعوا الشهوات سورة مريم فإن تأخيرها عن الوقت الذي يجب فعلها فيه هو إضاعة لها وسهو عنها بلا نزاع أعلمه بين العلماء وقد جاءت الآثار بذلك عن الصحابة والتابعين وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها صلوا الصلاة لوقتها واجعلوا صلاتكم معهم نافلة وهم إنما كانوا يؤخرون الظهر إلى وقت العصر والعصر

5

211

إلى وقت الإصفرار وذلك مما هم مذمومون عليه ولكن ليسوا كمن تركها أو فوتها حتى غابت الشمس فإن هؤلاء أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم ونهى عن قتال أولئك فإنه لما ذكر أنه سيكون أمراء ويفعلون قالوا أفلا نقاتلهم قال لا ما صلوا وقد أخبر عن هذه الصلاة التي يؤخرونها وأمر أن تصلى في الوقت وتعاد معهم نافلة فدل على صحة صلاتهم ولو كانوا لم يصلوا لأمر بقتالهم وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر مع قوله أيضا في الحديث الصحيح تلك صلاة المنافق تلك صلاة المنافق يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا

5

212

وثبت عنه في الصحيحين أنه قال من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله وثبت عنه في الصحيحين أنه قال من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله وقال أيضا إن هذه الصلاة عرضت على من كان قبلكم فضيعوها فمن حافظ عليها كان له الأجر مرتين وقد اتفق العلماء على ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من قوله من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها فاتفقوا

5

213

على أن النائم يصلي إذا استيقظ والناسي إذا ذكر وعليه قضاء الفائتة على الفور عند جمهورهم كمالك وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة وغيرهم وأما الشافعي فيجعل قضاء النائم والناسي على التراخي ومن نسي بعض واجباتها فهو كمن نسيها فلو صلى ثم ذكر بعد خروج الوقت أنه كان على غير وضوء أعاد كما أعاد عمر وعثمان وغيرهما لما صلوا بالناس ثم ذكروا بعد الصلاة أنهم كانوا جنبا فأعادوا ولم يأمروا المؤمومين بالإعادة وفي حديث عمر أنه لم يذكر إلا بعد طلوع الشمس وكذلك إذا أخرها تأخيرا يرى أنه جائز كما أخرها النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب وصلاها بعد مغيب الشمس فإن ذلك التأخير إما أن يكون لنسيان منه أو لأنه كان جائزا إذا كانوا مشغولين بقتال العدو أن يخروا الصلاة

5

214

والعلماء لهم في ذلك ثلاثة أقوال قيل يصلي حال القتال ولا يؤخر الصلاة وتأخير الخندق منسوخ وهذا مذهب مالك والشافعي والإمام أحمد في المشهور عنه وقيل يخير بين تقديمها وتأخيرها لأن الصحابة لما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة كانت طائفة منهم أخرت الصلاة فصلوا بعد غروب الشمس وكانت منهم طائفة قالوا لم يرد منا إلا المبادرة إلى العدو لا تفويت الصلاة فصلوا في الطريق فلم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم أحدا من الطائفتين والحديث في الصحيحين من حديث ابن عمر وهذا قول طائفة من الشاميين وغيرهم وهو إحدى الروايتين عن أحمد وقيل بل يؤخرونها كما فعل يوم الخندق وهو مذهب أبي حنيفة ففي الجملة كل من أخرها تأخيرا يعذر به إما لنسيان أو لخطأ في الاجتهاد فإنه يصليها بعد الوقت كمن ظن أن الشمس لم تطلع فآخرها حتى طلعت أو ظن أن وقت العصر باق فأخرها حتى غربت فإن هذا يصلى وعلى قول الأكثرين ما بقى تأخيرها جائزا حتى تغرب الشمس ومن قال إنه يجوز التأخير فإنه يصليها ولو أخرها باجتهاده فإنه يصليها وإن قيل إنه أخطأ في اجتهاده وليس هذا من أهل الوعيد

5

215

المذكور في قوله من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله فإن هذا مجتهد متأول مخطىء وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وهو حديث حسن وقد دل عليه القرآن والحديث الصحيح وأما من فوتها عمدا عالما بوجوبها أو فوت بعض واجباتها الذي يعلم وجوبه منها فهذا مما تنازع فيه العلماء فقيل في الجميع يصح أن يصليها بعد التفويت ويجب ذلك عليه ويثاب على ما فعل ويعاقب على التفويت كمن أخر الظهر إلى وقت العصر والمغرب والعشاء إلى آخر الليل من غير عذر وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد يقولون هو في كل صلاة وجب إعادتها في الوقت فيجب إعادتها بعد الوقت وأما مالك وغيره من أهل المدينة فيفرقون بين ما يعاد في الوقت وما يعاد بعد خروج الوقت فما لم يكن فرضا بل واجبا وهو الذي يسمونه سنة أمروا بإعادة الصلاة إذا تركه في الوقت كمن صلى بالنجاسة وأما ما كان فرضا كالركوع والسجود والطهارة فإنه بمنزلة من لم يصل فيعيد بعد الوقت

5

216

وقد أنكر عليهم كثير من الناس التفريق بين الإعادة في الوقت وبعده وصنف المزني مصنفا رد فيه على مالك ثلاثين مسألة منها هذه وقد رد على المزني الشيخ أبو بكر الأبهري وصاحبه القاضي عبد الوهاب وعمدتهم أن الصلاة إن فعلت كما أمر بها العبد فلا إعادة عليه في الوقت ولا بعده وإن لم تفعل كما أمر بها العبد فهي في ذمته فيعيدها في الوقت وبعده وأهل المدينة يقولون فعلها في الوقت واجب ليس لأحد قط أن يؤخرها عن الوقت فإن كان الوقت أوكد مما ترك لم يعد بعد الوقت لأنه ما بقي بعد الوقت يمكنه تلافيها فإن الصلاة مع النجاسة أو عريانا خير من الصلاة بلا نجاسة بعد الوقت فلو أمرناه أن يعيدها بعد الوقت لكنا نأمره بأنقص مما صلى وهذا لا يأمر به الشارع وهذا بخلاف من ترك ركنا منها فذاك بمنزلة من لم يصل فيعيد بعد الوقت وهذا الفرق مبني على أن الصلاة من واجباتها ما هو ركن لا تتم إلا به ومنها ما هو واجب تتم بدونه إما مع السهو وإما مطلقا وهذا قول الجمهور وأبو حنيفة يوجب فيها ما لا يجب بتركه الإعادة بحال فإذا

5

217

أوجب أهل المدينة فيها ما يجب بتركه الإعادة في الوقت كان أقرب إلى الشرع وأحمد مع مالك يوجبان فيها ما يسقط بالسهو ويجبر بالسجود ثم ذلك الواجب إذا تركه عمدا أمره أحمد في ظاهر مذهبه بالإعادة كما لو ترك فرضا وأما مالك ففي مذهبه قولان فيمن ترك ما يجب السجود لتركه سهوا كترك التشهد الأول وترك تكبيرتين فصاعدا أو قراءة السورة والجهر والمخافتة في موضعهما وقد اتفق الجميع على أن واجبات الحج منها ما يجبر الحج مع تركه ومنها ما يفوت الحج مع تركه فلا يجبر كالوقوف بعرفة فكذلك الصلاة وقالت طائفة ثالثة ما أمر الله به في الوقت إذا ترك لغير عذر حتى فات وقته لم يمكن فعله بعد الوقت كالجمعة والوقوف بعرفة ورمي الجمار فإن الفعل بعد الوقت عبادة لا تشرع إلا إذا شرعها الشارع فلا تكون مشروعة إلا بشرعه ولا واجبة إلا بأمره وقد اتفق المسلمون على أن من فاته الوقوف بعرفة لعذر أو لغيره لا يقف بعرفة بعد طلوع الفجر وكذلك رمي الجمار لا ترمى بعد أيام منى سواء فاتته لعذر أو لغير عذر كذلك الجمعة لا يقضيها الإنسان سواء فاتته بعذر أو بغير

5

218

عذر وكذلك لو فوتها أهل المصر كلهم لم يصلوها يوم السبت وأما الصلوات الخمس فقد ثبت أن المعذور يصليها إذا أمكنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها لا كفارة لها إلا ذلك وكذلك صوم رمضان أمر الله المسافر والمريض والحائض أن يصوموا نظيره في أيام أخر والوقت المشترك بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء وقت لجواز فعلمها جميعا عند العذر وإن فعلتا لغير عذر ففاعلهما آثم لكن هذه قد فعلت في وقت هو وقتها في الجملة وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة خلف الأمراء الذين يؤخرون الصلاة ونهى عن قتالهم مع ذمهم وظلمهم وأولئك كانوا يؤخرون الظهر إلى العصر فجاءت طائفة من الشيعة فصاروا يجمعون بين الصلاتين في وقت الأولى دائما من غير عذر فدخل في الوقت المشترك من جواز الجمع للعذر من تأويل الولاة وتصحيح الصلاة مع إثم التفويت ما لم يدخل في التفويت المطلق كمن يفطر شهر رمضان عمدا ويقول أنا أصوم في شوال أو يؤخر الظهر والعصر

5

219

عمدا ويقول أصليهما بعد المغرب ويؤخر المغرب والعشاء ويقول أصليهما بعد الفجر أو يؤخر الفجر ويقول أصليها بعد طلوع الشمس فهذا تفويت محض بلا عذر وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله وقال من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله فلو كان يمكنه الإستدراك لم يحبط عمله وقوله وتر أهله وماله أي صار وترا لا أهل له ولا مال ولو كان فعلها ممكنا بالليل لم يكن موتورا وقال من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك فلو كان فعلها بعد المغرب صحيحا مطلقا لكان مدركا سواء أدرك ركعة أو لم يدرك فإنه لم يرد أن من أدرك ركعة صحت صلاته بلا إثم بل يأثم بتعمد ذلك كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة فإنه أمر بأن تصلى الصلاة لوقتها الذي حده وأن لا يؤخر العصر إلى ما بعد الإصفرار ففعلها قبل الاصفرار واجب بأمره وقوله صلوا الصلاة لوقتها فعلم أن هذا الإدراك لا يرفع الإثم عن غير المعذور بل يكون

5

220

قد صلاها مع الإثم فلو كانت أيضا تصلى بعد المغرب مع الإثم لم يكن فرق بين من يصليها عند الاصفرار أو يصليها بعد الغروب إلا أن يقال ذاك أعظم إثما ومعلوم أنه كلما أخرها كان أعظم إثما فحيث جاز القضاء مع وجوب التقديم كلما أخر القضاء كان أعظم لإئمه ومن نام عن صلاة أو نسيها فعليه أن يصليها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها وإذا أخرها من غير عذر أثم كما يأثم من أخر الواجب على الفور ويصح فعلها بعد ذلك فلو كانت العصر بعد المغرب بهذه المنزلة لم يكن لتحديد وقتها بغروب الشمس وقوله من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فائدة بل كانت تكون كالواجب على الفور إذا أخره أو كانت تكون كالمغرب إذا أخرها إلى وقت العشاء ومعلوم أن هذا قد يجوز بل يسن كما في ليلة المزدلفة كما يسن تقديم العصر إلى وقت الظهر يوم عرفة بالسنة المتواترة واتفاق المسلمين

5

221

وأما فعل العصر بعد المغرب فلم يؤذن فيه قط لغير المعذور كما لم يؤذن في صلاة المغرب قبل غروب الشمس قال هؤلاء والصلاة في الوقت واجبة على أي حال بترك جميع الواجبات لأجل الوقت فإذا أمكنه أن يصلي في الوقت بالتيمم أو بلا قراءة أو بلا إتمام ركوع وسجود أو إلى غير القبلة أو يصلي عريانا أو كيفما أمكن وجب ذلك عليه ولم يكن له أن يصلي بعد الوقت مع تمام الأفعال وهذا مما ثبت بالكتاب والسنة وعامته مجمع عليه فعلم أن الوقت مقدم على جميع الواجبات وحينئذ فمن صلى في الوقت بلا قراءة أو عريانا متعمدا ونحو ذلك إذا أمر أن يصلي بعد الوقت بقراءة وسترة كان ما أمر به دون ما فعله ولهذا إذا لم يمكن إلا أحدهما وجب أن يصلي في الوقت بلا قراءة ولا سترة ولا يؤخرها ويصلي بعد الوقت بقراءة وسترة فعلم أن ذلك التفويت ما بقي استدراكه ممكنا وأما المعذور فلله تعالى جعل الوقت في حقه متى أمكنه فمن نسي الصلاة أو بعض واجباتها صلاها متى ذكرها وكان ذلك هو الوقت في حقه وإذا قيل صلاته في الوقت كانت أكمل قيل نعم لكن تلك لم تجب عليه لعجزه بالنوم والنسيان وإنما وجب عليه أن يصلى إذا استيقط وذكر كما نقول في الحائض إذا طهرت

5

222

في وقت العصر فهي حينئذ مأمورة بالظهر والعصر وتكون مصلية للظهر في وقتها أداء وكذلك إذا طهرت آخر الليل صلت المغرب والعشاء وكانت المغرب في حقها أداء كما أمرها بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف وابن عباس وأبو هريرة رضي الله عنهم ولم ينقل عن صحابي خلافه وهذا يدل على أن هذا من السنة التي كان الصحابة يعرفونها فإن مثل هذا يقع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه وقد دل على ذلك الكتاب والسنة حيث جعل الله المواقيت ثلاثة في حق المعذور وهذه معذورة وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وهو يدل على أن الوقت مشترك في حق المعذور فلا يحتاج أن ينوي الجمع كما هو قول الأكثرين أبي حنيفة ومالك والإمام أحمد وقدماء أصحابه لكن الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد كالخرقي ومن وافقه قالوا تجب النية في القصر والجمع وجمهور العلماء على أنه لا تجب النية لا لهذا ولا لهذا وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد وقدماء أصحابه وهو الصواب كما بسط في غير هذا الموضع وقضية الحائض مما يبين أن فعل الصلاة في غير وقتها الذي أمر بها

5

223

فيه غير ممكن فإن ذلك لو كان ممكنا لكانت الحائض تؤمر بقضاء الصلاة أمر إيجاب أو أمر استحباب فإذا قيل يسقط القضاء عنها تخفيفا قيل فلو أرادت أن تصلي قضاء لتحصل ثواب الصلاة التي فاتتها لم يكن هذا مشروعا باتفاق العلماء وكان لها أن تصلى من النوافل ما شاءت فإن تلك الصلاة لم تكن مأمورة بها في وقتها والصلاة المكتوبة لا يمكن فعلها إلا في الوقت الذي أمر به العبد فلم يجز فعلها بعد ذلك وكل من كان معذورا من نائم وناس ومخطىء فهؤلاء مأمورون بها في الوقت الثاني فلم يصلوا إلا في وقت الأمر كما أمرت الحائض والمسافر والمريض بقضاء رمضان وقيل في المتعمد لفطره لا يجزيه صيام الدهر ولو صامه قالوا والناسي إنما أمر بالصلاة إذا ذكرها لم يؤمر بها قبل ذلك وذلك هو الوقت في حقه فلم يصل إلا في وقتها وكذلك النائم إذا استيقظ إنما صلى في الوقت قالوا ولم يجوز الله لأحد أن يصلي الصلاة لغير وقتها ولا يقبلها منه في غير وقتها ألبتة وكذلك شهر رمضان وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من أفطر يوما من رمضان لم يقضه صيام الدهر وإن صامه قالوا وإنما يقبل الله صيامه في غير الشهر من المعذور

5

224

كالمريض والمسافر والحائض ومن اشتبه عليه الشهر فتحرى فصام بعد ذلك فإنه يجزيه الصيام أما المعتمد للفطر فلا قالوا ولهذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي جامع أهله في رمضان بصوم بل أمره بالكفارة فقط وقد جاء ذكر أمره بالقضاء في حديث ضعيف ضعفه العلماء أحمد بن حنبل وغيره وكذلك جاء في الذي يستقيء عمدا أنه يعيد وهذا لم يثبت رفعه وإنما ثبت أنه موقوف على أبي هريرة وبتقدير صحته فيكون المراد به المعذور الذي اعتقد أنه يجوز له الإستقاء أو المريض الذي احتاج إلى أن يستقيء فاستقاء فإن الإستقاءة لا تكون في العادة إلا لعذر وإلا فلا يقصد العاقل أن يستقيء بلا حاجة فيكون المستقيء متداويا بالاستقاءة كما يتداوى

5

225

بالأكل وهذا يقبل منه القضاء ويؤمر به وهذا الحديث ثابت عن أبي هريرة وإنما اختلف في رفعه وبكل حال هذا معناه فإن أبا هريرة هو الذي روى حديث الأعرابي وحديث من أفطر يوما من رمضان لم يقضه صيام الدهر فتحمل أحاديثه على الإتفاق لا على الإختلاف وهذا قول طائفة من السلف والخلف وهو قول أبي عبد الرحمن صاحب الشافعي وهو قول داود بن علي وابن حزم وغيرهم قالوا والمنازعون لنا ليس لهم قط حجة يرد اليها عند التنازع وأكثرهم يقولون لا يجب القضاء إلا بأمر ثان وليس معهم هنا أمر ونحن لا ننازع في وجوب القضاء فقط بل ننازع في قبول القضاء منه وصحة الصلاة في غير وقتها فنقول الصلوات الخمس في غير وقتها المختص والمشترك المضيق والموسع كالجمعة في غير وقتها وكالحج في غير وقته وكرمي الجمار في غير وقتها والوقت صفة للفعل وهو من آكد واجباته فكيف تقبل العبادة بدون صفاتها الواجبة فيها

5

226

وهو لو صلى إلى غير القبلة بغير عذر لم تكن صلاته إلا باطلة وكذلك إذا صلى قبل الوقت المشترك لغير عذر مثل أن يصلي الظهر قبل الزوال والمغرب قبل المغيب ولو فعل ذلك متأولا مثل الأسير إذا ظن دخول شهر رمضان فصام ومثل المسافر في يوم الغيم وغيرهما إذا اجتهدوا فصلوا الظهر قبل الزوال أو المغرب قبل الغروب فهؤلاء في وجوب الإعادة عليهم قولان معروفان للعل والنزاع في ذلك في مذهب مالك والشافعي والمعروف من مذهب أحمد أنه لا يجزئهم ولو فعلوا ذلك في الوقت المشترك كصلاة العصر في وقت الظهر والعشاء قبل مغيب الشفق فقياس الصحيح من مذهب أحمد أن ذلك يجزىء فإنه جمع لعذر وهو لا يشترط النية وقد نص على أن المسافر إذا صلى العشاء قبل مغيب الشفق أجزأه لجواز الجمع له وإن كان لم يصلها مع المغرب ولهذا يستحب له مع أمثاله تأخير الظهر وتقديم العصر وتأخير المغرب وتقديم العشاء كما نقل عن السلف فدل على أن الثانية إذا فعلت هنا قبل الوقت الخاص أجزأته قالوا فالنزاع في صحة مثل هذه الصلاة كالنزاع في رمي الجمار لا يفعل بعد الوقت قال لهم الأولون ما قستم عليه من الجمعة الحج ورمى الجمار لا يفعل بعد الوقت المحدود في الشرع بحال لا لمعذور ولا لغير معذور فعلم أن هذه الأفعال مختصة بزمان كما هي مختصة بمكان

5

227

وأما الصلوات الخمس فيجوز فعلها للمعذور بعد إنقضاء الأوقات فعلم أنه يصح فعلها في غير الوقت وأن الوقت ليس شرطا فيها كما هو شرط في تلك العبادات قال الآخرون الجواب من وجهين أحدهما أن يقال هب أنه يجوز فعل الصلاة بعد وقتها للمعذور توسعة من الله ورحمة وأما النائم والناسي فلا ذنب لهما فوسع الله لهما عند الذكر والانتباه إذا كان لا يمكنهما الصلاة إلا حينئذ فأي شيء في هذا مما يدل على جواز ذلك لمرتكب الكبيرة الذي لا عذر له في تفويتها والحج إذا فاته في عام أمكنه أن يحج في عام قابل ورمي الجمار إذا فاته جعل له بدل عنها وهو النسك والجمعة إذا فايت صلى الظهر فكان المعذور إذا فاتته هذه العبادات المؤقتة شرع له أن يأتي ببدلها ولا إثم عليه رحمة من الله في حقه وأما غير المعذور فجعل له البدل أيضا في الحج لأن الحج يقبل النيابة فإذا مات الإنسان جاز أن يحج عنه وإن كان مفرطا فإذا جاز أن يحج عنه غيره فلأن يجوز أن يأتي هو بالبدل بطريق الأخرى والأولى فإن الدم الذي يخرجه هو أولى من فعل غيره عنه وأما الجمعة إذا فاتته فإنما يصلي الظهر لأنها الفرض المعتاد في كل يوم لا لأنها بدل عن الجمعة بل الواجب على كل أحد إما

5

228

الجمعة وإما الظهر فإذا أمكنه الجمعة وجبت عليه وإن لم يمكن صلى الظهر فإذا فاتت الجمعة أمكنه أن يصلي الظهر فوجب عليه صلاة الظهر ولهذا لا يجوز فعلها عند أكثر العلماء إلا إذا فاتت الجمعة وأما الصلاة المكتوبة فلا تدخلها النيابة بحال وكذلك صوم رمضان إن كان قادرا عليه وإلا سقط عنه الصوم وأطعم هو عن كل يوم مسكينا عند الأكثرين وعند مالك لا شيء عليه وأما ما وردت به السنة من صيام الإنسان عن وليه فذاك في النذر كما فسرته الصحابة الذين رووه بهذا كما يدل عليه لفظه فإنه قال من مات وعليه صيام صام عنه وليه والنذر في ذمته وهو عليه وأما صوم رمضان فليس في ذمته ولا هو عليه بل هو ساقط عن العاجز عنه فلما كانت الصلوات الخمس وصيام رمضان لا يفعله أحد عن أحد أصلا لم يكن لهما بدل بخلاف الحج وغيره فلهذا وسع الشارع في قضائهما للمعذور لحاجته به إلى ذلك توسعة منه ورحمة وغيرهما لم يوسع في قضائه لأحد لأنه لا حاجة إلى قضائه لما شرع من البدل

5

229

إما عبادة أخرى كالظهر عن الجمعة والدم عن واجبات الحج وإما فعل الغير كالحج عن المغضوب والميت فهذا يبين الفرق بين الصلاة والصوم وغيرهما وبين المعذور وغيره ويبين أن من وسع فيهما لغير المعذور كما يوسع للمعذور فقد أخطأ القياس الجواب الثاني أنا لم نفس قياسا استفدنا به حكم الفرع من الأصل فإن ما ذكرناه ثابت بالأدلة الشرعية التي لا تحتاج إلى القياس معها كما تقدم لكن ذكرنا القياس ليتصور الإنسان ما جاء به الشرع في هذا كما يضرب الله الأمثال للتفهيم والتصوير لا لأن ذلك هو الدليل الشرعي والمراد بهذا القياس أن يعرف أن فعل الصلاة بعد الوقت حيث حرم الله ورسوله تأخيرها بمنزلة فعل هذه العبادات والمقصود تمثيل الحكم بالحكم لا تمثيل الفعل بالفعل فيعرف أن المقصود أن الصلاة ما بقيت تقبل ولا تصح كما لا تقبل هذه ولا تصح فإن من الجهال من يتوهم أن المراد بذلك تهوين أمر الصلاة وأن من فوتها سقط عنه القضاء فيدعو ذلك السفهاء إلى تفويتها وهذا لا يقوله مسلم بل من قال إن من فوتها فلا إثم عليه فهو كافر مرتد يستتاب فإن تاب وإلا قتل ولكن تفويت الصلاة عمدا مثل تفويت شهر رمضان عمدا بإجماع المسلمين فأجمع المسلمون كلهم من

5

230

جميع الطوائف على أن من قال لا أصلي صلاة النهار إلا بالليل فهو كمن قال لا أصوم رمضان إلا في شوال فإن كان يستجيز تأخيرها ويرى ذلك جائزا له فهو كمن يرى تأخير رمضان جائزا وهذا وهذا يجب استتابتهما باتفاق العلماء فإن تابا واعتقدا وجوب فعل الصلاة والصوم في وقتهما وإلا قتلا وكثير من العامة والجهال يعتقدون جواز تأخيرها إلى الليل بأدنى شغل ويرى أن صلاتها بالليل خير من أن يصليها بالنهار مع الشغل وهذا باطل بإجماع المسلمين بل هذا كفر وكثير منهم لا يرى جوازها في الوقت إلا مع كمال الأفعال وأنه إذا صلاها بعد الوقت مع كمال الأفعال كان أحسن وهذا باطل بل كفر باتفاق العلماء ومن أسباب هذه الإعتقادات الفاسدة تجويز القضاء لغير المعذور وقول القائل إنها تصح وتقبل وإن أثم بالتأخير فجعلوا فعلها بعد الغروب كفعل العصر بعد الإصفرار وذلك جمع بين ما فرق الله ورسوله بينه فلو علمت العامة أن تفويت الصلاة كتفويت شهر رمضان باتفاق المسلمين لاجتهدوا في فعلها في الوقت ومن جملة أسباب ذلك أن رمضان يشترك في صومه جميع الناس والوقت مطابق للعبادة لا يفصل عنها وليس له شروط كالصلاة والصلاة وقتها موسع فيصلي بعض الناس في أول الوقت وبعضهم في

5

231

آخره وكلاهما جائز وفيها واجبات يظن الجهال أنه لا يجوز فعلها إلا مع تلك الواجبات مطلقا فيقولون نفعلها بعد الوقت فهو خير من فعلها في الوقت بدون تلك الواجبات فهذا الجهل أوجب تفويت الصلاة التفويت المحرم بالإجماع ولا يجوز أن يقال لمن فوتها لا شيء عليك أو تسقط عنك الصلاة وإن قال هذا فهو كافر ولكن يبين له أنك بمنزلة من زنى وقتل النفس وبمنزلة من أفطر رمضان عمدا إذ أذنبت ذنبا ما بقي له جبران يقوم مقامه فإنه من الكبائر بل قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجمع بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر فإذا كان هذا في الجمع من غير عذر فكيف بالتفويت من غير عذر وحينئذ فعليك بالتوبة والإجتهاد في أعمال صحالحة أكثر من قضائها فصل صلوات كثيرة لعله أن يكفر بها عنك ما فوته وأنت مع ذلك على خطر وتصدق فإن بعض الصحابة ألهاه بستانه عن صلاة المغرب فتصدق ببستانه وسليمان بن داود لما فاتته صلاة العصر بسبب الخيل طفق مسحا بالسوق والأعناق فعقرها كفارة لما صنع فمن فوت صلاة واحدة عمدا فقد أتى كبيرة عظيمة فليستدرك بما أمكن من توبة وأعمال صالحة ولو قضاها لم يكن مجرد القضاء رافعا إثم ما فعل بإجماع المسلمين والذين يقولون لا يقبل منه القضاء يقولون نأمره بأضعاف القضاء لعل الله أن يعفو عنه وإذا قالوا لا يجب القضاء إلا بأمر جديد فلأن القضاء تخفيف ورحمة كما في حق المريض والمسافر في رمضان والرحمة والتخفيف تكون للمعذور والعاجز لا تكون

5

232

لأصحاب الكبائر المتعمدين لها المفرطين في عمود الإسلام والصلاة عمود الإسلام ألا ترى إلى ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه لما سئل عمن وجب عليه الحج فعجز عنه أو نذر صياما أو حجا فمات هل يفعل عنه فقال أرأيت لو كان على أبيك أو أمك دين فقضيته أما كان يجزي عنه قال بلى قال فالله أحق بالقضاء ومراده بذلك أن الله أحق بقبول القضاء عن المعذور من بني آدم فإن الله أرحم وأكرم فإذا كان الآدميون يقبلون القضاء عمن مات فالله أحق بقبوله أيضا لم يرد بذلك أن الله يحب أن تقضى حقوقه التي كانت على الميت وهي أوجب ما يقضى من الدين فإن دين الميت لا يجب على الورثة قضاؤه لكن يقضى من تركته ولا يجب على أحد فعل ما وجب على الميت من نذر والسائل إنما سأل عن الإجزاء والقبول لم يسأل عن الوجوب فلا بد أن يجاب عن سؤاله فعلم أن الأمر بقضاء العبادات وقبول القضاء من باب الإحسان والرحمة وذلك مناسب للمعذور وأما صاحب الكبيرة المفوت عمدا فلا يستحق تخفيفا ولا رحمة لكن إذا تاب فله

5

233

أسوة بسائر التائبين من الكبائر فيجتهد في طاعة الله وعباداته بما أمكن والذين أمروه بالقضاء من العلماء لا يقولون إنه بمجرد القضاء يسقط عنه الإثم بل يقولون بالقضاء يخف عنه الإثم وأما إثم التفويت وتأخير الصلاة عن وقتها فهو كسائر الذنوب التي تحتاج إما إلى توبة وإما إلى حسنات ماحية وإما غير ذلك مما يسقط به العقاب وهذه المسائل لبسطها موضع آخر والمقصود هنا أن ما كان من الشيطان مما لا يدخل تحت الطاقة فهو معفو عنه كالنوم والنسيان والخطأ في الإجتهاد ونحو ذلك وأن كل من مدح من الأمة أولهم وآخرهم على شيء أثابه الله عليه ورفع به قدره فهو مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فالثواب على ما جاء به الرسول والنصرة لمن نصره والسعادة لمن اتبعه وصلوات الله وملائكته على المؤمنين به والمعلمين للناس دينه والحق يدور معه حيثما دار وأعلم الخلق بالحق وأتبعهم له أعملهم بسنته وأتبعهم لها وكل قول خالف قوله فهو إما دين منسوخ وإما دين مبدل لم يشرع قط وقد قال علي رضي الله عنه في مفاوضة جرت بينه وبين عثمان رضي الله عنه خيرنا أتبعنا لهذا الدين وعثمان يوافقه على ذلك وسائر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين

5

234

فصل ولما قال السلف إن الله أمر بالاستغفار لأصحاب محمد فسبهم الرافضة كان هذا كلاما حقا وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لا تسبوا أصحابي يقتضي تحريم سبهم مع أن الأمر بالاستغفار للمؤمنين والنهي عن سبهم عام ففي الصحيحين عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال سباب المسلم فسوق وقتاله كفر وقد قال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الأسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون سورة الحجرات فقد نهى عن السخرية واللمز والتنابز بالألقاب واللمز العيب والطعن ومنه قوله تعالى ومنهم من يلمزك في الصدقات سورة التوبة أي يعيبك ويطعن عليك وقوله الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات سورة التوبة وقوله لا تلمزوا أنفسكم سورة الحجرات أي لا يلمز بعضكم بعضا كقوله لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا سورة

5

235

النور وقوله فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم سورة البقرة وقد قال تعالى ويل لكل همزة لمزة الآية سورة الهمزة والهمز العيب والطعن بشدة وعنف ومنه همز الأرض بعقبة ومنه الهمزة وهي نبرة من الصدر وأما الاستغفار للمؤمنين عموما فقد قال تعالى واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات سورة محمد وقد أمر الله بالصلاة على من يموت وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستغفر للمنافقين حتى نهى عن ذلك فكل مسلم لم يعلم أنه منافق جاز الاستغفار له والصلاة عليه وإن كان فيه بدعة أو فسق لكن لا يجب على كل أحد أن يصلى عليه وإذا كان في ترك الصلاة على الداعي إلى البدعة والمظهر للفجور مصلحة من جهة انزجار الناس فالكف عن الصلاة كان مشروعا لمن كان يؤثر ترك صلاته في الزجر بأن لا يصلى عليه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيمن قتل نفسه

5

236

صلوا على صاحبكم وكذلك قال في الغال صلوا على صاحبكم وقد قيل لسمرة بن جندب إن ابنك لم ينم البارحة فقال أبشما قالوا بشما قال لو مات لم أصل عليه يعني لأنه يكون قد قتل نفسه وللعلماء هنا نزاع هل يترك الصلاة على مثل هذا الإمام فقط لقوله صلى الله عليه وسلم صلوا على صاحبكم أم هذا الترك يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم أم مشروع لمن تطلب صلاته وهل الإمام هو الخليفة أو الإمام الراتب وهل هذا مختص بهذين أم هو ثابت لغيرهما فهذه كلها مسائل تذكر في غير هذا الموضع لكن بكل حال المسلمون المظهرون للإسلام قسمان إما مؤمن

5

237

وإما منافق فمن علم نفاقه لم تجز الصلاة عليه والإستغفار له ومن لم يعلم ذلك منه صلى عليه وإذا علم شخص نفاق شخص لم يصل هو عليه وصلى عليه من لم يعلم نفاقه وكان عمر رضي الله عنه لا يصلي على من لم يصل عليه حذيفة لأنه كان في غزوة تبوك قد عرف المنافقين الذين عزموا على الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم واعلم أنه لا منافاة بين عقوبة الإنسان في الدنيا على ذنبه وبين الصلاة عليه والإستغفار له فإن الزاني والسارق والشارب وغيرهم من العصاة تقام عليهم الحدود ومع هذا فيحسن إليهم بالدعاء لهم في دينهم ودنياهم فإن العقوبات الشرعية إنما شرعت رحمة من الله بعباده فهي صادرة عن رحمة الله وإرادة الإحسان إليهم ولهذا ينبغي لمن يعاقب الناس على الذنوب أن يقصد بذلك الإحسان إليهم والرحمة لهم كما يقصد الوالد تأديب ولده وكما يقصد الطبيب معالجة المريض فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنما أنا لكم بمنزلة الوالد وقد قال تعالى النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم

5

238

وأزواجه أمهاتهم سورة الأحزاب وفي قراءة أبي وهو أب لهم والقراءة المشهورة تدل على ذلك فإن نساءه إنما كن أمهات المؤمنين تبعا له فلولا أنه كالأب لم يكن نساؤه كالأمهات والأنبياء أطباء الدين والقرآن أنزله الله شفاء لما في الصدور فالذي يعاقب الناس عقوبة شرعية إنما هو نائب عنه وخليفة له فعليه أن يفعل كما يفعل على الوجه الذي فعل ولهذا قال تعالى كنتم خير أمه أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله سورة آل عمران قال أبو هريرة كنتم خير الناس للناس تأتون بهم في الأقياد والسلاسل تدخلونهم الجنة أخبر أن هذه الأمة خير الأمم لبني آدم فإنهم يعاقبونهم بالقتل والأسر ومقصودهم بذلك الإحسان إليهم وسوقهم إلى كرامة

5

239

الله ورضوانه وإلى دخول الجنة وهكذا الرد على أهل البدع من الرافضة وغيرهم إن لم يقصد فيه بيان الحق وهدى الخلق ورحمتهم والإحسان إليهم لم يكن عمله صالحا وإذا غلظ في ذم بدعة و معصية كان قصده بيان ما فيها من الفساد ليحذرها العباد كما في نصوص الوعيد وغيرها وقد يهجر الرجل عقوبة وتعزيزا والمقصود بذلك ردعه وردع أمثاله للرحمة والإحسان لا للتشفى والإنتقام كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الثلاثة الذي خلفوا لما جاء المتخلفون عن الغزاة يعتذرون ويحلفون وكانوا يكذبون وهؤلاء الثلاثة صدقوا وعوقبوا بالهجر ثم تاب الله عليهم ببركة الصدق وهذا مبني على مسألتين إحداهما أن الذنب لا يوجب كفر صاحبه كما تقوله الخوارج بل ولا تخليده في النار ومنع الشفاعة فيه كما يقوله المعتزلة الثاني أن المتأول الذي قصده متابعة الرسول لا يكفر بل ولا يفسق إذا اجتهد فأخطأ وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية وأما مسائل العقائد فكثير من الناس كفر المخطئين فيها وهذا القول لا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا عن أحد من أئمة المسلمين وإنما هو في الأصل من أقوال أهل

5

240

البدع الذين يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم كالخوارج والمعتزلة والجهمية ووقع ذلك في كثير من أتباع الأئمة كبعض أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم وقد يسلكون في التكفير ذلك فمنهم من يكفر أهل البدع مطلقا ثم يجعل كل من خرج عما هو عليه من أهل البدع وهذا بعينه قول الخوارج والمعتزلة الجهمية وهذا القول أيضا يوجد في طائفة من أصحاب الأئمة الأربعة وليس هو قول الأئمة الأربعة ولا غيرهم وليس فيهم من كفر كل مبتدع بل المنقولات الصريحة عنهم تناقض ذلك ولكن قد ينقل عن أحدهم أنه كفر من قال بعض الأقوال ويكون مقصوده أن هذا القول كفر ليحذر ولا يلزم إذا كان القول كفرا أن يكفر كل من قاله مع الجهل والتأويل فإن ثبوت الكفر في حق الشخص المعين كثبوت الوعيد في الآخرة في حقه وذلك له شروط وموانع كما بسطناه في موضعه وإذا لم يكونوا في نفس الأمر كفارا لم يكونوا منافقين فيكونون من المؤمنين فيستغفر لهم ويترحم عليهم وإذا قال المؤمن ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان سورة الحشر يقصد كل من

5

241

سبقه من قرون الأمة بالإيمان وإن كان قد أخطأ في تأويل تأوله فخالف السنة أو أذنب ذنبا فإنه من إخوانه الذين سبقوه بالإيمان فيدخل في العموم وإن كان من الثنتين والسبعين فرقة فإنه ما من فرقة إلا وفيها خلق كثير ليسوا كفارا بل مؤمنين فيهم ضلال وذنب يستحقون به الوعيد كما يستحقه عصاة المؤمنين والنبي صلى الله عليه وسلم لم يخرجهم من الإسلام بل جعلهم من أمته ولم يقل إنهم يخلدون في النار فهذا أصل عظيم ينبغي مراعاته فإن كثيرا من المنتسبين إلى السنة فيهم بدعة من جنس بدع الرافضة والخوارج وأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم على بن أبي طالب وغيره لم يكفروا الخوارج الذين قاتلوهم بل أول ما خرجوا عليه وتحيزوا بحروراء وخرجوا عن الطاعة والجماعة قال لهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه إن لكم علينا أن لا نمنعكم مساجدنا ولا حقكم من الفيء ثم أرسل إليهم ابن عباس فناظرهم فرجع نحو نصفهم ثم قاتل الباقي وغلبهم ومع هذا لم يسب لهم ذرية ولا غنم لهم مالا ولا سار فيهم سيرة الصحابة في المرتدين كمسيلمة الكذاب وأمثاله بلك كانت سيرة علي والصحابة في الخوارج مخالفة لسيرة الصحابة في أهل الردة ولم ينكر أحد على علي ذلك فعلم اتفاق الصحابة على أنهم لم يكونوا مرتدين عن دين الإسلام قال الإمام محمد بن نصر المروزي وقد ولى علي رضي الله عنه

5

242

قتال أهل البغي وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم فيهم ما روى وسماهم مؤمنين وحكم فيهم بأحكام المؤمنين وكذلك عمار بن ياسر وقال محمد بن نصر أيضا حدثنا إسحاق بن راهويه حدثنا يحيى ين آدم عن مفضل بن مهلهل عن الشيباني عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال كنت عند على حين فرغ من قتال أهل النهروان فقيل له أمشركون هم قال من الشرك فروا فقيل فمنافقون قال المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلا قيل فما هم قال قوم بغوا علينا فقاتلناهم وقال محمد بن نصر أيضا حدثنا إسحاق حدثنا وكيع عن مسعر عن عامر بن سفيان عن أبي وائل قال قال رجل من دعي إلى البغلة الشهباء يوم قتل المشركون فقال علي من الشرك فروا قال المنافقون قال إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا قال فما هم قال قوم بغوا علينا فقاتلناهم فنصرنا عليهم قال حدثنا إسحاق حدثنا وكيع عن أبي خالدة عن

5

243

حكيم بن جابر قال قالوا لعلي حين قتل أهل النهروان أمشركون هم قال من الشرك فروا قيل فمنافقون قال المنافقون لا يذكرون الله إلا قليل قيل فما هم قال قوم حاربونا فحاربناهم وقاتلونا فقاتلناهم قلت الحديث الأول وهذا الحديث صريحان في أن عليا قال هذا القول في الخوارج الحرورية أهل النهروان الذين استفاضت الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذمهم والأمر بقتالهم وهم يكفرون عثمان وعليا ومن تولاهما فمن لم يكن معهم كان عندهم كافرا ودارهم دار كفر فإنما دار الإسلام عندهم هي دارهم قال الأشعرى وغيره أجمعت الخوارج على تكفير علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومع هذا علي قاتلهم لما بدؤوه بالقتال فقتلوا عبد الله بن خباب وطلب علي منهم قاتله فقالوا كلنا قتلة وأغاروا على ماشية الناس ولهذا قال فيهم قوم قاتلونا فقاتلناهم وحاربونا فحاربناهم وقال قوم بغوا علينا فقاتلناهم وقد اتفق الصحابة العلماء بعدهم على قتال هؤلاء فإنهم بغاة على جميع المسلمين سوى من وافقهم على مذهبهم وهم يبدؤون المسلمين بالقتال ولا يندفع شرهم إلا بالقتال فكانوا أضر على المسلمين من قطاع الطريق فإن إولئك إنما مقصودهم المال فلو

5

244

أعطوه لم يقاتلوا وإنما يتعرضون لبعض الناس وهؤلاء يقاتلون الناس على الدين حتى يرجعوا عما ثبت بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة إلى ما ابتدعه هؤلاء بتأويلهم الباطل وفهمهم الفاسد للقرآن ومع هذا فقد صرح علي رضي الله عنه بأنهم مؤمنون ليسوا كفارا ولا منافقين وهذا بخلاف ما كان يقوله بعض الناس كأبي إسحاق الإسفراييني ومن اتبعه يقولون لا نكفر إلا من يكفر فإن الكفر ليس حقا لهم بل هو حق لله وليس للإنسان أن يكذب على من يكذب عليه ولا يفعل الفاحشة بأهل من فعل الفاحشة بأهله بل ولو استكرهه رجل على اللواطة لم يكن له أن يستكرهه على ذلك ولو قتله بتجريع خمر أو تلوط به لم يجز قتله بمثل ذلك لأن هذا حرام لحق الله تعالى ولو سب النصارى نبينا لم يكن لنا أن نسبح المسيح والرافضة إذا كفروا أبا بكر وعمر فليس لنا أن نكفر عليا وحديث أبي وائل يوافق ذينك الحديثين فالظاهر أنه كان يوم النهروان أيضا وقد روى عنه في أهل الجمل وصفين قول أحسن من هذا قال إسحاق بن راهويه حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن جعفر بن محمد عن أبيه قال سمع علي يوم الجمل أو يوم صفين رجلا يغلو في القول فقال

5

245

لا تقولوا إلا خيرا إنما هم قوم زعموا إنا بغينا عليهم وزعمنا أنهم بغوا علينا فقاتلناهم فذكر لأبي جعفر أنه أخذ منهم السلاح فقال ما كان أغناه عن ذلك وقال محمد بن نصر حدثنا محمد بن يحيى حدثنا أحمد بن خالد حدثنا محمد بن راشد عن مكحول أن أصحاب علي سألوه عمن قتل من أصحاب معاوية ما هم قال هم مؤمنون وبه قال أحمد بن خالد حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة عن عبد الواحد بن أبي عون قال مر علي وهو متكىء على الأشتر على قتلى صفين فإذا حابس اليماني مقتول فقال الأشتر إنا لله وإنا اليه راجعون هذا حابس اليماني معهم يا أمير المؤمنين عليه علامة معاوية أما والله لقد عهدته مؤمنا قال علي والآن هو مؤمن قال وكان حابس رجلا من أهل اليمن من أهل العبادة والإجتهاد قال محمد بن يحيى حدثنا محمد بن عبيد حدثنا مختار بن نافع عن أبي مطر قال قال علي متى ينبعث أشقاها قيل من أشقاها قال الذي يقتلني فضربه ابن ملجم بالسيف فوقع برأس علي رضي الله عنه وهم المسلمون بقتله فقال لا تقتلوا الرجل فإن برئت فالجروح قصاص وإن مت فاقتلوه فقال إنك ميت قال وما يدريك قال كان سيفي مسموما

5

246

وبه قال محمد بن عبيد حدثنا الحسن وهو ابن الحكم النخعي عن رباح بن الحارث قال إنا لبواد وإن ركبتي لتكاد تمس ركبة عمار بن ياسر إذ أقبل رجل فقال كفر والله أهل الشام فقال عمار لا تقل ذلك فقبلتنا واحدة ونبينا واحد ولكنهم قوم مفتونون فحق علينا قتالهم حتى يرجعوا إلى الحق وبه قال ابن يحيى حدثنا قبيصة حدثنا سفيان عن الحسن بن الحكم عن رباح بن الحرث عن عمار بن ياسر قال ديننا واحد وقبلتنا واحدة ودعوتنا واحدة ولكنهم قوم بغوا علينا فقاتلناهم قال ابن يحيى حدثنا يعلى حدثنا مسعر عن عبد الله بن رباح عن رباح بن الحارث قال قال عمار بن ياسر لا تقولوا كفر أهل الشام قولوا فسقوا قولوا ظلموا قال محمد بن نصر وهذا يدل على أن الخبر الذي روي عن عمار ابن ياسر أنه قال لعثمان بن عفان هو كافر خبر باطل لا يصح لأنه إذا أنكر كفر أصحاب معاوية وهم إنما كانوا يظهرون أنهم يقاتلون في دعم عثمان فهو لتكفير عثمان أشد إنكارا قلت والمروي في حديث عمار أنه لما قال ذلك أنكر عليه علي

5

247

رضي الله عنه وقال أتكفر برب آمن به عثمان وحدثه بما يبين بطلان ذلك القول فيكون عمار إن كان قال ذلك متأولا فقد رجع عنه حين بين له علي رضي الله عنه أنه قول باطل ومما يدل على أن الصحابة لم يكفروا الخوارج أنهم كانوا يصلون خلفهم وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنه وغيره من الصحابة يصلون خلف نجدة الحروري وكانوا أيضا يحدثونهم ويفتونهم ويخاطبونهم كما يخاطب المسلم المسلم كما كان عبد الله بن عباس يجيب نجدة الحروري لما أرسل إليه يسأله عن مسائل وحديثه في البخاري وكما أجاب نافع بن الأزرق عن مسائل مشهورة وكان نافع يناظره في أشياء بالقرآن كما يتناظر المسلمان وما زالت سيرة المسلمين على هذا ما جعلوهم مرتدين كالذين

5

248

قاتلهم الصديق رضي الله عنه هذا مع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتالهم في الأحاديث الصحيحة وما روي من أنهم شر قتلى تحت أديم السماء خير قتيل من قتلوه في الحديث الذي رواه أبو أمامة رواه الترمذي وغيره أي أنهم شر على المسلمين من غيرهم فإنهم لم يكن أحد شرا على المسلمين منهم لا اليهود ولا النصارى فإنهم كانوا مجتهدين في قتل كل مسلم لم يوافقهم مستحلين لدماء المسلمين وأموالهم وقتل أولادهم مكفرين لهم وكانوا متدينين بذلك لعظم جهلهم وبدعتهم المضلة ومع هذا فالصحابة رضي الله عنهم والتابعون لهم بإحسان لم يكفروهم ولا جعلوهم مرتدين ولا اعتدوا عليهم بقول ولا فعل بل اتقوا الله فيهم وساروا فيهم السيرة العادلة وهكذا سائر فرق أهل البدع والأهواء من الشيعة والمعتزلة وغيرهم فمن كفر الثنتين والسبعين فرقة

5

249

كلهم فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان مع أن حديث الثنتين والسبعين فرقة ليس في الصحيحين وقد ضعفه ابن حزم وغيره لكن حسنه غيره أو صححه كما صححه الحاكم وغيره وقد رواه أهل السنن وروي من طرق وليس قوله ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة بأعظم من قوله تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا سورة النساء وقوله ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوق نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا سورة النساء وأمثال ذلك من النصوص الصريحة بدخول من فعل ذلك النار

5

250

ومع هذا فلا نشهد لمعين بالنار لإمكان أنه تاب أو كانت له حسنات محت سيئاته أو كفر الله عنه بمصائب أو غير ذلك كما تقدم بل المؤمن بالله ورسوله باطنا وظاهرا الذي قصد اتباع الحق وما جاء به الرسول إذا أخطأ ولم يعرف الحق كان أولى أن يعذره الله في الآخرة من المتعمد العالم بالذنب فإن هذا عاص مستحق للعذاب بلا ريب وأما ذلك فليس متعمدا للذنب بل هو مخطىء والله قد تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان والعقوبة في الدنيا تكون لدفع ضرره عن المسلمين وإن كان في الآخرة خيرا ممن لم يعاقب كما يعاقب المسلم المتعدي للحدود ولا يعاقب أهل الذمة من اليهود والنصارى والمسلم في الآخرة خير منهم وأيضا فصاحب البدعة يبقى صاحب هوى يعمل لهواه لا ديانة ويصدر عن الحق الذي يخالفه هواه فهذا يعاقبه الله على هواه ومثل هذا يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة ومن فسق من السلف الخوارج ونحوهم كما روي عن سعد بن أبي وقاص أنه قال فيهم قوله تعالى وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون سورة البقرة فقد يكون هذا قصده لا سيما إذا تفرق الناس فكان ممن يطلب الرياسة له ولأصحابه وإذا كان المسلم الذي يقاتل الكفار قد يقاتلهم شجاعة وحمية ورياء وذلك ليس في سبيل الله فكيف بأهل البدع الذين يخاصمون ويقاتلون

5

251

عليها فإنهم يفعلون ذلك شجاعة وحمية وربما يعاقبون لما اتبعوا أهواءهم بغير هدى من الله لا لمجرد الخطأ الذي اجتهدوا فيه ولهذا قال الشافعي لأن أتكلم في علم يقال لي فيه أخطأت أحب إلي من أن أتكلم في علم يقال لي فيه كفرت فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضا ومن ممادح أهل العلم أنهم يخطئون ولا يكفرون وسبب ذلك أن أحدهم قد يظن ما ليس بكفر كفرا وقد يكون كفرا لأنه تبين له أنه تكذيب للرسول وسب للخالق والآخر لم يتبين له ذلك فلا يلزم إذا كان هذا العالم بحاله يكفر إذا قاله أن يكفر من لم يعلم بحاله والناس لهم فيما يجعلونه كفرا طرق متعددة فمنهم من يقول الكفر تكذيب ما علم بالإضطرار من دين الرسول ثم الناس متفاوتون في العلم الضروري بذلك ومنهم من يقول الكفر هو الجهل بالله تعالى ثم قد يجعل الجهل بالصفة كالجهل بالموصوف وقد لا يجعلها وهم مختلفون في الصفات نفيا وإثباتا ومنهم من لا يحده بحد بل كل ما تبين أنه تكذيب لما جاء به الرسول من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر جعله كفرا إلى طرق أخر ولا ريب أن الكفر متعلق بالرسالة فتكذيب الرسول كفر وبغضه

5

252

وسبه وعداوته مع العلم بصدقه في الباطن كفر عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة العلم وسائر الطوائف إلا الجهم ومن وافقه كالصالحي والأشعري وغيرهم فإنهم قالوا هذا كفر في الظاهر وأما في الباطن فلا يكون كفرا إلا إذا استلزم الجهل بحيث لا يبقى في القلب شيء من التصديق بالرب وهذا بناء على أن الإيمان في القلب لا يتفاضل ولا يكون في القلب بعض من الإيمان وهو خلاف النصوص الصريحة وخلاف الواقع ولبسط هذا موضع آخر والمقصود هنا أن كل من تاب من أهل البدع تاب الله عليه وإذا كان الذنب متعلقا بالله ورسوله فهو حق محض لله فيجب أن يكون الإنسان في هذا الباب قاصدا لوجه الله متبعا لرسوله ليكون عمله خالصا صوابا قال تعالى وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون سورة البقرة وقال تعالى ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا سورة النساء قال المفسرون وأهل اللغة معنى الآية أخلص دينه وعمله لله وهو محسن في عمله

5

253

وقال الفراء في قوله فقل أسلمت وجهي لله سورة آل عمران أخلصت عملي وقال الزجاج قصدت بعبادتي إلى الله وهو كما قالوا كما قد ذكر توجيهه في موضع آخر وهذا المعنى يدور عليه القرآن فإن الله تعالى أمر أن لا يعبد إلا إياه وعبادته فعل ما أمر وترك ما حظر والأول هو إخلاص الدين والعمل لله والثاني هو الإحسان وهو العمل الصالح ولهذا كان عمر يقول في دعائه اللهم أجعل عملي كله صالحا واجعله لوجهك خالصا ولا تجعل لأحد فيه شيئا وهذا هو الخالص الصواب كما قال الفضيل بن عياض في قوله ليبلوكم أيكم أحسن عملا سورة هود قال أخلصه وأصوبه قالوا يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه قال إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة والأمر بالسنة والنهي عن البدعة هو أمر بمعروف ونهي عن منكر وهو من أفضل الأعمال الصالحة فيجب أن يبتغي به وجه الله وإن يكون مطابقا للأمر وفي الحديث من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فينبغي أن يكون عليما بما يأمر به عليما بما ينهى عنه رفيقا فيما يأمر به رفيقا فيما

5

254

ينهى عنه حليما فيما يأمر به حليما فيما ينهى عنه فالعلم قبل الأمر والرفق مع الأمر والحلم بعد الأمر فإن لم يكن عالما لم يكن له أن يقفو ما ليس له به علم وإن كان عالما ولم يكن رفيقا كان كالطبيب الذي لا رفق فيه فيغلظ على المريض فلا يقبل منه وكالمؤدب الغليظ الذي لا يقبل منه الولد وقد قال تعالى لموسى وهارون فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى سورة طه ثم إذا أمر ونهى فلا بد أن يؤذى في العادة فعليه أن يصبر ويحلم كما قال تعالى وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور سورة لقمان وقد أمر الله نبيه بالصبر على أذى المشركين في غير موضع وهو إمام الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر فإن الإنسان عليه أولا أن يكون أمره لله وقصده طاعة الله فيما أمره به وهو يحب صلاح المأمور أو إقامة الحجة عليه فإن فعل ذلك لطلب الرياسة لنفسه ولطائفته وتنقيص غيره كان ذلك حمية لا يقبله الله وكذلك إذا فعل ذلك لطلب السمعة والرياء كان عمله حابطا ثم إذا رد عليه ذلك وأوذي أو

5

255

نسب إلى أنه مخطىء وغرضه فاسد طلبت نفسه الانتصار لنفسه وأتاه الشيطان فكان مبدأ عمله لله ثم صار له هوى يطلب به أن ينتصر على من آذاه وربما اعتدى على ذلك المؤذي وهكذا يصيب أصحاب المقالات المختلفة إذا كان كل منهم يعتقد أن الحق معه وأنه على السنة فإن أكثرهم قد صار لهم في ذلك هوى أن ينتصر جاههم أو رياستهم وما نسب إليهم لا يقصدون أن تكون كلمة الله هي العليا وأن يكون الدين كله لله بل يغضبون على من خالفهم وإن كان مجتهدا معذورا لا يغضب الله عليه ويرضون عمن يوافقهم وإن كان جاهلا سيىء القصد ليس له علم ولا حسن قصد فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله ويذموا من لم يذمه الله ورسوله وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء أنفسهم لا على دين الله ورسوله وهذا حال الكفار الذين لا يطلبون إلا أهواءهم ويقولون هذا صديقنا وهذا عدونا وبلغة المغل هذا بال هذا باغي لا ينظرون إلى موالاة الله ورسوله ومعاداة الله ورسوله ومن هنا تنشأ الفتن بين الناس قال الله تعالى وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله سورة الأنفال فإذا لم يكن الدين كله لله وكانت فتنة وأصل الدين أن يكون الحب لله والبغض لله والموالاة لله والمعاداة لله والعبادة لله والإستعانة بالله والخوف من الله والرجاء

5

256

لله والإعطاء لله والمنع لله وهذا إنما يكون بمتابعة رسول الله الذي أمره أمر الله ونهيه نهي الله ومعاداته معاداة الله وطاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك ولا يطلبه ولا يرضى لرضا الله ورسوله ولا يغضب لغضب الله ورسوله بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه ويكون مع ذلك معه شبهة دين أن الذي يرضى له ويغضب له أنه السنة وهو الحق وهو الدين فإذا قدر أن الذي معه هوالحق المحض دين الإسلام ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا بل قصد الحمية لنفسه وطائفته أو الرياء ليعظم هو ويثنى عليه أو فعل ذلك شجاعة وطبعا أو لغرض من الدنيا لم يكن لله ولم يكن مجاهدا في سبيل الله فكيف إذا كان الذي يدعي الحق والسنة هو كنظيره معه حق وباطل وسنة وبدعة ومع خصمه حق وباطل وسنة وبدعة وهذا حال المختلفين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا وكفر بعضهم بعضا وفسق بعضهم بعضا ولهذا قال تعالى فيهم وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة سورة البينة وقال تعالى كان الناس أمة واحدة سورة البقرة يعني

5

257

فاختلفوا كما في سورة يونس وكذلك في قراءة بعض الصحابة وهذا على قراءة الجمهور من الصحابة والتابعين أنهم كانوا على دين الإسلام وفي تفسير ابن عطية عن ابن عباس أنهم كانوا على الكفر وهذا ليس بشيء وتفسير ابن عطية عن ابن عباس ليس بثابت عن ابن عباس بل قد ثبت عنه أنه قال كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام وقد قال في سورة يونس وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا سورة يونس فذمهم على الإختلاف بعد أن كانوا على دين واحد فعلم أنه كان حقا والاختلاف في كتاب الله على وجهين أحدهما أن يكون كله مذموما كقوله وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد سورة البقرة والثاني أن يكون بعضهم على الحق وبعضهم على الباطل كقوله تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله

5

258

ما اقتتل الذين من بعدهم من ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد سورة البقرة لكن إذا أطلق الإختلاف فالجميع مذموم كقوله ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذ لك خلقهم سورة هود وقول النبي صلى الله عليه وسلم إنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ولهذا فسروا الإختلاف في هذا الموضع بأنه كله مذموم قال الفراء في اختلافهم وجهان أحدهما كفر بعضهم بكتاب بعض والثاني تبديل ما بدلوا وهو كما قال فإن المختلفين كل منهم يكون معه حق وباطل فيكفر بالحق الذي مع الآخر ويصدق بالباطل الذي معه وهو تبديل ما بدل فالإختلاف لا بد أن يجمع النوعين ولهذا ذكر كل من السلف أنواعا من هذا أحدها الإختلاف في اليوم الذي يكون فيه الإجتماع فاليوم الذي أمروا به يوم الجمعة فعدلت عنه الطائفتان فهذه أخذت السبت وهذه أخذت الأحد وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من

5

259

بعدهم فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له الناس لنا فيه تبع اليوم لنا وغدا لليهود وبعد غد للنصارى وهذا الحديث يطابق قوله تعالى فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه سورة البقرة وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يصلي يقول اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلفوا فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم والحديث الأول يبين أن الله تعالى هدى المؤمني لغير ما كان فيه المختلفون فلا كانوا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء وهو مما يبين أن الإختلاف كله مذموم والنوع الثاني القبلة فمنهم من يصلي إلى المشرق ومنهم من يصلي إلى المغرب وكلاهما مذموم لم يشرعه الله والثالث إبراهيم قالت اليهود كان يهوديا وقالت النصارى كان

5

260

نصرانيا وكلاهما كان من الإختلاف المذموم ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين سورة آل عمران والرابع عيسى جعلته اليهود لغية وجعلته النصارى إلها والخامس الكتب المنزلة آمن هؤلاء ببعض وهؤلاء ببعض والسادس الدين أخذ هؤلاء بدين وهؤلاء بدين ومن هذا الباب قوله تعالى وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء سورة البقرة وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال اختصمت يهود المدينة ونصارى نجران عند النبي صلى الله عليه وسلم فقالت اليهود ليست النصارى على شيء ولا يدخل الجنة إلا من كان يهوديا وكفروا بالإنجيل وعيسى وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وكفروا بالتوراة وموسى فأنزل الله هذه الآية والتي قبلها واختلاف أهل البدع هو من هذا النمط فالخارجي يقول ليس الشيعي على شيء والشيعي يقول ليس الخارجي على شيء والقدري النافي يقول ليس المثبت على شيء والقدري الجبري المثبت يقول ليس النافي على شيء والوعيدية تقول ليست المرجئة على شيء والمرجئة تقول ليست الوعيدية على شيء بل ويوجد شيء من هذا بين أهل المذاهب الأصولية والفروعية

5

261

المنتسبين إلى السنة فالكلابي يقول ليس الكرامى على شيء والكرامي يقول ليس الكلابي على شيء والأشعري يقول ليس السالمي على شيء والسلمي يقول ليس الأشعري على شيء ويصنف السالمي كأبي على الأهوازي كتابا في مثالب الأشعري ويصنف الأشعري كابن عساكر كتابا يناقض ذلك من كل وجه وذكر فيه مثالب السالمية وكذلك أهل المذاهب الأربعة وغيرها لا سيما وكثير منهم قد تلبس ببعض المقالات الأصولية وخلط هذا بهذا فالحنبلي والشافعي والمالكي يخلط بمذهب مالك والشافعي وأحمد شيئا من أصول الأشعرية والسالمية وغير ذلك ويضيفه إلى مذهب مالك والشافعي وأحمد وكذلك الحنفي يخلط بمذاهب أبي حنيفة شيئا من أصول المعتزلة والكرامية والكلابية ويضيفه إلى مذهب أبي حنيفة وهذا من جنس الرفض والتشيع لكنه تشيع في تفضيل بعض الطوائف والعلماء لا تشيع في تفضيل بعض الصحابة والواجب على كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله

5

262

أن يكون أصل قصده توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له وطاعة رسوله يدور على ذلك ويتبعه أين وجده ويعلم أن أفضل الخلق بعد الأنبياء هم الصحابة فلا ينتصر لشخص انتصارا مطلقا عاما إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لطائفة انتصارا مطلقا عاما إلا للصحابة رضي الله عنهم أجمعين فإن الهدى يدور مع الرسول حيث دار ويدور مع أصحابه دون أصحاب غيره حيث داروا فإذا أجمعوا لم يجمعوا على خطأ قط بخلاف أصحاب عالم من العلماء قد فإنهم قد يجمعون على خطأ بل كل قول قالوه ولم يقله غيرهم من الأمة لا يكون إلا خطأ فإن الدين الذي بعث الله به رسوله ليس مسلما إلى عالم واحد وأصحابه ولو كان كذلك لكان ذلك الشخص نظيرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو شبيه بقول الرافضة في الإمام المعصوم ولا بد أن يكون الصحابة والتابعون يعرفون ذلك الحق الذي بعث الله به الرسول قبل وجود المتبوعين الذين تنسب إليهم المذاهب في الأصول والفروع ويمتنع أن يكون هؤلاء جاءوا بحق يخالف ما جاء به الرسول فإن كل ما خالف الرسول فهو باطل ويمتنع أن يكون أحدهم علم من جهة الرسول ما يخالف الصحابة والتابعين لهم بإحسان فإن أولئك لم يجتمعوا على ضلالة فلابد أن يكون قوله إن

5

263

كان حقا مأخوذا عما جاء به الرسول موجودا فيمن قبله وكل قول قيل في دين الإسلام مخالف لما مضى عليه الصحابة والتابعون لم يقله أحد منهم بل قالوا خلافه فإنه قول باطل والمقصود هنا أن الله تعالى ذكر أن المختلفين جاءتهم البينة وجاءهم العلم وإنما اختلفوا بغيا ولهذا ذمهم الله وعاقبهم فإنهم لم يكونوا مجتهدين مخطئين بل كانوا قاصدين البغي عالمين بالحق معرضين عن القول وعن العمل به ونظير هذا قوله إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم سورة آل عمران قال الزجاج اختلفوا للبغي لا لقصد البرهان وقال تعالى ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون سورة يونس وقال تعالى ولقد أتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن

5

264

الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين هذا بصائر للناس وهدى ورحمة سورة الجاثية فهذه المواضع من القرآن تبين أن المختلفين ما اختلفوا حتى جاءهم العلم والبينات فاختلفوا للبغي والظلم لا لأجل اشتباه الحق بالباطل عليهم وهذ حال أهل الاختلاف المذموم من أهل الأهواء كلهم لا يختلفون إلا من بعد أن يظهر لهم الحق ويجيئهم العلم فيبغى بعضهم على بعض ثم المختلفون المذمومون كل منهم يبغى على الآخر فيكذب بما معه من الحق مع علمه أنه حق ويصدق بما مع نفسه من الباطل مع العلم أنه باطل وهؤلاء كلهم مذمومون ولهذا كان أهل الإختلاف المطلق كلهم مذمومين في الكتاب والسنة فإنه ما منهم إلا من خالف حقا واتبع باطلا ولهذا أمر الله الرسل أن تدعوا إلى دين واحد وهو دين الإسلام ولا يتفرقوا فيه وهو دين الأولين والآخرين من الرسل وأتباعهم قال تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه سورة الشورى وقال في الآية الأخرى يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم

5

265

فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون سورة المؤمنون أي كتبا اتبع كل قوم كتابا مبتدعا غير كتاب الله فصاروا متفرقين مختلفين لأن أهل التفرق والاختلاف ليسوا على الحنيفية المحضة التي هي الإسلام المحض الذي هو إخلاص الدين لله الذي ذكره الله في قوله وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيمو الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة سورة البينة وقال في الآية الأخرى فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون سورة الروم فنهاه أن يكون من المشركين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا وأعاد حرف من ليبين أن الثاني بدل من الأول والبدل هو المقصود بالكلام وما قبله توطئة له وقال تعالى ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم سورة هود إلى قوله ولو شاء ربك جعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم سورة هود فأخبر أن أهل الرحمة لا يختلفون وقد ذكر في غير موضع أن دين الأنبياء كلهم الإسلام كما قال تعالى عن نوح وأمرت أن أكون من المسلمين سورة النمل وقال عن إبراهيم إذا قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها

5

266

إبراهيم بينه ويعقوب يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون سورة البقرة وقال يوسف فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما والحقني بالصالحين سورة يوسف وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين سورة يونس وقال عن السحرة ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين سورة الأعراف وقال عن بلقيس رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين سورة النمل وقال يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار سورة المائدة وقال وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد باننا مسلمون سورة المائدة وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد وتنوع الشرائع لا يمنع أن يكون الدين واحدا وهو

5

267

الإسلام كالدين الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم فإنه هو دين الإسلام أولا وآخرا وكانت القبلة في أول الأمر بيت المقدس ثم صارت القبلة الكعبة وفي كلا الحالين الدين واحد وهو دين الإسلام فهكذا سائر ما شرع للأنبياء قبلنا ولهذا حيث ذكر الله الحق في القرآن جعله واحدا وجعل الباطل متعددا كقوله وأن هذا صراطي مستقيما فأتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله سورة الأنعام وقوله أهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين سورة الفاتحة وقوله اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم سورة النحل وقوله ويهديك صراطا مستقيما سورة الفتح وقوله الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات سورة البقرة وهذا يطابق ما في كتاب الله من أن الإختلاف المطلق كله مذموم بخلاف المقيد الذي قيل فيه ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا سورة البقرة فهذا قد بين أنه اختلاف بين أهل الحق والباطل كما قال هذان خصمان اختصموا في ربهم سورة الحج

5

268

وقد ثبت في الصحيحين أنها نزلت المقتتلين يوم بدر في حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي ابن عمه وعبيدة بن الحارث ابن عمه والمشركين الذين برزهم عتبة وشيبة والوليد بن عتبة وقد تدبرت كتب الإختلاف التي يذكر فيها مقالات الناس إما نقلا مجردا مثل كتاب المقالات لأبي الحسن الأشعري وكتاب الملل والنحل للشهرستاني ولأبي عيسى الوراق أو مع انتصار لبعض الأقوال كسائر ما صنفه أهل الكلام على اختلاف طبقاتهم فرأيت عامة الإختلاف الذي فيها من الاختلاف المذموم وأما الحق الذي بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه وكأن عليه سلف الأمة فلا يوجد فيها في جميع مسائل الإختلاف بل يذكر أحدهم في المسألة عدة أقوال والقول الذي جاء به الكتاب والسنة لا يذكرونه وليس ذلك لأنهم يعرفونه ولا يذكرونه بل لا يعرفونه ولهذا كان السلف والأئمة يذمون هذا الكلام ولهذا يوجد الحاذق

5

269

منهم المنصف الذي غرضه الحق في آخر عمره يصرح بالحيرة والشك إذ لم يجد في الإختلافات التي نظر فيها وناظر ما هو حق محض وكثير منهم يترك الجميع ويرجع إلي دين العامة الذي عليه العجائز والأعراب كما قال أبو المعالي وقت السياق لقد خضت البحر الخضم وخليت أهل الإسلام وعلومهم ودخلت في الذي نهونى عنه والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي وكذلك أبو حامد في آخر عمره استقر أمره على الوقف والحيرة بعد أن نظر فيما كان عنده من طرق النظار أهل الكلام والفلسفة وسلك ما تبين له من طرق العبادة والرياضة والزهد وفي آخر عمره اشتغل بالحديث بالبخاري ومسلم وكذلك الشهر ستاني مع أنه كان من أخبر هؤلاء المتكلمين بالمقالات والإختلاف وصنف فيها كتابه المعروف بنهاية الإقدام في علم الكلام وقال قد أشار علي من إشارته غنم وطاعته حتم أن أذكر له من مشكلات الأصول ما أشكل على ذوي العقول ولعله

5

270

استسمن ذا ورم ونفخ في غير ضرم لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعاكف حائر على ذقن أو قارعا سن نادم فأخبر أنه لم يجد إلا حائرا شاكا ومرتابا أو من اعتقد ثم ندم لما تبين له خطؤه فالأول في الجهل البسيط كظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكن يراها وهذا دخل في الجهل المركب ثم تبين له أنه جهل فندم ولهذا تجده في المسائل يذكر أقوال الفرق وحججهم ولا يكاد يرجح شيئا للحيرة وكذلك الأمدي الغالب عليه الوقف والحيرة وأما الرازي فهو في الكتاب الواحد بل في الموضع الواحد منه ينصر قولا وفي موضع آخر منه أو من كتاب آخر ينصر نقيضه ولهذا استقر أمره على الحيرة والشك ولهذا لما ذكر أن أكمل العلوم العلم بالله وبصفاته وأفعاله ذكر أن على كل منها إشكال وقد ذكرت

5

271

كلامه وبينت ما أشكل عليه وعلى هؤلاء في مواضع فإن الله قد أرسل رسله بالحق وخلق عباده على الفطرة فمن كمل فطرته بما أرسل الله به رسله وجد الهدى واليقين الذي لا ريب فيه ولم يتناقض لكن هؤلاء أفسدوا فطرتهم العقلية وشرعتهم السمعية بما حصل لهم من الشبهات والاختلاف الذي لم يهتدوا معه إلى الحق كما قد ذكر تفصيل ذلك في موضع غير هذا والمقصود هنا أنه لما ذكر ذلك قال ومن الذي وصل إلى هذا الباب ومن الذي ذاق هذا الشراب نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قبل وقالوا وقال لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروى غليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن اقرأ في الإثبات إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه

5

272

سورة فاطر الرحمن على العرش استوى سورة طه واقرأ في النفي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير سورة الشورى ولا يحيطون به علما سورة طه ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي وهو صادق فيما أخبر به أنه لم يستفد من بحوثه في الطرق الكلامية والفلسفية سوى أن جمع قيل وقالوا وأنه لم يجد فيها ما يشفي عليلا ولا يروى غليلا فإن من تدبر كتبه كلها لمي جد فيها مسألة واحدة من مسائل أصول الدين موافقة للحق الذي يدل عليه المنقول والمعقول بل يذكر في المسألة عدة أقوال والقول الحق لا يعرفه فلا يذكره وهكذا غيره من أهل الكلام والفلسفة ليس هذا من خصائصه فإن الحق واحد ولا يخرج عما جاءت به الرسل وهو الموافق لصريح العقل فطرة الله التي فطر الناس عليها وهؤلاء لا يعرفون ذلك بل هم من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا وهم مختلفون في الكتاب وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد سورة البقرة

5

273

وقال الإمام أحمد في خطبة مصنفة الذي صنفه في محبسه في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابهه القرآن وتأولته على غير تأويله قال الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بنور الله أهل الضلالة والعمى فكم من قتيل لإبليس قد أحبوه وكم من تائه ضال قد هدوه فما أحسن أثرهم على الناس وما أقبح أثر الناس عليهم ينقون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب متفقون على مفارقة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يلبسون عليهم

5

274

وهو كما وصفهم رحمه الله فإن المختلفين أهل المقالات المذكورة في كتب الكلام إما نقلا مجردا للأقوال وإما نقلا وبحثا وذكرا للجدال مختلفون في الكتاب كل منهم يوافق بعضا ويرد بعضا ويجعل ما يوافق رأيه هو المحكم الذي يجب اتباعه وما يخالفه هو المتشابه الذي يجب تأويله أو تفويضه وهذا موجود في كل من صنف في الكلام وذكر النصوص التي يحتج بها ويحتج بها عليه تجده يتأول النصوص التي تخالف قوله تأويلات لو فعلها غيره لأقام القيامة عليه ويتأول الآيات بما يعلم بالاضطرار أن الرسول لم يرده وبما لا يدل عليه اللفظ أصلا وبما هو خلاف التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين وخلاف نصوص أخرى

5

275

ولو ذكرت ما أعرفه من ذلك لذكرت خلقا ولا استثنى أحدا من أهل البدع لا من المشهورين بالبدع الكبار من معتزلي ورافضي ونحو ذلك ولا من المنتسبين إلى السنة والجماعة من كرامي وأشعري وسالمي ونحو ذلك وكذلك من صنف على طريقهم من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم هذا كله رأيته في كتبهم وهذا موجود في بحثهم في مسائل الصفات والقرآن ومسائل القدر ومسائل الأسماء والأحكام والإيمان والإسلام ومسائل الوعد والوعيد وغير ذلك وقد بسطنا الكلام على ذلك في مواضع من كتبنا غير هذا الكتاب درء تعارض العقل والنقل وغيره ومن أجمع الكتب التي رأيتها في مقالات الناس المختلفين في أصول الدين كتاب أبي الحسن الأشعري وقد ذكر فيه من المقالات وتفاصيلها ما لم يذكره غيره وذكر فيه مذهب أهل الحديث والسنة بحسب ما فهمه عنهم وليس في جنسه أقرب إليهم منه ومع هذا نفس القول الذي جاء به الكتاب والسنة وقال به الصحابة والتابعون لهم بإحسان في القرآن والرؤية

5

276

والصفات والقدر وغير ذلك من مسائل أصول الدين ليس في كتابه وقد استقصى ما عرفه من كلام المتكلمين وأما معرفة ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة وآثار الصحابة فعلم آخر لا يعرفه أحد من هؤلاء المتكلمين المختلفين في أصول الدين ولهذا كان سلف الأمة وأئمتها متفقين على ذم أهل الكلام فإن كلامهم لا بد أن يشتمل على تصديق بباطل وتكذيب بحق ومخالفة الكتاب والسنة فذموه لما فيه من الكذب والخطأ والضلال ولم يذم السلف من كان كلامه حقا فإن ما كان حقا فإنه هو الذي جاء به الرسول وهذا لا يذمه السلف العارفون بما جاء به الرسول ومع هذا فيستفاد من كلامهم نقض بعضهم على بعض وبيان فساد قوله فإن المختلفين كل كلامهم فيه شيء من الباطل وكل طائفة تقصد بيان بطلان قول الأخرى فيبقى الإنسان عند دلائل كثيرة تدل على فساد قول كل طائفة من الطوائف المختلفين في الكتاب وهذا مما مدح به الأشعري فإنه من بين من فضائح المعتزلة وتناقض

5

277

أقوالهم وفسادها ما لم يبينه غيره لأنه كان منهم وكان قد درس الكلام على أبي على الجبائي أربعين سنة وكان ذكيا ثم إنه رجع عنهم وصنف في الرد عليهم ونصر في الصفات طريقة ابن كلاب لأنها أقرب إلى الحق والسنة من قولهم ولم يعرف غيرها فإنه لم يكن خبيرا بالسنة والحديث وأقوال الصحابة والتابعين وغيرهم وتفسير السلف للقرآن والعلم بالسنة المحضة إنما يستفاد من هذا ولهذا يذكر في المقالات مقالة المعتزلة مفصلة يذكر قول كل واحد منهم وما بينهم من النزاع في الدق والجل كما يحكى ابن أبي زيد مقالات أصحاب مالك وكما يحكي أبو الحسن القدوري اختلاف أصحاب أبي حنيفة ويذكر أيضا مقالات الخوارج والروافض لكن نقلة لها من كتب أرباب المقالات لا عن مباشرة

5

278

منه للقائلين ولا عن خبرة بكتبهم ولكن فيها تفصيل عظيم ويذكر مقالة ابن كلاب عن خبرة بها ونظر في كتبه ويذكر اختلاف الناس في القرآن من عدة كتب فإذا جاء إلى مقالة أهل السنة والحديث ذكر أمرا مجملا يلقى أكثره عن زكريا بن يحيى الساجي وبعضه عمن أخذ عنه من حنبلية بغداد ونحوهم وأين العلم المفصل من العلم المجمل وهو يشبه من بعض الوجوه علمنا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم تفصيلا وعلمنا بما في التوراة والإنجيل مجملا لما نقله الناس عن التوراة والإنجيل وبمنزلة علم الرجل الحنفي أو الشافعي أو المالكي أو الحنبلي بمذهبه الذي عرف أصوله وفروعه واختلاف أهله وأدلته بالنسبة إلى ما يذكرونه من خلاف المذهب الآخر فإنه إنما يعرفه معرفة مجملة

5

279

فهكذا معرفته بمذهب أهل السنة والحديث مع أنه من أعرف المتكلمين المصنفين في الاختلاف بذلك وهو أعرف به من جميع أصحابه من القاضي أبي بكر وابن فورك وأبي إسحاق وهؤلاء أعلم به من أبي المعالي وذويه ومن الشهرستاني ولهذا كان ما يذكره الشهرستاني من مذهب أهل السنة والحديث ناقصا عما يذكره الأشعري فإن الأشعري أعلم من هؤلاء كلهم بذلك نقلا وتوجيها وهذا كالفقيه الذي يكون أعرف من غيره من الفقهاء بالحديث وليس هو من علماء الحديث أو المحدث الذي يكون أفقه من غيره من المحدثين وليس هو من أئمة الفقه والمقرىء الذي يكون أخبر من غيره بالنحو والإعراب وليس هو من أئمة النحاة والنحوي الذي يكون أخبر من غيره بالقرآن وليس هو من أئمة القراء ونظائر هذا متعددة والمقصود هنا بيان ما ذكره الله في كتابه من ذم الإختلاف في الكتاب وهذا الإختلاف القولي وأما الإختلاف العملي وهو الإختلاف باليد والسيف والعصا والسوط فهو داخل في الإختلاف والخوارج والروافض والمعتزلة ونحوهم يدخلون في النوعين والملوك الذين يتقاتلون على محض الدنيا يدخلون في الثاني والذين يتكلمون في العلم ولا يدعون إلى قول ابتدعوه ويحاربون عليه من خالفهم لا بيد ولا بلسان هؤلاء هم أهل العلم وهؤلاء خطؤهم مغفور

5

280

لهم وليسوا مذمومين إلا أن يدخلهم هوى وعدوان أو تفريط في بعض الأمور فيكون ذلك من ذنوبهم فإن العبد مأمور بالتزام الصراط المستقيم في كل أموره وقد شرع الله تعالى أن نسأله ذلك في كل صلاة وهو أفضل الدعاء وأفرضه وأجمعه لكل خير وكل أحد محتاج إلى الدعاء به فلهذا أوجبه الله تعالى على العبد في كل صلاة فإنه وإن كان قد هدي هدى مجملا مثل إقراره بأن الإسلام حق والرسول حق فهو محتاج إلى التفصيل في كل ما يقوله ويفعله ويعتقده فيثبته أو ينفيه ويحبه أو يبغضه ويأمر به أو ينهى عنه ويحمده أو يذمه وهو محتاج في جميع ذلك إلى أن يهديه الله الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا فإن كثيرا ممن سمع ذم الكلام مجملا أو سمع ذم الطائفة الفلانية مجملا وهو لا يعرف تفاصيل الأمور من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية والعامة ومن كان متوسطا في الكلام لم يصل إلى الغايات التي منها تفرقوا واختلفوا تجده يذم القول وقائله بعبارة ويقبله بعبارة ويقرأ كتب التفسير والفقه وشروح الحديث وفيها تلك المقالات التي كان يذمها فيقبلها من أشخاص أخر يحسن الظن بهم وقد ذكروها بعبارة أخرى أو في ضمن تفسير آية أو حديث أو غير ذلك

5

281

وهذا مما يوجد كثيرا والسالم من سلمه الله حتى أن كثيرا من هؤلاء يعظم أئمة ويذم أقوالا قد يلعن قائلها أو يكفره وقد قالها أولئك الأئمة الذين يعظمهم ولو علم أنهم قالوها لما لعن القائل وكثير منها يكون قد قاله النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يعرف ذلك فإن كان ممن قبلها من المتكلمين تقليديا فإنه يتبع من يكون في نفسه أعظم فإن ظن أن المتكلمين حققوا ما لم يحققه أتمتهم قلدهم وإن ظن أن الائمة أجل قدرا وأعرف بالحق وأتبع للرسول قلدهم وإن كان قد عرف الحجة الكلامية على ذلك القول وبلغه أن أئمة يعظمهم قالوا بخلافه أو جاء الحديث بخلافه بقي في الحيرة وإن رجح أحد الجانبين رجح على مضض وليس عنده ما يبني عليه وإنما يستقر قلبه بما يعرف صحة أحد القولين جزما فإن التقليد لا يورث الجزم فإذا جزم بأن الرسول قاله وهو عالم بأنه لا يقول إلا الحق جزم بذلك وإن خالفه بعض أهل الكلام وعلم الإنسان باختلاف هؤلاء ورد بعضهم على بعض وإن لم يعرف بعضهم فساد مقالة بعض هو من أنفع الأمور فإنه ما منهم إلا من قد فضل مقالته طوائف فإذا عرف رد الطائفة الأخرى على هذه

5

282

المقالة عرف فسادها فكان في ذلك نهى عما فيها من المنكر والباطل وكذلك إذا عرف رد هؤلاء على أولئك فإنه أيضا يعرف ما عند أولئك من الباطل فيتقي الباطل الذي معهم ثم من بين الله له الذي جاء به الرسول إما بأن يكون قولا ثالثا خارجا عن القولين وإما بأن يكون بعض قول هؤلاء وبعض قول هؤلاء وعرف أن هذا هو الذي كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان وعليه دل الكتاب والسنة كان الله قد أتم عليه النعمة إذ هداه الصراط المستقيم وجنبه صراط أهل البغي والضلال وإن لم يتبين له كان امتناعه من موافقه هؤلاء على ضلالهم وهؤلاء على ضلالهم نعمة في حقه واعتصم بما عرفه من الكتاب والسنة مجملا وأمسك عن الكلام في تلك المسألة وكانت من جملة ما لم يعرفه فإن الإنسان لا يعرف الحق في كل ما تكلم الناس به وأنت تجدهم يحكون أقوالا متعددة في التفسير وشرح الحديث في مسائل الأحكام بل والعربية والطب وغير ذلك ثم كثير من الناس يحكي الخلاف ولا يعرف الحق وأما الخلاف الذي بين الفلاسفة فلا يحصيه أحد لكثرته ولتفرقهم فإن الفلسفة التي عند المتأخرين كالفارابي وابن سينا ومن نسج على منوالهما هي فلسفة أرسطو وأتباعه وهو صاحب التعاليم المنطق والطبيعي وما بعد الطبيعة والذي يحكيه الغزالي

5

283

والشهرستاني والرازي وغيرهم من مقالات الفلاسفة هو من كلام ابن سينا والفلاسفة أصناف مصنفة غير هؤلاء ولهذا يذكر القاضي أبو بكر في دقائق الكلام وقبله أبو الحسن الأشعري في كتاب مقالات غير الإسلاميين وهو كتاب كبير أكبر من مقالات الإسلاميين أقوالا كثيرة للفلاسفة لا يذكرها هؤلاء الذين يأخذون عن ابن سينا وكذلك غير الأشعري مثل أبي عيسى الوراق والنوبختي وأبي علي وأبي هاشم وخلق كثير من أهل الكلام والفلسفة والمقصود أن كتب أهل الكلام يستفاد منها رد بعضهم على بعض وهذا لا يحتاج إليه من لا يحتاج إلى رد المقالة الباطلة لكونها لم تخطر بقلبه ولا هناك من يخاطبه بها ولا يطالع كتابا هي فيه ولا ينتفع به من لم يفهم الرد بل قد يستضر به من عرف الشبهة ولم يعرف فسادها ولكن المقصود هنا أن هذا هو العلم الذي في كتبهم فإنهم يردون باطلا بباطل وكلا القولين باطل ولهذا كان مذموما ممنوعا منه عند السلف والأئمة وكثير منهم أو أكثرهم لا يعرف أن الذي يقوله باطل

5

284

وبكل حال فهم يذكرون من عيوب باطل غيرهم وذمة ما قد ينتفع به مثال ذلك تنازعهم في مسائل الأسماء والأحكام والوعد والوعيد فالخوارج والمعتزلة يقولون صاحب الكبائر الذي لم يتب منها مخلد في النار ليس معه شيء من الإيمان ثم الخوارج تقول هو كافر والمعتزلة توافقهم على الحكم لا على الاسم والمرجئة تقول هو مؤمن تام الإيمان لا نقص في إيمانه بل إيمانه كإيمان الأنبياء والأولياء وهذا نزاع في الاسم ثم تقول فقهاؤهم ما تقوله الجماعة في أهل الكبائر فيهم من يدخل النار وفيهم من لا يدخل كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة واتفق عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان فهؤلاء لا ينازعون أهل السنة والحديث في حكمه في الآخرة وإنما ينازعونهم في الإسم وينازعون أيضا فيمن قال ولم يفعل وكثير من متكلمة المرجئة تقول لا نعلم أن أحدا من أهل القبلة من أهل الكبائر يدخل النار ولا أن أحدا منهم لا يدخلها بل يجوز أن يدخلها جميع الفساق ويجوز أن لا يدخلها أحد منهم ويجوز دخول بعضهم ويقولون من أذنب وتاب لا يقطع بقبول توبته بل يجوز دخول أن يدخل النار أيضا فهم يقفون في هذا كله ولهذا سمو الواقفة وهذا قول القاضي أبي بكر وغيره من الأشعرية وغيرهم فيحتج أولئك بنصوص الوعيد وعمومها ويعارضهم هؤلاء بنصوص الوعد وعمومها فقال أولئك الفساق لا يدخلون في الوعد لأنهم لا

5

285

حسنات لهم لأنهم لم يكونوا من المتقين وقد قال الله تعالى إنما يتقبل الله من المتقين سورة المائدة وقال تعالى لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى سورة البقرة وقال لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون سورة الحجرات وقال ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم سورة محمد فهذه النصوص وغيرها تدل على أن الماضي من العمل قد يحبط بالسيئات وأن العمل لا يقبل إلا مع التقوى والوعد إنما هو للمؤمن وهؤلاء ليسوا مؤمنين بدليل قوله إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم سورة الأنفال وقوله إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون سورة الحجرات وبقوله أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون سورة السجدة والفاسق ليس بمؤمن فلا يتناوله الوعد وبما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن وقوله من غشنا فليس منا ومن حمل علينا السلاح فليس منا ونحو ذلك

5

286

وتقول المرجئة قوله تعالى إنما يتقبل الله من المتقين سورة المائدة المراد به من اتقى الشرك ويقولون الأعمال لا تحبط إلا بالكفر قال تعالى لئن أشركت ليحبطن عملك سوة الزمر وقال ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله سورة المائدة ويقولون قد قال تعالى ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير جنات عدن يدخلونها سوة فاطر فقد أخبر أن الثلاثة يدخلون الجنة وقد حكي عن بعض غلاة المرجئة أن أحدا من أهل التوحيد لا يدخل النار ولكن هذا لا أعرف به قائلا معينا فأحكيه عنه ومن الناس من يحكيه عن مقاتل بن سليمان والظاهر أنه غلط عليه

5

287

وهؤلاء قد يحتجون بهذه الآية ويحتجون بقوله فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى سورة الليل وقد يحتج بعض الجهال بقوله ذلك يخوف الله به عباده سورة الزمر قال فالوعيد شيء يخوفكم به ويقولون أما قوله ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم سورة محمد فهذه في الكفار فإنه قال والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم سورة محمد وكذلك قوله إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك بأنهم أتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم سورة محمد فقد أخبر سبحانه أن هؤلاء ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى وأن الشيطان سول لهم وأملى لهم أي وسع لهم في العمر وكان هذا بسبب وعدهم للكفار بالموافقة فقال ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر ولهذا فسر السلف هؤلاء الذين كرهوا ما أنزل الله الذين كانوا سبب نزول هذه الآية بالمنافقين واليهود قالت الوعيدية الله تعالى إنما

5

288

وصفهم بمجرد كراهة ما نزل الله والكراهة عمل القلب وعند الجهمية الإيمان مجرد تصديق القلب وعلمه هذا قول جهم والصالحي والأشعري في المشهور عنه وأكثر أصحابه وعند فقهاء المرجئة هو قول اللسان مع تصديق القلب وعلى القولين أعمال القلوب ليست من الإيمان عندهم كأعمال الجوارح فيمكن أن يكون الرجل مصدقا بلسانه وقلبه مع كراهة ما نزل الله وحينئذ فلا يكون هذا كافر عندهم والآية تتناوله وإذا دلت على كفره دلت على فساد قولهم قالوا وأما قولكم المتقون الذين اتقوا الشرك فهذا خلاف القرآن فإن الله تعالى قال إن المتقين في ظلال وعيون وفواكه مما يشتهون سورة المرسلات إن المتقين في جنات ونهر سورة القمر وقال ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون سورة البقرة وقالت مريم إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا سورة مريم

5

289

ولم ترد به الشرك بل أرادت التقي الذي يتقي فلا يقدم على الفجور وقال تعالى ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب سورة الطلاق وقال تعالى إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم سورة الأنفال وقال تعالى إنه من يتق ويصبر فإن الله أجر المحسنين وقال تعالى لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور سورة آل عمران وقال تعالى ثم جعلناكم على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إلى قوله والله ولي المتقين سورة الجاثية وقال يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم سورة الأحزاب فهم قد آمنوا واتقوا الشرك فلم يكن الذي أمرهم به بعد ذلك مجرد ترك الشرك وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته سورة آل

5

290

عمران أفيقول مسلم إن قطاع الطريق الذين يسفكون دماء الناس ويأخذون أموالهم اتقوا الله حق تقاته لكونهم لم يشركوا وإن أهل الفواحش وشرب الخمر وظلم الناس اتقوا الله حق تقاته وقد قال السلف ابن مسعود وغيره كالحسن وعكرمة وقتادة ومقاتل حق تقاته أن يطاع فلا يعصى وأن يشكر فلا يكفر وأن يذكر فلا ينسى وبعضهم يرويه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي تفسير الوالبي عن ابن عباس قال هو أن يجاهد العبد في الله حق جهاده وأن لا تأخذه في الله لومة لائم وأن يقوموا له بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم و في الآية أخرى فأتقوا الله ما استطعتم سورة التغابن وهذه مفسرة لتلك ومن قال من السلف هي ناسخة لها فمعناه أنها رافعة لما يظن من أن المراد من حق تقاته ما يعجز البشر عنه فإن الله لم يأمر بهذا قط ومن قال إن الله أمر به فقد غلط ولفظ النسخ في عرف السلف يدخل فيه كل ما فيه نوع رفع لحكم أو ظاهر أو ظن دلالة حتى يسموا تخصيص العام نسخا ومنهم من يسمى الإستثناء نسخا إذا تأخر نزوله

5

291

وقد قال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم سورة الحج فهذ رفع لشيء ألقاه الشيطان ولم ينزله الله لكن غايته أن يظن أن الله أنزله وقد أخبر أنه نسخة وقد قال تعالى إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون سورة الأعراف فمن كان الشيطان لا يزال يمده في الغي وهو لا يتذكر ولا يبصر كيف يكون من المتقين وقد قال تعالى في آية الطلاق ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب سورة الطلاق وفي حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يا أبا ذر لو عمل الناس كلهم بهذه الآية لكفتهم وكان ابن عباس وغيره من الصحابة إذا تعدى الرجل حد الله في الطلاق يقولون له لو اتقيت الله لجعل لك مخرجا وفرجا ومعلوم أنه ليس المراد بالتقوى هنا مجرد تقوى الشرك ومن أواخر

5

292

ما نزل من القرآن وقيل إنها آخر آية نزلت قوله تعالى واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون سورة البقرة فهل اتقاء ذلك هو مجرد ترك الشرك وإن فعل كل ما حرم الله عليه وترك كل ما أمر الله به وقد قال طلق بن حبيب ومع هذا كان سعيد بن جبير ينسبه إلى الإرجاء قال التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو رحمة الله وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله وبالجملة فكون المتقين هم الأبرار الفاعلون للفرائض المجتنبون للمحارم هو من العلم العام الذي يعرفه المسلمون خلفا عن سلف والقرآن والأحاديث تقتضي ذلك قالت المرجئة أما احتجاجكم بقوله تعالى أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون سورة السجدة فلا يصح لأن تمام الآية يدل على أن المراد بالفاسق المكذب فإنه قال وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون سورة السجدة فقد وصفهم بالتكذيب بعذاب الآخرة وهذا وصف المكذب لا العاصي وقالوا مع الجمهور للخوارج لو كان صاحب الكبيرة كافرا لكان مرتدا ووجب قتله والله تعالى قد أمر بجلد الزاني وأمر بجلد القاذف وأمر

5

293

بقطع السارق ومضت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بجلد الشارب فهذه النصوص صريحة بأن الزاني والشارب والسارق والقاذف ليسوا كفارا مرتدين يستحقون القتل فمن جعلهم كفارا فقد خالف نص القرآن والسنة المتواترة وقالوا لهم وللمعتزلة قد قال الله تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون سورة الحجرات قالوا فقد سماهم مؤمنين مع الإقتتال والبغي وقد أمر الله تعالى بالإصلاح بينهم وجعلهم إخوة المصلح بينهم الذي لم يقاتل فعلم أن البغي لا يخرج عن الإيمان ولا عن أخوة الإيمان قالت المرجئة وقوله ليس منا أي ليس مثلنا أو ليس من خيارنا فقيل لهم فلو لم يغش ولم يحمل السلاح أكان يكون مثل النبي صلى الله عليه وسلم أو كان يكون من خيارهم بمجرد هذا الكلام وقالت المرجئة نصوص الوعيد عامة ومنا من ينكر صيغ العموم

5

294

ومن أثبتها قال لا يعلم تناولها لكل فرد من أفراد العام فمن لم يعذب لم يكن اللفظ قد شمله فقيل للواقفة منهم عندكم يجوز أن لا يحصل الوعيد بأحد من أهل القبلة فيلزم تعطيل نصوص الوعيد ولا تبقى لا خاصة ولا عامة وليس مقصودنا هنا استيفاء الكلام في المسألة وإنما الغرض التمثيل بالمناظرات من الطرفين وأهل السنة والحديث وأئمة الإسلام المتبعون للصحابة متوسطون بين هؤلاء وهؤلاء لا يقولون بتخليد أحد من أهل القبلة في النار كما تقول الخوارج والمعتزلة لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة لأنه يخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان وإخراجه من النار من يخرج بشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم فيمن يشفع له من أهل الكبائر من أمته

5

295

وهذه أحاديث كثيرة مستفيضة متواترة عند أهل العلم بالحديث ولا يقولون إنا نقف في الأحكام المطلقة بل نعلم أن الله يدخل النار من يدخله من أهل الكبائر وناس آخرون لا يدخلونها لأسباب لكن تنازعوا هل يكون الداخلون بسبب اقتضى ذلك كعظم الذنوب وكثرتها والذين لم يدخلوها بسبب منع ذلك كالحسنات المعارضة ونحوها وأنه سبحانه وتعالى يفعل ما يفعله بحكمة وأسباب أم قد يفرق بين المتماثلين بمحض المشيئة فيعذب الشخص ويعفو عمن هو مثله من كل وجه بمحض المشيئة هذا لهم فيه قولان والنصوص وأقوال السلف توافق الأول وإنما قد نقف في الشخص المعين فلا نشهد له بجنة ولا نار إلا عن علم لأن حقيقة باطنه وما مات عليه لا نحيط به لكن نرجو للمحسن ونخاف على المسيئ ولهم في الشهادة بالجنة ثلاثة أقوال منهم من لا يشهد بالجنة لأحد إلا للأنبياء وهذا قول محمد بن الحنفية والأوزاعي والثاني أنه يشهد بالجنة لكل مؤمن جاء فيه نص وهذا قول كثير من أهل الحديث والثالث يشهد بالجنة لهؤلاء ولمن شهد له المؤمنون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم أنتم شهداء الله في الأرض وقال يوشك أن

5

296

تعلموا أهل الجنة من أهل النار قالوا بم يا رسول الله قال بالثناء الحسن والثناء السيئ فأخبر أن ذلك مما يعلم به أهل الجنة وأهل النار وكان أبو ثور يقول أشهد أن أحمد بن حنبل في الجنة ويحتج بهذا وبسط هذه المسألة له موضع آخر والإيمان عندهم يتفاضل فيكون إيمان أكمل من إيمان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا فيقولون قوله إنما يتقبل الله من المتقين سورة المائدة أي ممن اتقاه في ذلك العمل ليس المراد به الخلو من الذنوب ولا مجرد الخلو من الشرك بل من اتقاه في عمل قبله منه وإن كانت له ذنوب أخرى بدليل قوله وأقم الصلاة طرفى النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات سورة هود فلو كانت الحسنة لا تقبل من صاحب السيئة لم تمحها وقد ثبت بالكتاب والسنة المتواترة الموازنة بين الحسنات والسيئات فلو كانت الكبيرة تحبط الحسنات لم تبق حسنة توزن معها

5

297

وقد ثبت في الصحيحين أن بغيا سقت كلبا فغفر الله لها بسقيه قالوا وابنا آدم لم يكن أحدهما مشركا ولكن لم يقصد التقرب إلى الله بالطيب من ماله كما جاء في الأثر فلهذا لم يتقبل الله قربانه وقد قال تعالى في حق المنافقين وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون سورة التوبة فجعل هذه موانع قبول النفقة دون مطلق الذنوب قال أهل الحديث والسنة ومن نفى عنه الإيمان فلأنه ترك بعض واجباته والعبادة ينفى اسمها بنفي بعض واجباتها لأنها لم تبق كاملة ولا يلزم من ذلك أن لا يبقى منه شيئ بل قد دلت النصوص على أنه يبقى بعضه ويخرج من النار من بقي معه بعضه ومعلوم أن العبادات فيها واجب كالحج فيه واجب إذا تركه كان حجة ناقصا يأثم بما ترك ولا إعادة عليه بل يجبره بدم كرمي الجمار وإن لم يجبره بقي في ذمته فكذلك الإيمان ينقص بالذنوب فإن تاب عاد وإلا بقي ناقصا نقصا يأثم به وقد يحرم في الحج أفعال إذا فعلها

5

298

نقص حجة ولم يبطل كالتطيب ولبس الثياب بل يجبر ذلك ولا يفسده من المحرمات إلا الجماع فكذلك لا يزيل الإيمان كله إلا الكفر المحض الذي لا يبقى مع صاحبه شيء من الإيمان قالوا وهذا هو الذي يحبط جميع الأعمال وأما ما دون ذلك فقد يحبط بعض العمل كما في آية المن والأذى فإن ذلك يبطل تلك الصدقة لا يبطل سائر أعماله والذين كرهوا ما أنزل الله كفار وأعمال القلوب مثل حب الله ورسوله وخشية الله ونحو ذلك كلها من الإيمان وكراهة ما أنزل الله كفر وأوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله وقد قال تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله سورة المجادلة وقوله في السابق والمقتصد والظالم لنفسه جنات عدن يدخلونها سورة الرعد لا يمنع أن يكون الظالم لنفسه قد عذب قبل هذا ثم يدخلها وقوله لا يصلاها إلا الأشقى سورة الليل لا يخلو إما أن يكون المراد بالصلي نوعا من التعذيب كما قيل إن الذي تصليه النار هو الذي تحيط به وأهل القبلة لا تحرق النار منهم مواضع السجود أو تكون نارا مخصوصة وقوله يخوف الله به عباده سورة الزمر كقول النبي صلى الله

5

299

عليه وسلم في الشمس والقمر إنهما آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده وقد قال تعالى وما نرسل بالآيات إلا تخويفا سورة الإسراء والآيات التي خوف الله بها عباده تكون سببا في شر ينزل بالناس فمن اتقى الله بفعل ما أمر به وفي ذلك الشر ولو كان مما لا حقيقة له أصلا لم يخف أحد إذا علم أنه لا شر في الباطن وإنما يبقى التخويف للجاهل الفدم كما يفزغ الصبيان بالخيال وقد قال تعالى ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون سورة الزمر فخوف العباد مطلقا وأمرهم بتقواه لئلا ينزل المخوف وأرسل الرسل مبشرين ومنذرين والإنذار هو الإعلام بما يخاف منه وقد وجدت المخوفات في الدنيا وعاقب الله على الذنوب أمما كثيرة كما قصه في كتابه وكما شوهد من من الآيات وأخبر عن دخول أهل النار النار في غير موضع من القرآن وقال تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء سورة فاطر ولو كان الأمر كما يتوهمه الجاهل لكان إنما يخشاه من عباده الجهال الذين

5

300

يتخيلون ما لا حقيقة له وهذا كله مبسوط في موضعه وإنما الغرض هنا التمثيل بأقوال المختلفين التي كلها باطلة ومثال ذلك إذا تنازع في القدر القدرية من المعتزلة وغيرهم والقدرية المجبرة من الجهمية وغيرهم فقالوا جميعا إرادة الله هي محبته وهي رضاه ثم قالت المعتزلة وهو سبحانه يحب الإيمان والعمل الصالح ويكره الكفر والفسوق والعصيان فلا يكون مريدا له قالوا والدليل على ذلك قوله ولا يرضى لعباده الكفر سورة الزمر وقوله إذ يبيتون ما لا يرضى من القول سورة النساء وقوله والله لا يحب الفساد سورة البقرة والفقهاء متفقون على أن أفعال البر تنقسم إلى واجب ومستحب والمستحب هو ما أحبه الله ورسوله وأن المنهي عنه كله مكروه كرهه الله ورسوله والكراهة نوعان كراهة تحريم وكراهة تنزيه وقد قال تعالى لما ذكر المحرمات كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها سورة الإسراء وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله يكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة

5

301

المال وفي الصحيح أيضا عنه أنه قال إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب قالوا فهل دليل على أنه يكون في العالم ما هو مكروه لله فلا يكون مرادا لله فيكون في العالم ما لا يريده الله وهو ما لم يأمر الله به أو ينه عنه قالوا والأمر لا يعقل أمرا إلا بإرادة الأمر لما أمر به المأمور ومن قدر أن الأمر يطلب المأمور به طلبا لا يكون إرادة ولا مستلزما للإرادة فهذا قد أدعى ما يعلم فساده بالضرورة وما يحتج به من التمثيل بأمر الممتحن فذاك لم يكن طالبا للمأمور به ولا مريدا له في الباطن بل أظهر أنه مريد طالب وقالوا قد قال الله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر سورة البقرة

5

302

وقال تعالى ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون سورة المائدة وقال تعالى يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حليم والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا سورة النساء وقال الله تعالى إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا سورة الأحزاب فهذه المرادات كلها قد أمر بها عباده فمنهم من أطاع ومنهم من عصى فعلم أنه قد يريد من العباد ما لا يفعلونه كما يأمرهم بما لا يفعلونه قالت القدرية الجبرية من الجهمية ومن اتبعهم بل إرادته تعالى تتناول ما وجد دون ما لم يوجد فإن المسلمين متفقون على قولهم ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ولأن إرادة ما علم أنه لا يكون تمن وقد قال سبحانه ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء سورة إبراهيم فكل ما يشاؤه فقد فعله وقال تعالى ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها فعلم أنه لم يشأ ذلك فلم يرد هدى كل أحد وإن كان قد أمر به

5

303

وقال تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء سورة الأنعام فعلم أنه يريد الإضلال كما يريد شرح الصدر للإسلام وقال نوح ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم سورة هود فدل على أنه يريد إغواء من غوى وقد قال تعالى الله خالق كل شيء سورة الرعد فكل ما وجد من أفعال العباد وغيرها فإن الله خالقه قالوا وما أراده فقد أحبه ورضيه وقوله لا يحب الفساد سورة البقرة أي ممن لم يفسد أولا يحبه دينا وكذلك قوله ولا يرضى لعباده الكفر سورة الزمر أي ممن لم يكفر أو لا يرضاه دينا كما وأنه لا يحب الإيمان ممن لم يؤمن أو لا يحبه غير دين قال المنازعون لهم من المعتزلة وغيرهم فقد قال إذ يبيتون ما لا يرضى من القول سورة النساء وأولئك منافقون وذاك القول محرم عليهم وهو واقع منهم وقد أخبر أنه لا يرضاه فعلم أنه ما وقع من المعاصي لا يرضاه وكذلك قوله إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده

5

304

الكفر سورة الزمر أخبر أنه لا يرضاه بتقدير وقوعه ولا يقال أنه يرضى كل موجود وقولكم لا يرضاه دينا فالرضا في كتاب الله متعلق بنفس الفعل لا بشيء محذوف وكونه لا يرضاه دينا عندكم معناه لا يريد أن يثيب صاحبه عليه ومعلوم أن إبليس والشياطين لا يرضونه دينا بهذا الإعتبار مع أن إبليس يرضى الكفر ويختاره فإنه قد يحب ما يبغضه الله ويبغض ما يحبه الله ليغوي الناس بذلك قال الله تعالى عنه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا سورة الكهف وقال تعالى ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن أعبدوني هذا صراط مستقيم سورة يس قالوا والأمة متفقة على أن الله سبحانه يحب الإيمان والعمل الصالح ويحب المتقين والمحسنين ويحب التوابين ويحب المتطهرين ويحب المقسطين ولا يحب المعاصي ولا يرضاها واحتجاجنا بهذا الإجماع أقوى من احتجاجكم بقولهم ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فإنهم كلهم يقولون إن الصلاة والصدقة والأعمال الصالحة يرضاها الله ورسوله ويحبها الله ورسوله ويقولون عن الفواحش والظلم هذا لا يرضاه الله ورسوله ولا يحبه الله ورسوله

5

305

فأنتم خالفتم الكتاب والسنة والإجماع في قولكم إن كل ما وقع من الكفر والفسوق والعصيان فإن الله يحبه ويرضاه قالت القدرية المجبرة من الجهمية وغيرهم أنتم تقولون إن الله لم يختص المؤمنون بنعمة اهتدوا بها بل نعمته على الكفار والمؤمنين في الإيمان سواء وهذا خلاف الشرع والعقل فإن الله تعالى يقول ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون سورة الحجرات قال تعالى يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا على إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين وقال تعالى وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا سورة الأنعام وقال ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا سورة النور وقال تعالى وأعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه سورة الأنفال وقال الخليل عليه السلام ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك سورة البقرة وقال واجنبنى وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس سورة إبراهيم وقال تعالى لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤن إلا أن يشاء الله رب العالمين سورة التكوير

5

306

وقال فمن شاء أتخذ إلى ربه سبيلا سورة المزمل وقال وما تشآءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما سورة الإنسان وقال فمن شاء ذكره وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة سورة المدثر وقد أمرنا أن نقول في الصلاة اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين سورة الفاتحة والذين أنعم الله عليهم هم المذكورون في قوله تعالى فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا سورة النساء والإنعام المطلق إنما يدخل فيه المؤمنون فدل ذلك على أن الطاعة الحاصلة من المؤمنين هو الذي أنعم بها ولو كانت نعمته عليهم كنعمته على الكفار لكان الجميع من المنعم عليهم أهل الصراط المستقيم وقوله تعالى غير المغضوب عليهم سورة الفاتحة صفة لا استثناء لأنه خفض غير كما تقول العرب إني لأمر بالصادق غير

5

307

الكاذب فالمغضوب عليهم والضالون لم يدخلوا في المنعم عليهم حتى يخرجوا بل بين أن هؤلاء مغايرون لأولئك كمغايرة الصادق للكاذب وقد قال تعالى من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا سورة الكهف فدل على أن كل من هداه الله اهتدى ولو هدى الكافر كما هدى المؤمن لاهتدى وقال الخليل رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ربنا أغفر لي ولوالدي سورة ابراهيم فتبين أنه سبحانه هو الذي يجعله مقيم الصلاة وقال تعالى وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا سورة الأنبياء وقال تعالى وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار سورة القصص فهو الذي جعل هؤلاء أئمة هدى وهؤلاء أئمة ضلال وقال تعالى فبما رحمة من الله لنت لهم سورة آل عمران فبين أن لينه برحمة من الله وقال أهل الجنة الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق سورة الأعراف وقال تعالى لما ذكر الأنبياء ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون إلى قوله

5

308

أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده سورة الأنعام فأخبر أنه يخص بهذا الهدى من يشاء من عباده وأخبر أن هؤلاء هم الذين هداهم الله فعلم أنه خص بهذا الهدى من اهتدى به دون من لم يهتد به ودل على تخصيص المهتدين بأنه هداهم ولم يهد من لم يهتد والهدى يكون بمعنى البيان والدعوة وهذا يشترك فيه المؤمن والكافر كقوله تعالى وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى سورة فصلت ويكون بمعنى جعله مهتديا وهذا يختص بالمؤمنين وهو المطلوب بقوله اهدنا الصراط المستقيم سورة الفاتحة وبقوله هدى للمتقين سورة البقرة وذلك أن هدى بمعنى دل وأرشد قد يكون بالقوة فهذا مشترك وقد يكون بالفعل فهذا مختص كما تقول علمته فتعلم وعلمته فما تعلم وكذلك هديته فاهتدى وهديته فما اهتدى فالأول مختص بالمؤمنين والثاني مشترك وليس تعليمه وهداه كتعليم البشر بعضا فإن المعلم يقول والمتعلم يتعلم بأسباب لا يقدر عليها المعلم والله تعالى هو الذي يجعل العلم في قلوب من علمه ولهذا يطلب منه ذلك فيقال اهدنا الصراط المستقيم ولا يقال ذلك للبشر فإنهم لا يقدرون عليه

5

309

ويطلب العبد من الله أن يفهمه ويعلمه ويشرح صدره وأن يحبب إليه الإيمان والعمل الصالح ولا يطلب هذا من غير الله قال تعالى أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه سورة الزمر وقال فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا سورة الأنعام وقال ففهمناها سليمان سورة الأنبياء فخص سليمان بالتفهيم مع أنهما كانا حاكمين لم يخص أحدهما بعلم ظاهر وقال تعالى ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها سورة الشمس وكانت أكثر يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ومقلب القلوب وقال ما من قلب من قلوب العباد إلا وهو بين إصبعين من أصابع

5

310

الرحمن إن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه وقد قال تعالى في دعاء المؤمنين ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب سورة آل عمران و قال تعالى ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله سورة الكهف وقال ولو شاء ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعا سورة يس وقال ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة سورة هود وقال ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات سورة البقرة وقال ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها سورة السجدة وقال ولو شاء ربك ما فعلوه سورة الأنعام وقال ولو شاء ربك ما أشركوا سورة الأنعام وقال إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا

5

311

يبصرون سورة يس والآيات والنصوص المثبتة للقدر كثيرة جدا وهذا كله حجة على بطلان قول المعتزلة وغيرهم من القدرية النافية فصار مع هؤلاء نصوص يقولون بها ومع هؤلاء نصوص وكل من الطائفتين يتأول نصوص الأخرى بتأويلات فاسدة ويضم إلى النصوص التي يحتج بها أمور لا تدل عليها النصوص وأما أهل السنة والحديث من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين وعلماء أهل السنة والحديث رضي الله عنهم فآمنوا بالكتاب كله ولم يحرقوا شيئا من النصوص وقالوا نحن نقول ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ونقول إن الله خالق كل شيء وربه ومليكه فكل ما سوى الله مخلوق له حادث بمشيئته وقدرته ولا يكون في ملكه ما لا يشاؤه ويخلقه فلا يقدر أحد أن يمنع الله عما أراد أن يخلقه ويكونه فإن الواحد القهار ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم سورة فاطر وقالوا إن الله يأمر بالإيمان والعمل الصالح وينهى عن الكفر والفسوق والعصيان ويحب كل ما أمر به ويرضاه ويكره ما نهى عنه

5

312

ويسخطه وهو سبحانه لا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر قالوا وليس كل ما أمر العباد به وأراد منهم أن يفعلوه أراد هو أن يخلقه لهم ويعينهم عليه بل إعانته على الطاعة لمن أمره بها فضل منه كسائر النعم وهو يختص برحمته من يشاء والطائفتان غلطوا من حيث أنهم لم يميزوا بين إرادته لما يخلقه في عباده وإرادته لما يأمر به عباده وقد قال سبحانه ألا له الخلق والأمر سورة الأعراف فالرب خالق كل شيء وكل ما خلقه فبإرادته خلقه فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فما لم يكن لم يرد أن يخلقه وما كان فقد أراد أن يخلقه وهو لا يريد أن يخلق إلا ما سبق علمه بأنه سيخلقه فإن العلم يطابق المعلوم وقد أمر العباد بالحسنات التي تنفعهم ونهاهم عن السيئات التي تضرهم والحسنات محبوبة لله مرضية والسيئات مكروهه له يسخطها ويسخط على أهلها وإن كان الجميع مخلوقا له فإنه خلق جبريل وإبليس وهو يحب جبريل ويبغض إبليس وخلق الجنة والنار وجعل الظلمات والنور وخلق الظل والحرور وخلق الموت والحياة وخلق الذكر والأنثى وخلق الأعمى والبصير

5

313

وقد قال لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون سورة الحشر وقال وما يستوى الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات سورة فاطر وقال أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون سورة القلم وقال أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار سورة ص وقال أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون سورة الجاثية وقد خلق الطيبات والخبائث وليس الطيبات كالخبائث ولا الفواكة والحبوب كالبول والعذرة وهو سبحانه إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه وهو طيب لا يقبل إلا طيبا وهو نظيف يحب النظافة وجميل يحب الجمال وليس كل ما خلقه يصعد إليه ويكون طيبا محبوبا له له مرضيا عنده بل إنما يسكن في جنته من يناسبها ويصلح لها وكذلك النار قال تعالى طبتم فأدخلوها خالدين سورة الزمر

5

314

وفي الصحيح أنه إذا عبر أهل الجنة الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة فلا يدخلون الجنة إلا بعد التهذيب والتنقية كما قال تعالى طبتم فادخلوها خالدين سورة الزمر ولما قال إبليس أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فأخرج إنك من الصاغرين سورة الأعراف فبين سبحانه أنه ليس لمن في الجنة أن يتكبر وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر ولا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان قال رجل يا رسول الله الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا أفمن الكبر ذاك قال لا إن الله جميل يحب

5

315

الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس وقوله جميل يحب الجمال أي يحب أن يتجمل العبد له ويتزين كما قال تعالى خذوا زينتكم عند كل مسجد سورة الأعراف وهو يكره أن يصلي العبد له عريانا بل يكره سبحانه أن تصلي المرأة له مكشوفة الرأس وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ولهذا لما كان المشركون يطوفون بالبيت عراة ويقولون إن الله أمرنا بهذا قال تعالى إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون سورة الأعراف فتحسين النعل والثوب لعبادة الله هو من التجمل الذي يحبه الله ولو تزين به لمعصية لم يحب ذلك والمؤمن الذي نور الله قلبه بالإيمان يظهر نور الإيمان على وجهه ويكسى محبة ومهابة والمنافق

5

316

بالعكس وأما الصورة المجردة سواء كانت حسنة مشتهاة كشهوة الرجال للنساء والنساء للرجال أو لم تكن مشتهاة فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ويقال ولا إلى لباسكم وقد قال تعالى وإذا تتلى عليهم أياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا وكم أهلكنا قبلكم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا سورة مريم والأثاث اللباس والمال والرئى المنظر والصورة وقال تعالى عن المنافقين وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون سورة المنافقون فبين أن لهم أجساما ومناظر قال ابن عباس كان ابن أبي جسيما فصيحا طلق اللسان قال المفسرون وصفهم الله بحسن الصورة وإبانة المنطق ثم أبان أنهم في عدم الفهم والإستغفار بمنزلة الخشب المسندة الممالة إلى الجدار والمراد أنها ليست بأشجار تثمر بل هي خشب مسندة إلى

5

317

حائط ثم عابهم بالجبن فقال يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون أي لايسمعون صوتا إلا ظنوا أنهم قد أتوا لما في قلوبهم من الرعب أن يكشف الله أسرارهم فصاحب الصورة الجميلة إذا كان من أهل هذه الأعمال التي يبغضها الله كان الله يبغضه ولا يحبه لجماله فإن الله لا ينظر إلى صورته وإنما ينظر إلى قلبه وعمله ويوسف الصديق وإن كان أجمل من غيره من الأنبياء وفي الصحيح أنه أعطى شطر الحسن فلم يكن بذلك أفضل من غيره بل غيره أفضل منه كإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين ويوسف وإن كانت صورته أجمل فإن إيمان هؤلاء وأعمالهم كانت أفضل من إيمانه وعمله وهؤلاء أوذوا على نفس الإيمان والدعوة إلى الله فكان الذين عادوهم معادين لله ورسوله وكان صبرهم صبرا على توحيد الله وعبادته

5

318

وطاعته وهكذا سائر قصص الأنبياء التي في القرآن ويوسف عليه السلام إنما آذاه إخوته لتقريب أبيه له حسدا على حظ من حظوظ الأنفس لا على دين ولهذا كان صبره على التي راودته وحبس الذين حبسوه على ذلك أفضل له من صبره على أذى إخوته فإن هذا صبر على تقوى الله باختياره حتى لا يفعل المحرم وذلك صبر على أذى الغير الحاصل بغير اختياره فهذا من جنس صبر المصاب على مصيبته وذاك من جنس صبر المؤمن على الذين يأمرونه بالمعاصي ويدعونه إليها فيصبر على طاعة الله وعن معصيته ويغلب هواه وشهوته وهذا أفضل فأما صبر إبراهيم وموسى وعيسى ونبينا صلوات الله وسلامه عليهم على أذى الكفار وعدواتهم على الإيمان بالله ورسوله فذاك أفضل من هذا كله كما أن التوحيد والإيمان أفضل من مجرد ترك الزنا وكما أن تلك الطاعات أعظم فالصبر عليها وعلى معاداة أهلها أعظم وأيضا فهؤلاء كانوا يطلبون قتل من يؤمن وإهلاكه بكل طريق لا يحبون المؤمنين أصلا بخلاف يوسف فإنه إنما ابتلى بالحبس وكانت المرأة تحبه فلم تعاقبه بأكثر من ذلك وقوله تعالى نحن نقص عليك أحسن القصص سورة يوسف سواء كان القصص مصدر قص يقص قصصا أو كان مفعولا أي أحسن

5

319

المقصوص فذاك لا يختص بقصة يوسف بل قصة موسى أعظم منها قدرا وأحسن ولهذا كرر ذكرها في القرآن وبسطها قال تعالى فلما جاءه وقص عليه القصص سورة القصص ولهذا قال بما أوحينا إليك هذا القرآن سورة يوسف وقد قرىء أحسن القصص بالكسرة ولا تختص بقصة يوسف بل كل ما قصه الله فهو أحسن القصص فهو أحسن مقصوص وقد قصه الله أحسن قصص وقوله صلى الله عليه وسلم إن الله جميل يحب الجمال قاله جوابا للسائل في بيان ما يحبه الله من الأفعال وما يكرهه فإنه صلى الله عليه وسلم قال لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر ولا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان ومعلوم أن هذا الكبر من كسب العبد الداخل تحت قدرته ومشيئته وهو منهي عنه ومأمور بضده فخاف السائل أن يكون ما يتجمل به الإنسان فيكون أجمل به ممن لم يعمل مثله من الكبر المذموم فقال إني أحب أن يكون ثوبي حسنا ونعلي حسنا أفمن الكبر ذاك وحسن ثوبه ونعله هو مما حصل بفعله وقصده ليس هو شيئا مخلوقا فيه بغير كسبه كصورته فقال له لنبي صلى الله عليه وسلم إن الله جميل يحب الجمال ففرق بين الكبر الذي يمقته الله وبين الجمال

5

320

الذي يحبه الله ومعلوم أن الله إذا خلق شخصا أعظم من شخص وأكبر منه في بعض الصفات إما في جسمه وإما في قوته وإما في عقله وذكائه ونحو ذلك لم يكن هذا مبغضا فإن هذا ليس باختيار العبد بل هذا خلق فيه بغير اختياره بخلاف ما إذا كان هو متكبرا على غيره بذلك أو بغيره فيكون هذا من عمله الذي يمقته الله عليه كما قال لإبليس فما يكون لك أن تتكبر فيها سورة الأعراف كذلك من خلقه الله حسن اللون معتدل القامة جميل الصورة فهذا ليس من عمله الذي يحمد عليه أو يذم أو يثاب أو يعاقب ويحبه الله ورسوله عليه أو يبغضه عليه كما أنه إذا كان أسود أو قصيرا أو طويلا ونحو ذلك لم يكن هذا من عمله الذي يحمد عليه أو يذم ويثاب أو يعاقب ويحبه الله ورسوله عليه أو يبغضه ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى ولهذا لما كان المنافقون لهم جمال في الصورة وليس في

5

321

قلوبهم إيمان شبهم الله سبحانه بالخشب المسندة اليابسة التي لا تثمر فالخشبة اليابسة إذا كانت لا ثمر فيها لا تمدح ولو كانت عظيمة وهكذا الصورة مع القلب نعم قد تكون الصورة عونا على الإيمان والعمل الصالح كما تكون القوة والمال وغير ذلك فيحمد صاحبها إذا استعان بها في طاعة الله وعف عن معاصيه ويكون حينئذ في الجمال الذي يحبه الله ولو كان أسود وفعل ما يحبه الله من الجمال كان أيضا فيه الجمال الذي يحبه الله والمقصود هنا ذكر ما يحبه الله ويرضاه وهو الذي يثاب أصحابه عليه ويدخلون الجنة ومن المعلوم أن الفرق بين مطلق الإدارة وبين المحبة موجود في الناس وغيرهم فالإنسان يريد كل ما يفعله باختياره وإن كان في ذلك ما هو بغيض إليه مكروه له يريده لأنه وسيلة إلى ما هو محبوب له كما يريد المريض تناول الدواء الذى يكرهه ويتألم منه لأنه وسيلة إلى من يحبه ما العافية وإلى زوال ما هو أبغض إليه من الآلام والجهمية والقدرية إنما لم تفرق بين ما يشاؤه وما يحبه لأنهم لا يثبتون لله محبة لبعض الأمور المخلوقة دون بعض وفرحا بتوبة التائب وكان أول من أنكر هذا الجعد بن درهم فضحى به خالد بن

5

322

عبد الله القسرى وقال ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم إنه زعم أن الله يكلم موسى تكليما ولا اتخذ إبراهيم خليلا تعالى الله عما يقول الجعد بن درهم علوا كبيرا ثم نزل عن المنبر فذبحه فإنه الخلة من توابع المحبة فمن كان من أصله أن الله لا يحب ولا يحب لم يكن للخلة عنده معنى والرسل صلوات الله عليهم أجمعين إنما جاءوا بإثبات هذا الأصل وهو أن الله يحب بعض الأمور المخلوقة ويرضاها ويسخط بعض الأمور ويمقتها وأن أعمال العباد ترضية تارة وتسخطه أخرى قال تعالى ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم سورة محمد وقال تعالى لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم سورة الفتح وقال فلما أسفونا انتقمنا منهم سورة الزخرف عن أبن عباس أغضبونا قال ابن قتيبة الأسف الغضب يقال أسفت

5

323

أسفا أي غضبت وقال الله تعالى ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما سورة النساء و قد ثبت في الصحيح من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لله أشد فرحا بتوبة عبده من رجل أضل راحلته بارض دوية مهلكة عليها طعامه وشرابه فطلبها فلم يجدها فقال تحت شجرة ينتظر الموت فاستيقظ فإذا هو بدابته عليها طعامه وشرابه فالله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا براحلته والفرح إنما يكون بحصول المحبوب والمذنب كالعبد الآبق من مولاه الفار منه فإذا تاب فهو كالعائد إلى مولاه وإلى طاعته وهذا المثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم يبين من محبة الله وفرحه بتوبة العبد ومن كراهته لمعاصيه ما يبين أن ذلك أعظم من التمثيل بالعبد الآبق فإن الإ نسان إذا فقد الدابة التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة فإنه يحصل عنده ما الله به عليم من التأذي من جهة فقد الطعام والشراب والمركب وكون الأرض مفازة لا يمكن الخلاص منها وإذا طلبها فلم يجدها يئس واطمأن إلى الموت وإذا استيقظ فوجدها كان عنده من الفرح ما لا يمكن التعبير عنه بوجود ما يحبه

5

324

ويرضاه بعد الفقد المنافي لذلك وهذا يبين من محبة الله للتوبة المتضمنة للإيمان والعمل الصالح ومن كراهته لخلاف ذلك ما يرد على منكر الفرق من الجهمية والقدرية فإن الطائفتين تجعل جميع الأشياء بالنسبة إليه سواء ثم القدرية يقولون هو يقصد نفع العبد لكون ذلك حسنا ولا يقصد الظلم لكونه قبيحا والجهمية يقولون إذا كان لا فرق بالنسبة إليه بين هذا وهذا امتنع أن يكون عنده شيء حسن وشيء قبيح وإنما يرجع ذلك إلى أمور إضافية للعباد فالحسن بالنسبة إلى العبد ما يلائمه وما ترتب عليه ثواب يلائمه والقبيح بالعكس ومن هنا جعلوا المحبة والإرادة سواء فلو أثبتوا أنه سبحانه يحب ويفرح بحصول محبوبه كما أخبر به الرسول تبين لهم حكمته وتبين أيضا أنه يفعل الأفعال لحكمة فإن الجهمية قالوا إذا كانت الأشياء بالنسبة إليه سواء امتنع أن يفعل لحكمة والمعتزلة قالوا يفعل لحكمة تعود إلى العباد فقالت لهم الجهمية تلك الحكمة يعود إليه منها حكم أو لا يعود فالأول خلاف الأصل الذي أصلتموه والثاني ممتنع فيمتنع أن أحدا يختار الحسن على

5

325

القبيح إن لم يكن له من فعل الحسن معنى يعود إليه فيكون فعل الحسن يناسبه بخلاف القبيح فإذا قدر نفي ذلك امتنع أن يفعل لحكمة ثم إن هده الصفة من أعظم صفات الكمال وكذلك كونه محبوبا لذاته هو أصل دين الرسل فإنهم كلهم دعوا إلى عبادة الله وحده وأن لا إله إلا هو والإله هو المستحق أن يعبد والعبادة لا تكون إلا بتعظيم ومحبة وإلا فمن عمل لغيره لعوض يعطيه إياه ولم يكن يحبه لم يكن عابدا له وقد قال تعالى يحبهم ويحبونه سورة المائدة وقال تعالى والذين آمنوا أشد حبا لله سورة البقرة وهؤلاء الذين ينفون أن الله يحب ويحب آخر أمرهم أنه لا يبقى عندهم فرق بالنسبة الى الله بين أوليائه وبين أعدائه ولا بين الإيمان والكفر ولا بين ما أمر به وما نهى عنه ولا بين بيوته التي هي المساجد وبين الحانات ومواضع الشرك وغاية ما يثبتونه من الفرق أن هذا علم على لذة تحصل للإنسان وهذا علم على ألم يحصل للإنسان فان كانوا من الصوفية الذين

5

326

يجعلون الكمال في فناء العبد عن حظوظه دخلوا في مقام الفناء في توحيد الربوبية الذي يقولون فيه العارف لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة ويجعلون هذا غاية العرفان فيبقى عندهم لا فرق بين أولياء الله وأعدائه ولا بين الإيمان والكفر به ولا بين حمده والثناء عليه وعبادته وبين سبه وشتمه وجعله ثالث ثلاثة ولا بين رسول الله وبين أبي جهل ولا بين موسى وفرعون وقد بسطنا الكلام على هؤلاء في غير هذا الموضع وإن كان من المتكلمين الذين يقولون ما ثم إلا ما هو حظ للعبد من المخلوقات صاروا مسخرين في العبادات مستثقلين لها وفي قلوبهم مرتع للشيطان فإنه يقع لهم لم لا ينعم بالثواب بدون هذا التكليف فإذا أجابوا أنفسهم بأن هذا ألذ كان هذا من أبرد الأجوبة وأسمجها

5

327

فإن هذا إنما يقال في المناظرين وأما رب العالمين فلا أحد إلا وهو مقر بفضله وإحسانه ثم يقال قد حصل بطلب الألذ من شقاوة الأكثرين ما كان خلقهم في الجنة ابتداء بلا هذا الألذ أجود لهم وهو قادر على خلق لذات عظيمة إلى أمثال هذه الأجوبة وإن كان من المرجئة الذين إيمانهم بالوعيد ضعيف استرسلت نفسه في المحرمات وترك الواجبات حتى يكون من شر الخلق بخلاف من وجد حلاوة الإيمان بمحبة الله وعلمه بأنه يحب العبادات وأنه يحب أفعالا وأشخاصا ويبغض أفعالا وأشخاصا ويرضى عن هؤلاء ويغضب على هؤلاء ويفرح بتوبة التائبين إلى غير ذلك مما أخبر به الرسول فإن هذا هو الإسلام الذي به يشهد العبد أن لا إله إلا الله ومن لم يقل بالفرق فلم يجعل الله معبودا محبوبا فإنما يشهد أن لا رب إلا هو والمشركون كانوا يقرون بهذه الشهادة لم يشهدوا أن لا إله إلا الله والرسل عليهم الصلاة والسلام بعثوا بتوحيد الألوهية المتضمن توحيد الربوبية وأما توحيد الربوبية مجردا فقد كان المشركون يقرون بأن الله وحده خالق السموات والأرض كما أخبر الله بذلك عنهم في

5

328

غير موضع من القرآن قال تعالى ولئن سألتم من خلق السموات والأرض ليقولن الله سورة الزمر وقال تعالى وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون سورة يوسف وهذا قد بسطناه في موضع آخر وهؤلاء يدعون محبة الله في الإبتداء ويعظمون أمر محبته ويستحبون السماع بالغناء والدفوف والشبابات ويرونه قربة لأن ذلك بزعمهم يحرك محبه الله في قلوبهم وإذا حقق أمرهم وجدت محبتهم تشبه محبة المشركين لا محبة الموحدين فإن محبة الموحدين بمتابعة الرسول والمجاهدة في سبيل الله قال تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم سورة آل عمران وقال تعالى قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره سورة التوبة وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم سورة المائدة وهؤلاء لا يحققون متابعة الرسول ولا الجهاد في سبيل الله بل كثير

5

329

منهم أو أكثرهم يكرهون متابعة الرسول وهم من أبعد الناس عن الجهاد في سبيل الله بل يعاونون أعداءه ويدعون محبته لأن محبتهم من جنس محبة المشركين الذين قال الله فيهم وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية سورة الأنفال ولهذا يحبون سماع القصائد أعظم مما يحبون سماع القرآن ويجتهدون في دعاء مشايخهم والإستعانة بهم عند قبورهم وفي حياتهم في مغيبهم أعظم مما يجتهدون في دعاء الله والإستعانة به في المساجد والبيوت وهذا كله من فعل أهل الشرك ليس من فعل المخلصين لله دينهم كالصحابة والتابعين لهم بإحسان فأولئك أنكروا محبته وهؤلاء دخلوا في محبة المشركين والطائفتان خارجتان عن الكتاب والسنة فنفس محبته أصل لعبادته والشرك في محبته أصل الإشراك في عبادته وأولئك فيهم شبه من اليهود وعندهم كبر من جنس كبر اليهود وهؤلاء فيهم شبه من النصارى وفيهم شرك من جنس شرك النصارى والنصارى ضالون لهم عبادة ورحمة ورهبانية لكن بلا علم ولهذا يتبعون أهواءهم بلا علم قال تعالى يا أهل الكتاب لا تغلوا في

5

330

دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق سورة النساء وقال تعالى يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل سورة المائدة أي وسط الطريق وهي السبيل القصد الذي قال الله فيها وعلى الله قصد السبيل سورة النحل وهي الصراط المستقيم فأخبر بتقدم ضلالهم ثم ذكر صفة ضلالهم والأهواء هي إرادات النفس بغير علم فكل من فعل ما تريده نفسه بغير علم يبين أنه مصلحة فهو متبع هواه والعلم بالذي هو مصلحة العبد عند الله في الآخرة هو العلم الذي جاءت به الرسل قال تعالى فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله سورة القصص وقال تعالى ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير سورة البقرة وقال تعالى فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق سورة المائدة وقال تعالى ثم جعلناكم على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون سورة الجاثية

5

331

ولهذا كان مشايخ الصوفية العارفون أهل الإستقامة يوصون كثيرا بمتابعة العلم ومتابعة الشرع لأن كثيرا منهم سلكوا في العبادة لله مجرد محبة النفس وإراداتها وهواها من غير اعتصام بالعلم الذي جاء به الكتاب والسنة فضلوا بسبب ذلك ضلالا يشبه ضلال النصارى ولهذا قال بعض الشيوخ وهو أبو عمرو بن نجيد كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل وقال سهل كل عمل بلا اقتداء فهو عيش النفس وكل عمل باقتداء فهو عذاب على النفس وقال أبو عثمان النيسابوري من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق

5

332

بالحكمة ومن أمر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة لأن الله تعالى يقول وإن تطيعوه تهتدوا سورة النور وقال بعضهم ما ترك أحد شيئا من السنة إلا لكبر في نفسه وهو كما قالوا فإنه إذا لم يكن متبعا للأمر الذي جاء به الرسول كان يعمل بإرادة نفسه فيكون متبعا لهواه بغير هدى من الله وهذا عيش النفس وهو من الكبر فإنه شعبة من قول الذين قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله سورة الأنعام وكثير من هؤلاء يظن أنه يصل برياضته واجتهاده في العبادة وتصفية نفسه إلى ما وصلت إليه الأنبياء من غير اتباع لطريقهم وفيهم طوائف يظنون أنهم صاروا أفضل من الأنبياء وأن الولي الذي يظنون هم أنه الولي أفضل من الأنبياء وفيهم من يقول إن الأنبياء والرسل إنما يأخذون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء ويدعي في نفسه أنه خاتم الأولياء ويكون ذلك العلم هو حقيقة قول فرعون إن هذا

5

333

الوجود المشهود واجب بنفسه ليس له صانع مباين له لكن هذا يقول هو الله وفرعون أظهر الإنكار بالكلية لكن كان فرعون في الباطن أعرف منهم فإن كان مثبتا للصانع وهؤلاء ظنوا أن الوجود المخلوق هو الوجود الخالق كما يقول ذلك ابن عربي وأمثاله من الإتحادية والمقصود ذكر من عدل عن العبادات التي شرعها الرسول إلى عبادات بإرادته وذوقه ووجده ومحبته وهواه وأنهم صاروا في أنواع من الضلال من جنس ضلال النصارى ففيهم من يدعي إسقاط وساطة الأنبياء والوصول إلى الله بغير طريقهم ويدعي ما هو أفضل من النبوة ومنهم من يدعي الإتحاد والحلول الخاص إما لنفسه وإما لشيخه وإما لطائفته الواصلين إلى حقيقة التوحيد بزعمه وهذا قول النصارى والنصارى موصوفون بالغلو وكذلك هؤلاء

5

334

مبتدعة العباد الغلو فيهم وفي الرافضة ولهذا يوجد في هذين الصنفين كثير ممن يدعي إما لنفسه وإما لشيخه الإلهية كما يدعيه كثير من الإسماعيلية لائمتهم بني عبيد وكما يدعيه كثير من الغالية إما للاثنى عشر وإما لغيرهم من أهل البيت ومن غير أهل البيت كما تدعيه النصيرية وغيرهم وكذلك في جنس المبتدعة الخارجين عن الكتاب والسنة من أهل التعبد والتأله والتصوف منهم طوائف من الغلاة يدعون الإلهية ودعوى ما هو فرق النبوة وإن كان متفلسفا يجوز وجود نبي بعد محمد كالسهروردي المقتول في الزندقة وابن سبعين وغيرهما صاروا

5

335

يطلبون النبوة بخلاف ما أقر بما جاء به الشرع ورأى أن الشرع الظاهر لا سبيل إلى تغييره فإنه يقول النبوة ختمت لكن الولاية لم تختم ويدعي من الولاية ما هو أعظم من النبوة وما يكون للأنبياء والمرسلين وأن الأنبياء يستفيدون منها ومن هؤلاء من يقول بالحلول والإتحاد وهم في الحلول والإتحاد نوعان نوع يقول بالحلول والإتحاد العام المطلق كابن عربي وأمثاله ويقولون في النبوة إن الولاية أعظم منها كما قال ابن عربي

5

336

مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولى وقال ابن عربي في القصوص وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل وخاتم الأنبياء وما يراه أحد من الأنبياء إلا من مشكاة خاتم الأنبياء وما يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة خاتم الأولياء حتى أن الرسل إذا رأوه لا يرونه إذا رأوه إلا من مشكاة خاتم الأولياء فإن الرسالة والنبوة أعنى رسالة التشريع ونبوته تنقطعان وأما الولاية فلا تنقطع أبدا فالمرسلون من كونهم أولياء لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء فكيف بمن دونهم من الأولياء وإن كان

5

337

خاتم الأولياء تابعا في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من التشريع فذلك لا يقدح في مقامه ولا يناقض ما ذهبنا إليه فإنه من وجه يكون أنزل ومن وجه يكون أعلى قال ولما مثل النبي صلى الله عليه وسلم البوة بالحائط من اللبن فرآها قد كملت إلا موضع لبنة فكان هو صلى الله عليه وسلم موضع اللبتة وأما خاتم الأولياء فلا بد له من هذه الرؤيا فيرى ما مثله النبي صلى الله عليه وسلم ويرى نفسه في الحائط موضع لبنتين ويرى نفسه تنطبع في موضع تينك اللبنتين فيكمل الحائط والسبب الموجب لكونه رآها لبنتين أن الحائط لبنة من ذهب

5

338

ولبنة من فضة واللبنة الفضة هي ظاهرة وما يتبعه فيه من الأحكام كما هو آخذ عن الله في السر ما هو في الصورة الظاهرة متبع فيه لأنه يرى الأمر على ما هو عليه فلا بد أن يراه هكذا وهو موضع اللبنة الذهبية في الباطن فإنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول قال فإن فهمت ما أشرنا إليه فقد حصل لك العلم النافع قلت وقد بسطنا الرد على هؤلاء في مواضع وبينا كشف ما هم عليه من الضلال والخيال والنفاق والزندقة وأما الذين يقولون بالإتحاد الخاص فهؤلاء منهم من يصرح بذلك وأما من كان عنده علم بالنصوص الظاهرة ورأى أن هذا يناقض ما عليه المسلمون في الظاهر فإنه يجعل هذا مما يشار إليه ويرمز به ولا يباح به ثم إن كان معظما للرسول والقرآن ظن أن الرسول كان يقول بذلك لكنه لم يبح به لأنه مما لا يمكن البشر أن يبوحوا به وإن كان

5

339

غير معظم للرسول زعم أنه تعدى حد الرسول وهذا الضلال حدث قديما من جهال العباد ولهذا كان العارفون كالجنيد بن محمد سيد الطائفة قدس الله روحه لما سئل عن التوحيد قال التوحيد إفراد الحدوث عن القدم فإنه كان عارفا ورأى أقواما ينتهي بهم الأمر إلى الإتحاد فلا يميزون بين القديم والمحدث وكان أيضا طائفة من أصحابه وقعوا في الفناء في توحيد الربوبية الذي لا يميز فيه بين المأمور والمحظور فدعاهم الجنيد إلى الفرق الثاني وهو توحيد الإلهية الذي يميز فيه بين المأمور والمحظور فمنهم من وافقه ومنهم من خالفه ومنهم لم يفهم كلامه وقد ذكر بعض ما جرى من ذلك أبو سعيد بن الأعرابي في طبقات

5

340

النساك وكان من أصحاب الجنيد ومن شيوخ أبي طالب المكي كان من أهل العلم بالحديث وغيره ومن أهل المعرفة بأخبار الزهاد وأهل الحقائق وهذا الذي ذكره الجنيد من الفرق بين القديم والمحدث والفرق بين المأمور والمحظور بهما يزول ما وقع فيه كثير من الصوفية من هذا الضلال ولهذا كان الضلال منهم يذمون الجنيد على ذلك كابن عربي وأمثاله فإن له كتابا سماه الإسرا إلى المقام الأسرى مضمونه حديث نفس ووساوس شيطان حصلت في نفسه جعل ذلك معراجا كمعراج الأنبياء وأخذ يعيب على الجنيد وعلى غيره من الشيوخ ما ذكروه وعاب على الجنيد قوله التوحيد إفراد الحدوث عن القدم وقال قلت له يا جنيد ما يميز بين الشيئين إلا من كان خارجا عنهما وأنت إما

5

341

قديم أو محدث فكيف تميز وهذا جهل منه فإن المميز بين الشيئين هو الذي يعرف أن هذا غير هذا ليس من شرطه أن يكون ثالثا بل كل إنسان يميز بين نفسه وبين غيره وليس هو ثالثا والرب سبحانه يميز نفسه وبين غيره وليس هناك ثالث وهذا الذي ذمه الجنيد رحمه الله وأمثاله من الشيوخ العارفين وقع فيه خلق كثير حتى من أهل العلم بالقرآن وتفسيره والحديث والآثار ومن المعظمين لله ورسوله باطنا وظاهرا المحبين لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذابين عنها وقعوا في هذا غلطا لا تعمدا وهم يحسبون أن هذا نهاية التوحيد كما ذكر ذلك صاحب منازل السائرين

5

342

مع علمه وسنته ومعرفته ودينه وقد ذكر في كتابه منازل السائرين أشياء حسنة نافعة وأشياء باطلة ولكن هو فيه ينتهي إلى الفناء في توحيد الربوبية ثم إلى التوحيد الذي هو حقيقة الإتحاد ولهذا قال باب التوحيد قال الله تعالى شهد الله أنه لا إله إلا هو سورة آل عمران التوحيد تنزيه الله عن الحدث قال وإنما نطق العلماء بما نطقوا به وأشار المحققون إلى ما أشاروا إليه في هذا الطريق لقصد تصحيح التوحيد وما سواه من حال أو مقام فكله مصحوب العلل

5

343

قال والتوحيد على ثلاثة أوجه الأول توحيد العامة الذي يصح بالشواهد والثاني توحيدالخاصة وهو الذي يثبت بالحقائق والوجه الثالث توحيد قائم بالقدم وهو توحيد خاصة الخاصة فأما التوحيد الأول فهو شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد هذا هو التوحيد الظاهر الجلي الذي نفى الشرك الأعظم وعليه نصبت القبلة وبه وجبت الذمة وبه حقنت الدماء والأموال وانفصلت دار الإسلام من دار الكفر وصحت به الملة للعامة وإن لم يقوموا بحسن الإستدلال بعد أن سلموا من الشبهة والحيرة والريبة بصدق شهادة صححها قبول القلب هذا توحيد العامة الذي يصح بالشواهد والشواهد هي الرسالة والصنائع تجب بالسمع وتوجد بتبصير الحق وتنمو على مشاهدة الشواهد

5

344

قال وأما التوحيد الثاني الذي يثبت بالحقائق فهو توحيد الخاصة وهو إسقاط الأسباب الظاهرة والصعود عن منازعات العقول وعن التعلق بالشواهد وهو أن لا يشهد في التوحيد دليلا ولا في التوكل سببا ولا في النجاة وسيلة فيكون مشاهدا سبق الحق بحكمه وعلمه ووضعه الأشياء مواضعها وتعليقه إياها بأحايينها وإخفائه إياها في رسومها ويحقق معرفة العلل ويسلك سبيل إسقاط الحدث هذا توحيد الخاصة الذي يصح بعلم الفناء ويصفو في علم الجمع ويجذب إلى توحيد أرباب الجمع قال وأما التوحيد الثالث فهو توحيد اختصه الحق لنفسه

5

345

واستحقه بقدره وألاح منه لائحا إلى أسرار طائفة من صفوته وأخرسهم عن نعته وأعجزهم عن بثه والذي يشار به إليه على ألسن المشيرين أنه إسقاط الحدث وإثبات القدم على أن هذا الرمز في ذلك التوحيد علة لا يصح ذلك التوحيد إلا بإسقطها هذا قطب الإشارة إليه على ألسن علماء أهل هذا الطريق وإن زخرفوا له نعوتا وفصلوه فصولا فإن ذلك التوحيد تزيده العبارة خفاء والصفة نفورا والبسط صعوبة وإلى هذا التوحيد شخص أهل الرياضة وأرباب الأحوال وإليه قصد أهل التعظيم وإياه عنى المتكلمون في عين الجمع وعليه تصطلم الإشارات ثم لم ينطق عنه لسان ولم تشر إليه عبارة فإن التوحيد وراء ما يشير إليه مكون أو يتعاطاه خبر أو يقله سبب قال وقد أجبت في سالف الدهر سائلا سألني عن توحيد الصوفية

5

346

بهذه القوافي الثلاث ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد توحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد توحيده إياه توحيده ونعت من ينعته لأحد قلت وقد بسطت الكلام على هذا وأمثاله في غير هذا الموضع لكن ننبه هنا على ما يليق بهذا الموضع فنقول أما التوحيد الأول الذي ذكره فهو التوحيد الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب وبه بعث الله الأولين والآخرين من الرسل قال تعالى واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون سورة الزخرف وقال تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة سورة النحل وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون سورة الأنبياء وقد أخبر الله تعالى عن كل من الرسل مثل نوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم أنهم قالوا لقومهم آعبدوا الله مالكم من إله غيره وهذا أول دعوة الرسل وآخرها

5

347

قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المشهور أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا قالوها فقد عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أيضا من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة وقال من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الحنة والقرآن كله مملوء من تحقيق هذا التوحيد والدعوة إليه وتعليق النجاة والفلاح واقتضاء السعادة في الآخرة به ومعلوم أن الناس متفاضلون في تحقيقه وحقيقته إخلاص الدين كله لله والفناء في هذا التوحيد مقرون بالبقاء وهو أن تثبت إلاهية الحق في قلبك وتنفي إلاهية ما سواه فتجمع بين النفي والإثبات فتقول لا إله إلا الله فالنفي هو الفناء والإثبات هو البقاء وحقيقته أن تفنى بعبادته عما سواه ومحبته عن محبة ما سواه وبخشيته عن خشية ما سواه وبطاعته عن طاعة ما سواه وبموالاته عن موالاة ما سواه وبسؤاله عن سؤال ما سواه وبالإستعاذه به عن الإستعاذة بما سواه وبالتوكل عليه عن التوكل على

5

348

ما سواه وبالتفويض إليه عن التفويض إلى ما سواه وبالإنابة إليه عن الإنابة إلى ما سواه وبالتحاكم إليه عن التحاكم إلى ما سواه وبالتخاصم إليه عن التخاصم إلى ما سواه وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا قام يصلي من الليل وقد روي أنه كان يقوله بعد التكبير اللهم لك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت الحق وقولك الحق ووعدك الحق ولقاؤك حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق ومحمد حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت وقال تعالى قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السموات والأرض وهو يطعم ولا يطعم سورة الآنعام

5

349

وقال أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا سورة الآنعام وقال أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين سورة الزمر وقال تعالى قل إنني هداني ربي إلي صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها سورة الأنعام وهذا التوحيد كثير في القرآن وهو أول الدين وآخره وباطن الدين وظاهره وذروة سنام هذا التوحيد لأولى العزم من الرسل ثم للخليلين محمد وإبراهيم صلى الله عليهما وسلم تسليما فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه قال إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا

5

350

وأفضل الرسل بعد محمد صلى الله عليه وسلم إبراهيم فإنه قد ثبت في الصحيح عنه أنه قال عن خير البرية إنه إبراهيم وهو الإمام الذي جعله الله إماما وجعله أمة والأمة القدوة الذي يقتدى به فإنه حقق هذا التوحيد وهو الحنيفية ملته قال تعالى قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شئ ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر سورة الممتحنة وقال تعالى وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا

5

351

الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون سورة الزخرف وقال عن إبراهيم أنه قال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شئ علما أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم سورة الأنعام وقال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين سورة الشعراء والخليل هو الذي تخللت محبة خليله قلبه فلم يكن فيه مسلك لغيره كما قيل قد تخللت مسلك الروحى منى وبذا سمى الخليل خليلا وقد قيل إنه مأخوذ من الخليل وهو الفقير مشتق من الخلة بالفتح كما قيل

5

352

وإن أتاه خليل يوم مسغبة يقول لا غائب مالي ولا حرم والصواب أنه من الأول وهو مستلزم للثاني فإن كمال حبه لله هو محبة عبودية وافتقار ليست كمحبة الرب لعبده فإنها محبة استغناء وإحسان ولهذا قال تعالى وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا سورة الاسراء فالرب لا يوالي عبده من ذل كما يوالي المخلوق لغيره بل يواليه إحسانا إليه والولي من الولاية والولاية ضد العداوة وأصل الولاية الحب وأصل العداوة البغض وإذا قيل هو مأخوذ من الولي وهو القرب فهذا جزء معناه فإن الولي يقرب إلى وليه والعدو يبعد عن عدوه ولما كانت الخلة تستلزم كمال المحبة واستيعاب القلب لم يصلح للنبي صلى الله عليه وسلم أن يخالل مخلوقا بل قال لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لا تخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الله

5

353

ولهذا امتحن الله إبراهيم بذبح ابنه والذبيح على القول الصحيح ابنه الكبير إسماعيل كما دلت على ذلك سورة الصافات وغير ذلك فإنه قد كان سأل ربه أن يهب له من الصالحين فبشره بالغلام الحليم إسماعيل فلما بلغ معه السعي أمره أن يذبحه لئلا يبقى في قلبه محبة مخلوق تزاحم محبة الخالق إذ كان قد طلبه وهو بكره وكذلك في التوراة يقول اذبح ابنك وحيدك وفي ترجمة أخرى بكرك ولكن ألحق المبدلون لفظ إسحاق وهو باطل فإن إسحاق هو الثاني من أولاده باتفاق المسلمين وأهل الكتاب فليس هو وحيده ولا بكره وإنما وحيده وبكره إسماعيل ولهذا لما ذكر الله قصة الذبيح في القرآن قال بعد هذا وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين سورة الصافات وقال في الآية الأخرى فبشرناه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب سورة هود فكيف يبشره بولد ثم يأمره بذبحه والبشارة بإسحاق وقعت لسارة وكانت قد غادرت من هاجر لما ولدت إسماعيل وأمر الله إبراهيم أن يذهب بإسماعيل وأمه إلى مكة ثم لما جاء الضيف وهم الملائكة لإبراهيم بشروها بإسحاق فكيف يأمره بذبح إسحاق مع بقاء إسماعيل وهي لم تصبر على وجود إسماعيل وحده بل غارت أن يكون له ابن

5

354

من غيرهما فكيف تصبر على ذبح ابنها وبقاء ابن ضرتها وكيف يأمر الله إبراهيم بذبح ابنه وأمه مبشرة به وبابن ابنه يعقوب وأيضا فالذبح إنما كان بمكة وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم قرني الكبش في البيت فقال للحاجب إني رأيت قرني الكبش في الكعبة فخمرهما فإنه لا ينبغي أن يكون في الكعبة شيء يلهي المصلي وإبراهيم وإسماعيل هما اللذان بنيا الكعبة بنص القرآن وإسحاق كان في الشام والمقصود بالأمر بالذبح أن لا يبقى في قلبه محبة لغير الله تعالى وهذا إذا كان له ابن واحد فإذا صار له ابنان فالمقصود لا

5

355

يحصل إلا بذبحهما جميعا وكل من قال إنه إسحاق فإنما أخذه عن اليهود أهل التحريف والتبديل كما أخبر الله تعالى عنهم وقد بسطنا هذه المسألة في مصنف مفرد والمقصود هنا أن الخليلين هما أكمل خاصة الخاصة توحيدا فلا يجوز أن يكون في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من هو أكمل توحيدا من نبي من الأنبياء فضلا عن الرسل فضلا عن أولي العزم فضلا عن الخليلين وكمال توحيدهما بتحقيق إفراد الألوهية وهو أن لا يبقى في القلب شيء لغير الله أصلا بل يبقى العبد مواليا لربه في كل شيء يحب ما أحب ويبغض ما أبغض ويرضى بما رضي ويسخط بما سخط ويأمر بما أمر وينهى عما نهى وأما التوحيد الثاني الذي ذكره وسماه توحيد الخاصة فهو الفناء في توحيد الربوبية وهو أن يشهد ربوبية الرب لكل ما سواه وأنه وحده رب كل شيء ومليكه والفناء إذا كان في توحيد الألوهية وهو أن

5

356

يستولي على القلب شهود معبوده وذكره ومحبته حتى لا يحس بشيء آخر مع العلم بثبوت ما أثبته الحق من الأسباب والحكم وعبادته وحده لا شريك له بالأمر والنهي ولكن غلب على القلب شهود الواحد كما يقال غاب بموجوده عن وجوده وبمعبوده عن عبادته وبمذكوره عن ذكره وبمعروفه عن معرفته كما يذكر أن رجلا كان يحب آخر فوقع المحبوب في اليم فألقى المحب نفسه خلفه فقال له أنا وقعت فلماذا وقعت أنت فقال غبت بك عني فظننت أن أني فصاحب هذا الفناء إذا غلب في ذلك فهو معذور لعجزه عند غلبة ذكر الرب على قلبه عن شعوره بشئ آخر كما يعذر من سمع الحق فمات أو غشي عليه وكما عذر موسى صلى الله عليه وسلم لما صعق حين تجلى ربه للجبل وليس هذا الحال غاية السالكين ولا لازما لكل سالك ومن الناس من يظن أنه لا بد لكل سالك منه وليس كذلك فنبينا صلى الله عليه وسلم والسابقون الأولون هم أفضل وما أصاب أحدا منهم هذا الفناء ولا صعق ولا موت عند سماع القرآن وإنما تجد هذا الصعق في التابعين لا سيما في عباد البصريين

5

357

ومن الناس من يجعل هذا الفناء هو الغاية التي ينتهي إليها سير العارفين وهذا أضعف من الذي قبله وما يذكر عن أبي يزيد البسطامي من قوله ما في الجبة إلا الله وقوله أين أبو يزيد أنا أطلب أبا يزيد منذ كذا وكذا سنة ونحو ذلك فقد حملوه على أنه كان من هذا الباب ولهذا يقال عنه إنه كان إذا أفاق أنكر هذا فهذا ونحوه كفر لكن إذا زال العقل بسبب يعذر فيه الإنسان كالنوم

5

358

والإغماء لم يكن مؤاخذا بما يصدر عنه في حال عدم التكليف ولا ريب أن هذا من ضعف العقل والتمييز وأما الفناء الذي يذكره صاحب المنازل فهو الفناء في توحيد الربوبية لا في توحيد الإلهية وهو يثبت توحيد الربوبية مع نفي الأسباب والحكم كما قول القدرية المجبرة كالجهم بن صفوان ومن اتبعه والأشعري وغيره وشيخ الإسلام وإن كان رحمه الله من أشد الناس مباينة للجهمية في الصفات وقد صنف كتابه الفاروق في الفرق بين المثبتة والمعطلة وصنف كتاب تكفير الجهمية وصنف كتاب ذم الكلام وأهله وزاد في هذا الباب حتى صار يوصف بالغلو في الإثبات للصفات لكنه في القدر على رأي الجهمية نفاة الحكم والأسباب

5

359

والكلام في الصفات نوع والكلام في القدر نوع وهذا الفناء عنده لا يجامع البقاء فإنه نفي لكل ما سوى حكم الرب بإرادته الشاملة التى تخصص أحد المتماثلين بلا مخصص ولهذا قال في باب التوبة في لطائف أسرار التوبة اللطيفة الثالثة أن مشاهدة العبد الحكم لم تدع له استحسان حسنة ولا استقباح سيئة لصعوده من جميع المعاني إلى معنى الحكم أي الحكم القدري وهو خلقه لكل شئ بقدرته وإرادته فإن من لم يثبت في الوجود فرقا بالنسبة إلى الرب بل يقول كل ما سواه محبوب له مرضي له مراد له سواء بالنسبة إليه ليس يحب شيئا ويبغض شيئا فإن مشاهدة هذا لا يكون معها استحسان حسنة ولا استقباح سيئة بالنسبة إلى الرب إذ الإستحسان والإستقباح على هذا المذهب لا يكون إلا بالنسبة إلى العبد يستحسن ما يلائمه ويستقبح ما ينافيه وفي عين الفناء لا يشهد نفسه ولا غيره بل لا يشهد إلا فعل ربه فعند هده المشاهدة لا يستحسن شيئا ويستقبح آخر على قول هؤلاء القدرية الجبرية المتبعين لجهم بن صفوان وأمثاله وهؤلاء وافقوا القدرية في أن مشيئة الرب وإرادته ومحبته ورضاه سواء ثم قالت القدرية النفاة وهو لا يحب الكفر والفسوق والعصيان فهو لا يريده ولا يشاؤه فيكون في ملكه ما لا يشاء

5

360

وقالت الجهمية المجبرة بل هو يشاء كل شيء فهو يريده ويحبه ويرضاه وأما السلف وأتباعهم فيفرقون بين المشيئة والمحبة وأما الإرادة فتكون تارة بمعنى المشيئة وتارة بمعنى المحبة وقد ذكر الأشعري القولين عن أهل السنة المثبتين للقدر قول من فرق بين المحبة والرضا وقول من سوى بينهما واختار هو التسوية وأبو المعالي يقول إن أبا الحسن أول من سوى بينهما لكني رأيته في الموجز قد حكى قوله عن سليمان بن حرب وعن ابن كلاب وعن الكرابيسي وعن داود بن علي وكذلك ابن عقيل يقول أجمع المسلمون على أن الله لا يحب الكفر والفسوق والعصيان ولم يقل إنه يحبه غير الأشعري وأما القاضي أبو يعلى فهو في المعتمد يوافق الأشعري وفي مختصره ذكر القولين وذكر في المعتمد قول أبي بكر عبد العزيز أنه يقول بالفرق وتأول كلام أبي بكر بتأويل باطل لكن أهل الملل كلهم متفقون على أن الله يثيب على الطاعات ويعاقب على المعاصي وإن كانت المشيئة شامله للنوعين فهم يسلمون الفرق بالنسبة إلى العباد والمدعون للمعروفة والحقيقة والفناء فيهما يطلبون أن لا يكون لهم مراد بل يريدون ما يريد الحق تعالى فيقولون الكمال أن تفنى عن إرادتك وتبقى مع إرادة ربك وعندهم أن جميع الكائنات بالنسبة إلى

5

361

الرب سواء فلا يستحسنون حسنة ولا يستقبحون سيئة وهذا الذي قالوه ممتنع عقلا محرم شرعا ولكن المقصود هنا بيان قولهم ولهذا قال شيخ الإسلام في توحيدهم وهو التوحيد الثاني إنه إسقاط الأسباب الظاهرة فإن عندهم لم يخلق الله شيئا بسبب بل يفعل عنده لا به قال والصعود عن منازعات العقول وعن التعلق بالشواهد وهو أن لا يشهد في التوحيد دليلا ولا في التوكل سببا ولا في النجاة وسيلة وذلك لأن عندهم ليس في الوجود شيء يكون سببا لشيء أصلا ولا شيء جعل لأجل شيء ولا يكون شيء بشيئ فالشبع عندهم لا يكون بالأكل ولا العلم الحاصل في القلب بالدليل ولا ما يحصل للمتوكل من الرزق والنصر له سبب أصلا لا في نفسه ولا في نفس الأمر ولا الطاعات عندهم سبب للثواب ولا المعاصي سبب للعقاب فليس للنجاة وسيلة بل محض الإرادة الواحدة يصدر عنها كل حادث ويصدر مع الآخر مقترنا به اقترانا عاديا لا أن أحدهما معلق بالآخر أو سبب له أو حكمة له ولكن لأجل ما جرت به العادة من اقتران أحدهما بالآخر يجعل أحدهما أمارة وعلما ودليلا على الآخر بمعنى أنه إذا وجد أحد المقترنين عادة كان الآخر موجودا معه وليس العلم الحاصل في القلب حاصلا بهذا الدليل بل هذا أيضا من جملة الإقترانات العادية

5

362

ولهذا قال فيكون مشاهدا سبق الحق بحكمه وعلمه أى يشهد أنه علم ما سيكون وحكم به أي أراده وقضاه وكتبه وليس عندهم شيء إلا هذا وكثير من أهل هذا المذهب يتركون الأسباب الدنيوية ويجعلون وجود السبب كعدمه ومنهم قوم يتركون الأسباب الأخروية فيقولون إن سبق العلم والحكم أنا سعداء فنحن سعداء وإن سبق أنا أشقياء فنحن أشقياء فلا فائدة في العمل ومنهم من يترك الدعاء بناء على هذا الأصل الفاسد ولا ريب أن هذا الأصل الفاسد مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف وأئمة الدين ومخالف لصريح المعقول ومخالف للحس والمشاهدة وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن إسقاط الأسباب نظرا إلى القدر فرد ذلك كما ثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ما منكم من أحد إلا وقد علم مقعده من الجنة ومقعده من النار قالوا يا رسول الله أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب فقال لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له

5

363

وفي الصحيح أيضا أنه قيل له يا رسول الله أرأيت ما يكدح الناس فيه اليوم ويعملون أشيء قضى عليهم ومضى أم فيما يستقبلون مما أتاهم فيه الحجة فقال بل شيء قضى عليهم ومضى فيهم قالوا يا رسول الله أفلا ندع العمل ونتكل على كتابنا فقال لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له أرأيت أدوية نتداوى بها ورقى نسترقي بها وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئا فقال هي من قدر الله وقد قال تعالى في كتابه وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات سورة الآعراف

5

364

وقال وما أنزل الله من المساء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها سورة الجاثية وقال قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم سورة التوبة وقال ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا سورة التوبة وقال يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين سورة البقرة وقال يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام سورة المائدة وقال وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم سورة الشورى وقال ولكل قوم هاد سورة الرعد فكيف لا يشهد الدليل قال وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم سورة الزمر وقال إن الذين أمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم سورة يونس وقال والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شئ سورة الطور وقال كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم سورة إبراهيم وقال كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية سورة الحاقة

5

365

وقال ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون سورة النحل وقال إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا سورة الأنفال وقال ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب سورة الطلاق وقال فبما رحمة من الله لنت لهم سورة آلعمران وقال فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل سورة النساء وقال فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين سورة الأنعام وقال فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار سورة المائدة وقال وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا سورة الإنسان وقال إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب سورة آل عمران وقال إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون سورة البقرة وأمثال ذلك في القرآن كثير

5

366

وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لسعد عسى أن تخلف فينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون فكيف يمكن أن يشهد أن الله لم ينصب على توحيده دليلا ولا جعل للنجاة من عذابه وسيلة ولا جعل لما يفعله المتوكل من عباده سببا وهو مسبب الأسباب وخالق كل شيء بسبب منه لكن الأسباب كما قال فيها أبو حامد وأبو الفرج بن الجوزي وغيرهما الإلتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد ومحو الأسباب أن تكون أسبابا تغيير في وجه العقل والأعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع والتوكل معنى يلتئم من معنى التوحيد والعقل والشرع فالموحد المتوكل لا يلتفت إلى الأسباب بمعنى أنه لا يطمئن إليها

5

367

ولا يثق بها ولا يرجوها ولا يخافها فإنه ليس في الوجود سبب يستقل بحكم بل كل سبب فهو مفتقر إلى أمور أخرى تضم إليه وله موانع وعوائق تمنع موجبه وما ثم سبب مستقل بالإحداث إلا مشيئة الله وحده فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وما شاء خلقه بالأسباب التي يحدثها ويصرف عنه الموانع فلا يجوز التوكل إلا عليه كما قال تعالى إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون سورة آل عمران وما سبق من علمه وحكمه فهو حق وقد علم وحكم بأن الششيء الفلاني يحدثه هو سبحانه بالسبب الفلاني فمن نظر إلى علمه وحكمه فليشهد الحدوث بما أحدثه وإذا نظر إلى الحدوث بلا سبب منه لم يكن شهوده مطابقا لعلمه وحكمه فمن شهد أن الله تعالى خلق الولد لا من أبوين لسبق علمه وحكمه فهذا شهوده عمى بل يشهد أن الله تبارك وتعالى سبق علمه وحكمه بأن يخلق الولد من الأبوين والأبوان سبب في وجوده فكيف يجوز أن يقال إنه سبق علمه وحكمه بحدوثه بلا سبب وإذا كان علمه وحكمه قد أثبت السبب فكيف أشهد الأمور بخلاف ما هي عليه في علمه وحكمه والعلل التي تنفي نوعان أحدهما أن تعتمد على الأسباب وتتوكل عليها وهذا شرك محرم والثاني أن تترك ما أمرت به من الأسباب

5

368

وهذا أيضا محرم بل عليك أن تعبده بفعل ما أمرك به من الأسباب وعليك أن تتوكل عليه في أن يعينك على ما أمرك به وأن يفعل هو ما لا تقدر أنت عليه بدون سبب منك فليست العلة إلا ترك ما أمرك به الرب أمر إيجاب أو استحباب ومن فعل ما أمر به كما أمر به فليس عنده علة ولكن قد يجهل حقيقة ما أمر به كما أمر به فيكون منه علة وقول القائل يسلك سبيل إسقاط الحدث إن أراد أنى أعتقد نفي حدوث شئ فهذا مكابرة وتكذيب بخلق الرب وجحد للصانع وإن أراد أنى أسقط الحدث من قلبي فلا أشهد محدثا وهو مرادهم فهذا خلاف ما أمرت به وخلاف الحق بل قد أمرت أن أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأشهد حدوث المحدثات بمشيئته بما خلقه من الأسباب ولما خلقه من الحكم وما أمرت أن لا أشهد بقلبي حدوث شئ قط وقول القائل يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل إن أراده أنه

5

369

يبقى على الوجه المأمور به بحيث يشهد أن الحق هو المحدث لكل ما سواه بما أحدثه من الأسباب ولما أراده من الحكمة فهذا حق وإن أراد أنى لا أشهد قط مخلوقا بل لا أشهد إلا القديم فقط فهذا نقص في الإيمان والتوحيد والتحقيق وهذا من باب الجهل والضلال وهذا إذا غلب على قلب العبد كان معذورا أما أن يكون هذا مما أمر الله به ورسوله فهذا خلاف الكتاب والسنة والإجماع ولما كان هذا مرادهم قال هذا توحيد الخاصة الذي يصح بعلم الفناء ويصفو في علم الجمع ويجذب إلى توحيد أرباب الجمع فإن المراد بالجمع أن يشهد الأشياء كلها مجتمعة في خلق الرب ومشيئته وأنها صادرة بإرادته لا يرجح مثلا عن مثل فلا يفرق بين مأمور ومحظور وحسن وقبيح وأولياء الله وأعدائه والوقوف عند هذا الجمع هو الذي أنكره الجنيد وغيره من أئمة طريق أهل الله أهل الحق فإنهم أمروا بالفرق الثاني وهو أن يشهد مع هذا الجمع أن الرب فرق بين ما أمر به وبين ما نهى عنه فأحب هذا

5

370

وأبغض هذا وأثاب على هذا وعاقب على هذا فيحب ما أحبه الله ورسوله ويبغض ما أبغضه الله ورسوله ويشهد الفرق في الجمع والجمع في الفرق لا يشهد جمعا محضا ولا فرقا محضا وأما قوله ويجذب إلى توحيد أرباب الجمع فسيأتي وهؤلاء شربوا من العين التي شرب منها نفاة القدر فإن أولئك الذين قالوا الأمر أنف قالوا إذا سبق علمه وحكمه بشيء امتنع أن يأمر بخلافه ووجب وجوده وفي ذلك إبطال الأمر والنهي لكن أولئك كانوا معظمين للأمر والنهي فظنوا أن إثبات ما سبق من العلم والحكم ينافيه فأثبتوا الشرع ونفوا القدر وهؤلاء اعتقدوا ذلك أيضا لكن أثبتوا القدر ونفوا عمن شاهده أن يستحسن حسنة يأمر بها أو يستقبح سيئة ينهى عنها فأثبتوا القدر وأبطلوا الشرع عمن شاهد القدر وهذا القول أشد منافاة لدين الإسلام من قول نفاة القدر قال وأما التوحيد الثالث فهو توحيد اختصه الحق لنفسه واستحقه بقدره إلى آخر كلامه وقد تقدم حكايته فهؤلاء هم الذين أنكر عليهم أئمة الطريق كالجنيد وغيره حيث لم يفرقوا بين القديم والمحدث وحقيقة قول هؤلاء الإتحاد والحلول الخاص من جنس قول النصارى في المسيح وهو أن يكون الموحد هو الموحد ولا يوحد

5

371

الله إلا الله وكل من جعل غير الله يوحد الله فهو جاحد عندهم كما قال ما وحد الواحد من واحد أي من واحد غيره إذ كل من وحده جاحد فإنه على قولهم هو الموحد والموحد ولهذا قال توحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد يعني إذا تكلم العبد بالتوحيد وهو يرى أنه المتكلم فإنما ينطق عن نعت نفسه فيستعير ما ليس له فيتكلم به وهذه عارية أبطلها الواحد ولكن إذا فنى عن شهود نفسه وكان الحق هو المتكلم على لسانه حيث فنى من لم يكن وبقي من لم يزل فيكون الحق هو الناطق بنعت نفسه لا بنعت العبد ويكون هو الموحد وهو الموحد ولهذا قال توحيده إياه توحيده أي توحيد الحق إياه أي نفسه هو توحيده هو لا توحيد المخلوقين له فإن لا يوحده عندهم مخلوق بمعنى أنه هو الناطق بالتوحيد على لسان خاصته ليس الناطق هو المخلوق كما يقوله النصارى في المسيح إن اللاهوت تكلم بلسان الناسوت وحقيقة الأمر أن كل من تكلم بالتوحيد أو تصوره وهو يشهد غير الله فليس بموحد عندهم وإذا غاب وفنى عن نفسه بالكلية فتم له مقام توحيد الفناء الذي يجذبه إلى توحيد أرباب الجمع صار الحق هو

5

372

الناطق المتكلم بالتوحيد وكان هو الموحد وهو الموحد لا موحد غيره وحقيقة هذا القول لا يكون إلا بأن يصير الرب والعبد شيئا واحدا وهو الإتحاد فيتحد اللاهوت والناسوت كما يقول النصارى إن المتكلم بما كان يسمع من المسيح هو الله وعندهم أن الذين سمعوا منه هم رسل الله وهم عندهم أفضل من إبراهيم وموسى ولهذا تكلم بلفظ اللاهوت والناسوت طائفة من الشيوخ الذين وقعوا في الإتحاد والحلول مطلقا ومعينا فكانوا ينشدون قصيدة ابن الفارض ويتحلون بما فيها من تحقيق الإتحاد العام ويرون كل ما في الوجود هو مجلي ومظهر ظهر فيه عين الحق وإذا رأى أحدهم منظرا حسنا أنشد يتجلى في كل طرفة عين بلباس من الجمال جديد وينشد الآخر هيهات يشهد ناظري معكم سوى إذا أنتم عين الجوارح والقوى وينشد الثالث أعاين في كل الوجود جمالكم وأسمع من كل الجهات نداكم

5

373

وتلتذ إن مرت على جسدي يدى لأني في التحقيق لست سواكم ولما كان ظهور قول النصارى بين المسلمين مما يظهر أنه باطل لم يمكن أصحاب هذا الإتحاد أن يتكلموا به كما تكلمت به النصارى بل صار عندهم مما يشهد ولا ينطق به وهو عندهم من الأسرار التي لا يباح بها ومن باح بالسر قتل وقد يقول بعضهم إن الحلاج لما باح بهذا السر وجب قتله ولهذا قال هو توحيد اختصه الحق لنفسه واستحقه بقدره وألاح منه لائحا إلى أسرار طائفة من صفوته وأخرسهم عن نعته وأعجزهم عن بثه فيقال أما توحيد الحق نفسه بنفسه وهو علمه بنفسه وكلامه الذي يخبر به عن نفسه كقوله شهد الله أنه لا إله إلا هو سورة آل عمران وقوله إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني سورة طه فذاك صفته القائمة به كما تقوم به سائر صفاته من حياته وقدرته وغير ذلك وذلك لا يفارق ذات الرب وينتقل إلى غيره أصلا كسائر صفاته بل صفات المخلوق لا تفارق ذاته وتنتقل إلى غيره فكيف بصفات الخالق

5

374

ولكن هو سبحانه ينزل على أنبيائه من علمه وكلامه ما أنزله كما أنزل القرآن وهو كلامه على خاتم الرسل وقد قال سبحانه شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم سورة آل عمران فهو سبحانه يشهد لنفسه بالوحدانية والملائكة يشهدون وأولوا العلم من عباده يشهدون والشهادات متطابقة متوافقة وقد يقال هذه الشهادة هي هذه بمعنى أنها نوعها وليس نفس صفة المخلوق هي نفس صفة الخالق ولكن كلام الله الذي أنزله على رسوله هو القرآن الذي يقرؤه المسلمون وهو كلامه سبحانه مسموعا من المبلغين له ليس تلاوة العباد له وسماع بعضهم من بعض بمنزلة سمع موسى له من الله بلا واسطة فإن موسى سمع نفس كلام الرب كما يسمع كلام المتكلم منه كما يسمع الصحابة كلام الرسول منه وأما سائر الناس فسمعوه مبلغا عن الله كما يسمع التابعون ومن بعدهم كلام النبي صلى الله عليه وسلم مبلغا عنه ولهذا قال لرسوله بلغ ما أنزل إليك من ربك سورة المائدة وقال ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم سورة الجن وقال النبي صلى الله عليه وسلم بلغوا عني ولو آية وقال

5

375

نضر الله أمرا سمع منا حديثا فبلغه إلى من لم يسمعه فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه وقال ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي وقول القائل وألاح منه لائحا إلى أسرار طائفة من صفوته وأخرسهم عن نعته وأعجزهم عن بثه فيقال أفضل صفوته هم الأنبياء وأفضلهم الرسل وأفضل الرسل أولو العزم وأفضل أولي العزم محمد صلى الله عليه وسلم وما ألاحه الله على أسرار هؤلاء فهو أكمل توحيد عرفه العباد وهم قد تكلموا بالتوحيد ونعتوه وبثوه وما يقدر أحد قط أن ينقل عن نبي من الأنبياء ولا

5

376

وارث نبي أنه يدعي أنه يعلم توحيدا لا يمكنه النطق به بل كل ما علمه القلب أمكن التعبير عنه لكن قد لا يفهمه إلا بعض الناس فأما أن يقال إن محمدا صلى الله عليه وسلم عاجز عن أن يبين ما عرفه الله من توحيده فهذا ليس كذلك ثم يقال إن أريد بهذا اللائح أن يكون الرب نفسه هو الموحد لنفسه في قلوب صفوته لاتحاده بهم أو حلوله فيهم فهذا قول النصارى وهو باطل شرعا وعقلا وإن أريد أنه يعرف صفوته من توحيده ومعرفته والإيمان به ما لا يعرفه غيرهم فهذا حق لكن ما قام بقلوبهم ليس هو نفس الرب الخالق تعالى بل هو العلم به ومحبته ومعرفته وتوحيده وقد يسمى المثل الأعلى ويفسر به قوله تعالى وله المثل الأعلى في السموات والأرض سورة الروم أي في قلوب أهل السموات والأرض ويقال له المثال الحبي والمثال العلمي وقد يخيل لناقص العقل إذا أحب شخصا محبة تامة بحيث فني في حبه حتى لا يشهد في قلبه غيره أن نفس المحبوب صار في قلبه وهو غالط في ذلك بل المحبوب في موضع آخر إما في بيته وإما في المسجد وإما في

5

377

موضع آخر ولكن الذي في قلبه هو مثاله وكثيرا ما يقول القائل أنت في قلبي وأنت في فؤادي والمراد هذا المثال لأنه قد علم أنه لم يعن ذاته فإن ذاته منفصلة عنه كما يقال أنت بين عيني وأنت دائما على لساني كما قال الشاعر مثالك في عبني وذكرك في فمي ومثواك في قلبي فكيف تغيب وقال آخر ساكن في القلب يعمره لست أنساه فأذكره فجعله ساكنا عامرا للقلب لا ينسى ولم يرد أن ذاته حصلت في قلبه كما يحصل الإنسان الساكن في بيته بل هذا الحاصل هو المثال العلمي وقال آخر ومن عجب أني احن إليهم وأسأل عنهم من لقيت وهم معي وتطلبهم عيني وهم في سوادها ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي ومن هذا الباب قول القائل القلب بيت الرب وما يذكرونه في الإسرائيليات من قوله ما وسعتني أرضى ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن التقي النقي الورع اللين فليس المراد أن الله

5

378

نفسه يكون في قلب كل عبد بل في القلب معرفته ومحبته وعبادته والنائم يرى في المنام إنسانا يخاطبه ويشاهده ويجري معه فصولا وذلك المرئي قاعد في بيته أو ميت في قبره وإنما رأى مثاله وكذلك يرى في المرآة الشمس والقمر والكواكب وغير ذلك من المرئيات ويراها تكبر بكبر المرأة وتصغر بصغرها وتستدير باستدارتها وتصفوا بصفائها وتلك مثال المرئيات القائمة بالمرآة وأما نفس الشمس التي في السماء فلم تصر ذاتها في المرآة وقد خاطبني مرة شيخ من هؤلاء في مثل هذا وكان ممن يظن أن الحلاج قال أنا الحق لكونه كان في هذا التوحيد فقال الفرق بين فرعون والحلاج أن فرعون قال أنا ربكم الأعلى سورة النازعات وهو يشير إلى نفسه وأما الحلاج فكان فانيا عن نفسه والحق نطق على لسانه فقلت لت أفصار الحق في قلب الحلاج ينطق على لسانه كما ينطق الجني على لسان المصروع

5

379

وهو سبحانه بائن عن قلب الحلاج وغيره من المخلوقات فقلب الحلاج أو غيره كيف يسع ذات الحق ثم الجني يدخل في جسد الإنسان ويشغل جميع أعضائه والإنسان المصروع لا يحس بما يقوله الجني ويفعله بأعضائه لا يكون الجني في قلبه فقط فإن القلب كل ما قام به فإنما هو عرض من الأعراض ليس شيئا موجودا قائما بنفسه ولهذا لا يكون الجني بقلبه الذي هو روحه وهولاء قد يدعون أن ذات الحق قامت بقلبه فقط فهذا يستحيل في حق المخلوق فكيف بالخالق جل جلاله وقد يحتج بعضهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم فإذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد فإن الله قال على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم سمع الله لمن حمده فيقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد ما أردتم من الحلول

5

380

والاتحاد ولكن أراد أن الله بلغكم هذا الكلام على لسان رسوله وأخبركم أنه يسمع دعاء من حمده فاحمدوه أنتم وقولوا ربنا ولك الحمد حتى يسمع الله لكم دعاءكم فإن الحمد قبل الدعاء سبب لاستجابة الدعاء وهذا أمر معروف يقول المرسل لرسوله قل على لساني كذا وكذا ويقول الرسول لمرسله قلت على لسانك كذا وكذا ويقول المرسل أيضا قلت لكم على لسان رسولي كذا وكذا وقد قال تعالى وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء سورة الشورى فالله تعالى إذا أرسل رسولا من الملائكة أو من البشر برسالة كان مكلما لعباده بواسطة رسوله بما أرسل به رسوله وكان مبينا لهم بذلك كما قال تعالى قد نبأنا الله من أخباركم سورة التوبة أي بواسطة رسوله وقال فإذا قرأناه فاتبع قرآنه سورة القيامة وقال نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق سورة القصص وقال نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين سورة يوسف فكانت تلك التلاوة والقراءة والقصص بواسطة جبريل فإنه سبحانه يكلم عباده بواسطة رسول يرسله فيوحي بإذنه ما يشاء ولهذا جاء بلفظ

5

381

الجمع فإن ما فعله المطاع بجنده يقال فيه نحن نفعل كذا والملائكة رسل الله فيما يخلقه ويأمر به فما خلقه وأمر به بواسطة رسله من الملائكة قال فيه نحن فعلنا كما قال تعالى فإذا قرأناه فاتبع قرآنه سورة القيامة وفي الصحيحين عن ابن عباس قال إن علينا أن نجمعه في قلبك ثم أن نقرأه بلسانك فإذا قرأه جبريل فاستمع له حتى يفرغ كما قال في الآية الأخرى ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه سورة طه أي لا تعجل بتلاوة ما يقرؤه جبريل عليك من قبل أن يقضي جبريل تلاوته بل استمع له حتى يقضي تلاوته ثم

5

382

بعد هذا اقرأ ما أنزله إليك وعلينا أن نجمع ذلك في قلبك وأن تقرأه بلسانك ثم أن تبينه للناس بعد ذهاب جبريل عنك وقوله والذي يشار إليه على ألسن المشيرين أنه إسقاط الحدث وإثبا القدم فيقال مرادهم بهذا نفي المحدث أي ليس هنا إلا القديم وهذا على وجهين فإن أريد به نفي المحدث بالكلية وأن العبد هو القديم فهذا شر من قول النصارى إلا أنه قريب إلى قول اليعقوبية من النصارى فإن اليعقوبية يقولون إن اللاهوت والناسوت امتزجا واختلطا فصارا جوهرا واحدا وأقنوما واحدا وطبيعة واحدة ويقول بعضهم إن اليدين اللتين سمرتا هما اليدان اللتان خلق بهما آدم وأما النسطورية فيقولون بحلول اللاهوت في الناسوت والملكانية يقولون شخص واحد له أقنوم واحد بطبيعتين ومشيئتين ويشبهونه بالحديدة والنار والنسطورية يشبهونه بالماء في الظروف واليعقوبية يشبهونه باختلاط الماء واللبن والماء والخمر

5

383

فقول القائل إسقاط الحدوث إن أراد به أن المحدث عدم فهذا مكابرة وإن أراد به إسقاط المحدث من قلب العبد وأنه لم يبق في قلبه إلا القديم فهذا إن أريد به ذات القديم فهو قول النسطورية من النصارى وإن أريد به معرفته والإيمان به وتوحيده أو قيل مثله أو المثل العلمي أو نوره أو نحو ذلك فهذا المعنى صحيح فإن قلوب أهل التوحيد مملوءة بهذا لكن ليس في قلوبهم ذات الرب القديم وصفاته القائمة به وأما أهل الاتحاد العام فيقولون ما في الوجود إلا الوجود القديم وهذا قول الجهمية وأبو أسماعيل لم يرد هذا فإنه قد صرح في غير موضع من كتبه بتكفير هؤلاء الجهمية الحلولية الذين يقولون إن الله بذاته في كل مكان وإنما يشير إلى ما يختص به بعض الناس ولهذا قال ألاح منه لائحا إلى أسرار طائفة من صفوته والإتحاد والحلول الخاص وقع فيه كثير من العباد والصوفية وأهل الأحوال فإنه يفجؤهم ما يعجزون عن معرفته وتضعف عقولهم عن تمييزه فيظنونه ذات الحق وكثير منهم يظن أنه رأى الله بعينه وفيهم من يحكي مخاطباته له ومعاتباته وذاك كله إنما هو في قلوبهم من

5

384

المثال العلمي الذي في قلوبهم بحسب إيمانهم به ومما يشبه المثال العلمي رؤية الرب تعالى في المنام فإنه يرى في صور مختلفة يراه كل عبد على حسب إيمانه ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم أعظم إيمانا من غيره رآه في أحسن صورة وهي رؤية منام بالمدينة كما نطقت بذلك الأحاديث المأثورة عنه وأما ليلة المعراج فليس في شيء من الأحاديث المعروفة أنه رآه ليلة المعراج لكن روي في ذلك حديث موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث رواه الخلال من طريق أبي عبيد وذكره القاضي أبو يعلى في إبطال التأويل والذي نص عليه الإمام أحمد في الرؤية هو ما جاء عن النبي صلى الله عليه

5

385

وسلم وما قاله أصحابه فتارة يقول رآه بفؤاده متبعا لأبي ذر فإنه روى بإسناده عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بفؤاده وقد ثبت في صحيح مسلم أن ابا ذر سأل النبي صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك فقال نور أني أراه ولم ينقل هذا السؤال عن غير أبي ذر وأما ما يذكره بعض العامة من أن أبا بكر رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال نعم رأيته وأن عائشة سألته فقال لم أره فهو كذب لم يروه أحد من أهل العلم ولا يجيب النبي صلى الله عليه وسلم عن مسألة واحدة بالنفي والإثبات مطلقا فهو منزه عن ذلك

5

386

فلما كان أبو ذر أعلم من غيره أتبعه أحمد مع ما ثبت في الصحيح عن ابن عباس أنه قال رآه بفؤاده مرتين وتارة يقول أحمد رآه فيطلق اللفظ ولا يقيده بعين ولا قلب اتباعا للحديث وتارة يستحسن قول من يقول رآه ولا يقول بعين ولا قلب ولم ينقل أحد من أصحاب أحمد الذين باشروه عنه أنه قال رآه بعينه وقد ذكر ما نقلوه عن أحمد الخلال في كتاب السنة وغيره وكذلك لم ينقل أحد بإسناد صحيح عن ابن عباس أنه قال رآه بعينه بل الثابت عنه إما الأطلاق وإما التقييد بالفؤاد وقد ذكر طائفة من أصحاب أحمد كالقاضي إبي يعلى ومن اتبعه عن أحمد ثلاث روايات في رؤيته تعالى إحداها أنه رآه بعينه واختاروا ذلك وكذلك اختاره الأشعري وطائفة ولم ينقل هؤلاء عن

5

387

أحمد لفظا صريحا بذلك ولا عن ابن عباس ولكن المنقول الثابت عن أحمد من جنس النقول الثابتة عن ابن عباس إما تقييد الرؤية بالقلب وإما إطلاقها وأما تقييدها بالعين فلم يثبت لا عن أحمد ولا عن ابن عباس وأما من سوى النبي صلى الله عليه وسلم فقد ذكر الإمام أحمد اتفاق السلف على أنه لم يره أحد بعينه وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت وهذا لبسطه موضع آخر وإنما المقصود هنا أن كثيرا من السالكين يرد عليه من الأحوال ما يصطلمه حتى يظن أنه هو الحق وأن الحق فيه أو أن الحق يتكلم على لسانه أو أنه يرى الحق أو نحو ذلك وإنما يكون الذي يشاهدونه ويخاطبونه هو الشيطان وفيهم من يرى عرشا عليه نور ويرى الملائكة

5

388

حول العرش ويكون ذلك الشيطان وتلك الشياطين حوله وقد جرى هذا لغير واحد فصل وقد اعترف طوائف بأنه يستحق أن يحب وأنكروا أنه يحب غيره إلا بمعنى الإرادة العامة فإن محبة المؤمنين لربهم أمر موجود في القلوب والفطر شهد به الكتاب والسنة واستفاض عن سلف الأمة وأهل الصفوة واتفق عليه أهل المعرفة بالله وقد ثبت أن التذاذ المؤمنين يوم القيامة بالنظر إلى الله أعظم لذة في الجنة ففي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون ما هو ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه وهو الزيادة وفي حديث آخر رواه النسائي وغيره أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة

5

389

فقوله في الحديث الصحيح فما أعطاهم شيئا أحب اليهم من النظر إليه يبين أن اللذة الحاصلة بالنظر إليه أعظم من كل لذة في الجنة والإنسان في الدنيا يجد في قلبه بذكر الله وذكر محامده وآلائه وعبادته من اللذة ما لا يجده بشيء آخر وقال النبي صلى الله عليه وسلم جعلت قرة عيني في الصلاة وكان يقول أرحنا بالصلاة يا بلال وفي الحديث إذا مررتم

5

390

برياض الجنة فارتعوا قالوا وما رياض الجنة قال مجالس الذكر ومن هذا الباب قوله ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة فإن هذا كان أعظم مجالس الذكر والمنكرون لرؤيته من الجهمية والمعتزلة تنكر هذه اللذة وقد يفسرها من يتأول الرؤية بمزيد العلم على لذة العلم به كاللذة التي في الدنيا بذكره لكن تلك أكمل وهذا قول متصوفة الفلاسفة والنفاة كالفارابي وكأبي حامد وأمثاله فإن ما في كتبه من الإحياء وغيره من لذة النظر إلى وجهه هو بهذا المعنى والفلاسفة تثبت اللذة العقلية وأبو نصر الفارابي

5

391

وأمثاله من المتفلسفة يثبت الرؤية لله ويفسرها بهذا المعنى وهذه اللذة أيضا ثابتة بعد الموت لكنهم مقصرون في تحقيقها وإثبات غيرها من لذات الآخرة كما هو مبسوط في موضعه وأما أبو المعالي وابن عقيل ونحوهما فينكرون أن يلتذ أحد بالنظر إليه وقال أبو المعالي يمكن أن يحصل مع النظر إليه لذة ببعض

5

392

المخلوقات من الجنة فتكون اللذة مع النظر بذلك المخلوق وسمع ابن عقيل رجلا يقول أسألك لذة النظر إلى وجهك فقال هب أن له وجها أفتلتذ بالنظر إليه وهذا ونحوه مما أنكر على ابن عقيل فإنه كان فاضلا ذكيا وكان تتلون آراؤه في هذه المواضع ولهذا يوجد في كلامه كثير مما يوافق فيه قول المعتزلة والجهمية وهذا من ذاك وكذلك أبو المعالي بني هذا على أصل الجهمية الذي وافقهم فيه الأشعري ومن وافقه كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وغيرهما أن الله لا يحب ذاته ويزعمون أن الخلاف في ذلك مع الصوفية وهذا القول من بقايا أقوال جهم بن صفوان وأول من عرف في الإسلام أنه أنكر أن الله يحب او يحب الجهم بن صفوان وشيخه الجعد ابن درهم وكذلك هو أول من عرف أنه أنكر حقيقة تكليم الله لموسى وغيره وكان جهم ينفي الصفات والأسماء ثم انتقل بعض ذلك إلى المعتزلة وغيرهم فنفوا الصفات دون الأسماء وليس هذا قول أحد من سلف الأمة وأئمتها بل كلهم متفقون على أن الله يستحق أن يحب وليس شيء أحق بأن يحب من الله سبحانه بل لا يصلح أن يحب غيره إلا لأجله وكل ما يحبه المؤمن من طعام وشراب ولباس وغير ذلك لا ينبغي أن يفعله إلا ليستعين به على عبادته

5

393

سبحانه المتضمنة لمحبته فإن الله إنما خلق الخلق لعبادته وخلق فيهم الشهوات ليتناولوا بها ما يستعينون به على عبادته ومن لم يعبد الله فإنه فاسد هالك والله لا يغفر أن يشرك به فيعبد معه غيره فكيف بمن عطل عبادته فلم يعبده ألبته كفرعون وأمثاله وقد قال تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء سورة النساء والتعطيل ليس دون الشرك بل أعظم منه فالمستكبرون عن عبادته أعظم جرما من الذين يعبدونه ويعبدون معه غيره وهو لا يغفر لهم فأولئك أولى وما من مؤمن إلا وفي قلبه حب الله ولو أنكر ذلك بلسانه وهؤلاء الذين أنكروا محبته من أهل الكلام وهم مؤمنون لو رجعوا إلى فطرتهم التي فطروا عليها واعتبروا أحوال قلوبهم عند عبادته لوجدوا في قلوبهم من محبته ما لا يعبر عن قدره وهم من أكثر الناس نظرا في العلم به وبصفاته وذكره وذلك كله من محبته وإلا فما لا يحب لا تحرص النفوس على ذكره إلا لتعلق حاجتها به ولهذا يقال من أحب شيئا أكثر من ذكره والمؤمن يجد نفسه محتاجة إلى الله في تحصيل مطالبه ويجد في قلبه محبة الله غير هذا فهو محتاج إلى الله من جهة أنه ربه ومن جهة

5

394

أن إلهه قال تعالى إياك نعبد وإياك نستعين فلا بد أن يكون العبد عابدا لله ولا بد أن يكون مستعينا به ولهذا كان هذا فرضا على كل مسلم أن يقوله في صلاته وهذه الكلمة بين العبد وبين الرب وقد روي عن الحسن البصري رحمه الله أن الله أنزل مائة كتاب وأربعة كتب جمع سرها في الأربعة وجمع سر الأربعة في القرآن وجمع سرالقرآن في الفاتحة وجمع سر الفاتحة في هاتين الكلمتين إياك نعبد وإياك نستعين ولهذا ثناها الله في كتابه في غير موضع من القرآن كقوله فاعبده وتوكل عليه سورة هود وقوله عليه توكلت وإليه أنيب سورة هود وقوله عليه توكلت وإليه متاب سورة الرعد وقوله ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه سورة الطلاق وأمثال ذلك وهم يتأولون محبته على محبة عبادته وطاعته فيقال لهم فيمتنع في الفطرة أن يحب الإنسان طاعة مطاع وعبادته إلا أن يكون محبا لله وإلا فمالا يحب في نفسه لا يحب الإنسان لا

5

395

طاعته ولا عبادته ومن كان إنما يحب الطاعة والعبادة للعوض المخلوق فهو لا يحب إلا ذلك العوض ولا يقال أن هذا يحب الله ألا ترى أن الكافر والظالم ومن يبغضه المؤمن قد يستأجر المؤمن على عمل يعمله فيعمل المؤمن لأجل ذلك العوض ولا يكون المؤمن محبا للكافر ولا للظالم إذا عمل له بعوض لأنه ليس مقصوده إلا العوض فمن كان لا يريد من الله إلا العوض على عمله فإنه لا يحبه قط إلا كما يحبر الفاعل لمن يستأجره ويعطيه العوض على عمله فإن كل محبوب إما أن يحبر لنفسه وإما أن يحب لغيره فما أحب لغيره فالمحبوب في نفس الأمر هو ذلك الغير وأما هذا فإنما أحب لكونه وسيلة إلى المحبوب والوسيلة قد تكون مكروهة غاية الكراهة لكن يتحملها الإنسان لأجل المقصود كما يتجرع المريض الدواء الكريه لأجل محبته للعافية ولا يقال إنه يحب ذلك الدواء الكريه فإن كان الرب سبحانه لا يحب إلا لما يخلقه من النعم فإنه لا يحب وقد قال تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله سورة البقرة فأخبر أن المؤمنين أشد حبا لله من المشركين وأن المشركين يحبون الأنداد كحب الله

5

396

ومن المعلوم أن المشركين يحبون آلهتهم محبة قوية كما قال تعالى وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم سورة البقرة وهذا وإن كان يقال إنه لما يظنونه فيهم من أنها تنفعهم فلا ريب أن الشيء يحب لهذا ولهذا ولكن إذا ظن فيه أنه متصف بصفات الكمال كانت محبته أشد مع قطع النظر عن نفعه والحديث الذي يروى أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمة وأحبوني بحب الله وأحب أهل بيتي بحبي إسناده ضعيف فإن الله يحب أن يحب لذاته وإن كانت محبته واجبة لإحسانه وقول القائل المحبة للإحسان محبة العامة وتلك محبة الخاصة ليس بشيء بل كل مؤمن فأنه يحب الله لذاته ولو أنكر ذلك بلسانه ومن لم يكن الله ورسوله أحب إليه مما سواهما لم يكن مؤمنا ومن قال إني لا أجد هذه المحبة في قلبي لله ورسوله فأحد الأمرين لازم إما أن يكون صادقا في هذالخبر فلا يكون مؤمنا فإن أبا جهل وأبا لهب

5

397

وأمثالهما إذا قالوا ذلك كانوا صادقين في هذا الخبر وهم كفار أخبروا عما في نفوسهم من الكفر مع أن هؤلاء في قلوبهم محبة الله لكن مع الشرك به فإنهم اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله ولهذا أبغضوا الرسول وعادوه لأنه دعاهم إلى عبادة الله وحده ورفض ما يحبونه معه فنهاهم أن يحبوا شيئا كحبة فأبغضوه على هذا فقد يكون بعض هؤلاء المشركين الذين اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله يفضل ذلك الند على الله في أشياء وهؤلاء قد يعلمون أن الله أجل وأعظم لكن تهوى نفوسهم ذلك الند أكثر والرب تعالى إذا جعل من يحب الأنداد كحبه مشركين فمن أحب الند أكثر كان أعظم شركا وكفرا كما قال تعالى ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم سورة الأنعام فلولا تعظيمهم لآلهتهم على الله لما سبوا الله إذا سبت آلهتهم وقال تعالى وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون سورة الأنعام وقال أبو سفيان يوم أحد أعل هبل أعل هبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألا تجيبوه فقالوا وما نقول قال قولوا الله أعلى وأجل وقال أبو سفيان إن لنا العزى ولا عزى لكم قال ألا تجيبوه قالوا

5

398

وما نقول قال قولوا الله مولانا ولا مولى لكم ويوجد كثير من الناس يحلف بند جعله لله وينذر له ويوالي في محبته ويعادي من يبغضه ويحلف به فلا يكذب ويوفي بما نذره له وهو يكذب إذا حلف بالله ولا يوفي بما نذره لله ولا يوالي في محبة الله ولا يعادي في الله كما يوالي ويعادي لذلك الند فمن قال إني لا أجد في قلبي أن الله أحد الي مما سواه فأحد الأمرين لازم إما أن يكون صادقا فيكون كافرا مخلدا في النار من الذين اتخذوا من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله وإما أن يكون غالطا في قوله لا أجد في قلبي هذا والإنسان قد يكون في قلبه معارف وإرادات ولا يدري أنها في قلبه فوجود الشيء في القلب شيء والدراية به شيء آخر ولهذا يوجد الواحد من هؤلاء يطلب تحصيل ذلك في قلبه وهو حاصل في قلبه فتراه يتعب تعبا كثيرا لجهله وهذا كالموسوس في الصلاة فإن كل من فعل فعلا باختياره وهو يعلم ما يفعله فلا بد أن ينويه ووجود ذلك بدون النية التي هي الإرادة ممتنع فمن كان يعلم أنه يقوم إلى الصلاة فهو يريد الصلاة ولا يتصور أن يصلي إلا وهو يريد الصلاة

5

399

فطلب مثل هذا لتحصيل النية من جهله بحقيقة النية ووجودها في نفسه وكذلك من كان يعلم أن غدا من رمضان وهو مسلم يعتقد وجوب الصوم وهو مريد للصوم فهذا نية الصوم وهو حين يتعشى يتعشى عشاء من يريد الصوم ولهذا يفرق بين عشاء ليلة العيد وعشاء ليالي شهر رمضان فليلة العيد يعلم أنه لا يصوم فلا يريد الصوم ولا ينويه ولا يتعشى عشاء من يريد الصوم وهذا مثل الذي يأكل ويشرب ويمشي ويركب ويلبس إذا كان يعلم أنه يفعل هذه الأفعال فلا بد أن يريدها وهذه نيتها فلو قال بلسانه أريد أن أضع يدي في هذا الإناء لآخذ لقمة آكلها كان احمق عند الناس فهكذا من يتكلم بمثل هذه الألفاظ في نية الصلاة والطهارة والصيام ومع هذا فتجد خلقا كثيرا من الموسوسين بعلم وعبادة يجتهد في تحصيل هذه النية أعظم مما يجتهد من يستخرج ما في قعر معدته من القيء أو من يبتلع الأدوية الكريهة وكذلك كثير من المعارف قد يكون في نفس الإنسان ضروريا وفطريا وهو يطلب الدليل عليه لإعراضه عما في نفسه وعدم شعوره بشعوره فهكذا كثير من المؤمنين يكون في قلبه محبة لله ورسوله وقد نظر في كلام الجهمية والمعتزلة نفاة المحبة واعتقد ذلك قولا صحيحا لما ظنه من صحة شبهاتهم أو تقليدا لهم فصار يقول بموجب ذلك الاعتقاد

5

400

وينكر ما في نفسه فإن نافي محبة الله يقول المحبة لا تكون إلا لما يناسب المحبوب ولا مناسبة بين القديم والحديث وبين الواجب والممكن وبين الخالق والمخلوق فيقال لفظ المناسبة لفظ مجمل فإنه يقال لا مناسبة بين كذا وكذا أي أحدهما أعظم من الأخر فلا ينسب هذا إلى هذا كما يقال لا نسبة لمال فلان إلى مال فلان ولا نسبة لعلمه أو جوده أو ملكه إلى علم فلا وجود فلان وملك فلان يراد به أن هذه النسبة حقيرة صغيرة كلا نسبة كما يقال لا نسبة للخردلة إلى الجبل ولا نسبة للتراب إلى رب الأرباب فإذا أريد بأنه لا نسبة للمحدث إلى القديم هذا المعنى ونحوه فهو صحيح وليست المحبة مستلزمة لهذه النسبة وإن أريد أن ليس في القديم معنى يحبه لأجله المحدث فهذا رأس المسألة فلم قلت إنه ليس بين المحدث والقديم ما يحب المحدث القديم لأجله ولم قلت إن القديم ليس متصفا بمحبة ما يحبه من مخلوقاته والمحبة لا تستلزم نقصا بل هي صفة كمال بل هي أصل الإرادة فكل إرادة فلا بد أن تستلزم محبة فإن الشيء إنما يراد لأنه محبوب أو لأنه وسيلة إلى المحبوب ولو قدر عدم المحبة لامتنعت الإرادة فإن المحبة لازمة للإرادة فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم وكذلك المحبة

5

401

مستلزمة للإرادة فمن أحب شيئا فلا بد أن يتضمن حبه إياه إرادة لبعض متعلقاته ولهذا كان خلقه تعالى لمخلوقاته لحكمة والحكمة مرادة محبوبة فهو خلق ما خلق لمراد محبوب كما تقدم وهو سبحانه يحب عباده المؤمنين فيريد الإحسان إليهم وهم يحبونه فيريدون عبادته وطاعته وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين وما من مؤمن إلا وهو يجد في قلبه للرسول من المحبة مالا يجد لغيره حتى أنه إذا سمع محبوبا له من أقاربه وأصدقائه يسب الرسول هان عليه عداوته ومهاجرته بل وقتله لحب الرسول وإن لم يفعل ذلك لم يكن مؤمنا قال تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبنائهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبه الإيمان وأيدهم بروح منه سورة المجادلة بل قد

5

402

قال تعالى قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره سورة التوبة فتوعد من كان الأهل والمال أحب إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ثلاث من كن فبه وجد بهن حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار فوجود حلاوة الإيمان في القلب لا تكون من محبة العوض الذي لم يحصل بعد بل الفاعل الذي لا يعمل إلا للكراء لا يجد حال العمل إلا التعب والمشقة وما يؤلمه فلو كان لا معنى لمحبة الله ورسوله إلا محبة

5

403

ما سيصير إليه العبد من الأجر لم يكن هنا حلاوة إيمان يجدها العبد في قلبه وهو في دار التكليف والإمتحان وهذا خلاف الشرع وخلاف الفطرة التي فطر الله عليها قلوب عباده فقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كل مولود يولد على الفطرة وفي صحيح مسلم عنه أنه قال يقول الله تعالى خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا فالله فطر عباده على الحنيفية مله إبراهيم وأصلها محبة الله وحده فما من فطرة لم تفسد إلا وهي تجد فيها محبة الله تعالى لكن قد تفسد الفطرة إما لكبر وغرض فاسد كما في فرعون وإما بأن يشرك معه غيره في المحبة كما قال تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله سورة البقرة وأما أهل التوحيد الذين يعبدون الله مخلصين له الدين فإن في

5

404

قلوبهم محبة الله لا يماثله فيها غيره ولهذا كان الرب محمودا حمدا مطلقا على كل ما فعله وحمدا خاصا على إحسانه إلى الحامد فهذا حمد الشكر والأول حمده على كل ما فعله كما قال الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور سورة الأنعام الحمد لله فاطر السموات والأرض الآية سورة فاطر والحمد ضد الذم والحمد خبر بمحاسن المحمود مقرون بمحبته والذم خبر بمساوىء المذموم مقرون ببغضه فلا يكون حمد لمحمود إلا مع محبته ولا يكون ذم لمذموم إلا مع بغضه وهو سبحانه له الحمد في الأولى والآخرة وأول ما نطق به آدم الحمد لله رب العالمين وأول ما سمع من ربه يرحمك ربك وآخر دعوى أهل الجنة أن الحمد لله رب العالمين وأول من يدعى إلى الجنة الحمادون ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم صاحب لواء الحمد آدم فمن دونه تحت لوائه وهو صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون فلا تكون عبادة إلا بحب المعبود ولا يكون حمد إلا بحب المحمود وهو سبحانه المعبود المحمود

5

405

وأول نصف الفاتحة الذي للرب حمده وآخره عبادته أوله الحمد لله رب العالمين وآخره إياك نعبد كما ثبت في حديث القسمة يقول الله تبارك وتعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل يقول العبد الحمد لله رب العالمين فيقول الله حمدني عبدي يقول العبد الرحمن الرحيم فيقول الله تعالى أثنى علي عبدي يقول العبد مالك يوم الدين فيقول الله تبارك وتعالى مجدني عبدي يقول العبد إياك نعبد وإياك نستعين فيقول الله تعالى هذه الآية بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل يقول العبد أهدنا الصراط المستقيم إلى آخر السورة يقول الله تعالى هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل رواه مسلم في صحيحه وقال النبي صلى الله عليه وسلم أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير فجمع بين التوحيد

5

406

والتحميد كما قال تعالى فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين سورة غافر وكان ابن عباس يقول إذا قلت لا إله إلا الله فقل الحمد لله رب العالمين يتأول هذه الآية وفي سنن ابن ماجة وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله

5

407

وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم وقال أيضا كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء

5

408

فلا بد في الخطب من الحمد لله ومن توحيده ولهذا كانت الخطب في الجمع والأعياد وغير ذلك مشتملة على هذين الأصلين وكذلك التشهد في آخر الصلاة أوله ثناء على الله وآخره الشهادتان ولا يكون الثناء إلا على محبوب ولا التأله إلا لمحبوب وقد بسطنا الكلام في حقائق هذه الكلمات في مواضع متعددة وإذا كان العباد يحمدونه ويثنون عليه ويحبونه فهو سبحانه أحق بحمد نفسه والثناء على نفسه والمحبة لنفسه كما قال أفضل الخلق لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك فلا ثناء من مثن أعظم من ثناء الرب على نفسه ولا ثناء إلا بحب ولا حب من محبوب لمحبوب أعظم من محبة الرب لنفسه وكل ما يحبه من عباده فهو تابع لحبه لنفسه فهو يحب المقسطين والمحسنين والصابرين والمؤمنين ويحب التوابين ويحب المتطهرين ويفرح بتوبة التائبين كل ذلك تبعا لمحبته لنفسه فإن المؤمن إذا كان يحب ما يحبه من المخلوقات لله فيكون حبه للرسول والصالحين تبعا لحبه لله فكيف الرب تعالى فيما يحبه من مخلوقاته إنما يحبه تبعا لحبه لنفسه وخلق المخلوقات لحكمته التي يحبها

5

409

فما خلق شيئا إلا لحكمة وهو سبحانه قد قال أحسن كل شيء خلقه سورة السجدة وقال صنع الله الذي أتقن كل شيء سورة النمل وليس في أسمائه الحسنى إلا اسم يمدح به ولهذا كانت كلها حسنى والحسنى بخلاف السوأى فكلها حسنة والحسن محبوب ممدوح فالمقصود بالخلق ما يحبه ويرضاه وذلك أمر ممدوح ولكن قد يكون من لوازم ذلك ما يريده لأنه من لوازم ما يحبه ووسائله فإن وجود الملزوم بدون اللازم ممتنع كما يمتنع وجود العلم والإرادة بلا حياة ويمتنع وجود المولود مع كونه مولودا بلا ولادة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح حديث الإستفتاح والخير كله بيديك والشر ليس إليك وقد قيل في تفسيره لا يتقرب به إليك بناء على أنه الأعمال المنهي عنها وقد قيل

5

410

لا يضاف إليك بناء على أنه المخلوق والشر المخلوق لا يضاف إلى الله مجردا عن الخير قط وإنما يذكر على أحد وجوه ثلاثة إما مع إضافته إلى المخلوق كقوله من شر ما خلق سورة الفلق وإما مع حذف الفاعل كقوله تعالى وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا سورة الجن ومنه في الفاتحة صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين سورة الفاتحة فذكر الإنعام مضافا إليه وذكر الغضب محذوفا فاعله وذكر الضلال مضافا إلى العبد وكذلك قوله وإذا مرضت فهو يشفين سورة الشعراء وإما أن يدخل في العموم كقوله خالق كل شيء سورة الأنعام ولهذا إذا ذكر باسمه الخاص قرن بالخير كقوله في أسمائه الحسنى الضار النافع المعطي المانع الخافض الرافع المعز المذل فجمع بين الأسمين لما فيه من العموم والشمول الدال على وحدانيته وأنه وحده يفعل جميع هذه الأشياء ولهذا لا يدعى بأحد الإسمين كالضار والنافع والخافض والرافع بل يذكران جميعا ولهذا كان كل نعمة منه فضلا وكل نقمة منه عدلا

5

411

وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يمين الله ملأى لا يغضيها نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه والقسط بيده الأخرى يخفض ويرفع فالإحسان بيده اليمنى والعدل بيده الأخرى وكلتا يديه يمين مباركة كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال المقسطون عند الله يوم القيامة عن منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذي يعدلون في أهليهم وما ولوا ولبسط هذا موضع آخر والمقصود هنا أنه سبحانه إذا خلق ما يبغضه ويكرهه لحكمة يحبها ويرضاها فهو مريد لكل ما خلقه وإن كان بعض مخلوقاته إنما خلقه لغيره وهو يبغضه ولا يحبه وهذا الفرق بين المحبة والمشيئة هو مذهب السلف وأهل الحديث والفقهاء وأكثر متكلمي أهل السنة كالحنفية والكرامية

5

412

والمتقدمين من الحنبلية والمالكية والشافعية كما ذكر ذلك أبو بكر عبد العزيز في كتاب المقنع وهو أحد قولي الأشعري وعليه اعتمد أبو الفرج بن الجوزي ورجحه على قول من قال لا يحب الفساد للمؤمن أو لا يحبه دينا وذكر أبو المعالي أن هذا قول السلف وأن أول من جعلهما سواء من أهل الإثبات هو أبو الحسن والذين قالوا هذا من متأخري المالكية والشافعية والحنبلية كأبي المعالي والقاضي أبي يعلى وغيرهما هم في ذلك تبع للأشعري وبهذا الفرق يظهر أن الإرادة نوعان إرادة أن يخلق وإرادة لما أمر به فأما المأمور به فهو مراد إرادة شرعية دينية متضمنة أنه يحب ما أمر به ويرضاه وهذا معنى قولنا يريد من عبده فهو يريده له كما يريد الأمر الناصح للمأمور المنصوح يقول هذا خير لك وأنفع لك وهو إذا فعله أحبه الله ورضيه والمخلوقات مرادة إرادة خلقية كونية وهذه الإرادة متضمنة لما وقع دون ما لم يقع وقد يكون الشيء مرادا له غير محبوب بل أراده لإفضائه إلى وجود ما هو محبوب له أو لكونه شرطا في وجود ما هو محبوب له

5

413

فهذه الإرادة الخلقية هي المذكورة في قوله تعالى فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا سورة الأنعام وفي قوله ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم سورة هود وفي قول المسلمين ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وفي قوله ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها سورة السجدة وأمثال ذلك والإرادة الأمرية هي المذكورة في قوله يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر سورة البقرة وفي قوله والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا سورة النساء وفي قوله ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم سورة المائدة وأمثال ذلك وإذا قيل الأمر هل يستلزم الإرادة أم يأمر بما لا يريد قيل هو لا يستلزم الإرادة الأولى وهي إرادة الخلق فليس كل ما أمر الله به أراد أن يخلقه وأن يجعل العبد المأمور فاعلا له والقدرية تنفى أن يريد ذلك لأنه عندهم لا يجعل أحدا فاعلا ولا

5

414

يخلق فعل أحد وأما أهل السنة فعندهم هو الذي جعل الأبرار أبرارا والمسلمين مسلمين وعندهم من أمره وجعله فاعلا للمأمور صار فاعلا له وإن لم يجعله فاعلا له لم يصر فاعلا له فأهل الإيمان والطاعة أراد منهم إيمانهم وطاعتهم أمرا وخلقا فأمرهم بذلك وأعانهم عليه وجعلهم فاعلين لذلك ولولا إعانته لهم على طاعته لما أطاعوه وأهل الكفر والمعصية أمرهم ولم يجعلهم مطيعين فلم يرد أن يخلق طاعتهم لكنه أمرهم بها وأرادها منهم إرادة شرعية دينية لكونها منفعة لهم ومصلحة إذا فعلوها ولم يرد هو أن يخلقها لما في ذلك من الحكمة وإذا كان يحبها بتقدير وجودها فقد يكون ذلك مستلزما لأمر يكرهه أو لفوات ما هو أحب إليه منه ودفعه أحب إليه من حصول ذلك المحبوب فيكون ترك هذا المحبوب لدفع المكروه أحب إليه من وجوده كما أن وجود المكروه المستلزم لوجود المحبوب يجعله مرادا لأجله إذا كان محبته له أعظم من محبته لعدم المكروه الذي هو الوسيلة وليس كل من نصحته بقولك عليك أن تعينه على الفعل الذي أمرته به فالأنبياء والصالحون دائما ينصحون الناس ويأمرونهم ويدلونهم على ما إذا فعلوه كان صلاحا لهم ولم يعاونونهم على أفعالهم وقد يكونون قادرين لكن مقتضى حكمتهم أن لا يفعلوا ذلك لأسباب متعددة

5

415

والرب تعالى على كل شيء قدير لكن ما من شيء إلا وله ضد ينافيه وله لازم لا بد منه فيمتنع وجود الضدين معا أو وجود الملزوم بدون اللازم كل من الضدين مقدور لله والله قادر على أن يخلقه لكن بشرط عدم الآخر فأما وجود الضدين معا فممتنع لذاته فلا يلزم من كونه قادرا على كل منهما وجود أحدهما مع الآخر والعباد قد لا يعلمون التنافي أو التلازم فلا يكونون عالمين بالامتناع فيظنونه ممكن الوجود مع حصول المحبوب المطلوب للرب وفرق بين العلم بالإمكان وعدم العلم بالإمتناع وإنما عندهم عدم العلم بالامتناع لا العلم بالإمكان والعدم لا فاعل له فأتوا من عدم علمهم وهو الجهل الذي هو أصل الكفر وهو سبحانه إذا اقتضت حكمته خلق شيء فلا بد من خلق لوازمه ونفي أضداده فإذا قال القائل لم لم يجعل معه الضد المنافي أو لم وجد اللازم كان لعدم علمه بالحقائق وهذا مثل أن يقول القائل هلا خلق زيدا قبل أبيه فيقال له يمتنع أن يكون ابنه ويخلق قبله أو يخلق حتى يخلق أبوه والناس تظهر لهم الحكمة في كثير من تفاصيل الأمور التي يتدبرونها كما تظهر لهم الحكمة في ملوحة ماء العين وعذوبة ماء الفم ومرارة

5

416

ماء الأذن وملوحة ماء البحر وذلك يدلهم على الحكمة فيما لم يعلموا حكمته فإن من رأى إنسانا بارعا في النحو أو الطب أو الحساب أو الفقه وعلم أنه أعلم منه بذلك إذا أشكل عليه بعض كلامه فلم يفهمه سلم ذلك إليه فرب العالمين الذي بهرت العول حكمته ورحمته الذي أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا وهو أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وأرحم بعباده من الوالدة بولدها كيف لا يجب على العبد أن يسلم ما جهله من حكمته إلى ما علمه منها وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع والمقصود هنا التنبيه على المختلفين في الكتاب الذين يرد كل منهم قول الآخر وفي كلام كل منهم حق وباطل وقد ذكرنا مثالين مثالا في الأسماء والأحكام والوعد والوعيد ومثالا في الشرع والقدر ونذكر مثالا ثالثا في القرآن فإن الأئمة والسلف اتفقوا على أن القرآن كلام الله غير مخلوق بل هو الذي تكلم به بقدرته ومشيئته لم يقل أحد منهم إنه مخلوق ولا إنه قديم وصار المختلفون بعدهم على يقولون قوم يقول هو مخلوق خلقه الله في غيره والله لا يقوم به كلام ويقولون الكلام صفة فعل لا صفة ذات ومرادهم بالفعل ما كان منفصلا عن الفاعل غير قائم به وهذا لا يعقل أصلا ولا يعرف متكلم لا يقوم به كلامه

5

417

وقوم يقولون بل هو قديم لم يزل قائما بالذات أزلا وأبدا لا يتكلم لا بقدرته ولا مشيئته ولم يزل نداؤه لموسى أزليا وكذلك قوله يا إبراهيم يا موسى يا عيسى ثم صار هؤلاء حزبين حزبا عرفوا أن ما كان قديما لم يزل يمتنع أن يكون حروفا أو حروفا وأصواتا فإن الحروف متعاقبة الباء قبل السين والصوت لا يبقى بل يكون شيئا بعد شيء كالحركة فيمتنع أن يكون الصوت الذي سمعه موسى قديما لم يزل ولا يزال فقالوا كلامه معنى واحد قائم بذاته هو الأمر بكل مأمور والنهي عن كل منهي عنه والخبر بكل ما أخبر به إن عبر عنه بالعربية كان قرآنا وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا وأن ذلك المعنى هو أمر بكل ما أمر به وهو نهي عن كل ما نهى عنه وهو خبر بكل ما أخبر به وكونه أمرا ونهيا وخبرا صفات له إضافية مثل قولنا زيد أب وعم وخال ليست أنواعا له ولا ينقسم الكلام إلى هذا وهذا قالوا والله لم يتكلم بالقرآن العربي ولا بالتوراة العبرانية ولا بالإنجيل السريانية ولا سمع موسى ولا غيره منه بأذنه صوتا ولكن القرآن العربي خلقه الله في غيره أو أحدثه جبريل أو محمد ليعبر به عما يراد إفهامه من ذلك المعنى الواحد

5

418

فقال لهم جمهور الناس هذا القول مخالف لصريح المعقول وصحيح المنقول فإنا نعلم بالإضطرار أن معنى آية الكرسي ليس هو معنى آية الدين ولا معنى قل هو الله أحد هو معنى تبت يدا أبي لهب وقد عرب الناس التوراة فوجودا فيها معاني ليست هي المعاني التي في القرآن ونحن نعلم قطعا أن المعاني التي أخبر الله بها في القرآن في قصة بدر وأحد والخندق ونحو ذلك لم ينزلها الله على موسى ابن عمران كما لم ينزل على محمد تحريم السبت ولا الأمر بقتال عباد العجل فكيف يكون كل كلام الله معنى واحدا ونحن نعلم بالاضطرار أن الكلام معانيه وحروفه تنقسم إلى خبر وإنشاء والإنشاء منه الطلب والطلب ينقسم إلى أمر ونهي وحقيقة الطلب غير حقيقة الخبر فكيف لا تكون هذه أقسام الكلام وأنواعه بل هو موصوف بها كلها وأيضا فالله تعالى يخبر أنه لما أتى موسى الشجرة ناداه فناداه في ذلك الوقت لم يناده في الأزل وكذلك قال ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم سورة الأعراف وقال إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون سورة آل عمران وقال وإذ قال ربك للملائكة سورة البقرة إلى مواضع كثيرة من

5

419

القرآن تبين أنه تكلم بالكلام المذكور في ذلك الوقت فكيف يكون أزليا أبديا ما زال ولا يزال وكيف يكون لم يزل ولا يزال قائلا يا نوح اهبط بسلام منا سورة هود يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي سورة آل عمران يا موسى إنني أنا الله لا إله إلا أنا سورة طه يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا سورة المزمل آية وقال هؤلاء هذا القرآن العربي ليس هو كلام الله وقال هؤلاء كلام الله لا يتعدد ولا يتبعض فقال لهم الناس موسى لما كلمه الله أفهمه كلامه كله أو بعضه إن قلتم كله فقد صار موسى يعلم علم الله وإن قلتم بعضه فقد تبعض وهو عندكم واحد لا يتبعض وكذلك هذا القرآن العربي هو عندكم ليس كلام الله ولكنه عبارة عنه أفهو عبارة عن كله فهذا ممتنع أم عن بعضه فهذا ممتنع أيضا إلى كلام آخر يطول ذكره هنا وقال الحزب الثاني لما رأوا فساد هذا القول بل نقول إن القرآن قديم وإنه حروف أو حروف وأصوات وإن هذا القرآن العربي كلام الله كما دل على ذلك القرآن والسنة وإجماع المسلمين وفي القرآن مواضع كثيرة تبين أن هذا المنزل هو القرآن وهو كلام الله وأنه عربي وأخذوا يشنعون على أولئك إنكارهم أن يكون هذا كلام الله فإن

5

420

أولئك أثبتوا قرآنين قرآنا قديما وقرآنا مخلوقا فأخذ هؤلاء يشنعون على أولئك بإثبات قرآنين فقال لهم أولئك فأنتم إذا جعلتم القرآن العربي وهو قديم كلام الله لزم أن يكون مخلوقا وكنتم موافقين للمعتزلة فإن قولكم إن القرآن العربي قديم ممتنع في صرائح العقول ولم يقل ذلك أحد من السلف ونحن وجميع الطوائف ننكر عليكم هذا القول ونقول إنكم ابتدعتموه وخالفتم به المعقول والمنقول وإلا فكيف تكون السين المعينة المسبوقة بالباء المعينة قديمة أزلية وتكون الحروف المتعاقبة قديمة والصوت الذي كان في هذا الوقت قديما ولم يقل هذا أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم وإن كان بعض المتأخرين من أصحاب مالك والشافعي وأحمد يقولونه ويقوله ابن سالم وأصحابه وطائفة من أهل الكلام والحديث فليس في هؤلاء أحد من السلف وإن كان الشهرستاني ذكر في نهاية الإقدام أن هذا قول السلف والحنابلة فليس هو قول السلف ولا قول أحمد بن حنبل ولا أصحابه القدماء ولا جمهورهم فصار كثير من هؤلاء الموافقين للسالمية وأولئك الموافقين للكلابية بينهم منازعات ومخاصمات بل وفتن وأصل ذلك قولهم جميعا إن

5

421

القرآن قديم وهي أيضا بدعة لم يقلها أحد من السلف وإنما السلف كانوا يقولون القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود وكان قولهم أولا إنه كلام الله كافيا عندهم فإما ما كان كلاما لمتكلم لا يجوز أن يكون منفصلا عنه فإن هذا مخالف للمعقول والمنقول في الكلام وفي جميع الصفات يمتنع أن يوصف الموصوف بصفة لا تكون قط قائمة به بل لا تكون إلا بائنة عنه وما يزعمه الجهمية والمعتزلة من أن كلامه وإرادته ومحبته وكراهته ورضاه وغضبه وغير ذلك كل ذلك مخلوقات له منفصلة عنه هو مما أنكره السلف عليهم وجمهور الخلف بل قالوا إن هذا من الكفر الذي يتضمن تكذيب الرسول وجحود ما يستحقه الله من صفاته وكلام السلف في رد هذا القول بل وإطلاق الكفر عليه كثير منتشر وكذلك لم يقل السلف إن غضبه على فرعون وقومه قديم ولا أن فرحه بتوبة التائب قديم وكذلك سائر ما وصف به نفسه من الجزاء لعباده على الطاعة والمعصية من رضاه وغضبه لم يقل أحد منهم إنه قديم فإن الخزاء لا يكون قبل العمل

5

422

والقرآن صريح بأن أعمالهم كانت سببا لذلك كقوله فلما آسفونا انتقمنا منهم سورة الزخرف وقوله ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم سورة محمد وقوله قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله سورة آل عمران وأمثال ذلك بل قد ثبت في الصحيحين من حديث الشفاعة أن كلا من الرسل يقول إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وفي الصحيحين عن زيد بن خالد قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح في إثر سماء كانت من الليل فلما انفتل من صلاته قال أتدرون ماذا قال ربكم الليلة قلنا الله ورسوله أعلم قال فإنه قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي فمن قال مطرنا بفضل الله ورحمته فهو مؤمن بي كافر بالكوكب ومن قال مطرنا بنوء كذا وكذا فهو كافر بي مؤمن بالكوكب

5

423

وفي الصحيح الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه وفي القرآن والحديث من هذا ما يطول ذكره وقد بسطنا هذا في كتاب درء تعارض العقل والنقل وغيره وقد أخبر الله تعالى في القرآن بندائه لعباده في أكثر من عشرة مواضع والنداء لا يكون إلا صوتا باتفاق أهل اللغة وسائر الناس والله أخبر أنه نادى موسى حين جاء الشجرة فقال فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين سورة النمل فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك سورة طه فلما أتاها نودي من شاطىء الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة سورة القصص وإذ نادى ربك موسى أن أئت القوم الظالمين سورة الشعراء وناديناه من جانب الطور الأيمن سورة مريم هل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى سورة النازعات وما كنت بجانب الطور إذ نادينا سورة القصص ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون سورة القصص

5

424

في موضعين ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين سورة القصص وناداهما ربهما سورة الأعراف فمن قال إنه لم يزل مناديا من الأزل إلى الأبد فقد خالف القرآن والعقل ومن قال إنه بنفسه لم يناد ولكن خلق نداء في شجرة أو غيرها لزم أن تكون الشجرة هي القائلة إني أنا الله وليس هذا كقول الناس نادى الأمير إذ أمر مناديا فإن المنادي عن الأمير يقول أمر الأمير بكذا ورسم السلطان بكذا لا يقول أنا أمرتكم ولو قال ذلك لأهانه الناس والمنادي قال لموسى إنني أنا الله لا إله إلا انا فاعبدني سورة طه إني أنا الله رب العالمين سورة القصص وهذا لا يجوز أن يقوله ملك إلا إذا بلغه عن الله كما نقرأ نحن القرآن والملك إذا أمره الله بالنداء قال كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا أحب الله عبدا نادى جبريل إني أحب فلانا فأحبه ثم ينادي جبريل في السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه فجبريل إذا

5

425

نادى في السماء قال إن الله يحب فلانا فأحبوه والله إذا نادى جبريل يقول يا جبريل إني أحب فلانا ولهذا لما نادت الملائكة زكريا قال تعالى فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى سورة آل عمران وقال وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين سورة آل عمران ولا يجوز قط لمخلوق أن يقول إني أنا الله رب العالمين ولا يقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له والله تعالى إذا خلق صفة في محل كان المحل متصفا بها فإذا خلق في محل علما أو قدرة أو حياة أو حركة أو لونا أو سمعا أو بصرا كان ذلك المحل هو العالم به القادر المتحرك الحي المتلون السميع البصير فإن الرب لا يتصف بما يخلقه في مخلوقاته وإنما يتصف بصفاته القائمة به بل كل موصوف لا يوصف إلا بما يقوم به لا بما يقوم بغيره ولم يقم به فلو كان النداء مخلوقا في الشجرة لكانت هي القائلة إني أنا الله وإذا كان ما خلقه الرب في غيره كلاما له وليس له كلام إلا ما خلقه لزم أن يكون إنطاقه لأعضاء الإنسان يوم القيامة كلاما له وتسبيح الحصى كلاما له وتسليم الحجر على الرسول كلاما له بل يلزم أن يكون كل كلام في الوجود كلامه لأنه قد ثبت أنه خالق كل شيء

5

426

وهكذا طرد قول الحلولية الإتحادية كابن عربي فإنه قال وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه ولهذا قال سليمان بن داود الهاشمي من قال إن قوله إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني سورة طه مخلوق فقوله من جنس قول فرعون الذي قال أنا ربكم الأعلى سورة النازعات فإن هذا مخلوق وهذا مخلوق يقول إن هذا يوجد أن يكون ما خلق فيه هذا القول هو القائل له كما كان فرعون هو القائل لما قام به قالوا وقولهم إن الكلام صفة فعل فيه تلبيس فيقال لهم أتريدون به أنه مفعول منفصل عن المتكلم أم تريدون به أنه قائم به فإن قلتم بالأول فهو باطل فلا يعرف قط متكلم بكلام وكلامه مستلزم كونه منفصلا عنه والفعل أيضا لابد أن لا يكون قائما بالفاعل كما قال السلف والأكثرون وإنما المفعول هو الذي يكون بائنا عنه

5

427

والمخلوق المنفصل عن الرب ليس هو خلقه إياه بل خلقه للسموات والأرض ليس هو نفس السموات والأرض والذين قالوا الخلق هو المخلوق فروا من أمور ظنوها محذورة وكان ما فروا إليه شرا مما فروا منه فإنهم قالوا لو كان الخلق غير المخلوق لكان إما قديما وإما حادثا فإن كان قديما لزم قدم المخلوق وإن كان حادثا فلا بد له من خلق آخر فيلزم التسلسل فقال لهم الناس بل هذا منقوض على أصلكم فإنكم تقولون إنه يريد بإرادة قديمة والمرادات كلها حادثة فإن كان هذا جائزا فلماذا لا يجوز أن يكون الخلق قديما والمخلوق حادثا وإن كان هذا غير جائز بل الإرادة تقارن المراد لزم جواز قيام الحوادث به وحينئذ فيجوز أن يقوم به خلق مقارن للمخلوق فلزم فساد قولكم على التقديرين وكذلك إذا قيل إن الخلق حادث فلم قلتم إنه محتاج إلى خلق آخر فإنكم تقولون المخلوقات كلها حادثة ولا تحتاج إلى خلق حادث فلم لا يجوز أن تكون مخلوقة بخلق حادث وهو لا يحتاج إلى خلق آخر ومعلوم أن حدوثها بخلق حادث أقرب إلى العقول من حدوثها كلها بلا خلق أصلا فإن كان كل حادث يفتقر إلى خلق بطل قولكم وإن

5

428

كان فيها مالا يفتقر إلى خلق جاز أن يكون الخلق نفسه لا يفتقر إلى خلق آخر وهذه المواضع مبسوطة في غير هذا الموضع والمقصود التمثيل بكلام المختلفين في الكتاب الذين في قول كل واحد منهم حق وباطل وأن الصواب ما دل عليه الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان والناس لهم في طلب العلم والدين طريقان مبتدعان وطريق شرعي فالطريق الشرعي هو النظر فيما جاء به الرسول والإستدلال بأدلته والعمل بموجبها فلا بد من علم بما جاء به وعمل به لا يكفي أحدهما وهذا الطريق متضمن للأدلة العقلية والبراهين اليقينية فإن الرسول بين بالبراهين العقلية ما يتوقف السمع عليه والرسل بينوا للناس العقليات التي يحتاجون إليها كما ضرب الله في القرآن من كل مثل وهذا هو الصراط المستقيم الذي أمر الله عباده أن يسألوه هدايته وأما الطريقان المبتدعان فأحدهما طريق أهل الكلام البدعي والرأي البدعي فإن هذا فيه باطل كثير وكثير من أهله يفرطون فيما أمر الله به ورسوله من الأعمال فيبقى هؤلاء في فساد علم وفساد عمل وهؤلاء منحرفون إلى اليهودية الباطلة والثاني طريق أهل الرياضة والتصوف والعبادة البدعية وهؤلاء

5

429

منحرفون إلى النصرانية الباطلة فإن هؤلاء يقولون إذا صفى الإنسان نفسه على الوجه الذي يذكرونه فاضت عليه العلوم بلا تعلم وكثير من هؤلاء تكون عبادته مبتدعة بل مخالفة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فيبقون في فساد من جهة العمل وفساد من نقص العلم حيث لم يعرفوا ما جاء به الرسول وكثير ما يقع من هؤلاء وهؤلاء وتقدح كل طائفة في الأخرى وينتحل كل منهم اتباع الرسول والرسول ليس ما جاء به موافقا لما قال هؤلاء ولا هؤلاء ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين سورة آل عمران وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه على طريقة أهل البدع من أهل الكلام والرأي ولا على طريقة أهل البدع من أهل العبادة والتصوف بل كان على ما بعثه الله من الكتاب والحكمة وكثير من أهل النظر يزعمون أنه بمجرد النظر يحصل العلم بلا عبادة ولا دين ولا تزكية للنفس وكثير من أهل الإرادة يزعمون أن طريق الرياضة بمجرده تحصل المعارف بلا تعلم ولا نظر ولا تدبر للقرآن والحديث

5

430

وكلا الفريقين غالط بل لتزكية النفس والعمل بالعلم وتقوى الله تأثير عظيم في حصول العلم لكن مجرد العمل لا يفيد ذلك إلا بنظر وتدبر وفهم لما بعث الله به الرسول ولو تعبد الإنسان ما عسى أن يتعبد لم يعرف ما خص الله به محمدا صلى الله عليه وسلم إن لم يعرف ذلك من جهته وكذلك لو نظر واستدل ماذا عسى أن ينظر لم يحصل له المطلوب إلا بالتعلم من جهته ولا يحصل التعلم المطابق النافع إلا مع العمل به وإلا فقد قال الله تعالى فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم سورة الصف وقال وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة سورة الآنعام وقال تعالى وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم سورة النساء وقال تعالى كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون سورة المطففين وقال أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون سورة الأعراف وقال ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا وإذا لأتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما سورة النساء

5

431

وقال قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم سورة المائدة وقال هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين سورة آل عمران وقال ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين سورة البقرة وكذلك لو جاع وسهر وخلا وصمت وفعل ماذا عسى أن يفعل لا يكون مهتديا إن لم يتعبد بالعبادات الشرعية وإن لم يتلق علم الغيب من جهة الرسول قال تعالى لأفضل الخلق الذي كان أزكى الناس نفسا وأكملهم عقلا قبل الوحي وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا سورة الشورى وقال قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحى إلي ربي إنه سميع قريب سورة سبأ وقال فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى سورة طه وقال تعالى ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيظ له شيطانا فهو له

5

432

قرين سورة الزخرف أي عن الذكر الذي أنزلته قال المفسرون يعش عنه فلا يلتفت إلى كلامه ولا يخاف عقابه ومنه قوله وهذا ذكر مبارك أنزلناه سورة الأنبياء وقوله ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث سورة الأنبياء وشاهده في الآية الأخرى ومن أعرض عن ذكري سورة طه ثم قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى سورة طه فكل من عشا عن القرآن فإنه يقيض له شيطان يضله ولو تعبد بما تعبد ويعش روى عن ابن عباس يعمى وكذلك قال عطاء وابن زيد ابن أسلم وكذلك أبو عبيدة قال تظلم عينه واختاره ابن قتيبة ورجحه على قول من قال يعرض والعشا ضعف في البصر ولهذا قيل فيه يعش وقالت طائفة يعرض وهو رواية الضحاك عن ابن عباس وقاله قتادة واختاره الفراء والزجاج وهذا صحيح من جهة المعنى فإن قوله يعش ضمن معنى يعرض ولهذا عدى بحرف الجار عن كما يقال أنت أعمى عن محاسن فلان إذا أعرضت فلم تنظر إليها فقوله يعش أي يكن أعشى عنها وهو دون العمى فلم ينظر إليها إلا نظرا ضعيفا

5

433

وهذا حال أهل الضلال الذين لم ينتفعوا بالقرآن فإنهم لا ينظرون فيه كما ينظرون في كلام سلفهم لأنهم يحسبون أنه لا يحصل المقصود وهم الذين عشوا عنه فقيضت لهم الشياطين تقترن بهم وتصدهم عن السبيل وهم يحسبون أنهم مهتدون ولهذا لا تجد في كلام من لم يتبع الكتاب والسنة بيان الحق علما وعملا أبدا لكثرة ما في كلامه من وساوس الشياطين وحدثني غير مرة رجل وكان من أهل الفضل والذكاء والمعرفة والدين أنه كان قد قرأ على شخص سماه لي وهو من أكابر أهل الكلام والنظر دروسا من المحصل لابن الخطيب وأشياء من إشارات ابن سينا قال فرأيت حالي قد تغير وكان له نور وهدى ورؤيت له منامات سيئة فرآه صاحب النسخة بحال سيئة فقص عليه الرؤيا فقال هي من كتابك وإشارات ابن سينا يعرف جمهور المسلمين الذين يعرفون دين الإسلام أن فيها إلحادا كثيرا بخلاف المحصل يظن كثير من الناس أن فيه بحوثا تحصل المقصود قال فبكيت عليه محصل في أصول الدين حاصله من بعد تحصيله أصل بلا دين أصل الضلالات والشك المبين فما فيه فأكثره وحي الشياطين قلت وقد سئلت أن أكتب على المحصل ما يعرف به الحق فيما

5

434

ذكره فكتبت من ذلك ما ليس هذا موضعه وكذلك تكلمت على ما في الإشارات في مواضع أخر والمقصود هنا التنبيه على الجمل فما في المحصل وسائر كتب الكلام المختلف أهله كتب الرازي وأمثاله من الكلابية ومن حذا حذوهم وكتب المعتزلة والشيعة والفلاسفة ونحو هؤلاء لا يوجد فيها ما بعث الله به رسله في أصول الدين بل يوجد فيها حق ملبوس بباطل ويكفيك نفس مسألة خلق الرب مخلوقاته لا تجد فيها إلا قول القدرية والجهمية والدهرية إما العلة التي تثبتها الفلاسفة الدهرية أو القادر الذي تثبته المعتزلة والجهمية ثم إن كان من الكلابية أثبت تلك الإرادة الكلابية ومن عرف حقائق هذه الأقوال تبين له أنها مع مخالفتها للكتاب والسنة وإجماع السلف مخالفة لصرائح العقول وكذلك قولهم في النبوات فالمتفلسفة تثبت النبوة على أصلهم

5

435

الفاسد أنها قوة قدسية تختص بها بعض النفوس لكونها أقوى نيلا للعلم وأقوى تأثيرا في العالم وأقوى تخيلا لما تعقله في صور متخيلة وأصواب متخيلة وهذه الثلاثة هي عندهم خاصة النبي ومن اتصف بها فهو نبي القوة القدسية العلمية والتأثير في الهيولي وما يتخيله في نفسه من أصوات هي كلام الله ومن صور هي عندهم ملائكة الله ومعلوم عند من اعتبر العالم أن هذا القدر يوجد بكثير من آحاد الناس وأكثر الناس لهم نصيب من هذه الثلاثة ولهذا طمع كثير من هؤلاء في أن يصير نبيا ولهذا قال هؤلاء إن النبوة مكتسبة وإنما قالوا هنا لأنهم لم يثبتوا الله علما بالجزئيات ولا قدرة ولا كلاما يتكلم به تنزل به ملائكته ثم إن الجهمية والمعتزلة يردون عليهم تارة ردا مقاربا وتارة ردا ضعيفا لكونهم جعلوا صانع العالم يرجح أحد المتماثلين بلا مرجح وجعلوا القادر المختار يرجح بل مرجح وزعم أكثرهم أنه مع وجود القدرة والداعي التام لا يجب وجود الفعل ففزعوا من الموجب بالذات ولفظ الموجب بالذات مجمل فالذي ادعته المتفلسفة باطل

5

436

فإنهم أثبتوا موجبا بذات مجردة عن الصفات يستلزم مفعولاته حتى لا يتأخر عنه شيء وأثبتوا له من الوحدة ما يضمنونه نفي صفاته وأفعاله القائمة به وقالوا الواحد لا يصدر عنه إلا واحد والواحد الذي ادعوه لا حقيقة له إلا في الأذهان لا في الأعيان والكلام على مذاهبهم وابطالها مبسوط في موضع آخر وقد بينا أنهم أكثر الناس تناقضا واضطرابا وأن دعواهم أنه علة موجبة للمعلول أزلا وأبدا فاسدة من وجوه كثيرة وأما إذا قيل هو موجب بالذات بمعنى أنه يوجب بمشيئته وقدرته ما يريد أن يفعله فهذا هو الفاعل بقدرته ومشيئته فتسمية المسمى له موجبا بذاته نزاع لفظي وأكثر الجهمية والقدرية لا يقولون إنه بقدرته ومشيئته يلزم وجود مقدوروه بل قد يحصل وقد لا يحصل فيرجح إن حصل بلا مرجح وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر والمقصود هنا أن الجهمية تثبت نبوة لا تستلزم فصل صاحبها ولا كماله ولا اختصاصه قط بشيء من صفات الكمال بل يجوز أن يجعل من هو من أجهل الناس نبيا ثم الجهمية المحضة عندهم يخلق الله كلاما في غيره فينزل به الملك وأما الكلابية فعندهم النبوة تعلق المعنى القائم بالذات بالنبي بمعنى أنت عبدي ورسولي فيقولون في النبوة من جنس ما قالوه في

5

437

أحكام أفعال العباد إنه ليس للحكم معنى إلا تعلق المعنى القائم بالذات به والمعنى القائم بالذات المتعلق به لا يثبتون في الإيمان والتقوى والأعمال الصالحة خاصة تميزت به عن السيئات حتى أمر بها لأجلها وكذلك في النبوة والمعتزلة ومن وافقهم يثبتون لله شريعة بالقياس على عبادة فيوجبون عليه من جنس ما يجب عليهم ويحرمون عليه من جنس ما يحرم عليهم ولا يجعلون أمره ونهيه وحبه وبغضه ورضاه وسخطه له ثأثير في الأعمال بل صفاتها ثابتة بدون الخطاب والخطاب مجرد كاشف بمنزلة الذي يخبر عن الشمس والقمر والكواكب بما هي متصفة به والله سبحانه قد أخبر أنه يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس والإصطفاء افتعال من التصفية كما أن الإختيار افتعال من الخيرة فيختار من يكون مصطفى وقد قال الله أعلم حيث يجعل رسالته سورة الأنعام فهو أعلم بمن يجعله رسولا ممن لم يجعله رسولا ولو كان كل الناس يصلح للرسالة لامتنع هذا وهو عالم بتعيين الرسول وأنه أحق من غيره بالرسالة كما دل القرآن على ذلك وقد قالت خديجة رضي الله عنها لما فجأ الوحي النبي

5

438

صلى الله عليه وسلم وخاف من ذلك فقالت له كلا والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق وكانت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها أعقل وأعلم من الجهمية حيث رأت أن من جعله الله على هذه الأخلاق الشريفة المتضمنة لعدله وإحسانه لا يخزيه الله فإن حكمة الرب تأبى ذلك وهؤلاء عندهم هذا لا يعلم بل قد يخزي من يكون كذلك وقد ينبأ شر الناس كأبي جهل وغيره ولهذا أنكر المازري وغيره على خديجة كما أنكروا على هرقل استدلاله بما استدل به في حديث أبي سفيان المشهور لما سأل عن صفات النبي صلى الله عليه وسلم

5

439

والله سبحانه إذا اتخذ رسولا فضله بصفات أخرى لم تكون موجودة فيه قبل إرساله كما كان يظهر لكل من رأى موسى وعيسى ومحمد من أحوالهم وصفاتهم بعد النبوة وتلك الصفات غير الوحي الذي ينزل عليهم فلا يقال إن النبوة مجرد صفة إضافية كأحكام الأفعال كما تقوله الجهمية ولهذا لما صار كثير من أهل النظر كالرازي وأمثاله ليس عندهم إلا قول الجهمية والقدرية والفلاسفة تجدهم في تفسير القرآن وفي سائر كتبهم يذكرون أقوالا كثيرة متعددة كلها باطلة لا يذكرون الحق مثل تفسيره للهلال وقد قال تعالى يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج سورة البقرة فذكر قول أهل الحساب فيه وجعله من أقوال الفلاسفة وذكر قول الجهمية الذين يقولون إن القادر المختار يحدث فيه الضوء بلا سبب أصلا ولا لحكمة وكذلك إذا تكلم في المطر يذكر قول أولئك الذين يجعلونه حاصلا عن مجرد البخار المتصاعد والمنعقد في الجو وقول من يقول إنه أحدثه الفاعل المختار بلا سبب ويذكر قول من يقول إنه نزل من

5

440

الأفلاك وقد يرجح هذا القول في تفسيره ويجزم بفساده في موضع آخر وهذا القول لم يقله أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا أئمة المسلمين بل سائر أهل العلم من المسلمين من السلف والخلف يقولون إن المطر نزل من السحاب ولفظ السماء في اللغة والقرآن اسم لكل ما علا فهو اسم جنس للعالي لا يتعين في شيء إلا بما يضاف إلى ذلك وقد قال فليمدد بسبب إلى السماء سورة الحج وقال أنزل الله من السماء ماء سورة الأنعام وقال أمتم من في السماء سورة تبارك والمراد بالجميع العلو ثم يتعين هنا بالسقف ونحوه وهنا بالسحاب وهناك بما فوق العالم كله فقوله أنزل من السماء ماء سورة الأنعام أي من العلو مع قطع النظر عن جسم معين لكن قد صرح في موضع آخر بنزوله من السحاب كما قي قوله أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون سورة الواقعة والمزن السحاب

5

441

وقوله ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله سورة النور والودق المطر وقال تعالى الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله سورة الروم فأخبر سبحانه أنه يبسط السحاب في السماء وهذا مما يبين أنه لم يرد بالسماء هنا الأفلاك فإن السحاب لا يبسط في الأفلاك بل الناس يشاهدون السحاب يبسط في الجو وقد يكون الرجل في موضع عال إما على جبل أو على غيره والسحاب يبسط أسفل منه وينزل منه المطر والشمس فوقه والرازي لا يثبت على قول واحد بل هو دائما ينصر هنا قولا وهناك ما يناقضه لأسباب تقتضي ذلك وكثير من الناس يفهمون من القرآن ما لا يدل عليه وهو معنى فاسد ويجعلون ذلك يعارض العقل وقد بينا في مصنف مفرد درء تعارض العقل والنقل وذكرنا فيه عامة ما يذكرون من العقليات في معارضة الكتاب والسنة وبينا أن التعارض لا يقع إلا إذا كان ما سمى معقولا فاسدا وهذا هو الغالب على كلام أهل البدع أو أن يكون ما أضيف

5

442

إلى الشرع ليس منه إما حديث موضوع وإما فهم فاسد من نص لا يدل عليه وإما نقل إجماع باطل ومن هذا كثير من الناس ذم الأحكام النجومية ولا ريب أنها مذمومة بالشرع مع العقل وأن الخطأ فيها أضعاف الصواب وأن من اعتمد عليها في تصرفاته وأعرض عما أمر الله به ورسوله خسر الدنيا والآخرة لكن قد يردونها على طريقة الجهمية ونحوهم بأن يدعوا أنه لا أثر لشيء من العلويات في السفليات أصلا إما على طريقة الجهمية لكن تلك لا تنفي العادات الإقترانية وإن لم تثبت سببا ومسببا وحكمة وإما بناء على نفي العادة في ذلك ثم قد ينازعون في استدارة الأفلاك ويدعون شكلا آخر وقد بينا في جواب المسائل التي سئلت عنها في ذلك أن الأفلاك مستديرة عند علماء المسلمين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان كما ثبت ذلك عنهم بالأسانيد المذكورة في موضعها بل قد نقل إجماع المسلمين على ذلك غير واحد من علماء المسلمين الذين هم من أخبر الناس بالمنقولات كأبي الحسين بن المنادى أحد أكابر الطبقة الثانية من

5

443

أصحاب الإمام أحمد وله نحو أربعمائة مصنف وأبي محمد بن حزم الأندلسي وأبي الفرج بن الجوزي وقد دل ذلك على الكتاب والسنة كما قد بسط في الإحاطة وغيرها وكذلك المطر معروف عند السلف والخلف بأن الله تعالى يخلقه من الهواء ومن البخار المتصاعد لكن خلقه للمطر من هذا كخلق الإنسان من نطفة وخلقه للشجر والزرع من الحب والنوى فهذا معرفة بالمادة التي خلق منها ونفس المادة لا توجب ما خلق منها باتفاق العقلاء بل لا بد مما به يخلق تلك الصورة على ذلك الوجه وهذا هو الدليل على القادر المختار الحكيم الذي يخلق المطر على قدر معلوم وقت الحاجة إليه والبلد الجرز يسوق إليه الماء من حيث أمطر كما قال أو

5

444

لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجزر فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون سورة السجدة فالأرض الجرز لا تمطر ما يكفيها كأرض مصر لو أمطرت المطر المعتاد لم يكفها فإنها أرض إبليز وإن أمطرت كثيرا مثل مطر شهر خربت المساكن فكان من حكمة الباري ورحمته أن أمطر مطرا أرضا بعيدة ثم ساق ذلك الماء إلى أرض مصر فهذه الآيات يستدل بها على علم الخالق وقدرته ومشيئته وحكمته وإثبات المادة التي خلق منها المطر والشجر والإنسان والحيوان مما يدل على حكمته ونحن لا نعرف شيئا قط خلق إلا من مادة ولا أخبر الله في كتابه بمخلوق إلا من مادة وكذلك كون كسوف الشمس وغيره سببا لبعض الحوادث هو مما دلت عليه النصوص الصحيحة ففي الصحاح من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا

5

445

لحياته ولكنهما آيتان من آيات الله عز وجل يخوف الله بهما عباده فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة وقد ثبت عنه في الصحاح أنه صلى صلاة الكسوف بركوع زائد في كل ركعة وأنه طولها تطويلا لم يطوله في شيء من صلوات الجماعات وأمر عند الكسوف بالصلاة والذكر والدعاء والعتاقة والصدقة والإستغفار وقوله يخوف الله بهما عباده كقوله تعالى وما نرسل بالآيات إلا تخويفا سورة الإسراء ولهذا كانت الصلوات مشروعة عند الآيات عموما مثل تناثر الكواكب والزلزلة وغير ذلك والتخويف إنما يكون بما هو سبب للشر المخوف كالزلزلة والريح العاصف وإلا فما وجوده كعدمه لا يحصل به تخويف فعلم أن الكسوف سبب للشر ثم قد يكون عنه شر ثم القول فيه كالقول في سائر الأسباب هل هو سبب كما عليه جمهور الأمة أو هو مجرد اقتران عادة كما يقوله الجهمية وهو صلى الله عليه وسلم أخبر عند أسباب الشر بما يدفعها من

5

446

العبادات التي تقوي ما انعقد سببه من الخير وتدفع أو تضعف ما انعقد سببه من الشر كما قال إن الدعاء والبلاء ليلتقيان فيعتلجان بين السماء والأرض والفلاسفة تعترف بهذا لكن هل ذلك بناء على أن الله يدفع ذلك بقدرته وحكمته أو بناء على أن القوى النفسانية تؤثر هذا مبني على أصولهم في هذا الباب ويحكى عن بطليموس أنه قال ضجيج الأصوات في هياكل العبادات بفنون اللغات تحلل ما عقدته الأفلاك الدائرات وعن

5

447

أبقراط أنه قال واعلم أن طبنا بالنسبة إلى طب أرباب الهياكل كطب العجائز بالنسبة إلى طبنا فالقوم كانوا معترفين بما وراء القوى الطبيعية والفلكية وليس ذلك مجرد القوى النفسانية كما يقوله ابن سينا وطائفة بل ملائكة ملء العالم العلوي والسفلي والجن أيضا لا يحصى عددهم إلا الله والله قد وكل الملائكة بتدبير هذا العالم بمشيئته وقدرته كما دلت على ذلك الدلائل الكثيرة من الكتاب والسنة وكما يستدل على ذلك أيضا بأدلة عقلية والملائكة أحياء ناطقون ليسوا أعراضا قائمة بغيرها كما يزعمه كثير من المتفلسفة ولا هي مجرد العقول العشرة والنفوس التسعة بل هذه باطلة بأدلة كثيرة

5

448

وما يثبتونه من المجردات المفارقات لا يحصل معهم منه غير النفس الناطقة فإنها تفارق بدنها وما سوى ذلك فلا يثبت معهم على طريقهم إلا المجردات المعقولة في الأذهان وهي الكليات المعقولة ولكنهم يظنون ثبوت ذلك في الخارج كما يظن شيعة أفلاطون ثبوت المثل الأفلاطونية في الخارج فتثبت كليات قديمة أزلية أبدية مفارقة كإنسان كلي وهذا هو غلطهم حيث ظنوا ما هو في الأذهان موجودا في الأعيان وكذلك ما يثبتونه من الجواهر العقلية وهي أربعة العقل والنفس والمادة والصورة وطائفة منهم كشيعة أفلاطون تثبت جوهرا عقليا هو الدهر وجوهرا عقليا هو الخير وتثبت جوهرا عقليا هو المادة الأولى المعارضة للصورة وكل هذه العقليات التي يثبتونها إذا حققت غاية التحقيق تبين أنها أمور معقولة في النفس فيتصورها في نفسه فهي معقولات في قلبه وهي مجردة عن جزئياتها الموجودة في الخارج فإن العقل دائما ينتزع من الأعيان المعينة المشهودة كليات مشتركة عقلية كما يتصور زيدا وعمرا وبكرا ثم يتصور إنسانا مشتركا كليا ينطبق على زيد وعمر وبكر

5

449

ولكن هذا المشترك إنما هو في قلبه وذهنه يعقله بقلبه ليس في الخارج إنسان مشترك كلي يشترك فيه هذا وهذا بل كل إنسان يختص بذاته وصفاته لا يشاركه غيره في شيء مما قام به قط وإذا قيل الإنسانية مشتركة أو الحيوانية فالمراد أن في هذا حيوانية وإنسانية تشابه ما في هذا من الحيوانية والإنسانية ويشتركان في مسمى الإنسانية والحيوانية وذلك المسمى إذا أخذ مشتركا كليا لم يكن إلا في الذهن وهو تارة يوجد مطلقا بشرط الإطلاق فلا يكون إلا في الذهن عند عامة العقلاء إلا من أثبت المثل الأفلاطونية في الخارج وتارة يوجد مطلقا لا بشرط الإطلاق بحيث يتناول المعينات وهذا قد يقال إنه موجود في الخارج وهو موجود في الخارج معينا مقيدا مخصوصا فيقال هذا الإنسان وهذا الحيوان وهذا الفرس وأما وجوده في الخارج مع كونه مشتركا في الخارج فهذا باطل ولهذا كان من المعروف عندهم أن الكليات ثابتة في الأذهان لا في الأعيان ومن قال إن الكلي الطبيعي موجود في الخارج فمعناه الصحيح أن ما هو كلي إذا كان في الذهن يوجد في الخارج لكن لا يوجد في الخارج كليا وهذا كما يقال ما يتصوره الذهن قد يوجد في

5

450

الخارج وقد لا يوجد ولا يراد بذلك أن نفس الصورة الذهنية تكون بعينها في الخارج ولكن يراد به أن ما يتصور في الذهن قد يوجد في الخارج كما يوجد أمثاله في الخارج كما يتصور الإنسان دارا يبنيها وعملا يعمله ويقول الرجل لغيره جئت بما كان في نفسي وفعلت هذا كما كان في نفسي وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه زورت في نفسي مقالة فجاء أبو بكر في بديهته بأحسن منها وهذا كله معروف عند الناس فإن الشيء له وجود في نفسه وله مثال مطابق له في العلم ولفظ يدل على ذلك المثال العلمي وخط يطابق ذلك اللفظ ويقال له وجود في الأعيان ووجود في الأذهان ووجود في اللسان ووجود في البنان ووجود عيني وعلمي ولفظي ورسمي كالشمس الموجودة والكعبة الموجودة ثم إذا رأى الإنسان الشمس يمثلها في نفسه ثم يقول بلسانه شمس وكعبة ثم يكتب بخطه شمس وكعبة فإذا كتب وقيل هذه الشمس التي في السماء وهذه الكعبة التي يصلي إليها المسلمون لم يرد بذلك أن الخط هو الشمس والكعبة ولكن المعنى معروف كما إذا قال يا زيد فالمنادي لا ينادي الصوت وإذا قال ضربت

5

451

زيدا لم يرد أنه ضرب الحروف لكن قد عرف أنه إذا أطلق الأسماء المراد مسمياتها التي جعلت الأسماء دالة عليها وإذا كتبت الأسماء فالمراد بالخط ما يراد باللفظ فإذا قيل لما في الورقة هذه الكعبة من الحجاز فالمراد المسمى بالإسم اللفظي الذي طابقه الخط ومثل هذا كثير يعرفه كل أحد فإذا قيل لما في النفس ليس بعينه هو الموجود في الخارج فهو بهذا الإعتبار أي ما تصورته في النفس موجود في الخارج لكن يطابقه مطابقة المعلوم للعلم فإذا قيل الكلي الطبيعي في الخارج فهو بهذا الإعتبار أي يوجد في الخارج ما يطابقه الكلي الطبيعي فإنه المطلق لا بشرط فيطابق المعينات بخلاف المطلق بشرط الإطلاق فإن هذا لا يطابق المعينات وأما أن يقال إن في الخارج أمرا كليا مشتركا فيه بعينه هو في هذا المعين وهذا المعين فهذا باطل قطعا وإن كان قد قاله طائفة وأثبتوا ماهيات مجردة في الخارج عن المعينات وقالوا إن تلك الماهية غشيتها غواش غريبة وإن أسباب الماهية غير أسباب الوجود وهذا قد بسط الكلام عليه في الكلام على المنطق وعلى الإشارات وغير ذلك وبين أن الذي لا ريب فيه أن ما يتصور في الأذهان ليس هو الموجود في

5

452

الأعيان فمن عني بالماهية ما في الذهن وبالوجود ما في الخارج فهو مصيب في قوله الوجود مغاير للماهية وأما إذا عني بالماهية ما في الخارج وبالوجود ما في الخارج وبالماهية ما في الذهن وبالوجود ما في الذهن وإدعى أن في الذهن شيئين وأن في الخارج شيئين وجود وماهية فهذا يتخيل خيالا لا حقيقه له وبهذا التفصيل يزول الإشتباه الحاصل في هذا الموضع ولفظ الماهية مأخود من قول السائل ما هو وما هو سؤال عما يتصوره المسؤل ليجيب عنه وتلك هي الماهية للشيء في نفسه والمعنى المدلول عليه باللفظ لا بد أن يكون مطابقا للفظ فتكون دلالة اللفظ عليه بالمطابقة ودلالة اللفظ على بعض ذلك المعنى بالتضمن ودلالته على لازم ذلك المعنى بالإلتزام وليست دلالة المطابقة دلالة اللفظ على ما وضع له كما يظنه بعض الناس ولا دلالة التضمن استعمال اللفظ في جزء معناه ولا دلالة الإلتزام استعمال اللفظ في لازم معناه بل يجب الفرق بين ما وضع له اللفظ وبين ما عناه المتكلم باللفظ وبين ما يحمل المستمع عليه اللفظ فالمتكلم إذا استعمل اللفظ في

5

453

معنى فذلك المعنى هو الذي عناه باللفظ وسمي معنى لأنه عني به أي قصد وأريد بذلك فهو مراد المتكلم ومقصوده بلفظه ثم قد يكون اللفظ مستعملا فيما وضع له وهو الحقيقة وقد يكون مستعملا في غير ما وضع له وهو المجاز وقد يكون المجاز من باب استعمال لفظ الجميع في البعض ومن باب استعمال الملزوم في اللازم وقد يكون في غير ذلك وذلك كله دلالة اللفظ على مجموع المعنى وهي دلالة المطابقة سواء كانت الدلالة حقيقة أو مجازية أو غير ذلك ثم ذلك المعنى المدلول عليه اللفظ إذا كان له جزء فدلالة اللفظ عليه تضمن لأن اللفظ تضمن ذلك الجزء ودلالته على لازم ذلك المعنى هي دلالة الملزوم وكل لفظ استعمل في معنى فدلالته عليه مطابقة لأن اللفظ طابق المعنى بأي لغة كان سواء سمي ذلك حقيقة أو مجازا فالماهية التي يعنيها المتكلم بلفظه دلالة لفظه عليها دلالة مطابقة ودلالته على ما دخل فيها دلالة تضمن ودلالته على ما يلزمها وهو خارج عنها دلالة الإلتزام

5

454

فإذا قيل الصفات الذاتية الداخلة في الماهية والخارجة عن الماهية وعني بالداخل ما دل عليه اللفظ بالتضمن وبالخارج ما دل عليه بالالتزام فهذا صحيح وهذا الدخول والخروج هو بحسب ما تصوره المتكلم فمن تصور حيوانا ناطقا فقال إنسان كانت دلالته على المجموع مطابقة وعلى أحدهما تضمن وعلى اللازم مثل كونه ضاحكا التزام وإذا تصور إنسانا ضاحكا كانت دلالة إنسان على المجموع مطابقة وعلى أحدهما تضمن وعلى اللازم مثل كونه ناطقا التزام وأما أن تكون الصفات اللازمة للموصوف في الخارج بعضها داخل في حقيقته وماهيته وبعضها خارج عن حقيقته وماهيته والداخل هو الذاتي والخارج ينقسم إلى لازم للماهية والوجود وإلى لازم للوجود دون الماهية فهذا كله مما قد بسط الكلام عليه في مواضع وبينا ما في المنطق اليوناني من الأغاليط التي بعضها من معلمهم الأول وبعضها من تغيير المتأخرين وتكلمنا على ما ذكره أئمتهم في ذلك واحدا واحدا كابن سينا

5

455

وأبي البركات وغيرهما وأنه يوجد من كلامهم أنفسهم ومن رد بعضهم على بعض ما يبين أن ما ذكروه من تقسيم الصفات اللازمة للموصوف إلى هذه الأقسام الثلاثة تقسيم باطل إلا إذا جعل ذلك باعتبار ما في الذهن من الماهية لا باعتبار ماهية موجودة في الخارج وكذلك ما فرعوه على هذا من أن الإنسان مركب من الجنس والفصل فإن هذا التركيب ذهني لا حقيقة له في الخارج وتركبه من الحيوان والناطق من جنس تركبه من الحيوان والضاحك إذا جعل كل من الصفتين لازما ملزوما وأريد الضاحك بالقوة والناطق بالقوة وأما إذا قيل في الخارج الإنسان مركب من هذا وهذا فإن أريد به أن الإنسان موصوف بهذا وهذا فهذا صحيح وكذلك إذا فرق بين الصفات اللازمة للإنسان التي لا يكون إنسانا إلا بها كالحيوانية والناطقية والضاحكية وبين ما يعرض لبعض الناس كالسواد والبياض والعربية والعجمية فهذا صحيح أما إذا قيل هو مركب من صفاته اللازمة له وهي أجزاء له وهي

5

456

متقدمة عليه تقدما ذاتيا فإن الجزء قبل الكل والمفرد قبل المركب وأريد بذلك التركيب في الخارج فهذا كله تخليط فإن الصفة تابعة للموصوف فكيف تكون متقدمة عليه بوجه من الوجوه وإذا قيل هو مركب من الحيوانية والناطقية أو من الحيوان والناطق فإن أريد أنه مركب من جوهرين قائمين بأنفسهما لزم أن يكون في كل موصوف جواهر كثيرة بعدد صفاته فيكون في الإنسان جوهر هو جسم وجوهر هو حساس وجوهر هو نام وجوهر هو متحرك بالإرادة وجوهر هو ناطق ومعلوم أن هذا خطأ بل الإنسان جوهر قائم بنفسه موصوف بهذه الصفات فيقال جسم حساس نام متحرك بالإرادة ناطق وإن أريد به أنه مركب من عرضين فالإنسان جوهر والجوهر لا يتركب من أعراض لاحقة له فضلا عن أن تكون سابقة له متقدمة عليه وهذا كله قد بسطناه في مواضع وإنما كان المقصود هنا أن هؤلاء الفلاسفة كثيرا ما يغلطون في جعل الأمور الذهنية المعقولة في النفس فيجعلون ذلك بعينه أمورا موجودة في الخارج فأصحاب فيثاغورس القائلون بالأعداد المجردة في الخارج من هنا كان غلطهم وأصحاب

5

457

أفلاطون الذي أثبتوا المثل الأفلاطونية من هنا كان غلطهم وأصحاب صاحبه أرسطو الذين أثبتوا جواهر معقولة مجردة في الخارج مقارنة للجواهر الموجودة المحسوسة كالمادة والصورة والماهية الزائدة على الوجود في الخارج من هنا كان غلطهم وهم إذا أثبتوا هذه الماهية قيل لهم أهي في الذهن أم في الخارج ففي أيهما أثبتوها ظهر غلطهم وإذا قالوا نثبتها مطلقة مع قطع النظر

5

458

عن هذا وهذا أو أعم من هذا وهذا قيل عدم نظر الناظر لا يغير الحقائق عما هي عليه في نفس الأمر إما في الذهن وإما في الخارج وما كان أعم منها فهو أيضا في الذهن فإنك إذا قدرت ماهية لا في الذهن ولا في الخارج لم تكن مقدرا إلا في الذهن ومعنى ذلك أن هذا التقدير في الذهن لا أن الماهية التي قيل عنها ليست في الذهن هي في الذهن بل الماهية التي تصورها الإنسان في ذهنه يمكنه تقديرها ليست في ذهنه مع أن تقديرها ليست في ذهنه هو في ذهنه وإن كان تقديرا ممتنعا بل يجب الفرق بين الماهية المقيدة بكونها في الذهن وبين الماهية المطلقة التي لا تتقدر بذهن ولا خارج مع العلم بأن هذه الماهية المطلقة لا تكون أيضا إلا في الذهن وإن أعرض الذهن عن كونها في الذهن فكونها في الذهن شيء والعلم بكونها في الذهن شيء آخر وهؤلاء يتصورون أشياء ويقدرونها وذلك لا يكون إلا في الذهن لكن حال ما يتصور الإنسان شيئا في ذهنه ويقدره قد لا يشعر بكونه في الذهن كمن رأى الشيء في الخارج فاشتغل بالمرئي عن كونه رائيا له وهذا يشبه ما يسميه بعضهم الفناء الذي يفنى بمذكوره عن ذكره

5

459

وبمحبوبه عن محبته وبمعبوده عن عبادته ونحو ذلك كما يقدر الشيء بخلاف ما هو عليه كما إذا قدر أن الجبل من ياقوت والبحر من زئبق فتقدير الأمور على خلاف ما هي عليه هو تقدير اعتقادات باطلة والإعتقادات الباطلة لا تكون إلا في الأذهان فمن قدر ماهية لا في الذهن ولا في الخارج فهو مثل من قدر موجودا لا واجبا ولا ممكنا ولا قديما ولا محدثا ولا قائما بنفسه ولا قائما بغيره وهذا التقدير في الذهن وقد بسطنا الكلام على ذلك لما بينا فساد احتجاج كثير من أهل النظر بالتقديرات الذهنية على الإمكانات الخارجية كما يقوله الرازي وغيره إنا يمكننا أن نقول الموجود إما داخل العالم وإما خارج العالم وإما لا داخل العالم ولا خارجه وكل موجود إما مباين لغيره وإما محايث له وإما لا مباين ولامحايث فهذا يدل على إمكان القسم الثالث وكذلك إذا قلنا الموجود إما متحيز وإما قائم بالمتحيز وإما لا متحيز ولا قائم بالمتحيز وهذا يدل على إمكان القسم الثالث وهذا غلط فإن هذا كقول القائل الموجود إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره وإما لا قائم بنفسه ولا بغيره فدل على إمكان القسم الثالث فإن هذا غلط

5

460

وكذلك إذا قيل إما قديم وإما محدث وإما لا قديم ولا محدث وإما واجب وإما ممكن وإما لا واجب ولا ممكن وكذلك ما أشبه هذا ودخل الغلط على هؤلاء حيث ظنوا أن مجرد تقدير الذهن وفرضه يقتضي إمكان ذلك في الخارج وليس كذلك بل الذهن يفرض أمورا ممتنعة لا يجوز وجودها في الخارج ولا تكون تلك التقديرات إلا في الذهن لا في الخارج وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر ولكن المقصود هنا ذكر ما اختلف فيه الناس من جهة الذم والعقاب وبينا أن الحال يرجع إلى أصلين أحدهما أن كل ما تنازع فيه الناس هل يمكن كل أحد اجتهاد يعرف به الحق أم الناس ينقسمون إلى قادر على ذلك وغير قادر والأصل الثاني المجتهد العاجز عن معرفة الصواب هل يعاقبه الله أم لا يعاقب من اتقى الله ما استطاع وعجز عن معرفة بعض الصواب وإذا عرف هذان الأصلان فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع ما يطعن به فيهم أكثره كذب والصدق منه غايته أن يكون ذنبا أو خطأ والخطأ مغفور والذنب له أسباب متعددة توجب المغفرة ولا يمكن أحد أن يقطع بأن واحدا منهم فعل من الذنوب ما يوجب النار

5

461

لا محالة وكثير مما يطعن به على أحدهم يكون من محاسنه وفضائله فهذا جواب مجمل ثم نحن نتكلم على ما ذكرته الرافضة من المطاعن على وجه التفصيل كما ذكره أفضل الرافضة في زمنه صاحب هذا الكتاب لما ذكر أن الكلبي صنف كتابا في المثالب قال الرافضي وقد ذكر غيره منها أشياء كثيرة ونحن نذكر منها شيئا يسيرا منها ما رووه عن أبي بكر أنه قال على المنبر إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتصم بالوحي وإن لي شيطانا يعتريني فإن استقمت فأعينوني وإن زغت فقوموني وكيف يجوز إمامة من يستعين بالرعية على تقويمه مع أن الرعية تحتاج إليه

5

462

والجواب أن يقال هذا الحديث من أكبر فضائل الصديق رضي الله عنه وأدلها على أنه لم يكن يريد علوا في الأرض ولا فسادا فلم يكن طالب رياسة ولا كان ظالما وإنه إنما كان يأمر الناس بطاعة الله ورسوله فقال لهم إن استقمت على طاعة الله فأعينوني عليها وإن زغت عنها فقوموني كما قال أيضا أيها الناس أطيعوني ما أطعت الله فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم والشيطان الذي يعتريه يعترى جميع بني آدم فإنه ما من أحد إلا وقد وكل الله به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من أحد إلا وقد وكل الله به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن قيل وأنت يا رسول الله قال وأنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير وفي الصحيح عنه قال لما مر به بعض الأنصار وهو يتحدث مع

5

463

صفية ليلا قال على رسلكما إنها صفية بنت حيي ثم قال إني خشيت أن يقذف الشيطان في قلوبكما شيئا إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ومقصود الصديق بذلك إني لست معصوما كالرسول صلى الله عليه وسلم وهذا حق وقول القائل كيف تجوز إمامة من يستعين على تقويمه بالرعية كلام جاهل بحقيقة الإمامة فإن الإمام ليس هو ربا لرعيته حتى يستغني عنهم ولا هو رسول الله إليهم حتى يكون هو الواسطة بينهم وبين الله وإنما هو والرعية شركاء يتعاونون هم وهو على مصلحة الدين والدنيا فلا بد له من إعانتهم ولا بد لهم من إعانته كأمير القافلة الذي يسير بهم في الطريق إن سلك بهم الطريق اتبعوه وإن أخطأ عن الطريق نبهوه وأرشدوه وإن خرج عليهم صائل يصول عليهم تعاون هو وهم علي دفعه لكن إذا كان أكملهم علما وقدرة ورحمة كان ذلك أصلح لأحوالهم

5

464

وكذلك إمام الصلاة إن استقام صلوا بصلاته وإن سها سبحوا به فقوموه إذا زاغ وكذلك دليل الحاج إن مشى بهم في الطريق مشوا خلفه وإن غلط قوموه والناس بعدالرسول لا يتعلمون الدين من الإمام بل الأئمة والأمة كلهم يتعلمون الدين من الكتاب والسنة ولهذا لم يأمر الله عند التنازع برد الأمر إلى الأئمة بل قال تعالى يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول الآيةسورة النساء فأمر بالرد عند التنازع إلى الله والرسول لا إلى الأئمة وولاة الأمور وإنما أمر بطاعة ولاة الأمور تبعا لطاعة الرسول ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم إنما الطاعة في المعروف وقال لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وقال من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه

5

465

وقول القائل كيف تجوز إمامة من يستعين بالرعية على تقويمه مع أن الرعية تحتاج إليه وارد في كل متعاونين ومتشاركين يحتاج كل منهما إلى الاخر حتى الشركاء في التجارات والصناعات وإمام الصلاة هو بهذه المنزلة فإن المأمومين يحتاجون إليه وهو يحمل عنهم السهو وكذلك القراءة عند الجمهور وهو يستعين بهم إذا سها فينبهونه على سهوه ويقومونه ولو زاغ في الصلاة فخرج عن الصلاة الشرعية لم يتبعوه فيها ونظائره متعددة ثم يقال استعانة علي برغيته وحاجته إليهم كانت أكثر من استعانة أبي بكر وكان تقويم أبي بكر لرعيته وطاعتهم له أعظم من تقويم علي لرعيته وطاعتهم له فإن أبا بكر كانوا إذا نازعوه أقام عليهم الحجة حتى يرجعوا إليه كما أقام الحجة على عمر في قتال مانعي الزكاة وغير ذلك وكانوا إذا أمرهم أطاعوه وعلي رضى الله عنه لما ذكر قوله في أمهات الأولاد وأنه اتفق رأيه ورأي عمر على أن لا يبعن ثم رأى أن يبعن فقال له قاضيه عبيدة السلماني رأيك مع عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة وكان يقول اقضوا كما كنتم تقضون فإني أكره الخلاف حتى يكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي وكانت رعيته كثيرة المعصية له وكانوا يشيرون عليه بالرأي الذي

5

466

يخالفهم فيه ثم يتبين له أن الصواب كان معهم كما أشار عليه الحسن بأمور مثل أن لا يخرج من المدينة دون المبايعة وأن لا يخرج إلى الكوفة وأن لا يقاتل بصفين وأشار عليه أن لا يعزل معاوية وغير ذلك من الأمور وفي الجملة فلا يشك عاقل أن السياسة انتظمت لأبي بكر وعمر وعثمان ما لم تنتظم لعلي رضي الله عنهم فإن كان هذا لكمال المتولي وكمال الرعية كانوا هم ورعيتهم أفضل وإن كان لكمال المتولي وحده فهو أبلغ في فضلهم وإن كان ذلك لفرط نقص رعية علي كان رعية علي أنقص من رعية أبي بكر رضي الله عنه وعمر وعثمان ورعيته هم الذين قاتلوا معه وأقروا بإمامته ورعية الثلاثة كانوا مقرين بإمامتهم فإذا كان المقرون بإمامة الثلاثة أفضل من المقرين بإمامة علي لزم أن يكون كل واحد من الثلاثة أفضل منه وأيضا فقد انتظمت السياسة لمعاوية ما لم تنتظم لعلي فيلزم أن تكون رعية معاوية خيرا من رعية علي ورعية معاوية شيعة عثمان وفيهم النواصب المبغضون لعلي فتكون شيعة عثمان والنواصب أفضل من شيعة علي فيلزم على كل تقدير إما أن يكون الثلاثة أفضل من علي وإما أن تكون شيعة عثمان والنواصب أفضل من شيعة علي والروافض وأيهما كان لزم فساد مذهب الرافضة فإنهم يدعون أن عليا أكمل

5

467

من الثلاثة وأن شيعته الذين قاتلوا معه أفضل من الذين بايعوا الثلاثة فضلا عن أصحاب معاوية والمعلوم باتفاق الناس أن الأمر انتظم للثلاثة ولمعاوية ما لم ينتظم لعلي فكيف يكون الإمام الكامل والرعية الكاملة على رأيهم أعظم اضطرابا وأقل انتظاما من الإمام الناقص والرعية الناقصة بل من الكافرة والفاسقة على رأيهم ولم يكن في أصحاب علي من العلم والدين والشجاعة والكرم إلا ما هو دون ما في رعية الثلاثة فلم يكونوا أصلح في الدنيا ولا في الدين ومع هذا فلم يكن للشيعة إمام ذو سلطان معصوم بزعمهم أعظم من علي فإذا لم يستقيموا معه كانوا أن لا يستقيموا مع من هو دونه أولى وأحرى فعلم أنهم شر وأنقص من غيرهم وهم يقولون المعصوم إنما وجبت عصمته لما في ذلك من اللطف بالمكلفين والمصلحة لهم فإذا علم أن مصلحة غير الشيعة في كل زمان خير من مصلحة الشيعة واللطف لهم أعظم من اللطف للشيعة علم أن ما ذكروه من إثبات العصمة باطل وتبين حينئذ حاجة الأئمة إلى الأمة وأن الصديق هو الذي قال الحق وأقام العدل أكثر من غيره

5

468

فصل قال الرافضي وقال أقيلوني فلست بخيركم وعلي فيكم فإن كانت إمامته حقا كانت استقالته منها معصية وإن كانت باطلة لزم الطعن والجواب أن هذا كذب ليس في شيء من كتب الحديث ولا له إسناد معلوم فإنه لم يقل وعلي فيكم بل الذي ثبت عنه في الصحيح أنه قال يوم السقيفة بايعوا أحد هذين الرجلين عمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح فقال له عمر بل أنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمر كنت والله لأن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثم أحب إلي من تأمري على قوم فيهم أبو بكر ثم لو قال وعلي فيكم لاستخلفه مكان عمر فإن أمره كان مطاعا

5

469

وأما قوله إن كانت إمامته حقا كانت استقالته منها معصية فيقال إن ثبت أنه قال ذلك فإن كونها حقا إما بمعنى كونها جائزة والجائز يجوز تركه وإما بمعنى كونها واجبة إذا لم يولوا غيره ولم يقيلوه وأما إذا أقالواه وولوا غيره لم تكن واجبة عليه والإنسان قد يعقد بيعا أو إجارة ويكون العقد حقا ثم يطلب الإقالة وهو لتواضعه وثقل الحمل عليه قد يطلب الإقالة وإن لم يكن هناك من هو أحق بها منه وتواضع الإنسان لا يسقط حقه فصل قال الرافضي وقال عمر كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه ولو كانت إمامته صحيحة لم يستحق فاعلها القتل فيلزم تطرق الطعن إلى عمر وإن كانت باطلة لزم الطعن عليهما معا والجواب أن لفظ الحديث سيأتي قال فيه فلا يغترن امرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة فتمت ألا وإنها قد كانت كذلك ولكن وقي الله شرها وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر ومعناه أن بيعة أبي بكر بودر إليها من غير تريث ولا انتظار لكونه

5

470

كان متعينا لهذا الأمر كما قال عمر ليس فيكم من تقطع إليه الاعناق مثل أبي بكر وكان ظهور فضيلة أبي بكر على من سواه وتقديم رسول الله صلى الله عليه وسلم له على سائر الصحابة أمرا ظهرا معلوما فكانت دلالة النصوص على تعيينه تغني عن مشاورة وانتظار وتريث بخلاف غيره فإنه لا تجوز مبايعته إلا بعد المشاورة والإنتظار والتريث فمن بايع غير أبي بكر عن غير انتظار وتشاور لم يكن له ذلك وهذا قد جاء مفسرا في حديث عمر هذا في خطبته المشهورة الثابتة في الصحيح التي خطب بها مرجعه من الحج في آخر عمره وهذه الخطبة معروفة عند أهل العلم وقد رواها البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال كنت اقرىء رجالا من المهاجرين منهم عبد الرحمن بن عوف فبينما أنا في منزله بمنى وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجة حجها إذ رجع إلى عبد الرحمن بن عوف

5

471

فقال لو رأيت رجلا أتى أمير المؤمنين اليوم فقال يا أمير المؤمنين هل لك في فلان يقول لو قد مات عمر لقد بايعت فلانا فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت فغضب عمر ثم قال إني إن شاء الله لقائم العشية في الناس فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغضبوهم أمورهم فقال عبد الرحمن فقلت يا أمير المؤمنين لا تفعل فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم وإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيرها عنك كل مطير وأن لا يعوها وأن لا يضعوها على مواضعها فأمهل حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول مقالتك متمكنا فيعي أهل العلم مقالتك ويضعونها على مواضعها فقال عمر أما والله إن شاء الله لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة قال ابن عباس فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجة فلما كان يوم الجمعة عجلت بالرواح حين زاغت

5

472

الشمس حتى أجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالسا إلى ركن المنبر فجلست حوله تمس ركبتي ركبته فلم أنشب أن خرج عمر بن الخطاب فلما رأيته مقبلا قلت لسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ليقولن العشية مقالة لم يقلها منذ استخلف فأنكر علي وقال ما عسيت أن يقول ما لم يقل قبله فجلس عمر على المنبر فلما سكت المؤذنون قام فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد فإني قائل لكم مقالة قد قدر لي أن أقولها لا أدري لعلها بين يدي أجلي فمن عقلها ووعاها فليحدث بها حيث انتهت به راحلته ومن خشي أن لا يعقلها فلا أحل لأحد أن يكذب علي إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب

5

473

الله إن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تطروني كما أطرت النصاري عيسى بن مريم وقولوا عبد الله ورسوله ثم إنه بلغني أن قائلا منكم يقول والله لو مات عمر لبايعت فلانا فلا يغترن امرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة فتمت ألا وإنها قد كانت كذلك ولكن الله وقى شرها وليس فيكم من تقطع الأعناق إليه مثل

5

474

أبي بكر من بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا وإنه قد كان من خبرنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة وخالف عنا علي والزبير ومن معهما واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر فقلت لأبي بكر يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار فانطلقنا نريدهم فلما دنونا منهم لقينا منهم رجلان صالحان فذكرا ما تمالأ عليه القوم فقالا أين تريدون يا معشر المهاجرين فقلنا نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار فقالا لا عليكم أن لا تقربوهم أقضوا أمركم فقلت والله لنأتينهم فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا رجل مزمل بين ظهرانيهم فقلت من هذا فقالوا هذا سعد بن عبادة فقلت ما له قالوا يوعك

5

475

فلما جلسنا قليلا تشهد خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم معشر المهاجرين رهط وقد دفت دافة من قومكم فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا وأن يحصنونا من الأمر فلما سكت أردت أن أتكلم وكنت زورت مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر وكنت أداري منه بعض الحد فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر على رسلك فكرهت أن أغضبه فتكلم أبو بكر فكان هو أحلم مني وأوقر والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها حتى سكت فقال ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش هم أوسط العرب

5

476

نسبا ودارا وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا فلم أكره مما قال غيرها كان والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك من إثم أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر اللهم إلا أن تسول لي نفسي عند الموت شيئا لا أجده الآن فقال قائل من الأنصار أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى فرقت من الإختلاف فقلت ابسط يدك يا أبا بكر فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعته الأنصار ونزونا على سعد بن عبادة فقال قائل منهم قتلتم سعد بن عبادة فقلت قتل الله سعد بن عبادة قال عمر وإنا والله

5

477

ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلا منهم بعدنا فإما بايعناهم على ما لا نرضى وإما أن نخالفهم فيكون فساد فمن بايع رجلا على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا قال مالك وأخبرني ابن شهاب عن عروة بن الزبير أن الرجلين اللذين لقياهما عويمر بن ساعدة ومعن بن عدي وهما ممن شهد بدرا قال ابن شهاب وأخبرني سعيد بن المسيب أن

5

478

الذي قال أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب الحباب بن المنذر وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وأبوبكر بالسنح فقام عمر يقول والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وقال عمر والله ما كان يقع في قلبي إلا ذاك وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم فجاء أبو بكر رضي الله عنه فكشف عن رسول صلى الله عليه وسلم فقبله فقال بأبي وأمي طبت حيا وميتا والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبدا ثم خرج فقال أيها الحالف على رسلك فلما تكلم أبو بكر جلس عمر فحمد الله أبوبكر وأثنى عليه وقال ألا من كان يعبد محمدا فإن محمد قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت وقال الله تعالى إنك ميت وإنهم ميتون

5

479

سورة الزمر وقال وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات او قتل أنقلبتم على أعاقبكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله سشيئا شيئا وسيجزي الله الشاكرين سورة آل عمران قال فنشج الناس يبكون واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة فقالوا منا أمير ومنكم أمير فذهب إليهم أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح فذهب عمر يتكلم فأسكته أبو بكر وكان عمر يقول والله ما أردت بذلك إلا أني هيأت كلاما قد أعجبني خشيت أن لا يبلغه أبو بكر ثم تكلم أبو بكر فتكلم أبلغ الناس فقال في كلامه نحن الأمراء وأنتم الوزراء فقال حباب ابن المنذر لا والله لا نفعل منا أمير ومنكم أمير فقال أبو بكر لا ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء هم أوسط العرب دارا وأعربهم أحسابا فبايعوا عمر أو أبا عبيدة بن الجراح فقال عمر بل نبايعك أنت فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه الناس فقال قائل قتلتم سعد بن عبادة فقال عمر قتله الله وفي صحيح البخاري عن عائشة في هذه القصة قالت ما كان من خطبتهما من خطبة إلا نفع الله بها لقد خوف عمر الناس وإن فيهم

5

480

لنفاقا فردهم الله بذلك ثم لقد بصر أبو بكر الناس الهدى وعرفهم الحق الذي عليهم وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك أنه سمع خطبة عمر الآخرة حين جلس على المنبر وذلك الغد من يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فتشهد وأبو بكر صامت لا يتكلم قال كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يدبرنا يريد بذلك أن يكون آخرهم فإن يكن محمد قد مات فإن الله قد جعل بين أظهركم نورا تهتدون به به هدى الله محمدا وإن إبا بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثاني اثنين وإنه أولى المسلمين بأموركم فقوموا فبايعوه وكانت طائفة منهم قد بايعوه قيل ذلك في سقيفة بني ساعدة وكانت بيعة العامة على المنبر وعنه قال سمعت عمر يقول لأبي بكر يومئذ اصعد المنبر فلم يزل به حتى صعد المنبر فبايعه الناس عامة

5

481

وفي طريق أخرى لهذه الخطبة أما بعد فاختار الله لرسوله الذي عنده على الذي عندكم وهذا الكتاب الذي هدى الله به رسوله فخذوا به تهتدوا لما هدى الله به رسوله صلى الله عليه وسلم فصل قال الرافضي وقال أبو بكر عند موته ليتني كنت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل للأنصار في هذا الأمر حق وهذا يدل على أنه في شك من إمامته ولم تقع صوابا والجواب أن هذا كذب على أبي بكر رضي الله عنه وهو لم يذكر له إسنادا ومعلوم أن من احتج في أي مسألة كانت بشيء من النقل فلا بد أن يذكر إسنادا تقوم به الحجة فكيف بمن يطعن في السابقين الأولين بمجرد حكاية لا إسناد لها ثم يقال هذا يقدح فيما تدعونه من النص على علي فإنه لو كان قد

5

482

نص عل علي لم يكن للأنصار فيه حق ولم يكن في ذلك شك فصل قال الرافضي وقال عند احتضاره ليت أمي لم تلدني يا ليتني كنت تبنة في لبنة مع أنهم قد نقلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من محتضر يحتضر إلا ويرى مقعده من الجنة والنار والجواب أن تكلمه بهذا عند الموت غير معروف بل هو باطل فلا ريب بل الثابت عنه أنه لما احتضر وتمثلت عنده عائشة بقول الشاعر لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر فكشف عن وجهه وقال ليس كذلك ولكن قولي وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد سورة ق

5

483

ولكن نقل عنه أنه قال في صحته ليت أمي لم تلدني ونحو هذا قاله خوفا إن صح النقل عنه ومثل هذا الكلام منقول عن جماعة أنهم قالوه خوفا وهيبة من أهوال يوم القيامة حتى قال بعضهم لو خيرت بين أن أحاسب وأدخل الجنة وبين أن أصير ترابا لاخترت أن أصير ترابا وروى الإمام أحمد عن أبي ذر أنه قال والله لوددت أني شجرة تعضد وقد روى أبو نعيم في حلية الأولياء قال حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا محمد بن علي الصائغ حدثنا سعيد بن منصور حدثنا أبو معاوية حدثنا السري بن يحيى قال قال عبد الله بن مسعود لو وقفت بين الجنة والنار فقيل لي اختر في أيهما تكون أو تكون رمادا لاخترت أن أكون رمادا وروى الإمام أحمد بن حنبل حدثنا يحيي بن سعيد عن مجالد عن الشعبي عن مسروق قال قال رجل عند عبد الله بن مسعود ما أحب أن أكون من أصحاب اليمين أكون من المقربين أحب إلي فقال عبد الله بن مسعود لكن ها هنا رجل ود أنه إذا مات لم يبعث يعني نفسه والكلام في مثل هذا هل هو مشروع أم لا له موضع آخر لكن

5

484

الكلام الصادر عن خوف العبد من الله يدل على إيمانه بالله وقد غفر الله لمن خافه حين أمر أهله بتحريقه وتذرية نصفه في البر ونصفه في البحر مع أنه لم يعمل خيرا قط وقال والله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين فأمر الله البر فجمع ما فيه وأمر البحر فجمع ما فيه وقال ما حملك على ما صنعت قال من خشيتك يا رب فغفر له أخرجاه في الصحيحين فإذا كان مع شكه في القدرة والمعاد إذا فعل ذلك غفر له بخوفه من الله علم أن الخوف من الله من أعظم أسباب المغفرة للأمور الحقيقية إذا قدر أنها ذنوب فصل قال الرافضي وقال أبو بكر ليتني في ظلة بني ساعدة ضربت بيدي على يد أحد الرجلين فكان هو الأمير وكنت

5

485

الوزير قال وهو يدل على أنه لم يكن صالحا يرتضي لنفسه الإمامة والجواب أن هذا إن كان قاله فهو أدل دليل على أن عليا لم يكن هو الإمام وذلك إن قائل هذا إنما يقوله خوفا من الله أن يضيع حق الولاية وأنه إذا ولى غيره وكان وزيرا له كان أبرأ لذمته فلو كان علي هو الإمام لكانت توليته لأحد الرجلين إضاعة للإمامة أيضا وكان يكون وزيرا لظالم غيره وكان قد باع آخرته بدنيا غيره وهذا لا يفعله من يخاف الله ويطلب براءة ذمته وهذا كما لو كان الميت قد وصى بديون فاعتقد الوارث أن المستحق لها شخص فأرسلها إليه مع رسوله ثم قال يا ليتني أرسلتها مع من هو أدين منه خوفا أن يكون الرسول الأول مقصرا في الوفاء تفريطا أو خيانة وهناك شخص حاضر يدعي أنه المستحق للدين دون ذلك الغائب فلو علم الوارث أنه المستحق لكان يعطيه ولا يحتاج إلى الإرسال به إلى ذلك الغائب فصل قال الرافضي وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في

5

486

مرض موته مرة بعد أخرى مكررا لذلك أنفذوا جيش أسامة لعن الله المتخلف عن جيش أسامة وكان الثلاثة معه ومنع أبو بكر وعمر من ذلك والجواب أن هذا من الكذب المتفق على أنه كذب عند كل من يعرف السيرة ولم ينقل أحد من أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أبا بكر أو عثمان في جيش أسامة وإنما روي ذلك في عمر وكيف يرسل أبا بكر في جيش أسامة وقد استخلفه يصلي بالمسلمين مدة مرضه وكان ابتداء مرضه من يوم الخميس إلى الخميس إلى يوم الإثنين اثني عشر يوما ولم يقدم في الصلاة بالمسلمين إلا أبا بكر بالنقل المتواتر ولم تكن الصلاة التي صلاها أبو بكر بالمسلمين في مرض النبي صلى الله عليه وسلم صلاة ولا صلاتين ولا صلاة يوم ولا يومين حتى يظن ما تدعيه الرافضة من التلبيس وأن عائشة قدمته بغير أمره بل كان يصلي بهم مدة مرضه فإن الناس متفقون على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل بهم في مرض موته إلا أبو بكر وعلي أنه صلى بهم عدة أيام وأقل ما قيل إنه صلى بهم سبعة عشرة صلاة صلى بهم صلاة العشاء الآخرة ليلة الجمعة وخطب بهم يوم الجمعة

5

487

هذا مما تواترت به الأحاديث الصحيحة ولم يزل يصلي بهم إلى فجر يوم الاثنين صلى بهم صلاة الفجر وكشف النبي صلى الله عليه وسلم الستارة فرآهم يصلون خلف أبي بكر فلما رأوه كادوا يفتنون في صلاتهم ثم أرخى الستارة وكان ذلك آخر عهدهم به وتوفي يوم الإثنين حين اشتد الضحى قريبا من الزوال وقد قيل إنه صلى به أكثر من ذلك من الجمعة التي قبل فيكون قد صلى بهم مدة مرضه كلها لكن خرج النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة واحدة لما وجد خفة في نفسه فتقدم وجعل أبا بكر عن يمينه فكان أبو بكر يأتم بالنبي صلى الله عليه وسلم والناس يأتمون بأبي بكر وقد كشف الستارة يوم الإثنين صلاة الفجر وهم يصلون خلف أبي بكر ووجهه صلى الله عليه وسلم كأنه ورقة مصحف فسر بذلك لما رأى اجتماع الناس في الصلاة خلف أبي بكر ولم يروه بعدها وقد قيل إن آخر صلاة صلاها كانت خلف أبي بكر وقيل صلى خلفه غيرها فكيف يتصور أن يأمره بالخروج في الغزاة وهو يأمره بالصلاة بالناس

5

488

وأيضا فإنه جهز جيش أسامة قبل أن يمرض فإنه أمره على جيش عامتهم المهاجرون منهم عمر بن الخطاب في آخر عهده صلى الله عليه وسلم وكانوا ثلاثة آلاف وأمره أن يغير على أهل مؤتة وعلى جانب فلسطين حيث أصيب أبوه وجعفر وابن رواحة فتجهز أسامة ابن زيد للغزو وخرج في ثقله إلى الجرف وأقام بها أياما لشكوى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة فقال اغد على بركة الله والنصر والعافية ثم أغر حيث أمرتك أن تغير قال أسامة يا رسول الله قد أصبحت ضعيفا وأرجو أن يكون الله قد عافاك فاذن لي فأمكث حتى يشفيك الله فإني إن خرجت وأنت على هذه الحالة خرجت وفي نفسي منك قرحة وأكره أن أسأل عنك الناس فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بأيام فلما جلس أبو بكر للخلافة أنفذه مع ذلك الجيش غير أنه استأذنه في أن يأذن لعمر بن الخطاب في الإقامة لأنه ذو رأي ناصح للإسلام فأذن له وسار أسامة لوجهه الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصاب في ذلك العدو مصيبة عظيمة وغنم هو وأصحابه وقتل قاتل أبيه وردهم الله سالمين إلى المدينة

5

489

وإنما أنفذ جيش أسامة أبوبكر الصديق بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وقال لا أحل راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشار عليه غير واحد أن يرد الجيش خوفا عليهم فإنهم خافوا أن يطمع الناس في الجيش بموت النبي صلى الله عليه وسلم فامتنع أبو بكر من رد الجيش وأمر بإنفاذه فلما رآهم الناس يغزون عقب موت النبي صلى الله عليه وسلم كان ذلك مما أيد الله به الدين وشد به قلوب المؤمنين وأذل به الكفار والمنافقين وكان ذلك من كمال معرفة أبي بكر الصديق وإيمانه ويقينه وتدبيره ورأيه فصل قال الرافضي وأيضا لم يؤل النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر ألبتة عملا في وقته بل ولى عليه عمرو بن العاص تارة وأسامة أخرى ولما أنفذه بسورة براءة رده بعد ثلاثة أيام بوحي من الله وكيف يرتضي العاقل إمامة من لا يرتضيه النبي صلى الله عليه وسلم بوحي من الله لأداء عشر آيات من براءة

5

490

والجواب أن هذا من أبين الكذب فإنه من المعلوم المتواتر عند أهل التفسير والمغازي والسير والحديث والفقه وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل أبا بكر على الحج عام تسع وهو أول حج كان في الإسلام من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن قبله حج في الإسلام إلا الحجة التي أقامها عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية من مكة فإن مكة فتحت سنة ثمان أقام الحج ذلك العام عتاب بن أسيد الذي استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على أهل مكة ثم أمر أبا بكر سنة تسع للحج بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك وفيها أمر أبا بكر بالمناداة في الموسم أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ولم يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم غير أبي بكر على مثل هذه الولاية فولاية أبي بكر كانت من خصائصه فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمر على الحج أحد كتأمير أبي بكر ولم يستخلف على الصلاة أحدا كاستخلاف أبي بكر وكان علي من رعيته في هذه الحجة فإنه لحقه فقال أمير أو مأمور فقال علي بل مأمور وكان علي يصلي خلف أبي بكر مع سائر المسلمين في هذه الولاية ويأتمر لأمره كما يأتمر له سائر من معه ونادى علي مع الناس في هذه الحجة بأمر أبي بكر وأما ولاية غير أبي بكر فكانت مما يشاركه فيها غيره كولاية علي

5

491

وغيره فلم يكن لعلي ولاية إلا ولغيره مثلها بخلاف ولاية أبي بكر فإنها من خصائصه ولم يول النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر لا أسامة بن زيد ولا عمرو بن العاص فأما تأمير أسامة عليه فمن الكذب المتفق على كذبه وأما قصة عمرو بن العاص فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أرسل عمرا في سرية وهي غزوة ذات السلاسل وكانت إلى بني عذرة وهم أخوال عمرو فأمر عمرا ليكون ذلك سببا لإسلامهم للقرابة التي له منهم ثم أردفه بأبي عبيدة ومعه أبو بكر وعمر وغيرهما من المهاجرين وقال تطاوعا ولا تختلفا فلما لحق عمرا قال أصلي بأصحابي وتصلي بأصحابك قال بل أنا أصلي بكم فإنما أنت مدد لي فقال له أبو عبيدة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أطاوعك فإن عصيتني أطعتك قال فإنى أعصيك فأراد عمرو أن ينازعه في ذلك فأشار عليه أبو بكر أن لا يفعل ورأى أبو بكر أن ذلك أصلح للأمر فكانوا يصلون خلف عمرو مع علم كل أحد أن أبا بكر وعمر وأبا عبيدة أفضل من عمرو

5

492

وكان ذلك لفضلهم وصلاحهم لأن عمرا كانت إمارته قد تقدمت لأجل ما في ذلك من تآلف قومه الذين أرسل إليهم لكونهم أقاربه ويجوز تولية المفضول لمصلحة راجحة كما أمر أسامة بن زيد ليأخذ بثأر أبيه زيد بن حارثة لما قتل في غزوة مؤتة فكيف والنبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمر على أبي بكر أحدا في شيء من الأمور بل قد علم بالنقل العام المتواتر أنه لم يكن أحد عنده أقرب إليه ولا أخص به ولا أكثر اجتماعا به ليلا و نهارا سرا وعلانية من أبي بكر

5

493

ولا كان أحد من الصحابة يتكلم بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم قبله فيأمر فيأمر وينهى ويخطب ويفتي يوقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك راضيا بما يفعل ولم يكن ذلك تقدما بين يديه بل بإذن منه قد علمه وكان ذلك معونة للنبي صلى الله عليه وسلم وتبليغا عنه وتنفيذا لأمره لأنه كان أعلمهم بالرسول وأحبهم إلى الرسول واتبعهم له وأما قول الرافضي إنه لما أنفذه ببراءة رده بعد ثلاثة أيام فهذا من الكذب المعلوم أنه كذب فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر أبا بكر على الحج ذهب كما أمره وأقام الحج في ذلك العام عام تسع للناس ولم يرجع إلى المدينة حتى قضى الحج وأنفذ فيه ما أمره به النبي صلى الله عليه وسلم فإن المشركين كانوا يحجون البيت وكانوا يطوفون بالبيت عراة وكان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين عهود مطلقة فبعث أبا بكر وأمره أن ينادي أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان فنادى بذلك من أمره أبو بكر بالنداء ذلك العام وكان علي بن أبي طالب من جملة من نادى بذلك في الموسم بأمر أبي بكر ولكن لما خرج أبو بكر أردفه النبي صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب لينبذ إلى المشركين العهود قالوا وكان من عادة العرب أن لا يعقد العهود ولا يفسخها إلا المطاع أو رجل من أهل بيته فبعث عليا لأجل فسخ العهود التي كانت مع المشركين خاصة لم يبعثه لشيء آخر ولهذا كان علي يصلي خلف

5

494

أبي بكر ويدفع بدفعه في الحج كسائر رعية أبي بكر الذين كانوا معه في الموسم وكان هذا بعد غزوة تبوك واستخلافه له فيها على من تركه بالمدينة وقوله له أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ثم بعد هذا أمر أبا بكر على الموسم وأردفه بعلي مأمورا عليه لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وكان هذا مما دل على أن عليا لم يكن خليفة له إلا مدة مغيبه عن المدينة فقط ثم أمر أبا بكر عليه عام تسع ثم إنه بعد هذا بعث عليا وأبا موسى الأشعري ومعاذا إلى اليمن فرجع علي وأبو موسى إليه وهو بمكة في حجة الوداع وكل منهما قد أهل بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم فأما معاذ فلم يرجع إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه فصل قال الرافضي وقطع يسار سارق ولم يعلم أن القطع لليد اليمنى والجواب أن قول القائل إن أبا بكر يجهل هذا من أظهر الكذب ولو قدر أن أبا بكر كان يجيز ذلك لكان ذلك قولا سائغا

5

495

لأن القرآن ليس في ظاهره ما يعين اليمين لكن تعيين اليمين في قراءة ابن مسعود فاقطعوا أيمانهما وبذلك مضت السنة ولكن أين النقل بذلك عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قطع اليسرى وأين الإسناد الثابت بذلك وهذه كتب أهل العلم بالآثار موجودة ليس فيها ذلك ولا نقل أهل العلم بالإختلاف ذلك قولا مع تعظيمهم لأبي بكر رضي الله عنه فصل قال الرافضي وأحرق الفجاءة السلمي بالنار وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحراق بالنار الجواب أن الإحراق بالنار عن علي أشهر وأظهر منه عن أبي بكر وأنه قد ثبت في الصحيح أن عليا أتى بقوم زنادقة من غلاة الشيعة فحرقهم بالنار فبلغ ذلك ابن عباس فقال لو كنت أنا لم أحرقهم بالنار لنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يعذب بعذاب الله ولضربت أعناقهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه

5

496

فبلغ ذلك عليا فقال ويح ابن أم الفضل ما أسقطه على الهنات فعلي حرق جماعة بالنار فإن كان ما فعله أبو بكر منكرا ففعل علي أنكر منه وإن كان فعل علي مما لا ينكر مثله على الأئمة فأبو بكر أولى أن لا ينكر عليه فصل قال الرافضي وخفي عليه أكثر أحكام الشريعة فلم يعرف حكم الكلالة وقال أقول فيها برأيي فإن يك صوابا فمن الله وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان وقضى في الجد بسبعين قضية وهو يدل على قصوره في العلم والجواب أن هذا من أعظم البهتان كيف يخفى عليه أكثر أحكام الشريعة ولم يكن بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم من يقضي ويفتي إلا هو ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر مشاورة لأحد من أصحابه منه له ولعمر ولم يكن أحد أعظم اختصاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم منه ثم عمر

5

497

وقد ذكر غير واحد مثل منصور بن عبد الجبار السمعاني وغيره إجماع أهل العلم على أن الصديق أعلم الأمة وهذا بين فإن الأمة لم تختلف في ولايته في مسألة إلا فصلها هو بعلم يبينه لهم وحجة يذكرها لهم من الكتاب والسنة كما بين لهم موت النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيتهم على الإيمان وقراءته عليهم الآية ثم بين لهم موضع دفنه وبين لهم قتال مانعي الزكاة لما استراب فيه عمر وبين لهم أن الخلافة في قريش في سقيفة بني ساعدة لما ظن من ظن أنها تكون في غير قريش وقد استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على أول حجة حجت من مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وعلم المناسك أدق ما في العبادات ولولا سعة علمه بها لم يستعمله وكذلك الصلاة استخلفه فيها ولولا علمه بها لم يستخلفه ولم يستخلف غيره لا في حج ولا في صلاة وكتاب الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذه أنس من أبي بكر وهو أصح ما روي فيها وعليه اعتمد الفقهاء وفي الجملة لا يعرف لأبي بكر مسسائل من الشريعة غلط فيها وقد عرف لغيره مائل كثيرة كما بسط في موضعه وقد تنازعت الصحابة بعده في مسائل مثل الجد والإخوة ومثل

5

498

العمرتين ومثل العول وغير ذلك من مسائل الفرائض وتنازعوا في مسألة الحرام والطلاق الثلاث بكلمة والخلية والبرية والبتة وغير ذلك من مسائل الطلاق وكذلك تنازعوا في مسائل صارت مسائل نزاع بين الأمة إلى اليوم وكان تنازعهم في خلافة عمر نزاع اجتهاد محض كل منهم يقر صاحبه على اجتهاده كتنازع الفقهاء أهل العلم والدين وأما في خلافة عثمان فقوى النزاع في بعض الأمور حتى صار يحصل كلام غليظ من بعضهم لبعض ولكن لم يقاتل بعضهم بعضا باليد ولا بسيف ولا غيره وأما في خلافة علي فتغلظ النزاع حتى تقاتلوا بالسيوف

5

499

وأما في خلافة أبي بكر فلم يعلم أنه استقر بينهم نزاع في مسألة واحدة من مسائل الدين وذلك لكمال علم الصديق وعدله ومعرفته بالأدلة التي تزيل النزاع فلم يكن يقع بينهم نزاع إلا أظهر الصديق من الحجة التي تفصل النزاع ما يزول معها النزاع وكان عامة الحجج الفاصلة للنزاع يأتي بها الصديق ابتداء وقليل من ذلك يقوله عمر أو غيره فيقره أبو بكر الصديق وهذا مما يدل على أن الصديق ورعيته أفضل من عمر ورعيته وعثمان ورعيته وعلي ورعيته فإن أبا بكر ورعيته أفضل الأئمة والأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ثم الأقوال التي خولف فيها الصديق بعد موته قوله فيها أرجح من قول من خالفه بعد موته وطرد ذلك الجد والإخوة فإن قول الصديق وجمهور الصحابة وأكابرهم أنه يسقط الإخوة وهو قول طوائف من العلماء وهو مذهب أبي حنيفة وطائفة من أصحاب الشافعي وأحمد كأبي العباس بن سريج من الشافعية وأبي حفص البرمكي من الحنابلة ويذكر ذلك رواية عن أحمد والذين قالوا بتوريث الإخوة مع الجد كعلي وزيد وابن مسعود اختلفوا اختلافا معروفا وكل منهم قال قولا خالفه فيه الآخر وانفرد بقوله عن سائر الصحابة وقد بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع

5

500

في مصنف مفرد وبينا أن قول الصديق وجمهور الصحابة هو الصواب وهو القول الراجح الذي تدل عليه الأدلة الشرعية من وجوه كثيرة ليس هذا موضع بسطها وكذلك ما كان عليه الأمر في زمن صديق الأمة رضي الله عنه من جواز فسخ الحج إلى العمرة بالتمتع وأن من طلق ثلاثا بكلمة واحدة لا يلزمه إلا طلقة واحدة هو الراجح دون من يحرم الفسخ ويلزم بالثلاث فإن الكتاب والسنة إنما يدل على ما كان عليه الأمر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلافة أبي بكر دون القول المخالف لذلك ومما يدل على كمال حال الصديق وأنه أفضل من كل من ولى الأمة بل وممن ولى غيرها من الأمم بعد الأنبياء أنه من المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الأولين والأخرين وأفضل من سائر الخلق من جميع العالمين وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال كانت بنو اسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي وسيكون خلفاء ويكثرون قالوا يا رسول الله فما تأمرنا قال فوا بيعة الأول فالأول ومن المعلوم أنه من تولى بعد الفاضل إذا كان فيه نقص كثير عن

5

501

سياسة الأول ظهر ذلك النقص ظهورا بينا وهذا معلوم من حال الولاة إذا تولى ملك بعد ملك أو قاض بعد قاض أو شيخ بعد شيخ أو غير ذلك فإن الثاني إذا كان ناقص الولاية نقصا بينا ظهر ذلك فيه وتغيرت الأمور التي كان الأول قد نظمها وألفها ثم الصديق تولى بعد أكمل الخلق سياسة فلم يظهر في الإسلام نقص بوجه من الوجوه بل قاتل المرتدين حتى عاد الأمر إلى ما كان عليه وأدخل الناس في الباب الذي خرجوا منه ثم شرع في قتال الكفار من أهل الكتاب وعلم الأمة ما خفي عليهم وقواهم لما ضعفوا وشجعهم لما جبنوا وسار فيهم سيرة توجب صلاح دينهم ودنياهم فأصلح الله بسببه الأمة في علمهم وقدرتهم ودينهم وكان ذلك مما حفظ الله به على الأمة دينها وهذا مما يحقق أنه أحق الناس بخلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما قول الرافضي لم يعرف حكم الكلالة حتى قال فيها برأيه فالجواب أن هذا من أعظم علمه فإن هذا الرأي الذي رآه في الكلالة قد اتفق عليه جماهير العلماء بعده فإنهم أخذوا في الكلالة بقول أبي بكر بكر وهو من لا ولد له ولا والد والقول بالرأي هو معروف عن سائر الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وابن معروف عن سائر الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل لكن الرأي الموافق للحق هو الذي يكون لصاحبه

5

502

أجران كرأي الصديق فإن هذا خير من الرأي الذي غاية صاحبه أن يكون له أجر واحد وقد قال قيس بن عباد لعلي أرأيت مسيرك هذا ألعهد عهده إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم أم رأى رأيته فقال بلى رأي رأيته رواه أبو داود وغيره فإذا كان مثل هذا الرأى الذي حصل به من سفك الدماء ما حصل لا يمنع صاحبه أن يكون إماما فكيف بذلك الرأي الذي اتفق جماهير العلماء على حسنه وأما ما ذكره من قضائه في الجد بسبعين قضية فهذا كذب وليس هو قول أبي بكر ولا نقل هذا عن أبي بكر بل نقل هذا عن أبي

5

503

بكر يدل على غاية جهل هؤلاء الروافض وكذبهم ولكن نقل بعض الناس عن عمر أنه قضى في الجد بسبعين قضية ومع هذا هو باطل عن عمر فإنه لم يمت في خلافته سبعون جدا كل منهم كان لابن ابنه إخوة وكانت تلك الوقائع تحتمل سبعين قولا مختلفة بل هذا الاختلاف لا يحتمله كل جد في العالم فعلم أن هذا كذب وأما مذهب أبي بكر في الجد فإنه جعله أبا وهو قول بضعة عشر من الصحابة وهو مذهب كثير من الفقهاء كأبي حنيفة وطائفة من أصحاب الشافعي وأحمد كأبي حفص البرمكي ويذكر رواية عن أحمد كما تقدم وهو أظهر القولين في الدليل ولهذا يقال لا يعرف لأبي بكر خطأ في الفتيا بخلاف غيره من الصحابة فإن قوله في الجد أظهر القولين والذين ورثوا الإخوة مع الجد وهم علي وزيد وابن مسعود وعمر في إحدى الروايتين عنه تفرقوا في ذلك وجمهور الفقهاء على قول زيد وهو قول مالك والشافعي وأحمد فالفقهاء في الجد إما على قول أبي بكر وإما على قول زيد الذي أمضاه عمر ولم يذهب أحد من أئمة الفتيا إلى قول علي في الجد وذلك مما يبين أن الحق لا يخرج عن أبي بكر وعمر فإن زيدا قاضي عمر مع أن قول أبي بكر أرجح من قول زيد

5

504

وعمر كان متوقفا في الجد وقال ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهن لنا الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا وذلك لأن الله تعالى سمى الجد أبا في غير موضع من كتابه كما قال تعالى أخرج أبويكم من الجنة سورة الأعراف وقوله ملة أبيكم إبراهيم سورة الحج وقد قال يا بني إسرائيل يا بني آدم في غير موضع وإذا كان ابن الابن ابنا كان أبو الأب أبا ولأن الجد يقوم مقام الأب في غير مورد النزاع فإنه يسقط ولد الأم كالأب ويقدم على جميع العصبات سوى البنين كالأب ويأخذ مع الولد السدس كالأب ويجمع له بين الفرض والتعصيب مع البنات كالأب وأما في العمريتين زوج وأبوين وزوجة وأبوين فإن الأم تأخذ ثلث الباقي والباقي للآب ولو كان معها جد لأخذت الثلث كله عند جمهور الصحابة والعلماء إلا ابن مسعود لأن الأم أقرب من الجد

5

505

وإنما الجدة نظير الجد والأم تأخذ مع الأب الثلث والجدة لا تأخذ مع الجد إلا السدس وهذا مما يقوى به الجد ولأن الإخوة مع الجد الأدنى كالأعمام مع الجد الأعلى وقد وقد اتفق المسلمون على أن الجد الأعلى يقدم على الأعمام فكذلك الجد الأدنى يقدم على الإخوة لأن نسبة الإخوة إلى الجد الأدنى كنسبة الأعمام إلى الجد الأعلى ولأن الأخوة لو كانوا لكونهم بني الأب يشاركون الجد لكان بنو الإخوة كذلك كما يقوم بنو البنين مقام آبائهم ولما كان بنو الإخوة لا يشاركون الجد كان آباؤهم الإخوة كذلك وعكسه البنون لما كان الجد يفرض له مع البنين فرض له مع بني البنين وأما الحجة التي تورى عن علي وزيد في أن الإخوة يشاركون الجد حيث شبهوا ذلك بأصل شجرة خرج منها فرع خرج منه غصنان فأخذ الغصنين أقرب إلى الآخر منه إلى الأصل وبنهر خرج منه نهر آخر ومنه جدولان فأحدهما إلى الآخر أقرب من الجدول إلى النهر الأول فمضمون هذه الحجة أن الإخوة أقرب إلى الميت من الجد ومن تدبر أصول الشريعة علم أن حجة أبي بكر وجمهور الصحابة لا تعارضها هذه الحجة فإن هذه لو كانت صحيحة لكان بنو الأخ أولى من الجد ولكان العم أولى من جد الأب فإن نسبة الإخوة من الأب إلى

5

506

الجد أبي الأب كنسبة الأعمام بني الجد الأعلى إلى الجد الأعلى جد الأب فلما أجمع المسلمون على أن الجد أولى من الأعمام كان الجد الأدنى أولى من الإخوة وهذه حجة مستقلة تقتضي ترجيح الجد على الإخوة وأيضا فالقائلون بمشاركة الإخوة للجد لهم أقوال متعارضة متناقضة لا دليل على شيء منها كما يعرف ذلك من يعرف الفرائض فعلم أن قول أبي بكر في الجد أصح الأقوال كما أن قوله دائما أصح الأقوال فصل قال الرافضي فأي نسبة له بمن قال سلوني قبل أن تفقدوني سلوني عن طرق السماء فإني أعرف بها من طرق الأرض قال أبو البختري رأيت عليا صعد المنبر بالكوفة وعليه مدرعة كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم متقلدا بسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم متعمما بعمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إصبعه خاتم رسول الله صلى

5

507

الله عليه وسلم فقعد على المنبر وكشف عن بطنه فقال سلوني من قبل أن تفقدوني فإنما بين الجوانح مني علم جم هذا سفط العلم هذا لعاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا ما زقني رسول الله صلى الله عليه وسلم زقا من غير وحي إلى فوالله لو ثنيت لي وسادة فجلست عليها لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم وأهل الإنجيل بإنجيلهم حتى ينطق الله التوراة والإنجيل فتقول صدق علي قد أفتاكم بما أنزل الله في وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون والجواب أما قول علي سلوني فإنما كان يخاطب بهذا أهل الكوفة ليعلمهم العلم والدين فإن غالبهم كانوا جهالا لم يدركوا النبي صلى الله عليه وسلم وأما أبو بكر فكان الذين حول منبره هم أكابر

5

508

أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين تعلموا من رسول الله صلى الله عليه وسلم العلم والدين فكانت رعية أبي بكر أعلم الأمة وأدينها وأما الذين كان علي يخاطبهم فهم من جملة عوام الناس التابعين وكان كثير منهم من شرار التابعين ولهذا كان علي رضي الله عنه يذمهم ويدعو عليهم وكان التابعون بمكة والمدينة والشام والبصرة خيرا منهم وقد جمع الناس الأقضية والفتاوي المنقولة عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي فوجدوا أصوبها وأدلها على علم صاحبها أمور أبي بكر ثم عمر ولهذا كان ما يوجد من الأمور التي وجد نص يخالفها عن عمر أقل مما وجد عن علي وأما أبو بكر فلا يكاد يوجد نص يخالفه وكان هو الذي يفصل الأمور المشتبهة عليهم ولم يكن يعرف منهم اختلاف على عهده وعامة ما تنازعوا فيه من الأحكام كان بعد أبي بكر والحديث المذكور عن علي كذب ظاهر لا تجوز نسبة مثله إلى علي فإن عليا أعلم بالله وبدين الله من أن يحكم بالتوراة والإنجيل إذ كان المسلمون متفقين على أنه لا يجوز لمسلم أن يحكم بين أحد إلا بما أنزل الله في القرآن وإذا تحاكم اليهود والنصارى إلى المسلمين لم يجز لهم أن يحكموا بينهم إلا بما أنزل الله في القرآن كما قال تعالى يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب

5

509

سماعون لقوم آخرين لم يأتوك سورة المائدة إلى قوله تعالى فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين سورة المائدة إلى قوله فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا سورة المائدة إلى قوله وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله من أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون سورة المائدة وإذا كان من المعلوم بالكتاب والسنة والإجماع أن الحاكم بين اليهود والنصارى لا يجوز أن يحكم بينهم إلا بما أنزل الله على محمد سواء وافق ما بأيديهم من التوراة والإنجيل أو لم يوافقه كان من نسب عليا إلى أنه يحكم بالتوراة والإنجيل بين اليهود والنصارى أو يفتيهم بذلك ويمدحه بذلك إما أن يكون من أجهل الناس بالدين وبما يمدح به صاحبه وإما أن يكون زنديقا ملحدا أراد القدح في علي بمثل هذا الكلام الذي يستحق صاحبه الذم والعقاب دون المدح والثواب

5

510

فصل قال الرافضي وروى البيهقي بإسناده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه وإلى نوح في تقواه وإلى إبراهيم في حلمه وإلى موسى في هيبته وإلى عيسى في عبادته فلينظر إلى علي بن أبي طالب فأثبت له ما تفرق فيهم والجواب أن يقال أولا أين إسناد هذا الحديث والبيهقي يروي في الفضائل أحاديث كثيرة ضعيفة بل موضوعة كما جرت عادة أمثاله من أهل العلم ويقال ثانيا هذا الحديث كذب موضوع على رسول الله صلى الله

5

511

عليه وسلم بلا ريب عند أهل العلم بالحديث ولهذا لا يذكره أهل العلم بالحديث وإن كانوا حراصا على جمع فضائل علي كالنسائي فإنه قصد أن يجمع فضائل علي في كتاب سماه الخصائص والترمذي قد ذكر أحاديث متعددة في فضائله وفيها ما هو ضعيف بل موضوع ومع هذا لم يذكروا هذا ونحوه فصل قال الرافضي قال أبو عمر الزاهد قال أبو العباس لا نعلم أحدا قال بعد نبيه سلوني من شيث إلى محمد إلا علي فسأله الأكابر أبو بكر وعمر وأشباههما حتى انقطع

5

512

السؤال ثم قال بعد هذا يا كميل ابن زياد إن ههنا العلما جما لو أصبت له حملة والجواب أن هذا النقل إن صح عن ثعلب فثعلب لم يذكر له إسنادا حتى يحتج به وليس ثعلب من أئمة الحديث الذين يعرفون صحيحه من سقيمه حتى يقال قد صح عنده كما إذا قال ذلك أحمد أو يحيى ابن معين أو البخاري ونحوهم بل من هو أعلم من ثعلب من الفقهاء يذكرون أحاديث كثيرة لا أصل لها فكيف ثعلب وهو قد سمع هذا من بعض الناس الذين لا يذكرون ما يقولون عن أحد وعلي رضي الله عنه لم يكن يقول هذا بالمدينة لا في خلافة أبي بكر ولا عمر ولا عثمان وإنما كان يقول هذا في خلافته في الكوفة ليعلم أولئك الذين لم يكونوا يعلمون ما ينبغي لهم علمه وكان هذا لتقصيرهم في طلب العلم وكان علي رضي الله عنه يأمرهم بطلب العلم والسؤال وحديث كميل بن زياد يدل على هذا فإن كميلا من النابغين لم

5

513

يصحبه إلا بالكوفة فدل على أنه كان يرى تقصيرا من أولئك عن كونهم حملة للعلم ولم يكن يقول هذا في المهاجرين والأنصار بل كان عظيم الثناء عليهم وأما أبو بكر فلم يسأل عليا قط عن شيء وأما عمر فكان يشاور الصحابة عثمان وعليا وعبد الرحمن وابن مسعود وزيد بن ثابت وغيرهم فكان علي من أهل الشورى كعثمان وابن مسعود وغيرهما ولم يكن أبو بكر ولا عمر ولا غيرهما من أكابر الصحابة يخصان عليا بسؤال والمعروف أن عليا أخذ العلم عن أبي بكر كما في السنن عن علي قال كنت إذا سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم حديثا نفعني الله به ما شاء أن ينفعني وإذا حدثني غيره حديثا استحلفته فإذا حلف لي صدقته وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من عبد مؤمن يذنب ذنبا فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ثم يستغفر الله إلا غفر الله له

5

514

فصل قال الرافضي وأهمل حدود الله فلم يقتص من خالد بن الوليد ولا حده حيث قتل مالك بن نويرة وكان مسلما وتزوج امرأته في ليلة قتله وضاجعها وأشار عليه عمر بقتله فلم يفعل والجواب أن يقال أولا أن كان ترك قتل قاتل المعصوم مما ينكر على الأئمة كان هذا من أعظم حجة شيعة عثمان على علي فإن عثمان خير من ملء الأرض من مثل مالك بن نوبرة وهو خليفة المسلمين وقد قتل مظلوما شهيدا بلا تأويل مسوغ لقتله وعلي لم يقتل قتلته وكان هذا من أعظم ما امتنعت به شيعة عثمان عن مبايعة علي

5

515

فإن كان علي له عذر شرعي في ترك قتل قتلة عثمان فعذر أبي بكر في ترك قتل قاتل مالك بن نويرة أقوى وإن لم يكن لأبي بكر عذر في ذلك فعلي أولى أن لا يكون له عذر في ترك قتل قتلة عثمان وأما ما تفعله الرافضة من الإنكار على أبي بكر في هذه القضية الصغيرة وترك إنكار ما هو أعظم منها على علي فهذا من فرط جهلهم وتناقضهم وكذلك إنكارهم على عثمان كونه لم يقتل عبيد الله بن عمر بالهرمزان هو من هذا الباب وإذا قال القائل علي كان معذورا في ترك قتل قتلة عثمان لأن شروط الإستيفاء لم توجد إما لعدم العلم بأعيان القتلة وإما لعجزه عن القوم لكونهم ذوي شوكة ونحو ذلك قيل فشروط الإستيفاء لم توجد في قتل قاتل مالك بن نويرة وقتل قاتل الهرمزان لوجود الشبهة في ذلك والحدود تدرأ بالشبهات

5

516

وإذا قالوا عمر أشار على أبي بكر بقتل خالد بن الوليد وعلي أشار على عثمان بقتل عبيد الله بن عمر قيل وطلحة والزبير وغيرهما أشاروا على علي بقتل قتلة عثمان مع أن الذين أشاروا على أبي بكر بالقود أقام عليهم حجة سلموا لها إما لظهور الحق معه وإما لكون ذلك مما يسوغ فيه الإجتهاد وعلي لما لم يوافق الذين أشاروا عليه بالقود جرى بينه وبينهم من الحروب ما قد علم وقتل قتلة عثمان أهون مما جرى بالجمل وصفين فإذا كان في هذا اجتهاد سائغ ففي ذلك أولى وإن قالوا عثمان كان مباح الدم قيل لهم فلا يشك أحد في أن إباحة دم مالك بن نويرة أظهر من إباحة دم عثمان بل مالك بن نويرة لا يعرف أنه كان معصوم الدم

5

517

ولم يثبت ذلك عندنا وأما عثمان فقد ثبت بالتواتر ونصوص الكتاب والسنة أنه كان معصوم الدم وبين عثمان ومالك بن نويرة من الفرق ما لا يحصي عدده إلا الله تعالى ومن قال إن عثمان كان مباح الدم لم يمكنه أن يجعل عليا معصوم الدم ولا الحسين فإن عصمة دم عثمان أظهر من عصمة دم علي والحسين وعثمان أبعد عن موجبات القتل من علي والحسين وشبهة قتلة عثمان أضعف بكثير من شبهة قتلة علي والحسين فإن عثمان لم يقتل مسلما ولا قاتل أحدا على ولايته ولم يطلب قتال أحد على ولايته أصلا فإن وجب أن يقال من قتل خلقا من السلمين على ولايته إنه معصوم الدم وإنه مجتهد فيما فعله فلأن يقال عثمان معصوم الدم وإنه مجتهد فيما فعله من الأموال والولايات بطريق الأولى والأحرى

5

518

ثم يقال غاية ما يقال في قصة مالك ابن نويرة إنه كان معصوم الدم وإن خالدا قتله بتأويل وهذا لا يبيح قتل خالد كما أن أسامة ابن زيد لما قتل الرجل الذي قال لا إله إلا الله وقال له النبي صلى الله عليه وسلم يا أسامة أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله يا أسامة أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله يا أسامة أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله فأنكر عليه قتله ولم يوجب عليه قودا ولا دية ولا كفارة وقد روى محمد بن جرير الطبري وغيره عن ابن عباس وقتادة أن هذه الآية قوله تعالى ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا الآية سورة النساء نزلت في شأن مرداس رجل من غطفان بعث النبي صلى الله عليه وسلم جيشا إلى قومه عليهم غالب الليثي ففر أصحابه ولم يفر قال إني مؤمن فصبحته الخيل فسلم عليهم فقتلوه وأخذوا غنمه فأنزل الله هذه الآية وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برد أمواله إلى أهله وبديته إليهم ونهى المؤمنين عن مثل ذلك وكذلك خالد بن الوليد قد قتل بني جذيمة متأولا ورفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ومع هذا فلم يقتله النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان متأولا فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتله مع قتله غير واحد من

5

519

المسلمين من بني جذيمة للتأويل فلأن لا يقتله أبو بكر لقتله مالك ابن نويرة بطريق الأولى والأحرى وقد تقدم ما ذكره هذا الرافضي من فعل خالد ببني جذيمة وهو يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتله فكيف لم يجعل ذلك حجة لأبي بكر في أن لا يقتله لكن من كان متبعا لهواه أعماه عن اتباع الهدى وقوله إن عمر أشار بقتله فيقال غاية هذا أن تكون مسألة اجتهاد كان رأي أبي بكر فيها أن لا يقتل خالدا وكان رأي عمر فيها قتله وليس عمر بأعلم من أبي بكر لا عند السنة ولا عند الشيعة ولا يجب على أبي بكر ترك رأيه لرأي عمر ولم يظهر بدليل شرعي أن قول عمر هو الراجح فكيف يجوز أن يجعل مثل هذا عيبا لأبي بكر إلا من هو من أقل الناس علما ودينا وليس عندنا أخبار صحيحة ثابتة بأن الأمر جرى على وجه يوجب قتل خالد وأما ما ذكره من تزوجه بامرأته ليلة قتله فهذا مما لم يعرفه ثبوته ولو ثبت لكان هناك تأويل يمنع الرجم والفقهاء مختلفون في عدة الوفاة هل تجب للكافر على قولين وكذلك تنازعوا هل يجب على الذمية عدة وفاة على قولين مشهورين للمسلمين بخلاف عدة الطلاق فإن تلك سببها الوطء فلا بد من براءة الرحم وأما عدة الوفاة فتجب

5

520

بمجرد العقد فإذا مات قبل الدخول بها فهل تعتد من الكافر أم لا فيه نزاع وكذلك إن كان دخل بها وقد حاضت بعد الدخول حيضة هذا إذا كان الكافر أصليا وأما المرتد إذا قتل أو مات على ردته ففي مذهب الشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد ليس عليها عدة وفاة بل عدة فرقة بائنة لأن النكاح بطل بردة الزوج وهذه الفرقة ليست طلاقا عند الشافعي وأحمد وهي طلاق عند مالك وأبي حنيفة ولهذا لم يوجبوا عليها عدة وفاة بل عدة فرقة بائنة فإن كان لم يدخل بها فلا عدة عليها كما ليس عليها عدة من الطلاق ومعلوم أن خالدا قتل مالك بن نويرة لأنه رآه مرتدا فإذا كان لم يدخل بامرأته فلا عدة عليها عند عامة العلماء وإن كان قد دخل بها فإنه يجب عليها استبراء بحيضة لا بعدة كاملة في أحد قوليهم وفي الآخر بثلاث حيض وإن كان كافرا أصليا فليس على أمرأته عدة وفاة في أحد قوليهم وإذا كان الواجب استبراء بحيضة فقد تكون حاضت ومن الفقهاء من يجعل بعض الحيضة استبراء فإذا كانت في آخر الحيض جعل ذلك استبراء لدلالته على براءة الرحم وبالجملة فنحن لم نعلم أن القضية وقعت على وجه لا يسوغ فيها الاجتهاد والطعن بمثل ذلك من قول من يتكلم بلا علم وهذا مما حرمه الله ورسوله

5

521

فصل قال الرافضي وخالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم في توريث بنت النبي صلى الله عليه وسلم ومنعها فدكا وتسمى بخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير أن يستخلفه والجواب أما الميراث فجميع المسلمين مع أبي بكر في ذلك ما خلا بعض الشيعة وقد تقدم الكلام في ذلك وبينا أن هذا من العلم الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأن قول الرافضة باطل قطعا وكذلك ما ذكر من فدك والخلفاء بعد أبي بكر على هذا القول وأبو بكر وعمر لم يتعلقا من فدك ولا غيرها من العقار بشيء ولا أعطيا أهلهما من ذلك شيئا وقد أعطيا بني هاشم أضعاف أضعاف ذلك ثم لو احتج محتج بأن عليا كان يمنع المال ابن عباس وغيره من بني هاشم حتى أخذ ابن عباس بعض مال البصرة وذهب له لم يكن الجواب عن علي إلا بأنه إمام عادل قاصد للحق لا يتهم في ذلك وهذا الجواب هو في حق أبي بكر بطريق الأولى والأحرى وأبو بكر

5

522

أعظم محبة لفاطمة ومراعاة لها من علي لابن عباس وابن عباس بعلي أشبه من فاطمة بأبي بكر فإن فضل أبي بكر على فاطمة أعظم من فضل علي على ابن عباس وليس تبرئة الإنسان لفاطمة من الظن والهوى بأولى من تبرئة أبي بكر فإن أبا بكر إمام لا يتصرف لنفسه بل للمسلمين والمال لم يأخذه لنفسه بل للمسلمين وفاطمة تطلب لنفسها وبالضرورة نعلم أن بعد الحاكم عن اتباع الهوى أعظم من بعد الخصم الطالب لنفسه فإن علم أبي بكر وغيره بمثل هذه القضية لكثرة مباشرتهم للنبي صلى الله عليه وسلم أعظم من علم فاطمة وإذا كان أبو بكر أولى بعلم مثل ذلك وأولى بالعدل فمن جعل فاطمة أعلم منه في ذلك وأعدل كان من أجهل الناس لا سيما وجميع المسلمين الذين لا غرض لهم هم مع أبي بكر في هذه المسألة فجميع أئمة الفقهاء عندهم أن الأنبياء لا يورثون مالا وكلهم يحب فاطمة ويعظم قدرها رضي الله عنها لكن لا يترك ما علموه من قول النبي صلى الله عليه وسلم لقول أحد من الناس ولم يأمرهم الله ورسوله أن يأخذوا دينهم من غير محمد صلى الله عليه وسلم لا عن أقاربه ولا عن غير أقاربه وإنما أمرهم الله بطاعة الرسول وأتباعه

5

523

وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال لا أفلح قوم ولوا أمرهم أمرأة فكيف يسوغ للأمة أن تعدل عما علمته من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يحكى عن فاطمة في كونها طلبت الميراث تظن أنها ترث فصل وأما تسميته بخليفة رسول الله فإن المسلمين سموه بذلك فإن كان الخليفة هو المستخلف كما ادعاه هذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استخلفه كما يقول ذلك من يقول من أهل السنة وإن كان

5

524

الخليفة هو الذي خلف غيره وإن كان لم يستخلفه ذلك الغير كما يقوله الجمهور لم يحتج في هذا الإسم إلى الإستخلاف والإستعمال الموجود في الكتاب والسنة يدل على أن هذا الإسم يتناول كل من خلف غيره سواء استخلفه أو لم يستخلفه كقوله تعالى ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعلمون سورة يونس وقوله تعالى وهو الذي جعلكم خلائف الأرض الآية سورة الإنعام وقال ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون سورة الزخرف وقوله واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح سورة الأعراف وفي القصة الأخرى خلفاء من بعد عاد سورة الأعراف وقال موسى لأخيه هارون أخلفني في قومي سورة الأعراف فهذا استخلاف وقال تعالى وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر سورة الفرقان وقال إن في اختلاف الليل والنهار سورة يونس أي هذا يخلف هذا وهذا يخلف هذا فهما يتعاقبان وقال موسى عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف

5

525

تعملون سورة الأعراف وقال تعالى وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم سورة النور وقال للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة سورة البقرة وقال يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض سورة ص فغالب هذه المواضع ليكون الثاني خليفة عن الأول وإن كان الأول لم يستخلفه وسمي الخليفة خليفة لأنه يخلف من قبله والله تعالى جعله يخلفه كما جعل الليل يخلف النهار والنهار يخلف الليل ليس المراد أنه خليفة عن الله كما ظنه بعض الناس كما قد بسطناه في موضع آخر والناس يسمون ولاة أمور المسلمين الخلفاء وقال النبي صلى الله عليه وسلم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ومعلوم أن عثمان لم يستخلف عليا وعمر لم يستخلف واحدا معينا وكان يقول إن أستخلف فإن أبا بكر استخلف وإن لم استخلف فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستخلف وكان مع هذا يقول لأبي بكر يا خليفة رسول الله وكذلك خلفاء بني أمية وبني العباس كثير منهم لم يستخلفه من قبله فعلم إن الإسم عام فيمن خلف غيره

5

526

وفي الحديث إن صح وددت أني رأيت أو قال رحمة الله على خلفائي قالوا ومن خلفاؤك يا رسول الله قال الذين يحيون سنتي ويعلمونها الناس وهذا إن صح من قول النبي صلى الله عليه وسلم فهو حجة في المسألة وإن لم يكن من قوله فهو يدل على أن الذي وضعه كان من عادتهم استعمال لفظ الخليفة فيمن خلف غيره وإن لم يستخلفه فإذا قام مقامه وسد مسده في بعض الأمور فهو خليفة عنه في ذلك الأمر تم بحمد الله