Difa e Islam | الدفاع عن الإسلام | دفاع الإسلام |
تغيير اللغة:

منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية - شيخ الإسلام ابن تيمية - ج8

الكاتب : شيخ الإسلام ابن تيمية ..

بسم الله الرحمن الرحيم 

اسم الكتاب

منهاج السنة النبوية

اسم المؤلف

شيخ الإسلام بن تيمية

عدد الاجزاء

دار النشر

مدينة النشر

سنة النشر

رقم الطبعة

8

مؤسسة قرطبة

 

1406

الأولى

اسم المحقـق

د. محمد رشاد سالم

الجزء

 الصفحة

محتوى الصفحة

8

5

فصل قال الرافضي وأما علم الكلام فهو أصله ومن خطبة تعلم الناس وكل الناس تلاميذه والجواب أن هذا الكلام كذب لا مدح فيه فإن الكلام المخالف للكتاب والسنة باطل وقد نزه الله عليا عنه ولم يكن في الصحابة والتابعين أحد يستدل على حدوث العالم بحدوث الأجسام ويثبت حدوث الأجسام بدليل الأعراض والحركة والسكون والأجسام مستلزمة لذلك لا تنفك عنه وما لا يسبق الحوادث فهو حادث ويبنى ذلك على حوادث لا أول لها بل أول ما ظهر هذا الكلام في الإسلام بعد المائة الأولى من جهة الجعد بن درهم والجهم بن صفوان ثم صار إلى أصحاب عمرو بن عبيد كأبي الهذيل العلاف وأمثاله وعمرو بن عبيد واصل بن عطاء إنما كانا يظهران الكلام في إنفاذ الوعيد وأن النار لا يخرج منها من دخلها وفي التكذيب بالقدر وهذا كله مما نزه الله عنه عليا

8

6

وليس في الخطب الثابتة عن علي شيء من أصول المعتزلة الخمسة بل كل ذلك إذا نقل عنه فهو كذب عليه وقدماء المعتزلة لم يكونوا يعظمون عليا بل كان فيهم من يشك في عدالته ويقول قد فسق عند إحدى الطائفتين لا بعينها إما علي وإما طلحة والزبير فإذا شهد أحدهما لم أقبل شهادته وفي قبول شهادة علي منفردة قولان لهم وهذا معروف عن عمرو بن عبيد وأمثاله من المعتزلة والشيعة القدماء كلهم كالهشامين وغيرهما يثبتون الصفات ويقرون بالقدر على خلاف قول متأخري الشيعة بل يصرحون بالتجسيم ويحكى عنهم فيه شناعات وهم يدعون أنهم أخذوا ذلك عن أهل البيت

8

7

وقد ثبت عن جعفر الصادق أنه سئل عن القرآن أخالق هو أم مخلوق فقال ليس بخالق ولا مخلوق لكنه كلام الله وأما قول الرافضي إن واصل بن عطاء أخذ عن أبي هاشم ابن محمد بن الحنفية فيقال إن الحسن بن محمد بن الحنفية قد وضع كتابا في الإرجاء نقيض قول المعتزلة ذكر هذا غير واحد من أهل العلم وهذا يناقض مذهب المعتزلة الذي يقول به واصل بن عطاء ويقال إنه أخذه عن أبي هاشم

8

8

وقيل إن أبا هاشم هذا صنف كتابا أنكر عليه لم يوافقه عليه أخوه ولا أهل بيته ولا أخذه عن أبيه وبكل حال الكتاب الذي نسب إلى الحسن يناقض ما ينسب إلى أبي هاشم وكلاهما قد قيل إنه رجع عن ذلك ويمتنع أن يكونا أخذا هذين المتناقضين عن أبيهما محمد بن الحنفية وليس نسبة أحدهما إلى محمد بأولى من الآخر فبطل القطع بكون محمد بن الحنفية كان يقول بهذا وبهذا يل المقطوع به أن محمدا مع براءته من قول المرجئة فهو من قوله المعتزلة أعظم براءة وأبو علي أعظم براءة من المعتزلة والمرجئة منه وأما الأشعري فلا ريب عنه أنه كان تلميذا لأبي علي الجبائي لكنه

8

9

فارقه ورجع عن جمل مذهبه وإن كان قد بقي عليه شيء من أصول مذهبه لكنه خالفه في نفي الصفات وسلك فيها طريقة ابن كلاب وخالفهم في القدر ومسائل الإيمان والأسماء والأحكام وناقضهم في ذلك أكثر من مناقضة حسين النجار وضرار بن عمرو ونحوهما ممن هو متوسط في هذا الباب كجمهور الفقهاء وجمهور أهل الحديث حتى مال في ذلك إلى قول جهم وخالفهم في الوعيد وقال بمذهب الجماعة وانتسب إلى مذهب أهل الحديث والسنة كأحمد بن حنبل وأمثال وبهذا اشتهر عند الناس فالقدر الذي يحمد من مذهبه هو ما وافق فيه أهل السنة والحديث كالجمل الجامعة وأما القدر الذي يذم من مذهبه فهو ما وافق فيه المخالفين للسنة والحديث من المعتزلة والمرجئة والجهمية والقدرية ونحو ذلك وأخذ مذهب أهل الحديث عن زكريا بن يحيى الساجي بالبصرة وعن طائفة ببغداد من أصحاب أحمد وغيرهم وذكر في المقالات ما اعتقد أنه مذهب أهل السنة والحديث وقال بكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب

8

10

وهذا المذهب هو من أبعد المذاهب عن مذهب الجهمية والقدرية وأما الرافضة كهذا المصنف وأمثاله من متأخري الإمامية فإنهم جمعوا أخس المذاهب مذهب الجهمية في الصفات ومذهب القدرية في أفعال العباد ومذهب الرافضة في الإمامة والتفضيل فتبين أن ما نقل عن علي من الكلام فهو كذب عليه ولا مدح فيه وأعظم من ذلك أن القرامطة الباطنية ينسبون قولهم إليه وأنه أعطى علما باطنا مخالفا للظاهر وقد ثبت في الصحيح عنه أنه قال والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما عهد إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس إلا ما في هذه الصحيفة وكان فيها العقل وفكاك الأسرى وأن لا يقتل مسلم بكافر إلا فهما يؤتيه الله عبدا في الكتاب ومن الناس من ينسب إليه الكلام في الحوادث كالجفر وغيره وآخرون ينسبون إليه البطاقة وأمورا أخرى يعلم أن عليا بريء منها

8

11

وكذلك جعفر الصادق قد كذب عليه من الأكاذيب مالا يعلمه إلا الله حتى نسب إليه القول في أحكام النجوم والرعود والبروق والقرعة التي هي من الاستقسام بالأزلام ونسب إليه كتاب منافع سور القرآن وغير ذلك مما يعلم العلماء أن جعفرا رضي الله عنه بريء من ذلك وحتى نسب إليه أنواع من تفسير القرآن على طريقة الباطنية كما ذكر ذلك عنه أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب حقائق التفسير فذكر قطعة من التفاسير التي هي من تفاسيره وهي من باب تحريف الكلم عن مواضعه وتبديل مراد الله تعالى من الآيات بغير مراده وكل ذي علم بحاله يعلم أنه كان بريئا من هذه الأقوال والكذب على الله في تفسير كتابه العزيز وكذلك قد نسب إليه بعضهم الكتاب الذي يسمى رسائل إخوان الكدر وهذا الكتاب صنف بعد جعفر الصادق بأكثر من مائتي سنة فإن جعفرا توفي سنة ثمان وأربعين ومائة وهذا الكتاب صنف في أثناء الدولة العبيدية الباطنية الإسماعيلية لما استولوا على مصر وبنوا القاهرة صنفه طائفة من الذين أرادوا أن يجمعوا بين الفلسفة والشريعة والتشيع كما كان يسلكه هؤلاء العبيديون الذين كانوا يدعون أنهم من ولد علي

8

12

وأهل العلم بالنسب يعلمون أن نسبهم باطل وأن جدهم يهودي في الباطن وفي الظاهر وجدهم ديصاني من المجوس تزوج أمرأة هذا اليهودي وكان ابنه ربيبا لمجوسي فانتسب إلى زوج أمه المجوسي وكانوا ينتسبون إلى بأهله على أنهم من مواليهم وادعى هو أنه من ذرية محمد بن إسماعيل بن جعفر وإليه انتسب الإسماعيلية وادعوا أن الحق معهم دون الاثني عشرية فإن الإثنى عشرية يدعون إمامه موسى ابن جعفر وهؤلاء يدعون إمامه إسماعيل بن جعفر وأئمة هؤلاء في الباطن ملاحدة زنادقة شر من الغالية ليسوا من جنس الاثنى عشرية لكن إنما طرقهم على هذا المذاهب الفاسدة ونسبتها إلى علي ما فعلته الاثنا عشرية وأمثالهم كذب أولئك عليه نوعا من الكذب ففرعه هؤلاء وزادوا عليه حتى نسبوا الإلحاد إليه كما نسب هؤلاء إليه مذهب الجهمية والقدرية وغير ذلك ولما كان هؤلاء الملاحدة من الإسماعيلية والنصيرية ونحوهم ينتسبون إلى علي وهم طرقية وعشرية وغرباء وأمثال هؤلاء صاروا يضيفون إلى علي ما براه الله منه حتى صار اللصوص من العشرية يزعمون أن معهم كتابا من علي بالإذن لهم في سرقة أموال الناس كما ادعت اليهود الخيابرة أن معهم كتابا من على بإسقاط الجزية عنهم

8

13

وإباحة عشر أموال أنفسهم وغير ذلك من الأمور المخالفة لدين الإسلام وقد أجمع العلماء على أن هذا كله كذب على علي وهو من أبرأ الناس من هذا كله ثم صار هؤلأء يعدون ما افتروه عليه من هذه الأمور مدحا له يفضلونه بها على الخلفاء قبله ويجعلون تنزه أولئك من مثل الإباطيل عيبا فيهم وبغضا حتى صار رؤوس الباطنية تجعل منتهى الإسلام وغايته هو الإقرار بربوبية الأفلاك وأنه ليس وراء الأفلاك صانع لها ولا خالق ويجعلون هذا هو باطن دين الإسلام الذي بعث به الرسول وأن هذا هو تأويله وأن هذا التأويل ألقاه على إلى الخواص حتى اتصل بمحمد ابن إسماعيل بن جعفر وهو عندهم القائم ودولته هي القائمة عندهم وأنه ينسخ ملة محمد بن عبدالله ويظهر التأويلات الباطنة التي يكتمها التي أسرها إلى علي وصار هؤلاء يسقطون عن خواص أصحابهم الصلاة والزكاة والصيام والحج ويبيحون لهم المحرمات من الفواحش والظلم والمنكر وغير ذلك

8

14

وصنف المسلمون في كشف أسرارهم وهتك أستارهم كتبا معروفة لما علموه من إفسادهم الدين والدنيا وصنف فيهم القاضي عبد الجبار والقاضي أبو بكر بن الطيب وأبو يعلى والغزالي وابن عقيل وأبو عبد الله الشهرستاني وطوائف غير هؤلاء وهم الملاحدة الذين ظهروا بالمشرق والمغرب واليمن والشام ومواضع متعددة كأصحاب الألموت وأمثالهم وكان من أعظم ما به دخل هؤلاء على المسلمين وأفسدوا الدين هو طريق الشيعة لفرط جهلهم وأهوائهم وبعدهم من دين الإسلام وبهذا وصوا دعاتهم أن يدخلوا على المسلمين من باب التشيع وصاروا يستعينون بما عند الشيعة من الأكاذيب والأهواء ويزيدون هم على ذلك ما ناسبهم من الافتراء حتى فعلوا في أهل الإيمان مالم يفعله عبدة الأوثان والصلبان وكان حقيقة أمرهم دين فرعون الذي هو شر من دين اليهود والنصارى وعباد الأصنام وأول دعوتهم التشيع وآخرها الانسلاخ من الإسلام بل من الملل كلها ومن عرف أحوال الإسلام وتقلب الناس فيه فلا بد أنه قد عرف شيئا من هذا

8

15

وهذا تصديق لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن وفي الحديث الآخر المتفق عليه لتأخذن أمتي مأخذ الأمم قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع قالوا يا رسول الله فارس والروم قال ومن الناس إلا هولاء وهذا بعينه صار في هؤلاء المنتسبين إلى التشيع فإن هؤلاء الإسماعيلية أخذوا من مذاهب الفرس وقولهم بالأصلين النور والظلمة وغير ذلك أمورا وأخذوا من مذاهب الروم من النصرانية وما كانوا عليه قبل النصرانية من مذهب اليونان وقولهم بالنفس والعقل وغير ذلك امورا ومزجوا هذا بهذا وسموا ذلك باصطلاحهم السابق والتالي وجعلوه هو القلم واللوح وأن القلم هو العقل الذي يقول هؤلاء إنه أول المخلوقات واحتجوا بحديث يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أول ما خلق الله العقل قال له أقبل فأقبل فقال له أدبر فأدبر فقال وعزتي ما خلقت خلقا أكرم علي منك فبك آخذ وبك أعطى وبك الثواب وبك العقاب وهذا الحديث رواه بعض من صنف في فضائل العقل كداود بن

8

16

المحبر ونحوه وهو حديث موضوع كذب على النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل المعرفة بالحديث كما ذكر ذلك أبو حاتم بن حبان البستي والدارقطني وابن الجوزي وغيرهم لكن لما وافق رأي هؤلاء استدلوا به على عادتهم مع أن لفظ الحديث يناقض مذهبهم فإن لفظه أول بالنصب وروى أنه لما خلق الله العقل أي أنه قال له هذا الكلام في أول أوقات خلقه فالمراد به أنه خاطبه حين خلقه لا أنه أول المخلوقات ولهذا قال في أثنائه ما خلقت خلقا أكرم علي منك فدل على أنه خلق قبله غيره ووصفه بأنه يقبل ويدبر

8

17

والعقل الأول عندهم يمتنع عليه هذا وقال بك آخذ وبك أعطى وبك الثواب وهذا العقل عندهم هو رب العالم كله هو المبدع له كله وهو معلول الأول لا يختص به أربعة أعراض بل هو عندهم مبدع الجواهر كلها العلوية والسفلية والحسية والعقلية والعقل في لغة المسلمين عرض قائم بغيره وإما قوة في النفس وأما مصدر العقل عقل يعقل عقلا وأما العاقل فلا يسمى في لغتهم العقل وهؤلاء في اصطلاحهم العقل جوهر قائم بنفسه وقد بسطنا الكلام على هذا وبينا حقيقة أمره بالمعقول والمنقول وأن ما يثبتونه من المفارقات عند التحقيق لا يرجع إلا إلى أمر وجودها في الأذهان لا في الأعيان إلا النفس الناطقة وقد أخطأوا في بعض صفاتها وهؤلاء قولهم إن العالم معلول علة قديمة أزلية واجبة الوجود وإن العالم لازم لها لكن حقيقة قولهم إنه علة غائية وإن الأفلاك تتحرك حركة إرادية شوقية للتشبه به وهو محرك لها كما يحرك

8

18

المحبوب المتشبه به لمحبه الذي يتشبه به ومثل هذا لا يوجب أن يكون هو المحدث لتصوراته وإرادته وحركاته فقولهم في حركة الفلك من جنس قول القدرية في أفعال الحيوان لكن هؤلاء يقولون حركة الفلك هي سبب الحوادث فحقيقة قولهم إن الحوادث كلها تحدث بلا محدث أصلا وإن الله لا يفعل شيئا ولكل مقام مقال وهم جعلوا العلم الأعلى والفلسفة الأولى هو العلم الباطن في الوجود ولواحقه وقسموا الوجود إلى جوهر وعرض ثم قسموا الأعراض إلى تسعة أجناس ومنهم من ردها إلى خمسة ومنهم من ردها إلى ثلاثة فإنه لم يقم لها دليل على الحصر وقسموا الجواهر إلى خمسة أنواع العقل والنفس والمادة والصورة والجسم وواجب الوجود تارة يسمونه جوهرا وهو قول قدمائهم كأرسطو وغيره وتارة لا يسمونه بذلك كما قاله ابن سينا وكان قدماء القوم يتصورون في أنفسهم أمورا عقلية فيظنونها ثابتة في الخارج كما يحكى عن شيعة فيثاغورس وأفلاطون وأن أولئك أثبتوا أعدادا مجردة في الخارج وهؤلاء أثبتوا المثل الأفلاطونية وهي الكليات المجردة عن الأعيان وأثبتوا المادة المجردة وهي الهيولي الأولية وأثبتوا المدة

8

19

المجردة وهي الدهر العقلي المجرد عن الجسم وأعراضه وأثبتوا الفضاء المجرد عن الجسم وأعراضه وارسطو وأتباعه خالفوا سلفهم في ذلك ولم يثبتعوا من هذه شيئا مجردا ولكن أثبتوا المادة المقارنة للصورة وأثبتوا الكليات المقارنة للأعيان وأثبتوا العقول العشرة وأما النفس الفلكية فأكثرهم يجعلها قوة جسمانية ومنهم من يقول هي جوهر قائم بنفسه كنفس الإنسان ولفظ الصورة يريدون به تارة ما هو عرض كالصورة الصناعية مثل شكل السرير والخاتم والسيف وهذه عرض قائم بمحله والمادة هنا جوهر قائم بنفسه ويريدون بالصورة تارة الصورة الطبيعية وبالمادة المادة الطبيعية ولا ريب أن الحيوان والمعادن والنبات لها صورة هي خلقت من مواد لكن يعنون بالصورة جوهرا قائما بنفسه وبالمادة جوهرا آخر مقارنا لهذه وآخرون في مقابلتهم من أهل الكلام القائلين بالجوهر الفرد ويزعمون أنه ما ثم من حادث يعلم حدوثه بالمشاهدة إلا الأعراض وأنهم لا يشهدون حدوث جوهر من الجواهر

8

20

وكلا القولين خطأ وقد بسطنا عليهما في غير هذا الموضع وقد يراد بالمادة الكلية المشتركة بين الأجسام وبالصورة الصورة الكلية المشتركة بين الأجسام ويدعون أن كليهما جوهر عقلي وهو غلط فإن المشترك بين الأجسام أمر كلي والكليات لا توجد كليات إلا في الأذهان لا في الأعيان وكل ما وجد في الخارج فهو مميز بنفسه عن غيره لا يشركه فيه غيره إلا في الذهن إذا أخذ كليا والأجسام يعرض لها الاتصال والانفصال وهو الاجتماع والافتراق وهما من الأعراض ليس الانفصال شيئا قائما بنفسه كما أن الحركة ليست شيئا قائما بنفسه غير الجسم المحسوس يرد عليه الاتصال والانفصال ويسمونه الهيولي والمادة وهذا وغيره مبسوط في غير هذا الموضع وكثير من الناس قد لا يفهمون حقيقة ما يقولون وما يقول غيرهم وما جاءت به الرسل حتى يعرفوا ما فيه من حق وباطل فيعلمون هل هم موافقون لصريح المعقول أو هم مخالفون له ومن أراد التظاهر بالإسلام منهم عبر عن ذلك بالعبارات الإسلامية فيعبر عن الجسم بعالم الملك وعن النفس بعالم الملكوت وعن العقل بعالم الجبروت أو بالعكس ويقولون إن العقول والنفوس هي الملائكة

8

21

وقد يجعلون قوى النفس التي تقتضي فعل الخير هي الملائكة وقواها التي تقتضي الشر هي الشياطين وأن الملائكة التي تنزل على الرسل والكلام الذي سمعه موسى بن عمران إنما هو في نفوس الأنبياء ليس في الخارج بمنزله ما يراه النائم وما يحصل لكثير من الممرورين وأصحاب الرياضة حيث يتخيل في نفسه أشكالا نورانية ويسمع في نفسه أصواتا فتلك هي عندهم ملائكة الله وذلك هو كلام الله ليس له كلام منفصل ولهذا يدعى أحدهم أن الله كلمة كما كلم موسى بن عمران أو أعظم مما كلم موسى لأن موسى كلم عندهم بحروف وأصوات في نفسه وهم يكلمون بالمعاني المجردة العقلية وصاحب مشكاة الأنوار والكتب المضنون بها على غير أهلها وقع في كلامه قطعة من هذا النمط وقد كفرهم بذلك في مواضع آخر ورجع عن ذلك واستقر أمرة على مطالعة البخاري ومسلم وغيرهما ومن هنا سلك صاحب خلع النعلين ابن قسى وأمثاله وكذلك

8

22

ابن عربي صاحب فصوص الحكم والفتوحات المكية ولهذا أدعى أنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الأنبياء والنبي عنده يأخذ من الملك الذي يوحى به إلى الرسل لأن النبي عنده يأخذ من الخيالات التي تمثلت في نفسه لما صورت له المعاني العقلية في الصور الخيالية وتلك الصور عنده هي الملائكة وهي بزعمه تأخذ عن عقله المجرد قبل أن تصير خيالا ولهذا يفضل الولاية على النبوة ويقول مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولى والولى على أصله الفاسد يأخذ عن الله بلا واسطة لأنه يأخذ عن عقله وهذا عندهم هو الأخذ عن الله بلا واسطة إذ ليس عندهم ملائكة منفصلة تنزل بالوحي والرب عندهم ليس هو موجودا مباينا

8

23

للمخلوقات بل هو وجود مطلق أو مشروط بنفي الأمور الثبوتية عن الله أو نفي الأمور الثبوتية والسلبية وقد يقولون هو وجود المخلوقات أو حال فيها أو لا هذا ولا هذا فهذا عندهم غاية كل رسول ونبي النبوة عندهم الأخذ عن القوة المتخيلة التي صورت المعاني العقلية في المثل الخيالية ويسمونها القوة القدسية فلهذا جعلوها الولاية فوق النبوة وهؤلاء من جنس القرامطة الباطنية الملاحدة لكن هؤلاء ظهروا في قالب التصوف والتنسك ودعوى التحقيق والتأله وأولئك ظهروا في قالب التشيع والموالاة فأولئك يعظمون شيوخهم حتى يجعلوهم أفضل من الأنبياء وقد يعظمون الولاية حتى يجعلوها أفضل من النبوة وهؤلاء يعظمون أمر الإمامة حتى قد يجعلون الأئمة أعظم من الأنبياء والإمام أعظم من النبي كما يقوله الإسماعيلية وكلاهما أساطين الفلاسفة الذين يجعلون النبي فيلسوفا ويقولون إنه يختص بقوة قدسية ثم منهم من يفضل النبي على الفيلسوف ومنهم من يفضل الفيلسوف على النبي ويزعمون أن النبوة

8

24

مكتسبة وهؤلاء يقولون إن النبوة عبارة عن ثلاث صفات من حصلت له فهو نبي أن يكون له قوة قدسية حدسية ينال بها العلم بلا تعلم وأن تكون نفسه قوية لها تأثير في هيولى العالم وأن يكون له قوة يتخيل بها ما يعقله ومرئيا في نفسه ومسموعا في نفسه هذا كلام ابن سينا وأمثاله في النبوة وعنه أخذ ذلك العزالي في كتبه المضنون بها على غير أهلها وهذا القدر الذي ذكروه يحصل لخلق كثير من آحاد الناس ومن المؤمنين وليس هو من أفضل عموم المؤمنين فضلا عن كونه نبيا كما بسط في موضعه وهؤلاء قالوا هذا لما احتاجوا إلى الكلام في النبوة على أصول سلفهم الدهرية القائلين بأن الأفلاك قديمة أزلية لا مفعولة لفاعل بقدرته واختياره وأنكروا علمه بالجزئيات ونحو ذلك من أصولهم الفاسدة فتكلم هؤلاء في النبوة على أصول أولئك وأما القدماء ارسطو وأمثاله فليس لهم في النبوة كلام محصل والواحد من هؤلاء يطلب أن يصير نبيا كما كان السهروردي المقتول يطلب أن يصير نبيا وكان قد جمع بين النظر والتأله وسلك نحوا من مسلك الباطنية وجمع بين فلسفة الفرس واليونان وعظم أمر الأنوار وقرب دين المجوس الأول وهو نسخة الباطنية الإسماعيلية وكان له

8

25

يد في السحر والسيمياء فقتله المسلمون على الزندقة بحلب في زمن صلاح الدين وكذلك ابن سبعين الذي جاء من المغرب إلى مكة وكان يطلب أن يصير نبيا وجدد غار حراء الذي نزل فيه الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم ابتداء وحكى عنه أنه كان يقول لقد ذرب ابن آمنة حيث قال لا نبي بعدي وكان بارعا في الفلسفة وفي تصوف المتفلسفة وما يتعلق بذلك وهو وابن عربي وأمثالهما كالصدر القونوي وابن الفارض والتلمساني منتهى أمرهم القول بوحدة الوجود وأن الوجود الواجب القديم الخالق هو الوجود الممكن المحدث المخلوق ما ثم لا غير ولا سوى لكن لما رأوا تعدد المخلوقات صاروا تارة يقولون مظاهر ومجالي فإذا قيل لهم فإن كانت المظاهر أمرا وجوديا تعدد الوجود وإلا لم يكن لها حينئذ حقيقة وما هو نحو هذا الكلام الذي يبين أن الوجود نوعان خالق ومخلوق قالوا نحن نثبت عندنا في الكشف ما يناقص صريح العقل ومن

8

26

أراد أن يكون محققا مثلنا فلا بد أن يلتزم الجمع بين النقيضين وأن الجسم الواحد يكون في وقت واحد في موضعين وهؤلاء الأصناف قد بسط الكلام عليهم في غير هذا الموضع فإن هؤلاء يكثرون في الدول الجاهلية وعامتهم تميل إلى التشيع كما عليه ابن عربي وابن سبعين وأمثالهما فاحتاج الناس إلى كشف حقائق هؤلاء وبيان أمورهم على الوجه الذي يعرف به الحق من الباطل فإن هؤلاء يدعون في أنفسهم أنهم أفضل أهل الأرض وأن الناس لا يفهمون حقيقة إشاراتهم فلما يسر الله أني بينت لهم حقائقهم وكتبت في ذلك من المصنفات ما علموا به أن هذا هو تحقيق قولهم وتبين لهم بطلانه بالعقل الصريح والنقل الصحيح والكشف المطابق رجع عن ذلك من علمائهم وفضلائهم من رجع وأخذ هؤلاء يثبتون للناس تناقضهم ويردونهم إلى الحق وكان من أصول ضلالهم ظنهم أن الوجود المطلق يوجد في الخارج إما مطلق لا بشرط وإما مطلق بشرط فالمطلق لا

8

27

بشرط الذي يسمونه الكلي الطبيعي إذا قيل إنه موجود في الخارج فإن الذي يوجد في الخارج مقيدا معينا هو مطلق في الذهن مقيد في الخارج وأما من زعم أن في الذهن شيئا مطلقا وهو مطلق حال تحققه في الخارج فهو غالط غلطا ضل فيه كثير من أهل المنطق والفلسفة وأما المطلق بشرط الإطلاق فهو الوجود المقيد بسلب جميع الأمور الثبوتية والسلبية كما يوجد الإنسان مجردا عن كل قيد فإذا قلت موجود أو معدوم أو واحد أو كثير أو في الذهن أو في الخارج كان ذلك قيدا زائدا على الحقيقة المطلقة بشرط الإطلاق وهكذا الوجود تأخذه عن كل قيد ثبوتي وسلبي فلا تصفه لا بالصفات السلبية ولا الثبوتية وهذا هو واجب الوجود عند أئمة الباطنية كأبي يعقوب السجستاني صاحب الأقاليد الملكوتية وأمثاله لكن من هؤلاء من لا يعرف يرفع النقيضين فيقول لا موجود ولا معدوم ومنهم من يقول بل أمسك عن إثبات أحد النقيضين فلا أقول موجود ولا معدوم كأبي يعقوب وهو منتهى تجريد هؤلاء القائلين بوحدة الوجود

8

28

وابن سينا وأتباعه يقولون الوجود الواجب هو الوجود المقيد بسلب الأمور الثبوتية دون السلبية وهذا أبعد عن الوجود في الخارج من المقيد بسلب الوجود والعدم وإن كان ذلك ممتنعا في الموجود والمعدوم فقلت لأولئك المدعين للتحقيق أنتم بنيتم أمركم على القوانين المنطقية وهذا الوجود المطلق بشرط الإطلاق المقيد بسلب النقيضين عنه لا يوجد في الخارج باتفاق العقلاء وإنما يقدر في الذهن تقديرا وإلا فإذا قدرنا إنسانا مطلقا واشترطنا فيه أن لا يكون موجودا ولا معدوما ولا واحدا ولا كثيرا لم يوجد في الخارج بل نفرض في الذهن كما نفرض الجمع بين النقيضين ففرض رفع النقيضين كفرض الجمع بين النقيضين ولهذا كان هؤلاء تارة يصفونه بجمع النقيضين أو الإمساك عنهما كما يفعل ابن عربي وغيره كثيرا وتارة يجمعون بين هذا وهذا كما يوجد أيضا في كلام اصحاب البطاقة وغيرهم فإذا قالوا مع ذلك إنه مبدع العالم وشرطوا فيه أنه لا يوصف بثبوت ولا انتفاء كان تناقضا فإن كونه مبدعا لا يخرج عن هذا وهذا وكذلك إذا قالوا موجود واجب وشرطوا فيه التجريد عن النقيضين كان تناقضا

8

29

وحقيقة قولهم موجود لا موجود وواجب لا واجب وهذا منتهى أمرهم وهو الجمع بين النقيضين أو رفع النقيضين ولهذا يصيرون إلى الحيرة ويعظمونها وهي عندهم منتهى معرفة الأنبياء والأولياء والأئمة والفلاسفة ومن أصول ضلالهم ظنهم أن هذا تنزيه عن التشبيه وأنهم متى وصفوا بصفة إثبات أو نفي كان فيه تشبيه بذلك ولم يعلموا أن التشبيه المنفي عن الله هو ما كان وصفه بشيء من خصائص المخلوقين أو أن يجعل شيء من صفاته مثل صفات المخلوقين بحيث يجوز عليه ما يجوز عليهم أو يجب له ما يجب لهم أو يمتنع عليه ما يمتنع عليهم مطلقا فإن هذا هو التمثيل الممتنع المنفى بالعقل مع الشرع فيمتنع وصفه بشيء من النقائض ويمتنع مماثلة غيره له في شيء من صفات الكمال فهذان جماع لما ينزه الرب تعالى عنه كما بسطنا ذلك في مواضع كثيرة وعلى هذا وهذا دل قوله تعالى قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد سورة الإخلاص كما قد بسطنا ذلك في مصنف مفرد في تفسير هذه الشواهد فأما الموافقة في الاسم كحي وحي وموجود وموجود وعليم وعليم فهذا لا بد منه ويلزم من نفى هذا التعطيل المحض فإن كل

8

30

موجودين قائمين بأنفسهما فحينئذ لا بد أن يجمعهما اسم عام يدل على معنى عام لكن المعنى العام لا يوجد عاما إلا في الذهن لا في الخارج فإذا قيل هذا الموجود وهذا الموجود مشتركان في مسمى الوجود كان ما اشتركا فيه لا يوجد مشتركا إلا في الذهن لا في الخارج وكل موجود فهو يختص بنفسه وصفات نفسه لا يشركه غيره في شيء من ذلك في الخارج وإنما الاشتراك هو نوع من التشابه والاتفاق والمشترك فيه الكلي لا يوجد كذلك إلا في الذهن فإذا وجد في الخارج لم يوجد إلا متميزا عن نظيره لا يكون هو إياه ولا هما في الخارج مشتركان في شيء في الخارج فاسم الخالق إذا وافق اسم المخلوق كالموجود والحي وقيل إن هذا الاسم عام كلي وهو من الأسماء المتواطئة أو المشككة لم يلزم من ذلك أن يكون ما يتصف به الرب من مسمى هذا الاسم قد شاركه فيه المخلوق بل ولا يكون ما يتصف به أحد المخلوقين من مسمى هذا الاسم قد شاركه فيه مخلوق آخر بل وجود هذا يخصه

8

31

ووجود هذا يخصه لكن ما يتصف به المخلوق قد يماثل ما يتصف به المخلوق ويجوز على أحد المثلين ما يجوز على الآخر وأما الرب سبحانه وتعالى فلا يماثله شيء من الأشياء في شيء من صفاته بل التباين الذي بينه وبين كل واحد من خلقه في صفاته أعظم من التباين الذي بين أعظم المخلوقات وأحقرها وأما المعنى الكلي العام المشترك فيه فذاك كما ذكرنا لا يوجد كليا إلا في الذهن وإذا كان المتصفان به بينهما نوع موافقة ومشاركة ومشابهة من هذا الوجه فذاك لا محذور فيه فإنه ما يلزم ذلك القدر المشترك من وجوب وجواز وامتناع فإن الله متصف به فالموجود من حيث هو موجود أو العليم أو الحي مهما قيل إنه يلزمه من وجوب وامتناع وجواز فالله موصوف به بخلاف وجود المخلوق وحياته وعلمه فإن الله لا يوصف بما يختص به المخلوق من وجوب وجواز واستحالة كما أن المخلوق لا يوصف بما يختص به الرب من وجوب وجواز واستحالة فمن فهم هذا انحلت عنه إشكالات كثيرة يعثر فيها كثير من الأذكياء الناظرين في العلوم الكلية والمعارف الإلهية فهذا أحد أقوالهم في الوجود الواجب وهو المطلق بشرط الإطلاق عن النفي والإثبات وهو أكملها في التعطيل والإلحاد والثاني قول ابن سينا وأتباعه إنه هو الوجود المقيد بالقيود السلبية

8

32

لا الثبوتية وقد يعبر عنه بأنه الوجود المقيد تارة لا يعرض له شيء من الماهيات كما يعبر الرازي وغيره وهذه العبارات بناء على قولهم إن الوجود يعرض للماهية الممكنة فإن للناس ثلاثة أقوال قيل إن الوجود زائد على الماهية في الواجب والممكن كما يقول ذلك أبو هاشم وغيره وهو أحد قولي الرازي وقد يقوله بعض النظار من أصحاب أحمد وغيرهم وقيل بل الوجود في الخارج هو الحقيقة الثابتة في الخارج ليس هناك شيئان وهذا قول الجمهور من أهل الإثبات وهذا قول عامة النظار من مثبتة الصفات من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم لكن ظن الشهرستاني والرازي والأمدي ونحوهم أن قائل هذا القول يقول إن لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي ونقلوا ذلك عن الأشعري وغيره وهو غلط عليهم فإن أصحاب هذا القول هم جماهير الخلق من الأولين والآخرين وليس فيهم من يقول بأن لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي إلا طائفة قليلة وليس هذا قول الأشعري وأصحابه بل هم متفقون على أن الوجود ينقسم إلى قديم ومحدث واسم الوجود يعمهما لكن الأشعري ينفي الأحوال ويقول العموم والخصوص يعود إلى الأقوال ومقصوده أنه ليس في الخارج معنى كلي عام ليس مقصوده أن الذهن لا يقوم به معنى عام كلي

8

33

وهؤلاء االذين قالوا إن من قال وجود كل شيء هو نفس حقيقته الموجودة إنما هذا هو قول بالاشتراك اللفظي لأنهم قالوا إذا جعلنا الوجود عاما من الألفاظ المتواطئة المتساوية أو المتفاضلة التي تسمى المشككة وقلنا إن الوجود ينقسم إلى واجب وممكن وقديم ومحدث كان النوعان قد اشتركا في مسمى الوجود وهو كلي مطلق فلا بد أن يتميز أحدهما عن الآخر بما يخصه وهو حقيقة فيلزم أن يكون لكل منهما حقيقة غير الوجود فمن قال إن الشيء الموجود في الخارج ليس شيئا غير الحقيقة الموجودة في الخارج لم يمكنه أن يقول لفظ الوجود يعمهما بل يقول هو مقول عليهما بالاشتراك اللفظي وهذا غلط ضلت فيه طوائف كالرازي وأمثاله بيان ذلك من ثلاثة وجوه أحدها أن يقال لفظ الوجود كلفظ الحقيقة وكلفظ الماهية وكلفظ الذات والنفس فإذا قلتم الوجود ينقسم إلى واجب وممكن أو قديم ومحدث كان بمنزلة قولكم الحقيقة تنقسم إلى واجبة وممكنة أو إلى قديمة ومحدثة وبمنزلة قولهم الذات تنقسم إلى هذا وهذا وهذا والماهية تنقسم إلى هذا وهذا ونحو ذلك من الأسماء العامة وبمنزلة قولهم الشيء ينقسم إلى واجب وممكن وقديم وحادث وحينئذ فإذا قلتم يشتركان في الوجود أو الوجوب ويمتاز أحدهما

8

34

عن الآخر بالحقيقة أو الماهية كان بمنزلة أن يقال يشتركان في الماهية أو الحقيقة ويمتاز أحدهما عن الآخر بالوجود أو الوجوب فإن قلتم إنما اشتركا في الرجود العام الكلي وامتاز كل منهما بالحقيقة التي تخصه قيل وكذلك يقال إنما اشتركا في الحقيقة العامة الكلية وامتاز كل منهما بالوجود الذي يخصه فلا فرق حينئذ بين ما جعلتموه كليا مشتركا كالجنس والعرض العام وبين ما جعلتموه مختصا مميزا جزئيا كالفصل والخاصة لكن عمدتم إلى شيئين متساويين في العموم والخصوص فقدرتم أحدهما في حال عمومه والآخر في حال خصوصه فهذا كان من تقديركم وإلا فكل منهما يمكن فيه التقدير كما أمكن في الآخر وكل منهما في نفس الأمر مساو للآخر في عمومه وخصوصه وكونه مشتركا ومميزا فلا فرق في نفس الأمر بين ما جعلتموه جنسا أو عرضا عاما وما جعلتموه فصلا أو خاصة إلا أنكم قدرتم أحد المتساويين عاما والاخر خاصا الوجه الثاني أن يقال إذا قلتم الموجودان يشتركان في مسمى الوجود فلا بد أن يتميز أحدهما عن الآخر بأمر آخر قيل لكم المميز أن يكون وجودا خاصا فلم قلتم إنه

8

35

يكون شيء خارج عن مسمى الوجود حتى تثبتون حقيقة أخرى وهذا كما إذا قلنا الإنسانان يشتركان في مسمى الإنسانية وأحدهما يمتاز عن الآخر بخصوصية أخرى كان المميز إنسانيتة التي تخصه لم يحتج أن يجعل المميز شيئا غير الإنسانية يعرض له الإنسانية ولكن هؤلاء يظنون أن الأنواع المشتركة في كلي لا يفصل بينها إلا مواد أخرى وفي هذا الموضع كلام مبسوط على غلط أهل المنطق فيما غلطوا فيه في الكلمات وتقسيم الكليات وتركيب الحدود من الذاتيات وغير ذلك ومواد الأقيسة والفرق بين اليقيني وغير اليقيني منها وغير ذلك مما هو مكتوب في غير هذا الموضع الوجه الثالث أن يقال إذا قلنا الموجودان يشتركان في مسمى الوجود وأحدهما لا بد أن يمتاز عن الآخر فليس المراد أنهما اشتركا في أمر بعينه موجود في الخارج فإن هذا ممتنع بل المراد أنهما اتفقا في ذلك وتشابها فيه من هذه الجهة ونفس ما اشتركا فيه لا يكون بعينه مشتركا فيه إلا في الذهن لا في الخارج وإلا فنفس وجود هذا لم يشركه فيه هذا وحينئذ فإذا قلنا لفظ الوجود من الألفاظ العامة الكلية المتواطئة أو المشككة وهي المتواطئة التي تتفاضل معانيها لا تتماثل مع الاتفاق في أصل المسمى كالبياض المقول على بياض الثلج القوي وبياض

8

36

العاج الضعيف والسواد المقول على سواد القار وعلى سواد الحبشة والعلو المقول على علو السماء وعلى علو السقف والواسع المقول على البحر وعلى الدار الواسعة والوجود المقول على الواجب بنفسه وعلى الممكن الموجود بغيره وعلى القائم بنفسه والقائم بغيره والقديم المقول على العرجون وعلى ما لا أول له والمحدث المقول على ما أحدث في اليوم وعلى كل ما خلقه الله بعد أن لم يكن والحي الذي يقال على الإنسان والحيوان والنبات وعلى الحي القيوم الذي لا يموت أبدا بل أسماء الله الحسنى تعالى التي تسمى بها خلقه كالملك والسميع والبصير والعليم والخبير ونحو ذلك كلها من هذا الباب فإذا قيل في جميع الألفاظ العامة ومعانيها العامة سواء كانت متماثلة أو متفاضلة إن أفرادها اشتركت فيها أو اتفقت ونحو ذلك لم يرد به أن في الخارج معنى عاما يوجد عاما في الخارج وهو نفسه مشترك بل المراد أن الموجودات المعينة اشتركت في هذا العام الذي لا يكون عاما إلا في علم العالم كما أن اللفظ العام لا يكون عاما إلا في لفظ اللافظ والخط العام لا يكون عاما إلا في خط الكاتب والمراد بكونه عاما شموله للأفراد الخارجة لا أنه نفسه شيء

8

37

موجود يكون هو نفسه مع هذا المعين وهو نفسه مع هذا المعين فإن هذا مخالف للحس والعقل والمقصود هنا أن ابن سينا مذهبه أن الوجود الواجب لنفسه هو الوجود المقيد بسلب جميع الأمور الثبوتية لا بجعله مقيدا بسلب النقيضين أو بالإمساك عن النقيضين كما فعل السجستاني وأمثاله من القرامطة وغيرهم وعبر ابن سينا عن قولهم بأنه الوجود المقيد بأنه لا يعرض لشيء من الحقائق أو لشيء من الماهيات لاعتقادهم أن الوجود يعرض للممكنات وهو يقول وجود الواجب نفس ماهيته والجمهور من أهل السنة يقولون ذلك لكن الفرق بينهما أن عنده هو وجود مطلق بشرط سلب الماهيات عنه فليس له ماهية سوى الوجود المقيد بالسلب وأما الأنبياء وأتباعهم وجماهير العقلاء فيعلمون أن الله له حقيقة يختص بها لا تماثل شيئا من الحقائق وهي موجودة وطائفة من المعتزلة ومن وافقهم يقولون هي موجودة بوجود زائد على حقيقتها

8

38

وأما الجمهور فيقولون الحقائق المخلوقة ليست في الخارج إلا الموجود الذي هو الحقيقة التي في الخارج وإنما يحصل الفرق بينهما بأن يجعل أحدهما ذهنيا والآخر خارجيا فإذا جعلت الماهية أو الحقيقة أسما لما في الذهن كان ذلك غير ما في الخارج وأما إذا قيل الوجود الذهني فهو الماهية الذهنية وإذا قيل الماهية الخارجية فهي الوجود الخارجي فإذا كان هذا في المخلوق فالخالق أولى ومذهب ابن سينا معلوم الفساد بضرورة العقل بعد التصور التام فإنه إذا اشترك الموجودان في مسمى الوجود لم يميز أحدهما عن الآخر بمجرد السلب فإن التمييز في نفس الأمر بين المشتركين لا يكون بمجرد العدم المحض إذ العدم المحض ليس بشيء وما ليس بشيء لا يحصل منه الامتياز في نفس الأمر ولا يكون الفاصل بين الشيئين الموجودين الذي يختص بأحدهما إلا أمرا ثبوتيا أو متضمنا لأمر ثبوتي وهذا مستقر عندهم في المنطق فكيف يكون وجود الرب مماثلا لوجود الممكنات في مسمى الوجود ولا يمتاز عن المخلوقات إلا بعدم محض لا ثبوت فيه بل على هذا التقدير يكون أي موجود قدر أكمل من هذا الموجود فإن ذلك الموجود مختص مع وجوده بأمر ثبوتي عنده والوجود الواجب لا يختص عنده إلا بأمر عدمي مع تماثلهما في مسمى الوجود فهذا القول يستلزم مماثلة الوجود الواجب لوجود كل ممكن في

8

39

الوجود وأن لا يمتاز عنه إلا بسلب الأمور الثبوتية والكمال هو في الوجود لا في العدم إذ العدم المحض لا كمال فيه فحينئذ يمتاز عن الممكنات بسلب جميع الكمالات وتمتاز عنه بإثبات جميع الكمالات وهذا غاية ما يكون من تعظيم الممكنات في الكمال والوجود ووصف الوجود الواجب بالنقص والعدم وأيضا فهذا الوجود الذي لا يمتاز عن غيره إلا بالأمور العدمية يمتنع وجودة في الخارج بل لا يمكن إلا في الذهن لأنه إذا شارك سائر الموجودات في مسمى الوجود كان هذا كليا والوجود لا يكون كليا إلا في الذهن لا في الخارج والأمور العدمية المحضة لا توجب ثبوته في الخارج فإن ما في الذهن هو بسلب الحقائق الخارجية عنه أحق بسلبها عما في الخارج لو كان ذلك ممكنا في الخارج فكيف إذا كان ممتنعا فإذا كان الكلي لا يكون إلا ذهنيا والقيد العدمي لا يخرجه عن أن يكون كليا ثبت أنه لا يكون في الخارج وأيضا فإن ما في الخارج لا يكون إلا معينا له وجود يخصه فما لا يكون كذلك لا يكون إلا في الذهن

8

40

فثبت بهذه الوجوه الثلاثة وغيرها أن ما ذكره في واجب الوجود لا يتحقق إلا في الذهن لا في الخارج فهذا قول من قيده بالأمور العدمية ولهم قول ثالث وهو الوجود المطلق لا بشرط الإطلاق الذي يسمونه الكلي الطبيعي وهذا لا يكون في الخارج إلا معينا فيكون من جنس القولين قبله ومنهم من يظن أنه ثابت في الخارج وأنه جزء من المعينات فيكون الوجود الواجب المبدع لكل ما سواه إما عرضا قائما بالمخلوقات وإما جزءا منها فيكون الواجب مفتقرا إلى الممكن عوضا فيه أو جزءا منه بمنزلة الحيوانية في الحيوانات لا تكون هي الخالقة للحيوان ولا الإنسانية هي المبدعة للإنسان فإن جزء الشئ وعرضه لا يكون هو الخالق له بل الخالق مباين له منفصل عنه إذ جزؤه وعرضه داخل فيه والداخل في الشئ لا يكون هو المبدع له كله فما وصفوا به رب العالمين يمتنع معه أن يكون خالقا لشئ من الموجودات فضلا عن أن يكون خالقا لكل شئ وهده الأمور مبسوطة في موضع آخر

8

41

والمقصود هنا أن هؤلاء الملاحدة حقيقة قولهم تعطيل الخالق وجحد حقيقة النبوات والمعاد والشرائع وينتسبون إلى موالاة علي ويدعون أنه كان على هذه الأقوال كما تدعى القدرية والجهمية والرافضة أنه كان على قولهم أيضا ويدعون أن هذه الأقوال مأخوذة عنه وهذا كله باطل كذب على علي رضي الله عنه فصل قال الرافضي وعلم التفسير إليه يعزي لأن ابن عباس كان تلميذه فيه قال ابن عباس حدثنى أمير المؤمنين في تفسير الباء من بسم الله الرحمن الرحيم من أول الليل إلى آخره والجواب أن يقال أولا أين الإسناد الثابت بهذا النقل عن ابن عباس فإن أقل مايجب على المحتج بالمنقولات أن يذكر الإسناد الذي يعلم به صحة النقل وإلا فمجرد ما يذكر في الكتب من المنقولات لا يجوز الاستدلال به مع العلم بأن فيه شيئا كثير من الكذب ويقال ثانيا أهل العلم بالحديث يعلمون أن هذا من الكذب فإن هذا الأثر المأثور عن ابن عباس كذب عليه وليس له إسناد يعرف وإنما

8

42

يذكر مثل هذه الحكايات بلا إسناد وهذه يرويها أهل المجهولات الذين يتكلمون بكلام لا حقيقة له ويجعلون كلام علي وابن عباس من جنس كلامهم كما يقولون عن عمر أنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يتحدثان وكنت كالزنجي بينهما فإن هذا كذب على عمر باتفاق أهل العلم وكما ينقلون عن عمر أنه تزوج امرأة أبي بكر ليسألها عن علمه في السر فقالت كنت أشم من فيه رائحة الكبد المحترقة وهذا أيضا كذب وعمر لم يتزوج امرأة أبي بكر وإنما تزوجها علي تزوج أسماء بنت عميس ومعها ربيبه محمد بن أبي بكر فتربى عنده وهذا ابن عباس نقل عنه من التفسير ما شاء الله بالأسانيد الثابتة ليس في شيء منها ذكر علي وابن عباس يروى عن غير واحد من الصحابة يروى عن عمر وأبي هريرة وعبد الرحمن بن عوف وعن زيد بن ثابت وأبي بن كعب وأسامة بن زيد وغير واحد من المهاجرين والأنصار وروايته عن علي قليلة جدا ولم يخرج أصحاب الصحيح شيئا من حديثه عن علي وخرجوا حديثه عن عمر وعبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة وغيرهم وأيضا فالتفسير أخذ عن غير ابن عباس أخذ عن ابن مسعود وغيره

8

43

من الصحابة الذين لم يأخذوا عن علي شيئا وما يعرف بأيدي المسلمين تفسير ثابت عنه وهذه كتب الحديث والتفسير مملوءة بالآثار عن الصحابة والتابعين والذي فيها عن علي قليل جدا وما ينقل في حقائق السلمى من التفسير عن جعفر الصادق عامته كذب على جعفر كما قد كذب عليه غير ذلك كما تقدم فصل قال الرافضي وأما علم الطريقة فإليه منسوب فإن الصوفية كلهم يسندون الخرقة إليه والجواب أن يقال أولا أما أهل المعرفة وحقائق الإيمان المشهورين في الأمة بلسان الصدق فكلهم متفقون على تقديم أبي بكر وأنه أعظم الأمة في الحقائق الإيمانية والأحوال العرفانية وأين من يقدمونه في الحقائق التي هي أفضل الأمور عندهم إلى من ينسب إليه الناس لباس الخرقة وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم فأين حقائق القلوب من لباس الأبدان

8

44

ويقال ثانيا الخرق متعددة أشهرها خرقتان خرقة إلى عمر وخرقة إلى علي فخرقة عمر لها إسنادان إسناد إلى أويس القرني وإسناد إلى أبي مسلم الخولاني وأما الخرقة المنسوبة إلى علي فإسنادها إلى الحسن البصري والمتأخرون يصلونها بمعروف الكرخي فإن الجنيد صحب السري السقطى والسري صحب معروفا الكرخي بلا ريب وأما الإسناد من جهة معروف فينقطع فتارة يقولون إن معروفا صحب علي بن موسى الرضا وهذا باطل قطعا لم يذكره المصنفون لأخبار معروف بالإسناد الثابت المتصل كأبي نعيم وأبي الفرج بن الجوزي في كتابه الذي صنفه في فضائل معروف ومعروف كان منقطعا في الكرخ وعلي بن موسى كان المأمون قد جعله ولي العهد بعده وجعل شعاره لباس الخضرة ثم رجع عن ذلك وأعد شعار السواد ومعروف لم يكن ممن يجتمع بعلي بن موسى ولا نقل عنه ثقة أنه اجتمع به أوأخذ عنه شيئا بل ولا يعرف أنه رآه ولا كان معروف بوابه ولا أسلم على يديه وهذا كله كذب وأما الإسناد الآخر فيقولون إن معروفا صحب داود الطائي وهذا أيضا لا أصل له وليس في أخباره المعروفة ما يذكر فيها وفي إسناد الخرقة أيضا أن داود الطائي صحب حبيبا العجمي وهذا أيضا لم يعرف له حقيقة

8

45

وفيها أن حبيبا العجمي صحب الحسن البصري وهذا صحيح فإن الحسن كان له أصحاب كثيرون مثل أيوب السختياني ويونس بن عبيد وعبد الله بن عوف ومثل محمد بن واسع ومالك بن دينار وحبيب العجمي وفرقد السبخي وغيرهم من عباد البصرة وفيها أن الحسن صحب عليا وهذا باطل باتفاق أهل المعرفة فإنهم متفقون على أن الحسن لم يجتمع بعلي وإنما أخذ عن أصحاب علي أخذ عن الأحنف بن قيس وقيس بن عباد وغيرهما عن علي وهكذا رواه أهل الصحيح والحسن ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر وقتل عثمان وهو بالمدينة كانت أمه أمة لأم سلمة فلما قتل عثمان حمل إلى البصرة وكان علي بالكونة والحسن في وقته صبي من الصبيان لا يعرف ولا له ذكر والأثر الذي يروى عن علي أنه دخل إلى جامع البصرة وأخرج القصاص إلا الحسن كذب باتفاق أهل المعرفة ولكن المعروف أن عليا دخل المسجد فوجد قاصا يقص فقال ما اسمك قال أبو يحيى قال هل تعرف الناسخ من المنسوخ قال لا قال

8

46

هلكت وأهلكت إنما أنت أبو اعرفوني ثم أخذ بأذنه فأخرجه من المسجد فروى أبو حاتم في كتاب الناسخ والمنسوخ حدثنا الفضل بن دكين حدثنا سفيان عن أبي حصين عن أبي عبد الرحمن السلمى قال انتهى علي إلى قاص وهو يقص فقال أعلمت الناسخ والمنسوخ قال لا قال هلكت وأهلكت قال وحدثنا زهير بن عباد الرواسي حدثنا أسد بن حمران عن جويبر عن الضحاك أن علي بن أبي طالب دخل مسجد الكوفة فإذا قاص يقص فقام على رأسه فقال يا هذا تعرف الناسخ من المنسوخ قال لا قال أفتعرف مدنى القرآن من مكيه قال لا قال هلكت وأهلكت قال أتدرن من هذا هذا يقول اعرفوني اعرفوني اعرفوني وقد صنف ابن الجوزي مجلدا في مناقب الحسن البصري

8

47

وصنف أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي جزءا فيمن لقيه من الصحابة وأخبار الحسن مشهورة في مثل تاريخ البخاري وقد كتبت أسانيد الخرقة لأنه كان لنا فيها أسانيد فبينتها ليعرف الحق من الباطل ولهم إسناد آخر بالخرقة المنسوبة إلى جابر وهو منطقع جدا وقد عقل بالنقل المتواتر أن الصحابة لم يكونوا يلبسون مريديهم خرقة ولا يقصون شعورهم ولا التابعون ولكن هذا فعله بعض مشايخ المشرق من المتأخرين وأخبار الحسن مذكورة بالأسانيد الثابتة من كتب كثيرة يعلم منها ما ذكرنا وقد أفرد أبو الفرج بن الجوزي له كتابا في مناقبه وأخباره وأضعف من هذا نسبة الفتوة إلى علي وفي إسنادها من الرجال المجهولين الذين لا يعرف لهم ذكر ما يبين كذبها وقد علم كل من له علم بأحوال الصحابة والتابعين أنه لم يكن فيهم أحد يلبس سراويل ولا يسقى ملحا ولا يختص أحد بطريقة تسمى الفتوة لكن كانوا قد اجتمع بهم التابعون وتعلموا منهم وتأدبوا بهم واستفادوا منهم وتخرجوا على أيديهم وصحبوا من صحبوه منهم وكانوا يستفيدون من جميع الصحابة

8

48

وأصحاب ابن مسعود كانوا يأخذون من عمر وعلي وأبي الدرداء وغيرهم وكذلك أصحاب معاذ بن جبل رضي الله عنه كانوا يأخذون عن ابن مسعود وغيره وكذلك أصحاب ابن عباس يأخذون عن ابن عمر وأبي هريرة وغيرهما وكذلك أصحاب زيد بن ثابت يأخذون عن أبي هريرة وغيره وقد انتفع بكل منهم من نفعه الله وكلهم متفقون على دين واحد وطريق واحدة وسبيل واحدة يعبدون الله ويطيعون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ومن بلغهم من الصادقين عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا قبلوه ومن فهم من القرآن والسنة ما دل عليه القرآن والسنة استفادوه ومن دعاهم إلى الخير الذي يحبه الله ورسوله أجابوه ولم يكن أحد منهم يجعل شيخه ربا يستغيث به كالإله الذي يسأله ويرغب إليه ويعبده ويتوكل عليه ويستغيث به حيا وميتا ولا كالنبي الذي تجب طاعته في كل ما أمر فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه فإن هذا ونحوه دين النصارى الذين قال الله فيهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون سورة التوبة وكانوا متعاونين على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان متواصين بالحق متواصين بالصبر

8

49

والإمام والشيخ ونحوهما عندهم بمنزلة الإمام في الصلاة وبمنزلة دليل الحاج فالإمام يفتدى به المأمومون فيصلون بصلاته لا يصلى عنهم وهو يصلى بهم الصلاة التي أمر الله ورسوله بها فإن عدل عن ذلك سهوا أو عمدا لم يتبعوه ودليل الحاج يدل الوفد على طريق البيت ليسلكوه ويحجوه بأنفسهم فالدليل لا يحج عنهم وإن أخطأ الدلالة لم يتبعوه وإذا اختلف دليلان وإمامان نظر أيهما كان الحق معه اتبع فالفاصل بينهم الكتاب والسنة قال تعالى يا أيها الذين امنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر الآية سورة النساء وكل من الصحابة الذين سكنوا الأمصار أخذ عنه الناس الإيمان والدين وأكثر المسلمين بالمشرق والمغرب لم يأخذوا عن علي شيئا فإنه رضي الله عنه كان ساكنا بالمدينة وأهل المدينة لم يكونوا يحتاجون إليه إلا كما يحتاجون إلى نظرائه كعثمان في مثل قصة شاورهم فيها عمر ونحو ذلك ولما ذهب إلى الكوفة كان أهل الكوفة قبل أن يأتيهم قد أخذوا الدين

8

50

عن سعد بن أبي وقاص وابن مسعود وحذيفة وعمار وأبي موسى وغيرهم ممن أرسله عمر إلى الكوفة وأهل البصرة أخذوا الدين عن عمران بن حصين وأبي بكرة وعبد الرحمن بن سمرة وأنس وغيرهم من الصحابة وأهل الشام أخذوا الدين عن معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأبي الدرداء وبلال وغيره من الصحابة والعباد والزهاد من أهل هذه البلاد أخذوا الدين عمن شاهدوه من الصحابة فكيف يجوز أن يقال إن طريق أهل الزهد والتصوف متصل به دون غيره وهذه كتب الزهد مثل الزهد للإمام أحمد والزهد لابن المبارك ولوكيع بن الجراح ولهناد بن السري ومثل كتب أخبار الزهاد كحلية الأولياء وصفوة الصفوة وغير ذلك فيها من أخبار الصحابة والتابعين أمور كثيرة وليس الذي فيها لعلي أكثر مما فيها لأبي بكر وعمر ومعاذ وابن مسعود وأبي بن كعب وأبي ذر وأبي الدرداء وأبي أمامة وأمثالهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين فصل قال الرافضي وأما علم الفصاحة فهو منبعه حتى

8

51

قيل كلامه فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق ومنه تعلم الخطباء والجواب أن يقال لا ريب أن عليا كان من أخطب الصحابة وكان أبو بكر خطيبا وعمر خطيبا وكان ثابت بن قيس بن شماس خطيبا معروفا بأنه خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان حسان ابن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة شعراءه ولكن كان أبو بكر يخطب عن النبي صلى الله عليه وسلم في حضوره وغيبته فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج في الموسم يدعو الناس إلى الإسلام وأبو بكر معه يخطب معه ويبين بخطابه ما يدعو الناس إلى متابعة النبي صلى الله عليه وسلم ونبي الله ساكت يقره على ما يقول وكان كلامه تمهيدا وتوطئة لما يبلغه الرسول معونة له لا تقدما بين يدي الله ورسوله كما كان ثابت بن قيس بن شماس يخطب أحيانا عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان يسمى خطيب رسول الله وكان عمر من أخطب الناس وأبو بكر أخطب منه يعترف له عمر بذلك وهو الذي خطب المسلمين وكشف لهم عن موت النبي صلى الله عليه وسلم وثبت الإيمان في قلوب المسلمين حتى لا يضطرب الناس لعظيم المصيبة التي نزلت بهم

8

52

ولما قدم هو وأبو بكر مهاجرين إلى المدينة قعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام أبو بكر يخاطب الناس عنه حتى ظن من لم يعرفهما أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن عرف بعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القاعد وكان يخرج معه إلى الوفود فيخاطب الوفود وكان يخاطبهم في مغيبه ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو الذي خطب الناس وخطب يوم السقيفة خطبة بليغة انتفع بها الحاضرون كلهم حتى قال عمر كنت قد زورت في نفسي مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر وكنت أداري منه بعض الحد فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر على رسلك فكرهت أن أغضبه فتكلم أبو بكر وكان أحلم مني وأوقر والله ما ترك من كلمة اعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها وقال أنس خطبنا أبو بكر رضي الله عنه ونحن كالثعالب فما زال يثبتنا حتى صرنا كالأسود وكان زياد بن أبيه من أخطب الناس وأبلغهم حتى قال الشيعي ما تكلم أحد فأحسن إلا تمنيت أن يسكت خشية أن يزيد فيسيء إلا زيادا كان كلما أطال أجاد أو كما قال وقد كتب الناس خطب زياد

8

53

وكان معاوية خطيبا وكانت عائشة من أخطب الناس حتى قال الأحنف بن قيس سمعت خطبة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي فما سمعت الكلام من مخلوق أفحم ولا أحسن من عائشة وكان الخطباء الفصحاء كثيرين في العرب قبل الإسلام وبعده وجماهير هؤلاء لم يأخذوا عن علي شيئا فقول القائل إنه منبع علم الفصاحة كذب بين ولو لم يكن إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أخطب منه وأفصح ولم يأخذ منه شيئا وليست الفصاحة التشدق في الكلام والتقعير في الكلام ولا سجع الكلام ولا كان في خطبة علي ولا سائر خطباء العرب من الصحابة وغيرهم تكلف الأسجاع ولا تكلف التحسين الذي يعود إلى مجرد اللفظ الذي يسمى علم البديع كما يفعله المتأخرون من أصحاب الخطب والرسائل والشعر وما يوجد في القرآن من مثل قوله وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا سورة الكهف و إن ربهم بهم سورة العاديات ونحو ذلك فلم يتكلف لأجل التجانس بل هذا تابع غير مقصود بالقصد الأول كما يوجد في القرآن من أوزان الشعر ولم يقصد به الشعر كقوله تعالى وجفان كالجواب وقدور راسيات سورة سبأ

8

54

وقوله نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم سورة الحجر ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك سورة الشرح ونحو ذلك وإنما البلاغة المأمور بها في مثل قوله تعالى وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا سورة النساء هي علم المعاني والبيان فيذكر من المعاني ما هو أكمل مناسبة للمطلوب ويذكر من الألفاظ ما هو أكمل في بيان تلك المعاني فالبلاغة بلوغ غاية المطلوب أو غاية الممكن من المعاني بأتم ما يكون من البيان فيجمع صاحبها بين تكميل المعاني المقصودة وبين تبيينها بأحسن وجه ومن الناس من تكون همته إلى المعاني ولا يوفيها حقها من الألفاظ المبينة ومن الناس من يكون مبينا لما في نفسه من المعاني لكن لا تكون تلك المعاني محصلة للمقصود المطلوب في ذلك المقام فالمخبر مقصودة تحقيق المخبر به فإذا بينه وبين ما يحقق ثبوته لم يكن بمنزلة الذي لا يحقق ما يخبر به أو لا يبين ما يعلم به ثبوته والأمر مقصودة تحصيل الحكمة المطلوبة فمن أمر ولم يحكم ما أمر به أو لم يبين الحكمة في ذلك لم يكن بمنزلة الذي أمر بما هو حكمة وبين وجه الحكمة فيه وأما تكلف الأسجاع والأوزان والجناس والتطبيق ونحو ذلك مما

8

55

تكلفه متأخروا الشعراء والخطباء والمترسلين والوعاظ فهذا لم يكن من دأب خطباء الصحابة والتابعين والفصحاء منهم ولا كان ذلك مما يهتم به العرب وغالب من يعتمد ذلك يزخرف اللفظ بغير فائدة مطلوبة من المعاني كالمجاهد الذي يزخرف السلاح وهو جبان ولهذا يوجد الشاعر كلما أمعن في المدح والهجو خرج في ذلك إلى الإفراط في الكذب يستعين يالتخيلات والتمثيلات وأيضا فأكثر الخطب التي ينقلها صاحب نهج البلاغة كذب على علي وعلي رضي الله عنه أجل وأعلى قدرا من أن يتكلم بذلك الكلام ولكن هؤلاء وضعوا أكاذيب وظنوا انها مدح فلا هي صدق ولا هي مدح ومن قال إن كلام علي وغيره من البشر فوق كلام المخلوق فقد أخطأ وكلام النبي صلى الله عليه وسلم فوق كلامه وكلاهما مخلوق ولكن هذا من جنس كلام ابن سبعين الذي يقول هذا كلام بشير يشبه بوجه ما كلام البشر وهذا ينزع إلى أن يجعل كلام الله ما في نفوس البشر وليس هذا من كلام المسلمين وأيضا فالمعاني الصحيحة التي توجد في كلام علي موجودة في كلام غيره لكن صاحب نهج البلاغة وأمثاله أخذوا كثيرا من كلام الناس

8

56

فجعلوه من كلام علي ومنه ما يحكى عن علي أنه تكلم به ومنه ما هو كلام حق يليق به أن يتكلم به ولكن هو في نفس الأمر من كلام غيره ولهذا يوجد في كلام البيان والتبيين للجاحظ وغيره من الكتب كلام منقول عن غير علي وصاحب نهج البلاغة يجعله عن علي وهذه الخطب المنقولة في كتاب نهج البلاغة لو كانت كلها عن علي من كلامه لكانت موجودة قبل هذا المصنف منقوله عن علي بالأسانيد وبغيرها فإذا عرف من له خبرة بالمنقولات أن كثيرا منها بل أكثرها لا يعرف قبل هذا علم أن هذا كذب وإلا فليبين الناقل لها في أي كتاب ذكر ذلك ومن الذي نقله عن علي وما إسناده وإلا فالدعوى المجردة لا يعجز عنها أحد ومن كان له خبرة بمعرفة طريقة أهل الحديث ومعرفة الآثار والمنقول بالأسانيد وتبين صدقها من كذبها علم أن هؤلاء الذين ينقلون مثل هذا عن علي من أبعد الناس عن المنقولات والتمييز بين صدقها وكذبها فصل قال الرافضي وقال سلوني قبل أن تفقدوني سلوني عن طرق السماء فإني أعلم بها من طرق الأرض

8

57

والجواب أن يقال لا ريب أن عليا لم يكن يقول هذا بالمدينة بين المهاجرين والأنصار الذين تعلموا كما تعلم وعرفوا كما عرف وإنما قال هذا لما صار إلى العراق وقد دخل في دين الإسلام خلق كثير لا يعرفون كثيرا من الدين وهو الإمام الذي يجب عليه أن يفتيهم ويعلمهم فكان يقول لهم ذلك ليعلمهم ويفتيهم كما أن الذين تأخرت حياتهم من الصحابة واحتاج الناس إلى علمهم نقلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة لم ينقلها الخلفاء الأربعة ولا أكابر الصحابة لأن أولئك كانوا مستغنين عن نقلها لأن الذين عندهم قد علموها كما علموها ولهذا يروى لابن عمر وابن عباس وعائشة وأنس وجابر وأبي سعيد ونحوهم من الصحابة من الحديث مالا يروى لعلي ولا لعمر وعمر وعلي أعلم من هؤلاء كلهم لكن هؤلاء احتاج الناس إليهم لكونهم تأخرت وفاتهم وأدركهم من لم يدرك أولئك السابقين فاحتاجوا أن يسألوهم واحتاج أولئك أن يعلموهم ويحدثوهم فقول علي لمن عنده بالكوفة سلوني هو من هذا الباب لم يقل هذا لابن مسعود ومعاذ وأبي بن كعب وأبي الدرداء وسلمان وأمثالهم فضلا عن أن يقول ذلك لعمر وعثمان ولهذا لم يكن هؤلاء ممن يسأله فلم يسأله قط لا معاذ ولا أبي ولا ابن مسعود ولا من هو دونهم من الصحابة وإنما كان يستفتيه المستفتي كما يستفتي أمثاله من الصحابة وكان عمر وعثمان

8

58

يشاورانه كما يشاوران أمثاله فكان عمر يشاور في الأمور لعثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وزيد بن ثابت وأبي موسى ولغيرهم حتى كان يدخل ابن عباس معهم مع صغر سنه وهذا مما أمر الله به المؤمنين ومدحهم عليه بقوله وأمرهم شورى بينهم سورة الشورى ولهذا كان رأي عمر وحكمه وسياسته من أسد الأمور فما رؤى بعده مثله قط ولا ظهر الإسلام وانتشر وعز كظهوره وانتشاره وعزه في زمنه وهو الذي كسر كسرى وقصر قيصر والروم والفرس وكان أميره الكبير على الجيش الشامي أبا عبيدة وعلى الجيش العراقي سعد بن أبي وقاص ولم يكن لأحد بعد أبي بكر مثل خلفائه ونوابه وعماله وجنده وأهل شوراه وقوله أنا أعلم بطرق السماء من طرق الأرض كلام باطل لا يقوله عاقل ولم يصعد أحد ببدنه إلى السماء من الصحابة والتابعين وقد تكلم الناس في معراج النبي صلى الله عليه وسلم هل هو ببدنه أو بروحه وإن كان الأكثرون على أنه ببدنه فلم ينازع السلف في غير النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يعرج ببدنه ومن اعتقد هذا من الغلاة في أحد من المشايخ وأهل البيت فهو من الضلال من جنس من اعتقد من الغلاة في أحد من هؤلاء النبوة أو ما هو أفضل من النبوة أو الإلهية

8

59

وهذه المقالات كلها كفر بين لا يستريب في ذلك أحد من علماء الإسلام وهذا كاعتقاد الإسماعيلية أولاد ميمون القداح الذين كان جدهم يهوديا ربيبا لمجوسي وزعموا أنهم أولاد محمد بن إسماعيل بن جعفر واعتقد كثير من أتباعهم فيهم الإلهية أو النبوة وأن محمد بن إسماعيل بن جعفر نسخ شريعة محمد صلى الله عليه وسلم وكذلك طائفة من الغلاة يعتقدون الإلهية أو النبوة في علي وفي بعض أهل بيته إما الاثنا عشر وإما غيره وكذلك طائفة من العامة والنساك يعتقدون في بعض الشيوخ نوعا من الإلهية أو النبوة أو أنهم أفضل من الأنبياء ويجعلون خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء وكذلك طائفة من هؤلاء يجعلون الأولياء أفضل من الأنبياء ويعتقد ابن عربي ونحوه أن خاتم الأنبياء يستفيد من خاتم الأولياء وأنه هو خاتم الأولياء ويعتقد طائفة أخرى أن الفيلسوف الكامل أعلم من النبي بالحقائق العلمية والمعارف الإلهية فهذه الأقوال ونحوها هي من الكفر المخالف لدين الإسلام باتفاق أهل الإسلام ومن قال منها شيئا فإنه يستتاب منه كما يستتاب نظراؤه

8

60

ممن يتكلم بالكفر كاستتابة المرتد إن كان مظهرا لذلك وإلا كان داخلا في مقالات أهل الزندقة والنفاق وإن قدر أن بعض الناس خفى عليه مخالفة ذلك لدين الإسلام إما لكونه حديث عهد بالإسلام أو لنشأته بين قوم جهال يعتقدون مثل ذلك فهذا بمنزلة من يجهل وجوب الصلاة أو بعضها أو يرى الواجبات تجب على العامة دون الخاصة وأن المحرمات كالزنا والخمر مباح للخاصة دون العامة وهذه الأقوال قد وقع في كثير منها كثير من المنتسبين إلى التشيع والمنتسبين إلى كلام أو تصوف أو تفلسف وهي مقالات باطلة معلومة البطلان عند أهل العلم والإيمان لا يخفى بطلانها على من هو من أهل الإسلام والعلم فصل قال الرافضي وإليه يرجع الصحابة في مشكلاتهم ورد عمر في قضايا كثيرة قال فيها لولا علي لهلك عمر والجواب أن يقال ما كان الصحابة يرجعون إليه ولا إلى غيره وحده في شيء من دينه لا واضحة ولا مشكلة بل كان إذا نزلت النازلة

8

61

يشاورهم عمر رضي الله عنه فيشاور عثمان وعليا وعبد الرحمن وابن مسعود وزيد بن ثابت وأبا موسى حتى يشاوره ابن عباس وكان من أصغرهم سنا وكان السائل يسأل عليا تارة وأبي بن كعب تارة وعمر تارة وقد سئل ابن عباس أكثر مما سئل علي وأجاب عن المشكلات أكثر من علي وما ذاك لأنه أعلم منه بل علي أعلم منه لكن احتاج إليه من لم يدرك عليا فأما أبو بكر رضي الله عنه فما ينقل عنه احد أنه استفاد من علي شيئا من العلم والمنقول أن عليا هو الذي استفاد منه كحديث صلاة التوبة وغيره وأما عمر فكان يشاورهم كلهم وإن كان عمر أعلم منهم وكان كثير من القضايا يقول فيها أولا ثم يتعبونه كالعمريتين والعول وغيرهما فإن عمر هو أول من أجاب في زوج وأبوين أو أمرأة وأبوين بأن للأم ثلث الباقي واتبعه أكابر الصحابة وأكابر الفقهاء كعثمان وابن مسعود

8

62

وعلي وزيد والأئمة الأربعة وخفى وجه قوله على ابن عباس فأعطى الأم الثلث ووافقه طائفة وقول عمر أصوب لأن الله إنما أعطى الأم الثلث إذا ورثه أبواه كما قال فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث سورة النساء فأعطاها الثلث إذا ورثه أبواه والباقي بعد فرض الزوجين هو ميراث بين الأبوين يقتسمانه كما اقتسما الأصل كما لو كان على الميت دين أو وصية فإنهما يقتسمان ما يبقى أثلاثا وأما قوله إنه رد عمر إلى قضايا كثيرة قال فيها لولا علي لهلك عمر فيقال هذا لا يعرف أن عمر قاله إلا في قضية واحدة أن صح ذلك وكان عمر يقول مثل هذا لمن هو دون علي قال للمرأة التي عارضته في الصداق رجل أخطأ وامرأة اصابت وكان قد رأى أن الصداق ينبغي أن يكون مقدرا بالشرع فلا يزاد على صداق أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته كما رأى كثير من الفقهاء أن أقله مقدر بنصاب السرقة وإذا كان مقدرا بالشرع والفاضل قد بذله الزوج واستوفى عوضه والمرأة لا تستحقه فيجعل في بيت المال كما يجعل في بيت المال ثمن عصير الخمر إذا باعه المسلم

8

63

وأجره من أجر نفسه لحمل الخمر ونحو ذلك على أظهر أقوال العلماء فإن من استوفى منفعة محرمة بعوضها كالذي يزني بالمرأة بالجعل أو يستمع الملاهي بالجعل أو يشرب الخمر بالجعل إن أعيد إليه جعله بعد قضاء غرضه فهذا زيادة في إعانته على المعصية فإن كان يطلبها بالعوض فإذا حصلت له هي والعوض كان ذلك أبلغ في إعانته على الإثم والعدوان وإن أعطى ذلك للبائع والمؤجر كان قد أبيح له العوض الخبيث فصار مصروف هذا المال في مصالح المسلمين وعمر إمام عدل فكان قد رأى أن الزائد على المهر الشرعي يكون هكذا فعارضته امرأة وقالت لم تمنعنا شيئا أعطانا الله إياه في كتابه فقال وأين في كتاب الله فقالت في قوله تعالى وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا سورة النساء وروى أنها قالت له أمنك نسمع أم من كتاب الله تعالى قال بل من كتاب الله فقرأت عليه الآية فقال رجل أخطأ وامرأة أصابت

8

64

ومع هذا فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في حق عمر من العلم والدين والإلهام لما لم يخبر بمثله لا في حق عثمان ولا علي ولا طلحة ولا الزبير وفي الترمذي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه قال وقال ابن عمر ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه وقال عمر فيه إلا نزل فيه القرآن على نحو ما قال عمر وفي سنن أبي داود عن أبي ذر قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول إن الله وضع الحق على لسان عمر يقول به وفي الترمذي عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان بعدي نبي لكان عمر وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد كان فيمن كان قبلكم من الأمم ناس محدثون من غير أن

8

65

يكونوا أنبياء فإن يكن في أمتي أحد فعمر قال ابن وهب تفسير محدثون ملهمون وقال ابن عيينة محدثون أي مفهمون وفي الصحيحين عن أبي سعيد قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون وعليهم قمص فنها ما يبلغ الثدي ومنها ما يبلغ دون ذلك وعرض علي عمر وعليه قميص يجره قالوا فما أولته يا رسول الله قال الدين وفي الصحيحين عن ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن فشربت منه حتى أني لأرى الري يخرج من تحت أظفاري ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب قال من حوله فما أولت ذلك يا رسول الله قال العلم وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك وفي الصحيحين عن أنس أن عمر قال وافقت ربي في ثلاث

8

66

قلت لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى سورة البقرة وقلت يا رسول الله يدخل على نسائك البر والفاجر فلو أمرتهن يحتجبن فنزلت آية الحجاب واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة فقلت عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن سورة التحريم فنزلك ذلك وهذا الباب في فضائل عمر كثيرا جدا وأما قصة الحكومة في الأرغفة فهي مما يحكم فيها وما هو أدق منها من هو دون علي وللفقهاء في تفاريع مسائل القضاء والقسمة وغير ذلك من الدقائق ما هو أبلغ من هذه وليسوا مثل علي وأما مسألة القرعة فقد رواها أحمد وأبو داود عن زيد بن أرقم

8

68

لكن جمهور الفقهاء لا يقولون بهذه وأما أحمد فنقل عنه تضعيف الخبر فلم يأخذ به وقيل أخذ به وأحمد أوسع الأئمة أخذا بالقرعة وقد أخذ بقضاء علي في الزبية وحديثها أثبت من هذا رواه سماك ابن حرب وأخذ به أحمد وأما الثلاثة فما بلغهم لا هذا ولا هذا أو بلغهم ولم يثبت عندهم وكان عند أحمد من العلم بالآثار ومعرفة صحتها من سقمها ما ليس لغيره

8

69

وهذا يدل على فضل علي ولا نزاع في هذا لكن لا يدل على أنه أقضى الصحابة وأما قوله معرفة القضايا بالإلهام فهذا خطأ لأن الحكم بالإلهام بمعنى أنه من ألهم أنه صادق حكم بذلك بمجرد الإلهام فهذا لا يجوز في دين المسلمين وفي الصحيح عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال انكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون الحن بحجته من بعض وإنما أقضى بنحو مما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار فأخبر أنه يقضي بالسمع لا بالإلهام فلو كان الإلهام طريقا لكان النبي صلى الله عليه وسلم أحق بذلك وكان الله يوحى إليه معرفة صاحب الحق فلا يحتاج إلى بينة ولا إقرار ولم يكن ينهى أحدا أن يأخذ مما يقضى له ولما حكم في اللعان بالفرقة قال إن جاءت به كذا فهو الزوج وإن جاءت به فهو الذي للذي رميت به فجاءت به على النعت المكروه فقال لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن

8

70

فأنفذ الحكم باليمين ولم يحكم بالبينة وأما إن قيل إنه يلهم الحكم الشرعي فهذا لا بد فيه من دليل شرعي لا يجوز الحكم بمجرد الإلهام فإن الذي ثبت بالنص أنه كان ملهما هو عمر بن الخطاب كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي فعمر ومع هذا فلم يكن يجوز لعمر أن يفتى ولا يقضى ولا يعمل بمجرد ما يلقى في قلبه حتى يعرض ذلك على الكتاب والسنة فإن وافقه قبله وإن خالفه رده وأما ما ذكره من الحكومة في البقرة التي قتلت حمارا فهذا

8

71

الحديث لا يعرف وليس هو في شيء من كتب الحديث والفقه مع احتياج الفقهاء في هذه المسألة إلى نص ولم يذكر له إسنادا فكيف يصدق بشيء لا دليل على صحته بل الأدلة المعلومة تدل على انتفائه ومع هذا فهذا الحكم الذي نقله عن علي وأن النبي صلى الله عليه وسلم أقره إذا حمل على ظاهرة كان مخالفا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين فإن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه قال العجماء جبار وهذا في الصحيحين وغيرهما واتفق العلماء على صحته وتلقيه بالقبول والتصديق والعمل به والعجماء تأنيث أعجم وكل بهيمة فهي عجماء كالبقرة والشاة وغيرهما وهذه إذا كانت ترعى في المراعي المعتادة فأفلتت نهارا من غير تفريط من صاحبها حتى دخلت على حمار فأفسدته أو

8

72

أفسدت زرعا لم يكن على صاحبها ضمان باتفاق المسلمين فإنها عجماء لم يفرط صاحبها وأما أن كانت خرجت بالليل فعلى صاحبها الضمان عند أكثر العلماء كمالك والشافعي وأحمد لقصة سليمان بن داود في النفش ولحديث ناقة البراء بن عازب فإنها دخلت حائطا فأفسدته فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن علي أهل المواشي ما أفسدت مواشيهم باليل وقضى على أهل الحوائط بحفظ حوائطهم

8

73

وذهب أبو حنيفة وابن حزم وغيرهما إلى أنه لا ضمان في ذلك وجعلوها داخلة في العجماء وضعف بعضهم حديث ناقة البراء وأما إن كان صاحبها اعتدى وأرسلها في زرع قوم أو بقرب زرعهم أو أدخلها إلى اصطبل الحمار بغير إذن صاحبها فأتلفته فهنا يضمن لعدوانه فهذه قضية البقرة والحمار إن كان صاحب البقرة لم يفرط فالتفريط

8

74

من صاحب الحمار كما لو دخلت الماشية نهارا فأفسدت الزرع فإن صاحب الحمار لم يغلق عليه الباب كما لو دخلت البقرة على الحمار إن كان الحمار نائما وإن كان المفرط بإدخالها إلى الحمار كان ضامنا وأما أن يجعل مجرد اعتداء الحمار على البقرة أو البقرة على الحمار بدون تفريط صاحبها كاعتداء صاحبها فهذا يوجب كون البهيمة كالعبد ما أتلفه يكون في رقبتها ولا يكون جبارا وهذا ليس من حكم المسلمين ومن نقل هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد كذب عليه وقد قلنا غير مرة إن هؤلاء الجهال يكذبون ما يظنونه مدحا ويمدحون به فيجمعون بين الكذب وبين المدح فلا صدق ولا علم ولا عدل فيضلون في الخير والعدل وقد تقدم الكلام على قوله يهدي إلى الحق سورة يونس

8

75

فصل قال الرافضي والرابع أنه كان أشجع الناس وبسيفه ثبتت قواعد الإسلام وتشيدت أركان الإيمان ما انهزم في مواطن قط ولا ضرب بسيف إلا قط طالما كشف الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفر كما فر غيره ووقاه بنفسه لما بات على فراشه مستترا بإزاره فظنه المشركون إياه وقد اتفق المشركون على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحدقوا به وعليهم السلاح يرصدون طلوع الفجر ليقتلوه ظاهرا فيذهب دمه لمشاهدة بني هاشم قاتليه من جميع القبائل ولا يتم لهم الأخذ بثأره لاشتراك الجماعة في دمه ويعود كل قبيل عن قتال رهطه وكان ذلك

8

76

سبب حفظ دم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمت السلامة وانتظم به الغرض في الدعاء إلى الملة فلما أصبح القوم ورأوا الفتك به ثار إليهم فتفرقوا عنه حين عرفوه وانصرفوا وقد ضلت حيلهم وانتقض تدبيرهم والجواب أنه لا ريب أن عليا رضي الله عنه كان من شجعان الصحابة وممن نصر الله الإسلام بجهاده ومن كبار السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ومن سادات من آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله وممن قتل بسيفه عددا من الكفار لكن لم يكن هذا من خصائصه بل غير واحد من الصحابة شاركه في ذلك فلا يثبت بهذا فضله في الجهاد على كثير من الصحابة فضلا عن أفضليته على الخلفاء فضلا عن تعيين للإمامة أما قوله إنه كان أشجع الناس فهذا كذب بل كان أشجع الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين عن أنس قال كان النبي صلى الله عليه

8

77

وسلم أحسن الناس وكان أجود الناس وكان أشجع الناس ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم النبي صلى الله عليه وسلم راجعا وقد سبقهم إلى الصوت وهو على فرس لأبي طلحة عرى في عنقه السيف وهو يقول لن تراعوا قال البخاري استقبلهم وقد استبرأ الخبر وفي المسند عن علي رضي الله عنه قال كان إذا اشتد البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كان أقرب إلى العدو منا والشجاعة تفسر بشيئين أحدهما قوة القلب وثباته عند المخاوف والثاني شدة القتال بالبدن بأن يقتل كثيرا ويقتل قتلا عظيما والأول هو الشجاعة وأما الثاني فيدل على قوة البدن وعمله وليس كل من كان قوي البدن كان قوي القلب ولا بالعكس ولهذا

8

78

تجد الرجل الذي يقتل كثيرا يقال إذا كان معه من يؤمنه إذا خاف أصابه الجبن وانخلع قلبه وتجد الرجل الثابت القلب الذي لم يقتل بيديه كثيرا ثابتا في المخاوف مقداما على المكاره وهذه الخصلة يحتاج إليها في أمراء الحروب وقواده ومقدميه أكثر من الأولى فإن المقدم إذا كان شجاع القلب ثابتا أقدم وثبت ولم ينهزم فقاتل معه أعوانه وإذا كان جبانا ضعيف القلب ذل ولم يقدم ولم يثبت ولو كان قوي البدن والنبي صلى الله عليه وسلم كان أكمل الناس في هذه الشجاعة التي هي المقصودة في أئمة الحرب ولم يقتل بيده إلا أبي بن خلف قتله يوم أحد ولم يقتل بيده أحدا لا قبلها ولا بعدها وكان أشجع من جميع الصحابة حتى أن جمهور أصحابه انهزموا يوم حنين وهو راكب على بغلة والبغلة لا تكر ولا تفر وهو يقدم عليها إلى ناحية العدو وهو يقول أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب فيسمى نفسه وأصحابه قد انكفوا عنه وعدوه مقدم عليه وهو مقدم على عدوه على بغلته والعباس آخذ بعنانها وكان علي وغيره يتقون برسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه

8

79

أشجع منهم وإن كان أحدهم قد قتل بيده أكثر مما قتل النبي صلى الله عليه وسلم وإذا كانت الشجاعة المطلوبة من الأئمة بشجاعة القلب فلا ريب أن أبا بكر كان أشجع من عمر وعمر أشجع من عثمان وعلي وطلحة والزبير وهذا يعرفه من يعرف سيرهم وأخبارهم فإن أبا بكر رضي الله باشر الأهوال التي كان يباشرها النبي صلى الله عليه وسلم من أول الإسلام إلى آخره ولم يجبن ولم يحرج ولم يفشل وكان يقدم على المخاوف يقي النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه يجاهد المشركين تارة بيده وتارة بلسانه وتارة بماله وهو في ذلك كله مقدم وكان يوم بدر مع النبي صلى الله عليه وسلم في العريش مع علمه بأن العدو يقصدون مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ثابت القلب ربيط الجأش يظاهر النبي صلى الله عليه وسلم ويعاونه ولما قام النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه ويستغيث ويقول اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذا العصابة لا تعبد اللهم اللهم جعل أبو بكر يقول له يا رسول الله هكذا مناشدتك ربك إنه سينجز لك ما وعدك وهذا يدل على كمال يقين الصديق وثقته بوعد الله وثباته وشجاعته شجاعة إيمانه إيمانية زائدة على الشجاعة الطبيعية

8

80

وكان حال رسول الله أكمل من حاله ومقامة أعلى من مقامه ولم يكن الأمر كما ظنه بعض الجهال أن حال أبي بكر أكمل نعوذ بالله من ذلك ولا نقص في استغاثة النبي صلى الله عليه وسلم ربه في هذا المقام كما توهمه بعض الناس وتكلم ابن عقيل وغيره في هذا الموضع بخطل من القول مردود على من قاله بل كان رسول الله صلى الله عليه جامعا كاملا له من كل مقام ذروة سنامة ووسيلته فيعلم أن الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد ومحو الأسباب أن تكون أسبابا قدح في العقل والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع ويعلم أن عليه أن يجاهد المشركين ويقيم الدين بكل ما يقدر عليه من جهاده بنفسه وماله وتحريضه للمؤمنين ويعلم أن الاستنصار بالله والاستغاثة به والدعاء له فيه أعظم الجهاد وأعظم الأسباب في تحصيل المأمور ودفع المحذور ولهذا كان يستفتح بصعاليك المهاجرين وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أقبلت قريش ومعه أصحابه أخبر أصحابه بمصارعهم وقال هذا مصرع عتبة بن ربيعة وهذا مصرع شيبة بن ربيعة وهذا مصرع أمية بن خلف وهذا مصرع أبي جهل بن هشام

8

81

وهذا مصرع فلان ثم مع علمه أن ذلك سيكون يعلم أن الله إذا قضى شيئا يكون فلا يمنع ذلك أن يقضيه بأسباب تكون وأن من الأسباب ما يكون العباد مأمورين به ومن أعظم ما يؤمر به الاستغاثة بالله فقام بما يؤمر به مع علمه بأنه سيكون ما وعد به كما أنه يعبد الله ويطيعه مع علمه بأن له السعادة في الآخرة والقلب إذا غشيته الهيبة والمخافة والتضرع قد يغيب عنه شهود ما يعلمه ولا يمنعه ذلك أن يكون عالما به مصدقا له ولا أن يكون في اجتهاد وجهاد بمباشرة الأسباب ومن علم أنه إذا مات يدخل الجنة

8

82

لم يمنع أن يجد بعض ألم الموت والمريض الذي إذا أخبر أن في دوائه العافية لا يمنعه أن يجد مرارة الدواء فقام مجتهدا في الدعاء المأمور به وكان هو رأس الأمر وقطب رحى الدين فعليه أن يقول بأفضل مما يقوم به غيره وذلك الدعاء والاستغاثة كان أعظم الأسباب التي نزل بها النصر ومقام أبي بكر دون هذا وهو معاونه الرسول والذب عنه وإخباره بأنا واثقون بنصر الله تعالى والنظر إلى جهة العدو وهل قاتلوا المسلمين أم لا والنظر إلى صفوف المسلمين لئلا تختل وتبليغ المسلمين ما يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحال ولهذا قال تعالى إلا تنصروه فقد نصره الله إذا أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار سورة التوبة وأخبر تعالى أن الناس إذا لم ينصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار وهذه الحال كان الخوف فيها على النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره وسيأتي الكلام على هذه القصة في آخر الكتاب والوزير مع الأمير له حال وللأمير حال والمقصود هنا أن أبا بكر كان أشجع الناس ولم يكن بعد الرسول

8

83

صلى الله عليه وسلم أشجع منه ولهذا لما مات النبي صلى الله عليه وسلم ونزلت بالمسلمين أعظم نازلة نزلت بهم حتى أوهنت العقول وطيشت الألباب واضطربوا اضطراب الأرشية في الطوى البعيدة القعر فهذا ينكر موته وهذا قد أقعد وهذا قد دهش فلا يعرف من يمر عليه ومن يسلم عليه وهؤلاء يضجون بالبكاء وقد وقعوا في نسخه القيامة وكأنها قيامة صغرى مأخوذة من القيامة الكبرى وأكثر البوادي قد ارتدوا عن الدين وذلت كماتة فقام الصديق رضي الله عنه بقلب ثابت وفؤاد شجاع فلم يجزع ولم ينكل قد جمع له بين الصبر واليقين فأخبرهم بموت النبي صلى الله عليه وسلم وأن الله اختار له ما عنده وقال لهم من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل أنقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزى الله الشاكرين سورة آل عمران فكان الناس لم يسمعوا هذه الآية حتى تلاها الصديق فلا تجد أحدا إلا وهو يتلوها ثم خطبهم فثبتهم وشجعهم قال أنس خطبنا أبو بكر رضي الله عنه وكنا كالثعالب فما زال يشجعنا حتى صرنا كالأسود

8

84

وأخذ في تجهيز أسامة مع إشارتهم عليه وأخذ في قتال المرتدين مع إشارتهم عليه بالتمهل والتربص وأخذ يقاتل حتى مانعي الزكاة فهو من الصحابة يعلمهم إذا جهلوا ويقويهم إذا ضعفوا ويحثهم إذا فتروا فقوى الله به علمهم ودينهم وقوتهم حتى كان عمر مع كمال قوته وشجاعته يقول له يا خليفة رسول الله تألف الناس فيقول علام أتالفهم أعلى دين مفترى أم على شعر مفتعل وهذا باب واسع يطول وصفه فالشجاعة المطلوبة من الإمام لم تكن في أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل منها في أبي بكر ثم عمر وأما القتل فلا ريب أن غير علي من الصحابة قتل من الكفار أكثر مما قتل علي فإن كان من قتل أكثر يكون أشجع فكثير من الصحابة أشجع من علي فالبراء ابن مالك أخو أنس قتل مائة رجل مبارزة غير من شورك في دمه وأما خالد بن الوليد فلا يحصى عدد من قتله إلا الله وقد انكسر في يده في غزوة مؤته تسعة أسياف ولا ريب أنه قتل أضعاف ما قتله علي وكان لأبي بكر مع الشجاعة الطبيعية شجاعة دينية وهي قوة يقينية بالله عز وجل وثقة بأن الله ينصره والمؤمنين وهذه الشجاعة لا تحصل بكل من كان قوي القلب لكن هذه تزيد بزيادة الإيمان واليقين

8

85

وتنقص بنقص ذلك فمتى تيقن أنه يغلب عدوه كان إقدامه بخلاف إقدام من لم يكن كذلك وهذا كان من أعظم أسباب شجاعة المسلمين وإقدامهم على عدوهم فإنهم كانوا أيقنوا بخبر الله ورسوله أنهم منصورون وأن الله يفتح لهم البلاد ومن شجاعة الصديق ما في الصحيحين عن عروة بن الزبير قال سألت عبد الله بن عمرو عن أشد ما صنع المشركون برسول الله قال رأيت عقبة بن أبي معيط جاء إلى النبي وهو يصلي فوضع رداءه في عنقه فخنقه خنقا شديدا فجاء أبو بكر فدفعه عنه وقال أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم سورة غافر

8

86

فصل ومما ينبغي أن يعلم أن الشجاعة إنما فضيلتها في الدين لأجل الجهاد في سبيل الله وإلا فالشجاعة إذا لم يستعن بها صاحبها على الجهاد في سبيل الله كانت إما وبالا عليه إن استعان بها صاحبها على طاعة الشيطان وإما غير نافعة له إن استعملها فيما لا يقربه إلى الله تعالى فشجاعة علي والزبير وخالد وأبي دجانة والبراء بن مالك وأبي طلحة وغيرهم من شجعان الصحابة إنما صارت من فضائلهم لاستعانتهم بها على الجهاد في سبيل الله فإنهم بذلك استحقوا ما حمد الله به المجاهدين وإذا كان كذلك فمعلوم أن الجهاد منه ما يكون بالقتال باليد ومنه ما يكون بالحجة والبيان والدعوة قال الله تعالى ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا سورة الفرقان فأمره الله سبحانه وتعالى أن يجاهد الكفار بالقرآن جهادا كبيرا وهذه السورة مكية نزلت بمكة قبل أن يهاجر النبي وقبل أن يؤمر بالقتال ولم يؤذن له وإنما كان هذا الجهاد بالعلم والقلب والبيان والدعوة لا بالقتال وأما القتال فيحتاج إلى التدبير والرأي

8

87

ويحتاج إلى شجاعة القلب وإلى القتال باليد وهو إلى الرأي والشجاعة في القلب في الرأس المطاع أحوج منه إلى قوة البدن وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما مقدمان في أنواع الجهاد غير قتال البدن قال أبو محمد بن حزم وجدناهم يحتجون بأن عليا كان أكثر الصحابة جهادا وطعنا في الكفار وضربا والجهاد أفضل الأعمال قال وهذا خطأ لأن الجهاد ينقسم أقساما ثلاثة أحدها الدعاء إلى الله تعالى باللسان والثاني الجهاد عند الحرب بالرأي والتدبير الجهادر باليد في الطعن والضرب فوجدنا الجهاد باللسان لا يلحق فيه أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر ولا عمر أما أبو بكر فإن أكابر الصحاب أسلموا على يديه فهذا أفضل عمل وليس لعلي من هذا كثير حظ وأما عمر فإنه من يوم أسلم عز الإسلام وعبد الله علانية وهذا أعظم الجهاد وقد انفرد هذان الرجلان بهذين الجهادين اللذين لا نظير لهما ولا حظ لعلي في هذا وبقي القسم الثاني وهو الرأي والمشورة فوجدناه خالصا لأبي بكر ثم لعمر

8

88

بقي القسم الثالث وهو الطعن والضرب والمبارزة فوجدناه أقل مراتب الجهاد ببرهان ضروري وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لاشك عند كل مسلم في أنه المخصوص بكل فضيلة فوجدنا جهاده صلى الله عليه وسلم إنما كان في أكثر أعماله وأحواله بالقسمين الأولين من الدعاء إلى الله عز وجل والتدبير والإرادة وكان أقل عمله الطعن والضرب والمبارزة لا عن جبن بل كان أشجع أهل الأرض قاطبة نفسا ويدا وأتمهم نجدة ولكنه كان يؤثر الأفضل فالأفضل من الأعمال فيقدمه ويشتغل به ووجدناه يوم بدر وغيره كان أبو بكر معه لا يفارقه إيثارا من النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك واستظهارا برأيه في الحرب وأنسا بمكانه ثم كان عمر ربما شورك في ذلك وقد أنفرد بهذا المحل دون علي ودون سائر الصحابة إلا في الندرة ثم نظرنا مع ذلك في هذا القسم من الجهاد الذي هو الطعن والضرب والمبارزة فوجدنا عليا لم ينفرد بالسيوف فيه بل قد شاركه فيه غيره شركة العيان كطلحة والزبير وسعد ومن قتل في صدر الإسلام كحمزة وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ومصعب بن

8

89

عمير ومن الأنصار سعد بن معاذ وسماك بن خرشة يعني أبا دجانة وغيرهما ووجدنا أبا بكر وعمر قد شاركاه في ذلك بحظ حسن وإن لم يلحقا بحظوظ هؤلاء وإنما ذلك لشغلهما بالأفضل من ملازمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومؤازرته في حين الحرب وقد بعثهما على البعوث أكثر مما بعث عليا وقد بعث أبا بكر إلى بني فزارة وغيرهم وبعث عمر إلى بني فلان وما نعلم لعلي بعثا إلا إلى بعض حصون خيبر ففتحه فحصل أرفع أنواع الجهاد لأبي بكر وعمر وقد شاركا عليا في أقل أنواع الجهاد مع جماعة غيرهم فصل قلت وأما قوله بسيفه ثبت قواعد الإسلام وتشيدت أركان الدين فهذا كذب ظاهر لكل من عرف الإسلام بل سيفه جزء من أجزاء

8

90

كثيرة جزء من أجزاء أسباب تثبيت قواعد الإسلام وكثر من الوقائع التي ثبت بها الإسلام لم يكن لسيفه فيها تأثير كيوم بدر كان سيفا من سيوف كثيرة وقد قدمنا غير مرة أن عزوات القتال كلها كانت تسع غزوات وعلي بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم لم يشهد قتال الروم وفارس ولم يعرف لعلي غزاة أثر فيها تأثيرا منفردا كثيرا عن النبي صلى الله عليه وسلم بل كان نصره في المغازي تبعا لنصر رسول الله صلى الله عليه وسلم والحروب الكبار التي كان فيها هو الأمير ثلاثة يوم الجمل والصفين والنهروان وفي الجمل والنهروان كان منصورا فإن جيشه كان أضعاف المقاتلين له ومع هذا لم يستظهر على المقاتلين له بل ما زالوا مستظهرين عليه إلى أن استشهد إلى كرامه الله ورضوانه وأمره يضعف وأمر المقاتلين له يقوى وهذا مما يدل على أن الانتصار الذي كان يحصل له في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كان نصرا من الله لرسوله ولمن قاتل معه على دينه فإن الله يقول إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد سورة غافر وكذلك انتصار غير علي كانتصار أبي بكر وعمر وعثمان وعلى من قاتلوه إنما كان نصرا من الله لرسوله كما وعده بذلك في كتابه

8

91

فصل وأما قوله ما انهزم قط فهو في ذلك كأبي بكر وعمر وطلحة والزبير وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم فالقول في أنه ما انهزم كالقول في أن هؤلاء ما انهزموا قط ولم يعرف لأحد من هؤلاء هزيمة وإن كان قد وقع شيء في الباطن ولم ينقل فيمكن أن عليا وقع منه مالم ينقل والمسلمون كانت لهم هزيمتان يوم أحد ويوم حنين ولم ينقل أن أحدا من هؤلاء انهزم بل المذكور في السير والمغازي أن أبا بكر وعمر ثبتا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ويوم حنين ولم ينهزما مع من انهزم ومن نقل أنهما انهزما يوم حنين فكذبه معلوم وإنما الذي انهزم يوم أحد عثمان وقد عفا الله عنه وما نقل من انهزام أبي بكر وعمر بالراية يوم حنين فمن الأكاذيب المختلقة التي افتراها المفترون وقوله ما ضرب بسيفه إلا قط فهذا لا يعلم ثبوته ولا انتفاؤه وليس معنا في ذلك نقل يعتمد عليه ولو قال قائل في خالد والزبير والبراء بن مالك وأبي دجانة وأبي طلحة ونحوهم إنه ما ضرب بسيفه إلا قط كان القول في ذلك كالقول في علي بل صدق هذا في مثل خالد والبراء بن مالك أولى فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال خالد سيف من سيوف الله سله الله على المشركين فإذا قيل فيمن جعله الله من سيوفه إنه ما

8

92

ضرب إلا قط كان أقرب إلى الصدق مع كثرة ما علم من قتل خالد في الحروب وأنه لم يزل منصورا وأما قوله وطالما كشف الكروب عن وجه النبي صلى الله عليه وسلم فهذا كذب بين من جنس أكاذيب الطرقية فإنه لا يعرف أن عليا كشف كربة عن وجه النبي صلى الله عليه وسلم قط بل ولا يعرف ذلك عن أبي بكر وعمر وهما كانا أكثر جهادا منه بل هو صلى الله عليه وسلم الذي طالما كشف عن وجوههم الكرب لكن أبو بكر دفع عنه لما أراد المشركون أن يضربوه ويقتلوه بمكة جعل يقول أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله حتى ضربوا أبا بكر ولم يعرف أن عليا فعل مثل هذا وأما كون المشركين أحاطوا به حتى خلصه أبو بكر أو علي بسيفه فهذا لم ينقله أحد من أهل العلم ولا حقيقة له لكن هذا الرافضي وأمثاله كأنهم قد طالعوا السير والمغازي التي وضعها الكذابون والطرقية مثل كتاب تنقلات الأنوار للبكرى الكذاب وأمثاله مما هو من جنس ما يذكر في سيرة البطال ودلهمة والعيار وأحمد الدنف والزيبق المصري والحكايات التي يحكونها عن هارون ووزيره مع العامة والسيرة الطويلة التي وضعت لعنترة بن شداد وقد وضع الكذابون في مغاري رسول اله صلى الله عليه وسلم ما هو

8

93

من هذا الجنس وهذا يصدقه الجهال ومن لم يكن عارفا بما ذكره العلماء من الأخبار الصحيحة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأما أهل العلم فيعلمون أن هذا كذب وما ذكره من مبيته على فراشه فقد قدمنا أنه لم يكن هناك خوف على علي أصلا وأشهر ما نقل من ذلك ذب المؤمنين عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد لما ولى أكثر المسلمين مدبرين فطمع العدو في النبي صلى الله عليه وسلم وحرصوا على قتله وطلب أمية بن خلف قتله فقتله النبي صلى الله عليه وسلم بيده وشج المشركون جبينه وهشموا البيضة على رأسه وكسروا رباعيته وذب عنه الصحابة الذين حوله كسعد بن أبي وقاص عل يرمي والنبي صلى الله عليه وسلم يقول له ارم فداك أبي وأمي ووقاه طلحة بيده فشلت يد طلحة وقتل حوله جماعة من خيار المسلمين

8

94

وفي الحديث أن عليا لما أمر فاطمة بغسل سيفه يوم أحد قال اغسليه غير ذميم فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن تكن أحسنت فقد أحسن فلان وفلان وعد جماعة من الصحابة فصل قال الرافضي وفي غزاة بدر وهي أول الغزوات كانت على رأس ثمانية عشر شهرا من مقدمه إلى المدينة وعمره سبع وعشرون سنة قتل منهم ستة وثلاثين رجلا بانفراده وهم أعظم من نصف المقتولين وشرك في الباقين والجواب أن هذا من الكذب البين المفتري باتفاق أهل العلم العالمين بالسير والمغازي ولم يذكر هذا أحد يعتمد عليه في النقل وإنما هو من وضع جهال الكذابين بل في الصحيح قتل غير واحد لم يشرك علي في واحد منهم مثل أبي جهل وعقبة بن أبي معيط ومثل أحد ابني ربيعة إما عتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة وأبي بن خلف وغيرهم وذلك أنه لما برز من المشركين ثلاثة عتبة وشيبة والوليد فانتدب

8

95

لهم ثلاثة من الأنصار فقالوا من أنتم فسموا أنفسهم فقالوا أكفاء كرام ولكن نريد بني عمنا فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاربه بالبروز إليهم فقال قم ياحمزة قم يا عبيدة قم يا علي وكان أصغر المشركين هو الوليد وأصغر المسلمين علي فبرز هذا إلى هذا فقتل علي قرنه وقتل حمزه قرنه قيل إنه كان عتبة وقيل كان شيبة وأما عبيدة فجرح قرنه وساعده حمزة على قتل قرنه وحمل عبيدة بن الحارث وقيل إن عليا لم يقتل ذلك اليوم إلا نفرا دون العشرة أو أقل أو أكثر وغاية ما ذكره ابن هشام وقبله موسى بن عقبة وكذلك الأموي

8

96

جميع ما ذكروه أحد عشر نفسا واختلف في ستة أنفس هل قتلهم هو أو غيره وشارك في ثلاثة هذا جميع ما نقله هؤلاء الصادقون فصل قال الرافضي وفي غزاة أحد لما انهزم الناس كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا علي بن أبي طالب ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر يسير أولهم عاصم بن ثابت وأبو دجانة وسهل بن حنيف وجاء عثمان بعد ثلاثة أيام فقال له النبي صلى الله عليه وسلم لقد ذهبت فيها عريضة وتعجبت الملائكة من شأن على فقال جبريل وهو يعرج إلى السماء لا سيف إلا ذو الفقا ر ولا فتى إلا علي وقتل أكثر المشركين في هذه الغزاة وكان الفتح فيها على يده وروى قيس بن سعد قال سمعت عليا يقول أصابني

8

97

يوم أحد ستة عشر ضربة سقطت إلى الأرض في أربع منهن فجاءني رجل حسن الوجه اللمة طيب الريح فأخذ بضبعي فأقامني ثم قال أقبل عليهم فقاتل في طاعة الله وطاعة رسوله فهما عنك راضيان قال علي فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته فقال يا علي أما تعرف الرجل قلت لا ولكن شبهته بدحية الكلبي فقال يا علي أقر الله عينيك كان ذاك جبريل والجواب أن يقال قد ذكر في هذه من الأكاذيب العظام التي لا تنفق إلا على من لم يعرف الإسلام وكأنه يخاطب بهذه الخرافات من لا يعرف ما جرى في الغزوات كقوله إن عليا قتل أكثر المشركين في هذه الغزاة وكان الفتح فيها على يده فيقال آفة الكذب الجهل وهل كان في هذه الغزاة فتح بل كان المسلمون قد هزموا العدو أولا وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد وكل بثغرة الجبل الرماة وأمرهم بحفظ ذلك المكان وأن لا يأتوهم سواء غلبوا أو غلبوا فلما انهزم المشركون صاح بعضهم أي قوم الغنيمة فنهاهم أميرهم عبد الله بن جبير ورجع العدو عليهم وأمير المشركين

8

98

إذ ذاك خالد بن الوليد فأتاهم من ظهورهم فصاح الشيطان قتل محمد واستشهد في ذلك اليوم نحو سبعين ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك اليوم إلا اثنا عشر رجلا فيهم أبو بكر وعمر وأشرف أبو سفيان فقال أفي القوم محمد أفي القوم محمد والحديث في الصحيحين وقد تقدم لفظه وكان يوم بلاء وفتنة وتمحيص وانصراف العدو عنهم منتصرا حتى هم بالعود إليهم فندب النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين للحاقه وقيل إن في هؤلاء نزل قوله تعالى الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح سورة آل عمران وكان في هؤلاء المنتدبين أبو بكر والزبير قالت عائشة لابن الزبير أبوك وجدك ممن قال الله فيهم الذين استجابوا لله والرسول من بعد ماأصابهم القرح ولم يقتل يومئذ من المشركين إلا نفر قليل وقصد العدو رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتهدوا في قتله وكان ممن ذب عنه

8

99

يومئذ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وجعل يرمي عنه والنبي صلى الله عليه وسلم يقول له ارم فداك أبي وأمي وفي الصحيحين عن سعد قال جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبويه يوم أحد وكان سعد مجاب الدعوة مسدد الرمية وكان فيهم أبو طلحة راميا وكان شديد النزع وطلحة بن عبيد الله وقي النبي صلى الله عليه وسلم بيده فشلت يده وظاهر النبي صلى الله عليه وسلم بين درعين وقتل دونه نفر قال ابن إسحاق في السيرة في النفر الذين قاموا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ترس دون النبي صلى الله عليه وسلم أبو دجانة بنفسه يقع النبل في ظهره وهو منحن عليه متى كثر فيه النبل ورمى سعد بن أبي وقاص دون النبي صلى الله عليه وسلم قال سعد فلقد رأيته يناولني النبل ويقول ارم فداك أبي وأمي حتى إنه ليناولني السهم ماله نصل فيقول ارم

8

100

وقال النبي صلى الله عليه وسلم حين غشيه القوم من رجل يشرى لنا نفسه فقام زياد بن السكن في نفر خمسة من الأنصار وبعض الناس يقول إنما هو عمارة بن زيد بن السكن فقاتلوا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا ثم رجلا يقتلون دونه حتى كان آخرهم زياد أو عمارة فقاتل حتى أثبتته الجراح ثم فاءت فئة من المسلمين فأجهضوهم عنه فقال النبي صلى الله عليه وسلم أدنوه منى فأدنوه منه فوسده قدمه فمات وخده على قدم النبي صلى الله عليه وسلم قال وحدثنى عاصم بن عمر بن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى عن قوسه حتى انعرقت سيتها فأخذها قتادة بن النعمان فكانت عنده وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنيه وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردها بيده وكانت أحسن عينيه وأحدهما

8

101

ولم يكن علي ولا أبو بكر ولا عمر من الذين كانوا يدفعون عن النبي صلى الله عليه وسلم بل كانوا مشغولين بقتال آخرين وجرح النبي صلى الله عليه وسلم في جبينه ولم يجرح علي فقوله إن عليا قال أصابتني يوم أحد شت عشرة ضربة سقطت إلى الأرض في أربع منهن كذب على علي وليس هذا الحديث في شئ من الكتب المعروفة عند أهل العلم فأين إسناد هذا ومن الذي صححه من أهل العلم وفي أي كتاب من الكتب التي يعتمد على نقلها ذكر هذا بل الذي جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم وكثير من الصحابة قال ابن إسحاق فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فم الشعب خرج علي بن أبي طالب حتى ملأ درقته من المهراس فجاء

8

102

به رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشرب منه فوجد له ريحا فعافه فلم يشرب منه وغسل عن وجه الدم وصب على رأسه وهو يقول اشتد غضب الله على من أدمى وجه نبيه وقوله إن عثمان جاء بعد ثلاثة أيام كذب آخر وقوله إن جبريل قال وهو يعرج لا سيف إلا ذو الفقا ر ولا فتى إلا علي كذب باتفاق الناس فإن ذا الفقار لم يكن لعلي ولكن كان سيفا لأبي جهل غنمه المسلمون يوم بدر فروى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس قال تنفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه

8

103

ذا الفقار يوم بدر وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد قال رأيت في سيفي ذي الفقار فلا فأولته فلا يكون فيكم ورأيت أني مردف كبشا فأولته كبش الكتيبة ورأيت أني في درع حصينة فأولتها المدينة ورأيت بقرا تذبح فبقر والله خير فكان الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الكذب المذكور في ذي الفقار من جنس كذب بعض الجهال أنه كان له سيف يمتد إذا ضرب به كذا وكذا ذراعا فإن هذا مما يعلم العلماء أنه لم يكن قط لا سيف علي ولا غيره ولو كان سيفه يمتد لمده يوم قاتل معاوية

8

104

وقال بعض الجهال إنه مد يده حتى عبر الجيش على يده بخيبر وإنه قال للبغلة قطع الله نسلك فانقطع نسلها هذا من الكذب البين فإنه يوم خيبر لم يكن معهم بغلة ولا كان للمسلمين بغلة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا بغلته التي أهداها له المقوقس وذلك بعد غزوة خيبر بعد أن أرسل إلى الأمم وأرسل إلى ملوك الأرض هرقل ملك الشام وإلى المقوقس ملك مصر وإلى كسرى ملك الفرس وأرسل إلى ملوك العرب مثل صاحب اليمامة وغيره وأيضا فالجيش لم يعبر أحد منهم على يد علي ولا غيره والبغلة لم تزل عقيما قبل ذلك ولم تكن قبل ذلك تلد فعقمت ولو قدر أنه دعا على بغلة معينة لم تعم الدعوة جنس البغال ومثل هذا الكذب الظاهر قول بعض الكذابين إنه لما سبى بعض أهل البيت حملوا على الجمال عرايا فنبتت لهم سنامات من يومئذ وهي البخاتي وأهل البيت لم يسب أحد منهم في الإسلام ولا حمل أحد من نسائهم مكشوف العورة وإنما جرى هذا على أهل البيت في هذه الأزمان بسبب الرافضة كما قد علمه الخاص والعام بل هذا الكذب مثل كذب من يقول إن الحجاج قتل الأشراف والحجاج لم يقتل أحدا من بني هاشم مع ظلمة وفتكه بكثير من

8

105

غيرهم لكن قتل كثيرا من أشراف العرب وكان الملك قد أرسل إليه أن لا يقتل أحدا من بني هاشم وذكر له أنه لما قتل الحسين في ولاية بني حرب يعني ملك يزيد أصابهم شر فاعتبر عبد الملك بذلك فنهاه أن يقتل أحدا من بني هاشم حتى أن الحجاج طمع أن يتزوج هاشمية فخطب إلى عبد الله بن جعفر ابنته وأصدقها صداقا كثيرا فأجابه عبد الله إلى ذلك فغضب من ذلك من غضب من أولاد عبد الملك ولم يروا الحجاج أهلا لأن يتزوج واحدة من بني هاشم ودخلوا على عبد الملك وأخبروه بذلك فمنع الحجاج من ذلك ولم يروه كفؤا لنكاح هاشمية ولا أن يتزوجها وبالجملة فالأحاديث التي ينقلها كثير من الجهال لا ضابط لها لكن منها ما يعرف كذبه بالعقل ومنها ما يعرف كذبه بالعادة ومنها ما يعرف كذبه بأنه خلاف ما علم بالنقل الصحيح ومنها ما يعرف كذبه بطرق أخرى فصل قال الرافضي وفي غزاة الأحزاب وهي غزاة الخندق لما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من عمل الخندق أقبلت

8

106

قريش يقدمها أبو سفيان وكنانة أهل تهامة في عشرة آلاف وأقبلت غطفان ومن تبعها من أهل نجد ونزلوا من فوق المسلمين ومن تحتهم كما قال تعالى إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم سورة الأحزاب فخرج عليه الصلاة والسلام بالمسلمين مع ثلاثة آلاف وجعلوا الخندق بينهم واتفق المشركون مع اليهود وطمع المشركون بكثرتهم وموافقة اليهود وركب عمرو بن عبد ود وعكرمة بن أبي جهل ودخلا من مضيق في الخندق إلى المسلمين وطلبا المبارزة فقام علي وأجابه فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنه عمرو فسكت ثم طلب المبارزة ثانيا وثالثا وكل ذلك يقوم علي ويقول له النبي صلى الله عليه وسلم أنه عمرو فأذن له في الرابعة فقال له عمرو ارجع يا ابن أخي فما أحب أن أقتلك فقال له علي كنت عاهدت الله أن لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه وأنا أدعوك

8

107

إلى الإسلام قال عمرو لا حاجة لي بذلك قال أدعوك إلى البراز قال ما أحب أن أقتلك قال علي بل أنا أحب أن أقتلك فحمى عمرو ونزل عن فرسه وتجاولا فقتله علي وانهزم عكرمة ثم انهزم باقي المشركين واليهود وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل علي لعمرو بن عبد ود أفضل من عبادة الثقلين والجواب أن يقال أولا أين إسناد هذا النقل وبيان صحته ثم يقال ثانيا قد ذكر في هذه الغزوة أيضا عدة أكاذيب منها قوله أن قريشا وكنانة وأهل تهامة كانوا في عشرة آلاف فالأحزاب كلهم من هؤلاء ومن أهل نجد تميم وأسد وغطفان ومن اليهود كانوا قريبا من عشرة آلاف والأحزاب كانوا ثلاثة أصناف قريش وحلفاؤها وهم أهل مكة ومن حولها وأهل نجد تميم وأسد وغطفان ومن دخل معهم واليهود بنو قريظة وقوله إن عمرو بن عبد ود وعكرمة بن أبي جهل ركبا ودخلا من مضيق في الخندق

8

108

وقوله إن عمرا لما قتل وانهزم المشركون واليهود هذا من الكذب البارد فإن المشركين بقوا محاصرين للمسلمين بعد ذلك هم واليهود حتى خبب بينهم نعيم بن مسعود وأرسل الله عليهم الريح الشديدة ريح الصبا والملائكة من السماء كما قال تعالى يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا إذ جاءتكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر بالله الظنونا هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا وإذا يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا سورة الآحزاب إلى قوله وكفى الله المؤمنين القتال سورة الأحزاب وهذا يبين أن المؤمنين لم يقاتلوا فيها وأن المشركين ماردهم الله بقتال وهذا هو المعلوم المتواتر عند أهل العلم بالحديث والتفسير والمغازي والسير والتاريخ فكيف يقال بأنه باقتتال علي وعمرو بن عبد ود وقتله له انهزم المشركون والحديث الذي ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال قتل علي لعمرو بن عبد ود أفضل من عبادة الثقلين من الأحاديث

8

109

الموضوعة ولهذا لم يروه أحد من علماء المسلمين في شئ من الكتب التي يعتمد عليها بل ولا يعرف له إسناد صحيح ولا ضعيف وهو كذب لا يجوز نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يجوز أن يكون قتل كافر أفضل من عبادة الجن والإنس فإن ذلك يدخل فيه عبادة الأنبياء وقد قتل من الكفار من كان قتله أعظم من قتل عمرو بن عبد ود وعمرو هذا لم يكن فيه من معاداة النبي صلى الله عليه وسلم ومضارته له وللمؤمنين مثل ما كان في صناديد قريش الذين قتلوا ببدر مثل أبي جهل وعقبة بن أبي معيط وشبية بن ربيعة والنضر بن الحارث وأمثالهم الذين نزل فيهم القرآن وعمرو هذا لم ينزل فيه شئ من القرآن ولاعرف له شئ ينفرد به في معاداة النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وعمرو بن عبد ود هذا لم يعرف له ذكر في غزاة بدر ولا أحد ولا غير ذلك من مغازى قريش التي غزوا فيها النبي صلى الله عليه وسلم ولا في شئ من السرايا ولم بشتهر ذكره إلا في قصة الخندق مع أن قصته ليست مذكورة في الصحاح ونحوها كما نقلوا في الصحاح مبارزة الثلاثة يوم بدر إلى الثلاثة مبارزة حمزة وعبيدة وعلي مع عتبة وشبية والوليد وكتب التفسير والحديث مملوءة بذكر المشركين الذين كانوا يؤذون

8

110

النبي صلى الله عليه وسلم مثل أبي جهل وعقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث وغيرهم وبذكر رؤساء الكفار مثل الوليد بن المغيرة وغيره ولم يذكر أحد عمرو بن عبد ود لا في هؤلاء ولا في هؤلاء ولا كان من مقدمي القتال فكيف يكون قتل مثل هذا أفضل من عبادة الثقلين ومن المنقول بالتواتر أن الجيش لم ينهزم بقتله بل بقوا بعده محاصرين مجدين كما كانوا قبل قتله فصل قال الرافضي وفي غزاة بني النضير قتل علي رامي ثنيةالنبي صلى الله عليه وسلم وقتل بعده عشرة وانهزم الباقون والجواب أن يقال ما تذكره في هذه الغزاة وغيرها من الغزاوات من المنقولات لابد من ذكر إسناده أولا وإلا فلو أراد إنسان أن يحتج بنقل لا يعرف إسناده في جزرة بقل لم يقبل منه فكيف يحتج به في مسائل الأصول

8

111

ثم يقال ثانيا هذا من الكذب الواضح فإن بني النضير هم الذين أنزل الله فيهم سورة الحشر باتفاق الناس وكانوا من اليهود وكانت قصتهم قبل الخندق وأحد ولم يذكر فيها مصاف ولا هزيمة ولارمي أحد ثنية النبي صلى الله عليه وسلم فيها وإنما أصيبت ثنيته يوم أحد وكان النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في غزاة بني النضير قد حاصروهم حصارا شديدا وقطعوا نخيلهم وفيهم أنزل الله تعالى ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزى الفاسقين سورة الحشر ولم يخرجوا لقتال حتى ينهزم أحد منهم وإنما كانوا في حصن يقاتلون من ورائه كما قال تعالى لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى سورة الحشر ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أجلاهم إجلاء لم يقتلهم فيه قال تعالى هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ماظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتهم الله من حيث لم يحتسبوا سورة الحشر إلى قوله تعالى فاعتبروا يا أولى الأبصار سورة الحشر

8

112

قال ابن إسحاق بعد أن ذكر نقضهم العهد وأنهم أرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إليهم يستعين بهم في دية القتيلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية قال فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسير إليهم وبالتهيؤ لحربهم واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم فيما ذكر ابن هشام ونزل تحريم الخمر قال اين إسحاق فتحصنوا في الحصون فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخيل والتحريق فيها فنادوه أي محمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه فما بال قطع النخيل وتحريقها قال وقد كان رهط من بني عوف بن الخزرج قد بعثوا إلى بني النضير أن اثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم إن قوتلتم قاتلنا معكم وإن خرجتم خرجنا معكم فتربصوا ذلك من نصرهم فلم يفعلوا وقذف الله في قلوبهم الرعب وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن

8

113

يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة ففعل فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف بابه فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به فخرجوا إلى خيبر ومنهم من سار إلى الشام قال وحدثنى عبد الله بن أبي بكر أنه حدث أنهم استقلوا بالنساء والأموال والأبناء معهم الدفوف والمزامير والقينات يعزفن خلفهم بزهو وفخر ما رئي مثله من حي من الناس وخلوا الأموال لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة يضعها حيث يشاء فقسمها رسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين الأولين دون الأنصار إلا أن سهل بن حنيف وأبا دجانة ذكرا فاقة وفقرا فأعطاهما النبي صلى الله عليه وسلم

8

114

قال وأنزل الله تعالى في بني النضير سورة الحشر بأسرها يذكر فيها ماأصابهم من نقمة وما سلط به رسوله عليهم وما عمل فيهم وفي الصحيحين عن ابن عمر أن يهود بني النضير وبني قريظة حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلى بني النضير وأقر قريظة ومن عليهم حتى حاربت قريظة بعد ذلك فقتل رجالهم وسبى نساءهم وأولادهم وأموالهم وقسم أنفالهم بين المسلمين إلا بعضهم لحقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنهم وأسلموا وأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود المدينة كلهم بني قينقاع وهم قوم عبد الله ابن سلام ويهود بني حارثة وكل يهودي كان بالمدينة

8

115

فصل قال الرافضي وفي غزوة السلسلة جاء أعرابي فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن جماعة من العرب قصدوا أن يكبسوا عليه بالمدينة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من للوائي فقال أبو بكر أنا له فدفع إليه اللواء وضم إليه سبعمائة فلما وصل إليهم قالوا ارجع إلى صاحبك فإنا في جمع كثير فرجع فقال في اليوم الثاني من للوائي فقال عمر نا فدفع إليه الراية ففعل كالأول فقال في اليوم الثالث أين علي فقال علي أنا ذا يا رسول الله

8

116

فدفع إليه الراية ومضى إلى القوم ولقيهم بعد صلاة الصبح فقتل منهم ستة أو سبعة وانهزم الباقون وأقسم الله تعالى بفعل أمير المؤمنين فقال والعاديات ضبحا السورة سورة العاديات فالجواب أن يقال له أجهل الناس يقول لك بين لنا سند هذا حتى نثبت أن هذا نقل صحيح والعالم يقول له إن هذه الغزاة وما ذكر فيها من جنس الكذب الذي يحكيه الطرقية الذين يحكون الأكاذيب الكثيرة من سيرة عنترة والبطال وإن كان عنترة له سيرة مختصرة والبطال له سيرة يسيرة وهي ما جرى له في دولة بني أمية وغزوة الروم لكن ولدها الكذابون حتى صارت مجلدات وحكايات الشطار كأحمد الدنف والزيبق المصري وصاروا يحكون حكايات يختلقونها عن الرشيد وجعفر فهذه الغزاة من جنس هذه الحكايات لم يعرف في شئ من كتب المغازى والسير المعروفة عند أهل العلم ذكر هذه الغزاة ولم يذكرها أئمة هذا الفن فيه كموسى بن عقبة وعروة بن الزبير والزهري وابن إسحاق وشيوخه والواقدي ويحيى بن سعيد الأموي والوليد بن مسلم ومحمد بن عائذ وغيرهم ولا لها ذكر في الحديث ولا نزل فيها شئ من القرآن

8

117

وبالجملة مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم لا سيما غزوات القتال معروفة مشهورة مضبوطة متواترة عند أهل العلم بأحواله مذكورة في كتب أهل الحديث والفقه والتفسير والمغازي والسير ونحو ذلك وهي مما تتوفر الدواعي على نقلها فيمتنع عادة وشرعا أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم غزاة يجري فيها مثل هذه الأمور لا ينقلها أحد من أهل العلم بذلك كما يمتنع أن يكون قد فرض في اليوم والليلة أكثر من خمس صلوات أو فرض في العام أكثر من صوم شهر رمضان ولم ينقل ذلك وكما يمتنع أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد غزا الفرس بالعراق وذهب إلى اليمن ولم ينقل ذلك أحدا وكما يمتنع أمثال ذلك مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله لو كان ذلك موجودا وسورة والعاديات فيها قولان أحدهما أنها نزلت بمكة وهذا يروى عن ابن مسعود وعكرمة وعطاء وغيرهم فعلى هذا يظهر كذب هذا القول والثاني أنها نزلت بالمدينة وهو مروى عن ابن عباس وقتادة وهذا القول يناسب قول من فسر العاديات بخيل المجاهدين لكن المشهور عن علي المنقول عنه في كتب التفسير أنه كان يفسر العاديات بإبل الحجاج وعدوها من مزدلفة إلى منى وهذا يوافق القول الأول فيكون على ما قاله علي يكذب هذا القول وكان ابن عباس والأكثر يفسرونها بالخيل العاديات في سبيل الله

8

118

وأيضا ففي هذه الغزاة أن الكفار نصحوا المسلمين وقالوا لأبي بكر ارجع إلى صاحبك فإنا في جمع كثير ومعلوم أن هذا خلاف عادة الكفار المحاربين وأيضا فأبو بكر وعمر لم ينهزما قط وما ينقله بعض الكذابين من انهزامهما يوم حنين فهو من الكذب المفترى فلم يقصد أحد المدينة إلا يوم الخندق وأحد ولم يقرب أحد من العدو المدينة للقتال إلا في هاتين الغزاتين وفي غزوة الغبة الغاية بعض الناس على سرح المدينة وأما ما ذكر في غزوة السلسلة فهو من الكذب الظاهر الذي لا يذكره إلا من هو من أجهل الناس وأكذبهم وأما غزوة ذات السلاسل فتلك سرية بعث فيها النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص أميرا فيها لأن المقصودين كانوا بني عذرة وكان بينهم وبين عمرو بن العاص قرابة فأرسله إليهم لعلهم يسلمون ثم أردفه بأبي عبيدة بن الجراح وليس لعلي فيها ذكر وكانت قريبا من الشام بعيدة من المدينة وفيها احتلم عمرو بن العاص في ليلة باردة فتيمم وصلى بأصحابه فلما أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم قال

8

119

يا عمر أصليت بأصحابك وأنت جنب قال إني سمعت الله يقول ولا تقتلوا أنفسكم سورة النساء فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على فعله ولم ينكره لما بين له عذره وقد تنازع الفقهاء هل قوله أصليت بأصحابك وأنت جنب استفهام أي هل صليت مع الجنابة فلما أخبره أنه تطهر بالتيمم ولم يكن جنبا أقره أو هو إخبار بأنه جنب والتيمم يبيح الصلاة وكان يرفع الجنابة على قولين والأول هو الأظهر فصل قال الرافضي وقتل من بني المصطلق مالكا وابنه وسبى كثيرا من جملتهم جويرية بنت الحرث ين أبي ضرار فاصطفاها النبي صلى الله عليه وسلم فجاءها أبوها في ذلك

8

120

اليوم فقال يا رسول الله ابنتي كريمة لا تسبي فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يخيرها فقال أحسنت وأجملت ثم قال يا بنية لا تفضحي قومك قالت اخترت الله ورسوله والجواب أن يقال أولا لا بد من بيان إسناد كل ما يحتج به من المنقول أو عزوه إلى كتاب تقوم به الحجة وإلا فمن أين يعلم أن هذا وقع ثم يقول من يعرف السيرة هذا كله من الكذب من أخبار الرافضة التي يختلقونها فإنه لم ينقل أحد أن عليا فعل هذا في غزوة بني المصطلق ولا سبي جويرية بنت الحارث وهي لما سبيت كاتبت على نفسها فأدى عنها النبي صلى الله عليه وسلم وعتقت من الكتابة وأعتق الناس السبي لأجلها وقالوا أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقدم أبوها أصلا ولا خيرها وروى أبو داود عن عائشة قالت وقعت جويرية بنت الحارث بن

8

121

المصطلق في سهم ثابت بن قيس بن شماس أو ابن عم له فكاتبت على نفسها وكانت امرأة ملاحة لها في العين حظ تأخذها العين قالت عائشة فجاءت تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابتها فملا قامت على الباب فرأيتها كرهت مكانها وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيرى منها مثل الذي رأيت فقالت يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث وإنه كان من أمري ما لا يخفى عليك وإني وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس وإني كاتبت على نفسي وجئتك تعينني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل لك فيما هو خير لك قالت وما هو يا رسول الله قال أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك قالت قد فعلت فلما تسامع الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزوج جويرية أرسلو ما في أيديهم من السبي واعتقوهم وقالوا أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت فما رأينا امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها

8

122

أعتق في سببها أكثر من مائة أهل بيت من بني المصطلق فصل قال الرافضي وفي غزوة خيبر كان الفتح فيها على يد أمير المؤمنين ودفع الراية إلى أبي بكر فانهزم ثم إلى عمر فانهزم ثم إلى علي وكان أرمد فتفل في عينيه وخرج فقتل مرحبا فانهزم الباقون وغلقوا عليهم الباب فعالجه أمير المؤمنين فقلعه وجعله جسرا على الخندق وكان الباب يغلقه عشرون رجلا ودخل المسلمون الحصن ونالوا الغنائم وقال عليه السلام والله ما قلعه بقوة خمسمائة رجل ولكن بقوة

8

123

ربانية وكان فتح مكة بواسطته والجواب بعد أن يقال لعنة الله على الكاذبين أن يقال من ذكر هذا من علماء النقل وأين إسناده وصحته وهو من الكذب فإن خيبر لم تفتح كلها في يوم واحد بل كانت حصونا متفرقة بعضها فتح عنوة وبعضها فتح صلحا ثم كتموا ما صالحهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم فصاروا محاربين ولم ينهزم فيها أبو بكر ولا عمر وقد روى أن عليا اقتلع باب الحصن وأما جعله جسرا فلا وقوله كان فتح مكة بواسطته من الكذب أيضا فإن عليا ليس له في فتح مكة أثر أصلا إلا كما لغيره ممن شهد الفتح والأحاديث الكثيرة المشهورة في غزوة الفتح تتضمن هذا وقد عزم علي على قتل حموين لأخته أجارتهما أخته أم هانئ فأجار رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجارت وقد هم بتزوج بنت أبي جهل حتى غضب النبي صلى الله عليه وسلم فتركه وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال كنا يوم الفتح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل خالد بن الوليد على المجنبة اليسرى

8

124

وجعل الزبير على المجنبة اليمنى وجعل أبا عبيدة على البياذقة وبطن الوادي فقال يا أبا هريرة ادع لي الأنصار فجاءوا يهرولون فقال يا معشر الأنصار هل ترون أوباش قريش قالوا نعم قال انظروا إذا لقيتموهم غدا أن تحصدوهم حصدا وأحفى بيده ووضع يمينه على شماله وقال موعدكم الصفا فما أشرف يومئذ لهم أحد إلا أناموه قال فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا وجاءت الأنصار فأطافوا بالصفا فجاء أبو سفيان فقال يا رسول الله أبيدت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن ومن أغلق بابه فهوآمن وفي الصحيحين من حديث عروة بن الزبير قال لما سار رسول

8

125

الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فبلغ ذلك قريشا خرج أبو سفيان ابن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يلتمسون الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مر الظهران فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة فقال أبو سفيان ما هذه لكأنها نيران عرفة فقال أبو سفيان ما هذه لكأنها نيران عرفة فقال بديل بن ورقاء نيران بني عمرو فقال أبو سفيان عمرو أقل من ذلك فرآهم ناس من حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدركوهم فأخذوهم فأتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم أبو سفيان فلما سار قال للعباس أمسك أبا سفيان عند خطم الجبل حتى ينظر إلى المسلمين فحبسه العباس فجعلت القبائل تمر مع النبي صلى الله عليه وسلم كتيبة كتيبة على أبي سفيان فمرت كتيبة فقال يا عباس من هذه قال هذه غفار قال مالي ولغفار ثم مرت جهينة فقال مثل ذلك ثم مرت سعد بن هذيم فقال

8

126

مثل ذلك ثم مرت سليم فقال مثل ذلك حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها قال من هؤلاء قال الأنصار عليهم سعد بن عبادة معه الراية فقال سعد بن عبادة يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الكعبة فقال أبو سفيان يا عباس حبذا يوم الذمار ثم جاءت كتيبة وهي أقل الكتائب فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وراية النبي صلى الله عليه وسلم مع الزبير فلما مر النبي صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان قال ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة قال وما قال قال قال كذا وكذا فقال كذب سعد ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة ويوم تكسى فيه الكعبة ثم أمر أن تركز رايته بالحجون فصل قال الرافضي وفي غزاة حنين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متوجها في عشر آلاف من المسلمين

8

127

فعانهم أبو بكر وقال لن نغلب اليوم من كثرة فنهزموا ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا تسعة من بني هاشم وأيمن بن أم أيمن وكان أمير المؤمنين يضرب بين يديه بالسيف وقتل من المشركين أربعين نفسا فانهزموا والجواب بعد المطالبة بصحة النقل أما قوله فعانهم أبو بكر فكذب مفترى وهذه كتب الحديث والسير والمغازي والتفسير لم يذكر أحد قوله إن أبا بكر عانهم واللفظ المأثور لن نغلب اليوم من قلة فإنه قد قيل إنه قد قاله بعض المسلمين وكذلك قوله لم يبق معه إلا تسعة من بني هاشم هو كذب أيضا قال ابن إسحاق في السيرة بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته وممن ثبت معه من المهاجرين أبو بكر وعمر ومن أهل بيته علي والعباس وأبو سفيان بن الحارث

8

128

وابنه والفضل بن العباس وربيعة بن الحارث وأسامة بن زيد وأيمن بن أم أيمن وبعض الناس يعد فيهم قثم بن العباس ولا يعد ابن أبي سفيان هذا من كلام ابن إسحاق وقوله إن عليا كان بين يديه يضرب بالسيف وإنه قتل أربعين نفسا فكل هذا كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث والمغازي والسير والذي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين لما وافوا وادي حنين عند الفجر وكان القوم رماه فرموهم رمية واحدة فولوا وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم عمه العباس وأبو سفيان بن الحارث وكان شاعرا يهجو النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم فحسن إسلامه فثبت معه يومئذ قال العباس لزمت أنا وأبو سفيان رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نفارقه قال البراء بن عازب وأمر النبي صلى الله عليه وسلم العباس أن ينادى فيهم وكان العباس جهوري الصوت فنادى

8

129

يا أهل الشجرة يا أهل سورة البقرة يعني الشجرة التي بايعوا تحتها فذكرهم ببيعته لهم هناك على أن لا يفروا وعلى الموت فتنادوا يالبيك وعطفوا عليه عطفة البقر على أولادها فقاتلوا حتى انهزم المشركون وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخذ كفا من حصباء فرمى بها القوم وقال انهزموا ورب الكعبة وكان علي بغلته وهو يقول أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب وهذا مارواه أهل الصحيحين وفي الصحيحين عن البراء وسأله رجل قال أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة فقال أشهد أن نبي الله صلى الله عليه وسلم ما ولى ولكنه انطلق أخفاء من الناس وحسر إلى هذا الحي من هوازن وهم

8

130

قوم رماة فرموهم برشق من نبل كأنها رجل من جراد فانكشفوا فأقبل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان بن الحارث يقود بغلته فنزل ودعا واستنصر وهو يقول أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب اللهم أنزل نصرك قال البراء وكنا إذا احمر البأس نتقي به وكان الشجاع منا الذي يحاذي به يعني النبي صلى الله عليه وسلم وفي حديث سلمة بن الأكوع لما غشوا النبي صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة ثم قبض قبضة من تراب الأرض واستقبل بها وجوههم فقال شاهت الوجوه فما خلق الله منهم إنسانا إلا ملأ عينيه ترابا بتلك القبضة فولوا مدبرين فهزمهم الله وقسم رسول الله

8

131

صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين رواه مسلم فصل قال الرافضي الخامس إخباره بالغائب والكائن قبل كونه فأخبر أن طلحة والزبير لما استأذناه في الخروج إلى العمرة قال لا والله ما تريدان العمرة وإنما تريدان البصرة وكان كما قال وأخبر وهو بذى قار جالس لأخذ البيعة يأتيكم من قبل الكوفة ألف رجل لا يزيدون ولا ينقصون يبايعونني على الموت وكان كذلك وكان آخرهم أويس القرني وأخبر بقتل ذى الثدية وكان كذلك وأخبره شخص بعبور القوم في قصة النهروان فقال لن

8

132

يعبروا ثم أخبره آخر بذلك فقال لم يعبروا وإنه والله لمصرعهم فكان كذلك وأخبر بقتل نفسه الشريفة وأخبر شهربان بأن اللعين يقطع يديه ورجليه ويصلبه ففعل به معاوية ذلك وأخبر ميثم التمار بأنه يصلب على باب دار عمرو بن

8

133

حريث عاشر عاشرة وهو أقصرهم خشبة وأراه النخلة التي يصلب عليها فوقع كذلك وأخبر رشيد الهجري بقطع يديه ورجليه وصلبه وقطع لسانه فوقع وأخبر كميل بن زياد أن الحجاج يقتله وأن قنبرا يذبحه الحجاج فوقع

8

134

وقال للبراء بن عازب إن ابني الحسين يقتل ولا تنصره فكان كما قال وأخبره بموضع قتله وأخبر بملك بني العباس وأخذ الترك الملك منهم فقال ملك بني العباس يسير لا عسر فيه لو اجتمع عليهم الترك والديلم والهند والبربر والطيلسان على أن يزيلوا ملكهم ما قدروا أن يزيلوه حتى يشذ عنهم مواليهم وأرباب دولتهم ويسلط عليهم ملك من الترك يأتي عليهم من حيث بدأ ملكهم لا يمر بمدينة إلا فتحها ولا يرفع له راية إلا نكسها الويل ثم الويل لمن ناوأه فلا يزال كذلك حتى يظفر بهم ثم يدفع ظفره إلى رجل من عترتي يقول بالحق ويعمل به ألا وإن الأمر كذلك حيث ظهر هولاكو من ناحية خراسان

8

135

ومنه ابتدأ ملك بني العباس حتى بايع لهم أبو مسلم الخراساني والجواب أن يقال أما الإخبار ببعض الأمور الغائبة فمن هو دون علي يخبر بمثل ذلك فعلى أجل قدرا من ذلك وفي أتباع أبي بكر وعمر وعثمان من يخبر بأضعاف ذلك وليسوا ممن يصلح للإمامة ولا هم أفضل أهل زمانهم ومثل هذا موجود في زماننا وغير زماننا وحذيفة بن اليمان وأبو هريرة وغيرهما من الصحابة كانوا يحدثون الناس بأضعاف ذلك وأبو هريرة يسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحذيفة تارة يسنده وتارة لا يسنده وإن كان في حكم المسند وما أخبر به هو وغيره قد يكون مما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وقد يكون مما كوشف هو به وعمر رضي الله عنه قد أخبر بأنواع من ذلك والكتب المصنفة في كرامات الأولياء وأخبارهم مثل ما في كتاب الزهد للإمام أحمد وحلية الإولياء وصفوة الصفوة وكرامات الأولياء لأبي محمد الخلال وابن أبي الدنيا واللالكائي فيها من الكرامات عن بعض أتباع أبي بكر وعمر كالعلاء بن الحضرمي نائب أبي بكر وأبي مسلم الخولاني تعض أتباعهما وأبي الصهباء وعامر ابن عبد قيس وغير هؤلاء ممن على أعظم منه وليس في ذلك ما يدل

8

136

على أنه يكون هو الأفضل من أحد من الصحابة فضلا عن الخلفاء وهذه الحكايات التي ذكرها عن علي لم يذكر لشئ منها إسنادا وفيها ما يعرف صحته وفيها ما يعرف كذبه وفيها مالا يعرف هل هو صدق أم كذب فالخبر الذي ذكره عن ملك الترك كذب على علي فإنه لم يدفع ظفره إلى رجل من العترة وهذا مما وضعه متأخروهم والكتب المنسوبة إلى علي أو غيره من أهل البيت في الأخبار بالمستقبلات كلها كذب مثل كتاب الجفر والبطاقة وغير ذلك وكذلك ما يضاف إليه من أنه كان عنده علم من النبي صلى الله عليه وسلم خصه به دون غيره من الصحابة وفي صحيح البخاري عن أبي حذيفة قال قلت لعلي هل عندكم شئ من الوحي مما ليس في القرآن فقال لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن وما في هذه الصحيفة قلت وما في هذه الصحيفة قال العقل وفكالك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر وكذلك ما ينقل عن غير علي من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم خصه بشئ من علم الدين الباطن كل ذلك باطل

8

137

ولا ينافى ذلك ما في الصحيحين عن أبي هريرة قال حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم جرابين أما أحدهما فبثثته فيكم وأما الآخر فلو أبثه لقطعتم هذا البلعوم فإن هذا حديث صحيح ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم خص أبا هريرة بما في ذلك الجراب بل كان أبو هريرة أحفظ من غيره فحفظ مالم يحفظه غيره وكذلك قال حذيفة والله إني لأعلم الناس بكل فتنة هي كائنة بيني وبين الناس وما بي أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أسر إلى في ذلك شيئا لم يحدثه غيري ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يحدث مجلسا أنا فيه الحديث وقال إنه لم يبق من الرهط غيره وفي الصحيحين عن حذيفة رضي الله عنه قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقام ما ترك شيئا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به حفظه من حفظه ونسيه من نسيه وحديث أبي زيد عمرو بن أخطب في صحيح مسلم قال صلى

8

138

بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر وصعد المنبر ثم خطبنا حتى حضرت الظهر فنزل فصلى بنا ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر فنزل فصلى بنا ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس فأخبرنا بما كان وبما هو كائن فأعلمنا أحفظنا وأبو هريرة أسلم عام خيبر فلم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم إلا أقل من أربع سنين وذلك الجراب لم يكن فيه شئ من علم الدين علم الإيمان والأمر والنهي وإنما كان فيه الإخبار عن الأمور المستقبلة مثل الفتن التي جرت بين المسلمين فتنة الجمل وصفين وفتنة ابن الزبير ومقتل الحسين ونحو ذلك ولهذا لم يكن أبو هريرة ممن دخل في الفتن ولهذا قال ابن عمر لو حدثكم أبو هريرة أنكم تقتلون خليفتكم وتفعلون كذا وكذا لقلتم كذب أبو هريرة وأما الحديث الذي يروي عن حذيفة أنه صاحب السر الذي لا يعلمه غيره فرواه البخاري عن إبراهيم النخعي قال ذهب علقمة إلى الشام فلما دخل المسجد قال اللهم يسر لي جليسا صالحا فجلس إلى أبي الدرداء فقال أبو الدرداء ممن أنت قال من أهل الكوفة قال أليس منكم أو فيكم الذي أجاره الله على لسان نبيه يعني من

8

139

الشيطان يعني عمارا قال قلت بلى قال أليس منكم أو فيكم صاحب السر الذي لا يعلمه غيره قال قلت بلى الحديث وذلك السر كان معرفته بأعيان ناس من المنافقين كانوا في غزوة تبوك هموا بأن يحلوا حزام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل ليسقط فأعلمه الله بهم وكان حذيفة قريبا فعرفه بهم وكان إذا مات الميت المجهول حاله لا يصلى عليه عمر حتى يصلى عليه حذيفة خشية أن يكون من المنافقين ومعرفة بعض الصحابة والصالحين ببعض المستقبلات لا توجب أن يكون عالما بها كلها والغلاة الذين كانوا يدعون علم علي بالمستقبلات مطلقا كذب ظاهر فالعلم ببعضها ليس من خصائصه والعلم بها كلها لم يحصل له ولا لغيره ومما يبين لك أن عليا لم يكن يعرف المستقبلات أنه في ولايته وحروبه في زمن خلافته كان يظن أشياء كثيرة فيتبين له الأمر بخلاف ما

8

140

ظن ولو ظن أنه إذا قاتل معاوية وأصحابه يجري ما جرى لم يقاتلهم فإنه كان لو لم يقاتل أعز وانتصر وكان أكثر الناس معه وأكثر البلاد تحت ولايته فلما قاتلهم ضعف أمره حتى صار معهم كثير من البلاد التي كانت في طاعته مثل مصر واليمن وكان الحجاز دولا ولو علم أنه إذا حكم الحكمين يحكمان بما حكم لم يحكمهما ولو علم أن أحدهما يفعل بالآخر ما فعل حتى يعزلاه لم يول من يوافق على عزل ولا من خذله الحكم الآخر بل قد أشار عليه من أشار أن يقر معاوية على إمارته في ابتداء الأمر حتى يستقيم له الأمر وكان هذا الرأي أحزم عند الذين ينصحونه ويحبونه ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم ولى أبا سفيان أبا معاوية نجران وكان واليا عليها حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم وقد اتفق الناس على أن معاوية كان أحسن إسلاما من أبيه ولم يتهم أحد من الصحابة والتابعين معاوية بنفاق واختلفوا في أبيه والصديق كان قد ولى أخاه يزيد بن أبي سفيان أحد الأمراء في فتح الشام لما ولى خالدا وأبا عبيدة ويزيد بن أبي سفيان لما فتحوا الشام بقي أمير إلى أن مات بالشام وكان من خيار الصحابة رجلا صالحا

8

141

أفضل من أخيه وأبيه ليس هذا هو يزيد بن معاوية الذي تولى بعد معاوية الخلافة فإن ذاك ولد في خلافة عثمان لم يكن من الصحابة ولكن سمى باسم عمه فطائفة من الجهال يظنون يزيد هذا من الصحابة وبعض غلاتهم يجعله من الأنبياء كما أن آخرين يجعلونه كافرا أو مرتدا وكل ذلك باطل بل هو خليفة من بني أمية والحسين رضي الله عنه ولعن قاتله قتل مظلوما شهيدا في خلافته بسبب خلافة لكنه هو لم يأمر بقتله ولم يظهر الرضا به ولا انتصر ممن قتله ورأس الحسين حمل إلى قدام عبيدة الله بن زياد وهو الذي ضربه بالقضيب على ثناياه وهو الذي ثبت في الصحيح

8

142

وأما حمله إلى عند يزيد فباطل وإسناده منقطع وعمه يزيد الرجل الصالح هو من الصحابة توفي في خلافة عمر فلما مات ولى معاوية مكان أخيه وعمر من أعلم الناس بأحوال الرجال وأحذقهم في السياسة وأبعد الناس عن الهوى لم يول في خلافته أحدا من أقاربه وإنما كان يختار للولاية من يراه أصلح لها فلم يول معاوية إلا وهو عنده ممن يصلح للإمارة ثم لما توفي زاد عثمان في ولاية معاوية حتى جمع له الشام وكانت الشام في خلافة عمر أربعة أرباع فلسطين ودمشق وحمص والأردن ثم بعد ذلك فصلت قنسرين والعواصم من ربع حمص ثم بعد هذا عمرت حلب وخربت قنسرين وصارت العواصم دولا بين المسلمين وأهل الكتاب وأقام معاوية نائبا عن عمر وعثمان عشرين سنة ثم تولى عشرين سنة ورعيته شاكرون لسيرته وإحسانه راضون به حتى أطاعوه في مثل قتال علي ومعلوم أنه خير من أبيه أبي سفيان وكانت ولايته أحق بالجواز من ولاية أبيه فلا يقال إنه لم تكن تحل ولايته ولو قدر أن غيره كان

8

143

أحق بالولاية منه أو أنه ممن يحصل به معونة لغيره ممن فيه ظلم لكان الشر المدفوع بولايته أعظم من الشر الحاصل بولايته وأين أخذ المال وارتفاع بعض الرجال من قتل الرجال الذين قتلوا بصفين ولم يكن في ذلك عز ولا ظفر فدل هذا وغيره على أن الذين أشارو على أمير المؤمنين كانوا حازمين وعلى إمام مجتهد لم يفعل إلا ما رآه مصلحة لكن المقصود أنه لو كان يعلم الكوائن كان قد علم إن إقراره على الولاية أصلح له من حرب صفين التي لم يحصل بها إلا زيادة الشر وتضاعفه لم يحصل بها من المصلحة شيء وكانت ولايته أكثر خيرا وأقل شرا من محاربته وكل ما يظن في ولايته من الشر فقد كان في محاربته أعظم منه وهذا وأمثاله كثير مما يبين جهل من يقول إنه كان يعلم الأمور المستقبلية بل الرافضة تدعى الأمور المتناقضة يدعون عليه علم الغيب مع هذه الأمور المنافية لذلك ويدعون له من الشجاعة ما يزعمون معه أنه كان هو الذي ينصر النبي صلى الله عليه وسلم في مغازيه وهو الذي قام الإسلام بسيفه في أول الأمر مع ضعف الإسلام ثم يذكرون من عجزه عن مقاومة أبي بكر رضي الله عنه مع ضعفه عندهم بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ما يناقض ذلك فإن

8

144

أبا بكر رضي الله عنه لم يكن له بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم مال يستعطف به الناس ولا كان له قبيلة عظيمة ينصرونه ولا موال ولا دعا الناس إلى بيعته لا برغبة ولا برهبة وكان علي رضي الله عنه على دفعه أقدر منه على دفع الكفار الذين حاربوا النبي صلى الله عليه وسلم بكثير فلو كان هو الذي دفع الكفار ولو كان مريدا لدفع أبي بكر رضي الله عنه لكان على ذلك أقدر لكنهم يجمعون بين المتناقضين وكذلك في حربه لمعاوية قد قهر وعسكره أعظم وتحت طاعته من هم أفضل وأكثر من الذين تحت طاعة معاوية وهو رضي الله عنه لا ريب أنه كان يريد أن يقهر معاوية وعكسره فلو كان هو الذي نصر النبي صلى الله عليه وسلم مع كثرة الكفار وضعف المسلمين وقلتهم لكان مع كثرة عسكره على عسكر معاوية أقدر على قهر معاوية وجيشه منه على قهر الكفار الذين قاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يجمع بين تلك الشجاعة والقوة وبين هذا العجز والضعف إلا من هو جاهل متناقض بل هذا يدل على أن النصر كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الله أيده بنصره وبالمؤمنين كلهم وعلي وغيره من المؤمنين الذين أيده الله بهم وكان تأييده بأبي بكر وعمر أعظم من تأييده بغيرهما من وجوه كثيرة

8

145

ومما يبين أن عليا لم يكن يعلم المستقبل أنه ندم على أشياء مما فعلها وكان يقول لقد عجزت عجزة لا أعتذر سوف أكيس بعدها وأستمر وأجمع الرأي الشتيت المنتشر وكان يقول ليالي صفين يا حسن يا حسن ما ظن أبوك أن الأمر يبلغ هذا لله در مقام قامه سعد بن مالك وعبد الله بن عمر إن كان برا إن أجره لعظيم وإن كان إثما إن خطره ليسير وهذا رواه المصنفون وتواتر عنه أنه كان يتضجر ويتململ من اختلاف رعيته علي وأنه ما كان بعض يظن أن الأمر يبلغ ما بلغ وكان الحس رأيه ترك القتال وقد جاء النص الصحيح بتصويب الحسن وفي البخاري عن أبي بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن ابني هذا سيد وإن الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين فمدح الحسن على الإصلاح بين الطائفتين وسائر الأحاديث الصحيحة تدل على أن القعود عن القتال والإمساك عن الفتنة كان أحب إلى الله ورسوله وهذا قول أئمة السنة وأكثر ائمة الإسلام وهذا ظاهر في الاعتبار فإن محبة الله ورسوله للعمل بظهور ثمرته فما كان أنفع للمسلمين في دينهم ودنياهم كان أحب إلى الله

8

146

ورسوله وقد دل الواقع على أن رأى الحسن كان أنفع للمسلمين لما ظهر من العاقبة في هذا وفي هذا وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول للحسن وأسامة اللهم أني أحبها فأحبهما وأحب من يحبهما وكلاهما كان يكره الدخول في القتال أما أسامة فإنه اعتزل القتال فطلبه علي ومعاوية فلم يقاتل مع واحد من هؤلاء كما اعتزل أكثر فضلاء الصحابة رضي الله عنهم مثل سعد بن أبي وقاص وابن عمر ومحمد بن مسلمة وزيد بن ثابت وأبي هريرة وعمران بن حصين وأبي بكرة وغيرهم وكان ما فعله الحسن أفضل عند الله مما فعله الحسين فإنه وأخاه سيدا شباب أهل الجنة فقتل الحسين شهيدا مظلوما وصار الناس في قتله ثلاثة أحزاب حزب يرون أنه قتل بحق ويحتجون بما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من جاءكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرق بين جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان قالوا وهو جاء والناس على رجل واحد فأراد أن يفرق جماعتهم وحزب يرون أن الذين قاتلوه كفارا بل يرون أن من لم يعتقد إمامته كافر

8

147

والحزب الثالث وهم أهل السنة والجماعة يرون أنه قتل مظلوما شهيدا والحديث المذكور لا يتناوله بوجه فإنه رضي الله عنه لما بعث ابن عمه عقيلا إلى الكوفة فبلغه أنه قتل بعد أن بايعه طائفة فطلب الرجوع إلى بلده فخرج إليه السرية التي قتلته فطلب منهم أن يذهبوا به إلى يزيد أو يتركوه يرجع إلى مدينته أو يتركوه يذهب إلى الثغر للجهاد فامتنعوا من هذا وهذا وطلبوا أن يستأسر لهم ليأخذوه أسيرا ومعلوم باتفاق المسلمين أن هذا لم يكن واجبا عليه وأنه كان يجب تمكينه مما طلب فقاتلوه ظالمين له ولم يكن حينئذ مريدا لتفريق الجماعة ولا طالبا للخلافة ولا قاتل على طلب خلافة بل قائل دفعا عن نفسه لمن صال عليه وطلب اسره وظهر بطلان قول الحزب الأول وأما الحزب الثاني فبطلان قوله يعرف من وجوه كثيرة من أظهرها أن عليا لم يكفر أحدا ممن قاتله حتى ولا الخوارج ولا سبى ذرية أحد منهم ولا غنم ما له ولا حكم في أحد ممن قاتله بحكم المرتدين كما حكم أبو بكر وسائر الصحابة في بني حنيفة وأمثالهم من المرتدين بل على كان يترضى عن طلحة والزبير وغيرهما ممن قاتله ويحكم فيهم وفي أصحاب معاوية ممن قاتله بحكم المسلمين وقد ثبت بالنقل الصحيح أن مناديه نادى يوم الجمل لا يتبع مدبر

8

148

ولا يجهز على جريح ولا يغنم مال وهذا مما أنكرته الخوارج عليه حتى ناظرهم ابن عباس رضي الله عنه في ذلك كما ذكر ذلك في موضعه واستفاضت الآثار عنه أنه كان يقول عن قتلى عسكر معاوية إنهم جميعا مسلمون ليسوا كفارا ولا منافقين كما قد ذكر في غير هذا الموضع وكذلك عمار وغيره من الصحابة وكانت هذه الأحزاب الثلاثة بالعراق وكان بالعراق أيضا طائفة ناصبة من شيعة عثمانتبغض عليا والحسين وطائفة من شيعة علي تبغض عثمان وأقاربه وقد ثبت في صحيح مسلم عن أسماء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال سيكون في ثقيف كذاب ومبير فكان الكذاب الذي فيها هو المختار بن عبيد وكان الحجاج هو المبير وكان هذا يتشيع لعثمان ويبغض شيعة علي وكان الكذاب يتشيع لعلي حتى قاتل عبيد الله بن زياد وقتله ثم أدعى أن جبريل يأتيه فظهر كذبه وانقسم الناس بسبب هذا يوم عاشوراء الذي قتل فيه الحسين إلى قسمين فالشيعة اتخذته يوم مأتم وحزن يفعل فيه من المنكرات ما

8

149

لا يفعله إلا من هو من إجهل الناس وأضلهم وقوم اتخذوه بمنزلة العيد فصاروا يوسعون فيه النفقات والأطعمة واللباس ورووا فيه أحاديث موضوعة كقوله من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته وهذا الحديث كذب على النبي صلى الله عليه وسلم قال حرب الكرماني سئل أحمد بن حنبل عن هذا الحديث فقال لا أصل له والمعروف عند أهل الحديث أنه يرويه سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه أنه قال بلغنا أنه من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته قال ابن عيينة جربناه من ستين سنة فوجدناه صحيحا قلت ومحمد بن المنتشر هذا من فضلاء الكوفيين لكن لم يكن يذكر ممن سمعه ولا عمن بلغه ولا ريب أن هذا أظهره بعض المتعصبين إلى السنة حتى على الحسين ليتخذ يوم قتله عيدا فشاع هذا عند الجهال المنتسبين روى في حديث أن يوم عاشوراء لأجرى كذا وجرى كذا حتى جعلوا أكثر حوادث الأنبياء كانت يوم عاشوراء مثل مجيء قميص يوسف إلى يعقوب ورد بصره وعافية أيوب وفداء الذبيح وأمثال هذا وهذا الحديث كذب موضوع وقد ذكره ابن الجوزي في الموضوعات وإن كان قد رواه هو في كتاب النور في

8

150

فضائل الأيام الشهورة وذكر عن ابن ناصر شيخه أنه قال حديث صحيح وإسناده علي شرط الصحيح فالصواب ما ذكره في الموضوعات وهو آخر الأمرين منه وابن ناصر راج عليه ظهور حال رجاله وإلا فالحديث مخالف للشرع والعقل لم يروه أحد من أهل العلم المعروفين في شيء من الكتب وإنما دلس على بعض الشيوخ المتأخرين كما جرى مثل ذلك في أحاديث أخر حتى في أحاديث نسبت إلى مسند أحمد وليست منه مثل حديث رواه عبد القادر بن يوسف عن ابن المذهب عن القطيعي عن عبد الله عن أبيه عن عبد الله بن المثنى عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعودة وهذا القول صحيح متواتر عن السلف أنهم قالوا ذلك لكن رواية هذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم كذب وعزوه إلى المسند لأحمد كذب ظاهر فإن مسنده موجود وليس هذا فيه

8

151

وأحمد إمام أهل السنة في زمن المحنة وقد جرى له في مسألة القرآن ما اشتهر في الآفاق وكان يحتج لأن القرآن كلام الله غير مخلوق بحجج كثيرة معروفة عنه ولم يذكر هذا الحديث قط ولا احتج به فكيف يكون هذا الحديث عنده ولا يحتج به وهذا الحديث إنما عرف عن هذا الشيخ وكان بعض من قرأ عليه دسه في جزء فقرأه عليه مع غيره فراج ذلك على من لم يكن له معرفة وكذلك حديث عاشوراء والذي صح في فضله هو صرمه وأنه يكفر سنة وأن الله نجى فيه موسى من الغرق وقد بسطنا الكلام عليه في موضع آخر وبينا أن كل ما يفعل فيه سوى الصوم بدعة مكروهة لم يستحبها أحد من الأئمة مثل الاكتحال والخضاب وطبخ الحبوب وأكل لحم الأضحية والتوسيع في النفقة وغير ذلك وأصل هذا من ابتداع قتلة الحسين ونحوهم وأقبح من ذلك وأعظم ما تفعله الرافضة من اتخاذه مأتما يقرأ فيه المصرع وينشد فيه قصائد النياحة ويعطشون فيه أنفسهم ويلطمون في الخدود ويشقون الجيوب ويدعون فيه بدعوى الجاهلية

8

152

وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية وهذا مع حدثان العهد بالمصيبة فكيف إذا كانت بعد ستمائة ونحو سبعين سنة وقد قتل من هو أفضل من الحسين ولم يجعل المسلمون ذلك اليوم مأتما وفي مسند أحمد عن فاطمة بنت الحسين وكانت قد شهدت قتله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من مسلم يصاب بمصيبة فيذكر مصيبته وإن قدمت فيحدث لها استرجاعا إلا أعطاه الله من الأجر مثل أجره يوم أصيب بها فهذا يبين أن السنة في المصيبة إذا ذكرت وإن تقادم عهدها أن يسترجع كما جاء بذلك الكتاب والسنة قال تعالى وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون سورة البقرة وأقبح من ذلك نتف النعجة تشبيها لها بعائشة والطعن في الجبس الذي في جوفه سمن تشبيها له بعمر وقول القائل يا ثارات أبي لؤلؤة إلى غير ذلك من منكرات الرافضة فإنه يطول وصفها

8

153

والمقصود هنا أن ما أحدثوه من البدع فهو منكر وما أحدثه من يقابل بالبدعة البدعة وينسب إلى السنة هو أيضا منكر مبتدع والسنة ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي برية من كل بدعة فما يفعل يوم عاشوراء من اتخاذه عيدا بدعة أصلها من بدع النواصب وما يفعل من اتخاذه مأتماص بدعة أشنع منها وهي من البدع المعروفة في الروافض وقد بسطنا هذه الأمور فصل قال الرافضي السادس أنه كان مستجاب الدعاء دعا علي بسر بن أرطاة بأن يسلبه الله عزو جل عقله فخولط فيه ودعا على العيزار بالعمى فعمي ودعا على أنس لما

8

154

كتم شهادته بالبرص فأصابه وعلى زيد بن أرقم بالعمى فعمي والجواب أن هذا موجود في الصحابة أكثر منه وممن بعد الصحابة ما دام في الأرض مؤمن وكان سعد بن أبي وقاص لا تخطىء له دعوة وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال اللهم سدد رميته واجب دعوته وفي صحيح مسلم أن عمر لما أرسل إلى الكوفة من يسأل عن سعد فكان الناس يثنون خيرا حتى سئل عنه رجل من بني عبس فقال أما إذا أنشدتمونا سعدا فكان لا يخرج في السرية ولا يعدل في الرعية ولا يقسم بالسوية فقال سعد اللهم إن كان كاذبا قام رياء وسمعه فأطل عمر وعظم فقره وعرضه للفتن فكان يرى وهو شيخ كبير تدلى حاجباه من الكبر يتعرض للجواري يغمزهن في الطرقات ويقول شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد

8

155

وكذلك سعيد بن زيد كان مستجاب الدعوة فروى حماد بن زيد عن هشام بن عروة عن أبيه أن أروى بنت أوس استعدت مروان على سعيد وقالت سرق من أرضي ما أدخله في أرضه فقال سعيد اللهم إن كانت كاذبة فأذهب بصرها واقتلها في أرضها فذهب بصرها وماتت في أرضها والبراءة بن مالك كان يقسم على الله فيبر قسمه كما في الصحيح إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك والعلاء بن الحضرمي نائب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نائب أبي بكر رضي الله عنه على البحرين مشهور بإجابة الدعاء روى ابن أبي الدنيا بإسناده قال سهم بن منجاب غزونا مع العلاء بن الحضرمي دارين فدعا بثلاث دعوات فاستجاب الله له فيهن كلهن قال سرنا معه ونزلنا منزلا وطلبنا الوضوء فلم نقدر عليه فقام فصلى ركعتين ثم دعا الله فقال الله يا عليم يا حكيم يا علي يا عظيم إنا عبيدك وفي سبيلك نقاتل عدوك فاسقنا غيثا نشرب منه

8

156

ونتوضأ من الإحداث وإذا تركناه فلا تجعل فيه نصيبا لأحد غيرنا قال فما جاوزنا غير بعيد فإذا نحن ببئر من ماء السماء تتدفق قال فنزلنا فروينا وملأت إدواتي ثم تركتها وقلت لأنظرن هل استجيب له فسرنا ميلا أو نحوه فقلت لأصحابي إني نسيت إدواتي فجئت إلى ذلك المكان فكأنما لم يكن فيه ماء قط فأخذت إدواتي فلما أتيت دارين وبيننا وبينهم البحر فدعا لله فقال الله يا عليم يا حكيم يا علي يا عظيم إنا عبيدك وفي سبيلك نقاتل عدوك فاجعل لنا سبيلا إلى عدوك ثم اقتحم بنا البحر فوالله ما ابتلت سروجنا ثم خرجنا إليهم فلما رجعنا اشتكى البطن فمات فلم نجد ماء نغسله فلففناه في ثيابه فدفناه فلما سرنا غير بعيد إذا نحن بماء كثير فقال بعضهم لبعض ارجعوا نستخرجه فنغسله فرجعنا فخفى علينا قبره فلم نقدر عليه فقال رجل من القوم إني سمعته يدعو الله يقول اللهم يا عليم يا حكيم يا علي يا عظيم اخف حفرتي ولا تطلع على عورتي أحدا فرجعناه وتركناه وقد كان عمر دعا بدعوات أجيب فيها من ذلك أنه لما نازعه بلال وطائفة معه في القسمة قسمة الأرض فقال اللهم اكفني بلالا وذويه فما حال الحول ومنهم عين تطرف

8

157

وقال اللهم قد كبرت سني وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مفتون ولا مضيع فمات من عامه ومثل هذا كثير جدا وقد صنف ابن أبي الدنيا في مجابي الدعوة كتابا مع أن هذه القصص المذكورة عن علي لم يذكر لها إسنادا فتتوقف على معرفة الصحة مع أن فيها ما هو كذب لا ريب فيه كدعائه عن أنس بالبرص ودعائه على زيد بن أرقم بالعمى فصل قال الرافضي السابع أنه لما توجه إلى صفين لحق أصحابه عطش شديد فعدل بهم قليلا فلاح لهم دبر فصاحوا بساكنه فسألوه عن الماء فقال بيني وبينه أكثر من فرسخين ولولا أني أوتي ما يكفيني كل شهر على التقتير لتلفت عطشا

8

158

فأشار أمير المؤمنين إلى مكان قريب من الدير وأمر بكشفه فوجدوا صخرة عظيمة فعجزرا عن إزالتها فقلعها وحده ثم شربوا الماء فنزل إليهم الراهب فقال أنت نبي مرسل أو ملك مقرب فقال لا ولكني وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم على يده وقال إن هذا الدير بني على طالب هذه الصخرة ومخرج الماء من تحتها وقد مضى جماعة قبلي لم يدركوه وكان الراهب من جملة من استشهد معه ونظم القصة السيد الحميري في قصيدته والجواب أن هذا من جنس أمثاله من الأكاذيب التي يظنها الجهال من أعظم مناقب علي وليست كذلك بل الذي وضع هذه كان جاهلا بفضل علي وبما يستحقه من الممادح فإن الذي فيه من المنقبة أنه أشار إلى صخرة فوجدوا تحتها الماء وأنه قلعها ومثل هذا يجري لخلق كثير علي رضي الله عنه أفضل منهم بل في المحبين لأبي بكر

8

159

وعمر وعثمان من يجري لهم أضعاف هذا وأفضل من هذا وهذا وإن كان إذا جرى على يد بعض الصالحين كان نعمة من الله وكرامة له فقد يقع مثل ذلك لمن ليس من الصالحين كثيرا وأما سائر ما فيها مثل قوله إن هذا الدير بنى على طالب هذه الصخرة ومخرج الماء من تحتها فليس هذا من دين المسلمين وإنما تبنى الكنائيس والديارات والصوامع على أسماء المقتدية بسير النصارى فأما المسلمون فلا يبنون معابدهم وهي المساجد التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه إلا على اسم الله لا على اسم مخلوق وقول الراهب أنت نبي مرسل أو ملك مقرب يدل على جهله وأنه من أضل الخلق فإن الملائكة لا تشرب الماء ولا تحتاج إلى أن تستخرجه من تحت صخرة ومحمد لا نبي بعده ومعلوم أن هذا الراهب قد سمع بخبر المسلمين الذين فتحوا تلك المواضع فإن كان يجوز أن يبعث رسول بعد المسيح فمحمد هو الرسول ومعجزاته ظاهرة باطنة فإن صدقه فقد علم أنه لا نبي بعده وإن لم يصدقه فكيف يعتقد في غيره أنه نبي مرسل بمجرد دلالته على ماء تحت صخرة أو لكون الدير بني على اسمه وهم وهم يبنون الديارات على أسماء خلق كثير ليسوا من الملائكة ولا الرسل وما فيه من قول علي ولكني وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم

8

160

هو مما يبين أنه كذب على علي وأن عليا لم يدع هذا قط لا في خلافة الثلاثة ولا ليالي صفين وقد كانت له مع منازعيه مناظرات ومقامات ما ادعى هذا قط ولا ادعاه أحد له وقد حكم الحكمين وأرسل ابن عباس لمناظرة الخوارج فذكروا فضائله وسوابقه ومناقبه ولم يذكر أحد منهم قط أنه وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله بدون هذه الأسباب الموجبة لنقله لو كان حقا فكيف مع هذه الأسباب فلما رووا فضائله ومناقبه كقوله عليه السلام لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله وكقوله عام تبوك ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي وقوله أنت مني وأنا منك وغير ذلك من فضائله ولم يرووا هذا مع مسيس الحاجة إلى ذكره ولا ادعاه علي قط مع مسيس الحاجة إلى ذكره علم أنه من جملة ما افتراه الكذابون فصل قال الرافضي الثامن ما رواه الجمهور أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى بني المصطلق حيث خرجوا عن

8

161

الطريق وأدركه الليل بقرب واد وعر فهبط جبريل وأخبره أن طائفة من كفار الجن قد استبطنوا الوادي يريدون كيده وإيقاع الشر بأصحابه فدعا بعلي وعوذه وأمره بنزول الوادي فقتلهم والجواب أن يقال أولا علي أجل قدرا من هذا وإهلاك الجن موجود لمن هو دون علي لكن هذا الحديث من الأحاديث المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى علي عند أهل المعرفة بالحديث ولم يجر في غزوة بني المصطلق شيء من هذا وقوله إن هذا رواه الجمهور إن أريد بذلك أنه مروى بإسناد ثابت أو في كتاب يعتمد على مجرد نقله أو صححه من يرجع إلى تصحيحه فليس كذلك وإن أراد أن جمهور العلماء رووه فهذا كذب وإن أراد أنه رواه من لا يقوم بروايته حجة فهذا لا يفيد ومن هذا الجنس ما يروى أنه قاتل الجن في بئر ذات العلم وهو حديث موضوع عند أهل المعرفة

8

162

وعلي أجل قدرا من أن تثبت الجن لقتاله ولم يقاتل أحد من الإنس الجن بل كان الجن المؤمنون يقاتلون الجن الكفار وكان من أهل المعرفة أبو البقاء خالد بن يوسف النابلسي رحمه الله سأله بعض الشيعة عن قتال علي الجن فقال أنتم معشر الشيعة ليس لكم عقل أيما أفضل عندكم عمر أو علي فقالوا بل علي فقال إذا كان الجمهور يروون عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعمر ما رآك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك فإذا كان الشيطان يهرب من عمر فكيف يقاتل عليا وأيضا فدفع الجن والشياطين وإهلاكهم موجود لكثير من أتباع أبي بكر وعمر وعثمان وفي ذلك قصص يطول وصفها وقد روى ابن الجوزي في كتاب الموضوعات حديثا طويلا في محاربته للجن وأنه كان في الحج عام الحديبية وأنه حاربهم ببئر ذات العلم من طريق أبي بكر محمد بن جعفر بن محمد السامري حدثنا عبد الله بن أحمد السكوني حدثنا عمار بن يزيد حدثنا إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق حدثني يحيى بن عبيد الله بن الحارث عن أبيه عن ابن عباس قال لما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية إلى مكة أصاب الناس عطش شديد وحر شديد فنزل

8

163

رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجفة معطشا والناس عطاش فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل من رجل يمضي في نفر من المسلمين معهم القرب فيردون بئر ذات العلم ثم يعود يضمن له رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنة فذكر حديث طويلا فيه أنه بعث رجلا من الصحابة ففزع من الجن فرجع ثم بعث آخر وانشد شعرا فذعر من الجن فرجع ثم أرسل علي بن أبي طالب فنزل البئر وملأ القرب بعد هول شديد وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له الذي هتف بك من الجن هو سماعة بن غراب الذي قتل عدو الله مسعرا شيطان الأصنام الذي يكلم قريشا منها وفزع من هجائي ثم قال الشيخ أبو الفرج وهذا الحديث موضوع محال والفنيد ومحمد بن جعفر والسكوني مجروحون قال أبو الفتح الأودي وعمارة يضع الحديث قلت وكتب ابن إسحاق التي رواها عنه الناس ليس فيها شيء من هذا

8

164

فصل قال الرافضي التاسع رجوع الشمس له مرتين إحداهما في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والثانية بعده أما الأولى فروى جابر وأبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عليه جبريل يوما يناجيه من عند الله فلما تغشاه الوحي توسد فخذ أمير المومنين فلم يرفع رأسه حتى غابت الشمس فصلى على العصر بالإيماء فلما استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم قال له سل الله تعالى يرد عليك الشمس لتصلي العصر قائما فدعا فردت الشمس فصلى العصر قائما وأما الثانية فلما أراد أن يعبر الفرات ببابل اشتغل كثير من أصحابه بتعبير دوابهم وصلى لنفسه في طائفة من أصحابه العصر وفات كثير منهم فتكلموا في ذلك فسأل الله رد الشمس فردت ونظمه الحميري فقال

8

165

ردت عليه الشمس لما فاته وقت الصلاة وقد دنت للمغرب حتى تبلج نورها في وقتها للعصر ثم هوت هوى الكوكب وعليه قد ردت ببابل مرة أخرى وما ردت لخلق معرب والجواب أن يقال فضل علي وولايته لله وعلو منزلته عند الله معلوم ولله الحمد من طرق ثابتة أفادتنا العلم اليقيني لا يحتاج معها إلى كذب ولا إلى مالا يعلم صدقه وحديث رد الشمس له قد ذكره طائفة كالطحاوي والقاضي عياض وغيرهما وعدوا ذلك من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم لكن المحققون من أهل العلم والمعرفة بالحديث يعلمون أن هذا الحديث كذب موضوع كما ذكره ابن الجوزي في كتاب الموضوعات فرواه من كتاب أبي جعفر العقيلي في الضعفاء من طريق عبيد الله بن موسى عن فضيل بن مرزوق عن إبراهيم بن الحسن بن الحسن عن فاطمة بنت الحسين عن أسماء بنت عميس قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوحي إليه ورأسه في حجر علي فلم يصل العصر حتى غربت الشمس فقال النبي صلى الله عليه وسلم صليت يا علي قال لا فقال رسول الله

8

166

صلى الله عليه وسلم اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس فقالت أسماء فرأيتها غربت ثم رأيتها طلعت بعد ما غربت قال ابو الفرج وهذا حديث موضوع بلا شك وقد اضطرب الرواة فيه فرواه سعيد بن مسعود عن عبيد الله بن موسى عن فضيل بن مرزوق عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن علي بن الحسين عن فاطمة بنت علي عن أسماء قال وفضيل بن مرزوق ضعفه يحيى وقال أبو حاتم بن حبان يروي الموضوعات ويخطىء على الثقات قال ابو الفرج وهدا الحديث مداره على عبيد الله بن موسى عنه قلت والمعروف أن سعيد بن مسعود رواه عن عبيد الله بن موسى عن فضيل بن مرزوق عن إبراهيم بن الحسن عن فاطمة بنت الحسين عن أسماء ورواه محمد بن مرزوق عن حسين الأشقر عن علي بن عاصم عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن علي بن

8

167

الحسين عن فاطمة بنت علي عن أسماء كما سيأتي ذكره قال أبو الفرج وقد روى هذا الحديث ابن شاهين حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني حدثنا أحمد بن يحيى الصوفي حدثنا عبد الرحمن بن شريك حدثني أبي عن عروة بن عبد الله بن قشير قال دخلت على فاطمة بنت علي بن أبي طالب فحدثتني أن أسماءبنت عميس حدثتها أن علي بن أبي طالب وذكر حديث رجوع الشمس قال أبو الفرج وهذا حديث باطل أما عبدالرحمن بن شريك فقال أبو حاتم هو واهي الحديث قال وأنا لا أتهم بهذا الحديث الا ابن عقدة فإنه كان رافضيا يحدث بمثالب الصحابة قال أبو أحمد بن عدي الحافظ سمعت أبا بكر بن أبي طالب يقول ابن عقدة لا يتدين بالحديث كان يحمل شيوخا بالكوفة على الكذب يسوى لهم نسخا ويأمرهم أن يرووها وقد بينا ذلك منه في

8

168

غير نسخة وسئل عنه الدارقطني فقال رجل سوء قال أبو الفرج وقد رواه ابن مردويه من حديث داود بن فراهيج عن أبي هريرة قال وداود ضعيف ضعفه شعبة قلت فليس في هؤلاء من يحتج به فيما دون هذا وأما الثاني ببابل فلا ريب أن هذا كذب وإنشاد الحميري لا حجة فيه لأنه لم يشهد ذلك والكذب قديم فقد سمعه فنظمه وأهل الغلو في المدح والذم ينظمون ما لا تتحقق صحته لا سيما والحميري معروف بالغلو وقد أخرجا في الصحيحين عن أبي هريرة قال غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة يضع امرأة يريد أن يبني بها ولما

8

169

يبن ولا رجل قد بنى بيتا ولم يرفع سقفه ولا رجل اشترى غنما أو خلفات وهو ينتظر ولادها قال فغزوا فدنا من القرية حتى صلى العصر قريبا من ذلك فقال للشمس أنت مأمورة وأنا مأمور اللهم احبسها علي شيئا فحسبت عليه حتى فتح الله عليه الحديث فإن قيل فهذه الأمة أفضل من بني اسرائيل فإذا كانت قد ردت ليوشع فما المانع أن ترد لفضلاء هذه الأمة فيقال يوشع لم كرد له الشمس ولكن تأخر غروبها طول له النهار وهذا قد لا يظهر للناس فإن طول النهار وقصره لا يدرك ونحن إنما علمنا وقوفها ليوشع بخبر صلى الله عليه وسلم وأيضا لا مانع من طول ذلك لو شاء الله لفعل ذلك لكن يوشع كان محتاجا إلى ذلك لأن القتال كان محرما عليه بعد غروب الشمس لأجل ما حرم الله عليهم من العمل ليلة السبت ويوم السبت وأما أمة محمد فلا حاجة لهم إلى ذلك ولا منفعة لهم فيه فإن الذي فاتته العصر إن كان مفرطا لم يسقط ذنبه إلا بالتوبة ومع التوبة لا يحتاج إلى

8

170

رد وإن لم يكن مفرطا كالنائم والناسي فلا ملام عليه في الصلاة بعد الغروب وأيضا فبنفس غروب الشمس حرج الوقت المضروب للصلاة فالمصلي بعد ذلك لا يكون مصليا في الوقت الشرعي ولو عادت الشمس وقول الله تعالى وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها سورة طه يتناول الغروب المعروف فعلى العبد أن يصلي قبل هذا الغروب وإن طلعت ثم غربت والأحكام المتعلقة بغروب الشمس حصلت بذلك الغروب فالصائم يفطر ولو عادت بعد ذلك لم يبطل صومه مع أن هذه الصورة لا تقع لأحد ولا وقعت لأحد فتقديرها تقدير ما لا وجود له ولهذا لا يوجد الكلام على حكم مثل هذا في كلام العلماء المفرعين وأيضا فالنبي صلى الله عليه وسلم فاتته العصر يوم الخندق فصلاها قضاء هو وكثير من أصحابه ولم يسأل الله رد الشمس وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه بعد ذلك لما أرسلهم إلى بني قريظة لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريطة فلما أدركتهم الصلاة في الطريق قال بعضهم لم يرد منا تفويت الصلاة فصلوا في الطريق فقالت طائفة لا نصلي إلا في بني قريظة فلم يعنف واحدة من الطائفتين فهؤلاء الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم صلوا العصر بعد

8

171

غروب الشمس وليس علي بأفضل من النبي صلى الله عليه وسلم فإذا صلاها هو وأصحابه معه بعد الغروب فعلي وأصحابه أولى بذلك فإن كانت الصلاة بعد الغروب لا تجزىء أو ناقصة تحتاج إلى رد الشمس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى برد الشمس وإن كانت كاملة مجزئة فلا حاجة إلى ردها وأيضا فمثل هذه القضية من الأمور العظام الخارجة عن العادة التي تتوفر الهمم والدواعي على نقلها فإذا لم ينقلها إلا الواحد والاثنان علم بيان كذبهم في ذلك وانشقاق القمر كان بالليل وقت نوم الناس ومع هذا فقد رواه الصحابة من غير وجه وأخرجوه في الصحاح والسنن والمساند من غير وجه ونزل به القرآن فكيف برد الشمس التي تكون بالنهار ولا يشتهر ذلك ولا ينقله أهل العلم نقل مثله

8

172

ولا يعرف قط أن الشمس رجعت بعد غروبها وإن كان كثير من الفلاسفة والطبيعين وبعض أهل الكلام ينكر انشقاق القمر وما يشبه ذلك فليس الكلام في هذا المقام لكن الغرض أن هذا من أعظم خوارق العادات في الفلك وكثير من الناس ينكر إمكانه فلو وقع لكان ظهوره ونقله أعظم من ظهور ما دونه ونقله فكيف يقبل وحديثه ليس له إسناد مشهور فإن هذا يوجب العلم اليقيني بأنه كذب لم يقع وإن كانت الشمس احتجبت بغيم ثم ارتفع سحابها فهذا من الأمور المعتادة ولعلهم ظنوا أنها غربت ثم كشف الغمام عنها وهذا وإن كان قد وقع ففيه أن الله بين له بقاء الوقت حتى يصلي فيه ومثل هذا يجري لكثير من الناس وهذا الحديث قد صنف فيه مصنف جمعت فيه طرقه صنفه أبو القاسم عبد الله بن عبد الله ابن احمد الحكاني سماه مسألة في تصحيح رد الشمس وترغيب النواصب الشمس وقال هذا حديث روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق أسماء بنت عميس الخثعمية ومن طريق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومن طريق أبي هريرة وأبي سعيد وذكر حديث أسماء من طريق محمد بن أبي فديك

8

173

قال أخبرني محمد بن موسى وهو القطري عن عون بن محمد عن أمه أم جعفر عن جدتها أسماء بنت عميس أن النبي صلى الله عليه وسلم الظهر ثم أرسل عليا في حاجة فرجع وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني العصر فوضع رأسه في حجر علي ولم يحركه حتى غابت الشمس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم إن عبدك عليا في طاعتك وطاعة رسولك احتبس نفسه على نبيه فرد عليه شرقها قال أسماء فطلعت الشمس حتى وقعت على الجبال فقام علي فتوضأ وصلى العصر ثم غابت الشمس قال أبو القاسم المصنف أم جعفر هذه هي أم محمد بن جعفر بن أبي طالب والراوي عنها هو ابنها عون بن محمد بن علي المعروف أبوه محمد بن الحنفية والراوي عنه هو محمد بن موسى المديني المعروف بالقطري محمود في روايته ثقة والراوي عنه محمد بن إسماعيل بن أبي فديك المدني ثقة وقد رواه عنه جماعة منهم هذا الذي ذكرت روايته وهو أحمد بن الوليد الأنطاكي وقد رواه عنه نفر منهم أحمد بن عمير بن حوصاء وذكره بإسناده من طريقة وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالصهباء ثم أرسل عليا في حاجة فرجع وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم العصر فوضع رأسه في حجر علي فلم يحركه حتى غربت الشمس فقال النبي صلى الله عليه

8

174

وسلم اللهم إن عبدك عليا احتبس نفسه على نبيه فرد عليها شرقها قال أسماء فطلعت الشمس حتى وقعت على الجبال وعلى الأرض فقام علي وتوضأ وصلى العصر وذلك في الصهباء في غزوة خيبر قال ومنهم أحمد بن صالح المصري عن ابن أبي فديك رواه أبو جعفر الطحاوي في كتاب تفسير متشابه الأخبار من تأليفه من طريقه ومنهم الحسن بن داود عن ابن أبي فديك وذكره بإسناده ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالصهباء من أرض خيبر ثم أرسل عليا في حاجة فرجع وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه في حجر علي فلم يحركه حتى غربت الشمس فاستيقظ وقال يا علي صليت العصر قال لا وذكره قال ويرويه عن اسماء فاطمة بنت الحسين الشهيد ورواه من طريق أبي جعفر الحضرمي حدثنا محمد بن مرزوق حدثنا حسين الأشقر حدثنا فضيل بن مرزوق عن إبراهيم ابن الحسن عن فاطمة عن أسماء بنت عميس قالت نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما صلى العصر فوضع رأسه أو خده لا أدري أيهما قال في حجر علي ولم يصل العصر حتى غابت الشمس وذكره قال المصنف ورواه عن فضيل بن مرزوق جماعة منهم عبيد الله

8

175

ابن موسى العبسي ورواه الطحاوي من طريقه ولفظه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوحى إليه ورأسه في حجر علي فلم يصل العصر حتى غابت الشمس ورواه أيضا من حديث عمار بن مطر عن فضيل بن مرزوق من طريق أبي جعفر العقيلي صاحب كتاب الضعفاء قلت وهذا اللفظ يناقض الأول ففيه أنه نام في حجره من صلاة العصر إلى غروب الشمس وأن ذلك في غزوة خيبر بالصهباء وفي الثاني أنه كان مستيقظا يوحى اليه جبريل ورأسه في حجر علي حتى غربت الشمس وهذا التناقض يدل على أنه غير محفوظ لأن هذا صرح بأنه كان نائما هذا الوقت وهذا قال كان يقظان يوحى إليه وكلاهما باطل فإن النوم بعد العصر مكروه منهى عنه والنبي صلى الله عليه وسلم تنام عيناه ولا ينام قلبه فكيف تفوت عليا صلاة العصر ثم تفويت الصلاة بمثل هذا إما أن يكون جائزا وإما أنه لا يجوز فإن كان جائزا لم يكن على علي إثم إذا صلى العصر بعد الغروب وليس علي أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم فاتته العصر يوم الخندق حتى غربت الشمس ثم صلاها ولم ترد عليه الشمس وكذلك لم ترد لسليمان لما توارت بالحجاب

8

176

وقد نام النبي صلى الله عليه وسلم ومعه علي وسائر الصحابة عن الفجر حتى طلعت الشمس ولم ترجع لهم إلى الشرق وإن كان التفويت محرما فتفويت العصر من الكبائر وقال النبي صلى الله عليه وسلم من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله وعلي كان يعلم أنها الوسطى وهي صلاة العصر وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين لما قال شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر حتى غربت الشمس ملأ الله أجوافهم وبيوتهم نارا وهذا كان في الخندق وخيبر بعد الخندق فعلي أجل قدرا من أن يفعل مثل هذه الكبيرة ويقره عليها جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم ومن فعل هذا كان من مثالبه لا من مناقبه وقد نزه الله عليا عن ذلك ثم إذا فاتت لم يسقط الإثم عنه بعود الشمس وأيضا فإذا كانت هذه القصة في خيبر في البرية قدام العسكر والمسلمون أكثر من ألف وابعمائة كان هذا مما يراه العسكر

8

177

ويشاهدونه ومثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي عن نقله فيمتنع أن ينفرد بنقله الواحد والاثنان فلو نقله الصحابة لنقله منهم أهل العلم كما نقلوا أمثاله لم ينقله المجهولون الذين لا يعرف ضبطهم وعدالتهم وليس في جميع أسانيد هذا الحديث إسناد واحد يثبت تعلم عدالة ناقليه وضبطهم ولا يعلم اتصال إسناده وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله فنقل ذلك غير واحد من الصحابة وأحاديثهم في الصحاح والسنن والمساند وهذا الحديث ليس في شيء من كتب الحديث المعتمدة لا رواه أهل الصحيح ولا أهل السنن ولا المساند أصلا بل اتفقوا على تركه والإعراض عنه فكيف يكون مثل هذه الواقعة العظيمة التي هي لو كانت حقا من أعظم المعجزات المشهورة الظاهرة ولم يروها أهل الصحاح والمساند ولا نقلها أحد من علماء المسلمين وحفاظ الحديث ولا يعرف في شيء من كتب الحديث المعتمدة والإسناد الأول رواه القطري عن عون عن أمه عن أسماء بنت عميس وعون وأمه ليسا ممن يعرف حفظهم وعدالتهم ولا من

8

178

المعروفين بنقل العلم ولا يحتج بحديثهم في أهون الأشياء فكيف في مثل هذا ولا فيه سماع المرأة من أسماء بنت عميس فلعلها سمعت من يحكيه عن أسماء فذكرته وهذا المصنف ذكر عن ابن أبي فديك أنه ثقة وعن القطري أنه ثقة ولم يمكنه أن يذكر عمن بعدهما أنه ثقة وإنما ذكر أنسابهم ومجرد المعرفة بنسب الرجل لا توجب أن يكون حافظا ثقة وأما الإسناد الثاني فمداره على فضيل بن مرزوق وهو معروف بالخطأ على الثقات وإن كان لا يعتمد الكذب قال فيه ابن حبان يخطىء على الثقات ويروى عن عطية الموضوعات وقال فيه أبو حاتم الرازي لا يحتج به وقال فيه يحيى بن معين مرة هو ضعيف وهذا لا يناقضه قول أحمد بن حنبل فيه لا أعلم إلا خيرا وقول سفيان هو ثقة وقول يحيى مرة هو ثقة فإنه ليس ممن يتعمد الكذب ولكنه

8

179

يخطىء وإذا روى له مسلم ما تابعه غيره عليه لم يلزم أن يروى ما انفرد به مع أنه لم يعرف سماعه عن إبراهيم ولا سماع إبراهيم من فاطمة ولا سماع فاطمة من أسماء ولا بد في ثبوت هذا الحديث من أن يعلم أن كلا من هؤلاء عدل ضابط وأنه سمع من الآخر وليس هذا معلوما وإبراهيم هذا لم يرو له أهل الكتب المعتمدة كالصحاح والسنن ولا له ذكر في هذه الكتب بخلاف فاطمة بنت الحسين فإن لها حديثا معروفا فكيف يحتج بحديث مثل هذا ولهذا لم يروه أحد من علماء الحديث المعروفين في الكتب المعتمدة وكون الرجل أبوه كبير القدر لا يوجب أن يكون هو من العلماء المأمونين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عنه وأسماء بنت عميس كانت عند جعفر ثم خلف عليها أبو بكر ثم خلف عليها علي ولها من كل من هؤلاء ولد وهم يحبون عليا ولم يرو هذا أحد منهم عن أسماء ومحمد بن أبي بكر الذي في حجر علي هو ابنها ومحبته لعلي مشهورة ولم يرو هذا عنها وأيضا فأسماء كانت زوجة جعفر بن أبي طالب وكانت معه في الحبشة وإنما قدمت معه بعد فتح خيبر وهذه القصة قد ذكر أنها كانت بخيبر فإن كانت صحيحة كان ذلك بعد فتح خيبر وقد كان مع النبي صلى الله عليه وسلم ممن شهد خيبر أهل الحديبية ألف وأربعمائة

8

180

وإزداد العسكر بجعفر ومن قدم معه من الحبشة كأبي موسى الأشعري وأصحابه والحبشة الذين قدموا مع جعفر في السفينة وازدادوا أيضا بمن كان معهم من أهل خيبر فلم يرو هذا أحد من هؤلاء وهذا مما يوجب القطع بأن هذا من الكذب المختلق والطعن في فضيل ومن بعده إذا تيقن بأنهم رووه وإلا ففي إيصاله إليهم نظر فإن الراوي الأول عن فضيل الحسين بن الحسن الأشقر الكوفي قال البخاري عنده مناكير وقال النسائي وقال الدارقطني ليس بالقوي وقال الأزدي ضعيف وقال السعدي حسين الأشقر غال من الشاتمين للخيرة وقال ابن عدي روى حديثا منكرا والبلاء عندي منه وكان جماعة من ضعفاء الكوفة يحيلون ما يروون عنه من الحديث فيه وأما الطريق الثالث ففيه عمار بن مطر عن فضيل بن مرزوق قال

8

181

العقيلي يحدث عن الثقات بالمناكير وقال الرازي كان يكذب أحاديث بواطل وقال ابن عدي متروك الحديث والطريق الأول من حديث عبيد الله بن موسى العبسي وفي بعض طرقه عن فضيل وفي بعضها حدثنا فإذا لم يثبت أنه قال حدثنا أمكن أن لا يكون سمعه فإنه من الدعاة إلى التشيع الحراص على جمع أحاديث التشيع وكان يروي الأحاديث في ذلك عن الكذابين وهو من المعروفين بذلك وإن كانوا قد قالوا فيه ثقة وإنه

8

182

لا يكذب فالله أعلم أنه هل كان يتعمد الكذب أم لا لكنه كان يروى عن الكذابين المعروفين بالكذب بلا ريب والبخاري لا يروى عنه إلا ما عرف به أنه صحيح من غير طريقه وأحمد بن حنبل لم يرو عنه شيئا قال المصنف وله روايات عن فاطمة سوى ما قدمنا ثم رواه بطريق مظلمة يظهر أنها كذب لمن له معرفة منوطة بالحديث فرواه من حديث أبي حفص الكتاني حدثنا محمد بن عمر القاضي هو الجعاني حدثنا محمد بن إبراهيم بن جعفر العسكري من أصل كتابه حدثنا أحمد بن محمد بن يزيد بن سليم حدثنا خلف بن سالم حدثنا عبد الرزاق حدثنا سفيان الثوري عن أشعث بن أبي الشعثاء عن أمه عن فاطمة عن أسماء أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لعلي حتى ردت عليه الشمس وهذا مما لا يقبل نقله إلا ممن عرف عدالته وضبطه لا من مجهول الحال فكيف إذا كان مما يعلم أهل الحديث أن الثوري لم يحدث به ولا حدث به عبد الرزاق وأحاديث الثوري وعبدالرزاق يعرفها أهل العلم بالحديث ولهم أصحاب يعرفونها ورواه خلف بن سالم ولو قدر أنهم رووه فأم أشعث مجهولة لا يقوم بروايتها شيء وذكر طريقا ثانيا من طريق محمد بن مرزوق حدثنا حسين الأشقر عن علي بن هاشم عن عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن

8

183

علي بن الحسين عن فاطمة بنت علي عن أسماء بنت عميس الحديث قلت وقد تقدم كلام العلماء في حسين الأشقر فلو كان الإسناد كلهم ثقات والإسناد متصل لم يثبت بروايته شيء فكيف إذا لم يثبت ذلك وعلي بن هاشم بن البريد قال البخاري هو وأبوه غاليان في مذهبهما وقال ابن حبان كان غاليا في التشيع يروى المناكير عن المشاهير وإخراج أهل الحديث لما عرفوه من غير طريقه لا يوجب أن يثبت ما انفرد به ومن العجب أن هذا المصنف جعل هذا والذي بعده من طريق رواية فاطمة بنت الحسين وهذه فاطمة بنت علي لا بنت الحسين وكذلك ذكر الطريق الثالث عنها من رواية عبد الرحمن بن شريك حدثنا أبي عن عروة بن عبد الله عن فاطمة بنت علي عن أسماء عن علي بن أبي طالب رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد أوحى إليه فجلله بثوبه فلم يزل كذلك حتى أدبرت الشمس يقول غابت أو كادت تغيب وأن نبي الله صلى الله عليه وسلم سرى عنه فقال أصليت يا علي قال لا قال اللهم رد على علي الشمس فرجعت الشمس حتى بلغت نصف المسجد

8

184

فيقتضي أنها رجعت إلى قريب وقت العصر وأن هذا كان بالمدينة وفي ذاك الطريق أنه كان بخيبر وأنها إنما ظهرت على رؤوس الجبال وعبد الرحمن بن شريك قال أبو حاتم الرازي هو واهي الحديث وكذلك قد ضعفه غيره ورواه من طريق رابع من حديث محمد بن عمر القاضي وهو الجعاني عن العباس بن الوليد عن عباد وهو الرواجني حدثنا علي بن هاشم عن صباح بن عبدالله بن الحسين أبي جعفر عن حسين المقتول عن فاطمة عن أسماء بنت عميس قالت كان يوم خيبر شغل عليا ما كان من قسم المغانم حتى غابت الشمس أو كادت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما صليت قال لا فدعا الله فارتفعت حتى توسطت السماء فصلى علي فلما غابت الشمس سمعت لها صريرا كصرير المنشار في الحديد وهذا اللفظ الرابع يناقض الألفاظ الثلاثة المتناقضة وتبين أن

8

185

الحديث لم يروه صادق ضابط بل هو في نفس الأمر مما اختلقه واحد وعملته يداه فتشبه به آخر فاختلق ما يشبه حديث ذلك والقصة واحده وفي هذا أن عليا إنما اشتغل بقسم المغانم لا برسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي لم يقسم مغانم خيبر ولا يجوز الاشتغال بقسمتها عن الصلاة فإن خيبر بعد الخندق سنة سبع وبعد الحديبية سنة ست وهذا من المتواتر عند أهل العلم والخندق كانت قبل ذلك إما سنة خمس أو أربع وفيها أنزل الله تعالى حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى سورة البقرة ونسخ التأخير بها يوم الخندق مع أنه كان للقتال عند أكثر أهل العلم ومن قال إنه لم ينسخ بل يجوز التأخير للقتال كأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين فلم يتنازع العلماء أنه لم يجز تفويت الصلاة لأجل قسم الغنائم فإن هذا لا يفوت والصلاة تفوت وفي هذا انها توسطت المسجد وهذا من الكذب الظاهر فإن مثل هذا من أعظم غرائب العالم التي لو جرت لنقلها الجم الغفير وفيه أنها لما غابت سمع لها صرير كصرير المنشار وهذا أيضا من الكذب الظاهر فإن هذا لا موجب له أيضا والشمس عند غروبها لا تلاقى من الأجسام ما يوجب هذا الصوت العظيم الذي يصل من الفلك الرابع إلى

8

186

الأرض ثم لو كان هذا حقا لكان من أعظم عجائب العالم التي تنقلها الصحابة الذين نقلوا ما هو دون هذا مما كان في خيبر وغير خيبر وهذا الإسناد لو روى به ما يمكن صدقه لم يثبت به شيء فإن علي ابن هاشم بن البريد كان غاليا في التشيع يروى عن كل أحد يحرضه على ما يقوى به هواه ويروى عن مثل صباح هذا وصباح هذا لا يعرف من هو ولهم في هذه الطبقة صباح بن سهل الكوفي يروى عن حصين بن عبد الرحمن قال البخاري وأبو زرعة وأبو حاتم منكر الحديث وقال الدارقطني ضعيف وقال ابن حبان يروى المناكير عن أقوام مشاهير لا يجوز الاحتجاج بخبره ولهم آخر يقال له صباح بن محمد بن أبي حازم البجلي الأحمسي الكوفي يروى عن مرة الهمداني قال ابن حبان يروى عن الثقات الموضوعات ولهم شخص يقال له صباح العبدي قال الرازي هو مجهول وآخر يقال له ابن مجالد مجهول يروى عنه بقية قال ابن عدي ليس بالمعروف هو من شيوخ بقية المجهولين

8

187

وحسين المقتول إن أريد به الحسين بن علي فذلك أجل قدرا من أن يروى عن واحد عن أسماء بنت عميس سواء كانت فاطمة أخته أو ابنته فإن هذه القصة لو كانت حقا لكان هو أخبر بها من هؤلاء وكان قد سمعها من أبيه ومن غيره ومن أسماء امرأة أبيه وغيرها لم يروها عن بنته أو أخته عن أسماء امرأة أبيه ولكن ليس هو الحسين بن علي بل هو غيره أو هو عبد الله بن الحسن أبو جعفر ولهما أسوة أمثالهما والحديث لا يثبت إلا برواية من علم أنه عدل ضابط ثقة يعرفه أهل الحديث بذلك ومجرد العلم بنسبتة لا يفيد ذلك ولو كان من كان وفي أبناء الصحابة والتابعين من لا يحتج بحديثه وإن كان أبوه من خيار المسلمين هذا إن كان علي بن هاشم رواه وإلا فالراوي عنه عباد بن يعقوب الرواجني قال ابن حبان كان رافضيا داعية يرى المناكير عن المشاهير فاستحق الترك وقال ابن عدي روى أحاديث أنكرت عليه في فضائل أهل البيت ومثالب غيرهم والبخاري وغيره روى عنه من الأحاديث ما يعرف صحته وإلا فحكاية قاسم المطرز عنه أنه قال إن عليا حفر البحر وإن الحسن أجرى فيه الماء مما يقدح فيه قدحا بينا

8

188

قال المصنف قد رواه عن أسماء سوى هؤلاء وروى من طريق أبي العباس بن عقدة وكان من حفظه جماعا لأكاذيب الشيعة قال أبو أحمد بن عدي رأيت مشايخ بغداد يسيئون الثناء عليه يقولون لا يتدين بالحديث ويحمل شيوخا بالكوفة على الكذب ويسوى لهم نسخا ويأمرهم بروايتها وقال الدارقطني كان ابن عقدة رجل سوء قال ابن عقدة حدثنا يحيى بن زكريا أخبرنا يعقوب بن معبد حدثنا عمرو بن ثابت قال سألت عبد الله بن حسن بن حسن بن علي عن حديث رد الشمس على علي هل ثبت عندكم فقال لي ما أنزل الله في علي في كتابه أعظم من رد الشمس قلت صدقت جعلني الله فداك ولكني أحب أن أسمعه منك قال حدثني عبد الله حدثني أبي الحسن عن أسماء بنت عميس أنها قالت أقبل علي ذات يوم وهو يريد أن يصلي العصر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافق

8

189

رسول الله صلى الله عليه وسلم قد انصرف ونزل عليه الوحي فأسنده إلى صدره فلم يزل مسنده إلى صدره حتى أفاق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أصليت العصر يا علي قال جئت والوحي ينزل عليك فلم أزل مسندك إلى صدري حتى الساعة فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلة وقد غربت الشمس فقال اللهم إن عليا كان في طاعتك فارددها عليه قالت أسماء فأقبلت الشمس ولها صرير كصرير الرحي حتى ركدت في موضعها وقت العصر فقام علي متمكنا فصلى العصر فلما فرغ رجعت الشمس ولها صرير كصرير الرحى فلما غابت الشمس اختلط الظلام وبدت النجوم قلت بهذا اللفظ الخامس يناقض تلك الألفاظ المتناقضة ويزيد الناظر بيانا في أنها مكذوبة مختلقة فإنه ذكر فيها أنها ردت إلى موضعها وقت العصر وفي الذي قبله إلى نصف النهار وفي الآخر حتى ظهرت على رؤوس الجبال وفي هذا أنه كان مسنده إلى صدره وفي ذاك أنه كان رأسه في حجره وعبد الله بن الحسن لم يحدث بهذا قط وهو كان أجل قدرا من أن يروي مثل هذا الكذب ولا أبوه الحسن روى هذا عن أسماء وفيه ما أنزل الله في علي في كتابه أعظم من رد الشمس شيئا ومعلوم أن الله لم ينزل في علي ولا غيره في كتابه في رد الشمس شيئا

8

190

وهذا الحديث إن كان ثابتا عن عمرو بن ثابت الذي رواه عن عبد الله فهو الذي اختلقه فإنه كان معروفا بالكذب قال أبو حاتم بن حبان يروى الموضوعات عن الأثبات وقال يحيى بن معين ليس بشيء وقال مرة ليس بثقة ولا مأمون وقال النسائي متروك الحديث قال المصنف وأما رواية أبي هريرة فأنبأنا عقيل بن الحسن العسكري حدثنا أبو محمد صالح بن أبي الفتح الشناسي حدثنا أحمد بن عمرو بن حوصاء حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري حدثنا يحيى بن يزيد بن عبد الملك النوفلي عن أبيه قال حدثنا داود بن فراهيج عن عمازة بن فرو عن أبي هريرة رضي الله عنه وذكره قال المصنف اختصرته من حديث طويل قلت هذا إسناد مظلم لا يثبت به شيء عند أهل العلم بل يعرف

8

191

كذبه من وجوه فإنه وإن كان داود بن فراهيج مضعفا كان شعبة يضعفه وقال النسائي ضعيف الحديث لا يثبت الإسناد إليه فإن فيه يزيد بن عبد الملك النوفلي وهو الذي رواه عنه وعن عمارة قال البخاري أحاديثه شبه لا شيء وضعفه جدا وقال النسائي متروك ضعيف الحديث وقال الدارقطني منكر الحديث جدا وقال أحمد عنده مناكير وقال الدارقطني ضعيف وإن كان حدث به إبراهيم بن سعيد الجوهري فالآفة من هذا وإن كان يقال إنه لم يثبته لا إلى إبراهيم بن سعيد الجوهري ولا إلى ابن حوصاء فإن هذين معروفان وأحاديثهما معروفقد رواها عنهما الناس ولهذا لما روى ابن حوصاء الطريق الأول كان الإسناد إليه معروفا عنه رواه بالأسانيد المعروفة لكن الآفة فيه ممن بعده وأما هذا فمن قبل ابن حوصاء لا يعرفون وإن قدر أنه ثابت عنه فالآفة بعده وذكر أبو الفرج بن الجوزي أن ابن مردويه رواه من طريق داود بن فراهيج وذكر ضعف ابن فراهيج ومع هذا فالإسناد إليه فيه الكلام أيضا قال المصنف وأما رواية أبي سعيد الخدري فأخبرنا محمد بن

8

192

إسماعيل الجرجاني كتابه أن أبا طاهر محمد بن علي الواعظ أخبرهم أنبأنا محمد بن أحمد بن منعم أنبأنا القاسم بن جعفر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عمر حدثني أبي عن أبيه محمد عن أبيه عبد الله عن أبيه محمد عن أبيه عمر قال قال الحسين بن علي سمعت أبا سعيد الخدري يقول دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا رأسه في حجر علي وقد غابت الشمس فانتبه النبي صلى الله عليه وسلم وقال يا علي صليت العصر قال لا يا رسول الله ما صليت كرهت أن أضع رأسك من حجري وأنت وجع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ادع يا علي أن ترد عليك الشمس فقال علي يا رسول الله ادع أنت أومن قال يا رب إن عليا في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس قال ابو سعيد فوالله لقد سمعت للشمس صريرا كصرير البكرة حتى رجعت بيضاء نقية قلت هذا الإسناد لا يثبت بمثله شيء وكثير من رجاله لا يعرفون بعدالة ولا ضبط ولا حمل للعلم ولا لهم ذكر في كتب العلم وكثير من رجاله لو لم يكن فيهم إلا واحد بهذه المنزلة لم يكن ثابتا فكيف إذا كان كثير منهم أو أكثرهم كذلك ومن هو معروف بالكذب مثل عمرو بن ثابت

8

193

وفيه أنه كان وجعا وأنه سمع صوتها حين طلعت كصرير البكرة وهذا باطل عقلا ولم يذكره أولئك ولو كان مثل هذا الحديث عن أبي سعيد مع محبته لعلي وروايته لفضائله لرواه عنه أصحابه المعروفون كما رووا غير ذلك من فضائل علي مثل رواية أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الخوارج قال تقتلهم أولى الطائفتين بالحق ومثل روايته أنه قال لعمار تقتلك الفئة الباغية فمثل هذا الحديث الصحيح عن أبي سعيد بين فيه أن عليا وأصحابه أولى بالحق من معاوية وأصحابه فكيف لا يروى عنه مثل هذا لو كان صحيحا ولم يحدث بمثل هذا الحسين ولا أخوه عمر ولا علي ولو كان مثل هذا عندهما لحدث به عنهما المعروفون بالحديث عنهما فإن هذا أمر عظيم قال المصنف وأما رواية أمير المؤمنين فأخبرنا أبو العباس الفرغاني أخبرنا أبو الفضل الشيباني حدثنا رجاء بن يحيى الساماني حدثنا هارون بن مسلم بن سعيد بسامرا سنة أربعين ومائتين

8

194

حدثنا عبد الله بن عمرو الأشعث عن داود بن الكميت عن عمه المستهل بن زيد عن زبي زيد بن سهلب عن جويرية بنت مسهر قالت خرجت مع علي فقال يا جويرية إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوحى إليه ورأسه في حجري وذكره قلت وهذا الإسناد أضعف مما تقدم وفيه من الرجال المجاهيل الذين لا يعرف أحدهم بعدالة ولا ضبط وانفرادهم بمثل هذا الذي لو كان علي قاله لرواه عنه المعرفون من أصحابه وبمثل هذا الإسناد عن هذه المرأة ولا يعرف حال هذه المرأة ولا حال هؤلاء الذين رووا عنها بل ولا تعرف أعيانهم فضلا عن صفاتهم لا يثبت فيه شيء وفيه ما يناقض الرواية التي هي أرجح منه مع أن الجميع كذب فإن المسلمين رووا من فضائل علي ومعجزات النبي صلى الله عليه وسلم ما هو دون هذا وهذا لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث وقد صنف جماعة من علماء الحديث في فضائل علي كما صنف الإمام أحمد فضائله وصنف أبو نعيم في فضائله وذكر فيها أحاديث

8

195

كثيرة ضعيفة ولم يذكر هذا لأن الكذب ظاهر عليه بخلاف غيره وكذلك لم يذكره الترمذي مع أنه جمع في فضائل علي أحاديث كثير منها ضعيف وكذلك النسائي وأبو عمر بن عبدالبر وجمع النسائي مصنفا في خصائص علي قال المصنف وقد حكى أبو جعفر الطحاوي عن علي بن عبد الرحمن عن أحمد بن صالح المصري أنه كان يقول لا ينبغي لمن كان سبيله العلم التخلف عن حفظ حديث أسماء في رد الشمس لأنه من علامات النبوة قلت أحمد بن صالح رواه من الطريق الأول ولم يجمع طرقه وألفاظه التي تدل من وجوه كثيرة على أنه كذب وتلك الطريق راويها مجهول عنده ليس معلوم الكذب عنده فلم يظهر له كذبه والطحاوي ليست عادته نقد الحديث كنقد أهل العلم ولهذا روى في شرح معاني الآثار الأحاديث المختلفة وإنما يرجح ما يرجحه منها في الغالب من جهة القياس الذي رآه حجة ويكون أكثرها مجروحا من جهة الإسناد لا يثبت ولا يتعرض لذلك فإنه لم تكن معرفته بالإسناد

8

196

كعرفة أهل العلم به وإن كان كثير الحديث فقيها عالما قال المصنف وقال عبد الله البصري عود الشمس بعد مغيبها آكد حالا فيما يقتضي نقله لأنه وإن كان فضيلة لأمير المؤمنين فإنه من أعلام النبوة وهو مفارق لغيره من فضائله في كثير من أعلام النبوة قلت وهذا من أظهر الأدلة على أنه كذب فإن أهل العلم بالحديث رووا فضائل علي التي ليست من أعلام النبوة وذكروها في الصحاح والسنن والمساند رووها عن العلماء الأعلام الثقات المعروفين فلو كان هذا مما رواه الثقات لكانوا أرغب في روايته وأحرص الناس على بيان صحته لكنهم لم يجدوا أحدا رواه بإسناد يعرف أهله بحمل العلم ولا يعرفون بالعدالة والضبط مع ما فيه من الأدلة الكثيرة على تكذيبه

8

197

قال وقال أبو العباس بن عقدة حدثنا جعفر بن محمد بن عمرو أنبأنا سليمان بن عباد سمعت بشار بن دراع قال لقى أبو حنيفة محمد بن النعمان فقال عمن رويت حديث رد الشمس فقال عن غير الذي رويت عنه يا سارية الجبل قال المصنف وكل هذه أمارات ثبوت الحديث قلت هذا يدل على أن أئمة أهل العلم لم يكونوا يصدقون بهذا الحديث فإنه لم يروه أمام من أئمة المسلمين وهذا أبو حنيفة أحد الأئمة المشاهير وهو لا يتهم على علي فإنه من أهل الكوفة دار الشيعة وقد لقي من الشيعة وسمع من فضائل علي ما شاء الله وهو يحبه ويتولاه ومع هذا أنكر هذا الحديث علي محمد بن النعمان وأبو حنيفة أعلم وأفقه من الطحاوي وأمثاله ولم يجبه ابن النعمان بجواب صحيح بل قال عن غير من رويت عنه حديث يا سارية الجبل فيقال له هب أن ذلك كذب فأي شيء في كذبه مما يدل على

8

198

صدق هذا فإن كان كذلك فأبو حنيفة لا ينكر أن يكون لعمر وعلي وغيرهما كرامات بل أنكر هذا الحديث للدلائل الكثيرة على كذبه ومخالفته للشرع والعقل وأنه لم يروه أحد من العلماء المعروفين بالحديث من التابعين وتابعيهم وهم الذين يروون عن الصحابة بل لم يروه إلا كذاب أو مجهول لا يعلم عدله وضبطه فكيف يقبل هذا من مثل هؤلاء وسائر علماء المسلمين يودون أن يكون مثل هذا صحيحا لما فيه من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وفضيلة علي على الذين يحبونه ويتولونه ولكنهم لا يستجيزون التصديق بالكذب فردوه ديانة فصل قال الرافضي العاشر ما رواه أهل السير أن الماء زاد بالكوفة وخافوا الغرق ففزعوا إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فركب بغله رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج الناس معه فنزل على شاطىء الفرات فصلى ثم دعا وضرب صفحة الماء بقضيب كان في يديه فغاص الماء

8

199

فسلم عليه كثير من الحيتان ولم ينطق الجري ولا المرماهى فسئل عن ذلك فقال أنطق الله ما طهره من السمك وأسكت ما أنجسه وأبعده والجواب من وجوب أحدها المطالبة بأن يقال أين إسناد هذه الحكاية الذي يدل على صحتها وثبوتها وإلا فمجرد الحكايات المرسلة بلا إسناد يقدر عليه كل أحد لكن لا يفيد شيئا الثاني أن بغله النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن عنده الثالث أن هذا لم ينقله أحد من أهل الكتب المعتمد عليهم ومثل هذه القصة لو كانت صحيحة لكانت مما تتوفر الهمم والدواعي على نقلها وهذا الناقل لم يذكر لها إسنادا فكيف يقبل ذلك بمجرد حكاية لا اسناد لها الرابع أن السمك كله مباح كما ثبت عن النبي النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته

8

200

وقد قال تعالى أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة سورة المائدة وقد أجمع سلف الأمة وأئمتها على حل السمك كله وعلي مع سائر الصحابة يحلون هذه الأنواع فكيف يقولون إن الله أنجسه ولكن الرافضة جهال يحرمون ما أحل الله بمثل هذه الحكاية المكذوبة الخامس أن يقال نطق السمك ليس مقدورا له في العادة ولكن هو من خوارق العادات فالله تعالى هو الذي أنطق ما أنطق منها وأسكت ما أسكته إن كان قد وقع فأي ذنب لمن أسكته الله حتى يقال هو نجس ومن جعل للعجماء ذنبا بأن الله لم ينطقها كان ظالما لها وإن قال قائل بل الله أقدرها على ذلك فامتنعت منه فيقال إقداره لها على ذلك لو وقع إنما كان كرامة لعلي رضي الله عنه والكرامة إنما تحصل بالنطق بالسلام عليه لا بمجرد القدرة عليه مع الامتناع منه فإذا لم يسلم عليه لم يكن في إقدارها مع امتناعها كرامة له بل فيه تحريم الطيبات على الناس فإن لحمها طيب وذلك من باب العقوبات كما قال تعالى فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا سورة النساء

8

201

وقد قيل إن تحريم ذلك كان من أخلاق اليهود وما هو من إخوانهم الرافضة ببعيد السادس أن يقال المقصود هنا كان حاصلا بنضوب الماء فأما تسليم السمك فلم يكن إليه حاجة ولا كان هناك سبب يقتضي خرق العادة لتقوية الإيمان فإن ذلك يكون حجة وحاجة ولم يكن هناك حجة ولا حاجة ألا ترى أن انفلاق البحر لموسى كان أعظم من نضوب الماء ولم يسلم السمك على موسى ولما ذهب موسى إلى الخضر وكان معه حوت مالح في مكتل فأحياه الله حتى انساب ونزل في الماء وصار البحر عليه سربا ولم يسلم على موسى ولا على يوشع والبحر دائما يجزر ويمد ولم يعرف أن السمك سلم على أحد من الصحابة والتابعين وغيرهم وعلى أجل قدرا من أن يحتاج إلى إثبات فضائله بمثل هذه الحكايات التي تعلم العقلاء أنها من المكذوبات فصل قال الرافضي الحادي عشر روى جماعة أهل السير أن

8

202

عليا كان يخطب على منبر الكوفة فظهر ثعبان فرقى المنبر وخاف الناس وأرادوا قتله فمنعهم فخاطبه ثم نزل فسأل الناس عنه فقال إنه حاكم الجن التبست عليه قصة فأوضحتها له وكان أهل الكوفة يسمون الباب الذي دخل منه الثعبان باب الثعبان فأراد بنو أمية إطفاء هذه الفضيلة فنصبوا على ذلك الباب قتلى مدة حتى سمى باب القتلى والجواب أنه لا ريب أن من دون علي بكثير تحتاج الجن إليه وتستفتيه وتسأله وهذا معلوم قديما وحديثا فإن كان هذا قد وقع فقدره أجل من ذلك وهذا من أدنى فضائل من هو دونه وإن لم يكن وقع لم ينقص فضله بذلك وإنما يحتاج أن يثبت فضيلة علي بمثل هذه الأمور من يكون مجدبا منها فأما من باشر أهل الخير والدين الذين لهم أعظم من هذه الخوارق أو رأى في نفسه ما هو أعظم من هذه الخوارق لم يكن هذا مما يوجب أن يفضل بها علي ونحن نعلن أن من هو دون علي بكثير من الصحابة خير منا بكثير

8

203

فكيف يمكن مع هذا أن يجعل مثل هذا حجة على فضيلة علي على الواحد منا فضلا عن أبي بكر وعمر ولكن الرافضة لجهلهم وظلمهم وبعدهم عن طريق أولياء الله سمعوا ليس لهم من كرامات الأولياء المتقين ما يعتد به فهم لإفلاسهم منها إذا سمعوا شيئا من خوارق العادات عظموه تعظيم المفلس للقليل من النقد والجائع للكسرة من الخبز ولو ذكرنا ما باشرناه نحن من هذا الجنس مما هو أعظم من ذلك مما قد رآه الناس لذكرنا شيئا كثيرا والرافضة لفرط جهلهم وبعدهم عن ولاية الله وتقواه ليس لهم نصيب كثير من كرامات الأولياء فإذا سمعوا مثل هذا عن علي ظنوا أن هذا لا يكون إلا لأفضل الخلق بل هذه الخوارق المذكورة وما هو أعظم منها يكون لخلق كثير من أمة محمد النبي صلى الله عليه وسلم المعروفين بأن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا خير منهم الذين يتولون الجميع ويحبونهم ويقدمون من قدم الله ورسوله لاسيما الذين يعرفون قدر الصديق ويقدمونه فإنهم أخص هذه الأمة بولاية الله وتقواه واللبيب يعرف ذلك بطرق إما أن يطالع الكتب المصنفة في أخبار الصالحين وكرامات الأولياء مثل كتاب ابن أبي الدنيا وكتاب الخلال واللالكائي وغيرهم ومثل ما يوجد من ذلك في أخبار الصالحين مثل الحلية لأبي نعيم وصفوة الصفوة وغير ذلك

8

204

وأما أن يكون قد باشر من رأى ذلك وإما أن يخبره بذلك من هو عنده صادق فما زال الناس في كل عصر يقع لهم من ذلك شيء كثير ويحكى ذلك بعضهم لبعض وهذا كثير في هذا كثير من المسلمين وأما أن يكون بنفسه وقع له بعض ذلك وهذه جيوش أبي بكر وعمر ورعيتها لهم من ذلك أعظم من ذلك مثل العلاء ابن الحضرمي وعبوره على الماء كما تقدم ذكره كما تقدم فإن هذا أعظم من نضوب الماء ومثل استقائه ومثل البقر الذي كلم سعد بن أبي وقاص في وقعة القادسية ومثل نداء عمر يا سارية الجبل وهو بالمدينة وسارية بنهاوند ومثل شرب خالد بن الوليد السم ومثل إلقاء أبي مسلم الخولاني في النار فصارت عليه النار بردا وسلاما لما ألقاه فيها الأسود العنسى المنتبىء الكذاب وكان قد استولى على اليمن فلما امتنع أبو مسلم من الإيمان به ألقاه في النار فجعلها الله عليه بردا وسلاما فخرج منها يمسح جبينه وغير ذلك مما يطول وصفه ومما ينبغي أن يعلم أن خوارق العادات تكون لأولياء الله بحسب حاجتهم فمن كان بين الكفار أو المنافقين أو الفاسقين احتاج إليها لتقوية اليقين فظهرت عليه كظهور النور في الظلمة فلهذا يوجد بعضها لكثير من المفضولين أكثر مما يوجد للفاضلين لحاجتهم إلى ذلك

8

205

وهذه الخوارق لا تراد لنفسها بل لأنها وسيلة إلى طاعة الله ورسوله فمن جعلها غاية له ويعبد لأجلها لعبت به الشياطين وأظهرت له خوارق من جنس خوارق السحرة والكهان فمن كان لا يتوصل إلى ذلك إلا بها كان أحوج إليها فتكثر في حقه أعظم مما تكثر في حق من استغنى عنها ولهذا كانت في التابعين أكثر منها في الصحابة ونظير هذا في العلم علم الأسماء واللغات فإن المقصود بمعرفة النحو واللغة التوصل إلى فهم كتاب الله ورسوله وغير ذلك وأن ينحو الرجل بكلامه نحو كلام العرب والصحابة لما استغنوا عن النحو واحتاج إليه من بعدهم صار لهم من الكلام في قوانين العربية ما لا يوجد مثله للصحابة لنقصهم وكمال الصحابة وكذلك صار لهم من الكلام في أسماء الرجال وأخبارهم ما لا يوجد مثله للصحابة لأن هذه وسائل تطلب لغيرها فكذلك كثير من النظر والبحث احتاج إليه كثير من المتأخرين واستغنى عنه الصحابة وكذلك ترجمة القرآن لمن لا يفهمه بالعربية يحتاج إليه من لغته فارسية تركية ورومية والصحابة لما كانوا عربا استغنوا عن ذلك وكذلك كثير من التفسير والغريب يحتاج إليه كثير من الناس والصحابة استغنوا عنه فمن جعل النحو ومعرفة الرجال والاصطلاحات النظرية والجدلية المعينة على النظر والمناظرة مقصودة لنفسها رأى أصحابها أعلم من

8

206

الصحابة كما يظنه كثير ممن أعمى الله بصيرته ومن علم أنها مقصودة لغيرها علم أن الصحابة الذين علموا المقصود بهذه أفضل ممن لم تكن معرفتهم مثلهم في معرفة المقصود وإن كان بارعا في الوسائل وكذلك الخوارق كثير من المتأخرين صارت عنده مقصودة لنفسها فيكثر العبادة والجوع والسهر والخلوة ليحصل له نوع من المكاشفات والتأثيرات كما يسعى الرجل ليحصل له من السلطان والمال وكثير من الناس إنما يعظم الشيوخ لأجل ذلك كما تعظم الملوك والأغنياء لأجل ملكهم وملكهم وهذا الضرب قد يري أن هؤلاء أفضل من الصحابة ولهذا يكثر في هذا الضرب المنكوس الخروج عن الرسالة وعن أمر الله ورسوله ويقفون مع أذواقهم وإراداتهم لا عند طاعة الله رسوله ويبتلون بسلب الأحوال ثم الأعمال ثم أداء الفرائض ثم الإيمان كما أن من أعطى ملكا ومالا فخرج فيه عن الشريعة وطاعة الله ورسوله واتبع فيه هواه وظلم الناس عوقب على ذلك إما بالعزل وإما بالخوف والعدو وإما بالحاجة والفقر وإما بغير ذلك والمقصود لنفسه في الدنيا هو الاستقامة على ما يرضاه الله ويحبه باطنا وظاهرا فكلما كان الرجل أتبع لما يرضاه الله ورسوله وأتبع لطاعة الله ورسوله كان أفضل ومن حصل له المقصود من الإيمان واليقين والطاعة بلا خارق لم يحتج إلى خارق

8

207

كما أن صديق الأمة أبا بكر وعمر وعثمان وعليا وطلحة والزبير وأمثالهم من السابقين الأولين لما تبين لهم أن محمدا النبي صلى الله عليه وسلم رسول الله آمنوا به ولم يحتاجوا مع ذلك من الخوارق إلى ما احتاج إليه من لم يعرف كمعرفتهم ومعرفة الحق له أسباب متعددة وقد نبهنا على ذلك في غير هذا الموضع في تقرير الرسالة وأعلام النبوة وبينا أن الطريق إلى معرفة صدق الرسول كثيرة جدا وأن طريق المعجزات طريق من الطرق وأن من قال من النظار إن تصديق الرسول لا يمكن إلا بالمعجزة كان كمن قال إن معرفة الصانع لا تحصل إلا بالمعرفة بحدوث العالم وهذا وأمثاله مما يقوله كثير من النظار الذين يحصرون نوعا من العلم بدليل معين يدعون أنه لا يحصل إلا بذلك مما أوجب تفرق الناس فطائفة توافقهم على ذلك فيوجبون على كل أحد مالم يوجبه الله ورسوله لا سيما إن كان ذلك الطريق الذي استدلوا به مقدوحا في بعض مقدماته كأدلتهم على حدوث العالم بحدوث الأجسام وطائفة تقدح في الطرق النظرية جملة وتسد باب النظر والمناظرة وتدعى تحريم ذلك مطلقا واستغناء الناس عنه فتقع الفتنة بين هؤلاء وهؤلاء

8

208

وحقيقة الأمر أن طرق العلم متعددة وقد يغنى الله كثيرا من الناس عن تلك الطرق المعينة بل عن النظر بعلوم ضرورية تحصل لهم وإن كانت العبادة قد تعد النفس لتلك العلوم الضرورية حتى تحصل إلهاما وطائفة من الناس يحتاجون إلى النظر أو إلى تلك الطرق إما لعدم ما يحصل لغيرهم وإما لشبه عرضت لهم لا تزول إلا بالنظر وكذلك كثير من الأحوال التي تعرض لبعض السالكين من الصعق والغشى والاضطراب عند الذكر وسماع القرآن وغيره ومن الفناءعن شهود المخلوقات بحيث يصطلم ويبقى لا يشهد قلبه إلا الله حتى يغيب بمشهوده عن نفسه فمن الناس من يجعل هذا لازما لا بد لكل من سلك منه ومنهم من يجعله هو الغاية ولا مقام وراءه ومنهم من يقدح في هذا ويجعله من البدع التي لم تنقل عن الصحابة والتحقيق أن هذا أمر يقع لبعض السالكين بحسب قوة الوارد

8

209

عليه وضعف القلب عن التمكين بحبه فمن لم يجد ذلك قد يكون لكمال قوته وكمال إيمانه وقد يكون لضعف إيمانه مثل كثير من البطالين والفساق وأهل البدع وليس هذا من لوازم الطرق بل قد يستغنى عنه كثير من السالكين وليس هو الغاية بل كمال الشهود بحيث يميز بين المخلوق والخالق ويشهد معاني أسماء الله وصفاته ولا يشغله هذا عن هذا هو أكمل في الشهود وأقوى في الإيمان ولكن من عرض له تلك الحال التي تعرض احتاج إلى ما يناسبها وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع لكن المقصود أن تعرف مرتبة الخوارق وأنها عند أولياء الله الذين يريدون وجهه ويحبون ما أحبه الله ورسوله في مرتبة الوسائل التي يستعان بها كما يستعان بغير الخوارق فإن لم يحتاجوا إليها استغناء بالمعتادات لم يتلفتوا إليها وأما عند كثير ممن يتبع هواه ويحب الرياسة عند الجهال ونحو ذلك فهي عندهم أعلى المقاصد كما أن كثيرا من طلبة العلم ليس مقصودهم به إلا تحصيل رياسة أو مال ولكل امرىء ما نوى وأما أهل العلم والدين الذين هم أهله فهو مقصود عندهم لمنفعته لهم وحاجتهم إليه في الدنيا والآخرة كما قال معاذ بن جبل في صفة العلم إن طلبة لله عبادة ومذكراته

8

210

تسبيح والبحث عنه جهاد وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة به يعرف الله ويعبدونه ويمجد الله ويوحد ولهذا تجد أهل الانتفاع به يزكون به نفوسهم ويقصدون فيه اتباع الحق لا اتباع الهوى ويسلكون فيه سبيل العدل والإنصاف ويحبونه ويلتذون به ويحبون كثرته وكثرة أهله وتنبعث هممهم على العمل به وبموجبه ومقتضاه بخلاف ما لم يذق حلاوته وليس مقصوده إلا مالا أو رياسة فإن ذلك لو حصل له بطريق آخر سلكه وربما رجحه إذا كان أسهل عليه ومن عرف هذا تبين له أن المقاصد التي يحبها الله ويرضاها التي حصلت لأبي بكر أكمل مما حصل لعمر والتي حصلت لعمر أكمل مما حصل لعثمان والتي حصلت لعثمان أكمل مما حصل لعلي وإن الصحابة كانوا أعلم الخلق بالحق وأتبعهم له وأحقهم بالعدل وإيتاء كل ذي حق حقه وأنه لم يقدح فيهم إلا مفرط في الجهل بالحقائق التي بها يستحق المدح والتفضيل وبما آتاهم الله من الهدى إلى سواء السبيل ولهذا من لم يسلك في عبادته الطريق الشرعية التي أمر الله بها

8

211

ورسوله وتعلقت همته بالخوارق فإنه قد يقترن به من الجن والشياطين من يحصل له به نوع من الخبر عن بعض الكائنات أو يطير به في الهواء أو يمشي به على الماء فيظن ذلك من كرامات الأولياء وأنه ولي لله ويكون سبب شركه أو كفره أو بدعته أو فسقه فإن هذا الجنس قد يحصل لبعض الكفار وأهل الكتاب وغيرهم وقد يحصل لبعض الملحدين المنتسبين إلى المسلمين مثل من لا يرى الصلوات واجبة بل ولا يقر بأن محمدا رسول الله بل يبغضه ويبغض القرآن ونحو ذلك من الأمور التي توجب كفره ومع هذا تغويه الشياطين ببعض الخوارق كما تغوي المشركين كما كانت تقترن بالكهان والأوثان وهي اليوم كذلك في المشركين من أهل الهند والترك والحبشة وفي كثير من المشهورين في البلاد التي فيها الإسلام ممن هو كافر أو فاسق أو جاهل مبتدع كما قد بسط في موضع آخر فصل قال الرافضي الثاني عشر الفضائل إما نفسانية أو بدنية أو خارجية وعلى التقديرين الأولين فإما أن تكون متعلقة بالشخص نفسه أو بغيره وأمير المؤمنين علي جمع

8

212

الكل أما فضائله النفسانية المتعلقة به كعلمه وزهده وكرمه وحلمه فأشهر من أن تحصى والمتعلقة بغيره كذلك كظهور العلوم عنه واستيفاء غيره منه وكذا فضائله البدنية كالعبادة والشجاعة والصدقة وأما الخارجية كالنسب فلم يلحقه فيه أحد لقربه من النبي النبي صلى الله عليه وسلم وتزويجه إياه بابنته سيدة نساء العالمين وقد روى أخطب خوارزم من كتاب السنة بإسناده عن جابر قال لما تزوج علي فاطمة زوجها الله إياه من فوق سبع سماوات وكان الخاطب جبريل وكان ميكائيل وإسرافيل في

8

213

سبعين ألفا من الملائكة شهودا فأوحى الله إلى شجرة طوبى انثري ما فيك من الدر والجوهر ففعلت فأوحى الله إلى الحور العين أن القطن فلقطن منهن إلى يوم القيامة وأورد أخبارا كثيرة في ذلك وكان أولاده رضي الله عنه أشرف الناس بعد رسول الله النبي صلى الله عليه وسلم وبعد أبيهم وعن حذيفة بن اليمان قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد الحسين بن علي فقال أيها الناس هذا الحسين ألا فاعرفوه وفضلوه فوالله لجده أكرم على الله من جد يوسف بن يعقوب هذا الحسين جده في الجنة وجدته في الجنة وأمه في الجنة وأبوه في الجنة وخاله في الجنة وعمه في الجنة

8

214

وعمته في الجنة وأخوه في الجنة وهو في الجنة ومحبوه في الجنة ومحبو محبيهم في الجنة وعن حذيفة قال بت عند النبي النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فرأيت عنده شخصا فقال لي هل رأيت قلت نعم قال هذا ملك لم ينزل إلى منذ بعثت أتاني من الله فبشرني أن الحسن والحسين سيد شباب أهل الجنة والأخبار في ذلك كثيرة وكان محمد بن الحنفية فاضلا عالما حتى ادعى قوم فيه الإمامة والجواب أما الأمور الخارجية عن نفس الإيمان والتقوى فلا يحصل بها فضيلة عند الله تعالى وإنما يحصل بها الفضيلة عند الله إذا كانت معينة على ذلك فإنها من باب الوسائل لا المقاصد كالمال والسلطان والقوة والصحة ونحو ذلك فإن هذه الأمور لا يفضل بها الرجل عند الله إلا إذا أعانته على طاعة الله بحسب ما يعينه قال الله تعالى يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم

8

215

شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم سورة الحجرات وفي الصحيحين عن النبيي النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل أي الناس أكرم فقال أتقاهم لله قيل ليس عن هذا نسألك قال يوسف نبي الله بن يعقوب نبي الله بن إسحاق نبي الله بن إبراهيم خليل الله قيل ليس عن هذا نسألك قال أفعن معادن العرب تسألوني خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا بين لهم أولا أن اكرم الخلق عند الله أتقاهم وإن لم يكن ابن نبي ولا أبا نبي فإبراهيم النبي صلى الله عليه وسلم أكرم على الله من يوسف وإن كان أبوه آزر وهذا أبوه يعقوب وكذلك نوح أكرم على الله من إسرائيل وإن كان هذا اولاده أنبياء وهذا أولاده ليسوا بأنبياء فلما ذكروا أنه ليس مقصودهم إلا الأنساب قال لهم فأكرم أهل الأنساب من انتسب إلى الأنبياء وليس في ولد آدم مثل يوسف فإنه نبي ابن نبي ابن نبي فلما أشاروا إلى أنه ليس مقصودهم إلا ما يتعلق بهم قال أفعن معادن العرب تسألوني الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا بين أن الأنساب كالمعادن فإن الرجل يتولد منه كما يتولد من المعدن الذهب والفضة

8

216

ولا ريب أن الأرض التي تنبت الذهب أفضل من الأرض التي تنبت الفضة فهكذا من عرف أنه يلد الأفاضل كان أولاده أفضل ممن عرف أنه يلد المفضول لكن هذا سبب ومظنه وليس هو لازما فربما تعطلت أرض الذهب وربما قل نبتها فحينئذ تكون أرض الفضة أحب إلى الإنسان من أرض معطلة والفضة الكثيرة أحب إليهم من ذهب قليل لا يماثلها في القدر فلهذا كان أهل الأنساب الفاضلة يظن بهم الخير ويكرمون لأجل ذلك فإذا تحقق من أحدهم خلاف ذلك كانت الحقيقة مقدمة على المظنة وأما ما عند الله فلا يثبت على المظان ولا على الدلائل إنما يثبت على ما يعلمه هو من الأعمال الصالحة فلا يحتاج إلى دليل ولا يجتزىء بالمظنة فلهذا كان أكرم الخلق عنده أتقاهم فإذا قدر تماثل اثنين عنده في التقوى تماثلا في الدرجة وإن كان أبو أحدهما أو ابنه أفضل من أبي الآخر أو ابنه لكن إن حصل له بسبب نسبه زيادة في التقوى كان أفضل لزيادة تقواه ولهذا حصل الأزواج النبي النبي صلى الله عليه وسلم إذا قنتن لله ورسوله وعملن صالحا لا لمجرد المصاهرة بل لكمال الطاعة كما أنهن لو أتين بفاحشة مبينة لضوعف لهن العذاب ضعفين لقبح المعصية

8

217

فإن ذا الشرف إذا ألزم نفسه التقوى كما تقواه أكمل من تقوى غيره كما أن الملك إذا عدل كان عدله أعظم من عدل الرجل في أهله ثم إن الرجل إذا قصد الخير قصدا جازما وعمل منه ما يقدر عليه كان له أجر كامل كما قال النبي النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح إن بالمدينة رجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم قالوا وهم في المدينة قال وهم بالمدينة حبسهم العذر ولهذا قال النبي النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من أتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا وهذا مبسوط في موضع آخر

8

218

ولهذا لم يثن الله على أحد في القرآن بنسبه أصلا لا على ولد نبي ولا على أبي نبي وإنما أثنى على الناس بإيمانهم وأعمالهم وإذا ذكر صنفا وأثنى عليهم فلما فيهم من الإيمان والعمل لا لمجرد النسب ولما ذكر الأنبياء ذكرهم في الأنعام وهم ثمانية عشر قال ومن آبائهم وذرياتهم وإخواتهم وأجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم سورة الأنعام فبهذا حصلت الفضيلة باجتبائه سبحانه وتعالى وهدايته إياهم إلى صراط مستقيم لا بنفس القرابة وقد يوجب النسب حقوقا ويوجب لأجله حقوقا ويعلق فيه أحكاما من الإيجاب والتحريم والإباحة لكن الثواب والعقاب والوعد والوعيد على الأعمال لا على الأنساب ولما قال تعالى إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين سورة آل عمران وقال أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما سورة النساء كان هذا مدحا لهذا المعدن الشريف لما فيهم من الإيمان والعمل الصالح ومن لم يتصف بذلك منهم لم يدخل في المدح كما في قوله تعالى ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون سورة الحديد وقال تعالى وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين سورة الصافات

8

219

وفي القرآن الثناء والمدح للصحابة بإيمانهم وأعمالهم في غير آية كقوله والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه سورة التوبة وقوله لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى سورة الحديد وقوله لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا سورة الفتح وقوله هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم سورة الفتح وقوله للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويوثرون على انفسهم ولو كان بهم خصاصة سورة الحشر وقوله محمد رسول الله والذين معه سورة الفتح الآية وهكذا في القرآن الثناء على المؤمنين من الأمة أولها وآخرها على المتقين والمحسنين والمقسطين والصالحين وأمثال هذه الأنواع وأما النسب ففي القرآن إثبات حق لذوي القربى كما ذكروا هم في

8

220

آية الخمس والفيء وفي القرآن أمر لهم بما يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيرا وفي القرآن الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وقد فسر ذلك بأن يصلى عليه وعلى آله وفي القرآن الأمر بمحبة الله ومحبه رسوله ومحبة أهله من تمام محبته وفي القرآن أن أزواجه أمهات المؤمنين وليس في القرآن مدح أحد لمجرد كونه من ذوي القربى وأهل البيت ولا الثناء عليهم بذلك ولا ذكر استحقاقه الفضيلة عند الله بذلك ولا تفضيله على من يساويه في التقوى بذلك وإن كان قد ذكر ما ذكره من اصطفاء آل إبراهيم واصطفاء بني إسرائيل فذاك أمر ماض فأخبرنا بي في جعله عبرة لنا فبين مع ذلك أن الجزاء والمدح بالأعمال ولهذا ذكر ما ذكره من اصطفاء بني إسرائيل وذكر ما ذكره من كفر من كفر منهم وذنوبهم وعقوبتهم فذكر فيهم النوعين الثواب والعقاب وهذا من تمام تحقيق أن النسب الشريف قد يقترن به المدح تارة إن كان صاحبه من أهل الإيمان والتقوى وإلا فإن ذم صاحبه أكثر كما كان الذم لمن ذم من بني إسرائيل وذرية إبراهيم وكذلك المصاهرة قال تعالى ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهم من الله شيئا

8

221

وقيل أدخلا النار مع الداخلين وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذا قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين سورة التحريم وإذا تبين هذا فيقال إذا كان الرجل أعجميا والآخر من العرب فنحن وإن كنا نقول مجملا إن العرب أفضل جملة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود وغيره لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى الناس من آدم وآدم من تراب وقال إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء الناس رجلان مؤمن تقى وفاجر شقى ولذلك إذا كان الرجل من أفناء العرب والعجم وآخر من قريش فهما عند الله بحسب تقواهما إن تماثلا فيها تماثلا في الدرجة عند الله وإن تفاضلا فيها تفاضلا في الدرجة وكذلك إذا كان رجل من بني هاشم ورجل من الناس أو العرب أو العجم فاضلهما عند الله أتقاهما فإن تماثلا في التقوى تماثلا في الدرجة ولا يفضل أحدهما عند الله لا بأبيه ولا ابنه ولا بزوجته ولا بعمه ولا بأخيه

8

222

كما أن الرجلين إن كانا عالمين بالطب أو الحساب أو الفقه أو النحو أو غير ذلك فأكملهما بالعلم بذلك أعلمهما به فإن تساويا في ذلك تساويا في العلم ولا يكون أحدهما أعلم بكون أبيه أو ابنه أعلم من الآخر وهكذا في الشجاعة والكرم والزهد والدين إذا تبين ذلك فالفضائل الخارجية لا عبرة بها عند الله تعالى إلا أن تكون سببا في زيارة الفضائل الداخلية وحينئذ فتكون الفضيلة بالفضائل الداخلية وأما الفضائل البدنية فلا اعتبار بها إن لم تكن صادرة عن الفضيلة النفسانية وإلا فمن صلى وصام وقاتل وتصدق بغير نية خالصة لم يفضل بذلك فالاعتبار بالقلب كما في الصحيحين عن النبيصلى الله عليه وسلم أنه قال ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب

8

223

وحينئذ فمن كام أكمل في الفضائل النفسانية فهو أفضل مطلقا وأهل السنة لا ينازعون في كمال علي وأنه في الدرجة العليا من الكمال وإنما النزاع في كونه أكمل من الثلاثة وأحق بالإمامة منهم وليس فيما ذكره ما يدل على ذلك وهذا الباب للناس فيه طريقان منهم من يقول إن تفضيل بعض الأشخاص على بعض عند الله لا يعلم إلا بالتوقيف فإن حقائق ما في القلوب ومراتبها عند الله مما استأثر الله به فلا يعلم ذلك إلا بالخبر الصادق الذي يخبر عن الله ومنهم من يقول قد يعلم ذلك بالاستدلال وأهل السنة يقولون إن كلا من الطريقين إذا أعطى حقه من السوك دل على أن كلا من الثلاثة أكمل من علي ويقولون نحن نقرر ذلك في عثمان فإذا ثبت ذلك في عثمان كان في أبي بكر وعمر بطريق الأولى فإن تفضيل أبي بكر وعمر على عثمان لم ينازع فيه أحد بل وتفضيلهما على عثمان وعلي لم يتنازع فيه من له عند الأمة قدر لا من الصحابة ولا التابعين ولا أئمة السنة بل إجماع المسلمين على

8

224

ذلك قرنا بعد قرن أعظم من إجماعهم على إثبات شفاعة نبينا في أهل الكبائر وخروجهم من النار وعلى إثبات الحوض والميزان وعلى قتال الخوارج ومانعي الزكاة وعلى صحة إجارة العقار وتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها بل إيمان أبي بكر وعمر وعدالتهما مما وافقت عليه الخوارج مع تعنتهم وهم ينازعون أيمان علي وعثمان واتفقت الخوارج على تكفير علي وقدحهم فيه أكثر من قدحهم في عثمان والزيدية بالعكس والمعتزلة كان قدماؤهم يميلون إلى الخوارج ومتأخروهم يميلون إلى الزيدية كما أن الرافضة قدماؤهم يصرحون بالتجسيم ومتأخروهم على قول الجهمية والمعتزلة وكانت الشيعة الأولى لا يشكون في تقديم أبي بكر وعمر وأما عثمان فكثير من الناس يفضل عليه عليا وهذا قول كثير من الكوفيين وغيرهم وهو القول الأول للثورى ثم رجع عنه وطائفة أخرى لا تفضل أحدهما على صاحبه وهو الذي حكاه ابن القاسم عن مالك عمن أدركه من المدنيين لكن قال ما أدركت أحدا ممن يقتدي به يفضل أحدهما على صاحبه وهذا يحتمل السكوت عن الكلام في ذلك فلا يكون قولا وهو الأظهر ويحتمل التسوية بينهما وذكر ابن القاسم عنه أنه لم يدرك

8

225

أحدا ممن يقتدي به يشك في تقديم أبي بكر وعمر على عثمان وعلي وأما جمهور الناس ففضلوا عثمان وعليه استقر أمر أهل السنة وهو مذهب أهل الحديث ومشايخ الزهد والتصوف وأئمة الفقهاء كالشافعي وأصحابه وأحمد وأصحابه وأبي حنيفة وأصحابه وإحدى الروايتين عن مالك وعليها أصحابة قال مالك لا أجعل من خاض في الدماء كمن لم يخض فيها وقال الشافعي وغيره إنه بهذا قصد والى المدينة الهاشمي ضرب مالك وجعل طلاق المكره سببا ظاهرا وهو أيضا مذهب جماهير أهل الكلام الكرامية والكلابية والأشعرية والمعتزلة وقال أيوب السختياني من لم يقدم عثمان على علي فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار وهكذا قال أحمد والدارقطني وغيرهما أنهم اتفقوا على تقديم عثمان ولهذا تنازعوا فيمن لم يقدم عثمان هل يعد مبتدعا على قولين هما روايتان عن أحمد فإذا قام الدليل على تقديم عثمان كان ما سواه أوكد وأما الطريق التوفيقي فالنص والاجماع أما النص ففي الصحيحين عن ابن عمر قال كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي أفضل أمة النبي صلى الله عليه وسلم بعده أبو بكر ثم عمر ثم عثمان

8

226

وأما الإجماع فالنقل الصحيح قد أثبت أن عمر قد جعل الأمر شورى في ستة وأن ثلاثة تركوه لثلاثه عثمان وعلي وعبد الرحمن وأن الثلاثة اتفقوا على أن عبد الرحمن يختار واحدا منهما وبقي عبد الرحمن ثلاثة أيام حلف أنه لم ينم فيها كبير نوم يشاور المسلمين وقد اجتمع بالمدينة أهل الحل والعقد حتى أمراء الأنصار الأنصار وبعد ذلك اتفقوا على مبايعة عثمان بغير رغبة ولا رهبة فيلزم أن يكون عثمان هو الأحق ومن كان هو الأحق كان هو الأفضل فإن أفضل الخلق من كان أحق أن يقوم مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وإنما قلنا يلزم أن يكون هو الأحق لأنه لو لم يكن ذلك للزم إما جهلهم وإما ظلمهم فإنه إذا لم يكن أحق وكان غيره أحق فإن لم يعلموا ذلك كانوا جهالا وإن علموه وعدلوا عن الأحق إلى غيره كانوا ظلمة فتبين أن عثمان إن لم يكن أحق لزم إما جهلهم وإما ظلمهم وكلاهما منتف لأنهم أعلم بعثمان وعلي منا وأعلم بما قاله الرسول فيهما منا وأعلم بما دل عليه القرآن في ذلك منا ولأنهم خير القرون فيمتنع أن نكون نحن أعلم منهم بمثل هذه المسائل مع أنهم أحوج إلى علمها منا فإنهم لو جهلوا مسائل أصول دينهم وعلمناها نحن لكنا أفضل منهم وذلك ممتنع

8

227

وكونهم علموا الحق وعدلوا عنه أعظم وأعظم فإن ذلك قدح في عدالتهم وذلك يمنع أن يكونوا خير القرون بالضرورة ولأن القرآن آثنى عليهم ثناء يقتضي غاية المدح فيمتنع إجماعهم وإصرارهم على الظلم الذي هو ضرر في حق الأمة كلها فإن هذا ليس ظلما للممنوع من الولاية فقط بل هو ظلم لكل من منع نفعه من ولاية الأحق بالولاية فإنه إذا كان راعيان أحدهما هو الذي يصلح للرعاية ويكون أحق بها كان منعه من رعايتها يعود بنقص الغنم حقها من نفعه ولأن القرآن والسنة دلا على أن هذه الأمة خير الأمم وأن خيرها أولها فإن كانوا مصرين على ذلك لزم أن تكون هذه الأمة شر الأمم وأن لا يكون أولها خيرها ولأنا نحن نعلم أن المتأخرين ليسوا مثل الصحابة فإن كان أولئك ظالمين مصرين على الظلم فالأمة كلها ظالمة فليست خير الأمم وقد قيل لابن مسعود لما ذهب إلى الكوفة من وليتم قال ولينا أعلانا ذا فوق ولم نأل وذو الفوق هو السهم يعني أعلانا سهما في الإسلام فإن قيل قد يكون أحق بالإمامة وعلي أفضل منه

8

228

قيل أولا هذا السؤال لا يمكن أن يورده أحد من الإمامية لأن الأفضل عندهم أحق بالإمامة وهذا قول الجمهور من أهل السنة وهنا مقامان إما أن يقال الأفضل أحق بالإمامة لكن يجوز توليه المفضول إما مطلقا وإما للحاجة وإما أن يقال ليس كل من كان أفضل عند الله يكون أحق بالإمامة وكلاهما منتف ههنا أما الأول فلأن الحاجة إلى تولية المفضول في الاستحقاق كانت منتفية فإن القوم كانوا قادرين على تولية علي وليس هناك من ينازع أصلا ولا يحتاجون إلى رغبة ولا رهبة ولم يكن هناك لعثمان شوكة تخاف بل التمكن من تولية هذا كان كالتمكن من تولية هذا فامتنع أن يقال ما كان يمكن إلا تولية المفضول وإذا كانوا قادرين وهم يتصرفون للأمة لا لأنفسهم لم يجز لهم تفويت مصلحة الأمة من ولاية الفاضل فإن الوكيل والولي المتصرف لغيره ليس له أن يعدل عما هو أصلح لمن ائتمنه مع كونه قادرا على تحصيل المصلحة فكيف إذا كانت قدرته على الأمرين سواء وأما الثاني فلأن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق وكل من كان به أشبه فهو أفضل ممن لم يكن كذلك والخلافة كانت خلافة نبوة لم تكن ملكا فمن خلف النبي وقام مقامه كان أشبه به ومن كان أشبه به كان أفضل فالذي يخلفه أشبه به من غيره والأشبة به أفضل فالذي يخلفه أفضل

8

229

وأما الطريق النظرية فقذ ذكر من ذكره من العلماء فقالوا عثمان كان أعلم بالقرآن وعلي أعلم بالسنة وعثمان أعظم جهادا بماله وعلي أعظم جهادا بنفسه وعثمان أزهد في الرياسة وعلي أزهد في المال وعثمان أورع عن الدماء وعلي أورع عن الأموال وعثمان حصل له من جهاد نفسه حيث صبر عن القتال ولم يقاتل مالم يحصل مثله لعلي وقال النبي صلى الله عليه وسلم المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله وسيرة عثمان في الولاية كانت أكمل من سيرة علي فقالوا فثبت أن عثمان أفضل لأن علم القرآن أعظم من علم السنة وفي صحيح مسلم وغيره أنه قال يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة وعثمان جمع القرآن كله بلا ريب وكان أحيانا يقرؤه في ركعة وعلي قد اختلف فيه هل حفظ القرآن كله أم لا

8

230

والجهاد بالمال مقدم على الجهاد بالنفس كما في قوله تعالى وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله سورة التوبة الآية وقوله الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم سورة التوبة الآية وقوله إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض سورة الأنفال وذلك لأن الناس يقاتلون دون أموالهم فإن المجاهد بالمال قد أخرج ماله حقيقة لله والمجاهد بنفسه لله يرجو النجاة لا يوافق أنه يقتل في الجهاد ولهذا أكثر القادرين على القتال يهون على أحدهم أن يقاتل ولا يهون عليه إخراج ماله ومعلوم أنهم كلهم جاهدوا بأموالهم وأنفسهم لكن منهم من كان جهاده بالمال أعظم ومنهم من كان جهاده بالنفس أعظم وأيضا فعثمان له من الجهاد بنفسه بالتدبير في الفتوح ما لم يحصل مثله لعلي وله من الهجرة إلى أرض الحبشة مالم يحصل مثله لعلي وله من الذهاب إلى مكة يوم صلح الحديبيية مالم يحصل مثله لعلي وإنما بايع النبي صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان لما بلغه أن المشركين قتلوا عثمان وبايع بإحدى يديه عن عثمان وهذا من أعظم الفضل حيث بايع عنه النبي صلى الله عليه وسلم

8

231

وأما الزهد والورع في الرياسة والمال فلا ريب أن عثمان تولى ثنتى عشر سنة ثم قصد الخارجون عليه قتله وحصروه وهو خليفة الأرض والمسلمون كلهم رعيته وهو مع هذا لم يقتل مسلما ولا دفع عن نفسه بقتال بل صبر حتى قتل لكنه في الأموال كان يعطي لأقاربه من العطاء مالا يعطيه لغيرهم وحصل منه نوع توسع في الأموال وهو رضى الله عنه ما فعله إلا متأولا فيه له اجتهاد وافقه عليه جماعة من الفقهاء منهم من يقول إن ما أعطاه الله للنبي من الخمس والفيء هو لمن يتولى الأمر بعده كما هو قول أبي ثور وغيره ومنهم من يقول ذوو القربى المذكورون في القرآن هم ذوو قربى الإمام ومنهم من يقول الإمام العامل على الصدقات يأخذ منها مع الغنى وهذه كانت مآخذ عثمان رضي الله عنه كما هو منقول عنه فما فعله هو نوع تأويل يراه طائفة من العلماء وعلي رضي الله عنه لم يخص أحدا من أقاربه بعطاء لكن ابتدأ بالقتال لمن لم يكن مبتدئا بالقتال حتى قتل بينهم ألوف مؤلفة من المسلمين وإن كان ما فعله هو متأول فيه تأويلا وافقه عليه طائفة من العلماء وقالوا إن هؤلاء بغاة والله تعالى أمر بقتال البغاة بقوله فقاتلوا التي تبغي سورة الحجرات

8

232

لكن نازعة أكثر العلماء كما نازع عثمان أكثرهم وقالوا إن الله تعالى قال وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل الآية سورة الحجرات قالوا فلم يأمر الله بقتال البغاة ابتداء بل إذا وقع قتال بين طائفتين من المؤمنين فقدأمر الله بالإصلاح بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى قوتلت ولم يقع الأمر كذلك ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها ترك الناس العمل بهذه الآية رواه مالك بإسناده المعروف عنها ومذهب أكثر العلماء أن قتال البغاة لا يجوز إلا أن يبتدؤوا الإمام بالقتال كما فعلت الخوارج مع علي فإن قتاله الخوارج متفق عليه بين العلماء ثابت بالأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف قتال صفين فإن أولئك لم يبتدؤوا بقتال بل امتنعوا عن مبايعته

8

233

ولهذا كان أئمة السنة كمالك وأحمد وغيرهما يقولون إن قتاله للخوارج مأمور به وأما قتال الجمل وصفين فهو قتال فتنة فلو قام قوم نحن نقيم الصلاة ونؤتي الزكاة ولا ندفع زكاتنا إلى الإمام ونقوم بواجبات الإسلام لم يجز للإمام قتلهم عند أكثر العلماء كأبي حنيفة وأحمد وأبو بكر الصديق رضي الله عنه إنما قاتل مانعي الزكاة لأنهم امتنعوا عن أدائها مطلقا وإلا فلو قالوا نحن نؤديها بأيدينا ولا ندفعها إلى أبي بكر لم يجز قتالهم عند الأكثرين كأبي حنيفة وأحمد وغيرهما ولهذا كان علماء الأمصار على أن القتال كان قتال فتنة وكان من قعد عنه أفضل ممن قاتل فيه وهذا مذهب مالك وأحمد وأبي حنيفة والأوزاعي بل والثوري ومن لا يحصى عدده مع أن ابا حنيفة ونحوه من فقهاء الكوفيين فيما نقله القدوري وغيره عندهم لا يجوز قتال البغاة إلا إذا ابتدؤوا الإمام بالقتال وأما إذا أدوا الواجب من الزكاة وامتنعوا عن دفعها إليه لم يجز قتالهم وكذلك مذهب أحمد وغيره وهكذا جمهور الفقهاء على أن ذوي القربى هم قربى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه ليس للإمام ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم والمقصود أن كليهما رضي الله عنه وإن كان ما فعله فيه هو متأول

8

234

مجتهد يوافقه عليه طائفة من العلماء المجتهدين الذين يقولون بموجب العلم والدليل ليس لهما عمل يتهمون فيه لكن اجتهاد عثمان كان أقرب إلى المصلحة وأبعد عن المفسدة فإن الدماء خطرها أعظم من الأموال ولهذا كانت خلافة عثمان هادية مهدية ساكنة والأمة فيها متفقة وكانت ست سنين لا ينكر الناس عليه شيئا ثم أنكروا أشياء في الست الباقية وهي دون ما أنكروه على علي من حين تولى والذين خرجوا على عثمان طائفة من أوباش الناس وأما علي فكثير من السابقين الأولين لم يتبعوه ولم يبايعوه وكثير من الصحابة والتابعين قاتلوه وعثمان في خلافته فتحت الأمصار وقوتلت الكفار وعلي في خلافته لم يقتل كافر ولم تفتح مدينة فإن كان ما صدر عن الرأي فرأى عثمان أكمل وإن كان عن القصد فقصده أتم قالوا وإن كان علي تزوج بفاطمة رضي الله عنهما فعثمان قد زوجه النبي صلى الله عليه وسلم ابنتين من بناته وقال لو كان عندنا ثالثة لزوجناها عثمان وسمى ذو النورين بذلك إذ لم يعرف أحد جمع بين بنتي نبي غيره

8

235

وقد صاهر النبي صلى الله عليه وسلم من بني أمية من هو دون عثمان أبو العاص بن الربيع فزوجه زينب أكبر بناته وشكر مصاهرته محتجا به على علي لما أراد أن يتزوج بنت أبي جهل فإنه قال إن بني المغيرة استأذنوني في أن ينكحوا فتاتهم علي بن أبي طالب وإني لا آذان ثم لا آذان إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي ويتزوج ابنتهم والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل أبدا إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها ثم ذكر صهرا له من بني عبد شمس فأثنى عليه وقال حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي وهكذا مصاهرة عثمان له لم يزل فيها حميدا لم يقع منه ما يعتب عليه فيها حتى قال لو كان عندنا ثالثة لزوجناها عثمان وهذا يدل على أن مصاهرته للنبي صلى الله عليه وسلم أكمل من مصاهرة علي له وفاطمة كانت أصغر بناته وعاشت بعده وأصيبت به فصار لها من الفضل ما ليس لغيرها ومعلوم أن كبيرة البنات في العادة تزوج قبل الصغيرة فأبو العاص تزوج أولا زينب بمكة ثم عثمان تزوج برقية وأم كلثوم واحدة بعد واحدة

8

236

قالوا وشيعة عثمان المختصون به كانوا أفضل من شيعة علي المختصين به وأكثر خيرا وأقل شرا فإن شيعة عثمان أكثر ما نقم عليهم من البدع أنحرافهم عن علي وسبهم له على المنابر لما جرى بينهم وبينه من القتال ما جرى لكن مع ذلك لم يكفروه ولا كفروا من يحبه وأما شيعة علي ففيهم من يكفر الصحابة والأمة ويلعن أكابر الصحابة ما هو أعظم من ذاك بأضعاف مضاعفة وشيعة عثمان تقاتل الكفار والرافضة لا تقاتل الكفار وشيعة عثمان لم يكن فيها زنديق ولا مرتد وقد دخل في شيعة علي من الزنادقة والمرتدين مالا يحصى عدده إلا الله تعالى وشيعة عثمان لم توال الكفار والرافضة يوالون اليهود والنصارى والمشركين على قتال المسلمين كما عرف منهم وقائع وشيعة عثمان ليس فيهم من يدعي فيه الإلهية ولا النبوة وكثير من الداخلين في شيعة علي من يدعي نبوته أو إلهيتة وشيعة عثمان ليس فيهم من قال إن عثمان إمام معصوم ولا منصوص عليه والرافضة تزعم أن عليا منصوص عليه معصوم

8

237

وشيعة عثمان متفقة على تقديم أبي بكر وتفضيلهما على عثمان وشيعة علي المتأخرون أكثرهم يذمونهما ويسبونهما وإما الرافضة فمتفقة على بغضها وذمهما وكثير منهم يكفرونهما وأما الزيدية فكثير منهم أيضا يذمهما ويسبهما بل ويلعنهما وخيار الزيدية الذين يفضلونه عليهما ويذمون عثمان أو يقعون به وقد كان أيضا في شيعة عثمان من يؤخر الصلاة عن وقتها يؤخر الظهر أو العصر ولهذا لما تولى بنو العباس كانوا أحسن مراعاة للوقت من بني أمية لكن شيعة علي المختصون به الذين لا يقرون بإمامة أحد من الأئمة الثلاثة وغيرهم أعظم تعطيلا للصلاة بل ولغيرها من الشرائع وأنهم لا يصلون جمعة ولا جماعة فيعطلون المساجد ولهم في تقديم العصر والعشاء وتأخير المغرب ما هم أشد انحرافا فيه من أولئك وهم مع هذا يعظمون المشاهد مع تعطيل المساجد مضاهاة للمشركين وأهل الكتاب الذين كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا فأين هذا من هذا فالشر والفساد الذي في شيعة علي أضعاف أضعاف الشر والفساد الذي في شيعة عثمان والخير والصلاح الذي في شيعة عثمان اضعاف أضعاف الخير الذي في شيعة علي وبنو أمية كانوا شيعة

8

238

عثمان فكان الإسلام وشرائعه في زمنهم أظهر وأوسع مما كان بعدهم وفي الصحيحين عن جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يزال هذا الأمر عزيزا إلى اثنى عشر خليفة كلهم من قريش ولفظ البخاري اثنى عشر أميرا وفي لفظ لا يزال أمر الناس ماضيا ولهم أثنا عشر رجلا وفي لفظ لا يزال الإسلام عزيزا إلى أثنى عشر خليفة كلهم من قريش وهكذا كان فكان الخلفاء أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ثم تولى من اجتمع الناس عليه وصار له عز ومنعة معاوية وابنه يزيد ثم عبد الملك وأولاده الأربعة وبينهم عمر بن عبد العزيز وبعد ذلك حصل في دولة الإسلام من النقص ما هو باق إلى الآن فإن بني أمية تولوا على جميع أرض الإسلام وكانت الدولة في زمنهم عزيزة والخليفة يدعى باسمه عبد الملك وسليمان لا يعرفون عضد الدولة ولا عز الدين وبهاء الدين وفلان الدين وكان أحدهم هو الذي يصلي بالناس الصلوات الخمس وفي المسجد يعقد الرايات ويؤمر الأمراء وإنما يسكن داره لا يسكنون الحصون ولا يحتجبون عن الرعية

8

239

وكان من أسباب ذلك أنهم كانوا في صدر الإسلام في القرون المفضلة قرن الصحابة والتابعين وتابعيهم وأعظم ما نقمه الناس على بني أمية شيئان أحدهما تكلمهم في علي والثاني تأخير الصلاة عن وقتها ولهذا روى عمر بن مرة الجملي بعد موته فقيل له ما فعل الله بك قال غفر لي بمحافظتي على الصلوات في مواقيتها وحبي علي بن أبي طالب فهذا حافظ على هاتين السنتين حين ظهر خلافهما فغفر الله له بذلك وهكذا شأن من تمسك بالسنة إذا ظهرت بدعة مثل من تمسك بحب الخلفاء الثلاثة حيث يظهر خلاف ذلك وما أشبهه ثم كان من نعم الله سبحانه ورحمته بالإسلام أن الدولة لما انتقلت إلى بني هاشم صارت في بني العباس فإن الدولة الهاشمية أول ما ظهرت كانت الدعوة إلى الرضا من آل محمد وكانت شيعة الدولة محبين لبني هاشم وكان الذي تولى الخلافة من بني هاشم يعرف قدر الخلفاء الراشدين والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار فلم يظهر في دولتهم إلا تعظيم الخلفاء الراشدين وذكرهم على المنابر والثناء عليهم وتعظيم الصحابة وإلا فلو تولى والعياذ بالله رافضي يسب الخلفاء والسابقين الأولين لقلب الإسلام

8

240

ولكن دخل في غمار الدولة من كانوا لا يرضون باطنه ومن كان لا يمكنهم دفعه كما لم يمكن عليا قمع الأمراء الذين هم أكابر عسكره كالأشعث بن قيس والأشتر النخعي وهاشم المرقال وأمثالهم ودخل من أبناء المجوس ومن في قلبه غل على الإسلام من أهل البدع والزنادقة وتتبعهم المهدي بقتلهم حتى اندفع بذلك شر كبير وكان من خيار خلفاء بني العباس وكذلك الرشيد كان فيه من تعظيم العلم والجهاد والدين ما كانت به دولته من خيار دول بني العباس وكأنما كانت تمام سعادتهم فلم ينتظم بعدها الأمر لهم مع أن أحدا من العباسيين لم يستولوا على الأندلس ولا على أكثر المغرب وإنما غلب بعضهم على إفريقية مدة ثم أخذت منهم بخلاف أولئك فإنهم استولوا على جميع المملكة الإسلامية وقهروا جميع أعداء الدين وكانت جيوشهم جيشا بالأندلس يفتحه وجيشا ببلاد الترك يقاتل القان الكبير وجيشا ببلاد العبيد وجيشا بأرض الروم وكان الإسلام في زيادة وقوة عزيزا في جميع الأرض وهذا تصديق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال لا

8

241

يزال هذا الدين عزيزا ما تولى اثنا عشر خليفة كلهم من قريش وهؤلاء الاثنا عشر خليفة هم المذكورون في التوراة حيث قال في بشارته بإسماعيل وسيلد اثنى عشر عظيما ومن طن أن هؤلاء الاثنى عشر هم الذين تعتقد الرافضة إمامتهم فهو في غاية الجهل فإن هؤلاء ليس فيهم من كان له سيف إلا علي بن أبي طالب ومع هذا فلم يتمكن في خلافته من غزو الكفار ولا فتح مدينة ولا قتل كافرا بل كان المسلمون قد اشتغل بعضهم بقتال بعض حتى طمع فيهم الكفار بالشرق والشام من المشركين وأهل الكتاب حتى يقال إنهم أخذوا بعض بلادالمسلمين وإن بعض الكفار كان يحمل إليه كلام حتى يكف عن المسلمين فأي عز للإسلام في هذا والسيف يعمل في المسلمين وعدوهم قد طمع فيهم ونال منهم وأما سائر الأئمة غير علي فلم يكن لأحد منهم سيف لا سيما المنتظر بل هو عند من يقول بإمامته إما خائف عاجز وإما هارب مختف من أكثر من أربعمائة سنة وهو لم يهد ضالا ولا أمر بمعروف ولا نهى عن منكر ولا نصر مظلوما ولا أفتى أحدا في مسألة ولا حكم

8

242

في قضية ولا يعرف له وجود فأي فائدة حصلت من هذا لو كان موجودا فضلا عن أن يكون الإسلام به عزيزا ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الإسلام لا يزال عزيزا ولا يزال أمر هذه الأمة مستقيما حتى يتولى اثنا عشر خليفة فلو كان المراد بهم هؤلاء الاثنا عشر وآخرهم المنتظر وهو موجود الآن إلى أن يظهر عندهم كان الإسلام لم يزل عزيزا في الدولتين الأموية والعباسية وكان عزيزا وقد خرج الكفار بالمشرق والمغرب وفعلوا بالمسلمين ما يطول وصفه وكان الإسلام لا يزال عزيزا إلى اليوم وهذا خلاف ما دل عليه الحديث وأيضا فالإسلام عند الإمامية هو ما هم عليه وهم اذل فرق الأمة فليس في أهل الأهواء أذل من الرافضة ولا أكتم لقوله منهم ولا أكثر استعمالا للتقية منهم وهم على زعمهم شيعة الاثنى عشر وهم في غاية الذل فأي عز للإسلام بهؤلاء الاثنى عشر على زعمهم وكثير من اليهود إذا أسلم يتشيع لأنه رأى في التوراة ذكر الاثنى عشر فظن أن هؤلاء هم أولئك وليس الأمر كذلك بل الاثنا عشر هم الذين ولوا على الأمة من قريش ولاية عامة فكان الإسلام في زمنهم عزيزا وهذا معروف

8

243

وقد تأول ابن هيبرة الحديث على أن المراد أن قوانين المملكة باثنى عشر مثل الوزير والقاضي ونحو ذلك وهذا ليس بشيء بل الحديث على ظاهره لا يحتاج إلى تكلف وآخرون قالوا فيه مقالة ضعيفة كأبي الفرج بن الجوزي وغيره ومنهم من قال لا افهم معناه كأبي بكر بن العربي وأما مروان وابن الزبير فلم يكن لواحد منهما ولاية عامة بل كان زمنه زمن فتنة لم يحصل فيها من عز الإسلام وجهاد أعدائه ما يتناوله الحديث ولهذا جعل طائفة من الناس خلافة على من هذا الباب وقالوا لم تثبت بنص ولا إجماع وقد أنكر الإمام أحمد وغيره على هؤلاء وقالوا من لم يربع بعلي في الخلافة فهو أضل من حمار أهله واستدل على ثبوت خلافته بحديث سفينة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال تكون خلافة النبوة ثلاثين سنة ثم تكون ملكا فقيل للرواي إن بني أمية يقولون إن عليا لم يكن خليفة فقال كذبت أستاه بني الزرقاء والكلام على هذه المسألة لبسطه موضع آخر

8

244

والمقصود هنا أن الحديث الذي فيه ذكرالاثنى عشر خليفة سواء قدر أن عليا دخل فيه أو قدر انه لم يدخل فالمراد بهم من تقدم من الخلفاء من قريش وعلي أحق الناس بالخلافة في زمنه بلا ريب عند أحد من العلماء فصل إذ تبين هذا فما ذكره من فضائله التي هي عند الله فضائل فهي حق لكن للثلاثة ما هو أكمل منها وأما ما ذكره من الفضيلة بالقرابة فعنه أجوبة أحدها أن هذا ليس هو عند الله فضيلة فلا عبرة به فإن العباس أقرب منه نسبا وحمزة من السابقين الأولين من المهاجرين وقد روى أنه سيد الشهداء وهو أقرب نسبا منه وللنبي صلى الله عليه وسلم من بني العم عدد كثير كجعفر وعقيل وعبد الله وعبيد الله والفضل وغيرهم من بني العباس وكربيعة وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب

8

245

وليس هؤلاء أفضل من أهل بدر ولا من أهل بيعة الرضوان ولا من السابقين الأولين إلا من تقدم بسابقته كحمزة وجعفر فإن هذين رضي الله عنهما من السابقين الأولين وكذلك عبيدة بن الحارث الذي استشهد يوم بدر وحينئذ فما ذكره من فضائل فاطمة والحسن والحسين لا حجة فيه مع أن هؤلاء لهم من الفضائل الصحيحة ما لم يذكره هذا المصنف ولكن ذكر ما هو ذكب كالحديث الذي رواه أخطب خوارزم أنه لما تزوج علي بفاطمة زوجه الله إياها من فوق سبع سموات وكان الخاطب جريل وكان إسرافيل وميكائيل في سبعين ألف من الملائكة شهودا وهذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث وكذلك الحديث الذي ذكره عن حذيفة الثاني أن يقال إن كان إيمان الأقارب فضيلة فأبو بكر متقدم في هذا الفضيلة فإن أباه آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم باتفاق الناس وأبو طالب لم يؤمن وكذلك أمة آمنت بالنبي صلى الله عليه وسلم وأولاده وأولاد وأولاده وليس هذا لأحد من الصحابة غيره فليس في أقارب أبي بكر ذرية أبي قحافة لا من الرجال ولا من النساء إلا من قد آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وقد تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بنته وكانت أحب أزواجه إليه وهذا أمر لم يشركه فيه أحد من الصحابة إلا عمر ولكن لم تكن حفصة

8

246

ابنته بمنزله عائشة بل حفصة طلقها ثم راجعها وعائشة كان يقسم لها ليلتين لما وهبتها سودة ليلتها ومصاهرة أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم كانت على وجه لا يشاركه فيه أحد وأما مصاهرة علي فقد شركه فيها عثمان وزوجه النبي صلى الله عليه وسلم بنتا بعد بنت وقال لو كان عندنا ثالثة لزوجناها عثمان ولهذا سمى ذو النورين لأنه تزوج بنتي نبي وقد شركه في ذلك أبو العاص بن الربيع زوجه النبي صلى الله عليه وسلم أكبر بناته زينب وحمد مصاهرته وأراد أن يتشبه به علي في حكم المصاهرة لما أراد علي أن يتزوج بنت أبي جهل فذكر صهره هذا قال حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي وأسلمت زينب قبل إسلامه بمدة وتأيمت عليه حتى أعادها إليه النبي صلى الله عليه وسلم قيل أعادها بالنكاح الأول وقيل بل جدد لها نكاحا والصحيح أنه أعادها بالنكاح الأول هذا الذي ثبته أئمة الحديث كأحمد وغيره وقد تنازع الناس في مثل هذه المسألة إذا أسلمت الزوجة قبل زوجها على أقوال مذكورة في غير هذا الموضع

8

247

باب قال الرافضي الفصل الرابع في إمامة باقي الأئمة الاثنى عشر لنا في ذلك طرق أحدها النص وقد توارثته الشيعة في البلاد المتباعدة خلفا عن سلف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للحسين هذا إمام ابن إمام أخو إمام أبو أئمة تسعة تاسعهم قائمهم اسمه كاسمي وكنيته كنيتي يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما والجواب من وجوه أحدها أن يقال أولا هذا كذب على الشيعة فإن هذا لا ينقله إلا طائفة من طوائف الشيعة وسائر طوائف الشيعة تكذب هذا والزيدية بأسرها تكذب هذا وهم أعقل الشيعة وأعلمهم وخيارهم والإسماعيلية كلهم يكذبون بهذا وسائر فرق الشيعة تكذب بهذا إلا الاثنى عشرية وهم فرقة من نحو سبعين فرقة من طوائف الشيعة

8

248

وبالجملة فالشيعة فرق متعددة جدا وفرقهم الكبار أكثر من عشرين فرقة كلهم تكذب هذا إلا فرقة واحدة فأين تواتر الشيعة الثاني أن يقال هذا معارض بما نقله غير الاثنى عشرية من الشيعة من نص آخر يناقض هذا كالقائلين بإمامة غير الاثنى عشر وبما نقله الرواندية أيضا فإن كلا من هؤلاء يدعى من النص غير ما تدعيه الاثنا عشرية الثالث أن يقال علماء الشيعة المتقدمون ليس فيهم من نقل هذا النص ولا ذكره في كتاب ولا احتج به في خطاب وأخبارهم مشهورة متواترة فعلم أن هذا من اختلاف المتأخرين وإنما اختلق هذا لما مات الحسن بن علي العسكري وقيل إن ابنه محمدا غائب فحينئذ ظهر هذا النص بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بأكثر من مائتين وخمسين سنة الرابع أن يقال أهل السنة وعلماؤهم أضعاف أضعاف الشيعة كلهم يعلمون أن هذا كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم علما يقينا لا يخالطه الريب ويباهلون الشيعة على ذلك كعوام الشيعة مع علي فإن ادعى علماء الشيعة أنهم يعلمون تواتر هذا لم يكن هذا أقرب من دعوى علماء السنة بكذب هذا

8

249

الخامس أن يقال إن من شروط التواتر حصول من يقع به العلم من الطرفين والوسط وقبل موت الحسن بن علي العسكري لم يكن أحد يقول بإمامة هذا المنتظر ولا عرف من زمن علي ودولة بني أمية أحد أدعى إمامة الاثنى عشر وهذا القائم وإنما كان المدعون يدعون النص على علي أو على ناس بعده وأما دعوى النص على الاثنى عشر وهذا القائم فلا يعرف أحد قاله متقدما فضلا عن أن يكون نقله متقدما السادس أن الصحابة لم يكن فيهم أحد رافضي أصلا وإن ادعى مدع على عدد قليل منهم أنهم كانوا رافضة فقد كذب عليهم ومع هذا فأولئك لا يثبت بهم التواتر لأن العدد القليل المتفقين على مذهب يمكن عليهم التواطؤ على الكذب والرافضة تجوز الكذب على جمهور الصحابة فكيف لا يجوز على من نقل هذا النص مع قلتهم إن كان نقله أحد منهم وإذا لم يكن في الصحابة من تواتر به هذا النقل انقطع التواتر من أوله السابع أن الرافضة يقولون إن الصحابة ارتدوا عن الإسلام بجحد النص إلا عددا قليلا نحو العشرة أو أقل أو أكثر مثل عمار وسلمان وأبي ذر والمقداد ومعلوم أن أولئك الجمهور لم ينقلوا هذا النص فإنهم قد كتموه عندهم فلا يمكنهم أن يضيفوا نقله إلى هذه

8

250

الطائفة وهؤلاء كانوا عندهم مجتمعين على موالاة علي متواطئين على ذلك وحينئذ فالطائفة القليلة التي يمكن تواطؤها على النقل لا يحصل بنقلها تواتر لجواز اجتماعهم على الكذب فإذا كانت الرافضة تجوز على جماهير الصحابة مع كثرتهم الارتداد عن الإسلام وكتمان ما يتعذر في العادة التواطؤ على كتمانه فلأن يجوز على قليل منهم تعمد الكذب بطريق الأولى والأخرى والأحرى وهم يصرحون بكذب الصحابة إذا نقلوا ما يخالف هواهم فكيف يمكنهم مع ذلك تصديقهم في مثل هذا إذا كان الناقلون له ممن له هوى ومعلوم أن شيعة علي لهم في نصره فكيف يصدقون في نقل النص عليه هذا مع أن العقلاء وأهل العلم بالنقل يعلمون أنه ليس في فرق المسلمين أكثر تعمدا للكذب وتكذيبا للحق من الشيعة بخلاف غيرهم فإن الخوارج وإن كانوا مارقين فهم يصدقون لا يتعمدون الكذب وكذلك المعتزلة يتدينون بالصدق وأما الشيعة فالكذب عليهم غالب من حين ظهروا

8

251

الوجه الثامن أن يقال قد علم أهل العلم أن أول ما ظهرت الشيعة الإمامية المدعية للنص في أواخر أيام الخلفاء الراشدين وافترى ذلك عبدالله بن سبأ وطائفة الكذابون فلم يكونوا موجودين قبل ذلك فأي تواتر لهم التاسع أن الأحاديث التي نقلها الصحابة في فضائل أبي بكر وعمر وعثمان أعظم تواترا عند العامة والخاصة من نقل هذا النص فإن جاز أن يقدح في نقل جماهير الصحابة لتلك الفضائل فالقدح في هذا أولى وإن كان القدح في هذا متعذرا ففي تلك أولى وإذا ثبتت فضائل الصحابة التي دلت عليها تلك النصوص الكثيرة المتواترة امتنع اتفاقهم على مخالفة هذا النص فإن مخالفته لو كان حقا من أعظم الإثم والعدوان العاشر أنه ليس أحد من الإمامية ينقل هذا النص بإسناد متصل فضلا عن أن يكون متواترا وهذه الألفاظ تحتاج إلى تكرير فإن لم يدرس ناقلوها عليها لم يحفظوها وأين العدد الكبير الذين حفظوا هذه الألفاظ كحفظ ألفاظ القرآن وحفظ التشهد والأذان جيلا بعد جيل إلى الرسول ونحن إذا ادعينا التواتر في فضائل الصحابة ندعى تارة التواتر من جهة المعنى كتواتر خلافة الأربعة ووقعة الجمل وصفين

8

252

وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة وعلي بفاطمة ونحو ذلك مما لا يحتاج فيه إلى نقل لفظ معين يحتاج إلى درس وكتواتر ما للصحابة من السابقة والأعمال وغير ذلك وتارة التواتر في نقل ألفاظ حفظها من يحصل العلم بنقله الوجه الحادي عشر أن المنقول بالنقل المتواتر عن أهل البيت يكذب مثل هذا النقل وأنهم لم يكونوا يدعون أنهم منصوص عليهم بل يكذبون من يقول ذلك فضلا عن أن يثبتوا النص على اثنى عشر الوجه الثاني عشر أن الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في عدد الاثنى عشر مما أخرجاه في الصحيحين عن جابر بن سمرة قال دخلت مع أبي على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول لا يزال أمر الناس ماضيا ولهم اثنا عشر رجلا ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة خفيت عني فسألت أبي ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم قال قال كلهم من قريش وفي لفظ لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثنى عشر خليفة ثم قال كلمة لم أفهمها قلت لأبي ما قال قال كلهم من قريش وفي لفظ لا يزال هذا الأمر عزيزا إلى اثنى عشر خليفة

8

253

والذي في التوراة يصدق هذا وهذا النص لا يجوز أن يراد به هؤلاء الاثنا عشر لأنه قال لا يزال الإسلام عزيزا ولا يزال هذا الأمر عزيزا ولا يزال أمر الناس ماضيا وهذا يدل على أنه يكون أمر الإسلام قائما في زمان ولايتهم ولا يكون قائما إذا انقطعت ولايتهم وعند هؤلاء الاثنى عشرية لم يقم أمر الأمة في مدة أحد من هؤلاء الاثنى عشر بل مازال أمر فاسدا منتقضا يتولى عليهم الظالمون المعتدون بل المنافقون الكافرون وأهل الحق أذل من اليهود وأيضا فإن عندهم ولاية المنتظر دائمة إلى آخر الدهر وحينئذ فلا يبقى زمان يخلو عندهم من الاثنى عشر وإذا كان كذلك لم يبق الزمان نوعين نوع يقوم فيه أمر الأمة ونوع لا يقوم بل هو قائم في الأزمان كلها وهو خلاف الحديث الصحيح وأيضا فالأمر الذي لا يقوم بعد ذلك إلا إذا قام المهدي إما المهدي الذي يقر به أهل السنة وإما مهدي الرافضة ومدته قليلة لا ينتظم فيها أمر الأمة وأيضا فإنه قال في الحديث كلهم من قريش ولو كانوا مختصين بعلى وأولاده لذكر ما يميزون به ألا ترى أنه لم يقل كلهم من ولد

8

254

إسماعيل ولا من العرب وإن كانوا كذلك لأنه قصد القبيلة التي يمتازون بها فلو امتازوا بكونهم من بني هاشم أو من قبيل علي مع علي لذكروا بذلك فلما جعلهم من قريش مطلقا علم أنهم من قريش بل لا يختصون بقبيلة بل بنو تيم وينو عدي وينو عبد شمس وبنو هاشم فإن الخلفاء الراشدين كانوا من هذه القبائل فصل وأما الحديث الذي رواه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم يخرج في آخر الزمان رجل من ولدي اسمه كاسمي وكنيته كنيتي يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا وذلك هو المهدي فالجواب أن الأحاديث التي يحتج بها على خروج المهدي أحاديث صحيحة رواها أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم من حديث ابن مسعود وغيره

8

255

كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ابن مسعود لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج فيه رجل منى أو من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما ورواه الترمذي وأبو داود من رواية أم سلمة وأيضا فيه المهدي من عترتي من ولد فاطمة ورواه أبو داود من طريق أبي سعيد وفيه يملك الأرض سبع سنين ورواه عن علي رضي الله عنه أنه نظر إلى الحسن وقال إن ابني هذا سيد كما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم يشبهه في الخلق ولا يشبهه في الخلق يملأ الأرض قسطا

8

256

وهذه الأحاديث غلط فيها طوائف طائفة أنكروها واحتجوا بحديث ابن ماجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا مهدي إلا عيسى بن مريم وهذا الحديث ضعيف وقد اعتمد أبو محمد بن الوليد البغدادي وغيره عليه وليس مما يعتمد عليه ورواه ابن ماجه عن يونس عن الشافعي والشافعي رواه عن رجل من أهل اليمن يقال له محمد ابن خالد الجندي وهو ممن لا يحتج به ولس هذا في مسند الشافعي وقد قيل إن الشافعي لم يسمعه وأن يونس لم يسمعه من الشافعي الثاني أن الاثنى عشرية الذين أدعوا أن هذا هو مذهبهم مهديهم اسمه محمد بن الحسن والمهدي المنعوت الذي وصفه النبي صلى

8

257

الله عليه وسلم اسمه محمد بن عبد الله ولهذا حذفت طائفة ذكر الأب من لفظ الرسول حتى لا يناقض ما كذبت وطائفة حرفته فقالت جده الحسين وكنيته أبو عبد الله فمعناه محمد بن أبي عبد الله وجعلت الكنية اسما وممن سلك هذا ابن طلحة في كتابه الذي سماه غاية السول في مناقب الرسول ومن أدنى نظر يعرف أن هذا تحريف صريح وكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل يفهم أحد من قوله يواطىء اسمه اسمي واسم ابيه اسم أبي إلا أن اسم أبيه عبد الله وهل يدل هذا اللفظ على أن جده كنيته أبو عبد الله ثم أي تمييز يحصل له بهذا فكم من ولد الحسين من اسمه محمد وكل هؤلاء يقال في أجدادهم محمد بن أبي عبد الله كما قيل في هذا وكيف يعدل من يريد البيان إلى من اسمه محمد بن الحسن فيقول اسمه محمد بن عبدالله ويعنى بذلك أن جده أبو عبد الله وهذا كان تعريفه بأنه محمد بن الحسن أو ابن أبي الحسن لأن

8

258

جده على كنيته أبو الحسن أحسن من هذا وأبين لمن يريد الهدى والبيان وأيضا فإن المهدي المنعوت من ولد الحسن بن علي لا من ولد الحسين كما تقدم لفظ حديث علي الثالث أن طوائف ادعى كل منهم أن المهدي المبشر به مثل مهدي القرامطة الباطنية الذي أقام دعوتهم بالمغرب وهو من ولد ميمون القداح وأدعوا أن ميمونا هذا هو من ولد محمد بن إسماعيل وإلى ذلك انتسب الإسماعيلية وهم ملاحدة في الباطن خارجون عن جميع الملل أكفر من الغالية كالنصيرية ومذهبهم مركب من مذهب المجوس والصابئة والفلاسفة مع إظهار التشيع وجدهم رجل يهودي كان ربيبا لرجل مجوسي وقد كانت لهم دولة وأتباع وقد صنف العلماء كتبا في كشف أسرارهم وهناك أستارهم مثل كتاب القاضي أبي بكر الباقلاني والقاضي عبد الجبار الهمداني وكتاب الغزالي ونحوهم وممن ادعى أنه المهدي ابن التومرت الذي خرج أيضا بالمغرب وسمى أصحابه الموحدين وكان يقال له في خطبهم الإمام المعصوم والمهدي المعصوم الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا

8

259

وظلما وهذا ادعى أنه من ولد الحسن دون الحسين فإنه لم يكن رافضيا وكان له من الخبرة بالحديث ما ادعى به دعوى تطابق الحديث وقد علم بالاضطرار أنه ليس هو الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم ومثل عدة آخرين ادعوا ذلك منهم من قتل ومنهم من ادعى ذلك فيه أصحابه وهؤلاء كثيرون لا يحصى عددهم إلا الله وربما حصل بأحدهم نفع لقوم وإن حصل به ضرر لآخرين كما حصل بمهدي المغرب انتفع به طوائف وتضرر به طوائف وكان فيه ما يحمد وإن كان فيه ما يذم وبكل حال فهو وأمثاله خير من مهدي الرافضة الذي ليس له عين ولا أثر ولا يعرف له حس ولا خبر لم ينتفع به أحد لا في الدنيا ولا في الدين بل حصل باعتقاد وجوده من الشر والفساد مالا يحصيه إلا رب العباد وأعرف في زماننا غير واحد من المشايخ الذين فيهم زهد وعبادة يظن كل منهم أنه المهدي وربما يخاطب أحدهم بذلك مرات متعددة ويكون المخاطب له بذلك الشيطان وهو يظن أنه خطاب من قبل الله ويكون أحدهم اسمه أحمد بن إبراهيم فيقال له محمد وأحمد سواء

8

260

وإبراهيم الخليل هو جد رسول الله النبي صلى الله عليه وسلم وأبوك إبراهيم فقد واطأ اسمك اسمه واسم ابيك اسم أبيه ومع هذا فهؤلاء مع ما وقع لهم من الجهل والغلط كانوا خيرا من منتظر الرافضة ويحصل بهم من النفع مالا يحصل بمنتظر الرافضة ولم يحصل بهم من الضرر ما حصل بمنتظر الرافضة بل ما حصل بمنتظر الرافضة من الضرر أكثر منه فصل قال الرافضي الثاني أنا قد بينا أنه يجب في كل زمان إمام معصوم ولا معصوم غير هؤلاء إجماعا والجواب من وجوه أحدها منع المقدمة الأولى كما تقدم والثاني منع طوائف لهم المقدمة الثانية

8

261

الثالث أن هذا المعصوم الذي يدعونه في وقت ما له مذ ولد عندهم أكثر من أربعمائة وخمسين سنة فإنه دخل السرداب عندهم سنة ستين ومائتين وله خمس سنين عند بعضهم وأقل من ذلك عند آخرين ولم يظهر عنه شيء مما يفعله أقل الناس تأثيرا مما يفعله آحاد الولاة والقضاة والعلماء فضلا عما يفعله الإمام المعصوم فأي منفعة للوجود في مثل هذا لو كان موجودا فكيف إذا كان معدوما والذين آمنوا بهذا المعصوم أي لطف وأي منفعة حصلت لهم به نفسه في دينهم أو دنياهم وهل هذا إلا أفسد مما يدعيه كثير من العامة في القطب والغوث ونحو ذلك من أسماء يعظمون مسماها ويدعون في مسماها ما هو أعظم من رتبة النبوة من غير تعيين لشخص معين يمكن أن ينتفع به الانتفاع المذكور في مسمى هذه الأسماء

8

262

وكما يدعى كثير منهم حياة الخضر مع أنهم لم يستفيدوا بهذا الدعوى منفعة لا في دينهم ولا في دنياهم وإنما غاية من يدعى ذلك أن يدعى جريان بعض ما يقدره الله على يدى مثل هؤلاء وهذا مع أنه لا حاجة لهم به فلا حاجة بهم إلى معرفته ولم ينتفعوا بذلك لو كان حقا فكيف إذا كان ما يدعونه باطلا ومن هؤلاء من يتمثل له الجنى في صورة ويقول أنا الخضر ويكون كاذبا وكذلك الذين يذكرون رجال الغيب ورؤيتهم إنما رأوا الجن وهم رجال غائبون وقد يظنون أنهم إنس وهذا قد بيناه في مواضع تطول حكايتها مما تواتر عندنا وهذا الذي تدعيه الرافضة إنما مفقود عندهم وإما معدوم عند العقلاء وعلى التقديرين فلا منفعة لأحد به لا في دين ولا في دنيا فمن علق به دينه بالمجهولات التي لا يعلم ثبوتها كان ضالا في دينه لأن ما علق به دينه لم يعلم صحته ولم يحصل له به منفعة فهل يفعل مثل هذا إلا جاهل لكن الذين يعتقدون حياة الخضر لا يقولون إنه يجب على الناس طاعته مع أن الخضر كان حيا موجودا

8

263

فصل قال الرافضي الثالث الفضائل التي اشتمل كل واحد منهم عليها الموجبة لكونه إماما والجواب من وجوه أحدها أن تلك الفضائل غايتها أن يكون صاحبها أهلا أن تعقد له الإمامة لكنه لا يصير إماما بمجرد كونه أهلا كما أنه لا يصير الرجل قاضيا بمجرد كونه أهلا لذلك الثاني أن أهلية الإمامة ثابتة لأخرين من قريش كثبوتها لهؤلاء وهم أهل أن يتولوا الإمامة فلا موجب للتخصيص ولم يصيروا بذلك أئمة الثالث أن الثاني عشر منهم معدوم عند جمهور العقلاء فامتنع أن يكون إماما الرابع أن العسكريين ونحوهما من طبقة أمثالهما لم يعلم لها تبريز في عالم أو دين كما عرف لعلي بن الحسين وأبي جعفر وجعفر بن محمد

8

264

باب قال الرافضي والفصل الخامس أن من تقدمه لم يكن إماما ويدل عليه وجوه قلت والجواب أنه إن أريد بذلك أنهم لم يتولوا على المسلمين ولم يبايعهم المسلمون ولم يكن لهم سلطان يقيمون به الحدود ويوفون به الحقوق ويجاهدون به العدو ويصلون بالمسلمين الجمع والأعياد وغير ذلك مما هو داخل في معنى الإمامة فهذا بهت ومكابرة فإن هذا أمر معلوم بالتواتر والرافضة وغيرهم يعلمون ذلك ولو لم يتولوا الإمامة لم تقدح فيهم الرافضة لكن هم يطلقون ثبوت الإمامة وانتفاءها ولا يفصلون هل المراد ثبوت نفس الإمامة ومباشرتها أو نفس استحقاق ولاية الإمامة ويطلقون لفظ الإمام على الثاني ويوهمون أنه يتناول النوعين

8

265

وإن أريد بذلك أنهم لم يكونوا يصلحون للإمامة وأن عليا كان يصلح لها دونهم أو أنه كان أصلح لها منهم فهذا كذب وهو مورد النزاع ونحن نجيب في ذلك جوابا عاما كليا ثم نجيب بالتفصيل أما الجواب العام الكلي فنقول نحن عالمون بكونهم أئمة صالحين للإمامة علما يقينا قطعيا وهذا لا يتنازع فيه اثنان من طوائف المسلمين غير الرافضة بل أئمة الأمة وجمهورها يقولون إنا نعلم أنهم كانوا أحق بالإمامة بل يقولون إنا نعلم أنهم كانوا أفضل الأمة وهذا الذي نعلمه ونقطع به ونجزم به لا يمكن أن يعارض بدليل قطعي ولا ظني أما القطعي فلأن القطعيات لا يتناقض موجبها ومقتضاها وأما الظنيات فلأن الظني لا يعارض القطعي وجملة ذلك أن كل ما يورده القادح فلا يخلو عن أمرين إما نقل لا نعلم صحته أو لا نعلم دلالته على بطلان إمامتهم وأي المقدمتين لم يكن معلوما لم يصلح لمعارضته ما علم قطعا وإذا قام الدليل القطعي على ثبوت إمامتهم لم يكن علينا أن نجيب عن الشبه المفضلة كما أن ما علمناه قطعا لم يكن علينا أن نجيب عما يعارضه من الشبه السوفسطائية وليس لأحد أن يدفع ما علم أيضا يقينا بالظن سواء كان ناظرا أو مناظرا بل أن تبين له وجه فساد الشبهة وبينه لغيره كان ذلك زيادة علم ومعرفة

8

266

وتأييد للحق في النظر والمناظرة وإن لم يتبين ذلك لم يكن له أن يدفع اليقين بالشك وسنبين إن شاء الله تعالى الأدلة الكثيرة على استحقاقهم للإمامة وأنهم كانوا أحق بها من غيرهم فصل قال الرافضي الأول قول أبي بكر إن لي شيطانا يعتريني فإن استقمت فأعينوني وإن زغت فقوموني ومن شأن الإمام تكميل الرعية فكيف يطلب منهم الكمال والجواب من وجوه أحدها أن المأثور عنه أنه قال وإن لي شيطانا يعتريني يعني عند الغضب فإذا اعتراني فاجتنبوني لا أؤثر في أبشاركم وقال أطيعوني ما أطعت الله فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم وهذا الذي قاله أبو بكر رضي الله عنه من أعظم ما يمدح به كما سنبينه إن شاء الله تعالى

8

267

الثاني أن الشيطان الذي يعتريه قد فسر بأنه يعرض لابن آدم عند الغضب فخاف عند الغضب أن يعتدى على أحد من الرعية فأمرهم بمجانبته عند الغضب كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان فنهى عن الحكم عند الغضب وهذا هو الذي أراده أبو بكر أراد أن لا يحكم وقت الغضب وأمرهم أن لا يطلبوا منه حكما أو يحملوه على حكم في هذا الحال وهذا من طاعته لله ورسوله الثالث أن يقال الغضب يعتري بني آدم كلهم حتى قال سيد ولد آدم اللهم إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر وإني اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه أيما مؤمن آذيته أو سببته أو جلدته فاجعلها له كفارة

8

268

وقربة تقربه إليك يوم القيامة أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة وأخرجه مسلم عن عائشة قال دخل رجلان على النبي صلى الله عليه وسلم فأغضباه فسبهما ولعنهما فلما خرجا قلت يا رسول الله من أصاب من الخير ما أصاب هذان الرجلان قال وما ذاك قلت لعنتهما وسببتهما قال أو ما علمت ما شارطت عليه ربي قلت إنما أنا بشر فأي المسلمين سببته أو لعنته فاجعله له زكاة وأجرا وفي رواية أنس إني اشترطت على ربي فقلت إنما انا بشر أرضى كما يرضى البشر وأعضب كما يغضب البشر فأيما أحد دعوت عليه من

8

269

أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن يجعلها له طهورا وزكاة وقربة وأيضا فموسى رسول كريم وقد أخبر الله عن غضبه بما ذكره في كتابه فإذا كان مثل هذا لا يقدح في الرسالة فكيف يقدح في الإمامة مع أن النبي صلى الله عليه وسلم شبه أبا بكر بإبراهيم وعيسى في لينه وحلمه وشبه عمر بنوح وموسى في شدته في الله فإذا كانت هذه الشدة لا تنافي الإمامة فكيف تنافيها شدة أبي بكر الرابع أن يقال أبو بكر رضي الله عنه قصد بذلك الاحتراز أن يؤذى أحدا منهم فأنما أكمل هذا أو غيره ممن غضب علي من عصاه وقاتلهم وقاتلوه بالسيف وسفك دماءهم فإن قيل كانوا يستحقون القتال بمعصية الإمام وإغضابه قيل ومن عصى أبا بكر وأغضبه كان أحق بذلك لكن أبو بكر ترك ما يستحقه إن كان علي يستحق ذلك وإلا فيمتنع أن يقال من عصى

8

270

عليا وأغضبه جاز أنه يقاتله ومن عصى أبا بكر لم يجز له تأديبه فدل على أن ما فعله أبو بكر أكمل من الذي فعله علي وفي المسند وغيره عن أبي برزة أن رجلا أغضب أبا بكر قال فقلت له أتأذن لي أن أضرب عنقه يا خليفة رسول الله فال فأذهبت كلمتي غضبه ثم قال ما كانت لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يستحل أن يقتل مسلما بمجرد مخالفة أمره والعلماء في حديث أبي برزة على قولين منهم من يقول مراده أنه لم يكن لأحد أن يقتل أحدا سبه إلا الرسول صلى الله عليه وسلم ومنهم من يقول ما كان لأحد أن يحكم بعلمه في الدماء إلا الرسول وقد تخلف عن بيعته سعد بن عبادة فما آذاه بكلمة فضلا عن فعل وقد قيل إن عليا وغيره امتنعوا عن بيعته ستة أشهر فما أزعجهم ولا ألزمهم بيعته فهل هذا كله إلا من كمال ورعه عن أذى الأمة وكمال عدله وتقواه وهكذا قوله فإن اعتراني فاجتنبوني الخامس أن في الصحيح عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه

8

271

وسلم أنه قال ما منكم من أحد إلا وكل به قرينه من الجن قالوا وإياك يا رسول الله قال وإياي ولكن ربي أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير وفي الصحيح عن عائشة قالت يا رسول الله أو معي شيطان قال نعم قالت ومع كل إنسان قال نعم ومعك يا رسول الله قال نعم ولكن ربي أعانني عليه حتى أسلم والمراد في أصح القولين استسلم وانقاد لي ومن قال حتى أسلم أنا فقد حرف معناه ومن قال الشيطان صار مؤمنا فقد حرف لفظه وقد قال موسى لما قتل القبطي هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين سورة القصص وقال فتى موسى وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره سورة الكهف وذكر الله في قصة آدم وحواء فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه سورة البقرة وقوله

8

272

فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما وورى عنهما من سوءآتهما سورة الأعراف فإذا كان عرض الشيطان لا يقدح في نبوة الأنبياء عليهم السلام فكيف يقدح في إمامة الخلفاء وإن ادعى مدح أن هذه النصوص مؤولة قيل له فيجوز لغيرك أن يتأول قول الصديق لما ثبت بالدلائل الكثيرة من إيمانه وعلمه وتقواه وورعه فإذا ورد لفظ مجمل يعارض ما علم وجب تأويله وأما قوله فإن استقمت فأعينوني وإن زغت فقوموني فهذا من كمال عدله وتقواه وواجب على كل إمام أن يقتدي به في ذلك وواجب على الرعية أن تعامل الأئمة بذلك فإن استقام الإمام أعانوه على طاعة الله تعالى وإن زاغ وأخطأ بينوا له الصواب ودلوه عليه وإن تعمد ظلما منعوه منه بحسب الإمكان فإذا كان منقادا للحق كأبي بكر فلا عذر لهم في ترك ذلك وإن كان لا يمكن دفع الظلم إلا بما هو أعظم فسادا منه لم يدفعوا الشر القليل بالشر الكثير

8

273

وأما قول الرافضي ومن شأن الإمام تكميل الرعية فكيف يطلب منهم التكميل عند أجوبة أحدها أنا لا نسلم أن الإمام يكملهم وهم لا يكملونه أيضا بل الإمام والرعية يتعاونون على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان بمنزلة أمير الجيش والقافلة والصلاة والحج والدين قد عرف بالرسول فلم يبق عند الإمام دين ينفرد به ولكن لا بد من الاجتهاد في الجزئيات فإن كان الحق فيها بينا أمر به وإن كان متبينا للإمام دونهم بينه لهم وكان عليهم أن يطيعوه وإن كان مشتبها عليهم اشتوروا فيه حتى يتبين لهم وإن تبين لأحد من الرعية دون الإمام بينه له وإن اختلف الاجتهاد فالإمام هو المتبع في اجتهاده إذ لا بد من الترجيح والعكس ممتنع وهذا كما تقوله الرافضة الإمامية في نواب المعصوم فإنه وإن تبين لهم الكليات فلا بد في تبيين الجزئيات من الاجتهاد وحينئذ فكل إمام هو نائب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ريب في عصمته ونوابه أحق بالاتباع من نواب غيره والمراد بكونهم نوابه أن عليهم أن يقوموا بما قام به ليس المراد استخلافهم فإن طاعة الرسول واجبة على كل متول سواء ولاه الرسول أو غيره وطاعته بعد موته كطاعته في

8

274

حياته ولو ولى هو رجلا لوجب عليه وعلى غيره ما يجب على غيره من الولاة الوجه الثاني أن كلا من المخلوقين قد استكمل بالآخر كالمتناظرين في العلم والمتشاورين في الرأي والمتعاونين المتشاركين في مصلحة دينهما ودنياهما وإنما يمتنع هذا في الخالق سبحانه لأنه لا بد أن يكون للممكنات المحدثات فاعل مستغن بنفسه غير محتاج إلى أحد لئلا يفضي إلى الدور في المؤثرات والتسلسل فيها وأما المخلوقات فكلاهما يستفيد حوله وقوته من الله تعالى لا من نفسه ولا من الآخر فلا دور في ذلك الوجه الثالث أنه ما زال المتعلمون ينبهون معلمهم على أشياء ويستفيدها المعلم منهم مع أن عامة ما عند المتعلم من الأصول تلقاها من معلمه وكذلك في الصناع وغيرهم الوجه الرابع أن موسى صلى الله عليه وسلم قد استفاد من الخضر ثلاث مسائل وهو أفضل منه وقد قال الهدهد لسليمان أحطت بما لم تحط به سورة النمل وليس الهدهد قريبا من سليمان ونبينا صلى الله عليه وسلم كان يشاور أصحابه وكان أحيانا يرجع إليهم في الرأي كما قال له الحباب يوم بدر يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أهو منزل أنزلكه الله تعالى فليس لنا أن نتعداه أم هو الحرب

8

275

والرأي والمكيدة فقال بل هو الحرب والرأي والمكيدة فقال ليس هذا بمنزل قتال قال فرجع إلى رأي الحباب وكذلك يوم الخندق كان قد رأى أن يصالح غطفان على نصف تمر المدينة وينصرف عن القتال فجاءه سعد فقال يا رسول الله إن كان الله أمرك بهذا فسمعا وطاعة أو كما قال وإن كنت أنت إنما فعلت هذا لصلحتنا فلقد كانوا في الجاهلية وما ينالون منها تمرة إلا بشراء أو قراء فلما أعزنا الله بالإسلام نعطيهم تمرنا ما نعطيهم إلا السيف أو كما قال فقبل منه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وعمر أشار عليه لما أذن لهم في غزوة تبوك في نحر الركاب أن يجمع أزوادهم ويدعو فيها بالبركة فقبل منه وأشار عليه بأن يرد أبا هريرة لما أرسله بنعليه يبشر من لقيه وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله بالجنة لما خاف أن يتكلوا فقبل منه

8

276

وأبو بكر لم يكن يرجع إليهم فيما ليس فيه نص من الله ورسوله بل كان إذا تبين له ذلك لم يبال بمن خالفه ألا ترى أنه لما نازعه عمر في قتال أهل الردة لأجل الخوف على المسلمين ونازعوه في قتال مانعي الزكاة ونازعوه في إرسال جيش أسامة لم يرجع إليهم بل بين لهم دلالة النص على ما فعله وأما في الأمور الجزئية التي لا يجب أن تكون منصوصة بل يقصد بها المصلحة فهذه ليس هو فيها بأعظم من الأنبياء الخامس أن هذا الكلام من أبي بكر ما زاده عند الأمة إلا شرفا وتعظيما ولم تعظم الأمة أحدا بعد نبيها كما عظمت الصديق ولا أطاعت أحدا كما أطاعته من غير رغبة أعطاهم إياها ولا رهبة أخافهم بها بل الذين بايعوا الرسول تحت الشجرة بايعوه طوعا مقرين بفضيلته واستحقاقه ثم مع هذا لم نعلم أنهم اختلفوا في عهده في مسألة واحدة في دينهم إلا وأزال الاختلاف ببيانه لهم ومراجعتهم له وهذا أمر لا يشركه فيه غيره وكان عمر أقرب إليه في ذلك ثم عثمان وأما علي فقاتلهم وقاتلوه فلا قومهم ولا قوموه فأي الإمامين حصل به مقصود الإمامة أكثر وأي الإمامين أقام الدين ورد المرتدين

8

277

وقاتل الكافرين واتفقت عليه الكلمة كلمة المؤمنين هل يشبه هذا بهذا إلا من هو في غاية النقص من العقل والدين فصل قال الرافضي الثاني قول عمر كانت بيعة أبي بكر فلتة وقي الله المسلمين شرها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه وكونها فلته يدل على أنها لم تقع عن رأي صحيح ثم سأل وقاية شرها ثم أمر بقتل من يعود إلى مثلها وكان ذلك يوجب الطعن فيه والجواب أن لفظ عمر ما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس من خطبة عمر التي قال فيها ثم إنه قد بلغني أن قائلا منكم يقول والله لو مات عمر بايعت فلانا فلا يغترن أمرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلته ألا وإنها قد كانت كذلك ولكن قد وقى الله شرها وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر من بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا وإنه كان من خيرنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث وفيه أن الصديق قال وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما

8

278

شئتم فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة وهو جالس بيننا فلم أكره مما قال غيرها كان والله أن أقدم فيضرب عنقي لا يقربني ذلك من إثم أحب إلى من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر اللهم إلا أن تسول لي نفسي شيئا عند الموت لا أجده الآن وقد تقدم الحديث بكماله ومعنى ذلك أنها وقعت فجأة لم تكن قد استعددنا لها ولا تهيأنا لأن أبا بكر كان متعينا لذلك فلم يكن يحتاج في ذلك إلى أن يجتمع لها الناس إذ كلهم يعلمون أنه أحق بها وليس بعد أبي بكر من يجتمع الناس على تفضيله واستحقاقه كما اجتمعوا على ذلك في أبي بكر فمن أراد أن ينفرد ببيعة رجل دون ملأ من المسلمين فاقتلوه وهو لم يسأل وقاية شرها بل أخبر أن الله وقى شر الفتنة بالاجتماع فصل قال الرافضي الثالث قصورهم في العلم والتجاؤهم في أكثر الأحوال إلى علي

8

279

والجواب أن هذا من أعظم البهتان أما أبو بكر فما عرف أنه استفاد من علي شيئا أصلا وعلي قد روى عنه واحتذى حذوه واقتدى بسيرته وأما عمر فقد استفاد علي منه أكثر مما استفاد عمر منه وأما عثمان فقد كان أقل علما من أبي بكر وعمر ومع هذا فما كان يحتاج إلى علي حتى أن بعض الناس شكا إلى علي بعض سعاة عمال عثمان فأرسل إليه بكتاب الصدقة فقال عثمان لا حاجة لنا به وصدق عثمان وهذه فرائض الصدقة ونصبها التي لا تعلم إلا بالتوقيف فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم وهي من أربع طرق أصحها عند علماء المسلمين كتاب أبي بكر الذي كتبه لأنس بن مالك وهذا هو الذي رواه البخاري وعمل به أكثر الأئمة وبعده كتاب عمر وأما الكتاب المنقول عن علي ففيه أشياء لم يأخذ بها أحد من

8

280

العلماء من قوله في خمس وعشرين خمس شاة فإن هذا خلاف النصوص المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا كان ما روى عن علي إما منسوخ وإما خطأ في النقل والرابع كتاب عمرو بن حزم كان قد كتبه لما بعثه إلى نجران وكتاب أبي بكر هو آخر الكتب فكيف يقول عاقل إنهم كانوا يلجأون إليه في أكثر الأحكام وقضاته لم يكونوا يلتجئون إليه بل كان شريح القاضي وعبيدة السلماني ونحوهما من القضاة الذين كانوا في زمن علي يقضون بما تعلموه من غير علي وكان شريح قد تعلم من معاذ بن جبل وغيره من الصحابة وعبيدة تعلم من عمر وغيره وكانوا لا يشاورونه في عامة ما يقضون به استغناء بما عندهم من العلم فكيف يقال إن عمر وعثمان كانا يلتجئان إليه في أكثر الأحكام وقد قال علي كان رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يبعن والآن قد رأيت أن يبعن فقال له عبيدة السلماني رأيك مع عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة

8

281

فهذا قاضيه لا يرجع إلى رأيه في هذه المسألة مع أن أكثر الناس إنما منع بيعها تقليدا لعمر ليس فيها نص صريح صحيح فإذا كانوا لا يلتجئون إليه في هذه المسألة فكيف يلتجئون إليه في غيرها وفيها من النصوص ما يشفى ويكفى وإنما كان يقضى ولا يشاور عيا وربما قضى بقضية أنكرها علي لمخالفتها قول جمهور الصحابة كابني عم وأخوين أحدهما أخ لأم قضى له بالمال فأنكر ذلك علي وقال بل يعطى السدس ويشتركان في الباقي وهذا قول سائر الصحابة زيد وغيره فلم يكن الناس مقلدين في ذلك أحدا وقول علي في الجد لم يقل به أحد من العلماء إلا ابن أبي ليلى وأما قول ابن مسعود فقال به أصحابه وهم أهل الكوفة وقول زيد قال به خلق كثير وأما قول الصديق فقال به جمهور الصحابة وقد جمع الشافعي ومحمد بن نصر المروزي كتابا كثيرا فيما لم يأخذ به المسلمون من قول علي لكون قول غيره من الصحابة أتبع للكتاب والسنة وكان المرجوح من قوله أكثر من المرجوح من قول أبي بكر وعمر وعثمان والراجح من أقاويلهم أكثر فكيف أنهم كانوا يلتجئون إلي ه في أكثر الأحكام

8

282

فصل قال الرافضي الرابع الوقائع الصادرة عنهم وقد تقدم اكثرها قلنا الجواب قد تقدم عنها مجملا ومفصلا وبيان الجواب عما ينكر عليهم أيسر من الجواب عما ينكر على علي وأنه لا يمكن أحد له علم وعدل أن يجرحهم ويزكى عليا بل متى زكى عليا كانوا أولى بالتزكية وإن جرحهم كان قد طرق الجرح إلى علي بطريق الأولى والرافضة إن طردت قولها لزمها جرح على أعظم من جرح الثلاثة وإن لم تطرده تبين فساده وتناقضه وهو الصواب كما يلزم مثل ذلك اليهود والنصارى إذا قدحوا في نبوة محمد دون نبوة موسى وعيسى فما يورد الكتابي على نبوة محمد سؤالا إلا ويرد على على نبوة موسى وعيسى أعظم منه وما يورد الرافضي على الثلاثة إلا ويرد على إمامة علي ما هو أعظم منه وما يورده الفيلسوف على أهل الملل يرد عليه ما هو أعظم منه وهكذا كل من كان أبعد عن الحق من غيره يرد عليه أعظم مما يرد على الأقرب إلى الحق

8

283

ومن الطرق الحسنة في مناظرة هذا أن يورد عليه من جنس ما يورده على أهل الحق وما هو أغلظ منه فإن المعارضة نافعة وحينئذ فإن فهم الجواب الصحيح علم الجواب عما يورد على الحق وإن وقع في الحيرة والعجز عن الجواب اندفع شره بذلك وقيل له جوابك عن هذا هو جوابنا عن هذا فصل قال الرافضي الخامس قوله تعالى لا ينال عهدي الظالمين سورة البقرة أخبر بأن عهد الإمامة لا يصل إلى الظالم والكافر ظالم لقوله والكافرون هم الظالمون سورة البقرة ولا شك في أن الثلاثة كانوا كفارا يعبدون الأصنام إلى أن ظهر النبي صلى الله عليه وسلم والجواب من وجوه أحدها أن يقال الكفر الذي يعقبه الإيمان الصحيح لم يبق على صاحبه منه ذم هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام بل من دين الرسل كلهم كما قال تعالى قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف سورة الأنفال وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث

8

284

الصحيح إن الإسلام يجب ما قبله وفي لفظ يهدم من كان قبله وإن الهجرة تهدم ما كان قبلها وإن الحج يهدم ما كان قبله الثاني أنه ليس كل ولد على الاسلام بأفضل من أسلم بنفسه بل قد ثبت بالنصوص المستفيضة أن خير القرون القرن الأول وعامتهم أسلموا بأنفسهم بعد الكفر وهم أفضل من القرن الثاني الذين ولدوا على الإسلام ولهذا قال أكثر العلماء إنه يجوز على الله أن يبعث نبيا ممن آمن بالأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم فإنه إذا جاز أن يبعث نبيا من ذرية إبراهيم وموسى فمن الذين آمنوا بهما أولى وأحرى كما قال تعالى فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي سورة العنكبوت وقال تعالى وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى اليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننهم الأرض من بعدهم سورة إبراهيم وقال تعالى قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا

8

285

كارهين قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا الآية سورة الأعراف وطرد هذا من تاب من الذنب وغفر له لم يقدح في علو درجته كائنا من كان والرافضة لهم في هذا الباب قول فارقوا به الكتاب والسنة وإجماع السلف ودلائل العقول والتزموا لأجل ذلك ما يعلم بطلانه بالضرورة كدعواهم إيمان آزر وأبوي النبي وأجداده وعمه أبي طالب وغير ذلك الثالث أن يقال قبل أن يبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم لم يكن أحد مؤمنا من قريش لا رجل ولا صبي ولا أمرأة ولا الثلاثة ولا علي وإذا قيل عن الرجال إنهم كانوا يعبدون الأصنام فالصبيان كذلك علي وغيره وإن قيل كفر الصبي ليس مثل كفر البالغ قيل ولا إيمان الصبي مثل إيمان البالغ فأولئك يثبت لهم حكم الإيمان والكفر وهم بالغون وعلي يثبت له حكم الكفر والإيمان وهو دون البلوغ والصبي المولود بين أبوين كافرين يجري عليه حكم الكفر في الدنيا

8

286

باتفاق المسلمين وإذا أسلم قبل البلوغ فهل يجري عليه حكم الإسلام قبل البلوغ على قولين للعلماء بخلاف البالغ فإنه يصير مسلما باتفاق المسلمين فكان إسلام الثلاثة مخرجا لهم من الكفر باتفاق المسلمين وأما إسلام علي فهل يكون مخرجا له من الكفر على قولين مشهورين ومذهب الشافعي أن إسلام الصبي غير مخرج له من الكفر وأما كون صبي من الصبيان قبل النبوة سجد لصنم أو لم يسجد فهو لم يعرف فلا يمكن الجزم بأن عليا أو الزبير ونحوهما لم يسجدوا لصنم كما أنه ليس معنا نقل بثبوت ذلك بل ولا معنا نقل معين عن أحد من الثلاثة أنه سجد لصنم بل هذا يقال لأن من عادة قريش قبل الإسلام أن يسجدوا للأصنام وحينئذ فهذا ممكن في الصبيان كما هو العادة في مثل ذلك الرابع أن أسماء الذم كالكفر والظلم والفسق التي في القرآن لا تتناول إلا من كان مقيما على ذلك وأما من صار مؤمنا بعد الكفر وعادلا بعد الظلم وبرا بعد الفجور فهذا تتناوله أسماء المدح دون أسماء الذم باتفاق المسلمين فقوله عز وجل لا ينال عهدي الظالمين سورة البقرة أي

8

287

ينال العادل دون الظالم فإذا قدر أن شخصا كان ظالما ثم تاب وصار عادلا تناوله العهد كما يتناوله سائر آيات المدح والثناء لقوله تعالى إن الإبرار لفي نعيم سورة المطففين وقوله إن المتقين في جنات ونعيم سورة الطور الخامس أن من قال إن المسلم بعد إيمانه كافر فهو كافر بإجماع المسلمين فكيف يقال عن أفضل الخلق إيمانا إنهم كفار لأجل ما تقدم السادس أنه قال لموسى إني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم سورة النمل السابع أنه قال إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله عن المؤمنين والمؤمنات الآية سورة الاحزاب فقد أخبرنا الله عن جنس الإنسان أنه ظلوم جهول واستثنى من العذاب من تاب ونصوص الكتاب صريحة في أن كل بني آدم لا بد أن يتوب وهذه المسألة متعلقة بمسألة العصمة هل الأنبياء معصومون من الذنوب أم لا فيحتاجون إلى توبة والكلام فيها مبسوط قد تقدم

8

288

فصل قال الرافضي السادس قول أبي بكر أقيلوني فلست بخيركم ولو كان إماما لم يجز له طلب الإقالة والجواب أن هذا أولا كان ينبغي أن يبين صحته وإلا فما كل منقول صحيح والقدح بغير الصحيح لا يصح وثانيا إن صح هذا عن أبي بكر لم تجز معارضته بقول القائل الإمام لا يجوز له طلب الإقالة فإن هذه الدعوى مجردة لا دليل عليها فلم لا يجوز له طلب الإقالة إن كان قال ذلك بل إن كان قاله لم يكن معنا إجماع على نقيض ذلك ولا نص فلا يجب الجزم بأنه باطل وإن لم يكن قاله فلا يضر تحريم هذا القول وأما تثبيت كون الصديق قاله والقدح في ذلك بمجرد الدعوى فهو كلام من لا يبالي ما يقول وقد يقال هذا يدل على الزهد في الولاية والورع فيها وخوف الله أن لا يقوم بحقوقها وهذا يناقض ما يقوله الرافضه إنه كان طالبا للرياسة راغبا في الولاية

8

289

فصل قال الرافضي السابع قول أبي بكر عند موته ليتني كنت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل للأنصار في هذا الأمر حق وهذا يدل على شكه في صحة بيعة نفسه مع أنه الذي دفع الأنصار يوم السقيفة لما قالوا منا أمير ومنكم أمير بما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم الأئمة من قريش والجواب أما قول النبي صلى الله عليه وسلم الأئمة من قريش فهو حق ومن قال إن الصديق شك في هذا أو في صحة إمامته فقد كذب ومن قال إن الصديق قال ليتني كنت سألت النبي صلى الله عليه وسلم هل للأنصار ف الخلافة نصيب فقد كذب فإن المسألة عنده وعند الصحابة أظهر من أن يشك فيها لكثرة النصوص فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا يدل على بطلان هذا النقل وإن قدر صحته ففيه فضيلة للصديق لأنه لم يكن يعرف النص

8

290

واجتهد فوفق اجتهاده النص ثم من اجتهاده وورعه تمنى أن يكون معه نص يعينه على الاجتهاد فهذا يدل على كمال علمه حيث وافق اجتهاده النص ويدل على ورعه حيث خاف أن يكون مخالفا للنص فأي قدح في هذا فصل قال الرافضي الثامن قوله في مرض موته ليتني كنت تركت بيت فاطمة لم أكبسه وليتني كنت في ظلة بني ساعدة ضربت على يد أحد الرجلين وكان هو الأمير وكنت الوزير وهذا يدل على إقدامه علي بيت فاطمة عند اجتماع أمير المؤمنين والزبير وغيرهما فيه والجواب أن القدح لا يقبل حتى يثبت اللفظ بإسناد صحيح ويكون

8

291

دالا دلالة ظاهرة على القدح فإذا انتفت إحداهما انتفى القدح فكيف إذا انتفى كل منهما ونحن نعلم يقينا أن أبا بكر لم يقدم على علي والزبير بشيء من الأذى بل ولا على سعد بن عبادة المتخلف عن بيعته أولا وآخرا وغاية ما يقال إنه كبس البيت لينظر هل فيه شيء من مال الله الذي يقسمه وأن يعطيه لمستحقه ثم رأى أنه لو تركه لهم لجاز فإنه يجوز أن يعطيهم من مال الفيء وأما إقدامه عليهم أنفسهم بأذى فهذا ما وقع فيه قط باتفاق أهل العلم والدين وإنما ينقل مثل هذا جهال الكذابين ويصدقه حمقى العالمين الذين يقولون إن الصحابة هدموا بيت فاطمة وضربوا بطنها حتى أسقطت وهذا كله دعوى مختلق وإفك مفترى باتفاق أهل الإسلام ولا يروج إلا على من هو من جنس الأنعام وأما قوله ليتني كنت ضربت على يد أحد الرجلين فهذا لم يذكر له إسنادا ولم يبين صحته فإن كان قاله فهو يدل على زهده وورعه وخوفه من الله تعالى

8

292

فصل قال الرافضي التاسع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جهزوا جيش أسامة وكرر الأمر بتنفيذه وكان فيهم أبو بكر وعمر وعثمان ولم ينفذ أمير المؤمنين لأنه أراد منعهم من التوثب على الخلافة بعده فلم يقبلوا منه والجواب من وجوه أحدها المطالبة بصحة النقل فإن هذ لا يروي بإسناد معروف ولا صححه أحد من علماء النقل ومعلوم أن الاحتجاج بالمنقولات لا يسوغ إلا بعد قيام الحجة بثبوتها وإلا فيمكن أن يقول كل أحد ما شاء الثاني أن هذا كذب بإجماع علماء النقل فلم يكن في جيش أسامة لا أبو بكر ولا عثمان وإنما قد قيل إنه كان فيه عمر وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استخلف أبا بكر على الصلاة حتي مات وصلى أبو بكر رضي الله عنه الصبح يوم موته وقد كشف

8

293

سجف الحجرة فرآهم صفوفا خلف أبي بكر فسر بذلك فكيف يكون مع هذا قد أمره أن يخرج في جيش أسامة الثالث أن النبي صلى الله عليه وسلم لو أراد تولية علي لكان هؤلاء أعجز أن يدفعوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكان جمهور المسلمين أطوع لله ورسوله من أن يدعوا هؤلاء يخالفون أمره لا سيما وقد قاتل ثلث المسلمين أو أكثر مع علي لمعاوية وهم لا يعلمون أن معه نصا فلو كان معه نص لقاتل معه جمهور المسلمين الرابع أنه أمر أبا بكر أن يصلي بالناس ولم يأمر عليا فلو كان علي هو الخليفة لكان يأمره بالصلاة بالمسلمين فكيف ولم يؤمر عليا على أبي بكر قط بل في الصحيحين أنه لما ذهب يصلح بين بني عمرو بن عوف قال لبلال إذا حضرت الصلاة فمر أبا بكر أن يصلي بالناس وكذلك في مرضه ولما أراد إقامة الحج أمر أبا بكر أن يحج وأردفه بعلي تابعا له وأبو بكر هو الإمام الذي يصلي بالناس بعلي وغيره ويأمر عليا وغيره فيطيعونه وقد أمر أبا بكر على علي في حجة سنة تسع وكان أبو بكر مؤمرا عليهم إماما لهم

8

294

فصل قال الرافضي العاشر أنه لم يول أبا بكر شيئا من الأعمال وولي عليه والجواب من وجوه أحدها أن هذا باطل بل الولاية التي ولاها أبا بكر لم يشركه فيها أحد وهي ولاية الحج وقد ولاه غير ذلك الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ولى من هو بإجماع أهل السنة والشيعة من كان عنده دون أبي بكر مثل عمرو بن العاص والوليد ابن عقبة وخالد بن الوليد فعلم أنه لم يترك ولايته لكونه ناقصا عن هؤلاء الثالث أن عدم ولايته لا يدل على نقصه بل قد يترك ولايته لأنه عنده أنفع له منه في تلك الولاية وحاجته إليه في المقام عنده وغنائه عن المسلمين أعظم من حاجته إليه في تلك الولاية فإنه هو وعمر كانا مثل الوزيرين له يقول كثيرا دخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر وكان أبو بكر يسمر عنده عامة ليله

8

295

وعمر لم يكن يولى أهل الشورى كعثمان وطلحة والزبير وغيرهم وهم عنده أفضل ممن ولاه مثل عمرو بن العاص ومعاوية وغيرهما لأن أنتفاعه بهؤلاء في حضوره أكمل من انتفاعه بواحد منهم في ولاية يكفي فيها من دونهم وأبو بكر كان يدخل مع النبي صلى الله عليه وسلم ويليه عمر وقال لهما إذا اتفقتما على شيء لم أخالفكما وإذا قدم عليه الوفد شاورهما فقد يشير هذا بشيء ويشير هذا بشيء ولذلك شاروهما في أسرى بدر وكان مشاورته لأبي بكر أغلب واجتماعه به أكثر هذا أمر يعلمه من تدبر الأحاديث الصحيحة التي يطول ذكرها فصل قال الرافضي الحادي عشر أنه صلى الله عليه وسلم أنفذه لأداء سورة براءة ثم أنفذ عليا وأمره برده وأن يتولى هو ذلك من لا يصلح لأداء سورة أو بعضها فكيف يصلح

8

296

للإمامة العامة المتضمنة لأداء الأحكام إلى جميع الأمة والجواب من وجوه أحدها أن هذا كذب باتفاق أهل العلم وبالتواتر العام فإن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل أبا بكر على الحج سنة تسع لم يرده ولا رجع بل هو الذي أقام للناس الحج ذلك العام وعلي من جملة رعيته يصلي خلفه ويدفع بدفعه ويأتمر بأمره كسائر من معه وهذا من العلم المتواتر عند أهل العلم لم يختلف اثنان في أن أبا بكر هو الذي أقام الحج ذلك العام بأمر النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يقال إنه أمره برده ولكن أردفه بعلي لينبذ إلى المشركين عهدهم لأن عادتهم كانت جارية أن لا يعقد العقود ولا يحلها إلا المطاع أو رجل من أهل بيته فلم يكونوا يقبلون ذلك من كل أحد وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال بعثني أبو بكر الصديق في الحجة التي أمره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع في رهط يؤذنون في الناس يوم النحر أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان وفي رواية ثم أردف النبي صلى الله عليه

8

297

وسلم بعلي وأمره أن يؤذن ببراءة فأذن علي معنا في أهل منى يوم النحر ببراءة وبأن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان قال فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام فلم يحج عام حجة الوداع التي حج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرك قال أبو محمد بن حزم وما حصل في حجة الصديق كان من أعظم فضائله لأنه هو الذي خطب بالناس في ذلك الموسم والجمع العظيم والناس منصتون لخطبته يصلون خلفه وعلي من جملتهم وفي السورة فضل بن أبي بكر وذكر الغار فقرأها علي على الناس فهذا مبالغة في فضل أبي بكر وحجة قاطعة وتأميره لأبي بكر على علي هذا كان بعد قوله أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ولا ريب أن هذا الرافضي ونحوه من شيوخ الرافضة من أجهل الناس بأحوال الرسول وسيرته وأموره ووقائعه يجهلون من ذلك ما هو متواتر معلوم لمن له أدنى معرفة بالسيرة ويجيئون إلى ما وقع فيقبلونه ويزيدون فيه وينقصون وهذا القدر وإن كان الرافضي لم يفعله فهو فعل شيوخه وسلفه

8

298

الذين قلدهم ولم يحقق ما قالوه ويراجع ما هو المعلوم عند أهل العلم المتواتر عندهم المعلوم لعامتهم وخاصتهم الثاني قوله الإمامة العامة متضمنة لاداء جميع الأحكام إلى الأمة قول باطل فالأحكام كلها قد تلقتها الأمة عن نبيها لا تحتاج فيها إلى الإمام إلا كما تحتاج إلى نظائره من العلماء وكانت عامة الشريعة التي يحتاج الناس إليها عند الصحابة معلومة ولم يتنازعوا زمن الصديق في شيء منها إلا واتفقوا بعد النزاع بالعلم الذي كان يظهره بعضهم لبعض وكان الصديق يعلم عامة الشريعة وإذا خفى عنه الشيء اليسير سأل عنه الصحابة ممن كان عنده علم ذلك كما سألهم عن ميراث الجدة فأخبره من أخبره منهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس

8

299

ولم يعرف لأبي بكر فتيا ولا حكم خالف نصا وقد عرف لعمر وعثمان وعلي من ذلك أشياء والذي عرف لعلي أكثر مما عرف لهما مثل قوله في الحامل المتوفى عنها زوجها إنها تعتد أبعد الأجلين وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لسبيعة الأسلمية لما وضعت بعد وفاة زوجها بثلاث ليلال حللت فانكحي من شئت ولما قالت له إن أبا السنابل قال ما أنت بناكحة حتى يمضي عليك آخر الأجلين قال كذب أبو السنابل وقد جمع الشافعي في كتاب خلاف علي وعبدالله من أقوال علي التي تركها الناس لمخالفتها النص أو معنى النص جزءا كبيرا وجمع بعده محمد بن نصر المروزي أكثر من ذلك فإنه كان إذا ناظره الكوفيون يحتج بالنصوص فيقولون نحن أخذنا بقول علي وابن مسعود يحتج بالنصوص فيقولون نحن أخذنا بقول علي وابن مسعود فجمع لهم أشياء كثيرة من قول علي وابن مسعود تركوه أو تركه الناس يقول إذا جاز لكم خلافهما في تلك المسائل لقيام الحجة على خلافهما فكذلك في سائر المسائل ولم يعرف لأبي بكر مثل هذا

8

300

الثالث أن القرآن بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم كل أحد من المسلمين فيمتنع أن يقال إن أبا بكر لم يكن يصلح لتبليغه الرابع أنه لا يجوز أن يظن أن تبليغ القرآن يختص بعلي فإن القرآن لا يثبت بخبر الآحاد بل لا بد أن يكون منقولا بالتواتر الخامس أن الموسم ذلك العام كان يحج فيه المسلمون والمشركون وكان النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر أن ينادي في الموسم أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان كما ثبت في الصحيحين فأي حاجة كانت بالمشركين إلى أن يبلغوا القرآن فصل قال الرافضي الثاني عشر قول عمر إن محمدا لم يمت وهذا يدل على قلة علمه وأمر برجم حامل فنهاه علي فقال لولا علي لهلك عمر وغير ذلك من الأحكام التي غلط فيها وتلون فيها

8

301

والجواب أن يقال أولا ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال قد كان قبلكم في الأمم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر ومثل هذا لم يقله لعلي وأنه قال رأيت أني أتيت بقدح فيه لبن فشربت حتى أني لأرى الري يخرج من أظفاري ثم ناولت فضلي عمر قالوا فما أولته يا رسول الله قال العلم فعمر كان أعلم الصحابة بعد أبي بكر وأما كونه ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت فهذا كان ساعة ثم تبين له موته ومثل هذا يقع كثيرا قد يشك الإنسان في موت ميت ساعة وأكثر ثم يتبين له موته وعلي قد تبين له أمور بخلاف ما كان يعتقده فيها أضعاف ذلك بل ظن كثيرا من الأحكام على خلاف ما هي عليه ومات على ذلك ولم يقدح ذلك في إمامته كفتياه في المفوضة التي ماتت ولم يفرض لها وأمثال ذلك مما هو معروف عند أهل العلم وأما الحامل فإن كان لم يعلم أنها حامل فهو من هذا الباب فإنه قد يكون أمر برجمها ولم يعلم أنها حامل فأخبره علي أنها حامل فقال لولا أن عليا أخبرني بها لرجمتها فقتلت الجنين فهذا هو الذي خاف منه

8

302

وإن قدر أنه كان يظن جواز رجم الحامل فهذا مما قد يخفى فإن الشرع قد جاء في موضع بقتل الصبي والحامل تبعا كما إذا حوصر الكفار فإن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف ونصب عليهم المنجنيق وقد يقتل النساءو الصبيان وفي الصحيح أنه سئل عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصاب من نسائهم وصبيانهم فقال هم منهم وقد ثبت عنه أنه نهى عن قتل النساء والصبيان وقد اشتبه هذا على طائفة من أهل العلم فمنعوا من البيات خوفا من قتل النساء والصبيان فكذلك قد يشتبه على من ظن جواز ذلك ويقول إن الرجم حد واجب على الفور فلا يجوز تأخيره لكن السنة فرقت بين ما يمكن تأخيره كالحد وبين ما يحتاج إليه كالبيات والحصار وعمر رضي الله عنه كان يراجعه آحاد الناس حتى في مسألة الصداق قالت امرأة له أمنك نسمع أم من كتاب الله فقال بل من كتاب الله فقالت إن الله يقول وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا

8

303

منه شيئا سورة النساء فقال امرأة أصابت ورجل أخطأ وكذلك كان يرجع إلى عثمان وغيره وهو أعلم من هؤلاء كلهم وصاحب العلم العظيم إذا رجع إلى من هو دونه في بعض الأمور لم يقدح هذا في كونه أعلم منه فقد تعلم موسى من الخضر ثلاث مسائل وتعلم سليمان من الهدهد خبر بلقيس وكان الصحابة فيهم من يشير على النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور وكان عمر أكثر الصحابة مراجعة للنبي صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن بموافقته في مواضع كالحجاب وأسارى بدر واتخاذ مقام إبراهيم مصلى وقوله عسى ربه إن طلقكن وغير ذلك وهذه الموافقة والمراجعة لم تكن لا لعثمان ولا لعلي وفي الترمذي لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر ولو كان بعدي نبي لكان عمر

8

304

فصل قال الرافضي الثالث عشر أنه ابتدع التراويح مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أيها الناس إن الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة جماعة بدعة وصلاة الضحى بدعة فإن قليلا في سنة خير من كثير في بدعة ألا وإن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة سبيلها إلى النار وخرج عمر في شهر رمضان ليلا فرأى المصابيح في المساجد فقال ما هذا فقيل له إن الناس قد اجتمعوا لصلاة التطوع فقال بدعة ونعمت البدعة فاعترف بأنها بدعة فيقال ما رؤى في طوائف أهل البدع والضلال أجرا من هذه الطائفة الرافضة على الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقولها عليه ما لم يقله والوقاحة المفرطة في الكذب وإن كان فيهم من لا يعرف أنها كذب فهو مفرط في الجهل كما قال فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم

8

305

والجواب من وجوه أحدها المطالبة فيقال ما الدليل على صحة هذا الحديث وأين إسناده وفي أي كتاب من كتب المسلمين روى هذا ومن قال من أهل العلم بالحديث إن هذا صحيح الثاني أن جميع أهل المعرفة بالحديث يعلمون علما ضروريا أن هذا من الكذب الموضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدنى من له معرفة بالحديث يعلم أنه كذب لم يروه أحد من المسلمين في شئ من كتبه لا كتب الصحيح ولا السنن ولا المساند ولا المعجمات ولا الأجزاء ولا يعرف له إسناد لا صحيح ولا ضعيف بل هو كذب بين الثالث أنه قد ثبت أن الناس كانوا يصلون بالليل في رمضان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وثبت أنه صلى بالمسلمين جماعة ليلتين أو ثلاثا ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ليلة من جوف الليل فصلى وصلى رجال بصلاته فأصبح الناس فتحدثوا فاجتمع أكثر منهم فصلى فصلوا معه فأصبح الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى صلاته فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفق رجال يقولون الصلاة فلم يخرج إليهم حتى خرج لصلاة الصبح فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثم قال أما بعد فإنه لم يخف علي مكانكم

8

306

ولكن خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك وذلك في رمضان وعن أبي ذر قال صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رمضان فلم يقم بنا شيئا من الشهر حتى بقى سبع فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل فلما كانت السادسة لم يقم بنا فلما كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب شطر الليل فقلت يا رسول الله لو نفلتنا قيام هذه الليلة قال إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة فلما كانت الليلة الرابعة لم يقم بنا فلما كانت الليلة الثالثة جمع أهله ونساءه فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح قلت وما الفلاح قال السحور ثم لم يقم بنا بقية الشهر رواه أحمد والترمذي والنسائي وأبو داود

8

307

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمر فيه بعزيمة ويقول من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدرا من خلافة عمر وخرج البخاري عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال خرجت مع عمر ليلة من رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلى الرجل لنفسه ويصلى الرجل فيصلى بصلاته الرهط فقال عمر إني لأرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم قال عمر نعمت البدعة هذه والتي تنامون عنها أفضل من التي تقومون يريد بذلك آخر الليل وكان الناس يقومون أوله وهذا الاجتماع العام لما لم يكن قد فعل سماه بدعة لأن ما فعل ابتداء

8

308

يسمى بدعة في اللغة وليس ذلك بدعة شرعية فإن البدعة الشرعية التي هي ضلالة هي ما فعل بغير دليل شرعي كاستحباب ما لم يحبه الله وإيجاب ما لم يوجبه الله وتحريم ما لم يحرمه الله فلا بد مع الفعل من اعتقاد يخالف الشريعة وإلا فلو عمل الانسان فعلا محرم يعتقد تحريمه لم يقل إنه فعل بدعة الرابع أن هذا لو كان قبيحا منهيا عنه لكان علي أبطله لما صار أمير المؤمنين وهو بالكوفة فلما كان جاريا في ذلك مجرى عمر دل على استحباب ذلك بل روى عن علي أنه قال نور الله على عمر قبره كما نور علينا مساجدنا وعن أبي عبد الرحمن السلمي أن عليا دعا القراء في رمضان فأمر رجلا منهم يصلى بالناس عشرين ركعة قال وكان علي يوتر بهم وعن عرفجة الثقفي قال كان علي يأمر الناس بقيام شهر رمضان ويجعل للرجال إماما وللنساء إماما قال عرفجة فكنت أنا إمام النساء رواهما البيهقي في سننه وقد تنازع العلماء في قيام رمضان هل فعله في المسجد جماعة أفضل أم فعله في البيت أفضل على قولين مشهورين هما قولان

8

309

للشافعي وأحمد وطائفة يرجحون فعلها في المسجد جماعة منهم الليث وأما مالك وطائفة فيرجحون فعلها في البيت ويحتجون بقول النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة أخرجاه في الصحيحين وأحمد وغيره احتجوا بقوله في حديث أبي ذر الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف كتب الله له قيام ليلة وأما قوله أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة فالمراد بذلك ما لم تشرع له الجماعة وأما ما شرعت له الجماعة كصلاة الكسوف ففعلها في المسجد أفضل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المتواترة واتفاق العلماء

8

310

قالوا فقيام رمضان إنما لم يجمع النبي صلى الله عليه وسلم الناس عليه خشية أن يفترض وهذا قد أمن بموته فصار هذا كجمع المصحف وغيره وإذا كانت الجماعة مشروعة فيها ففعلها في الجماعة أفضل وأما قول عمر رضي الله عنه والتي تنامون عنها أفضل يريد آخر الليل وكان الناس يقومون أوله فهذا كلام صحيح فإن آخر الليل أفضل كما أن صلاة العشاء في أوله أفضل والوقت المفضول قد يختص العمل فيه بما يوجب أن يكون أفضل منه في غيره كما أن الجمع بين الصلاتين بعرفة ومزدلفة أفضل من التفريق بسبب أوجب ذلك وإن كان الأصل أن الصلاة في وقتها الحاضر والإبراد بالصلاة في شدة الحر أفضل وأما يوم الجمعة فالصلاة عقب الزوال أفضل ولا يستحب الإبراد بالجمعة لما فيه من المشقة على الناس وتأخير العشاء إلى ثلث الليل أفضل إلا إذا اجتمع الناس وشق عليهم الانتظار فصلاتها قبل ذلك أفضل وكذلك الاجتماع في شهر رمضان في النصف الثاني إذا كان يشق على الناس وفي السنن عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال

8

311

صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كان أكثر فهو أحب إلى الله ولهذا كان الإمام أحمد في إحدى الروايتين يستحب إذا أسفر بالصبح أن يسفر بها لكثرة الجمع وإن كان التغليس أفضل فقد ثبت بالنص والاجماع أن الوقت المفضول قد يختص بما يكون الفعل فيه أحيانا أفضل وأما الضحى فليس لعمر فيها اختصاص بل قد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أنام

8

312

وفي صحيح مسلم عن أبي الدرداء مثل حديث أبي هريرة وفي صحيح مسلم عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يصبح على كل سلامي من أحدكم صدقة فكل تسبيحة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهى عن المنكر صدقة ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى فصل قال الرافضي الرابع عشر أن عثمان فعل أمورا لا يجوز فعلها حتى أنكر عليه المسلمون كافة واجتمعوا على قتله أكثر من اجتماعهم على إمامته وإمامة صاحبيه

8

313

والجواب من وجوه أحدها أن هذا من أظهر الكذب فإن الناس كلهم بايعوا عثمان في المدينة وفي جميع الأمصار لم يختلف في إمامته اثنان ولا تخلف عنها أحد ولهذا قال الإمام أحمد وغيره إنها كانت أوكد من غير باتفاقهم عليها وأما الذين قتلوه فنفر قليل قال ابن الزبير يعيب قتلة عثمان خرجوا عليه كاللصوص من وراء القرية فقتلهم الله كل قتلة ونجا من نجا منهم تحت بطون الكواكب يعني هربوا ليلا ومعلوم بالتواتر أن أهل الأمصار لم يشهدوا قتله فلم يقتله بقدر من بايعه وأكثر أهل المدينة لم يقتلوه ولا أحد من السابقين الأولين دخل في قتله كما دخلوا في بيعته بل الذين قتلوه أقل من عشر معشار من بايعه فكيف يقال إن اجتماعهم على قتله كان أكثر من اجتماعهم على بيعته لا يقول هذا إلا من هو من أجهل الناس بأحوالهم وأعظمهم تعمدا للكذب عليهم الثاني أن يقال الذين أنكروا على علي وقاتلوه أكثر بكثير من الذين أنكروا على عثمان وقتلوه فإن عليا قاتله بقدر الذين قتلوا عثمان أضعافا مضاعفة وقطعه كثير من عسكره خرجوا عليه وكفروه وقالوا أنت ارتددت عن الإسلام لا نرجع إلى طاعتك حتى تعود إلى الاسلام

8

314

ثم إن واحدا من هؤلاء قتله قتل مستحل لقتله متقرب إلى الله بقتله معتقدا فيه أقبح مما اعتقده قتله عثمان فيه فإن الذين خرجوا على عثمان لم يكونوا مظهرين لكفره وإنما كانوا يدعون الظلم وأما الخوارج فكانوا يجهرون بكفر علي وهم أكثر من السرية التي قدمت المدينة لحصار عثمان حتى قتل فإن كان هذا حجة في القدح في عثمان كان ذلك حجة في القدح في علي بطريق الأولى والتحقيق أن كليهما حجة باطلة لكن القادح في عثمان بمن قتله أدحض حجة من القادح في علي بمن قاتله فإن المخالفين لعلي المقاتلين له كانوا أضعاف المقاتلين لعثمان بل الذين قاتلوا عليا كانوا أفضل باتفاق المسلمين من الذين حاصروا عثمان وقتلوه وكان في المقاتلين لعلي أهل زهد وعبادة ولم يكن قتله عثمان لا في الديانة ولا في إظهار تكفيره مثلهم ومع هذا فعلى خليفة راشد والذين استحلوا دمه ظالمون معتدون فعثمان أولى بذلك من علي الثالث أن يقال قد علم بالتواتر أن المسلمين كلهم اتفقوا على مبايعة عثمان لم يتخلف عن بيعته أحد مع أن بيعة الصديق تخلف عنها سعد بن عبادة ومات ولم يبايعه ولا بايع عمر ومات في خلافة

8

315

عمر ولم يكن تخلف سعد عنها قادحا فيها لأن سعدا لم يقدح في الصديق ولا في أنه أفضل المهاجرين بل كان هذا معلوما عندهم لكن طلب أن يكون من الأنصار أمير وقد ثبت بالنصوص المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الأئمة من قريش فكان ما ظنه سعد خطأ مخالفا للنص المعلوم فعلم أن تخلفه خطأ بالنص وإذا علم الخطأ بالنص لم يحتج فيه إلى الإجماع وأما بيعة عثمان فلم يتخلف عنها أحد مع كثرة المسلمين وانتشرهم من إفريقية إلى خراسان ومن سواحل الشام إلى أقصى اليمن ومع كونهم كانوا ظاهرين على عدوهم من المشركين وأهل الكتاب يقاتلونهم وهي في زيادة فتح وانتصار ودوام دولة ودوام المسلمين على مبايعته والرضا عنه ست سنين نصف خلافته معظمين له مادحين له لا يظهر من أحد منهم التكلم فيه بسوء ثم بعد هذا صار يتكلم فيه بعضهم وجمهورهم لا يتكلم فيه إلا بخير وكانت قد طالت عليهم إمارته فانه بقي اثنتي عشرة سنة لم تدم خلافة أحد من الأربعة ما دامت خلافته فإن خلافة الصديق كانت سنتين وبعض الثالثة وخلافة عمر عشر سنين وبعض الأخرى وخلافة على أربع سنين وبعض الخامسة ونشأ في خلافته من دخل في الإسلام

8

316

كرها فكان منافقا مثل ابن سبأ وأمثاله وهم الذين سعوا في الفتنة بقتله وفي المؤمنين من يسمع المنافقين كما قال تعالى لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم سورة التوبة أي وفيكم من يسمع منهم فيستجيب لهم ويقبل منهم لأنهم يلبسون عليه وهكذا فعل أولئك المنافقون لبسوا على بعض من كان عندهم يحب عثمان ويبغض من كان يبغضه حتى تقاعد بعض الناس عن نصره وكان الذين اجتمعوا على قتله عامتهم من أوباش القبائل ممن لا يعرف له في الإسلام ذكر بخير ولولا الفتنة لما ذكروا وأما علي فمن حين تولى تخلف عن بيعته قريب من نصف المسلمين من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وغيرهم ممن قعد عنه فلم يقاتل معه ولا قاتله مثل أسامة بن زيد وابن عمر ومحمد بن مسلمة ومنهم من قاتله ثم كثير من الذين بايعوه رجعوا عنه منهم من كفره واستحل دمه ومنهم من ذهب إلى معاوية كعقيل أخية وأمثاله

8

317

ولم تزل شيعة عثمان القادحين في علي تحتج بهذا على أن عليا لم يكن خليفة راشدا وما كانت حجتهم أعظم من حجة الرافضة فإذا كانت حجتهم داحضة وعلي قتل مظلوم فعثمان أولى بذلك باب قال الرافضي الفصل السادس في فسخ حججهم على إمامة أبي بكر احتجوا بوجوه الأول الإجماع والجواب منع الإجماع فإن جماعة من بني هاشم لم يوافقوا على ذلك وجماعة من أكابر الصحابة كسلمان وأبي ذر والمقداد وعمار وحذيفة وسعد بن عبادة وزيد بن أرقم وأسامة بن زيد وخالد بن سعيد بن العاص وابن عباس

8

318

حتى أن أباه أنكر ذلك وقال من استخلف على الناس فقالوا ابنك فقال وما فعل المستضعفان إشارة إلى علي والعباس قالوا اشتغلوا بتجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأوا أن ابنك أكبر الصحابة سنا فقال أنا أكبر منه وبنو حنيفة كافة لم يحملوا الزكاة إليه حتى سماهم أهل الردة وقتلهم وسباهم فأنكر عمر عليه ورد السبايا أيام خلافته والجواب بعد أن يقال الحمد لله الذي أظهر من أمر هؤلاء إخوان المرتدين ما تحقق به عند الخاص والعام أنهم إخوان المرتدين حقا وكشف أسرارهم وهتك أستارهم بألسنتهم فإن الله لا يزال يطلع على خائنة منهم تبين عداوتهم لله ورسوله ولخيار عباد الله وأوليائه المتقين ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا

8

319

فنقول من كان له أدنى علم بالسيرة وسمع مثل هذا الكلام جزم بأحد أمرين إما بأن قائله من أجهل الناس بأخبار الصحابة وإما أنه من أجرأ الناس على الكذب فظنى أن هذا المصنف وأمثاله من شيوخ الرافضة ينقلون ما في كتب سلفهم من غير اعتبار منهم لذلك ولا نظر في أخبار الإسلام وفي الكتب المصنفة في ذلك حتى يعرف أحوال الإسلام فيبقى هذا وأمثاله في ظلمة الجهل بالمنقول والمعقول ولا ريب أن المفترين للكذب من شيوخ الرافضة كثيرون جدا وغالب القوم ذوو هوى أو جهل فمن حدثهم بما يوافق هواهم صدقوه ولم يبحثوا عن صدقة وكذبه ومن حدثهم بما يخالف أهواءهم كذبوه ولم يبحثوا عن صدقه وكذبه ولهم نصيب وافر من قوله تعالى فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه سورة الزمر كما أن أهل العلم والدين لهم نصيب وافر من قوله تعالى والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون سورة الزمر ومن أعظم ما في هذا الكلام من الجهل والضلال جعله بني حنيفة

8

320

من أهل الإجماع فإنهم لما امتنعوا عن بيعته ولم يحملوا إليه الزكاة سماهم أهل الردة وقتلهم وسباهم وقد تقدم مثل هذا في كلامه وبنو حنيفة قد علم الخاص والعام أنهم آمنوا بمسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة باليمامة وادعى أنه شريك النبي صلى الله عليه وسلم في الرسالة وادعى النبوة في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم فقتل هو والأسود العنسى بصنعاء اليمن وكان اسمه عبهلة واتبع الأسود أيضا خلق كثير ثم قتله الله بيد فيروز الديلمي ومن أعانه على ذلك وكان قتله في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله ليلة قتل قتله وقال رجل صالح من أهل بيت صالحين والأسود ادعى الاستقلال بالنبوة ولم يقتصر على المشاركة وغلب على اليمن وأخرج منها عمال النبي صلى الله عليه وسلم حتى قتله

8

321

الله ونصر عليه المسلمين بعد أن جرت أمور وقد نقل في ذلك ما هو معروف عند أئمة العلم وأما مسيلمة فانه ادعى المشاركة في النبوة وعاش إلى خلافة أبي بكر وقد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال رأيت في منامي كأن في يدي سوارين من ذهب فأهمني شأنهما فقيل لي انفخهما فنفختهما فطارا فأولتهما الكذابين صاحب صنعاء وصاحب اليمامة وأمر مسيلمة وادعاؤه النبوة واتباع بني حنيفة له أشهر وأظهر من أن يخفي إلا على من هو من أبعد الناس عن المعرفة والعلم وهذا أمر قد علمه من يعلمه من اليهود والنصارى فضلا عن المسلمين وقرآنه الذي قرأه قد حفظ الناس منه سورا إلى اليوم مثل قوله يا ضفدع بنت ضفدعين نقي كم تنقين لا الماء تكدرين ولا الشارب تمنعين رأسك في الماء وذنبك في الطين ومثل قوله الفيل وما أدراك ما الفيل له زلوم طويل إن ذلك من خلق ربنا لقليل

8

322

ومثل قوله إنا أعطيناك الجماهر فصل لربك وهاجر ولاتطع كل ساحر وكافر ومثل قوله والطاحنات طحنا والعاجنات عجنا والخابزات خبزا إهالة وسمنا إن الأرض بيننا وبين قريش نصفين ولكن قريشا قوم لا يعدلون وأمثال هذا الهذيان ولهذا لما قدم وفد بني حنيفة على أبي بكر بعد قتل مسيلمة طلب منهم أبو بكر أن يسمعوه شيئا من قرآن مسيلمة فلما أسمعوه قال لهم ويحكم أين يذهب بعقولكم إن هذا كلام لم يخرج من إل أي من رب وكان مسيلمة قد كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله أما بعد فإني قد أشركت في الأمر معك فكتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب ولما جاء رسوله إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له أتشهد أن مسيلمة رسول الله قال نعم قال لولا أن الرسل لا تقتل لضربت عنقك ثم بعد هذا أظهر أحد الرسولين الردة

8

323

بالكوفة فقتله ابن مسعود وذكره بقول النبي صلى الله عليه وسلم هذا وكان مسيلمة قد قدم في وفد بني حنيفة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأظهر الإسلام ثم لما رجع إلى بلده قال لقومه إن محمد قد أشركني في الأمر معه واستشهد برجلين أحدهما الرحال بن عنفوة فشهد له بذلك ويروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لثلاثة أحدهم أبو هريرة والثاني الرحال هذا إن أحدكم ضرسه في النار أعظم من كذا وكذا فاستشهد الثالث في سبيل الله وبقي أبو هريرة خائفا حتى شهد هذا لمسيلمة بالنبوة واتبعه فعلم أنه هو كان المراد بخبر النبي صلى الله عليه وسلم وكان مؤذن مسيلمة يقول أشهد أن محمدا ومسيلمة رسولا الله

8

324

ومن أعظم فضائل أبي بكر عند الإمة أولهم وآخرهم أنه قاتل المرتدين وأعظم الناس ردة كان بنو حنيفة ولم يكن قتاله لهم على منع الزكاة بل قاتلهم على أنهم آمنوا بمسيلمة الكذب وكانوا فيما يقال نحو مائة ألف والحنيفة أم محمد بن الحنيفة سرية علي كانت من بني حنيفة وبهذا احتج من جوز سبي المرتدات إذا كان المرتدون محاربين فإذا كانوا مسلمين معصومين فكيف استجاز علي أن يسبي نساءهم ويطأ من ذلك السبي وأما الذين قاتلهم على منع الزكاة فأولئك ناس آخرون ولم يكونوا يؤدونها وقالوا لا نؤديها إليك بل امتنعوا من أدائها بالكلية فقاتلهم على هذا لم يقاتلهم ليؤووها إليه وأتباع الصديق كأحمد بن حنبل وأبي حنيفة وغيرهما يقولون إذا قالوا نحن نؤديها ولا ندفعها إلى الإمام لم يجز قتالهم لعلهم بأن الصديق إنما قاتل من امتنع عن أدائها جملة لا من قال أنا أؤديها بنفسي ولو عد هذا المفترى الوافضي من المتخلفين عن بيعة أبي بكر المجوس واليهود والنصارى لكان ذلك من جنس عدة لبني حنيفة بل كفر بني حنيفة من بعض الوجوه كان أعظم من كفر اليهود والنصارى والمجوس فإن أولئك كفار مليون وهؤلاء مرتدون وأولئك يقرون

8

325

بالجزية وهؤلاء لا يقرون بالجزية وإولئك لهم كتاب أو شبهة كتاب وهؤلاء اتبعوا مفتريا كذابا لكن كان مؤذنه يقول أشهد أن محمدا ومسيلمة رسولا الله وكانوا يجعلون محمدا ومسيلمة سواء وأمر مسيلمة مشهور في جميع الكتب الذي يذكر فيها مثل ذلك من كتب الحديث والتفسير والمغازي والفتوح والفقه والأصول والكلام وهذا أمر قد خلص إلى العذاري في خدورهن بل قد أفرد الإخباريون لقتال أهل الردة كتبا سموها كتب الردة والفتوح مثل كتاب الردة لسيف بن عمر والواقدي وغيرهما يذكرون فيها من تفاصيل أخبار أهل الردة وقتالهم ما يذكرون كما قد أوردوا مثل ذلك في مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتوح الشام فمن ذلك ما هو متواتر عند الخاصة والعامة ومنه ما نقله الثقات ومنه أشياء مقاطيع ومراسيل يحتمل أن تكون صدقا وكذبا ومنه ما يعلم أنه ضعيف وكذب

8

326

لكن تواتر ردة مسليمة وقتال الصديق وحربة له كتواترهرقل وكسرى وقيصر ونحوهم ممن قاتله الصديق وعمر وعثمان وتواتر كفر من قاتله النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والمسركين مثل عتبة وأبي ابن خلف وحيى بن أخطب وتتواتر نفاق عبد الله بن أبي بن سلول وأمثال ذلك بل تواتر ردة مسيلمة وقتال الصديق له أظهر عند الناس من قتال الجمل وصفين ومن كون طلحة والزبير قاتلا عليا ومن كون سعد وغيره تخلفوا عن بيعة علي وفي الصحيحين عن ابن عباس قال قدم مسيلمة الكذاب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فجعل يقول إن جعل لي محمد الأمر من بعده اتبعته فقدمها في بشر كثير من قومه فأقبل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ثابت بن قيس بن شماس وفي يد النبي صلى الله عليه وسلم قطعة من جريد حتى وقف على مسيلمة في أصحابه فقال لو سألني هذه القطعة ما أعطيتكها ولن تعدو أمر الله فيك ولئن أدبرت ليعقرنك الله وإني لأراك الذي أريت فيك ما رأيت وهذا ثابت يجيبك عني ثم انصرف عنه قال ابن عباس فسألت عن قول النبي صلى الله عليه وسلم أريت فيك ما رأيت

8

327

فأخبرني أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بينا أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب فأهمني شأنهما فأوحى إلى في المنام أن أنفخهما فنفختهما فطارا فأولتهما كذابين يخرجان بعدي فكان أحدهما العنس صاحب صنعاء والآخر مسيلمة وأما قول الرافضي إن عمر أنكر قتال أهل الردة فمن أعظم الكذب والافتراء على عمر بل الصحابة كانوا متفقين على قتال مسليمة وأصحابه ولكن كانت طائفة أخرى مقرين بالإسلام وامتنعوا عن أداء الزكاة فهؤلاء حصل لعمر أولا شبهة في قتالهم حتى ناظره الصديق وبين له وجوب قتالهم فرجع إليه والقصة في ذلك مشهورة وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن عمر قال لأبي بكر كيف تقاتل

8

328

الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوا عصموا مني دماءهم وأقوالهم إلا بحقها وحسابهم على الله قال أبو بكر ألم يقل إلا بحقها فإن الزكاة من حقها والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها قال عمر فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق وعمر احتج بما بلغه أو سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم فبين له الصديق أن قوله بحقها يتناول الزكاة فإنهما حق المال وفي الصحيحين عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها فهذا اللفظ الثاني الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين فقه أبي بكر وهو صريح في القتال عن أداء الزكاة وهو مطابق للقرآن قال تعالى فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة

8

329

فخلوا سبيلهم سورة التوبة فعلق تخلية السبيل على الإيمان وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والأخبار المنقولة عن هؤلاء أن منهم من كان قد قبض الزكاة ثم أعادها إلى أصحابها لما بلغه موت النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم من كان يتربص ثم هؤلاء الذين قاتلهم الصديق عليها لما قاتلهم صارت العمال الذين كانوا على الصدقات زمن النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم يقبضونها كما كانوا يقبضونها في زمنه ويصرفونها كما كانوا يصرفونها وكتب الصديق لمن كان يستعمله كتابا للصدقة فقال بسم الله الرحمن الرحيم هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي أمر بها وبهذا الكتاب ونظائره يأخذ علماء المسلمين كلهم فلم يأخذ لنفسه منها شيئا ولا ولى أحدا من أقاربه لا هو ولا عمر بخلاف عثمان وعلي فإنهما وليا أقاربهما فإن جاز أن يطعن في الصديق والفاروق أنهما قاتلا لأخذ المال فالطعن في غيرهما أوجه فإذا وجب الذب عن عثمان وعلي فهو عن أبي بكر وعمر أوجب وعلي يقاتل ليطاع ويتصرف في النفوس والأموال فكيف يجعل هذا

8

330

قتالا على الدين وأبو بكر يقاتل من ارتد عن الإسلام ومن ترك ما فرض الله ليطيع الله ورسوله فقط ولا يكون هذا قتالا على الدين وأما الذين عدهم هذا الرافضي أنهم تخلفوا عن بيعة الصديق من أكابر الصحابة فذلك كذب عليهم إلا على سعد بن عبادة فإن مبايعة هؤلاء لأبي بكر وعمر أشهر من أن تنكر وهذا مما اتفق عليه أهل العلم بالحديث والسير والمنقولات وسائر أصناف أهل العلم خلفا عن سلف وأسامة بن زيد ما خرج في السرية حتى بايعه ولهذا يقول له يا خليفة رسول الله وكذلك جميع من ذكره بايعه لكن خالد بن سعيد كان نائبا للنبي صلى الله عليه وسلم فلم مات النبي صلى الله عليه وسلم قال لا أكون نائبا لغيره فترك الولاية وإلا فهو من المقرين بخلافة الصديق وقد علم بالتواتر أنه لم يتخلف عن بيعته إلا سعد بن عبادة وأما علي وبنو هاشم فكلهم بايعه باتفاق الناس لم يمت أحد منهم إلا وهو مبايع له لكن قيل علي تأخرت بيعته ستة أشهر وقيل بل بايعه ثاني يوم وبكل حال فقد بايعوه من غير إكراه

8

331

ثم جميع الناس بايعوا عمر إلا سعدا لم يتخلف عن بيعة عمر أحد لابنو هاشم ولا غيرهم وأما بيعة عثمان فاتفق الناس كلهم عليها وكان سعد قد مات في خلافة عمر فلم يدركها وتخلف سعد قد عرف سببه فإنه كان يطلب أن يصير أميرا ويجعل من المهاجرين أميرا ومن الأنصار أميرا وما طلبه سعد لم يكن سائغا بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين وإذا ظهر خطأ الواحد المخالف للإجماع ثبت أن الإجماع كان صوابا وأن ذلك الواحد الذي عرف خطؤه بالنص شاذ لا يعتد به بخلا ف الواحد الذي يظهر حجة شرعية من الكتاب والسنة فإن هذا يسوغ خلافة وقد يكون الحق معه ويرجع إليه غيره كما كان الحق مع أبي بكر في تجهيز جيش أسامة وقتال مانعي الزكاة وغير ذلك حتى تبين صواب رأيه فيما بعد وما ذكره عن أبي قحافة فمن الكذب المتفق عليه ولكن أبو قحافة كان بمكة وكان شيخا كبيرا أسلم عام الفتح أتى به أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ورأسه ولحيته مثل الثغامة فقال النبي صلى الله عليه وسلم لو أقررت الشيخ مكانة لأتيناه إكراما لأبي بكر وليس

8

332

في الصحابة من أسلم أبوه وأمه وأولاده وأدركوا النبي صلى الله عليه وسلم وأدركه أيضا بنو أولاده إلا أبو بكر من جهة الرجال والنساء فمحمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي قحافة هؤلاء الأربعة كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنين وعبد الله بن الزبير بن أسماء بنت أبي بكر كلهم أيضا آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وصحبوه وأم أبي بكر أم الخير آمنت بالنبي صلى الله عليه وسلم فهم أهل بيت إيمان ليس فيهم منافق ولا يعرف في الصحابة مثل هذا لغير بيت أبي بكر وكان يقال للإيمان بيوت وللنفاق بيوت فبيت أبي بكر من بيوت الإيمان من المهاجرين وبنو النجار من بيوت الإيمان من الأنصار وقوله إنهم قالوا لأبي قحافة إن أبنك أكبر الصحابة سنا كذب ظاهر وفي الصحابة خلق كثير أسن من أبي بكر مثل العباس فإن العباس كان أسن من النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين والنبي صلى الله عليه وسلم كان أسن من أبي بكر قال أبو عمر بن عبد البر لا يختلفون أنه يعني أبا بكر مات وسنه ثلاث وستون سنة وأنه استوفى سن النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما لا يصح لكن المأثور عن أبي قحافة أنه لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم

8

333

وسلم ارتجت مكة فسمع ذلك أبو قحافة فقال ما هذا قالوا قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أمر جليل فمن ولى بعده قالوا ابنك قال فهل رضيت بذلك بنو عبد مناف وبنو المغيرة قالوا نعم قال لا مانع لما أعطى ولا معطى لما منع وحينئذ فالجواب عن منعه الإجماع من وجوه أحدها أن هؤلاء الذين ذكرهم لم يتخلف منهم إلا سعد بن عبادة وإلا فالبقية كلهم بايعوه باتفاق أهل النقل وطائفة من بني هاشم قد قيل إنها تخلفت عن مبايعته أولا ثم بايعته بعد ستة أشهر من غير رهبة ولا رغبة والرسالة التي يذكر بعض الكتاب أنه أرسلها إلى علي كذب مختلق عند أهل العلم بل على أرسل أبي بكر أن ائتنا فذهب هو إليهم فاعتذر على إليه وبايعه ففي الصحيحين عن عائشة قالت أرسلت فاطمة إلى أبي بكر رضي الله عنهما تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر فقال أبو بكر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا نورث ما تركناه صدقة وإنما

8

334

يأكل آل محمد من هذا المال وإني والله لأغير شيئا من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كانت عليه في عهده وإني لست تاركا شيئا كان رسول الله صلى الله علي وسلم يعمل به إلا عملت به وإني اخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ فوجدت فاطمة على أبي بكر فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت وعاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر فلما توفيت دفنها علي ليلا ولم يؤذن بها أبا بكر وصلى عليها علي وكان لعلي وجه من الناس حياة فاطمة فلما ماتت استنكر علي وجوه الناس فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته ولم يكن بايع تلك الأشهر فأرسل إلى أبي بكر أن أئتنا ولا يأتنا معك أحد كراهة محضر عمر فقال عمر لأبي بكر والله لا تدخل عليهم وحدك فقال أبو بكر ما عساهم أن يفعلوا بي والله لآتينهم فدخل عليهم أبو بكر فتشهد علي ثم قال إنا قد عرفنا فضيلتك يا أبا بكر وما أعطاك الله ولم ننفس عليك خيرا ساقه الله إليك استبددت ب الأمر علينا وكنا نرى أن لنا فيه حقا لقرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزل يكلم أبا بكر حتى فاضت عينا أبا بكر فلما تكلم أبو بكر قال والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي وأما الذي شجر بيني وبينكم من هذه الأموال فإني لم آل فيها عن الحق ولم أترك أمرا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيها إلا صنعته فقال علي

8

335

لأبي بكر موعدك العشية للبيعة فلما صلى أبو بكر الظهر رقى على المنبر وتشهد وذكر شأن علي وتخلفه عن البيعة وعذره الذي اعتذر به ثم استغفر وتشهد علي فعظم حق أبي بكر وأنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبي بكر ولا إنكار للذي فضله الله به ولكنا كنا نرى أن لنا في الأمر نصيبا فاستبد علينا به فوجدنا في أنفسنا فسر بذلك المسلمون وقالوا أصبت وكان المسلمون إلى علي قريبا حين راجع الأمر بالمعروف ولا ريب أن الإجماع المعتبر في الإمامة لا يضر فيه تخلف الواحد والاثنين والطائفة القليلة فإنه لو اعتبر ذلك لم يكد ينعقد إجماع على إمامة فإن الإمامة أمر معين فقد يتخلف الرجل لهوى لا يعلم كتخلف سعد فإنه كان قد استشرف إلى أن يكون هو أميرا من جهة الأنصار فلم يحصل له ذلك فبقي في نفسه بقيه هوى ومن ترك الشيء لهوى لم يؤثر تركه بخلاف الإجماع على الاحكام العامة كالإيجاب والتحريم والإباحة فإن هذا لو خالف فيه الواحد أو الاثنان فهل يعتد بخلافهما فيه قولان للعلماء وذكر عن أحمد في ذلك روايتان إحداهما لا يعتد بخلاف الواحد والاثنين وهو قول طائفة كمحمد بن جرير الطبري والثاني يعتد بخلاف الواحد والاثنين في الأحكام وهو قول الأكثرين والفرق بينه وبين الإمامة أن الحكم أمر عام يتناول هذا وهذا فإن القائل بوجوب الشيء يوجبه على

8

336

نفسه وعلى غيره والقائل بتحريمه يحرمه على نفسه وعلى غيره فالمنازع فيه ليس متهما ولهذا تقبل رواية الرجل للحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في القصة وإن كان خصما فيها لأن الحديث عام يتناولها ويتناول غيرها وإن كان المحدث اليوم محكوما له بالحديث فغدا يكون محكوما عليه بخلاف شهادته لنفسه فإنها لا تقبل لأنه خصم والخصم لا يكون شاهدا فالإجماع على إمامة المعين ليس حكما على أمر عام كلي كالأحكام على أمر خاص معين وأيضا فالواحد إذا خالف النص المعلوم كان خلافة شاذا كخلاف سعيد بن المسيب في أن المطلقة ثلاثا إذا نكحت زوجا غيره أبيحت للأول بمجرد العقد فإن هذا لما جاءت السنة الصصحيحة بخلافه لم يعتد به وسعد كان مراده أن يولوا رجلا من الأنصار وقد دلت النصوص الكثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الإمام من قريش فلو كان المخالف قرشيا واستقر خلافة لكان شبهة بل علي كان من قريش وقد تواتر أنه بايع الصديق طائعا مختارا الثاني أنه لو فرض خلاف هؤلاء الذين ذكرهم وبقدرهم مرتين لم يقدح ذلك في ثبوت الخلافة فإنه لا يشترط في الخلافة إلا اتفاق أهل الشوكة والجمهور الذين يقام بهم الأمر بحيث يمكن أن يقام بهم مقاصد الإمامة

8

337

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة وقال إن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد

8

338

وقال إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم والذئب إنما يأخذ القاصية وقال عليكم بالسواد الأعظم ومن شذ شذ في النار الثالث أن يقال إجماع الأمة على خلافة أبي بكر كان أعظم من اجتماعهم على مبايعة علي فإن ثلث الأمة أو أقل أو أكثر لم يبايعوا عليا بل قاتلوه والثلث الآخر لم يقاتلوا معه وفيهم من لم يبايعه أيضا والذين لم يبايعوه منهم من قاتلهم ومنهم من لم يقاتلهم فإن جاز القدح في الإمامة بتخلف بعض الأمة عن البيعة كان القدح في إمامة علي أولى بكثير

8

339

وإن قيل جمهور الأمة لم تقاتله أو قيل بايعه أهل الشوكة والجمهور أو نحو ذلك كان هذا في حق أبي بكر أولى وأحرى وإذا قالت الرافضة إمامة ثبتت بالنص فلا يحتاج إلى الإجماع والمبايعة قيل النصوص إنما دلت على خلافة أبي بكر لا على خلافة علي كما تقدم التنبيه عليه وكما سنذكره إن شاء الله تعالى ونبين أن النصوص دلت على خلافة أبي بكر الصديق وعلى أن عليا لم يكن هو الخليفة في زمن الخلفاء الثلاثة فخلافة أبي بكر لا تحتاج إلى الإجماع بل النصوص دالة على صحتها وعلى انتفاء ما يناقضها الرابع أن يقال الكلام في إمامة الصديق إما أن يكون في وجودها وإما أن يكون في استحقاقه لها أما الأول فهو معلوم بالتواتر واتفاق الناس بأنه تولى الأمر وقام مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفه في أمته وأقام الحدود واستوفى الحقوق وقاتل الكفار والمرتدين وولى الأعمال وقسم الأموال وفعل جميع ما يفعل الإمام بل هو أول من باشر الإمامة في الأمة وأما إن أريد بإمامته كونه مستحقا لذلك فهذا عليه أدلة كثيرة غير الإجماع فلا طريق يثبت بها كون علي مستحقا للإمامة إلا وتلك الطريق يثبت بها أن أبا بكر مستحق للإمامة وأنه أحق للإمامة من علي

8

340

وغيره وحينئذ فالإجماع لا يحتاج إليه في الأولى ولا في الثانية وإن كان الإجماع حاصلا فصل قال الرافضي وأيضا الإجماع ليس أصلا في الدلالة بل لا بد أن يستند المجمعون إلى دليل على الحكم حتى يجتمعوا عليه وإلا كان خطأ وذلك الدليل إما عقلي وليس في العقل دلالة على إمامته وإما نقلي وعندهم أن النبي صلى الله عليه وسلم مات من غير وصية ولا نص على إمام والقرآن خال منه فلو كان الإجماع متحققا كان خطأ فتنتفى دلالته والجواب من وجوه أحدها أن قوله الإجماع ليس أصلا في الدلالة إن أراد به أمر المجتمعين لا تجب طاعته لنفسه وإنما تجب لكونه دليلا على أمر الله ورسوله فهذا صحيح ولكن هذا لا يضر فإن أمر الرسول كذلك لم تجب طاعته لذاته بل لأن أطاع الرسول فقد أطاع

8

341

الله ففي الحقيقة لا يطاع أحد لذاته إلا الله له الخلق والأمر وله الحكم وليس الحكم إلا لله وإنما وجبت طاعة الرسول لأن طاعته طاعه الله ووجبت طاعة المؤمنين المجتمعين لأن طاعتهم طاعة الله والرسول ووجب تحكيم الرسول لأن حكمة حكم الله وكذلك تحكيم الأمة لأن حكمها حكم الله وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من أطاعني فقد أطاع الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصاني فقد عصى الله ومن عصى أميري فقد عصاني وقد قامت الأدلة الكثيرة على أن الأمة لا تجتمع على ضلالة بل ما أمرت به الأمة فقد أمر الله به ورسوله والأمة أمرت بطاعة أبي بكر في إمامته فعلم أن الله ورسوله أمرا بذلك فمن عصاه كان عاصيا لله ورسوله وإن أراد به أنه قد يكون موافقا للحق وقد يكون مخالفا له وهذا هو الذي أراده فهذا قدح في كون الإجماع حجة ودعوى أن الأمة قد تجتمع علي الضلالة والخطأ كما يقول ذلك من يقوله من الرافضة الموافقين للنظام وحينئذ فيقال كون علي إماما ومعصوما وغير ذلك من الأصول

8

342

الإمامية أثبتوه بالإجماع إذ عمدتهم في أصول دينهم على ما يذكرونه من من العقليات وعلى الإجماع وعلى ما ينقلونه فهم يقولون علم بالعقل لأنه لا بد للناس من إمام معصوم وإمام منصوص عليه وغير علي ليس معصوما ولا منصوصا عليه بالإجماع فيكون المعصوم هو عليا وغير ذلك من مقدمات حججهم فيقال لهم إن لم يكن الإجماع حجة فقد بطلت تلك الحجج فبطل ما بنوه على الإجماع من أصولهم فبطل قولهم وإذا بطل ثبت مذهب أهل السنة وإن كان الإجماع حقا فقد ثبت أيضا مذهب أهل السنة فقد تبين بطلان قولهم سواء قالوا الإجماع حجة أم لم يقولوا وإذا بطل قولهم ثبت مذهب أهل السنة وهو المطلوب وإن قالوا نحن ندع الإجماع ولا نحتج به في شيء من أصولنا وإنما عمدتنا العقل والنقل عن الأئمة المعصومين قيل لهم إذا لم تحتجوا بالإجماع لم يبق معكم حجة سمعية غير النقل المعلوم عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن ما ينقلونه عن علي وغيره من الأئمة لا يكون حجة حتى نعلم عصمة الواحد من هؤلاء

8

343

وعصمة الواحد من هؤلاء لا تثبت إلا بنقل عمن علم عصمته والمعلوم عصمتة هو الرسول فما لم يثبت نقل معلوم عن الرسول بما يقولونه لم يكن معهم حجة سمعية اصلا لا في اصول الدين ولا في فروعه وحينئذ فيرجع الأمر إلى دعوى خلافة علي بالنص فإن أثبتم النص بالإجماع فهو باطل لنفيكم كون الإجماع حجة وان لم تثبتوه إلا بالنقل الخاص الذي يذكره بعضكم فقد تبين تطلانه من وجوه وتبين أن ما ينقله الجمهور وأكثر الشيعة مما يناقض هذا القول يوجب علما يقينا بأن هذا كذب وهذه الأمور من تدبرها تبين له أن الإمامية لا يرجعون في شيء مما ينفردون به عن الجمهور إلى الحجة أصلا لا عقلية ولا سمعية ولا نص ولا إجماع وإنما عمدتهم دعوى نقل مكذوب يعلم أنه كذب أو دعوى دلالة نص أو قياس يعلم أنه لا دلالة له وهم وسائر أهل البدع كالخوارج والمعتزلة وإن كانوا عند التحقيق لا يرجعون إلى حجة صحيحة لا عقلية ولا سمعية وإنما لهم شبهات لكن حججهم اقوى من حجج الرافضة السمعية والعقلية أما السمعيات فإنهم لا يتعمدون الكذب كما تتعمده الرافضة ولهم في النصوص الصحيحة شبهة أقوى من شبه الرافضة وأيضا فإن سائر أهل البدع أعلم بالحديث والآثار منهم والرافضة أجهل الطوائف بالأحاديث والآثار وأحوال النبي صلى الله عليه وسلم

8

344

ولهذا يوجد في كتبهم وكلامهم من الجهل والكذب في المنقولات ما لا يوجد في سائر الطوائف وكذلك لهم في العقليات مقاييس هي مع ضعفها وفسادها أجود من مقاييس الرافضة وأيضا فنحن نشير إلى ما يدل على أن الإجماع حجة بالدلالة المبسوطة في غير هذا الموضع ولكل مقام مقال ونحن لا نحتاج في تقرير إمامة الصديق رضي الله عنه ولا غيره إلى هذا الإجماع ولا نشترط في إمامة أحد هذا الإجماع لكن هو لما ذكر أن أهل السنة اعتمدوا على الإجماع تكلمنا على ذلك فنشير إلى بعض ما يدل على صحة الإجماع فنقول أولا ما من حكم اجتمعت الأمة عليه إلا وقد دل عليه النص فالإجماع دليل على نص موجود معلوم عند الأئمة ليس مما درس علمه والناس قد اختلفوا في جواز الإجماع عن اجتهاد ونحن نجوز أن يكون بعض المجمعين قال عن اجتهاد لكن لا يكون النص خافيا على جميع المجتهدين وما من حكم يعلم أن فيه إجماعا إلا وفي الأمة من يعلم أن فيه نصا وحينئذ فالإجماع دليل على النص ولهذا قال تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى سورة النساء فعلق الوعيد

8

345

بمشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين مع العلم بأن مجرد مشاقة الرسول توجد الوعيد ولكن هما متلازمان فلهذا علقه بهما كما كما يعلقه بمعصية الله ورسوله وهما متلازمان أيضا وخلافة الصديق من هذا الباب فإن النصوص الكثيرة دلت على أنها حق وصواب وهذا مما لم يختلف العلماء فيه واختلفوا هل انعقدت بالنص الذي هو العهد كخلافة عمر أو بالإجماع والاختيار وأما دلالة النصوص على أنها حق وصواب فما علمت أحدا نازع فيه من علماء السنة كلهم يحتج على صحتها بالنصوص إذا كنا نبين أن ما انعقد عليه الإجماع فهو منصوص عليه كان ذكر الإجماع لأنه دليل على النص لا يفارقه البتة ومع هذا فنحن نذكر بعض ما يستدل به على الإجماع مطلقا ويستدل به على من يقول قد لا يكون معه نص كقوله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر سورة آل عمران فهذا يقتضي أنهم يأمرون بكل معروف وينهون عن كل منكر ومن المعلوم أن إيجاب ما أوجبه الله وتحريم ما حرمه الله هو من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل هو نفسه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيجب أن يوجبوا كل ما أوجبه الله ورسوله ويحرموا كل ما حرمه الله ورسوله وحينئذ فيمتنع أن يوجبوا حراما ويحرموا واجبا بالضرورة فإنه لا يجوز عليهم السكوت عن

8

346

الحق في ذلك فكيف نجوز السكوت عن الحق والتكلم بنقيضه من الباطل ولو فعلوا ذلك لكانوا قد أمروا بالمنكر ونهوا عن المعروف وهو خلاف النصر فلو كانت ولاية أبي بكر حراما وطاعته حراما منكرا لوجب أن ينهوا عن ذلك ولو كانت مبايعة علي واجبة لكان ذلك من أعظم المعروف الذي يجب أن يأمروا به فلما لم يكن كذلك أعلم أن مبايعة هذا إذ ذاك لم تكن معروفا ولا واجبا ولا مستحبا ومبايعة ذلك لم تكن منكرا وهو المطلوب وأيضا فقوله تعالى والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر سورة التوبة والاستدلال به كما تقدم وأيضا فقوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس سورة البقرة وقوله هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس سورة الحج ومن جعلهم الرب شهداء على الناس فلا بد أن يكونوا عالمين بما يشهدون به ذوي عدل في شهادتهم فلو كانوا يحللون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله ويوجبون ما عفا الله عنه ويسقطون ما أوجبه الله لم يكونوا كذلك وكذلك إذا كانوا يجرحون الممدوح ويمدحون المجروح

8

347

فإذا شهدوا أن أبا بكر أحق بالإمامة وجب أن يكونوا صادقين في هذه الشهادة عالمين بما شهدوا به وكذلك إذا شهدوا أن هذا مطيع لله وهذا عاص لله وهذا فعل ما يستحق عليه الثواب وهذا فعل ما يستحق عليه العقاب وجب قبول شهادتهم فإن الشهادة على الناس تتناول الشهادة بما فعلوه من مذموم ومحمود والشهادة بأن هذا مطيع وهذا عاص هي تتضمن الشهادة بأفعالهم وأحكام أفعالهم وصفاتهم وهو المطلوب وفي الصحيحين عن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال وجبت ومر عليه بجنازة فأثنوا عليها شرا فقال وجبت فقيل يا رسول الله ما قولك وجبت قال هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرا فقلت وجبت لها الجنة وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرا فقلت وجبت لها النار أنتم شهداء الله في الأرض وأيضا فقوله ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى الآية سورة النساء فإنه توعد على المشاقة للرسول واتباع غير سبيل المؤمنين وذلك يقتضي أن كلا منهما مذموم فإن مشاقة الرسول وحدها مذمومة بالإجماع فلو لم يكن الآخر

8

348

مذموما لكان قد رتب الوعيد على وصفين مذموم وغير مذموم وهذا لا يجوز ونظير هذا قوله تعالى والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا سورة الفرقان فإنه يقتضي أن كل واحد من الخصال الثلاثة مذموم شرعا وحينئذ فإذا كان المؤمنون قد أوجبوا أشياء وحرموا أشياء فخالفهم مخالف وقال إن ما أوجبوه ليس بواجب وما حرموه ليس بحرام فقد اتبع غير سبيلهم لأن المراد بسبيلهم اعتقاداتهم وأفعالهم وإذا كان كذلك كان مذموما ولو لم يكن سبيلهم صوابا وحقا لم يكن المخالف لهم مذموما وأيضا فقوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول سورة النساء فجعل وجوب الرد إلى الله والرسول معلقا بالتنازع والحكم المعلق بالشرط عدم عند عدمه فعلم أنه عند انتفاء التنازع لا يجب الرد إلى الله ورسوله فدل على أن إجماعهم إنما يكون على حق وصواب فإنه لو كان على باطل وخطأ لم يسقط عنهم وجوب الرد الى الكتاب والسنة لأجل باطلهم وخطئهم ولأن أمر الله ورسوله حق حال إجماعهم

8

349

ونزاعهم فإذا لم يجب الرد عليه عند الإجماع دل على أن الإجماع موافق له لا مخالف له فلما كان المستدل بالإجماع متبعا له في نفس الأمر لم يحتج إلى الرد إليه وأيضا قوله تعالى واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا سورة آل عمران أمرهم بالاجتماع ونهاهم عن الافتراق فلو كان في حال الاجتماع قد يكونون مطيعين لله تارة وعاصين له أخرى لم يجز أن يأمر به إلا إذا كان اجتماعا على طاعة والله أمر به مطلقا ولأنه لو كان كذلك لم يكن فرق بين الإجتماع والإفتراق لأن الإفتراق إذا كان معه طاعة كان مأمورا به مثل أن يكون الناس نوعين نوع يطيع الله ورسوله ونوع يعصيه فإنه يجب أن يكون مع المطيعين وإن كان في ذلك فرقة فلما أمرهم بالاجتماع دل على أنه مستلزم لطاعة الله وأيضا فإنه قال إنما وليكم الله ورسوله سورة المائدة فجعل موالاتهم كموالاة الله ورسوله وموالاة الله ورسوله لا تتم إلا بطاعة أمره وكذلك المؤمنون لا تتم موالاتهم إلا بطاعة أمرهم وهذا لا يكون إلا إذا كان أمرهم أمرا متفقا فإن أمر بعضهم بشيء وأمر آخر بضده لم يكن موالاة هذا بأولى من موالاة هذا فكانت الموالاة في حال النزاع بالرد إلى الله والرسول وأيضا فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة

8

350

متعددة الأمر بالاعتصام بالجماعة والمدح لها وذم الشذوذ وأن الخير والهدى والرحمة مع الجماعة وأن الله لم يكن ليجمع هذه الأمة على ضلالة وأنه لن يزال فيها طائفة ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم ولا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسا يستعملهم فيه بطاعة الله وأن خير هذه الأمة القرن الأول ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وقد روى الحاكم وغيره عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يجمع الله أمتي على الضلالة أبدا ويد الله على الجماعة وعن أبي ذر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

8

351

من خالف جماعة المسلمين شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه حتى يراجعه ومن مات وليس عليه إمام جماعة فإن ميتته ميتة جاهلية وعن الحارث الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم آمركم بخمس كلمات أمرني الله بهن الجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد فمن خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من رأسه إلا أن يرجع

8

352

وعن معاوية قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من فارق الجماعة شبرا دخل النار وعن ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من فارق أمته أو عاد أعرابيا بعد هجرته فلا حجة له وعن ربعي قال أتيت حذيفة ليالي سار الناس إلى عثمان فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من فارق الجماعة واستبدل الإمارة لقي الله ولا حجة له

8

353

وعن فضالة بن عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثلاثة لا يسأل عنهم رجل فارق الجماعة وعصى إمامه فمات عاصيا فذكر الحديث وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة المكتوبة إلى التي بعدها كفارة لما بينهما والجمعة إلى الجمعة والشهر إلى الشهر يعني رمضان كفارة لما بينهما قال بعد ذلك إلا من ثلاث فعرفت أن ذلك من أمر حدث فقال إلا من الإشراك بالله ونكث الصفقة وترك السنة وأن تبايع رجلا بيمينك ثم تخالف تقاتله بسيفك وترك السنة الخروج من الجماعة وعن النعمان بن بشير قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال نضر الله وجه امريء سمع مقالتي فحملها فرب حامل فقه

8

354

غير فقيه ورب حامل إلى من هو أفقه منه ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن إخلاص العمل لله ومناصحة ولاة ألأمر ولزوم جماعة المسلمين روى هذه الأحاديث الحاكم في المستدرك وذكر أنها على شرط الصحيح وذلك يقتضي أن اجتماع الأمة لا يكون إلا على حق وهدى وصواب وأن أحق الأمة بذلك هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يقتضى أن ما فعلوه من خلافة الصديق كان حقا وهدى وصوابا وأيضا فإن السلف كان يشتد إنكارهم على من يخالف الإجماع ويعدونه من أهل الزيغ والضلال فلو كان ذلك شائعا عندهم لم ينكروه وكانوا ينكرون عليه إنكارا هم قاطعون به لا يسوغون لأحد أن يدع الإنكار عليه فدل على أن الإجماع عندهم كان مقطوعا به

8

355

والعقول المتباينة لا تتفق على القطع من غير تواطؤ ولا تشاعر إلا لما يوجب القطع وإلا فلو لم يكن هناك ما يوجب القطع بل لا يوجب الظن لم تكن الطوائف الكثيرة مع تباين هممهم وقرائحهم وعدم تواطئهم يقطعون في موضع لا قطع فيه فعلم أنه كان عندهم أدلة قطعية توجب كون الإجماع حجة يجب اتباعها ويحرم خلافها وأيضا فإن السنة والشيعة اتفقوا على أنه إذا كان علي معهم كان إجماعهم حجة ولا يجوز أن يكون ذلك لأجل عصمة علي لأن عصمته لم تثبت إلا بالإجماع فإن عمدتهم في ذلك الإجماع على انتفاء العصمة من غيره إذ ليس في النص ولا المعقول ما ينفى العصمة عن غيره وهذا مما يبين تناقض الرافضة فإن أصل دينهم بنوه على الإجماع ثم قدحوا فيه والقدح فيه قدح في عصمة علي فلا يبقى لهم ما يعتمدون عليه وهذا شأنهم في عامة أقوالهم التي ينفردون بها ولهذا قال فيهم الشعبي يأخذون بأعجاز لا صدور لها أي بفروع لا أصول لها فإن كان الإجماع ليس بحجتهم لم تثبت عصمته وإن كان حجة لم يحتج إلى عصمته فثبت أنه على التقديرين لا يجوز أن يكون قولهم

8

356

حجة لأجل علي فلزم أن يكون الإجماع حجة وإلا لزم بطلان قول السنة والشيعة فصل قال الرافضي وأيضا الإجماع إما أن يعتبر فيه قول كل الأمة ومعلوم أنه لم يحصل بل ولا أجماع أهل المدينة أو بعضهم وقد أجمع أكثر الناس على قتل عثمان والجواب أن يقال أما الإجماع على إلإمامة فإن أريد به الإجماع الذي ينعقد به الإمامة فهذا يعتبر فيه موافقة أهل الشوكة بحيث يكون متمكنا بهم من تنفيذ مقاصد الإمامة حتى إذا كان رؤوس الشوكة عددا قليلا ومن سواهم موفق لهم حصلت الإمامة بمبايعتهم له هذا هو الصواب الذي عليه أهل السنة وهو مذهب الأئمة كأحمد وغيره وأما أهل الكلام فقدرها كل منهم بعدد وهي تقديرات باطلة وإن أريد به الإجماع على الإستحقاق والأولوية فهذا يعتبر فيه إما الجميع وإما المجهور وهذه الثلاثة حاصلة في خلافة أبي بكر وأما عثمان فلم يتفق على قتله إلا طائفة قليلة لا يبلغون نصف عشر عشر عشر الأمة كيف وأكثر جيش علي والذين قاتلوه والذين قعدوا عن القتال لم يكونوا من قتلة عثمان وإنما كان قتلة عثمان فرقة يسيرة من عسكر علي

8

357

والأمة كانوا في خلافة عثمان مئى ألوف والذين اتفقوا على قتله الألف أو نحوهم وقد قال عبدا لله بن الزبير يعيب قتلة عثمان خرجوا عليه كاللصوص من وراء القرية وقتلهم الله كل قتلة ونجا من نجا منهم تحت بطون الكواكب فصل قال الرافضي وأيضا كل واحد من الأمة يجوز عليه الخطأ فأي عاصم لهم عن الكذب عند الإجماع والجواب أن يقال من المعلوم إن الإجماع إذا حصل حصل له من الصفات ما ليس للآحاد لم يجز أن يجعل حكم الواحد الاجتماع فإن كل واحد من المخبرين يجوز عليه الغلط والكذب فإذا انتهى المخبرون إلى حد التواتر امتنع عليهم الكذب والغلط وكل واحد من اللقم والجرع والأقداح لا يشبع ولا يروى ولا يسكر فإذا اجتمع من ذلك عدد كثير أشبع وأروى وأسكر وكل واحد من الناس لا يقدر على قتال العدو فإذا اجتمع طائفة كثيرة قدروا على القتال فالكثرة تؤثر في زيادة القوة وزيادة العلم وغيرهما ولهذا قد يخطىء

8

358

الواحد والإثنان في مسائل الحساب فإذا كثر العدد امتنع ذلك فيما لم يكن يمتنع في حال الإنفراد ونحن نعلم بالإضطرار أن علم الإثنين أكثر من علم أحدهما إذا انفرد وقوتهما أكثر من قوته فلا يلزم من وقوع الخطأ حال الانفراد وقوعه حال الكثرة قال تعالى إن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى سورة البقرة والناس في الحساب قد يخطىء الواحد منهم ولا تخطىء الجماعة كالهلال فقد يظنه الواحد هلالا وليس كذلك فأما العدد الكثير فلا يتصور فيهم الغلط وتعلم أن المسلمين إذا اجتمعوا وكثروا يكون داعيهم إلى الفواحش والظلم أقل من داعيهم إذا كانوا قليلا فإنهم في حال الإجتماع لا يجتمعون على مخالفة شرائع الإسلام كما يفعله الواحد والإثنان فإن الإجتماع والتمدن لا يمكن إلا مع قانون عدلي فلا يمكن أهل مدينة أن يجتمعوا على إباحة ظلم بعضهم بعضا مطلقا لأنه لا حياة لهم مع ذلك بل نجد الأمير إذا ظلم بعض الرعية فلا بد أن يكون بعض أصحابه لا يظلم حين يظلم الرعية وما استووا كلهم فيه فليس فيه ظلم من بعضهم لبعض ومعلوم أن المجموع قد خالف حكمه حكم الأفراد سواء كان اجتماع أعيان أو أعراض ومن الأمثال التي يضربها المطاع لأصحابه أن السهم الواحد

8

359

يمكن كسره وإذا اجتمعت السهام لم يمكن كسرها والإنسان قد يغلبه عدوه ويهزمه فإذا صاروا عددا كثيرا لم يمكن ذلك كما كان يمكنه حال الانفراد وأيضا فإن كان الإجماع قد يكون خطأ لم يثبت أن عليا معصوم فإنه إنما علمت عصمته بالإجماع على أنه لا معصوم سواه فإذا جاز كون الإجماع أخطأ أمكن أن يكون في الأمة معصوم غيره وحينئذ فلا يعلم أنه هو المعصوم فتبين أن قدحهم في الإجماع يبطل الأصل الذي اعتمدوا عليه في إمامة المعصوم وإذا بطل أنه معصوم بطل أصل مذهب الرافضة فتبين أنهم إن قدحوا في الإجماع بطل أصل مذهبهم وإن سلموا أنه حجة بطل مذهبهم فتبين بطلان مذهبهم على التقديرين فصل قال الرافضي وقد بينا ثبوت النص الدال على إمامة أمير المؤمين فلو أجمعوا على خلافه لكان خطأ لأن الإجماع الواقع على خلاف النص يكون عندهم خطأ

8

360

والجواب من وجوه أحدها أنه قد تقدم ببيان بطلان كل ما دل على أنه إمام قبل الثلاثة الثاني أن النصوص إنما دلت على خلافة الثلاثة قبله الثالث أن يقال الإجماع المعلوم حجة قطعية لا سمعية لا سيما مع النصوص الكثيرة الموافقة له فلو قدر ورود خبر يخالف الإجماع كان باطلا إما لكون الرسول لم يقله وإما لكونه لا دلالة فيه الرابع أنه يمتنع تعارض النص المعلوم والإجماع المعلوم فإن كليهما حجة قطعية والقطعيات لا يجوز تعارضها لوجوب وجود مدلولاتها فلو تعارضت لزم الجمع بن النقيضين وكل من أدعى إجماعا يخالف نصا فأحد الأمرين لازم إما بطلان إجماعه وإما بطلان نصه وكل نص اجتمعت الأمة على خلافه فقد علم النص الناسخ له وأما أن يبقى في الأمة نص معلوم والإجماع مخالف له فهذا غير واقع وقد دل الإجماع المعلوم والنص المعلوم على خلافة الصديق رضي الله عنه وبطلان غيرها ونص الرافضة مما نحن نعلم كذبه بالاضطرار وعلى كذبه أدلة كثيرة

8

361

فصل قال الرافضي الثاني ما رووه عن النبي أنه قال اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر والجواب المنع من الرواية ومن دلالتها على الإمامة فإن الإقتداء بالفقهاء لا يستلزم كونهم أئمة وأيضا فإن أبا بكر وعمر قد اختلفا في كثير من الأحكام فلا يمكن الإقتداء بهما وأيضا فإنه معارض لما رووه من قوله أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم مع إجماعهم على انتفاء إمامتهم والجواب من وجوه أحدها أن يقال هذا الحديث بإجماع أهل العلم بالحديث أقوى من النص الذي يروونه في إمامة علي فإن هذا أمر معروف في كتب أهل الحديث المعتمدة ورواه أبو داود في سننه وأحمد في مسنده والترمذي في جامعه

8

362

وأما النص على علي فليس في شيء من كتب أهل الحديث المعتمدة وأجمع أهل الحديث على بطلانه حتى قال أبو محمد بن حزم وما وجدنا قط رواية عن أحد في هذا النص المدعى إلا رواية واهية عن مجهول إلى مجهول يكنى أبا الحمراء لا نعرف من هو في الخلق فيمتنع أن يقدح في هذا الحديث مع تصحيح النص على علي وأما الدلالة فالحجة في قوله باللذين من بعدي أخبر أنهما من بعده وأمر بالإقتداء بهما فلو كانا ظالمين أو كافرين في كونهما بعده لم يأمر بالإقتداء بهما فإنه لا يأمر بالإقتداء بالظالم فإن الظالم لا يكون قدوة يؤتم به بدليل قوله لا ينال عهدي الظالمين سورة البقرة فدل على أن الظالم لا يؤتم به والائتمام هو الإقتداء فلما أمر بالإقتداء بمن بعده والاقتداء هو الائتمام مع إخباره أنهما يكونان بعده دل على أنهما إمامان قد أمر بالائتمام بهما بعدت وهذا هو المطلوب وأما قوله اختلفا في كثير من الأحكام فليس الأمر كذلك بل

8

363

لا يكاد يعرف اختلاف أبي بكر وعمر إلا في الشيء اليسير والغالب أن يكون عن أحدهما فيه روايتان كالجد مع الإخوة فإن عمر عنه فيه روايتان إحداهما كقول أبي بكر وأما اختلافهما في قسمة الفيء هل يسوى فيه بين الناس أو يفضل فالتسوية جائزة بلا ريب كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم الفيء والغنائم فيسوى بين الغانمين ومستحقي الفيء والنزاع في جواز التفضيل وفيه للفقهاء قولان هما روايتان عن أحمد والصحيح جوازه للمصلحة فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفضل أحيانا في قسمة الغنائم والفيء وكان يفضل السرية في البدأة الربع بعد الخمس وفي الرجعة الثلث بعد الخمس فما فعله الخليفتان فهو جائز مع أنه قد روى عن عمر أنه أختار في آخر عمره التسوية وقال لئن عشت إلى قابل لأجعل الناس بابا واحدا وروى عن عثمان التفضيل وعن علي التسوية ومثل هذا لا يسوغ فيه إنكار إلا أن يقال فضل من لا يستحق التفضيل كما أنكر على عثمان في بعض قسمه وأما تفضيل عمر فما بلغنا أن أحدا ذمه فيه وأما تنازعهما في تولية خالد وعزله فكل منهما فعل ما كان أصلح فكان الأصلح لأبي بكر تولية خالد لأن أبا بكر ألين من عمر فينبغي لنائبه أن يكون أقوى من نائب عمر فكانت استنابة عمر لأبي عبيدة أصلح له واستنابة أبي بكر لخالد أصلح له ونظائر هذا متعددة

8

364

وأما الأحكام التي هي شرائع كلية فاختلافهما فيها إما نادر وإم معدوم وإما لأحدهما فيه قولان وأيضا فيقال النص يوجب الإقتداء بهما فيما اتفقا عليه وفيما اختلفا فيه فتسويغ كل منهما المصير إلى قول الآخر متفق عليه بينهما فإنهما اتفقا على ذلك وأيضا فإذا كان الإقتداء بهما يوجب الإئتمام بهما فطاعة كل منهما إذا كان إماما وهذا هو المقصود وأما بعد زوال إمامته فالإقتداء بهما أنهما إذا تنازعا رد ما تنازعا فيه إلى الله والرسول وأما قوله أصحابي كالنجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم فهذا الحديث ضعيف ضعفه أهل الحديث قال البزار هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس هو في كتب الحديث المعتمدة وأيضا فليس فيه لفظ بعدي والحجة هناك قوله بعدي وأيضا فليس فيه الأمر بالإقتداء بهم وهذا فيه الأمر بالإقتداء بهم فصل قال الرافضي الثالث ما ورد فيه من الفضائل كآية

8

365

الغار وقوله تعالى وسيجنبها الأتقى سورة الليل وقوله قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولى بأس شديد سورة الفتح والداعي هو أبو بكر وكان أنيس رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش يوم بدر وأنفق على النبي صلى الله عليه وسلم وتقدم في الصلاة قال والجواب أنه لا فضيلة له في الغار لجواز أن يستصحبه حذرا منه لئلا يظهر أمره وأيضا فإن الآية تدل على نقيضه لقوله لا تحزن فإنه يدل على خوره وقله صبره وعدم يقينه بالله تعالى وعدم رضا بمساواته النبي صلى الله عليه وسلم وبقضاء الله وقدره ولأن الحزن إن كان طاعة استحال أن ينهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان معصية كان ما ادعوه من الفضيلة رذيلة وأيضا فإن القرآن حيث ذكر إنزال السكينة على رسول الله

8

366

شرك معه المؤمنين إلا في هذا الموضع ولا نقص أعظم منه وأما وسيجنبها الأتقى فإن المراد أبو الدحداح حيث اشترى نخلة شخص لأجل جاره وقد عرض النبي صلى الله عليه وسلم على صاحب النخلة نخلة في الجنة فأبى فسمع أبو الدحداح فاشتراها ببستان له ووهبها الجار فجعل النبي صلى الله عليه وسلم عوضها له بستانا في الجنة وأما قوله تعالى قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد سورة الفتح يريد سندعوكم إلى قوم فإنه أراد الذين تخلفوا عن الحديبية والتمس هؤلاء أن يخرجوا إلى غنيمة خيبر فمنعهم الله تعالى بقوله قل لن

8

367

تتبعونا سورة الفتح لأنه تعالى جعل غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية ثم قال قل للمخلفين من الأعراب ستدعون سورة الفتح يريد سندعوكم فيما بعد إلى قتال قوم أولى بأس شديد وقد دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوات كثيرة كمؤتة وحنين وتبوك وغيرهما فكان الداعي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيضا جاز أن يكون علي هو الداعي حيث قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين وكان رجوعهم إلى طاعته إسلاما لقوله عليه الصلاة والسلام يا علي حربك حربي وحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر وأما كونه أنيسه في العريش يوم بدر فلا فضل فيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أنسه بالله تعالى مغنيا له عن كل أنيس لكن لما عرف النبي صلى الله عليه وسلم أن أمره

8

368

لأبي بكر بالقتال يؤدي إلى فساد الحال حيث هرب عدة مرات في غزواته وإنما أفضل القاعد عن القتال أو المجاهد بنفسه في سبيل الله وأما إنفاقه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكذب لأنه لم يكن ذا مال فإن أباه كان فقيرا في الغاية وكان ينادي على مائدة عبد الله بن جدعان بمد كل يوم يقتات به فلو كان أبو بكر غنيا لكفى أباه وكان أبو بكر في الجاهلية معلما للصبيان وفي الإسلام كان خياطا ولما ولي أمر المسلمين منعه الناس عن الخياطة فقال إني محتاج إلى القوت فجعلوا له كل يوم ثلاثة دراهم من بيت المال والنبي

8

369

الله عليه وسلم كان قبل الهجرة غنيا بمال خديجة ولم يحتج إلى الحرب وتجهيز الجيوش وبعد الهجرة لم يكن لأبي بكر ألبتة شيء ثم لو أنفق لوجب أن ينزل فيه قرآن كما نزل في علي هل أتى سورة الإنسان ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم أشرف من الذين تصدق عليهم أمير المؤمين والمال الذي يدعون إنفاقه أكثر فحيث لم ينزل فيه قرآن دل على كذب النقل وأما تقديمه في الصلاة فخطأ لأن بلالا لما أذن بالصلاة أمرته عائشة أن يقدم أبا بكر ولما أفاق النبي صلى الله عليه وسلم سمع التكبير فقال من يصلي بالناس فقالوا أبو بكر

8

370

فقال أخرجوني فخرج بين علي والعباس فنحاه عن القبلة وعزله عن الصلاة وتولى هو الصلاة قال الرافضي فهذه حال أدلة القوم فلينظر العاقل بعين الإنصاف وليقصد اتباع الحق دون اتباع الهوى ويترك تقليد الآباء والأجداد فقد نهى الله تعالى في كتابه عن ذلك ولا تلهيه الدنيا عن إيصال الحق إلى مستحقه ولا

8

371

يمنح المستحق عن حقه فهذا آخر ما أردنا إثباته في هذه المقدمة والجواب أن يقال في هذا الكلام من الأكاذيب والبهت والفرية ما لا يعرف مثله لطائفة من طوائف المسلمين ولا ريب أن الرافضة فيهم شبه قوى من اليهود فإنهم قوم بهت يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون وظهور فضائل شيخي الإسلام أبي بكر وعمر أظهر بكثير عند كل عاقل من فضل وغيرهما فيريد هؤلاء الرافضة قلب الحقائق ولهم نصيب من قوله تعالى فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه فمن أظلم ممن افترى الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون سورة يونس ونحو هذه الآيات فإن القوم من أعظم الفرق تكذيبا بالحق وتصديق بالكذب وليس في الإمة من يماثلهم في ذلك

8

372

أما قوله لا فضيلة في الغار فالجواب أن الفضيلة في الغار ظاهرة بنص القرآن لقوله تعالى إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا سورة التوبة فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله معه ومع صاحبه كما قال لموسى وهارون إنني معكما أسمع وأرى سورة طه وقد أخرجا في الصحيحين من حديث أنس عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال نظرت إلى إقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار فقلت يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا فقال يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما وهذا الحديث مع كونه مما اتفق أهل العلم بالحديث على صحته وتلقيه بالقبول والتصديق فلم يختلف في ذلك اثنان منهم فهو مما دل القرآن على معناه يقول إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا سورة التوبة والمعية في كتاب الله على وجهين عامة وخاصة فالعامة كقوله تعالى هو الذي خلق السموات والأرض في سنة أيام ثم استوى على

8

373

العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم الآية سورة الحديد وقوله ألم تر أن الله يعلم ما في السموات والأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما علموا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم سورة المجادلة فهذه المعية عامة لكل متناجين وكذلك الأولى عامة لجميع الخلق ولما أخبر سبحانه في المعية أنه رابع الثلاثة وسادس الخمسة قال النبي صلى الله عليه وسلم ما ظنك باثنين الله ثالثهما فإنه لما كان معهما كان ثالثهما كما دل القرآن على معنى الحديث الصحيح وإن كان هذه معية خاصة وتلك عامة وأما المعية الخاصة فكقوله تعالى لما قال لموسى وهارون لا تخافا انني معكما اسمع وأرى سورة طه فهذا تخصيص لهما دون فرعون وقومه فهو مع موسى وهارون دون فرعون وكذلك لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر لا تحزن إن الله معنا كان معناه إن الله معنا دون المشركين الذين يعادونهما

8

374

ويطلبونهما كالذين كانوا فوق الغار ولو نظر أحدهم إلى قدميه لأبصر ما تحت قدميه وكذلك قوله تعالى إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون سورة النحل فهذا تخصيص لهم دون الفجار والظالمين وكذلك قوله تعالى إن الله مع الصابرين سورة البقرة تخصيص لهم دون الجازعين وكذلك قوله تعالى ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي الآية سورة المائدة وقال إذ يوحى ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سورة الأنفال وفي ذكره سبحانه للمعية عامة تارة وخاصة أخرى ما يدل على أنه ليس المراد بذلك أنه بذاته في كل مكان أو أن وجوده عين وجود المخلوقات ونحو ذلك من مقالات الجهمية الذين يقولون بالحلول العام والاتحاد العام أو الوحدة العامة لأنه على هذا القول لا يختص بقوم دون قوم ولا مكان دون مكان بل هو في الحشوش على هذا القول وأجواف البهائم كما هو فوق العرش فإذا أخبر أنه مع قوم دون قوم كان هذا مناقضا لهذا المعنى لأنه على هذا القول لا يختص

8

375

بقوم دون قوم ولا مكان دون مكان بل هو في الحشوش على هذا القول كما هو فوق العرش والقرآن يدل على اختصاص المعية تارة وعمومها أخرى فعلم أنه ليس المراد بلفظ المعية اختلاطه وفي هذا أيضا رد على من يدعى أن ظاهر القرآن هو الحلول لكن يتعين تأويله على خلاف ظاهره ويجعل ذلك أصلا يقيس عليه ما يتأوله من النصوص فيقال له قولك إن القرآن يدل على ذلك خطأ كما أن قول قرينك الذي اعتقد هذا المدلول خطأ وذلك لوجوه أحدها أن لفظ مع في لغة العرب إنما تدل على المصاحبة والموافقة والاقتران ولا تدل على أن الأول مختلط بالثاني في عامة موارد الإستعمال كقوله تعالى محمد رسول الله والذين معه سورة الفتح لم يرد أن ذواتهم مختلطة بذاته وقوله اتقوا الله وكونوا مع الصادقين سورة التوبة وكذلك قوله والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم سورة الانفال وكذلك قوله عن نوح وما آمن معه إلا قليل سورة هود

8

376

وقوله عن نوح أيضا فأنجيناه والذين معه في الفلك الآية سورة الأعراف وقوله عن هود فأنجيناه والذين معه برحمة منا سورة الأعراف وقول قوم شعيب لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا سورة الأعراف وقوله إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين الآية سورة النساء وقوله وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين سورة الأنعام وقوله ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم سورة المائدة وقوله ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم سورة الحشر وقوله عن نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم سورة هود وقوله وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين سورة الأعراف

8

377

وقوله فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين سورة التوبة وقوله رضوا بأن يكونوا مع الخوالف سورة التوبة وقال لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم سورة التوبة ومثل هذا كثير في كلام الله تعالى وسائر الكلام العربي وإذا كان لفظ مع إذا استعملت في كون المخلوق مع المخلوق لم تدل على اختلاط ذاته بذاته فهي أن لا تدل على ذلك في حق الخالق بطريق الأولى فدعوى ظهورها في ذلك باطل من وجهين أحدهما أن هذا ليس معناها في اللغة ولا اقترن بها في الاستعمال ما يدل على الظهور فكان الظهور منتفيا من كل وجه الثاني أنه إذا انتفى الظهور فيما هو أولى به فانتفاؤه فيما هو أبعد عنه أولى الثاني أن القرآن قد جعل المعية خاصة أكثر مما جعلها عامة ولو كان المراد اختلاط ذاته بالمخلوقات لكانت عامة لا تقبل التخصيص الثالث أن سياق الكلام أوله وآخره يدل على معنى المعية كما

8

378

قال تعالى في آية المجادلة ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله كل شيء عليم سورة المجادلة فافتتحها بالعلم وختمها بالعلم فعلم أنه أراد عالم بهم لا يخفى عليه منهم خافية وهكذا فسرها السلف الإمام أحمد ومن قبله من العلماء كابن عباس والضحاك وسفيان الثوري وفي آية الحديد قال ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ننزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير سورة الحديد فختمها أيضا بالعلم وأخبر أنه مع استوائه على العرش يعلم هذا كله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال والله فوق عرشه وهو يعلم ما أنتم عليه فهناك أخبر بعموم العلم لكل نجوى

8

379

وهنا أخبر أنه مع علوه على عرشه يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج

8

380

منها وهو من العباد أينما كانوا يعلم أحوالهم والله بما يعملون بصير وأما قوله إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون سورة النحل فقد دل السياق على أن المقصود ليس مجرد علمه وقدرته بل هو معهم في ذلك بتأييده ونصره وأنه يجعل للمتقين مخرجا ويرزقهم من حيث لا يحتسبون وكذلك قوله لموسى وهارون إننس معكما أسمع وأرى سورة طه فإنه معهما بالتأييد والنصر والإعانة على فرعون وقومه كما إذا رأى الإنسان من يخاف فقال له من ينصره نحن معك اي معاونوك وناصروك على عدوك

8

381

وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لصديقه إن الله معنا يدل على أنه موافق لهما بالمحبة والرضا فيما فعلاه وهو مؤيد لهما ومعين وناصر وهذا صريح في مشاركة الصديق للنبي في هذه المعية التي اختص بها الصديق لم يشركه فيها أحد من الخلق والمقصود هنا أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر إن الله معنا هي معية الاختصاص التي تدل على أنه معهم بالنصر والتأييد والإعانة على عدوهم فيكون النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن الله ينصرني وينصرك يا أبا بكر على عدونا ويعيننا عليهم ومعلوم أن نصر الله نصر إكرام ومحبة كما قال تعالى إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا سورة غافر وهذا غاية المدح لأبي بكر إذ دل على أنه ممن شهد له الرسول بالإيمان المقتضى نصر الله له مع رسوله وكان متضمنا شهادة الرسول له بكمال الإيمان المقتضى نصر الله له مع رسوله في مثل هذه الحال التي بين الله فيها غناه عن الخلق فقال إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار سورة التوبة ولهذا قال سفيان بن عيينة وغيره إن الله عاتب الخلق جميعهم في نبيه إلا أبا بكر وقال من أنكر صحبة أبي بكر فهو كافر لأنه كذب القرآن

8

382

وقال طائفة من أهل العلم كأبي القاسم السهيلي وغيره هذه المعية الخاصة لم تثبت لغير أبي بكر وكذلك قوله ما ظنك باثنين الله ثالثهما بل ظهر اختصاصهما في اللفظ كما ظهر في المعنى فكان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم محمد رسول الله فلما تولى أبو بكر بعده صاروا يقولون وخليفة رسول الله فيضيفون الخليفة إلى رسول الله المضاف إلى الله والمضاف إلى المضاف مضاف تحقيقا لقوله إن الله معنا ما ظنك باثنين الله ثالثهما ثم لما تولى عمر بعده صاروا يقولون أمير المؤمنين فانقطع الاختصاص الذي امتازه به أبو بكر عن سائر الصحابة ومما يبين هذا أن الصحبة فيها عموم وخصوص فيقال صحبة ساعة ويوما وجمعة وشهرا وسنة وصحبة عمره كله وقد قال تعالى والصاحب بالجنب سورة النساء قيل هو الرفيق في السفر وقيل الزوجة وكلاهما تقل صحبته وتكثر وقد سمى الله الزوجة صاحبة في قوله أني يكون له ولد ولم تكن له صاحبة سورة الأنعام ولهذا قال أحمد بن حنبل في الرسالة التي رواها عبدوس بن مالك

8

383

عنه من صحب النبي صلى الله عليه وسلم سنة أو شهرا أو يوما أو ساعة أو رآه مؤمنا به فهو من أصحابه له من الصحبة على قدر ما صحبه وهذا قول جماهير العلماء من الفقهاء وأهل الكلام وغيرهم يعدون في أصحابه من قلت صحبته ومن كثرت وفي ذلك خلاف ضعيف والدليل على قول الجمهور ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس فيقال هل فيكم من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون نعم فيفتح لهم ثم يغزو فئام من الناس فيقال هل فيكم من رأى من صحب النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون نعم فيفتح لهم ثم يغزو فئام من الناس فيقال هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون نعم فيفتح لهم وهذا لفظ مسلم وله في رواية أخرى يأتي على الناس زمان يبعث منهم البعث فيقولون انظروا هل تجدون فيكم أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيوجد الرجل فيفتح لهم به

8

384

ثم يبعث البعث الثاني فيقولون هل فيكم من رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون نعم فيفتح لهم به ثم يبعث البعث الثالث فيقال انظروا هل ترون فيكم من رأى من رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون نعم ثم يكون البعث الرابع فيقال هل ترون فيكم أحدا رأى من رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيوجد الرجل فيفتح لهم به ولفظ البخاري ثلاث مرات كالرواية الأولى لكن لفظه يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس وكذلك قال في الثانية والثالثة وقال فيها كلها صحب واتفقت الروايات على ذكر الصحابة والتابعين وتابعيهم وهم القرون الثلاثة وأما القرن الرابع فهو في بعضها وذكر القرن الثالث ثابت في المتفق عليه من غير وجه كما في الصحيحين عن أبن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خير أمتي القرن الذين يلونني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجئ قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته

8

385

وفي الصحيحين عن عمران أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم قال عمران فلا أدري أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قرنه قرنين أو ثلاثة ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون وفي رواية ويحلفون ولا يستحلفون فقد شك عمران في القرن الرابع وقوله يشهدون ولا يستشهدون حمله ظائفة من العلماء على مطلق الشهادة حتى كرهوا أن يشهد الرجل بحق قبل أن يطلب منه المشهود له إذا علم الشهادة وجمعوا بذلك بين هذا وبين قوله ألا أخبركم بخير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها وقال طائفة أخرى إنما المراد ذمهم على الكذب أي يشهدون

8

386

بالكذب كما ذمهم على الخيانة وترك الوفاء فإن هذه من آيات النفاق التي ذكرناها في قوله آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان أخرجاه في الصحيحين وأما الشهادة بالحق إذا أداها الشاهد لمن علم أنه محتاج إليها ولم يسأله ذلك فقد قام بالقسط وأدى الواجب قبل أن يسأله وهو أفضل ممن لا يؤديه إلا بالسؤال كمن له عند غيره أمانة فأدها قبل أن يسأله أداءها حيث يحتاج إليها صاحبها وهذا أفضل من أن يحوج صاحبها إلى ذل السؤال وهذا أظهر القولين وهذا يشبه اختلاف الفقهاء في الخصم إذا ادعى ولم يسأل الحاكم سؤال المدعي عليه هل يسأله الجواب والصحيح أنه يسأله الجواب ولا يحتاج ذلك إلى سؤال المدعي لأن دلالة الحال تغني عن السؤال ففي الحديث الأول هل فيكم من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال هل فيكم من رأى من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدل على أن الرائي هو الصاحب وهكذا يقول في سائر الطبقات في السؤال هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول الله ثم يكون المراد بالصاحب الرائي

8

387

وفي الرواية الثانية هل تجدون فيكم أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يقال في الثالثة هل فيكم من رأى من رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعلوم إن كان الحكم لصاحب الصاحب معلقا بالرؤية ففي الذي صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى والأخرى ولفظ البخاري قال فيها كلها صحب وهذه الألفاظ إن كانت كلها من ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي نص في المسألة وإن كان قد قال بعضها والراوي مثل أبي سعيد يروي اللفظ بالمعنى فقد دل على أن معنى أحد اللفظين عندهم هو معنى الآخر وهم أعلم بمعاني ما سمعوه من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيضا فإن كان لفظ النبي صلى الله عليه وسلم رأى فقد حصل المقصود وإن كان لفظه صحب في طبقة أو طبقات فإن لم يرد به الرؤية لم يكن قد بين مراده فإن الصحبة اسم جنس ليس لها حد في الشرع ولا في اللغة والعرف فيها مختلف والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقيد الصحبة بقيد ولا قدرها بقدر بل علق الحكم بمطلقها ولا مطلق لها إلا الرؤية

8

388

وأيضا فإنه يقال صحبه ساعة وصحبه سنة وشهرا فتقع على القليل والكثير فإذا أطلقت من غير قيد لم يجز تقييدها بغير دليل بل تحمل على المعنى المشترك بين سائر موارد الإستعمال ولا ريب أن مجرد رؤية الإنسان لغيره لا توجب أن يقال قد صحبه ولكن إذا رآه على وجه الاتباع له والاقتداء به دون غيره والاختصاص به ولهذا لم يعتد برؤية من رأى النبي صلى الله عليه وسلم من الكفار والمنافقين فإنهم لم يروه من قصده أن يؤمن به ويكون من أتباعه وأعوانه المصدقين له فيما أخبر المطيعين له فيما أمر الموالين له المعادين لمن عاداه الذي هو أحب إليهم من أنفسهم وأموالهم وكل شيء وامتاز أبو بكر عن سائر المؤمنين بأن رآه وهذه حاله معه فكان صاحبا له بهذا الاعتبار ودليل ثان ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال وددت أني رأيت إخواني قالوا يا رسول الله أولسنا إخوانك قال بل أنتم أصحابي وإخواني الذين يأتون بعدي يؤمنون بي ولم يروني

8

389

ومعلوم أن قوله إخواني أراد به إخواني الذين ليسوا بأصحابي وأما أنتم فلكم مزية الصحبة ثم قال قوم يأتون بعدي يؤمنون بي ولم يروني فجعل هذا حدا فاصلا بين إخوانه الذين ود أن يراهم وبين أصحابه فدل على أن من آمن به ورآه فهو من أصحابه لا من هؤلاء الإخوان الذين لم يرهم ولم يروه فإذا عرف أن الصحبة اسم جنس تعم قليل الصحبة وكثيرها وأدناها أن يصحبه زمنا قليلا فمعلوم أن الصديق في ذروة سنام الصحبة وأعلى مراتبها فإنه صحبه من حين بعثه الله إلى أن مات وقد أجمع الناس على أنه أول من آمن به من الرجال الأحرار كما أجمعوا على أن أول من آمن به من النساء خديجة ومن الصبيان علي ومن الموالي زيد بن حارثة وتنازعوا في أول من نطق بالإسلام بعد خديجة فإن كان أبو بكر أسلم قبل علي فقد ثبت أنه أسبق صحبة كما كان أسبق إيمانا وإن كان علي أسلم قبله فلا ريب أن صحبة أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم كانت أكمل وأنفع له من صحبة علي ونحوه فإنه شاركه في الدعوة فأسلم على يديه أكابر أ هل الشورى كعثمان وطلحة والزبير

8

390

وسعد وعبد الرحمن وكان يدفع عنه من يؤذيه ويخرج معه إلى القبائل ويعينه في الدعوة وكان يشتري المعذبين في الله كبلال وعمار وغيرهما فإنه اشترى سبعة من المعذبين في الله فكان أنفع الناس له في صحبته مطلقا ولا نزاع بين أهل العلم بحال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن مصاحبة أبي بكر له كانت أكمل من مصاحبة سائر الصحابة من وجوه أحدها أنه كان أدوم اجتماعا به ليلا ونهارا وسفرا وحضرا كما في الصحيحين عن عائشة أنها قالت لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين ولم يمض علينا يوم إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يأتينا فيه طرفي النهار فكان النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر يذهب إلى أبي بكر طرفي النهار والإسلام إذا ذاك ضعيف والأعداء كثيرة وهذا غاية الفضيلة والاختصاص في الصحبة وأيضا فكان أبو بكر يسمر عند النبي صلى الله عليه وسلم بعد العشاء يتحدث معه في أمور المسلمين دون غيره من أصحابه وأيضا فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استشار أصحابه أول من يتكلم أبو بكر في الشورى وربما تكلم غيره وربما لم يتكلم غيره فيعمل برأيه وحده فإذا خالفه غيره اتبع رأيه دون رأي من يخالفه

8

391

فالأول كما في الصحيحين أنه شاور أصحابه في أسارى بدرفتكلم أبو بكر فروى مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال لما أسر الأسارى يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر ما ترون في هؤلاء الأسارى فقال أبو بكر هم بنو العم والعشيرة فأرى أن تقبل منهم الفدية فتكون لنا قوة على الكفار فقال عمر لا والله يا رسول الله ما أرى ما رأى أبو بكر ولكن أن تمكننا فنضرب أعناقهم تمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه وتمكن حمزة من العباس فيضرب عنقه وتمكنني من فلان قريب لعمر فأضرب عنقه وأشار ابن رواحة بتحريقهم فاختلف أصحابه فمنهم من يقول الرأي ما رأى أبو بكر ومنهم من يقول الرأي ما رأى عمر ومنهم من يقول الرأي ما رأى ابن رواحة قال فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت وذكر تمام الحديث وأما الثاني ففي يوم الحديبية لما شاورهم على أن يغير على ذرية الذين أعانوا قريش أو يذهب إلى البيت فمن صده قاتله والحديث معروف عند أهل العلم أهل التفسير والمغازي والسير والفقه والحديث رواه البخاري ورواه أحمد في مسنده حدثنا عبد الرزاق عن معمر قال قال الزهري أخبرني عروة بن

8

392

الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم يصدق كل منهما صاحبه قالا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه حتى إذا كانوا بذي الحليفة قلد رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدى وأشعره وأحرم بعمرة وبعث بين يديه عينا له من خزاعة يخبره عن قريش وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بغدير الأشطاط قريب من عسفان أتاه عينه الخزاعي فقال إني قد تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد جمعوا لك الأحابيش قال أحمد وقال يحيى بن سعيد عن ابن المبارك قد جمعوا لك الأحابيش وجمعوا لك جموعا وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت فقال النبي صلى الله عليه وسلم أشيروا علي أترون أن أميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم فإن قعدوا قعدوا موتورين محروبين وإن نجوا يكن عنقا قطعها الله أو ترون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه فقال أبو بكر الله ورسوله أعلم يا نبي الله إنما جئنا معتمرين ولم نجئ لقتال أحد ولكن من

8

393

حال بيننا وبين البيت قاتلناه قال النبي صلى الله عليه وسلم فروحوا إذا قال الزهري وكان أبو هريرة يقول ما رأيت أحدا قط كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الزهري حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم فراحوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق ومن هنا رواه البخاري من طريق ورواه في المغازي والحج وقال الزهري في حديث المسور الذي اتفق عليه أحمد والبخاري حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي صلى الله عليه وسلم إن خالد ابن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين فو الله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش فانطلق يركض نذيرا لقريش وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط

8

394

عليهم منها بركت به راحلته فقال الناس حل حل فألحت فقالوا خلأت القصواء خلأت القصواء فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل ثم قال والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها ثم زجرها فوثبت قال فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه الناس تبرضا فلم يلبث الناس أن نزحوه وشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش فانتزع سهما من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه فو الله مازال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه فبينما هم كذلك إذا جاء بديل بن ورقاء الخزاعي ونفر من قومه من خزاعة وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة وفي لفظ لأحمد مسلمهم ومشركهم فقال إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحدينية ومعهم العوذ المطافيل وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت

8

395

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا لم نجئ لقتال أحد ولكنا جئنا معتمرين فإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم فإن شاؤوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس فإن أظهر فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جموا وإن هم أبوا فو الذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ولينفذن الله أمره قال بديل سأبلغهم ما تقول فانطلق حتى أتى قريشا فقال إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل وسمعناه يقول قولا فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا فقال سفهاؤهم لا حاجةلنا أن تخبرنا عنه بشئ وقال ذوو الرأي منهم هات ما سمعته يقول قال سمعته يقول كذا وكذا فحدثهم بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام عروة بن مسعود فقال أي قوم ألستم بالوالد قالوا بلى قال أولست بالولد قالوا بلى قال فهل تتهموني قالوا لا قال ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني قالوا بلى قال فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها منه ودعوني آته قالوا اءته فأتاه

8

396

فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم له نحوا من قوله لبديل فقال عروة عند ذلك أي محمد أرأيت إن استأصلت قومك هل سمعت أحدا من العرب اجتاح أصله قبلك وإن تكن الأخرى فإني والله لأرى وجوها وإني لأرى أوباشا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك ولفظ أحمد خلقاء أن يفروا ويدعوك فقال له أبو بكر رضي الله عنه امصص بظر اللات أنحن نفر عنه وندعه فقال من ذا قالوا أبو بكر قال أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فكلما كلمه أخذ بلحيته والمغيرة قائم على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر فكلما أهوى عروة بيده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف ويقول أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع عروة رأسه فقال من ذا قالوا المغيرة بن شعبة

8

397

قال أي غدر أو لست أسعى في غدرتك وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما الإسلام فأقبل وأما المال فلست منه في شئ ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينيه قال فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون النظر إليه تعظيما له فرجع عروة إلى أصحابه فقال أي قوم والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي والله إن رأيت ملكا عظيما قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا والله إن تنخم بنخامة إلا وقعت في يد رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده

8

398

وما يحدون النظر إليه تعظيما له وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها فقال رجل من كنانة دعوني آته فقالوا ائته فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له فبعثت له واستقبله الناس يلبون فلما رأى ذلك قال سبحان الله ما ينبغي لهذا أن يصد عن البيت فلما رجع إلى أصحابه قال رأيت البدن قد قلدت وأشعرت فما أرى أن يصد عن البيت فقام رجل يقال له مرز بن حفص فقال دعوني آته فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا مكرز بن حفص وهو رجل فاجر فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فبينما هو يكلمه جاء سهيل بن عمرو قال معمر فأخبرني أيوب عن عكرمة أنه لما جاء سهيل قال النبي صلى الله عليه وسلم قد سهل لكم من أمركم قال معمر عن الزهري في حديثه فجاء سهيل فقال له هات اكتب بيننا وبينك كتابا فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب فقال النبي صلى الله عليه وسلم

8

399

اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل أما الرحمن فما أدري ما هو ولكن اكتب باسمك اللهم كماكنت تكتب فقال المسلمون والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم فقال النبي صلى الله عليه وسلم اكتب باسمك اللهم ثم قال هذا ما قاضي عليه محمد رسول الله فقال سهيل والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب محمد بن عبد الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم والله إني لرسول الله وإن كذبتموني اكتب محمد بن عبد الله قال الزهري وذلك لقوله لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها قال النبي صلى الله عليه وسلم على أن تخلوا بيننا وبين المسجد الحرام نطوف به فقال سهيل والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة ولكن ذاك من العام المقبل فكتب وقال سهيل وعلى أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا قال المسلمون سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل

8

400

ابن عمرو يرسف في قيوده وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين فقال سهيل هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي قال فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنا لم نقض الكتاب بعد قال فوالله إذا لا أصالحك على شئ أبدا قال النبي صلى الله عليه وسلم فأجزه لي قال ما أنا مجيزه قال بلى فافعل قال ما أنا بفاعل قال مكرز بلى قد أجزناه لك قال أبو جندل أي معاشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما ألا ترون ما قد لقيت وقد كان عذب عذابا شديدا في الله فقال عمر فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت ألست نبي الله حقا قال بلى قال قلت ألسنا على الحق وعدونا على الباطل قال بلى قلت فلم نعطي الدنية في ديننا إذا قال إني رسول الله ولست آعصيه وهو ناصري قلت أو لست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به قال فأخبرتك أنك آتيه العام قلت لا قال فإنك آتيه ومطوف به قال فأتيت أبا بكر فقلت يا أبا بكر أليس

8

401

هذا نبي الله حقا قال بلى قلت ألسنا على الحق وعدونا على الباطل قال بلى قلت فلم نعطي الدنية في ديننا إذا قال أيها الرجل إنه رسول الله وليس يعصي ربه وهو ناصره فاستمسك بغرزة فوالله إنه على الحق قلت أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به قال بلى أفأخبرك أنك تأتيه العام قلت لا قال فإنك آتيه ومطوف به قال عمر فعملت لذلك أعمالا قال فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه قوموا فانحروا ثم احلقوا قال فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات فلما لم يقم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقىمن الناس فقالت أم سلمة يا نبي الله أتحب ذلك اخرج ولا تكلم أحدا منهم حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك فنحر بدنه ودعا حالقه فحلقه فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى

8

402

كاد بعضهم يقتل بعضا غما ثم جاء نسوة مؤمنات فأنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار إلى قوله ولا تمسكوا بعصم الكوافر سورة الممتحنة فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان والأخرى صفوان بن أمية ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فجاء أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا العهد الذي جعلت لنا فدفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم فقال أبو بصير لأحد الرجلين والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدا فاستله الآخر فقال أجل والله إنه لجيد لقد جربت به ثم جربت فقال أبو بصير أرني أنظر إليه فأمكنه منه فضرب به حتى برد وفر الآخر حتى آتى المدينة فدخل المسجد يعدو فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين رآه لقد رأى هذا ذعرا فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال قتل والله صاحبي وإني لمقتول فجاء أبو بصير رضي الله عنه فقال يا نبي الله قد وفى بذمتك فلقد رددتني إليهم ثم أنجاني

8

403

الله منهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سيف البحر قال وتفلت منهم أبو جندل بن سهيل رضي الله عنه فلحق بأبي بصير فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة قال فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوها فقتلوهم وأخذوا أموالهم فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم فمن أتاه منهم فهو آمن فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم وأنزل الله عزا وجل وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة سورة الفتح حتى بلغ حمية الجاهلية سورة الفتح وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم وحالوا بينهم وبين البيت رواه البخاري عن عبد الله بن محمد المسندي عن عبد الرازق ورواه أحمد عن عبد الرازق وهو

8

404

أجل قدرا من المسندي شيخ البخاري فما فيه من زيادة هي أثبت مما في البخاري وفي الصحيحين عن البراء بن عازب قال كتب علي بن أبي طالب الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين يوم الحديبية فكتب هذا ماكاتب عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا لا تكتب رسول الله لو نعلم أنك نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي امحة فقال ما أنا بالذي أمحوه قال فمحاه النبي صلى الله عليه وسلم بيده قال وكان فيما اشترطوا عليه أن يدخلوا فيقيموا بها ثلاثا ولا يدخلوا بسلاح إلا جلبان السلاح قال شعبة قلت لأبي إسحاق وما جلبان السلاح قال القراب وما فيه

8

405

وفي الصحيحين عن أبي وائل قال قام سهل بن حنيف يوم صفين فقال يا أيها الناس اتهموا أنفسكم وفي لفظ اتهموا رأيكم على دينكم لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ولو نرى قتالا لقاتلنا وذلك في الصلح الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين وجاء عمر فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ألسنا على حق وهم على باطل قال بلى قال أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار قال بلى قال ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بننا وبينهم قال يا ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدا قال فانطلق عمر فلم يصبر متغيضا فأتى أبا بكر فقال يا أبا بكر ألسنا على حق وهم على باطل قال بلى قال أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار قال بلى قال فعلام نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم فقال يا ابن الخطاب إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا قال فنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفتح فأرسل إلى عمر

8

406

فأقرأه إياه فقال يا رسول الله أو فتح هو قال نعم وفي لفظ مسلم فطابت نفسه ورجع وفي لفظ لمسلم أيضا أيها الناس اتهموا رأيكم لقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أني أستطيع أن أرد أمر رسول الله لرددته وفي رواية والله ورسوله أعلم والله ما وضعنا سيوفنا على عواتقنا إلى أمر قط إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه إلا أمركم هذا ما

8

407

نسد منه خصما إلا انفجر علينا خصم ما ندري كيف نأتي له يعني يوم صفين وقال ذلك سهل يوم صفين لما خرجت الخوارج على علي حين أمر بمصالحة معاوية وأصحابه وهذه الأخبار الصحيحة هي باتفاق أهل العلم بالحديث في عمرة الحديبية تبين اختصاص أبي بكر بمنزلة من الله ورسوله لم يشركه فيها أحد من الصحابه لا عمر ولا علي ولا غيرهما وأنه لم يكن فيهم أعظم إيمانا وموافقة وطاعة لله ورسوله منه ولا كان فيهم من يتكلم بالشورى قبله فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصدر عن رأيه وحده في الأمور العظيمة وإنه كان يبدأ بالكلام بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم معاونة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يفتي بحضرته وهو يقره على ذلك ولم يكن هذا لغيره فإنه لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم جاسوسه الخزاعي وأخبره أن قريشا قد جمعوا له الأحابيش وهي الجماعات المستجمعة من

8

408

قبائل والتحبش التجمع وأنهم مقاتلوه وصادوه عن البيت استشار أصحابه أهل المشورة مطلقا هل يميل إلى ذراري الأحابيش أو ينطلق إلى مكة فلما أشار عليه أبو بكر أن لا يبدأ أحدا بالقتال فإنا لم نخرج إلا للعمرة لا للقتال فإن منعنا أحد من البيت قاتلناه لصده لنا عما قصدنا لا مبتدئين له بقتال قال النبي صلى الله عليه وسلم روحوا إذا ثم إنه لما تكلم عروة بن مسعود الثقفي وهو من سادات ثقيف وحلفاء قريش مع النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم وأخذ يقول له عن أصحابه إنهم أشواب أي أخلاط وفي المسند أوباش يفرون عنك ويدعوك قال له الصديق رضي الله عنه امصص بظر اللات أنحن نفر عنه وندعه فقال له عروة ولما يجاوبه عن هذه الكلمة لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك وكان الصديق قد أحسن إليه قبل ذلك فرعى حرمته ولم يجاوبه عن هذه الكلمة ولهذا قال من قال من العلماء إن هذا يدل على جواز التصريح باسم العورة للحاجة والمصلحة وليس من الفحش المنهى عنه كما في حديث أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من سمعتموه يتعزى بعزاء الجاهلية فأعضموه هن أبيه ولا تكنوا رواه

8

409

أحمد فسمع أبي بن كعب رجلا يقول يا فلان فقال اعضض أير أبيك فقيل له في ذلك فقال بهذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إنه لما صالح النبي صلى الله عليه وسلم قريشا كان ظاهر الصلح فيه غضاضة وضيم على المسلمين وفعله النبي صلى الله عليه وسلم طاعة لله وثقة بوعده له وأن الله سينصره عليهم واغتاظ من ذلك جمهور الناس وعز عليهم حتى على مثل عمر وعلي وسهل بن حنيف ولهذا كبر عليه علي رضي الله عنه لما مات تبيينا لفضله على غيره يعني سهل بن حنيف فعلي أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يمحو اسمه من الكتاب فلم يفعل حتى أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الكتاب ومحاه بيده

8

410

وفي صحيح البخاري أنه قال لعلي امح رسول الله قال لا والله لا أمحوك أبدا فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب وليس يحسن يكتب فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله وسهل بن حنيف يقول لو استطعت أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته وعمر يناظر النبي صلى الله عليه وسلم ويقول إذا كنا على الحق وعدونا على الباطل وقتلانا في الجنة وقتلاهم في النار وأنت رسول الله حقا فعلام نعطي الدنية في ديننا ثم إنه عن ذلك وعمل له أعمالا وأبو بكر أطوعهم لله ورسوله لم يصدر عنه مخالفة في شئ قط بل لما ناظره عمر بعد مناظرته للنبي صلى الله عليه وسلم أجابه أبو بكر بمثل ما أجابه النبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يسمع جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا من أبين الأمور دلالة على موافقته للنبي صلى الله عليه وسلم ومناسبته له واختصاصه به قولا وعملا وعلما وحالا إذ كان قوله من جنس قوله وعمله من جنس عمله وفي المواطن التي ظهر فيها تقدمه على غيره في ذلك فأين مقامه من مقام غيره هذا يناظره ليرده عن

8

411

أمره وهذا يأمره ليمحو اسمه وهذا يقول لو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته وهو يأمر الناس بالحلق والنحر فيتوقفون ولا ريب أن الذي حملهم على ذلك حب الله ورسوله وبغض الكفار ومحبتهم أن يظهر الإيمان على الكفر وأن لا يكون قد دخل على أهل الإيمان غضاضة وضيم من أهل الكفر ورأوا أن قتالهم لئلا يضاموا هذا الضيم أحب إليهم من هذه المصالحة التي فيها من الضيم ما فيها لكن معلوم وجوب تقديم النص على الرأي والشرع على الهوى فالأصل الذي افترق فيه المؤمنون بالرسل والمخالفون لهم تقديم نصوصهم على الآراء وشرعهم على الأهواء وأصل الشر من تقديم الرأي على النص والهوى على الشرع فمن نور الله قلبه فرأى ما في النص والشرع من الصلاح والخير وإلا فعليه الانقياد لنص رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعه وليس له معارضته برأيه وهواه كما قال صلى الله عليه وسلم إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري فبين أنه رسول الله يفعل ما أمره به مرسله لا يفعل من تلقاء

8

412

نفسه وأخبر أنه يطيعه لا يعصيه كما يفعل المتبع لرأيه وهواه وأخبر أنه ناصره فهو على ثقة من نصر الله فلا يضره ما حصل فإن في ضمن ذلك من المصلحة وعلو الدين ماظهر بعد ذلك وكان هذا فتحا مبينا في الحقيقة وإن كان فيه ما لم يعلم حسن ما فيه كثير من الناس بل رأى ذلك ذلا وعجزا وغضاضة وضيما ولهذا تاب الذين عارضوا ذلك رضي الله عنهم كما في الحديث رجوع عمر وكذلك في الحديث أن سهل بن حنيف اعترف بخطئه حيث قال والله ورسوله أعلم وجعل رأيهم عبرة لمن بعدهم فأمرهم أن يتهموا رأيهم على دينهم فإن الرأي يكون خطأ كما كان رأيهم يو الحديبية خطأ وكذلك علي الذي لم يفعل ما أمره به والذين لم يفعلوا ما أمروا به من الحلق والنحر حتى فعل هو ذلك قد تابوا من ذلك والله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات والقصة كانت عظيمة بلغت منهم مبلغا عظيما لا تحمله عامة النفوس وإلا فهم خير الخلق وأفضل الناس وأعظمهم علما وإيمانا وهم الذين بايعوا تحت الشجرة وقد رضي الله عنهم وأثنى عليهم وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ولاعتبار في الفضائل بكمال النهاية لا بنقص البداية وقد قص الله

8

413

علينا من توبة أنبيائه وحسن عاقبتهم وما آل إليه أمرهم من علي الدرجات وكرامة الله لهم بعد أن جرت لهم أمور ولا يجوز أن يظن بغضهم لأجلها إذا كان الاعتبار بكمال النهاية لا بنقص البداية وهكذا السابقون الأولون من ظن بغضهم لأجلها إذا كان الاعتبار بكمال النهاية كما ذكر فهو جاهل لكن المطلوب أن الصديق أكمل القوم وأفضلهم وأسبقهم إلى الخيرات وأنه لم يكن فيهم من يساويه وهذا أمر بين لا يشك فيه إلا من كان جاهلا بحالهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم أو كان صاحب هوى صده اتباع هواه عن معرفة الحق وإلا فمن كان له علم وعدل لم يكن عنده في ذلك شك كما لم يكن عند أهل العلم والإيمان شك بل كانوا مطبقين على تقديم الصذيق وتفضيله على من سواه كما اتفق على ذلك علماء المسلمين وخيارهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم وهو مذهب مالك وأصحابه والشافعي وأصحابه وأحمد وأصحابه وداود وأصحابه والثوري وأصحابه والأوزاعي وأصحابه والليث وأصحابه وسائر العلماء الذين لهم في الأمة لسان صدق ومن ظن أن مخالفة من خالف أمر الرسول يوم الحديبية أو غيره لم تكن من الذنوب التي تجب التوبة منها فهو غالط كما قال من أخذ يعتذر

8

414

لمن خالف أمره عذرا يقصد به رفع الملام بأنهم إنما تأخروا عن النحر والحلق لأنهم كانوا ينتظرون النسخ ونزول الوحي بخلاف ذلك وقول من يقول إنما تخلف من تخلف عن طاعته إما تعظيما لمرتبته أن يمحو اسمه أو يقول مراجعة من راجعه في مصالحة المشركين إنما كانت قصدا لظهور أ الإيمان على الكفر ونحو ذلك فيقال الأمر الجازم من الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أراد به الإيجاب موجب لطاعته باتفاق أهل الإيمان وإنما نازع في الأمر المطلق بعض الناس لاحتمال أنه ليس بجازم أراد به الإيجاب وأما مع ظهور الجزم والإيجاب فلم يسترب أحد في ذلك ومعلوم أن أمره بالنحر والحلق كان جازما وكان مقتضاه الفعل على الفور بدليل أنه ردده ثلاثا فلما لم يقم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس وروى أنه غضب وقال مالي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا يتبع وروي أنه قال ذلك لما أمرهم بالتحلل في حجة الوداع

8

415

ومعلوم أن الأمر بالتحلل بهذه العمرة التي أحصروا فيها كان أوكد من الأمر بالتحلل في حج الوداع وأيضا فإنه كان متحاجا إلى محو اسمه من الكتاب ليتم الصلح ولهذا محاه بيده والأمر بذلك كان جازما والمخالف لأمره إن كان متأولا فهو ظان أن هذا لا يجب لما فيه من قلة احترام الرسول صلى الله عليه وسلم أو لما فيه من انتظار العمرة وعدم إتمام ذلك الصلح فحسب المتأول أن يكون مجتهدا مخطئا فإنه مع جزم النبي صلى الله عليه وسلم وتشكيه ممن لم يمتثل أمره وقوله مالي لا أغضب وأنا آمر بالأمر ولا أتبع لا يمكن تسويغ المخالفة لكن هذا مما تابوا منه كما تابوا من غيره فليس لأحد أن يثبت عصمة من ليس بمعصوم فيقدح بذلك في أمر المعصوم صلى الله عليه وسلم كما فعل ذلك في توبة من تاب وحصل له بالذنب نوع من العقاب فأخذ ينفى على الفعل ما يوجب الملام والله قد لامه لوم المذنبين فيزيد تعظيم البشر فيقدح في رب العالمين

8

416

ومن علم أن الاعتبار بكمال النهاية وأن التوبة تنقل العبد إلى مرتبة أكمل مما كان عليه علم أن ما فعله الله بعباده المؤمنين كان من أعظم نعمه الله عليهم وأيضا ففي المواضع التي لا يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم من أكابر الصحابة إلا واحد كان يكون هو ذلك الواحد مثل سفره في الهجرة ومقامه يوم بدر في العريش لم يكن معه فيه إلا أبو بكر ومثل خروجه إلى قبائل العرب يدعوهم إلى الإسلام كان يكون معه من أكابر الصحابة أبو بكر وهذا الاختصاص في الصحبة لم يكن لغيره باتفاق أهل المعرفة بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم وأما من كان جاهلا أحوال النبي صلى الله عليه وسلم أو كذابا فذلك يخاطب خطاب مثله فقوله تعالى في القرآن إذ يقول لصاحبه لا تحزن سورة التوبة لا يختص بمصاحبته في الغار بل هو صاحبه المطلق الذي كمل في الصحبة كمالا لم يشركه فيه غيره فصار مختصا بالأكملية من الصحبة كما في الحديث رواه البخاري عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أيها الناس اعرفوا لأبي بكر حقه فإنه لم

8

417

يسؤني قط أيها الناس إني راض عن عمر وعثمان وعلي وفلان وفلان فقد تبين أن النبي صلى الله عليه وسلم خصه دون غيره مع أنه قد جعل غيره من أصحابه أيضا لكن خصه بكمال الصحبة ولهذا قال من قال من العلماء إن فضائل الصديق خصائص لم يشركه فيها غيره ومن أراد أن يعرف فضائلهم ومنازلهم عند النبي صلى الله عليه وسلم فليتدبر الأحاديث الصحيحة التى صححها أهل العلم بالحديث الذين كملت خبرتهم بحال النبي صلى الله عليه وسلم ومحبتهم له وصدقهم في التبليغ عنه وصار هواهم تبعا لما جاء به فليس لهم غرض إلا معرفة ما قاله وتمييزه عما يخلط بذلك من كذب الكاذبين وغلط الغالطين كأصحاب الصحيح مثل البخاري ومسلم والإسماعيلي

8

418

والبرقاني وأبي نعيم والدارقطني ومثل صحيح ابن خزيمة وابن منده وأبي حاتم البستي والحاكم وما صححه أئمة أهل الحديث الذين هم أجل من هؤلاء أو مثلهم من المتقدمين والمتأخرين مثل مالك وشعبة ويحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي وابن المبارك وأحمد وابن معين وابن المديني وأبي حاتم وأبي زرعة الرازيين وخلائق لا يحصى عددهم إلا الله تعالى فإذا تدبر العاقل الأحاديث الصحيحة الثابتة عند هؤلاء وأمثالهم عرف الصدق من الكذب فإن هؤلاء من أكمل الناس معرفة بذلك وأشدهم رغبة في التمييز بين الصدق والكذب وأعظمهم ذبا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم المهاجرون إلى سنته وحديثه والأنصار له في الدين يقصدون ضبط ما قاله وتبليغه للناس وينفون عنه ما كذبه الكذابون وغلط فيه الغالطون ومن شركهم في علمهم علم ما قالوه وعلم بعض قدرهم وإلا فليسلم القوس إلى باريها كما يسلم إلى الأطباء طبهم وإلى النحاة نحوهم وإلى الفقهاء فقههم وإلى أهل الحساب حسابهم مع أن جميع هؤلاء قد يتفقون على خطأ في

8

419

صناعتهم إلا الفقهاء فيما يفتون به من الشرع وأهل الحديث فيما يفتون به من النقل فلا يجوز أن يتفقوا على التصديق بكذب ولا على التكذيب بصدق بل إجماعهم معصوم في التصديق والتكذيب بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم كما أن إجماع الفقهاء معصوم في الإخبار عن الفعل بدخوله في أمره أو نهيه أو تحليله أو تحريمه ومن تأمل هذا وجد فضائل الصديق التي في الصحاح كثيرة وهي خصائص مثل حديث المخالة وحديث إن الله معنا وحديث إنه أحب الرجال إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحديث الإتيان إليه بعده وحديث كتابة العهد إليه بعده وحديث تخصيصه بالتصديق ابتداء والصحبة وتركه له وهو قوله فهل أنتم تاركولي صاحبي وحديث دفعه عنه عقبة بن أبي معيط لما وضع الرداء في عنقه حتى خلصه أبو بكر وقال أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وحديث استخلافه في الصلاة وفي الحج وصبره وثباته بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وانقياد الأمة له وحديث الخصال التي اجتمعت فيه في يوم وما اجتمعت في رجل إلا وجبت له الجنة وأمثال ذلك

8

420

ثم له مناقب يشركه فيها عمر كشهادته بالإيمان له ولعمر وحديث علي حيث يقول كثيرا ما كنت أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول خرجت أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وحديث استقائه من القليب وحديث البقرة التي يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم أومن بها أنا وأبو بكر وعمر وأمثال ذلك وأما مناقب علي التي في الصحاح فأصحها قوله يوم خيبر لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله وقوله في غزوة تبوك ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ومنها دخوله في المباهلة وفي الكساء ومنها قوله أنت مني وأنا منك وليس في شيء من ذلك خصائص وحديث لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق ومنها ما تقدم من حديث الشورى وإخبار عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وهو راض عن عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن

8

421

فمجموع ما في الصحيح لعلي نحو عشرة أحاديث ليس فيها ما يختص به ولأبي بكر في الصحاح نحو عشرين حديثا أكثرها خصائص وقول من قال صح لعلي من الفضائل مالم يصح لغيره كذب لا يقول أحمد ولا غيره من أئمة الحديث لكن قد يقال روي له ما لم يرو لغيره لكن أكثر ذلك من نقل من علم كذبه أو خطؤه ودليل واحد صحيح المقدمات سليم عن المعارضة خير من عشرين دليلا مقدماتها ضعيفة بل باطلة وهي معارضة بأصح منها يدل على نقيضها والمقصود هنا بيان اختصاصه في الصحبة الإيمانية بما لم يشركه مخلوق لا في قدرها ولا في صفتها ولا في نفعها فإنه لو أحصى الزمان الذي كان يجتمع فيه أبو بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم والزمان الذي كان يجتمع فيه عثمان أو علي أو غيرهما من الصحابة لوجد ما يختص به أبو بكر أضعاف ما اختص به واحد منهم لا أقول ضعفه وأما المشترك بينهم فلا يختص به واحد وأما كمال معرفته ومحبته للنبي صلى الله عليه وسلم وتصديقه له فهو

8

422

مبرز في ذلك على سائرهم تبريزا باينهم فيه مباينه لا تخفى على من كان له معرفة بأحوال القوم ومن لا معرفة له بذلك لم تقبل شهادته وأما نفعه للنبي صلى الله عليه وسلم ومعاونته له على الدين فكذلك فهذه الأمور التي هي مقاصد الصحبة ومحامدها التي بها يستحق الصحابة أن يفضلوا بها على غيرهم لأبي بكر فيها من الاختصاص بقدرها ونوعها وصفتها وفائدتها ما لا يشركه فيه أحد ويدل على ذلك ما رواه البخاري عن أبي الدرداء قال كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذا أقبل أبو بكر آخذا بطرق ثوبه حتى أبدي عن ركبتيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما صاحبكم فقد غامر فسلم وقال إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه ثم ندمت فسألته ان يغفر لي فأبى علي فأقبلت إليك فقال يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثا ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فسأل أثم أبو بكر قالوا لا فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه وقال يا رسول الله والله أنا كنت أظلم مرتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدق وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركو لي صاحبي مرتين فما أوذي بعدها

8

423

وفي رواية كانت بين أبي بكر وعمر محاورة فأغضب أبو بكر عمر فانصرف عنه مغضبا فأتبعه أبو بكر يسأله أن يغفر له فلم يفعل حتى أغلق بابه في وجهه فأقبل أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم الحديث قال وغضب النبي صلى الله عليه وسلم وفيه إني قلت يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدقت فهذا الحديث الصحيح فيه تخصيصه بالصحبة في قوله فهل أنتم تاركو لي صاحبي وبين فيه من أسباب ذلك أن الله لما بعثه إلى الناس قال إني رسول الله إليكم جميعا قالوا كذبت وقال أبو بكر صدقت فهذا يبين فيه أنه لم يكذبه قط وأنه صدقه حين كذبه الناس طرا وهذا ظاهر في أنه صدقه قبل أن يصدقه أحد من الناس الذين بلغهم الرسالة وهذا حق فإنه أول ما بلغ الرسالة فآمن وهذا موافق لما رواه مسلم عن عمرو بن عبسة قلت يا رسول الله من معك على هذا الأمر قال حر وعبد ومعه يومئذ أبو بكر وبلال

8

424

وأما خديجة وعلي وزيد فهؤلاء كانوا من عيال النبي صلى الله عليه وسلم وفي بيته وخديجة عرض عليها أمره لما فجأه الوحي وصدقته ابتداء قبل أن يؤمر بالتبليغ وذلك قبل أن يجب الإيمان به فإنه إنما يجب إذا بلغ الرسالة فأول من صدق به بعد وجوب الإيمان به أبو بكر من الرجال فإنه لم يجب عليه أن يدعو عليا إلى الإيمان لأن عليا كان صبيا والقلم عنه مرفوع ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالإيمان وبلغه الرسالة قبل يأمر أبا بكر ويبلغه ولكنه كان في بيت النبي صلى الله عليه وسلم فيمكن أنه آمن به لما سمعه يخبر خديجة وإن كان لم يبلغه فإن ظاهر قوله يا أيها الناس إني أتيت اليكم فقلت إني رسول الله إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدقت كما في الصحيحين يدل على أن كل من بلغه الرسالة كذبه أولا إلا أبا بكر ومعلوم أن خديجة وعليا وزيدا كانوا في داره وخديجة لم تكذبه فلم تكن داخله فيمن بلغ

8

425

وقوله في حديث عمرو بن عبسة قلت يا رسول الله من معك على هذا الأمر قال حر وعبد والذي في صحيح مسلم موافق لهذا أي اتبعه من المبلغين المدعوين ثم ذكر قوله وواساني بنفسه وماله وهذه خاصة لم يشركه فيها أحد وقد ذكر هذا النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث المخالة التي هي متواترة عنه كما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر فقال إن عبدا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الحياة الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده فبكى أبو بكر وقال فديناك بآبائنا وأمهاتنا قال فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير وكان أبو بكر أعلمنا به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من آمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أنا بكر خليلا ولكن غخوة الإسلام لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر وفي رواية للبخاري لو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخوة الإسلام

8

426

ومودته وفي رواية إلا خلة الاسلام وفيه قد فعجبنا له وقال الناس انظروا إلى هذا الشيخ يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه الله من زهرة الحياة الدنيا وبين ما عنده وهو يقول فديناك بآبائنا وأمهاتنا وفي رواية وبين ما عنده فاختار ما عنده وفيه فقال لا تبك إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام ومودته لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر وروى البخارى من حديث ابن عباس قال خرج النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه عاصبا رأسه بخرقة فقعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال إنه ليس أحد من الناس أمن علي في نفسه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة ولو كنت متخذا من الناس خليلالاتخذت أبا بكر خليلا ولكن خلة الإسلام أفضل سدوا عني كل خوخة في هذا المسجد غير خوخة أبي بكر وفي رواية لو كنت متخذا من هذه الأمة خليلا لاتخذته ولكن أخوة الإسلام أفضل وفي رواية ولكن أخي وصاحبي ورواه البخاري عن ابن الزبير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

8

427

وسلم لو كنت متخذا من هذه الأمة خليلا لاتخذته يعني أبا بكر ورواه مسلم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخي وصاحبي وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا وفي رواية لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لأتخذت ابن أبي قحافة ولكن صاحبكم خليل الله وفي أخرى ألا إني إبرأ كل خل من خله ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا إن صاحبكم خليل الله فهذه النصوص كلها مما تبين اختصاص أبي بكر من فضائل الصحبة ومناقبها والقيام بها وبحقوقها بما لم يشركه فيه أحد حتى استوجب أن يكون خليله دون الخلق لو كانت المخالة ممكنة وهذه النصوص صريحة بأنه أحب الخلق إليه وأفضلهم عنده كما صرح بذلك في حديث عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل قال فأتيته فقلت أي الناس أحب إليك قال عائشة قلت فمن الرجال قال أبوها قلت ثم من قال عمر وعد رجالا وفي رواية للبخاري قال فسكت مخافة أن يجعلني آخرهم

8

428

فصل ومما يبين من القرآن فضيلة أبو بكر في الغار أن الله تعالى ذكر نصره لرسوله في هذه الحال التي يخذل فيها عامة الخلق إلا من نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار سورة التوبة أي أخرجوه في هذه القلة من العدد لم يصحبه إلا الواحد فإن الواحد أقل ما يوجد فإذا لم يصحبه إلا واحد دل على أنه في غاية القلة ثم قال إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا سورة التوبة وهذا يدل على أن صاحبه كان مشفقا عليه محبا له ناصرا له حيث حزن وإنما يحزن الإنسان حال الخوف على من يحبه وأما عدوه فلا يحزن إذا انعقد سبب هلاكه فلو كان أبو بكر مبغضا كما يقول المفترون لم يحزن ولم ينه عن الحزن بل كان يضمر الفرح والسرور ولا كان الرسول يقول له لا تحزن إن الله معنا فإن قال المفتري إنه خفي على الرسول حاله لما أظهر له الحزن وكان في الباطن مبغضا

8

429

قيل له فقد قال إن الله معنا فهذا إخبار بأن الله معهما جميعا بنصره ولا يجوز للرسول أن يخبر بنصر الله لرسوله وللمؤمنين وأن الله معهم ويجعل ذلك في الباطن منافقا فإنه معصوم في خبره عن الله لا يقول عليه إلا الحق وإن جاز أن يخفى عليه حال بعض الناس فلا يعلم أنه منافق كما قال وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سورة التوبة فلا يجوز أن يخبر عنهم بما يدل على إيمانهم ولهذا لما جاءه المخلفون عام تبوك فجعلوا يحلفون ويعتذرون وكان يقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله لا يصدق أحدا منهم فلما جاء كعب وأخبره بحقيقة أمره قال أما هذا فقد صدق أو قال صدقكم وأيضا فإن سعد بن أبي وقاص لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم أعطيت فلانا وفلانا وتركت فلانا وهو مؤمن قال أو مسلم مرتين أو ثلاثا فأنكر عليه إخباره بالإيمان ولم يعلم منه إلا ظاهر الإسلام

8

430

فكيف يشهد لأبي بكر بأن الله معهما وهو لا يعلم ذلك والكلام بلا علم لا يجوز وأيضا فإن الله أخبر بهذا عن الرسول إخبار مقرر له لا إخبار منكر له فعلم أن قوله إن الله معنا من الخبر الصدق الذي أمر الله به ورضيه لا مما أنكره وعابه وأيضا فمعلوم أن أضعف الناس عقلا لا يخفى عليه حال من يصحبه في مثل هذا السفر الذي يعاديه فيه الملأ الذين هم بين أظهرهم ويطلبون قتله وأولياؤه هناك لا يستطيعون نصره فكيف يصحب واحدا ممن يظهر له موالاته دون غيره وقد أظهر له هذا حزنه وهو مع ذلك عدو له في الباطن والمصحوب يعتقد أنه وليه وهذا لا يفعله إلا أحمق الناس وأجهلهم فقبح الله من نسب رسوله الذي هو أكمل الخلق عقلا وعلما وخبرة إلى مثل هذه الجهالة والغباوة ولقد بلغني عن ملك المغول خدابنده الذي صنف له هذا الرافضي

8

431

كتابه هذا في الإمامة أن الرافضة لما صارت تقول له مثل هذا الكلام إن أبا بكر كان يبغض النبي صلى الله عليه وسلم وكان عدوه ويقولون مع هذا إنه صحبه في سفر الهجرة الذي هو أعظم الأسفار خوفا قال كلمة تلزم عن قولهم الخبيث وقد برأ الله رسوله منها لكن ذكرها على من افترى الكذب الذي أوجب أن يقال في الرسول مثلها حيث قال كان قليل العقل ولا ريب أن فعل ما قالته الرافضة فهو قليل العقل وقد برأ الله رسوله وصديقه من كذبهم وتبين أن قولهم يستلزم القدح في الرسول فصل ومما يبين أن الصحبة فيها خصوص وعموم كالولاية والمحبة والإيمان وغير ذلك من الصفات التي يتفاضل فيها الناس في قدرها ونوعها وصفتها ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسبوا أحدا من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه انفرد مسلم بذكر خالد وعبد الرحمن دون البخاري فالنبي

8

432

صلى الله عليه وسلم يقول لخالد ونحوه لا تسبوا اصحابي يعني عبد الرحمن بن عوف وأمثاله لأن عبد الرحمن ونحوه هم السابقون الأولون وهم الذين أسلموا قبل الفتح وقاتلوا وهم أهل بيعة الرضوان فهؤلاء أفضل وأخص بصحبته ممن أسلم بعد بيعة الرضوان وهم الذين أسلموا بعد الحديبية وبعد مصالحة النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة ومنهم خالد وعمرو بن العاص وعثمان بن أبي طلحة وأمثالهم وهؤلاء أسبق من الذين تأخر إسلامهم إلى أن فتحت مكة وسموا الطلقاء مثل سهيل بن عمرو والحارث بن هشام وأبي سفيان بن حرب وابنيه يزيد ومعاوية وأبي سفيان بن الحارث وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وغيرهم مع أنه قد يكون في هؤلاء من برز بعلمه على بعض من تقدمه كثيرا كالحارث بن هشام وأبي سفيان بن الحارث وسهيل بن عمرو وعلى بعض من أسلم قبلهم ممن أسلم قبل الفتح وقاتل وكما برز عمر بن الخطاب على أكثر الذين أسلموا قبله والمقصود هنا أنه نهى لمن صحبه آخرا يسب من صحبه أولا لامتيازهم عنهم في الصحبة بما لا يمكن أن يشركهم فيه حتى قال

8

433

لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه فإذا كان هذا حال الذين أسلموا من بعد الفتح وقاتلوا وهم من أصحابه التابعين للسابقين مع من أسلم من قبل الفتح وقاتل وهم أصحابه السابقون فكيف يكون حال من ليس من أصحابه بحال مع أصحابه وقوله لا تسبوا أصحابي قد ثبت في الصحيحين من غير وجه منها ما تقدم ومنها ما أخرجوه في الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه فصل وأما قول الرافضي يجوز أن يستصحبه معه لئلا يظهر أمره حذرا منه والجواب أن هذا باطل من وجوه كثيرة لا يمكن استقصاؤها أحدها أنه قد علم بدلالة القرآن موالاته له ومحبته لا عداوته فبطل هذا الثاني أنه قد علم بالتواتر أن أبا بكر كان محبا للنبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا به من أعظم الخلق اختصاصا به أعظم مما تواتر

8

434

من شجاعة عنترة ومن سخاء حاتم ومن موالاة علي ومحبته له ونحو ذلك من التواترات المعنوية فيها الأخبار الكثيرة على مقصود واحد والشك في محبة أبي بكر كالشك في غير وأشد ومن الرافضة من ينكر كون أبي عمر مدفونين في الحجرة النبوية وبعض غلاتهم ينكر أن يكون هو صاحبه الذي كان معه في الغار وليس هذا من بهتانهم ببعيد فإن القوم قوم بهت يجحدون المعلوم ثبوته بالاضطرار ويدعون ثبوت ما يعلم انتفاؤه بالاضطرار في العقليات والنقليات ولهذا قال من قال لو قيل من أجهل الناس لقيل الرافضة حتى فرضها بعض الفقهاء مسألة فقهية فيما إذا أوصى لأجهل الناس قال هم الرافضة لكن هذه الوصية باطلة فإن الوصية باطلة فإن الوصية والوقف لا يكونان معصية بل على جهة لا تكون مذمومة في الشرع والوقف والوصية لأجهل الناس فيه جعل الأجهلية والبدعية موجبة للاستحقاق فهو كما لو أوصى لأكفر الناس أو للكفار دون المسلمين بحيث يجعل الكفر شرطا في الاستحقاق فإن هذا لا يصح وكون أبيبكر كان مواليا للنبي صلى الله عليه وسلم أعظم من غيره أمر علمه المسلمون والكفار والأبرار والفجار حتى أني أعرف طائفة من الزنادقة كانوا يقولون إن دين الإسلام اتفق عليه في الباطن النبي صلى

8

435

الله عليه وسلم وأبو بكر وثالثهما عمر لكن لم يكن عمر مطلعا على سرهما كله كما وقعت دعوة الإسماعيلية الباطنية والقرامطة فكان كل من كان أقرب إلى إمامهم كان أعلم بباطن الدعوة وأكتم لباطنها من غيره ولهذا جعلوهم مراتب فالزنادقة المنافقون لعلمهم بأن أبا بكر أعظم موالاة واختصاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم من غيره جعلوه ممن يطلع على باطن أمره ويكتمه عن غيره ويعاونه على مقصوده بخلاف غيره فمن قال إنه كان في الباطن عدوه كان من أعظم أهل الأرض فرية ثم إن قاتل هذا إذا قيل له مثل هذا في علي وقيل له إنه كان في الباطن معاديا للنبي صلى الله عليه وسلم وإنه كان عاجزا في ولاية الخلفاء الثلاثة عن إفساد ملته فلما ذهب أكابر الصحابة وبقي هو طلب حينئذ إفساد ملته وإهلاك أمته ولهذا قتل من المسلمين خلقا كثيرا وكان مراده إهلاك الباقين لكن عجز وإنه بسبب ذلك انتسب إليه الزنادقة المنافقون المبغضون للرسول كالقرامطة والإسماعيلية والنصيرية فلا تجد عدوا للإسلام إلا وهو يستعين على ذلك بإظهار موالاة على استعانة لا تمكنه بإظهار موالاة أبي بكر وعمر

8

436

فالشبهة في دعوى موالاة علي للرسول أعظم من الشبهة في دعوى معاداة أبي بكر وكلاهما باطل معلوم الفساد بالاضطرار لكن الحجج الدالة على بطلان هذه الدعوى في أبي بكر أعظم من الحجج الدالة على بطلانها في حق علي فإذا كانت الحجة على موالاة علي صحيحة والحجة على معاداته باطلة فالحجة على موالاة أبي بكر أولى بالصحة والحجة على معاداته أولى بالبطلان الوجه الثالث أن قوله استصحبه حذرا من أن يظهر أمره كلام من هو من أجهل الناس بما وقع فأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم في خروجه من مكة ظاهر عرفه أهل مكة وأرسلوا الطلب فإنه في الليلة التي خرج فيها عرفوا في صبيحتها أنه خرج وانتشر ذلك وأرسلوا إلى أهل الطرق يبذلون الدية فيه وفي أبي بكر بذلوا الدية لمن يأتى بأبي بكر فأي شيء كان يخاف وكون المشركين بذلوا الدية لمن يأتى بأبي بكر دليل على أنهم كانوا يعلمون موالاته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه كان عدوهم في الباطن ولو كان معهم في الباطن لم يفعلوا ذلك الرابع أنه إذا كان خرج ليلا كان وقت الخروج لم يعلم به أحد فما يصنع بأبي بكر واستصحابه معه فإن قيل فلعله علم خروجه دون غيره قيل أولا قد كان يمكنه أن يخرج في وقت لا يشعر به كما خرج

8

437

في وقت لم يشعر به المشركون وكان يمكنه أن لا يعينه فكيف وقد ثبت في الصحيحين أن أبا بكر استأذنه في الهجرة فلم يأذن له حتى هاجر معه والنبي صلى الله عليه وسلم أعلمه بالهجرة في خلوة ففي الصحيحين عن البراء بن عازب قال جاء أبو بكر إلى أبي في منزله فاشترى منه رحلا فقال لعازب أبعث ابنك معي يحمله إلى منزلي فحملته وخرج أبي معه ينتقد ثمنه فقال أبي يا أبا بكر حدثني كيف صنعتما ليلة سريت مع النبي صلى الله عليه وسلم قال نعم سرينا ليلتنا كلها ومن الغد حتى قام قائم الظهيرة وخلا الطريق فلا يمر بنا فيه أحد حتى رفعت لنا صخرة طويلة لها ظل لم تأت عليه الشمس بعد فنزلنا عندها فأتيت الصخرة فسويت بيدي مكانا ينام فيه النبي صلى الله عليه وسلم في ظلها ثم بسطت عليه فروة ثم قلت نم يا رسول الله وأنا أنفض لك ما حولك فنام رسول الله

8

438

صلى الله عليه وسلم في ظلها وخرجت أنفض ما حوله فإذا أنا براع مقبل بغنمه إلى الصخرة يريد منها الذي أردنا فلقيته فقلت لمن أنت يا غلام فقال لرجل من أهل المدينة يريد مكة لرجل من قريش سماه فعرفته فقلت له أفي غنمك لبن فقال نعم قلت أفتحلب لي قال نعم فأخذ شاة فقلت له انفض الضرع من الشعر والتراب والقذى فحلب لي في قعب معه كثبة من لبن قال ومعي إداوة أرتوى فيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليشرب منها ويتوضأ قال فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وكرهت أن أوقظه من نومه فوافيته قد استيقظ فصببت على اللبن الماء حتى برد أسفله فقلت يا رسول الله اشرب من هذا اللبن فشرب حتى رضيت ثم قال ألم يأن للرحيل قلت بلى فارتحلنا بعد ما زالت الشمس واتبعنا سراقة بن مالك قال ونحن في جلد من الأرض فقلت

8

439

يا رسول الله أتينا فقال لا تحزن إن الله معنا فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتطمت فرسه إلى بطنها فقال إني قد علمت أنكما دعوتما علي فادعوا لله لي فالله لكما أن أرد عنكما اطلب فدعا الله فنجا فرجع لا يلقى أحدا إلا قال قد كفيتم ماهنا ولا يلقى أحدا إلا رده وقال خذ سهما من كنانتي فإنك قمر بإبلي وغلماني فخذ منها حاجتك فقال لا حاجة لي في أبلك قال فقدمنا المدينة فتنازعوا أيهم ينزل عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل على بني النجار أخوال عبد المطلب أكرمهم بذلك فصعد الرجال والنساء فوق البيوت وتفرق الغلمان والخدم في الطرق ينادون يا محمد يا رسول الله يا محمد يا رسول الله وروى البخاري عن عائشة قالت لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشية فلما ابتلى المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا

8

440

إلى الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة فقال أين تريد يا أبا بكر قال أخرجني قومي فأنا أريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي قال ابن الدغنة إن مثلك لا يخرج ولا يخرج فإنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق وأنا لك جار فاعبد ربك ببلدك فارتحل ابن الدغنة فرجع مع أبي بكر فطاف في أشراف كفار قريش فقال لهم إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج أتخرجون رجل يكسب المعدوم ويصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف

8

441

ويعين على نوائب الحق فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة وآمنوا أبا بكر وقالوا لابن الدغنة مر أبا بكر فليعبد ربه في داره فليصل وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به فإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر فطفق أبو بكر يعبد ربه في داره ولا يستعلن بالصلاة والقراءة في غير داره ثم بدا لأبي بكر فأبتني بفناء داره مسجدا وبرز فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فتنقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه وكان أبو بكر رضي الله عنه رجلا بكاء لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن فأفزع ذلك أشراف قريش فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا إنا كنا قد أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في داره وإنه جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره وأعلن بالصلاة والقراءة وقد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا فأته فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل وإلا فإن أبي إلا أن يعلن ذلك فسله

8

442

أن يرد إليك جوارك فإنا قد كرهنا أن نخفرك ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان قالت عائشة فأتى ابن الدغنة أبا بكر فقال قد علمت الذي عقدت لك عليه فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترد إلي ذمتي فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له قال أبو بكر إني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله ورسول الله يومئذ بمكة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان فهاجر من هاجر إلى المدينة ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة وتجهز أبو بكر قبل المدينة فقال النبي صلى الله عليه وسلم على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي فقال أبو بكر وهل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي قال نعم فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر وهو

8

443

لخبط أربعة أشهر قال ابن شهاب قال عروة قالت عائشة فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها فقال أبو بكر فداه أبي وأمي والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر قالت فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له فدخل فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر أخرج من عندك فقال أبو بكر إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله قال فإني قد أذن لي في الخروج قال أبو بكر الصحابة يا رسول الله قال نعم قال أبو بكر فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثمن قالت عائشة

8

444

فجهزناهما أحث الجهاز وصنعنا لهما سفرة في جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب فبذلك سميت ذات النطاقين قالت ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور فمكثا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبدالله بن أبي بكر هو غلام شاب ثقف لقن فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت ولا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما

8

445

حين تذهب ساعة من الليل فيبيتان في رسل وهو لبن منحتهما ورضيفهما حتى ينعق بها عامر بغلس يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل وهو من بني عبد بن عدي هاديا خريتا والخريت الماهر بالهداية قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي وهو على دين كفار قريش فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال فأتاهما براحلتيهما صبح ثلاث فانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل وأخذ بهما طريق الساحل قال ابن شهاب فأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي وهو ابن أخي سراقة ابن مالك بن جعشم أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن جعشم يقول جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم

8

446

وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج إذ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس فقال يا سراقة إني قد رأيت آنفا أسودة بالساحل أراها محمدا وأصحابه قال سراقة فعرفت أنهم هم فقلت له إنهم ليسوا بهم ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقا بأعيننا ثم لبثت في المجلس ساعة ثم قمت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي من وراء أكمة فتحبسها علي وأخذت رمحي ثم خرجت به من ظهر البيت فحططت بزحة الأرض وخفضت عالية حتى أتيت فرسي فركبتها فرفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم فعثرت فرسي فخررت عنها فقمت فأهويت بيدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها أضرهم

8

447

أرده فآخذ المائة ناقة أم لا فخرج الذي أكره فركبت فرسي وعصيت الأزلام تقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره فناديتهم بالأمان فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الوجه الخامس أنه لما كان في الغار كان يأتيه بالأخبار عبد الله بن أبي بكر وكان معهما عامر بن فهيرة كما تقدم ذلك فكان يمكنه أن

8

448

يعلمهم بخبره السادس أنه إذا كان كذلك والعدو قد جاء إلى الغار ومشوا فوقه كان يمكنه حينئذ أن يخرج من الغار وينذر العدو به وهو وحده ليس معه أحد يحميه منه ومن العدو فمن يكون مبغضا لشخص طالبا لإهلاكه ينتهز الفرصة في مثل هذه الحال التي لا يظفر فيها عدو بعدوه إلا أخذه فإنه وحده في الغار والعدو قد صاروا عند الغار وليس لمن في الغار هناك من يدفع عنه وأولئك هم العدو الظاهرون الغالبون المتسلطون بمكة ليس بمكة من يخافونه إذا أخذوه فإن كان أبو بكر معهم مباطنا لهم كان الداعي إلى أخذه تاما والقدرة تامة وإذا اجتمع القدرة التامة والداعي التام وجب وجود الفعل فحيث لم يوجد دل على انتفاء الداعي أو انتفاء القدرة والقدرة موجودة فعلم انتفاء الداعي وأن أبا بكر لم يكن له غرض في أذاه كما يعلم ذلك جميع الناس إلا من أعمى الله قلبه ومن هؤلاء المفترين من يقول إن أبا بكر كان يشير بإصبعه إلى العدو يدلهم على النبي صلى الله عليه وسلم فلدغته حيه فردها حتى كفت عنه الألم وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له إن نكثت نكث يدك وإنه نكث بعد ذلك فمات منها وهذا يظهر كذبه من وجوده نبهنا على بعضها

8

449

ومنهم من قال أظهر كعبه ليشعروا به فلدغته الحية وهذا من نمط الذي قبله فصل وأما قول الرافضي الآية تدل على نقصه لقوله تعالى لا تحزن إن الله معنا سورة التوبة فإنه يدل على خوره وقله صبره وعدم يقينه وعدم رضاه بمساواته للنبي صلى الله عليه وسلم وبقضاء الله وقدره فالجواب أولا أن هذا يناقض قولكم إنه استصحبه حذرا منه لئلا يظهر أمره فإنه إذا كان عدوه وكان مباطنا لعداه الذين يطلبونه كان ينبغي أن يفرح ويسر ويطمئن إذا جاء العدو وأيضا فالعدو قد جاءوا ومشوا فوق الغار فكان ينبغي أن ينذرهم به وأيضا فكان الذي يأتيه بأخبار قريش ابنه عبد الله فكان يمكنه أن يأمر ابنه أن يخبر بهم قريشا وأيضا فغلامه عامر بن فهيرة هو الذي كان معه رواحلهما فكان يمكنه أن يقول لغلامه أخبرهم به فكلامهم في هذا يبطل قولهم إنه كان منافقا ويثبت أنه كان مؤمنا به واعلم أنه ليس في المهاجرين منافق وإنما كان النفاق في قبائل الأنصار لأن أحدا لم يهاجر إلا باختياره والكافر بمكة لم يكن يختار

8

450

الهجرة ومفارقة وطنه وأهله لنصر عدوه وإنما يختارها الذين وصفهم الله تعالى للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون سورة الحشر وقوله أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله سورة الحج وأبو بكر أفضل هؤلاء كلهم وإذا كان هذا الكلام يستلزم إيمانه فمعلوم أن الرسول لا يختار لمصاحبته في سفر هجرته الذي هو أعظم الأسفار خوفا وهو السفر الذي جعل مبدأ التاريخ لجلالة قدره في النفوس ولظهور أمره فإن التاريخ لا يكون إلا بأمر ظاهر معلوم لعامة الناس لا يستصحب الرسول فيه من يختص بصحبته إلا وهو من أعظم الناس طمأنينة إليه ووثوقا به ويكفي هذا في فضائل الصديق وتمييزه على غيره وهذا من فضائل الصديق التي لم يشركه فيها غيره ومما يدل على أنه أفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده

8

451

فصل وأما قوله إنه يدل على نقصه فنقول أولا النقص نوعان نقص ينافي إيمانه ونقص عمن هو أكمل منه فإن أراد الأول فهو باطل فإن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون سورة النحل وقال للمؤمنين عامة ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون سورة آل عمران وقال ولقد أتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم لاتمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم سورة الحجر فقد نهى نبيه عن الحزن في غير موضع ونهى المؤمنين جملة فعلم أن ذلك لا ينافي الإيمان وإن أراد بذلك أنه ناقص عمن هو أكمل منه فلا ريب أن حال النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من حال أبي بكر وهذا لا ينازع فيه أحد من أهل السنة ولكن ليس في هذا ما يدل على أن عليا أو عثمان أو عمر أو غيرهم أفضل منه لأنهم لم يكونوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في

8

452

هذه الحال ولو كانوا معه لم يعلم أن حالهم يكون أكمل من حال الصديق بل المعروف من حالهم دائما وحاله أنهم وقت المخاوف يكون الصديق أكمل منهم كلهم يقينا وصبرا وعند وجود أسباب الريب يكون الصديق أعظم يقينا وطمأنينة وعند ما يتأذى منه النبي صلى الله عليه وسلم يكون الصديق أتبعهم لمرضاته وأبعدهم عما يؤذيه هذا هو المعلوم لكل من استقرأ أحوالهم في محيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته حتى أنه لما مات وموته كان أعظم المصائب التي تزلزل بها الإيمان حتى ارتد أكثر الأعراب واضطرب لها عمر الذي كان أقواهم إيمانا وأعظمهم يقينا كان مع هذا تثبيت الله تعالى للصديق بالقول الثابت أكمل وأتم من غيره وكان في يقينه وطمأنينته وعلمه وغير ذلك أكمل من عمر وغيره فقال الصديق رضي الله عنه من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ثم قرأ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفأن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا الآية سورة آل عمران

8

453

وفي البخاري عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم مات وأبو بكر بالسنح فقام عمر يقول والله ما مات رسول الله قالت وقال عمر والله ما كان يقع في نفسي إلا ذلك وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم فجاء أبو بكر فكشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله وقال بأبي أنت وأمي طبت حيا وميتا والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبدا ثم خرج فقال أيها الحالف على رسلك فلما تكلم أبو بكر جلس عمر فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه وقال ألا من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت وقال إنك ميت وإنهم ميتون سورة الزمر وقال وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين سورة آل عمران قال فنشج الناس يبكون وفي صحيح البخاري عن أنس أنه سمع خطبة عمر الأخيرة حين جلس على المنبر وذلك وذلك الغد من يوم توفى رسول الله عليه وسلم فتشهد وأبو بكر صامت لا يتكلم قال كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يدبرنا يريد بذلك أن يكون آخرهم فإن بك محمد قد مات فإن الله قد جعل بين أظهركم نورا

8

454

تهتدون به وبه هدى الله محمدا وإن أبا بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم ثاني اثنين وإنه أولى المسلمين بأمورهم فقوموا فبايعوه وكانت طائفة منهم قد بايعوه قبل ذلك في سقيفة بني ساعدة وكانت بيعة العامة على المنبر وفي طريق آخر في البخاري أما بعد فاختار الله لرسوله الذي عنده على الذي عندكم وهذا الذي هدى به رسوله فخذوا به تهتدوا وإنما هدى الله به رسوله صلى الله عليه وسلم ذكره البخاري في كتاب الاعتصام بالسنة وروى البخاري أيضا عن عائشة في هذه القصة قالت ما كان من خطبتهما من خطبة إلا نفع الله بها لقد خوف عمر الناس وإن فيهم لنفاقا فردهم الله بذلك ثم لقد بصر أبو بكر الناس الهدى وعرفهم الحق الذي عليهم وأيضا فقصة يوم بدر في العريش ويوم الحديبية في طمأنينته وسكينته معروفة برز بذلك على سائر الصحابة فكيف ينسب إلى

8

455

الجزع وأيضا فقيامه بقتال المرتدين ومانعي الزكاة وتثبيت المؤمنين مع تجهيز أسامة مما يبين أنه أعظم الناس طمأنينة ويقينا وقد روى أنه قيل له قد نزل بك ما لو نزل بالجبال لهاضها وبالبحار لغاضها وما نراك ضعفت فقال ما دخل قلبي رعب بعد ليلة الغار فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى حزني أو كما قال لا عليك يا أبا بكر فإن الله قد تكفل لهذا الأمر بالتمام ثم يقال من شبه يقين أبي بكر وصبره بغيره من الصحابة عمر أو عثمان أو علي فإنه يدل على جهله والسنى لا ينازع في فضله على عمر وعثمان ولكن الرافضي الذي أدعى أن عليا كان أكمل من الثلاثة في هذه الصفات دعواه بهت وكذب وفرية فإن من تدبر سيرة عمر وعثمان علم أنهما كانا في الصبر والثبات وقلة الجزع في المصائب أكمل من علي فعثمان حاصروه وطلبوا خلعه من الخلافة أو قتله ولم يزالوا به حتى قتلوه وهو يمنع الناس من مقاتلتهم إلى أن قتل شهيدا وما دافع عن نفسه فهل هذا إلا من أعظم الصبر على المصائب ومعلوم أن عليا لم يكن صبره كصبر عثمان بل كان يحصل له من إظهار التأذي من عسكره الذين يقاتلون معه ومن العسكر الذين

8

456

يقاتلهم ما لم يكن يظهر مثله لا من أبي بكر ولا عمر ولا عثمان مع كون الذين يقاتلونهم كانوا كفارا وكان الذين معهم بالنسبة إلى عدوهم أقل من الذين مع علي بالنسبة إلى من يقاتله فإن الكفار الذين قاتلهم أبو بكر وعمر وعثمان كانوا أضعاف المسلمين ولم يكن جيش معاوية أكثر من جيش علي بل كانوا أقل منه ومعلوم أن خوف الإمام من استيلاء الكفار على المسلمين أعظم من خوفه من استيلاء بعض المسلمين على بعض فكان ما يخافه الأئمة الثلاثة أعظم مما يخافه علي والمقتضي للخوف منهم أعظم ومع هذا فكانوا أكمل يقينا وصبرا مع أعدائهم ومحاربيهم من علي مع أعدائه ومحاربيه فكيف يقال إن يقين علي وصبره كان أعظم من يقين أبي بكر وصبره وهل هذا إلا من نوع السفسطة والمكابرة لما علم بالتواتر خلافة فصل قول الرافضي إن الآية تدل على خوره وقلة صبره وعدم يقينه بالله وعدم رضاه بمساواته للنبي صلى الله عليه وسلم وبقضاء الله وقدره

8

457

فهذا كله كذب منه ظاهر ليس في الأية ما يدل على هذا وذلك من وجهين أحدهما أن النهي عن الشيء لا يدل على وقوعه بل يدل على أنه ممنوع منه لئلا يقع فيما بعد كقوله تعالى يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين سورة الاحزاب فهذا لا يدل على أنه كان يطيعهم وكذلك قوله ولا تدع مع الله إلها آخر سورة القصص أو لا تجعل مع الله إلها آخر سورة الإسراء فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن مشركا قط لا سيما بعد النبوة فالأمة متفقة على أنه معصوم من الشرك بعد النبوة وقد نهى عن ذلك بعد النبوة ونظائره كثيرة فقوله لا تحزن لا يدل على أن الصديق كان قد حزن لكن من الممكن في العقل أنه يحزن فقد ينهى عن ذلك لئلا يفعله الثاني أنه بتقدير أن يكون حزن على النبي صلى الله عليه وسلم لئلا يقتل فيذهب الإسلام وكان يود أن يفدي النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا لما كان معه في سفر الهجرة كان يمشي أمامه تارة ووراءه تارة فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال أذكر الرصد فأكون أمامك وأذكر الطلب فأكون وراءك رواه أحمد

8

458

في كتاب مناقب الصحابة فقال حدثنا وكيع عن نافع عن ابن عمر عن ابن أبي مليكة قال لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم خرج معه أبو بكر فأخذ طريق ثور قال فجعل أبو بكر يمشي خلفه ويمشي أمامه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم مالك قال يا رسول الله أخاف أن تؤتى من خلفك فأتأخر وأخاف أن تؤتى من أمامك فأتقدم قال فلما انتهينا إلى الغار قال أبو بكر يا رسول الله كما أنت حتى أقمه قال نافع حدثني رجل عن ابن أبي مليكة أن أبا بكر رأى جحرا في الغار فألقمها قدمه وقال يا رسول الله إن كانت لسعة أو لدغة كانت بي وحينئذ لم يكن يرضى بمساواة النبي صلى الله عليه وسلم لا بالمعنى الذي أراده الكاذب المفترى عليه أنه لم يرض بأن يموتا جميعا بل كان لا يرضى بأن يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيش هو بل كان يختار أن يفديه بنفسه وأهله وماله وهذا واجب على كل مؤمن والصديق أقوم المؤمنين بذلك قال تعالى النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم سورة الأحزاب وفي الصحيحين عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب اليه من ولده ووالده والناس أجمعين

8

459

وحزنه على النبي صلى الله عليه وسلم يدل على كمال موالاته ومحبته ونصحه له واحتراسه عليه وذبه عنه ودفع الأذى عنه وهذا من أعظم الإيمان وإن كان مع ذلك يحصل له بالحزن نوع ضعف فهذا يدل على أن الأتصاف بهذه الصفات مع عدم الحزن هو المأمور به فإن مجرد الحزن لا فائدة فيه ولا يدل ذلك على أن هذا ذنب يذم به فإن من المعلوم أن الحزن على الرسول اعظم من حزن الإنسان على ابنه فإن محبة الرسول أوجب من محبة الإنسان على ابنه فإن محبة الرسول أوجب من محبة الإنسان لابنه ومع هذا فقد أخبر الله عن يعقوب أنه حزن على ابنه يوسف وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله الآية سورة يوسف فهذا إسرائيل نبي كريم قد حزن على ابنه هذا الحزن على النبي صلى الله عليه وسلم خوفا أن يقتل وهو الذي علقت به سعادة الدنيا والآخرة ثم إن هؤلاء الشيعة وغيرهم يحكون عن فاطمة من حزنها على النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يوصف وأنها بنت بيت الأحزان ولا يجعلون ذلك ذما لها مع أنه حزن على أمر فائت لا يعود وأبو بكر إنما حزن عليه في حياته خوف أن يقتل وهو حزن يتضمن الاحتراس ولهذا لما مات لم يحزن هذا الحزن لأنه لا فائدة فيه فحزن أبي بكر بلا ريب

8

460

أكمل من حزن فاطمة فإن كان مذموما على حزنه ففاطمة أولى بذلك وإلا فأبو بكر أحق بأن لا يذم على حزنه على النبي صلى الله عليه وسلم من حزن غيره عليه بعد موته وإن قيل أبو بكر إنما حزن على نفسه لا يقتله الكفار قيل فهذا يناقض قولكم إنه كان عدوه وكان استصحبه لئلا يظهر أمره وقيل هذا باطل بما علم بالتواتر من حال أبي بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم وبما أوجبه الله على المؤمنين ثم يقال هب أن حزنه كان عليه وعلى النبي صلى الله عليه وسلم أفيستحق أن يشتم على ذلك ولو قدر أنه حزن خوفا أن يقتله عدوه لم يكن هذا مما يستحق به هذا السب ثم إن قدر أن ذلك ذنب فلم يصبر عنه بل لما نهاه عنه انتهى فقد نهى الله تعالى الأنبياء عن أمور كثيرة انتهوا عنها ولم يكونوا مذمومين بما فعلوه قبل النهي وأيضا فهؤلاء ينقلون عن علي وفاطمة من الجزع والحزن على فوت مال فدك وغيرها من الميراث ما يقتضي أن صاحبه إنما يحزن على فوت الدنيا وقد قال تعالى لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم سورة الحديد فقد دعا الناس إلى أن لا يأسوا على ما فاتهم من الدنيا ومعلوم أن الحزن على الدنيا أولى بأن ينهى عنه من الحزن على الدين

8

461

وإن قدر أنه حزن على الدنيا فحزن الإنسان على نفسه خوفا أن يقتل أولى أن يعذر به من حزنه على مال لم يحصل له وهؤلاء الرافضة من أجهل الناس يذكرون فيمن يوالونه من أخبار المدح وفيمن يعادونه من أخبار الذم ما هو بالعكس أولى فلا تجدهم يذمون أبا بكر وأمثاله بأمر إلا ولو كان ذلك الأمر ذما لكان علي أولى بذلك ولا يمدحون عليا بمدح يستحق أن يكون مدحا إلا وأبو بكر أولى بذلك فإنه أكمل في الممادح كلها وأبرأ من المذام كلها حقيقيها وخياليها فصل وأما قوله إنه يدل على قلة صبره فباطل بل ولا يدل على انعدام شي من الصبر المأمور به فإن الصبر على المصائب واجب بالكتاب والسنة ومع هذا فحزن القلب لا ينافي ذلك كما قال صلى الله عليه وسلم إن الله لا يؤاخذ على دمع العين ولا على حزن القلب ولكن يؤاخذ على هذا يعني اللسان أو

8

462

يرحم وقوله إنه يدل على عدم يقينه بالله كذب وبهت فإن الأنبياء قد حزنوا ولم يكن ذلك دليلا على عدم يقينهم بالله كما ذكر الله عن يعقوب وثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات ابنه إبراهيم قال تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضى الرب وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون وقد نهى الله عن الحزن نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله ولا تحزن عليهم سورة النحل وكلك قوله يدل على الخور وعدم الرضا بقضاء الله وقدره هو باطل كما تقدم نظائره فصل وقوله وإن كان الحزن طاعة استحال نهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه وإن كان معصية كان ما ادعوه فضيلة رذيلة

8

463

والجواب أولا أنه لم يدع أحد أن مجرد الحزن كان هو الفضيلة بل الفضيلة ما دل عليه قوله تعالى إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا الآية سورة التوبة فالفضيلة كونه هو الذي خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحال واختص بصحبته وكان له كمال الصحبة مطلقا وقول النبي صلى الله عليه وسلم له إن الله معنا وما يتضمنه ذلك من كمال موافقته للنبي صلى الله عليه وسلم ومحبته وطمأنينته وكمال معونته للنبي صلى الله عليه وسلم وموالاته ففي هذه الحال من كمال إيمانه وتقواه ما هو الفضيلة وكمال محبته ونصره للنبي صلى الله عليه وسلم هو الموجب لحزنه إن كان حزن مع أن القرآن لم يدل على أنه حزن كما تقدم ويقال ثانيا هذا بعينه موجود في قوله عز وجل لنبيه ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون سورة النحل وقوله لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم سورة الحجر ونحو ذلك بل في قوله تعالى لموسى خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى سورة طه

8

464

فيقال إن كان الخوف طاعة فقد نهى عنه وإن كان معصية فقد عصى ويقال إنه أمر أن يطمئن ويثبت لأن الخوف يحصل بغير اختيار العبد إذا لم يكن له ما يوجب الأمن فإذا حصل ما يوجب الأمن زال الخوف فقول لموسى ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى سورة طه هو أمر مقرون بخبره بما يزيل الخوف وكذلك قوله فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى سورة طه هو نهي عن الخوف مقرون بما يوجب زواله وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لصديقه لا تحزن إن الله معنا نهى عن الحزن مقرون بما يوجب زواله وهو قوله إن الله معنا وإذا حصل الخبر بما يوجب زوال الحزن والخوف زال وإلا فهو تهجم على الإنسان بغير اختياره وهكذا قول صاحب مدين لموسى لما قص عليه القصص لا تخف نجوت من القوم الظالمين سورة القصص وكذلك قوله ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين سورة آل عمران قرن النهى عن ذلك بما يزيله من إخباره أنهم هم الأعلون إن كانوا مؤمنين وكذلك قوله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون سورة

8

465

النحل مقرون بقوله إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون سورة النحل وإخبارهم بأن الله معهم يوجب زوال الضيق من مكر عدوهم وقد قال لما أنزل الله الملائكة يوم بدر وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم سورة آل عمران ويقال ثالثا ليس في نهيه عن الحزن ما يدل على وجوده كما تقدم بل قد ينهى عنه لئلا يوجد إذا وجد مقتضيه وحينئذ فلا يضرنا كونه معصية لو وجد قالنهي قد يكون نهي تسلية وتعزية وتثبيت وإن لم يكن المنهي عنه معصية بل قد يكون مما يحصل بغير اختيار المنهى وقد يكون الحزن من هذا الباب ولذلك قد ينهى الرجل عن إفراطه في الحب وإن كان الحب مما لا يملك وينهى عن الغشى والصعق والاختلاج وإن كان هذا يحصل بغير اختياره والنهي عن ذلك ليس لأن المنهى عنه معصية إذا حصل بغير اختياره ولم يكن سببه محظورا فإن قيل فيكون قد نهي عما لا يمكن تركه قيل المراد بذلك أنه مأمور بأن يأتي بالضد المنافي للحزن وهو قادر على اكتسابه فإن الإنسان قد يسترسل في أسباب الحزن والخوف وسقوط بدنه فإذا سعى في اكتساب ما يقويه ثبت قلبه وبدونه وعلى

8

466

هذا فيكون النهي عن هذا أمرا بما يزيله وإن لم يكن معصية كما يؤمر الإنسان بدفع عدوه عنه وبإزالة النجاسة ونحو ذلك مما يؤذيه وإن لم يكن حصل بذنب منه والحزن يؤذي القلب فأمر بما يزيله كما يؤمر بما يزيل النجاسة والحزن إنما حصل بطاعة وهو محبة الرسول ونصحه وليس هو بمعصية يذم عليه وإنما حصل بسبب الطاعة لضعف القلب الذي لا يذم المرء عليه وأمر باكتساب قوة تدفعه عنه ليثاب على ذلك ويقال رابعا لو قدر أن الحزن كان معصية فهو فعله قبل أن ينهى عنه فلما نهي عنه لم يفعله وما فعل قبل التحريم فلا إثم فيه كما كانوا قبل تحريم الخمر يشربونها ويقامرون فلما نهوا عنها انتهوا ثم تابوا كما تقدم قال أبو محمد بن حزم وأما حزن أبي بكر رضي الله عنه فإنه قبل أن ينهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه كان غاية الرضا لله فإنه كان إشفاقا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك كان الله معه والله لا يكون قط مع العصاه بل عليهم وما حزن أبو بكر قط بعد أن

8

467

نهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحزن ولو كان لهؤلاء الأرذال حياء أو علم لم يأتوا بمثل هذا إذ لو كان حزن أبي بكر عيبا عليه لكان ذلك على محمد وموسى عليهما الصلاة والسلام عيبا لأن الله تعالى قال لموسى سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون سورة القصص ثم قال عن السحرة لما قالوا إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى إلى قوله فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى سورة طه فهذا موسى رسول الله وكليمه كان قد أخبره الله عز وجل بأن فرعون وملأه لا يصلون إليهما وأنه هو الغالب ثم أوجس في نفسه خيفة بعد ذلك فإيجاس موسى لم يكن إلا لنسيانه الوعد المتقدم وحزن أبي بكر كان قبل أن ينهى عنه وأما

8

468

محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله قال ومن كفر فلا يحزنك كفره سورة لقمان وقال تعالى ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون سورة النحل وقال فلا يحزنك قولهم سورة يس فلا تذهب نفسك عليهم حسرات سورة فاطر ووجدناه تعالى قد قال قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون سورة الأنعام فقد أخبرنا أنه يعلم أن رسوله يحزنه الذي يقولون ونهاه عن ذلك فيلزمهم في حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم كالذي أوردوا في حزن أبي بكر سواء ونعم إن حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كانوا يقولون من الكفر كان طاعة لله قبل أن ينهاه الله كما كان حزن أبي بكر طاعه لله قبل أن ينهاه عنه وما حزن أبو بكر

8

469

بعد ما نهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن الحزن فكيف وقد يمكن أن أبا بكر لم يكن حزن يومئذ لكن نهاه صلى الله عليه وسلم عن أن يكون منه حزن كما قال تعالى ولا تطع منهم آثما أو كفورا سورة الإنسان فصل قال شيخ الإسلام المصنف رحمه الله تعالى ورضي الله عنه وقد زعم بعض الرافضة أن قوله تعالى إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا سورة التوبة لا يدل على إيمان أبي بكر فإن الصحبة قد تكون من المؤمن والكافر كما قال تعالى واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا سورة الكهف إلى قوله قال له صاحبه وهو

8

470

يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة سورة الكهف الآية فيقال معلوم أن لفظ الصاحب في اللغة يتناول من صحب غيره ليس فيه دلالة بمجرد هذا اللفظ على أنه وليه أو عدوه أو مؤمن أو كافر إلا لما يقترن به وقد قال تعالى والصاحب بالجنب وابن السبيل سورة النساء وهو يتناول الرفيق في السفر والزوجة وليس فيه دلالة على إيمان أو كفر وكذلك قوله تعالى والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى سورة النجم وقوله وما صاحبكم بمجنون سورة التكوير المراد به محمد صلى الله عليه وسلم لكونه صحب البشر فإنه إذا كان قد صحبهم كان بينه وبينهم من المشاركة ما يمكنهم أن ينقلوا عنه ما جاءه من الوحي وما يسمعون به كلامه ويفقهون معانيه بخلاف الملك الذي لم يصحبهم فإنه لا يمكنهم الأخذ عنه وأيضا قد تضمن ذلك أنه بشر من جنسهم وأخص من ذلك أنه عربي بلسانهم كما قال تعالى لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه سورة التوبة وقال وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه سورة إبراهيم فإنه إذا كان قد صحبهم كان قد تعلم لسانهم وأمكنه

8

471

أن يخاطبهم بلسانهم فيرسل رسولا بلسانهم ليتفقهوا عنه فكان ذكر صحبته لهم هنا على اللطف بهم والإحسان إليهم وهذا بخلاف إضافة الصحبة إليه كقوله تعالى لا تحزن إن الله معنا وقول النبي صلى الله عليه وسلم لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه وقوله هل أنتم تاركي لي صاحبي وأمثال ذلك فإن إضافة الصحبة إليه في خطابه وخطاب المسلمين تتضمن صحبة موالاة له وذلك لا يكون إلا بالإيمان به فلا يطلق لفظ صاحبه على من صحبه في سفره وهو كافر به والقرآن يقول فيه إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا سورة التوبة فأخبر الرسول أن الله معه ومع صاحبه وهذا المعية تتضمن النصر والتأييد وهو إنما ينصره على عدوه وكل كافر عدوه فيمتنع أن يكون الله مؤيدا له ولعدوه معا ولو كان مع عدوه لكان ذلك مما يوجب الحزن ويزيل السكينة فعلم أن لفظ صاحبه تضمن صحبة ولاية ومحبة وتستلزم الإيمان له وبه

8

472

وأيضا فقوله لا تحزن دليل على أنه وليه وإنه حزن خوفا من عدوهما فقال له لا تحزن إن الله معنا ولو كان عدوه لكان لم يحزن إلا حيث يتمكن من قهره فلا يقال له لا تحزن إن الله معنا لأن كون الله مع نبيه مما يسر النبي وكونه مع عدوه مما يسوءه فيمتنع أن يجمع بينهما لا سيما مع قوله لا تحزن ثم قوله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار سورة التوبة ونصره لا يكون بأن يقترن به عدوه وحده وإنما يكون باقتران وليه ونجاته من عدوه فكيف لا ينصر على الذين كفروا من يكونون قد لزموه ولم يفارقوه ليلا ولا نهارا وهم معه في سفره وقوله ثاني اثنين حال من الضمير في أخرجه أي أخرجوه في حال كونه نبيا ثاني اثنين فهو موصوف بأنه أحد الاثنين فيكون الاثنان مخرجين جميعا فإنه يمتنع أن يخرج ثاني اثنين إلا مع الآخر فإنه لو أخرج دونه لم يكن قد أخرج ثاني اثنين فدل على أن الكفار أخرجوه ثاني اثنين فأخرجوه مصاحبا لقرينه في حال كونه معه فلزم أن يكونوا أخرجوهما وذلك هو الواقع فإن الكفار أخرجوا المهاجرين كلهم كما قال تعالى للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون

8

473

فضلا من الله ورضوانا سورة الحشر وقال تعالى أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله سورة الحج وقال إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم سورة الممتحنة وذلك أنهم منعوهم أن يقيموا بمكة مع الإيمان وهم لا يمكنهم ترك الإيمان فقد أخرجوهم إذا كانوا مؤمنين وهذا يدل على أن الكفار أخرجوا صاحبه كما أخرجوه والكفار إنما أخرجوا أعداءهم لا من كان كافرا منهم فهذا يدل على أن صحبته صحبة موالاة وموافقة على الإيمان لا صحبة مع الكفر وإذا قيل هذا يدل على أنه كان مظهرا للموافقة وقد كان يظهر الموافقة له من كان في الباطن منافقا وقد يدخلون في لفظ الأصحاب في مثل قوله لما استؤذن في قتل بعض المنافقين قال لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه فدل على أن هذا اللفظ قد كان الناس يدخلون فيه من هو منافق

8

474

قيل قد ذكرنا فيما تقدم أن المهاجرين لم يكن فيهم منافق وينبغي أن يعرف أن المنافقين كانوا قليلين بالنسبة إلى المؤمنين وأكثرهم انكشف حاله لما نزل فيهم القرآن وغير ذلك وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف كلا منهم بعينه فالذين باشروا ذلك كانوا يعرفونه والعلم يكون الرجل مؤمنا في الباطن أو يهوديا أو نصرانيا أو مشركا أمر لا يخفى مع طول المباشرة فإنه ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه وقال تعالى ولو نشا لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم سورة محمد وقال ولتعرفنهم في لحن القول سورة محمد فالضمر للكفر لا بد أن يعرف في لحن القول وأما بالسيما فقد يعرف وقد لا يعرف وقد قال تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنونهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار سورة الممتحنة والصحابة المذكورون في الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم والذين يعظمهم المسلمون على الدين كلهم كانوا مؤمنين به ولم يعظم المسلمون ولله الحمد على الدين منافقا والإيمان يعلم من الرجل كما يعلم سائر أحوال قلبه من موالاته ومعاداته وفرحه وغضبه وجوعه وعطشه وغير ذلك فإن هذه الأمور لها لوازم ظاهرة والأمور الظاهرة تستلزم أمورا باطنة وهذا أمر يعرفه

8

475

الناس فيمن جربوه وامتحنوه ونحن نعلم بالاضطرار أن ابن عمر وابن عباس وأنس بن مالك وأبا سعيد الخدري وجابر أو نحوهم كانوا مؤمنين بالرسول محبين له معظمين له ليسوا منافقين فكيف لا يعلم ذلك في مثل الخلفاء الراشدين الذين أخبارهم وإيمانهم ومحبتهم ونصرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد طبقت البلاد مشارقها ومغاربها فهذا مما ينبغي أن يعرف ولا يجعل وجود قوم منافقين موجبا للشك في إيمان هؤلاء الذين لهم في الأمة لسان صدق بل نحن نعلم بالضرورة إيمان سعيد بن المسيب والحسن وعلقمة والأسود ومالك والشافعي وأحمد والفضيل والجنيد ومن هو دون هؤلاء فكيف لا يعلم إيمان الصحابة ونحن نعلم إيمان كثير ممن باشرناه من الأصحاب وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع وبين أن العلم بصدق الصادق في أخباره إذا كان دعوى نبوة أو غير ذلك وكذب الكاذب مما يعلم بالاضطرار في مواضع كثيرة بأسباب كثيرة وإظهار الإسلام من هذا الباب فإن الإنسان إما صادق وإما كاذب فهذا يقال أولا ويقال ثانيا وهو ما ذكره أحمد وغيره ولا أعلم بين العلماء فيه نزاعا أن المهاجرين لم يكن فيهم منافق أصلا وذلك

8

476

لأن المهاجرين إنما هاجروا باختيارهم لما آذاهم الكفار على الإيمان وهم بمكة لم يكن يؤمن أحدهم إلا باختياره بل مع احتمال الأذى فلم يكن أحد يحتاج أن يظهر الإيمان ويبطن الكفر لا سيما إذا هاجر إلى دار يكون فيها سلطان الرسول عليه ولكن لما ظهر الإسلام في قبائل الأنصار صار بعض من لم يؤمن بقلبه يحتاج إلى أن يظهر موافقة قومه لأن المؤمنين صار لهم سلطان وعز ومنعة وصار معهم السيف يقتلون من كفر ويقال ثالثا عامة عقلاء بني آدم إذا عاشر أحدهم الآخر مدة يتبين له صداقته من عداوته فالرسول يصحب أبا بكر بمكة بضع عشرة سنة ولا يتبين له هل هو صديقه أو عدوه وهو يجتمع معه في دار الخوف وهل هذا إلا قدح في الرسول ثم يقال جميع الناس كانوا يعرفون أنه أعظم أوليائه من حين المبعث إلى الموت فإنه أول من آمن به من الرجال الأحرار ودعا غيره إلى الإيمان به حتى آمنوا وبذل أمواله في تخليص من كان آمن به من المستضعفين مثل بلال وغيره وكان يخرج معه إلى الموسم فيدعو القبائل إلى الإيمان به ويأتي النبي صلى الله عليه وسلم كل يوم إلى بيته إما غدوة وإما عشية وقد آذاه الكفار على إيمانه حتى خرج من مكة فلقيه ابن الدغنة أمير من أمراء العرب سيد القارة وقال إلى

8

477

أين وقد تقدم حديثه فهل يشك من له أدنى مسكة من عقل أن مثل هذا لا يفعله إلا من هو في غاية الموالاة والمحبة للرسول ولما جاء به وأن موالاته ومحبته بلغت به إلى أن يعادي قومه ويصبر على أذاهم وينفق أمواله على من يحتاج إليه من إخوانه المؤمنين وكثير من الناس يكون مواليا لغيره لكن لا يدخل معه في المحن والشدائد ومعاداة الناس وإظهار موافقته على ما يعاديه الناس عليه فأما إذا أظهر اتباعه وموافقته على ما يعاديه عليه جمهور الناس وقد صبر على أذى المعادين وبذل الأموال في موافقته من غير أن يكون هناك داع يدعو إلى ذلك من الدنيا لأنه لم يحصل له بموافقته في مكة شيء من الدنيا لا مال ولا رياسة ولا غير ذلك بل لم يحصل له من الدنيا إلا ما هو أذى ومحنة وبلاء والإنسان قد يظهر موافقته للغير إما لغرض يناله منه أو لغرض آخر يناله بذلك مثل أن يقصد قتله أو الأحتيال عليه وهذا كله كان منتفيا بمكة فإن الذين كانوا يقصدون أذى النبي صلى الله عليه وسلم كانوا من أعظم الناس عداوة لأبي بكر لما آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن بهم اتصال يدعو إلى ذلك ألبتة ولم يكونوا يحتاجون في مثل ذلك إلى أبي بكر بل كانوا أقدر على ذلك ولم يكن يحصل للنبي صلى الله عليه وسلم أذى قط من أبى بكر مع خلوته به واجتماعه به ليلا ونهارا وتمكنه مما يريد المخادع من إطعام سم أو قتل أو غير ذلك

8

478

وأيضا فكان حفظ الله لرسوله وحمايته له يوجب أن يطلعه على ضميره السوء لو كان مضمرا له سوءا وهو قد أطلعه الله على ما في نفس أبي عزة لما جاء مظهرا للإيمان بنية الفتك به وكان ذلك في قعدة واحدة وكذلك أطلعه على ما في نفس الحجبي يوم حنين لما انهزم المسلمون وهم بالسوأة وأطلعه على ما في نفس عمير بن وهب لما جاء من مكة مظهرا للإسلام يريد الفتك به وأطلعه الله على المنافقين في غزوة تبوك لما أرادوا أن يحلوا حزام ناقته وأبو بكر معه دائما ليلا ونهارا حضرا وسفرا في خلوته وظهوره ويوم بدر يكون معه وحده في العريش ويكون في قلبه ضمير سوء والنبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم ضمير ذلك قط وأدنى من له نوع فطنة يعلم ذلك في أقل من هذا الاجتماع فهل يظن ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم وصديقه إلا من هو مع فرط جهله وكمال نقص عقله من أعظم الناس تنقصا للرسول وطعنا فيه وقدحا في معرفته فإن كان هذا الجاهل مع ذلك محبا للرسول فهو كما قيل عدو عاقل خير من صديق جاهل ولا ريب أن كثيرا ممن يحب الرسول من بني هاشم وغيرهم وقد تشيع قد تلقى من الرافضة ما هو من أعظم الأمور قدحا في الرسول فإن أصل الرفض إنما أحدثه زنديق غرضه إبطال دين الإسلام والقدح

8

479

في رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قد ذكر ذلك العلماء وكان عبد الله بن سبأ شيخ الرافضة لما أظهر الإسلام أراد أن يفسد الإسلام بمكره وخبثه كما فعل بولص بدين النصارى فأظهر النسك ثم أظهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى سعى في فتنة عثمان وقتله ثم لما قدم على الكوفة أظهر الغلو في علي والنص عليه ليتمكن بذلك من أغراضه وبلغ ذلك عليا فطلب قتله فهرب منه إلى قرقيسيا وخبره معروف وقد ذكره غير واحد من العلماء وإلا فمن له أدنى خبرة بدين الإسلام يعلم أن مذهب الرافضة مناقض له ولهذا كانت الزنادقة الذين قصدهم إفساد الإسلام يأمرون باظهار التشيع والدخول إلى مقاصدهم من باب الشيعة كما ذكر ذلك إمامهم صاحب البلاغ الأكبر والناموس الأعظم قال القاضي أبو بكر بن الطيب وقد اتفق جميع الباطنية وكل مصنف لكتاب ورسالة منهم في ترتيب الدعوة المضلة على أن من سبيل الداعي إلى دينهم ورجسهم المجانب لجميع أديان الرسل والشرائع أن يجيب الداعي إليه الناس بما يبين وما يظهر له من أحوالهم

8

480

ومذاهبهم وقالوا لكل داع لهم إلى ضلالتهم ما أنا حاك لألفاظهم وصيغة قولهم بغير زيادة ولا نقصان ليعلم بذلك كفرهم وعنادهم لسائر الرسل والملل فقالوا للداعي يجب عليك إذا وجدت من تدعوه مسلما أن تجعل التشيع عنده دينك وشعارك واجعل المدخل عليه من جهة ظلم السلف وقتلهم الحسين وسبيهم نساءه وذريته والتبرى من تيم وعدي ومن بني أمية وبني العباس وأن تكون قائلا بالتشبيه والتجسيم والبدء والتناسخ والرجعة والغلو وأن عليا إله يعلم الغيب مفوض إليه خلق العالم وما أشبه ذلك من أعاجيب الشيعة وجهلهم فإنهم أسرع إلى إجابتك بهذ الناموس حتى تتمكن منهم مما تحتاج إليه أنت ومن بعدك ممن تثق به من أصحابك فترقيهم إلى حقائق الأشياء حالا فحالا ولا تجعل كما جعل المسيح ناموسه في زور موسى القول بالتوراة وحفظ السبت ثم عجل وخرج عن الحد وكان له ما كان يعني من قتلهم له بعد تكذيبهم إياه وردهم عليه وتفرقهم عنه فإذا آنست من بعض الشيعة عند الدعوة إجابة ورشدا أوفقته على مثالب علي وولده وعرفته حقيقة الحق لمن هو وفيمن هو وباطل بطلان كل ما عليه أهل ملة محمد صلى الله عليه وسلم وغيره

8

481

من الرسل ومن وجدته صابئا فأدخله مداخله بالأشانيع وتعظيم الكواكب فإن ذلك ديننا وجل مذهبنا في أول أمرنا وأمرهم من جهة الأشانيع يقرب عليك أمره جدا ومن وجدته مجوسيا اتفقت معه في الأصل في الدرجة الرابعة من تعظيم النار والنور والشمس والقمر واتل عليهم أمر السابق وأنه نهر من الذي يعرفونه وثالثه المكنون من ظنه الجيد والظلمة المكتوبة فإنهم مع الصابئين أقرب الأمم إلينا وأولاهم بنا لولا يسير صحفوه بحهلهم به قالوا وإن ظفرت بيهودي فادخل عليه من جهة انتظار المسيح وأنه المهدى الذي ينتظره المسلمون بعينه وعظم السبت عندهم وتقرب إليهم بذلك وأعلمهم أنه مثل يدل على ممثول وأن ممثوله يدل على السابع المنتظر يعنون محمد بن إسماعيل بن جعفر وأنه دوره وأنه هو المسيح وهو المهدي وعند معرفته تكون الراحة من الأعمال وترك التكليفات كما أمروا بالراحة يوم السبت وأن راحة السبت هو دلالة على الراحة من التكليف والعبادات في دور السابع المنتظر وتقرب من قلوبهم بالطعن على النصارى والمسلمين الجهال الحياري الذين يزعمون أن عيسى

8

482

لم يولد ولا أب له وقو في نفوسهم أن يوسف النجار أبوه وأن مريم أمه وأن يوسف النجار كان ينال منها ما ينال الرجال من النساء وما شاكل ذلك فإنهم لن يلبثوا أن يتبعوك قال وإن وجدت المدعي نصرانيا فادخل عليه بالطعن على اليهود والمسلمين جميعا وصحة قولهم في الثالوث وأن الأب والابن وروح القدس صحيح وعظم الصليب عندهم وعرفهم تأويله وإن وجدته مثانيا فإن المثانية تحرك الذي منه يعترف فداخلهم بالممازجة في الباب السادس في الدرجة السادسة من حدود البلاغ التي يصفها من بعد وامتزج بالنور وبالظلام فإنك تملكهم بذلك وإذا آنست من بعضهم رشدا فاكشف له الغطاء ومتى وقع إليك فيلسوف فقد علمت أن الفلاسفة هم العمدة لنا وقد أجمعنا نحن وهم على إبطال نواميس الأنبياء وعلى القول بقدم العالم لولا ما يخالفنا بعضهم من أن للعالم مدبرا لا يعرفونه فإن وقع الاتفاق منهم على أنه لا مدبر للعالم فقد زالت الشبهة بيننا وبينهم وإذا وقع لك ثنوي منهم فبخ بخ قد ظفرت يداك بمن يقل معه تعبك والمدخل عليه بإبطال التوحيد والقول بالسابق والتالي ورتب له ذلك على ما هو مرسوم لك في أول درجة البلاغ وثانيه وثالثه

8

483

وسنصف لك عنهم من بعد واتخذ غليظ العهود وتوكيد الأيمان وشدة المواثيق جنة لك وحصنا ولا تهجم على مستجيبك بالأشياء الكبار التي يستبشعونها حتى ترقيهم إلى أعلى المراتب حالا فحالا وتدرجهم درجة درجة على ما سنبينه من بعد وقف بكل فريق حيث احتمالهم فواحد لا تزيده على التشيع والائتمام بمحمد بن إسماعيل وأنه حي لا تجاوز به هذا الحد لا سيما إن كان مثله ممن يكثر به وبموضع اسمه وأظهر له العفاف عن الدرهم والدينار وخفف عليه وطأتك مرة بصلاة السبعين وحذره الكذب والزنا واللواط وشرب النبيذ وعليك في أمره بالرفق والمداراة له والتودد وتصبر له إن كان هواه متبعا لك تحظ عنده ويكون لك عونا على دهرك وعلى من لعله يعاديك من أهل الملل ولا تأمن أن يتغير عليك بعض أصحابك ولا تخرجه عن عبادة إلهة والتدين بشريعة محمد نبيه صلى الله عليه وسلم والقول بإمامة علي وبنيه إلى محمد بن إسماعيل وأقم له دلائل الأسابيع فقط ودقه بالصوم والصلاة دقا وشدة الاجتهاد فإنك يومئذ إن أو مات إلى كريمته فضلا عن ماله لم يمنعك وإن أدركته الوفاة فوض إليك ما خلفه وورثك إياه ولم ير في العالم من هو أوثق منك وآخر ترقية إلى نسخ شريعة محمد وأن السابع هو الخاتم للرسل وأنه ينطق كما ينطقون ويأتي بأمر جديد وأن محمدا صاحب

8

484

الدور السادس وأن عليا لم يكن إماما وإنما كان سوسا لمحمد وحسن القول فيه وإلا سياسية فإن هذا باب كبير وعمل عظيم منه ترقى إلى ما هو أعظم منه وأكبر منه ويعينك على زوال ما جاء به من قبلك من وجوب زوال النبوات على المنهاج الذي هو عليه وإياك أن ترتفع من هذا الباب إلا إلى من تقدر فيه النجابة وآخر ترقيه من هذا إلى معرفة القرآن ومؤلفه وسببه وإياك أن تغتر بكثير ممن يبلغ معك إلى هذه المنزلة فترقيه إلى غيرها ألا يغلطون المؤانسة والمدارسة واستحكام الثقة به فإن ذلك يكون لك عونا على تعطيل النبوات والكتب التي يدعونها منزلة من عند الله وآخر ترقية إلى إعلامه أن القائم قد مات وأنه يقوم روحانيا وأن الخلق يرجعون إليه بصورة روحانية تفصل بين العباد بأمر الله عز وجل ويستصفى المؤمنين من الكافرين بصوره روحانية فإن ذلك يكون أيضا عونا لك عند إبلاغه إلى إبطال المعاد الذي يزعمونه والنشور من القبر وآخر ترقيه من هذا إلى إبطال أمر الملائكة في السماء والجن في الأرض وأنه كان قبل آدم بشر كثير وتقيم على ذلك الدلائل المرسومة في كتبنا فإن ذلك مما يعينك وقت بلاغه على تسهيل التعطيل للوحى والإرسال إلى البشر بملائكة والرجوع إلى الحق والقول بقدم العالم

8

485

وآخر ترقية إلى أوائل درجة التوحيد وتدخل عليه بما تضمنه كتابهم المترجم بكتاب الدرس الشافعي للنفس من أنه لا إله ولا صفة ولا موصوف فإن ذلك يعينك على القول بالإلهية لمستحقها عند البلاغ وإلى ذلك يعنون بهذا أن كل داع منهم يترقى درجة درجة إلى أن يصير إماما ناطقا ثم ينقلب الها روحانيا على ما سنشرح قولهم فيه من بعد قالوا ومن بلغته إلى هذا المنزلة فعرفه حسب ما عرفناك من حقيقة أمر الإمام وأن إسماعيل وأباه محمدا كانا من نوابه ففي ذلك عون لك على إبطال إمامة على وولده عند البلاغ والرجوع إلى القول بالحق ثم لا يزال كذلك شيئا فشيئا حتى يبلغ الغاية القصوى على تدريج يصفه عنهم فيما بعد قال القاضي فهذه وصيتهم جميعا للداعي إلى مذاهبهم وفيها أوضح دليل لكل عاقل على كفر القوم وإلحادهم وتصريحهم بإبطال حدوث العالم ومحدثه وتكذيب ملائكته ورسله وجحد المعاد والثواب والعقاب وهذا هو الأصل لجميعهم وإنما يتمحرقون بذكر الأول والثاني والناطق والأساس إلى غير ذلك ويخدعون به الضعفاء حتى إذا استجاب لهم مستجيب أخذوه بالقول بالدهر والتعطيل

8

486

وسأصف من بعد من عظيم سبهم لجميع الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وتجريدهم القول بالاتحاد وأنه نهاية دعوتهم ما يعلم به كل قار له عظيم كفرهم وعنادهم للدين قلت وهذا بين فإن الملاحدة من الباطنية الإسماعيلية وغيرهم والغلاة النصيرية وغير النصيرية إنما يظهرون التشيع وهم في الباطن أكفر من اليهود والنصارى فدل ذلك على أن التشيع دهليز الكفر والنفاق والصديق رضي الله عنه هو الإمام في قتال المرتدين وهؤلاء مرتدون فالصديق وحزبه هم أعداؤه والمقصود هنا أن الصحبة المذكورة في قوله إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا سورة التوبة صحبة موالاة للمصحوب ومتابعة له لا صحبة نفاق كصحبة المسافر للمسافر وهي من الصحبة التي يقصدها الصاحب لمحبة المصحوب كما هو معلوم عند جماهير الخلائق علما ضروريا بما تواتر عندهم من الأمور الكثيرة أن أبا بكر كان في الغاية من محبة النبي صلى الله عليه وسلم وموالاته والإيمان به أعظم مما يعلمون أن عليا كان مسلما وأنه كان ابن عمه وقوله إن الله معنا لم يكن لمجرد الصحبة الظاهرة التي ليس فيها

8

487

متابعة فإن هذه تحصل للكافر إذا صحب المؤمن ليس الله معه بل إنما كانت المعية للموافقة الباطنية والموالاة له والمتابعة ولهذا كل من كان متبعا للرسول كان الله معه بحسب هذا الاتباع قال الله تعالى يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين سورة الأنفال أي حسبك وحسب من اتعبك فكل من اتبع الرسول من جميع المؤمنين فالله حسبه وهذا معنى كون الله معه والكفاية المطلقة مع الاتباع المطلق والناقصة مع الناقص وإذا كان بعض المؤمنين به المتبعين له قد حصل له من يعاديه على ذلك فالله حسبه وهو معه وله نصيب من معنى قوله إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فإن هذا قلبه موافق للرسول وإن لم يكن صحبه ببدنه والأصل في هذا القلب كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن بالمدينة رجالا ما سرتم ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم قالوا وهم بالمدينة قال وهم بالمدينة حبسهم العذر

8

488

فهؤلاء بقلوبهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الغزاة فلهم معنى صحبته في الغزاة فالله معهم بحسب تلك الصحبة المعنوية ولو انفرد الرجل في بعض الأمصار والأعصار بحق جاء به الرسول ولم تنصره الناس عليه فإن الله معه وله نصيب من قوله إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا سورة التوبة فإن نصر الرسول هو نصر دينه الذي جاء به حيث كان ومتى كان ومن وافقه فهو صاحبه عليه في المعنى فإذا قام به ذلك الصاحب كما أمر الله فإن الله مع ما جاء به الرسول ومع ذلك القائم به وهذا المتبع له حسبه الله وهو حسب الرسول كما قال تعالى حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين سورة الأنفال فصل وأما قول الرافضي إن القرآن حيث ذكر إنزال السكينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم شرك معه المؤمنين إلا هذا الموضع ولا نقص أعظم منه

8

489

فالجواب أولا أن هذا يوهم أنه ذكر ذلك في مواضع متعددة وليس كذلك بل لم يذكر ذلك إلا في قصة حنين كما قال تعالى ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها سورة التوبة فذكر إنزال السكينة على الرسول والمؤمنين بعد أن ذكر توليتهم مدبرين وقد ذكر إنزال السكينة على المؤمنين وليس معهم الرسول في قوله إنا فتحنا لك فتحا مبينا سورة الفتح إلى قوله هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين سورة الفتح الآية وقوله لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم سورة الفتح ويقال ثانيا الناس قد تنازعوا في عود الضمير في قوله تعالى فأنزل الله سكينته عليه سورة التوبة فمنهم من قال إنه عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم من قال إنه عائد إلى أبي بكر لأنه أقرب المذكورين ولأنه كان محتاجا إلى إنزال السكينة فأنزل السكينة عليه كما أنزلها على المؤمنين الذين بايعوه تحت الشجرة

8

490

والنبي صلى الله عليه وسلم كان مستغنيا عنها في هذه الحال لكمال طمأنينته بخلاف إنزالها يوم حنين فإنه كان محتاجا إليها لانهزام جمهور أصحابه وإقبال العدو نحوه وسوقه ببغلته إلى العدو وعلى القول الأول يكون الضمير عائدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما عاد الضمير إليه في قوله وأيده بجنود لم تروها سورة التوبة ولأن سياق الكلام كان في ذكره وإنما ذكر صاحبه ضمنا وتبعا لكن يقال على هذا لما قال لصاحبه إن الله معنا والنبي صلى الله عليه وسلم هو المتبوع المطاع وأبو بكر تابع مطيع وهو صاحبه والله معهما فإذا حصل للمتبوع في هذه الحال سكينة وتأييد كان ذلك للتابع أيضا بحكم الحال فإنه صاحب تابع لازم ولم يحتج أن يذكر هنا أبو بكر لكمال الملازمة والمصاحبة التي توجب مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم في التأييد بخلاف حال المنهزمين يوم حنين فإنه لو قال فأنزل الله سكينته على رسوله وسكت لم يكن في الكلام ما يدل على نزول السكينة عليهم لكونهم بانهزامهم فارقوا الرسول ولكونهم لم يثبت لهم من الصحبة المطلقة التي تدل على كمال الملازمة ما ثبت لأبي بكر

8

491

وأبو بكر لما وصفه بالصحبه المطلقة الكاملة ووصفها في أحق الأحوال أن يفارق الصاحب فيها صاحبه وهو حال شدة الخوف كان هذا دليلا بطريق الفحوى على أنه صاحبه وقت النصر والتأييد فإن من كان صاحبه في حال الخوف الشديد فلأن يكون صاحبه في حال حصول النصر والتأييد أولى وأحرى فلم يحتج أن يذكر صحبته له في هذه الحال لدلالة الكلام والحال عليها وإذا علم أنه صاحبه في هذه الحال علم أن ما حصل للرسول من إنزال السكينة والتأييد بإنزال الجنود التي لم يرها الناس لصاحبه المذكور فيها أعظم مما لسائر الناس وهذا من بلاغة القرآن وحسن بيانه وهذا كما في قوله والله ورسوله أحق أن يرضوه سورة التوبة فإن الضمير في قوله أحق أن يرضوه إن عاد إلى الله فإرضاؤه لا يكون إلا بإرضاء الرسول وإن عاد إلى الرسول فإنه لا يكون إرضاؤه إلا بإرضاء الله فلما كان ارضاؤهما لا يحصل أحدهما إلا مع الآخر وهما يحصلان بشئ واحد والمقصود بالقصد الأول إرضاء الله وإرضاء الرسول تابع وحد الضمير في قوله أحق أن يرضوه وكذلك وحد الضمير في قوله فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها لأن نزول ذلك على أحدهما يستلزم مشاركة الآخر له إذ محال

8

492

أن ينزل ذلك على الصاحب دون المصحوب أو على المصحوب دون الصاحب الملازم فلما كان لا يحصل ذلك إلا مع الآخر وحد الضمير وأعاده إلى الرسول فإنه هو المقصود والصاحب تابع له ولو قيل فأنزل السكينة عليهما وأيدهما لأوهم أبا بكر شريك في النبوة كهارون مع موسى حيث قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا الآية سورة القصص وقال ولقد مننا على موسى وهارون ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم ونصرناهم فكانوا هم الغالبين وآتيناهما الكتاب المستبين وهديناهما الصراط المستقيم سورة الصافات فذكرهما أولا وقومهما فيما يشركونهما فيه كما قال فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين سورة الفتح إذا ليس في الكلام ما يقتضي حصول النجاة والنصر لقومهما إذا نصرا ونجيا ثم فيما يختص بهما ذكرهما بلفظ التثنية إذا كانا شريكين في النبوة لم يفرد موسى كما أفرد الرب نفسه بقوله والله ورسوله أحق أن يرضوه سورة التوبة وقوله أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله سورة التوبة فلو قيل أنزل الله سكينته عليهما وأيدهما لأوهم الشركة بل عاد الضمير إلى الرسول المتبوع وتأييده تأييد لصاحبه التابع له الملازم بطريق الضرورة

8

493

ولهذا لم ينصر النبي صلى الله عليه وسلم قط في موطن إلا كان أبو بكر رضي الله عنه أعظم المنصورين بعده ولم يكن أحد من الصحابة أعظم يقينا وثباتا في المخاوف منه ولهذا قيل لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح كما في السنن عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال هل رأى أحد منكم رؤيا فقال رجل أنا رأيت كأن ميزانا نزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت أنت بأبي بكر ثم وزن أبو بكر وعمر فرجح أبو بكر ثم وزن عمر وعثمان فرجح عمر ثم رفع الميزان فاستاء لها النبي صلى الله عليه وسلم فقال خلافة نبوة ثم يؤتى الله الملك من يشاء وقال أبو بكر بن عياش ما سبقهم أبو بكر بصلاة ولا صيام ولكن بشيء وقر في قلبه فصل قال الرافضي وأما قوله وسيجنبها الأتقى سورة الليل فإن المراد به أبو الدحداح حيث اشترى نخلة لشخص لأجل جاره وقد عرض النبي صلى الله عليه وسلم على

8

494

صاحب النخلة نخلة في الجنة فسمع أبو الدحداح فاشتراها ببستان له ووهبها الجار فجعل النبي صلى الله عليه وسلم له بستانا عوضها في الجنة والجواب أن يقال لا يجوز أن تكون هذه الآية مختصة بأبي الدحداح دون أبي بكر باتفاق أهل العلم بالقرآن وتفسيره وأسباب نزوله وذلك أن هذه السورة مكية باتفاق العلماء وقصة أبي الدحداح كانت بالمدينة باتفاق العلماء فإنه من الأنصار والأنصار إنما صحبوه بالمدينة ولم تكن البساتين وهي الحدائق التي تسمى بالحيطان إلا بالمدينة فمن الممتنع أن تكون الآية لم تنزل إلا بعد قصة أبي الدحداح بل إن كان قد قال بعض العلماء إنها نزلت فيه فمعناه

8

495

أنه ممن دخل في الآية وممن شمله حكمها وعمومها فإن كثيرا ما يقول بعض الصحابة والتابعين نزلت هذه الآية في كذا ويكون المراد بذلك أنها دلت على هذا الحكم وتناولته وأريد بها هذا الحكم ومنهم من يقول بل قد تنزل الآية مرتين مرة لهذا السبب ومرة لهذا السبب فعلى قول هؤلاء يمكن أنها نزلت مرة ثانية في قصة أبي الدحداح وإلا فلا خلاف بين أهل العلم أنها نزلت بمكة قبل أن يسلم أبو الداحداح وقبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكر غير واحد من أهل العلم أنها نزلت في قصة أبي بكر فذكر ابن جرير في تفسيره بإسناده عن عبد الله بن الزبير وغيره أنها نزلت في أبي بكر وكذلك ذكره ابن أبي حاتم والثعلبي أنها نزلت في أبي بكر عن عبد الله وعن سعيد بن المسيب وذكر ابن أبي حاتم في تفسيره حدثنا أبي حدثنا محمد بن أبي عمر العدني حدثنا سفيان حدثنا هشام بن عروة عن أبيه قال أعتق أبو بكر سبعة كلهم يعذب في الله بلالا وعامر بن فهيرة والنهدية

8

496

وابنتها وزنيرة وأم عميس وأمه بني المؤمل قال سفيان فأما زنيرة فكانت رومية وكانت لبني عبد الدار فلما أسلمت عميت فقالوا أعمتها اللات والعزى قالت فهي كافرة باللات والعزى فرد الله إليها بصرها وأما بلال فاشتراه وهو مدفون في الحجارة فقالوا لو أبيت إلا أوقية لبعناكه فقال أبو بكر لو أبيتم إلا مائة أوقية لأخذته قال وفيه نزلت وسيجنبها الأتقى سورة الليل إلى آخر السورة وأسلم وله أربعون ألفا فأنفقها في سبيل الله ويدل على أنها نزلت في أبي بكر وجوه أحدها أنه قال وسيجنيها الأتقى وقال إن أكرمكم عند الله أتقاكم سورة الحجرات فلا بد أن يكون أتقى الأمة داخلا في هذه الآية وهو أكرمهم عند الله ولم يقل أحد إن أبا الدحداح ونحوه أفضل وأكرم من السابقين الأولين من المهاجرين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم بل الأمة كلهم سنيهم وغير سنيهم متفقون على أن هؤلاء وأمثالهم من المهاجرين أفضل من أبي الدحداح فلا بد أن يكون الأتقى الذي يؤتى ماله يتزكى فيهم وهذا القائل قد ادعى أنها نزلت في أبي الدحداح فإذا كان القائل قائلين قائلا يقول نزلت فيه وقائلا يقول نزلت في أبي بكر كان هذا القائل هو الذي يدل القرآن على قوله وإن قدر عموم الأية لهما فأبو بكر أحق بالدخول فيها من أبي الدحداح

8

497

وكيف لا يكون كذلك وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما نفعني مال قط كمال أبي بكر فقد نفى عن جميع مال الأمة أن ينفعه مال أبي بكر فكيف تكون تلك الأموال المفضولة دخلت في الآية والمال الذي هو أنفع الأموال له لم يدخل فيها الوجه الثاني أنه إذا كان الأتقى هو الذي يؤتى ماله يتزكى وأكرم الخلق أتقاهم كان هذا أفضل الناس والقولان المشهوران في هذه الآية قول أهل السنة أن أفضل الخلق أبو بكر وقول الشيعة علي فلم يجز أن يكون الأتقى الذي هو أكرم الخلق على الله واحدا غيرهما وليس منهما واحد يدخل في الأتقى وإذا ثبت أنه لا بد من دخول أحدهما في الأتقى وجب أن يكون أبو بكر داخلا في الآية ويكون أولى بذلك من علي لأسباب أحدها أنه قال الذي يؤتى ماله يتزكى سورة الليل وقد ثبت في النقل المتواتر في الصحاح وغيرها أن أبا بكر أنفق ماله وأنه مقدم في ذلك على جميع الصحابة كما ثبت في الحديث الذي رواه البخاري عن ابن عباس قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه عاصبا رأسه بخرقة فقعد على المنبر فحمد الله

8

498

وأثنى عليه ثم قال إنه ليس من الناس أحد أمن علي في نفسه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن خلة الإسلام أفضل سدوا عني كل خوخة في هذا المسجد إلا خوخة أبي بكر وفي الصحيحين عنه أنه قال صلى الله عليه وسلم إن أمن الناس في صحبته وماله أبو بكر وفي البخاري عن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدقت وواساني بنفسه ماله فهل أنتم تاركوا لي صاحبي مرتين فما أوذى بعدها وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر فبكى أبو بكر وقال هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله وعن عمر قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق فوافق ذلك مالا عندي فقلت اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما فجئت بنصف مالي فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما أبقيت لأهلك قلت مثله وجاء أبو بكر بماله كله فقال له النبي صلى الله

8

499

عليه وسلم ما أبقيت لأهلك قال أبقيت لهم الله ورسوله فقلت لا أسابقك إلى شيء أبدا رواه أبو داود والترمذي وصححه فهذه النصوص الصحيحة المتواترة الصريحة تدل على أنه كان من أعظم الناس إنفاقا لماله فيما يرضى الله ورسوله وأما علي فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمونه لما أخذه من أبي طالب لمجاعة حصلت بمكة وما زال علي فقيرا حتى تزوج بفاطمة وهو فقير وهذا مشهور معروف عن أهل السنة والشيعة وكان في عيال النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له ما ينفقه ولو كان له مال لأنفقه لكنه كان منفقا عليه لا منفقا السبب الثاني قوله وما لأحد عنده من نعمة تجزى سورة الليل وهذه لأبي بكر دون علي لأن أبا بكر كان للنبي صلى الله عليه وسلم عنده نعمة الإيمان أن هداه الله به وتلك النعمة لا يجزى بها الخلق بل أجر الرسول فيها على الله كما قال تعالى قل ما أسئلكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين سورة ص وقال قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجرى إلا على الله سورة سبأ وأما النعمة التي يجزى بها الخلق فهي نعمة الدنيا وأبو بكر لم تكن للنبي صلى الله عليه وسلم عنده نعمة الدنيا بل نعمة دين بخلاف علي فإنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم عنده نعمة دنيا يمكن أن تجزى

8

500

الثالث أن الصديق لم يكن بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم سبب يواليه لأجله ويخرج ماله إلا الإيمان ولم ينصره كما نصره أبو طالب لأجل القرابة وكان عمله كاملا في إخلاصه لله تعالى كما قال إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى سورة الليل وكذلك خديجة كانت زوجته والزوجة قد تنفق مالها على زوجها وإن كان دون النبي صلى الله عليه وسلم وعلي لو قدر أنه أنفق لكان أنفق على قريبه وهذه أسباب قد يضاف الفعل إليها بخلاف إنفاق أبي بكر فإنه لم يكن له سبب إلا الإيمان بالله وحده فكان من أحق المتقين بتحقيق قوله إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى وقوله وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى سورة الليل إستثناء منقطع والمعنى لا يقتصر في العطاء على من له عنده نعمة يكافئه بذلك فإن هذا من باب العدل الواجب للناس بعضهم على بعض بمنزلة المعاوضة في المبايعة والمؤاجرة وهو واجب لكل أحد على أحد فإذا لم يكن لأحد عنده نعمة تجزى لم يحتج إلى هذه المعاوضة فيكون عطاؤه خالصا لوجه ربه الأعلى بخلاف من كان عنده لغيره نعمة يحتاج أن يجزيه بها فإنه يحتاج أن

8

501

يعطيه مجازاة على ذلك وهذا الذي ما لأحد عنده من نعمة تجزى إذا أعطى ماله يتزكى في معاملته للناس دائما يكافئهم ويعاوضهم ويجازيهم فحين إعطائه ماله يتزكى لم يكن لأحد عنده من نعمة تجزى وفيه أيضا ما يبين أن الفضل بالصدقة لا يكون إلا بعد أداء الواجب من المعاوضات كما قال تعالى ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو سورة البقرة فمن عليه ديون من أثمان وقرض وغير ذلك فلا يقدم الصدقة على قضاء هذه الواجبات ولو فعل ذلك فهل ترد صدقته على قولين معروفين للفقهاء فهذه الآية يحتج بها من صدقته لأن الله تعالى إنما أثنى على من آتى ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى فإذا كان عنده نعمة تجزى فعليه أن يجزى بها قبل أن يؤتى ماله يتزكى فإذا آتى ماله يتزكى قبل أن يجزى بها لم يكن ممدوحا فيكون عمله مردودا لقوله صلى الله عليه وسلم من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد

8

502

الرابع أن هذه الآية إن قدر أنه دخل فيها من دخل من الصحابة فأبو بكر أحق الأمة بالدخول فيها فيكون هو الأتقى من هذه الأمة فيكون أفضلهم وذلك لأن الله تعالى وصف الأتقى بصفات أبو بكر أكمل يها من جميع الأمة وهو قوله الذي يؤتى ماله يتزكى وقوله وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى سورة الليل أما إيتاء المال فقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن إنفاق أبي بكر أفضل من إنفاق غيره وأن معاونته له بنفسه وماله أكمل من معاونة غيره وأما ابتغاء التي تجزى فأبو بكر لم يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم مالا قط ولا حاجة دنيوية وأنه كان يطلب منه العلم لقوله الذي ثبت في الصحيحين أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم علمني دعاء أدعو به في صلاتي فقال قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني

8

503

إنك أنت الغفور الرحيم ولا أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم مالا يخصه به قط بل إن حضر غنيمة كان كآحاد الغانمين وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم ماله كله وأما غيره من المنفقين من الأنصار وبني هاشم فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم مالا يعطى غيرهم فقد أعطى بني هاشم وبني المطلب نمن الخمس ما لم يعط غيرهم واستعمل عمر وأعطاه عماله وأما أبو بكر فلم يعطه شيئا فكان أبعد الناس من النعمة التي تجزى وأولاهم بالنعمة التي لا تجزى وأما إخلاصه في ابتغاء وجه ربه الأعلى فهو أكمل الأمة في ذلك فعلم أنه أكمل من تناولته الآية في الصفات المذكورة كما أنه أكمل من تناول قوله والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون سورة الزمر وقوله لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى سورة الحديد

8

504

وقوله والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار سورة التوبة وأمثال ذلك من الآيات التي فيها مدح المؤمنين من هذه الأمة فأبو بكر أكمل الأمة في الصفات التي يمدح الله بها المؤمنين فهو أولاهم بالدخول فيها وأكمل من دخل فيها فعلم أنه أفضل الأمة فصل قال الرافضي وأما قوله تعالى قل للمخلفين من الأعراب سورة الفتح فإنه أراد الذين تخلفوا عن الحديبية والتمس هؤلاء أن يخرجوا إلى غنيمة خيبر فمنعهم الله تعالى بقوله قل لن تتبعونا سورة الفتح لأنه تعالى جعل غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية ثم قال تعالى قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد سورة الفتح وقد دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوات كثيرة

8

505

كمؤته وحنين وتبوك وغيرها وكان الداعي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيضا جاز أن يكون عليا حيث قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين وكان رجوعهم إلى طاعته إسلاما لقوله صلى الله عليه وسلم يا علي حربك حربي وحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر فالجواب أما الاستدلال بهذه الآية على خلافة الصديق ووجوب طاعته فقد استدل بها طائفة من أهل العلم منهم الشافعي والأشعري وابن حزم وغيرهم واحتجوا بأن الله تعالى قال فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا الآية سورة التوبة قالوا فقد أمرالله رسوله أن يقول لهؤلاء لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا فعلم أن الداعي لهم إلى القتال ليس رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجب أن يكون من بعده وليس إلا أبا بكر ثم عمر ثم عثمان الذين دعوا الناس إلى قتال فارس والروم وغيرهم أو يسلمون حيث قال تقاتلونهم أو يسلمون وهؤلاء جعلوا المذكورين في سورة الفتح هم المخاطبين في سورة براءة ومن هنا صار في الحجة نظر فإن الذين في سورة الفتح هم الذين دعوا زمن الحديبية ليخرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم لما

8

506

أراد أن يذهب إلى مكة وصده المشركون وصالحهم عام حينئذ بالحديبية وبايعه المسلمون تحت الشجرة وسورة الفتح نزلت في هذه القصة وكان ذلك العام عام ست من الهجرة بالاتفاق وفي ذلك نزل قوله وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى سورة البقرة وفيها نزلت فدية الأذى في كعب بن عجرة وهي قوله ففدية من صيام أو صدقة أو نسك سورة البقرة ولما رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة خرج إلى خيبر ففتحها الله على المسلمين في أول سنة سبع وفيها أسلم أبو هريرة وقد جعفر وغيره من مهاجرة الحبشة ولم يسهم النبي صلى الله عليه وسلم لأحد ممن شهد خيبر إلا لأهل الحديبية الذين بايعوا تحت الشجرة إلا أهل السفينة الذين قدموا مع جعفر وفي ذلك نزل قوله سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا سورة الفتح إلى قوله تقاتلونهم أو يسلمون سورة الفتح وقد دعا الناس بعد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة عام ثمان من الهجرة وكانت خيبر سنة سبع ودعاهم عقب الفتح إلى قتال هوازن بحنين ثم حاصر الطائف سنة ثمان وكانت هي آخر الغزوات التي قاتل فيها رسول الله صلى الله عليه

8

507

وسلم وغزا تبوك سنة تسع لكن لم يكن فيها قتال غزا فيها النصارى بالشام وفيها أنزل الله سورة براءة وذكر فيها المخلفين الذين قال فيهم فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا سورة التوبة وأما مؤته فكانت سرية قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم أميركم زيد فإن قتل فجعفر فإن قتل فعبد الله بن رواحة وكانت بعد عمرة القضية وقبل فتح مكة فإن جعفرا حضر عمرة القضية وتنازع هو وعلي وزيد في بنت حمزة قضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لأسماء إمرأة جعفر خاله البنت وقال الخالة بمنزلة الأم ولم يشهد زيد ولا جعفر ولا ابن رواحة فتح مكة لأنهم استشهدوا قبل ذلك في غزوة مؤتة واذا عرف هذا فوجه الاستدلال من الآية أن يقال قوله تعالى ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون سورة الفتح يدل على أنهم متصفون بأنهم أولو بأس شديد وبأنهم يقاتلون أو يسلمون قالوا فلا يجوز أن يكون دعاهم إلى قتال أهل مكة وهوازن عقيب عام الفتح لأن هؤلاء هم الذين دعوا إليهم عام الحديبية ومن لم يكن منهم فهو من جنسهم ليس هو أشد بأسا منهم كلهم عرب من أهل الحجاز وقتالهم من جنس واحد وأهل مكة ومن

8

508

حولها كانوا أشد بأسا وقتالا للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم بدر وأحد والخندق من أولئك وكذلك في غير ذلك من السرايا فلا بد أن يكون هؤلاء الذين تقع الدعوة إلى قتالهم لهم اختصاص بشدة البأس ممن دعوا إليه عام الحديبية كما قال تعالى أولي بأس شديد سورة الفتح وهنا صنفان أحدهما بنو الأصفر الذين دعوا إلى قتالهم عام تبوك سنة تسع فإنهم أولو بأس شديد وهم أحق بهذه الصفة من غيرهم وأول قتال كان معهم عام مؤتة عام ثمان قبل تبوك فقتل فيها أمراء المسلمين زيد وجعفر وعبد الله بن رواحة ورجع المسلمون كالمنهزمين ولهذا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم لما رجعوا نحن الفرارون فقال بل أنتم العكارون أنا فئتكم وفئة كل مسلم ولكن قد عارض بعضهم هذا بقوله تقاتلونكم أو يسلمون سورة الفتح وأهل الكتاب يقاتلون حتى يعطوا الجزية فتأول الآية طائفة أخرى في المرتدين الذين قاتلهم الصديق أصحاب مسيلمة الكذاب فإنهم كانوا أولي بأس شديد ولقي المسلمون في قتالهم شدة

8

509

عظيمة واستحر القتل يومئذ بالقراء وكانت من أعظم الملاحم التي بين المسلمين وعدوهم والمرتدون يقاتلون أو يسلمون لا يقبل منهم جزية وأول من قاتلهم الصديق وأصحابه فدل على وجوب طاعته في الدعاء إلى قتالهم والقرآن يدل والله اعلم على أنهم يدعون إلى قوم موصوفين بأحد الأمرين إما مقاتلتهم لهم وإما إسلامهم لا بد من أحدهما وهم أولو بأس شديد وهذا بخلاف من دعوا إليه عام الحديبية فإنهم لم يوجد منهم لا هذا ولا هذا ولا أسلموا بل صالحهم الرسول بلا إسلام ولا قتال فبين القرآن الفرق بين من دعوا إليه عام الحديبية وبين من يدعون إليه بعد ذلك ثم إذا فرض عليهم الإجابة والطاعة إذا دعوا إلى قوم أولي بأس شديد فلأن يجب عليهم الطاعة إذا دعوا إلى من ليس بذي بأس شديد بطريق الأولى والأحرى فتكون الطاعة واجبة عليهم في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة وهوازن وثقيف ثم لما دعاهم بعد هؤلاء إلى بني الأصفر كانوا أولي بأس شديد والقرآن وقد وكد الأمر في عام تبوك وذم المتخلفين عن الجهاد ذما عظيما كما تدل عليه سورة براءة وهؤلاء وجد فيهم أحد الأمرين القتال أو الإسلام وهو سبحانه لم يقل تقاتلونهم أو يسلمون سورة

8

510

الفتح إلى أن يسلموا ولا قال قاتلوهم حتى يسلموا بل وصفهم بأنهم يقاتلون أو يسلمون ثم إذا قوتلوا فإنهم يقاتلون كما أمر الله حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فليس في قوله تقاتلونهم ما يمنع أن يكون القتال إلى الإسلام وأداء الجزية لكن يقال قوله ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد سورة الفتح كلام حذف فاعله فلم يعين الفاعل الداعي لهم إلى القتال فدل القرآن على وجوب الطاعة لكل من دعاهم إلى قتال قوم أولي بأس شديد يقاتلونهم أو يسلمون ولا ريب أن أبا بكر دعاهم إلى قتال المرتدين ثم قتال فارس والروم وكذلك عمر دعاهم إلىقتال فارس والروم وعثمان دعاهم إلى قتال البربر ونحوهم والآية تناول هذا الدعاء كله أما تخصيصها بمن دعاهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم كما قاله طائفة من المحتجين بها على خلافة أبي بكر فخطأ بل إذا قيل تتناول هذا وهذا كان هذ مما يسوغ ويمكن أن يراد بالآية ويستدل عليه بها ولهذا وجب قتال الكفار مع كل أمير دعا إلى قتالهم وهذا أظهر الأقوال في الآية وهو أن المراد تدعون إلى قتال أولي بأس شديد أعظم من العرب لا بد فيهم من أحد أمرين إما أن يسلموا وإما أن يقاتلوا بخلاف من دعوا إليه عام الحديبية فإن بأسهم لم يكن شديدا مثل هؤلاء ودعوا إليهم ففي ذلك لم يسلموا ولم يقاتلوا

8

511

وكذلك عام الفتح في أول الأمر لم يسلموا ولم يقاتلوا لكن بعد ذلك أسلموا وهؤلاء هم الروم والفرس ونحوهم فإنه لا بد من قتالهم إذا لم يسلموا وأول الدعوة إلى قتال هؤلاء عام مؤتة وتبوك وعام تبوك لم يقاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسلموا لكن في زمن الصديق والفاروق كان لا بد من أحد الأمرين إما الإسلام وإما القتال وبعد القتال أدوا الجزية لم يصالحوا ابتداء كما صالح المشركون عام الحديبية فتكون دعوة أبي بكر وعمر إلى قتال هؤلاء داخلة في الآية وهو المطلوب والآية تدل على أن قتال علي لم تتناوله الآية فإن الذين قاتلهم لم يكونوا أولي بأس شديد أعظم من بأس أصحابه بل كانوا من جنسهم وأصحابه كانوا أشد بأسا وأيضا فهم لم يكونوا يقاتلون أو يسلمون فإنهم كانوا مسلمين وما ذكره في الحديث من قوله حربك حربي لم يذكر له إسنادا فلا يقوم به حجة فكيف وهو كذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث ومما يوضح الأمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول براءة وآية الجزية كان الكفار من المشركين وأهل الكتاب تارة يقاتلهم وتارة يعاهدهم فلا يقاتلهم ولا يسلمون فلما أنزل الله براءة وأمره فيها بنبذ

8

512

العهد إلى الكفار وأمره أن يقاتل أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون صار حينئذ مأمورا بأن يدعو الناس إلى قتال من لا بد من قتالهم أو إسلامهم وإذا قاتلهم قاتلهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية لم يكن له حينئذ أن يعاهدهم بلا جزية كما كان يعاهد الكفار من المشركين وأهل الكتاب كما عاهد أهل مكة عام الحديبية وفيها دعا الأعراب إلى قتالهم وأنزل فيها سورة الفتح وكذلك دعا المسلمين وقال فيها قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون سورة الفتح بخلاف هؤلاء الذين دعاهم إليهم عام الحديبية والفرق بينهما من وجهين أحدهما أن الذين يدعون إلى قتالهم في المستقبل أولوا بأس شديد بخلاف أهل مكة وغيرهم من العرب والثاني أنكم تقاتلونهم أو يسلمون ليس لكم أن تصالحوهم ولا تعاهدوهم بدون أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون كما قاتل أهل مكة وغيرهم والقتال إلى أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وهذا يبين أن هؤلاء أولي البأس لم يكونوا ممن يعاهدون بلا جزية فإنهم يقاتلون أو يسلمون ومن يعاهد بلا جزية له حال ثالث لا يقاتل فيها ولا يسلم وليسوا أيضا من جنس العرب الذين قوتلوا قبل ذلك

8

513

فتبين أن الوصف لا يتناول الذين قاتلهم بحنين وغيرهم فإن هؤلاء بأسهم من جنس بأس أمثالهم من العرب الذين قوتلوا قبل ذلك فتبين أن الوصف يتناول فارس والروم الذين أمر الله بقتالهم أو يسلمون وإذا قوتلوا قبل ذلك فإنهم يقاتلون حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وإذا قيل إنه دخل ذلك في قتال المرتدين لأنهم يقاتلون أو يسلمون كان أوجه من أن يقال المراد قتال أهل مكة وأهل حنين الذين قوتلوا في حال كان يجوز فيها مهادنة الكفار فلا يسلمون ولا يقاتلون والنبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح وحنين كان بينه وبين كثير من الكفار عهود بلا جزية فأمضاها لهم ولكن لما أنزل الله براءة بعد ذلك عام تسع سنة غزوة تبوك بعث أبا بكر بعد تبوك أميرا على الموسم فأمره أن ينادي أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان وأن من كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته وأردفه بعلى يأمره بنبذ العهود المطلقة وتأجيل من لا عهد له أربعة أشهر كان آخرها شهر ربيع سنة عشر وهذه الحرم المذكورة في قوله فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم الآية سورة التوبة ليس المراد الحرم

8

514

المذكورة في قوله منها أربعة حرم سورة التوبة ومن قال ذلك فقد غلط غلطا معروفا عند أهل العلم كما هو مبسوط في موضعه ولما أمر الله بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الجزية من المجوس واتفق المسلمون على أخذها من أهل الكتاب والمجوس وتنازع العلماء في سائر الكفار على ثلاثة أقوال فقيل جميعهم يقاتلون بعد ذلك حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون إذا لم يسلموا وهذا قول مالك وقيل يستثنى من ذلك مشركون العرب وهو قول أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه وقيل ذلك مخصوص بأهل الكتاب ومن له شبهة كتاب وهو قول الشافعي وأحمد في رواية أخرى عنه والقول الأول والثاني متفقان في المعنى فإن آية الجزية لم تنزل إلا بعد فراغ النبي صلى الله عليه وسلم من قتال مشركي العرب فإن آخر غزواته للعرب كانت غزوة الطائف وكانت بعد حنين وحنين بعد فتح مكة وكل ذلك سنة ثمان وفي السنة التاسعة غزا النصارى عام تبوك وفيها نزلت سورة براءة وفيها أمر بالقتال حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا على جيش أو سرية أمره أن يقاتلهم حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون كما رواه مسلم

8

515

في صحيحه وصالح النبي صلى الله عليه وسلم نصارى نجران على الجزية وهم أول من أدى الجزية وفيهم أنزل الله صدر سورة آل عمران ولما كانت سنة تسع نفى المشركون عن الحرم ونبذ العهود إليهم وأمره الله تعالى أن يقاتلهم وأسلم المشركون من العرب كلهم فلم يبق مشرك معاهد لا بجزية ولا بغيرها وقبل ذلك كان يعاهدهم بلا جزية فعدم أخذ الجزية منهم هل كان لأنه لم يبق فيهم من يقاتل حتى يعطوا الجزية بل أسلموا كلهما لما رأوا من حسن الإسلام وظهوره وقبح ما كانوا عليه من الشرك وأنفتهم من أن يؤتوا الجزية عن يد وهم صاغرون أو لأن الجزية لا يجوز أخذها منهم بل يجب قتالهم إلى الإسلام فعلى الأول تؤخذ من سائر الكفار كما قاله أكثر الفقهاء وهؤلاء يقولون لما أمر بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم

8

516

صاغرون ونهى عن معاهدتهم بل جزية كما كان الأمر أولا وكان هذا تبيها على أن من هو دونهم من المشركين أولى أن لا يهادن بغير جزية بل يقاتل حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في المجوس سنوا بهم سنة أهل الكتاب وصالح أهل البحرين على الجزية وفيهم مجوس واتفق على ذلك خلفاؤه وسائر علماء المسلمين وكان الأمر في أول الإسلام أنه يقاتل الكفار ويهادنهم بلا جزية كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله قبل نزوله براءة فلما نزلت براءة أمره فيها بنبذ هذه العهود المطلقة وأمره أن يقاتل أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية فغيرهم أولى أن يقاتلوا ولا يعاهدوا وقوله تعالى فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصرووهم واقعدوا لهم كل مرصد وقال

8

517

فإن تابوا سورة التوبة ولم يقل قاتلوهم حتى يتوبوا وقوله أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله حق فإن من قال لا إله إلا الله لم يقاتل بحال ومن لم يقلها قوتل حتى يعطى الجزية وهذا القول هو المنصوص صريحا عن أحمد والقول الآخر الذي قاله الشافعي ذكره الخرقي في مختصره ووافقه عليه طائفة من أصحاب أحمد ومما يبين ذلك أن آية براءة لفظها يخص النصارى وقد اتفق المسلمون على أن حكمها يتناول اليهود والمجوس والمقصود أنه لم يكن الأمر في أول الإسلام منحصرا بين أن يقاتلهم المسلمون وبين إسلامهم إذا كان هنا قسم ثالث وهو معاهدتهم فلما نزلت آية الجزية لم يكن بد من القتال أو الإسلام والقتال إذا لم يسلموا حتى يعطوا الجزية فصار هؤلاء إما مقاتلين وإما مسلمين ولم يقل تقاتلونهم أو يسلمون ولو كان كذلك لوجب قتالهم إلى أن يسلموا

8

518

وليس الأمر كذلك بل إذا أدوا الجزية لم يقاتلوا ولكنهم مقاتلين أو مسلمين فإنهم لا يؤدون الجزية بغير القتال لأنهم أولو بأس شديد ولا يجوز مهادنتهم بغير جزية ومعلوم أن أبا بكر وعمر بل وعثمان في خلافتهم قوتل هؤلاء وضربت الجزية على أهل الشام والعراق والمغرب فأعظم قتال هؤلاء القوم وأشده وكان في خلافة هؤلاء والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقاتلهم في غزوة تبوك وفي غزوة مؤته استظهروا على المسلمين وقتل زيد وجعفر وعبد الله بن رواحة وأخذ الراية خالد وغايتهم أن نجوا والله أخبر أننا نقاتلهم أو يسلمون فهذه صفة الخلفاء الراشدين الثلاثة فيمتنع أن تكون الآية مختصة بغزوة مؤتة ولا يدخل فيها قتال المسلمين في فتوح الشام والعراق والمغرب ومصر وخراسان وهي الغزوات التي أظهر الله فيها الإسلام وظهر الهدى ودين الحق في مشارق الأرض ومغاربها لكن قد يقال مذهب أهل السنة أن يغزى مع كل أمير دعا برا كان أو فاجرا فهذه الآية تدل على وجوب الجهاد مع كل أمير دعا الناس إليه لأنه ليس فيها ما يدل على أن الداعي إمام عدل فيقال هذا ينفع أهل السنة فإن الرافضة لا ترى الجهاد إلا مع إمام معصوم ولا معصوم عندهم من الصحابة إلا علي فهذه الآية

8

519

حجة عليهم في وجوب غزو الكفار مع جميع الأمراء وإذا ثبت هذا فأبو بكر وعمر وعثمان أفضل من غزا الكفار من هؤلاء الأمراء بعد النبي صلى الله عليه وسلم ثم من المحال أن يكون كل من أمر الله المسلمين أن يجاهدوا معه الكفار بعد النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا ظالما فاجرا معتديا لا تجب طاعته في شيء من الأشياء فإن هذا خلاف القرآن حيث وعد على طاعته بأن يؤتى أجرا حسنا ووعد على التولي عن طاعته بالعذاب الأليم وقد يستدل بالآية على عدل الخلفاء لأنه وعد بالأجر الحسن على مجرد الطاعة إذا دعوا إلى القتال وجعل المتولى عن ذلك كما تولى من قبل معذبا عذابا أليما ومعلوم أن الأمير الغازي إذا كان فاجرا لا تجب طاعته في القتال مطلقا بل فيما أمر الله به ورسوله والمتولى عن طاعته لا يتولى كما تولى عن طاعة الرسول بخلاف المتولى عن طاعة الخلفاء الراشدين فإنه قد يقال إنه تولى كما تولى من قبل إذا كان أمر الخلفاء الراشدين مطابقا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الجملة فهذا الموضع في الاستدلال به نظر ودقة ولا حاجة بنا إليه ففي غيره ما يغني عنه

8

520

وأما قول الرافضي إن الداعي جاز أن يكون عليا دون من قبله من الخلفاء لما قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين يعني أهل الجمل وصفين والحرورية والخوارج فيقال له هذا باطل قطعا من وجوه أحدها أن هؤلاء لم يكونوا أشد بأسا من بني جنسهم بل معلوم أن الذين قاتلوه يوم الجمل كانوا أقل من عسكره وجيشه كانوا أكثر منهم وكذلك الخوارج كان جيشه أضعافهم وكذلك أهل صفين كان جيشه أكثر منهم وكانوا من جنسهم فلم يكن في وصفهم بأنهم أولو بأس شديد ما يوجب امتيازهم عن غيرهم ومعلوم أن بني حنيفة وفارس والروم كانوا في القتال أشد بأسا من هؤلاء بكثير ولم يحصل في أصحاب علي من الخوارج من استحرار القتل ما حصل في جيش الصديق الذين قاتلوا أصحاب مسيلمة وأما فارس والروم فلا يشك عاقل أن قتالهم كان أشد من قتال المسلمين العرب بعضهم بعضا وإن كان قتال العرب للكفار في أول الإسلام كان افضل وأعظم فذاك لقلة المؤمنين وضعفهم في أول الأمر لا أن عدوهم

8

521

كان أشد الناس بأسا من فارس والروم ولهذا قال تعالى ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة سورة آل عمران فإن هؤلاء تجمعهم دعوة الإسلام والجنس فليس في بعضهم لبعض من البأس ما كان في فارس والروم والنصارى والمجوس للعرب المسلمين الذين لم يكونوا يعدونهم إلا من أضعف جيرانهم ورعاياهم وكانوا يحتقرون أمرهم غاية الاحتقار ولولا أن الله أيد المؤمنين بما أيد به رسوله والمؤمنين على سنته الجميلة معهم لما كانوا ممن يثبت معهم في القتال ويفتح البلاد وهم أكثر منهم عددا وأعظم قوة وسلاحا لكن قلوب المؤمنين أقوى بقوة الإيمان التي خصم الله بها الوجه الثاني أن عليا لم يدع ناسا بعيدين منه إلى قتال أهل الجمل وقتال الخوارج ولما قدم البصرة لم يكن في نيته قتال أحد بل وقع القتال بغير اختيار منه ومن طلحة والزبير وأما الخوارج فكان بعض عسكره يكفيهم لم يدع أحدا إليهم من أعراب الحجاز الثالث أنه لو قدر أن عليا تجب طاعته في قتال هؤلاء فمن الممتنع أن يأمر الله بطاعة من يقاتل أهل الصلاة لردهم إلى طاعة ولى الأمر ولا يأمر بطاعة من يقاتل الكفار ليؤمنوا بالله ورسوله ومعلوم أن من خرج من طاعة علي ليس بأبعد عن الإيمان بالله ورسوله ممن كذب الرسول والقرآن ولم يقر بشيء مما جاء به الرسول بل هؤلاء

8

522

أعظم ذنبا ودعاؤهم إلى الإسلام أفضل وقتالهم أفضل إن قدر أن الذين قاتلوا عليا كفار وإن قيل هم مرتدون كما تقوله الرافضة فمعلوم أن من كانت ردته إلى أن يؤمن برسول آخر غير محمد كأتباع مسيلمة الكذاب فهو أعظم ردة ممن لم يقر بطاعة الإمام مع إيمانه بالرسول فبكل حال لا يذكر ذنب لمن قاتله علي إلا وذنب من قاتله الثلاثة أعظم ولا يذكر فضل ولا ثواب لمن قاتل مع علي إلا والفضل والثواب لمن قاتل مع الثلاثة أعظم هذا بتقدير أن يكون من قاتله علي كافرا ومعلوم أن هذا قول باطل لا يقوله إلا حثالة الشيعة وإلا فعقلاؤهم لا يقولون ذلك وقد علم بالتواتر عن علي وأهل بيته أنهم لم يكونوا يكفرون من قاتل عليا وهذا كله إذا سلم أن ذلك القتال كان مأمورا به كيف وقد عرف نزاع الصحابة والعلماء بعدهم في هذا القتال هل كان من باب قتال البغاة الذي وجد في شرط وجوب القتال فيه أم لم يكن من ذلك لانتفاء الشرط الموجب للقتال والذي عليه أكابر الصحابة والتابعين أن قتال الجمل وصفين لم يكن من القتال المأمور به وأن تركه أفضل من الدخول فيه بل عدوه قتال فتنة

8

523

وعلى هذا جمهور أهل الحديث وجمهور ائمة الفقهاء فمذهب أبي حنيفة فيما ذكره القدوري أنه لا يجوز قتال البغاة إلا أن يبدأوا بالقتال وأهل صفين لم يبدأوا عليا بقتال وكذلك مذهب أعيان فقهاء المدينة والشام والبصرة وأعيان فقهاء الحديث كمالك وأيوب والأوزاعي وأحمد وغيرهم أنه لم يكن مأمورا به وأن تركه كان خيرا من فعله وهو قول جمهور ائمة السنة كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة الصريحة في هذا الباب بخلاف قتال الحرورية والخوارج أهل النهروان فإن قتال هؤلاء واجب بالسنة المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم وباتفاق الصحابة وعلماء السنة ففي الصحيحين عن أسامة بن زيد قال أشرف النبي صلى الله عليه وسلم على أطم من آطام المدينة وقال هل ترون ما أرى قالوا لا قال فإني ارى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر

8

524

وفي السنن عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها ستكون فتنة تستنظف العرب قتلاها في النار اللسان فيها أشد من وقع السيف وفي السنن عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ستكون فتنة صماء بكماء عمياء من أشرف لها استشرفت له واستشراف اللسان فيها كوقوع السيف وعن أم سلمة قالت استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقال سبحان الله ماذا أنزل من الخزائن وماذا أنزل من الفتن وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه

8

525

وسلم ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي ومن يستشرف لها تستشرف له ومن وجد فيها ملجأ فليعذ به ورواه أبو بكرة في الصحيحين وقال فيه فإذا نزلت أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بإبله ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه قال فقال رجل يا رسول الله أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض قال يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر ثم لينج إن استطاع النجاء اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت فقال رجل يا رسول الله أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى الحد الصفين أو إحدى الفئتين فضربني رجل بسيفه أو يجيء سهم فيقتلني فقال يبوء بإثمه وإثمك ويكون من أصحاب النار ومثل هذا الحديث معروف عن سعد بن أبي وقاص وغيره من الصحابة والذين رووا هذه الأحاديث من الصحابة مثل سعد بن أبي وقاص وأبي بكرة وأسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة وأبي هريرة

8

526

وغيرهم جعلوا قتال الجمل وصفين من ذلك بل جعلوا ذلك أول قتال فتنة كان في الإسلام وقعدوا عن القتال وأمرهم غيرهم بالقعود عن القتال كما استفاضت بذلك الآثار عنهم والذين قاتلوا من الصحابة لم يأت أحد منهم بحجة توجب القتال لا من كتاب ولا من سنة بل أقروا بأن قتالهم كان رأيا رأوه كما أخبر بذلك علي رضي الله عنه عن نفسه ولم يكن في العسكرين أفضل من علي فيكون ممن هو دونه أولى وكان علي أحيانا يظهر فيه الندم والكراهة للقتال مما يبين أنه لو لم يكن عنده فيه شيء من الأدلة الشرعية مما يوجب رضاه وفرحه بخلاف قتاله للخوارج فإنه كان

8

527

يظهر فيه من الفرح والرضا والسرور ما يبين أنه كان يعلم أن قتالهم كان طاعة لله ورسوله يتقرب به إلى الله لأن في قتال الخوارج من النصوص النبوية والأدلة الشرعية ما يوجب ذلك ففي الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق وفي لفظ مسلم قال ذكر قوما يخرجون في أمته يقتلهم ادنى الطائفتين إلى الحق سيماهم التحليق هم شر الخلق أو من شر الخلق قال أبو سعيد فأنتم قتلتموهم يا أهل العراق ولفظ البخاري يخرج ناس من قبل المشرق يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لا

8

528

يعودون فيه حتى يعود السهم وفي الصحيحين عن علي قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول يخرج قوم من أمتي يقرأون القرآن ليس في قراءتكم إلى قراءتهم بشيء ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء يقرأون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم لا تجاوز صلاتهم تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضى لهم على لسان نبيهم لنكلوا عن العمل آيتهم أن فيهم رجلا له عضد ليس فيها ذراع على رأسه عضده مثل حلمة الثدي عليه شعرات بيض الوجه الرابع أن الآية لا تتناول القتال مع علي قطعا لأنه قال تقاتلونهم أو يسلمون سورة الفتح فوصفهم بأنهم لا بد فيهم من أحد الأمرين المقاتلة أو الإسلام ومعلوم أن الذين دعا إليهم علي

8

529

فيهم خلق لم يقاتلوه ألبته بل تركوا قتاله فلم يقاتلوه ولم يقاتلوا معه فكانوا صنفا ثالثا لا قاتلوه ولا قاتلوا معه ولا اطاعوه وكلهم مسلمون وقد دل على إسلامهم القرآن والسنة وإجماع الصحابة علي وغيره قال تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصبحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين سورة الحجرات فوصفهم بالإيمان مع الاقتتال والبغي وأخبر أنهم إخوة وأن الأخوة لا تكون إلا بين المؤمنين لا بين مؤمن وكافر وفي صحيح البخاري وغيره عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحسن إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين فأصلح الله به بين عسكر علي وعسكر معاوية فدل على أن كليهما مسلمون ودل على أن الله يحب الإصلاح بينهما ويثنى على من فعل ذلك ودل على أن ما فعله الحسن كان رضي لله ورسوله ولو كان القتال واجبا أو مستحبا لم يكن تركه رضى لله ولرسوله وأيضا فالنقل المتواتر عن الصحابة أنهم حكموا في الطائفتين

8

530

بجكم الإسلام وورثوا بعضهم من بعض ولم يسبوا ذراريهم ولم يغنموا أموالهم التي لم يحضروا بها القتال بل كان يصلي بعضهم على بعض وخلف بعض وهذا أحد ما نقمته الخوارج على علي فإن مناديه نادى يوما لجمل لا يتبع مدبر ولا يجهز على جريح ولم يغنم أموالهم ولا سبي ذراريهم وأرسل ابن عباس إلى الخوارج وناظرهم في ذلك فروى أبو نعيم بالإسناد الصحيح عن سليمان بن الطبراني عن محمد بن إسحاق بن راهوية وسليمان عن علي بن عبد العزيز عن أبي حذيفة وعبد الرزاق قالا حدثنا عكرمة بن عمار حدثناأبو زميل الحنفي عن ابن عباس قال لما اعتزلت الحرورية قلت لعلي يا أمير المؤمنين أبرد عن الصلاة فلعلي آتي هؤلاء القوم فأكلمهم قال إني أتخوفهم عليك قال قلت كلا إن شاء الله فلبست أحسن ما أقدر عليه من هذه اليمانية ثم دخلت عليهم وهم قائلون في نحر

8

531

الظهيرة فدخلت على قوم لم أر قوما أشد اجتهادا منهم أيديهم كأنها ثفن الإبل ووجوههم معلمة من آثار السجود قال فدخلت فقالوا مرحبا بك يا ابن عباس ما جاء بك قال جئت أحدثكم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل الوحي وهم أعلم بتأويله فقال بعضهم لا تحدثوه وقال بعضهم لنحدثنه قال قلت أخبروني ما تنقمون على ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه وأول من آمن به وأصحاب رسول الله معه قالوا ننقم عليه ثلاثا قلت ما هن قالوا أولهن أنه حكم الرجال في دين الله وقد قال تعالى إن الحكم إلا لله سورة الأنعام قال قلت وماذا قالوا قاتل ولم يسب ولم يغنم لئن كانوا كفارا لقد حلت له أموالهم وإن كانوا مؤمنين فقد حرمت عليه دماؤهم قال قلت وماذا قالوا ومحا نفسه من أمير المؤمنين فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين قال قلت أرأيتم إن قرأت عليكم كتاب الله المحكم وحدثتكم

8

532

عن سنة نبيكم ما لا تنكرون أترجعون قالوا نعم قال قلت أما قولكم إنه حكم الرجال في دين الله فإن الله يقول يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم سورة المائدة وقال في المرأة وزوجها وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها سورة النساء أنشدكم الله أفحكم الرجال في حقن دمائهم وأنفسهم وصلاح ذات بينهم أحق أم أرنب ثمنها ربع درهم قالوا في حقن دمائهم وصلاح ذات بينهم قال أخرجت من هذه قالوا اللهم نعم قال وأما قولكم قاتل ولم يسب ولم يغنم أتسبون أمكم ثم تستحلون منها ما تستحلون من غيرها فقد كفرتم وإن زعمتم أنها ليست أمكم فقد كفرتم وخرجتم من الإسلام إن الله يقول النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم سورة الأحزاب وأنتم مترددون بين ضلالتين فاختاروا أيهما شئتم أخرجت من هذه قالوا اللهم نعم

8

533

قال وأما قولكم محا نفسه من أمير المؤمنين فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا قريش يوم الحديبية على أن يكتب بينهم وبينه كتابا فقال اكتب هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله فقالوا والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب محمد بن عبد الله فقال والله إني لرسول وإن كذبتموني اكتب يا علي محمد بن عبد الله ورسول الله كان أفضل من علي أخرجت من هذه قالوا اللهم نعم فرجع منهم عشرون ألفا وبقى منهم أربعة آلاف فقتلوا وأما تكفير هذا الرافضي وأمثاله لهم وجعل رجوعهم إلى طاعة علي إسلاما لقوله صلى الله عليه وسلم فيما زعمه يا علي حربك حربي فيقال من العجائب وأعظم المصائب على هؤلاء المخذولين أن يثبتوا مثل هذا الأصل العظيم بمثل هذا الحديث الذي لا يوجد في شئ من دواوين أهل الحديث التي يعتمدون عليها لا هو في الصحاح ولا السنن ولا المساند ولا الفوائد ولا غير ذلك مما يتناقله أهل العلم بالحديث ويتدواولونه بينهم ولا هو عندهم لا صحيح ولا حسن ولا ضعيف بل هو أخس من ذلك وهو من أظهر الموضوعات كذبا فإنه خلاف المعلوم المتواتر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنه جعل الطائفتين

8

534

مسلمين وأنه جعل ترك القتال في تلك الفتنة خيرا من القتال فيها وأنه أثنى على من أصلح به بين الطائفتين فلو كانت إحدى الطائفتين مرتدين عن الإسلام لكانوا أكفر من اليهود والنصارى الباقين على دينهم وأحق بالقتال منهم كالمرتدين أصحاب مسيلمة الكذاب الذين قاتلهم الصديق وسائر الصحابة واتفقوا على قتالهم بل وسبوا ذراريهم وتسرى على من ذلك السبي بالحنفية أم محمد بن الحنيفية فصل قال الرافضي وأما كونه أنيسه في العريش يوم بدر فلا فضل فيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أنسه بالله مغنيا له عن كل أنيس لكن لما عرف النبي صلى الله عليه وسلم أن أمره لأبي بكر بالقتال يؤدي إلى فساد الحال حيث هرب عدة مرار في غزواته وأيما أفضل القاعد عن القتال أو المجاهد بنفسه في سبيل الله الجواب أن يقال لهذا المفتري الكذاب ما ذكرته من أظهر الباطل من وجوه

8

535

أحدها أن قوله هرب عدة مرار في غزوات يقال له هذا الكلام يدل على أن قائله من أجهل الناس بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحواله والجهل بذلك غير منكر من الرافضة فإنهم من أجهل الناس بأحوال الرسول وأعظمهم تصديقا بالكذب فيها وتكذيبا بالصدق منها وذلك أن غزوة بدر هي أول مغازي القتال لم يكن قبلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لأبي بكر غزاة مع الكفار أصلا وغزوات القتال التي قاتل فيها النبي صلى الله عليه وسلم تسع غزوات بدر وأحد والخندق وبني المصطلق وغزوة ذي قرد وخيبر وفتح مكة وحنين والطائف وأما الغزوات التي لم يقاتل فيها فهي نحو بضعة عشر وأما السرايا فمنها ما كان فيه قتال ومنها ما لم يكن فيه قتال وبكل حال فبدر أولى مغازي القتال باتفاق الناس وهذا من العلم الذي يعلمه كل من له علم بأحوال الرسول من أهل التفسير والحديث والمغازي والسير والفقه والتواريخ والأخبار يعلمون أن بدرا هي أول الغزوات التي قاتل فيها النبي صلى الله عليه وسلم وليس قبلها غزوة ولا سرية كان فيها قتال إلا قصة ابن الحضرمي ولم يكن فيها أبو بكر

8

536

فكيف يقال أنه هرب قبل ذلك عدة مرار في مغازيه الثاني أن أبا بكر رضي الله عنه لم يهرب قط حتى يوم أحد لم ينهزم لا هو ولا عمر وإنما كان عثمان تولى وكان ممن عفا الله عنه وأما أبو بكر وعمر فلم يقل أحد قط إنهما انهزما مع من انهزم بل ثبتا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين كما تقدم ذلك عن أهل السيرة لكن بعض الكذابين ذكر أنهما أخذا الراية يوم حنين فرجعا ولم يفتح عليهما ومنهم من يزيد في الكذب ويقول إنهما انهزما مع من انهزم وهذا كذب كله وقبل أن يعرف الإنسان أنه كذب فمن أثبت ذلك عليهما هو المدعى لذلك فلا بد من إثبات ذلك بنقل يصدق ولا سبيل إلى هذا فأين النقل المصدق على أبي بكر أنه هرب في غزوة واحدة فضلا عن أن يكون هرب عدة مرات الثالث أنه لو كان في الجبن بهذه الحال لم يخصه النبي صلى الله عليه وسلم دون أصحابه بأن يكون معه في العريش بل لا يجوز استصحاب مثل هذا في الغزو فإنه لا ينبغي للإمام أن يستصحب منخذلا ولا مرجفا فضلا عن أن يقدم على سائر أصحابه ويجعله معه في عريشه

8

537

الرابع أن الذي في الصحيحين من ثباته وقوة يقينه في هذه الحال يكذب هذا المفترى ففي الصحيحين عن ابن عباس عن عمر قال لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلثمائة وسبعة عشر رجلا فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه وجعل يهتف بربه اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه فقال يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله عز وجل إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم سورة الأنفال الآية وذكر الحديث الخامس أن يقال قد علم كل من علم السيرة أن أبا بكر كان أقوى قلبا من جميع الصحابة لا يقاربه في ذلك أحد منهم فإنه من حين بعث الله رسوله إلى أن مات أبو بكر لم يزل مجاهدا ثابتا مقداما شجاعا لم يعرف قط أنه جبن عن قتال عدو بل لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعفت قلوب أكثر الصحابة وكان هو الذي يثبتهم حتى قال أنس خطبنا أبو بكر ونحن كالثعالب فما زال يشجعنا حتى صرنا كالأسود وروى أن عمر قال يا خليفة رسول الله تألف الناس فأخذ بلحيته

8

538

وقال يا ابن الخطاب أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام علام أتألفهم على حديث مفترى أم على شعر مفتعل السادس قوله أيما أفضل القاعد عن القتال أو المجاهد نفسه في سبيل الله فيقال بل كونه مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذ الحال هو من أفضل الجهاد فإنه هو الذي كان العدو يقصده فكان ثلث العسكر حوله يحفظونه من العدو وثلثه اتبع المنهزمين وثلثه أخذوا الغنائم ثم إن الله قسمها بينهم كلهم السابع قوله إن أنس النبي صلى الله عليه وسلم بربه كان مغنيا له عن كل أنيس فيقال قول القائل إنه كان أنيسه في العريش ليس هو من ألفاظ القرآن والحديث ومن قاله وهو يدري ما يقول لم يرد به أنه يؤنسه لئلا يستوحش بل المراد أنه كان يعاونه على القتال كما كان من هو دونه يعاونه على القتال وقد قال تعالى هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين سورة الأنفال وهو أفضل المؤمنين الذين أيده الله بهم وقال فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرصضالمؤمنين سورة النساء وكان الحث على أبي بكر أن يعاونه بغاية ما يمكنه وعلى الرسول أن يحرضهم على الجهاد ويقاتل بهم عدوه

8

539

بدعائهم ورأيهم وفعلهم وغير ذلك مما يمكن الاستعانة به على الجهاد الثامن أن يقال من المعلوم لعامة العقلاء أن مقدم القتال المطلوب الذي قد قصده أعداؤه يريدون قتله إذا أقام في عريش أو قبة او حركاه أو غير ذلك مما يجنه ولم يستصحب معه من أصحابه إلا واحدا وسائرهم خارج ذلك العريش لم يكن هذا إلا أخص الناس به وأعظمهم موالاة له وانتفاعا به وهذا النفع في الجهاد لا يكون إلا مع قوة القلب وثباته لا مع ضعفه وخوره فهذا يدل على أن الصديق كان أكملهم إيمانا وجهادا وأفضل الخلق هم أهل الإيمان والجهاد فمن كان أفضل في ذلك كان أفضل مطلقا قال تعالى أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله إلى قوله وأولئك هم الفائزون سورة التوبة فهؤلاء أعظم درجة عند الله من أهل الحج والصدقة والصديق أكمل في ذلك وأما قتال علي بيده فقد شاركه في ذلك سائر الصحابة الذين قاتلوا يوم بدر ولم يعرف أن عليا قاتل أ كثر من جميع الصحابة يوم بدر ولا أحد ولا غير ذلك

8

540

ففضيلة الصديق مختصة به لم يشركه فيها غيره وفضيلة علي مشتركه بينه وبين سائر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين الوجه التاسع أن النبي صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر خرجا بعد ذلك من العريش ورماهم النبي صلى الله عليه وسلم الرمية التي قال الله فيها وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى سورة الانفال والصديق قاتلهم حتى قال له ابنه عبدالرحمن قد رأيتك يوم بدر فصدفت عنك فقال لكني لو رأيتك لقتلتك فصل قال الرافضي وأما إنفاقه على النبي صلى الله عليه وسلم فكذب لأنه لم يكن ذا مال فإن أباه كان فقيرا في الغاية وكان ينادي على مائدة عبد الله بن جدعان كل يوم بمد يقتات به ولو كان أبو بكر غنيا لكفى أباه وكان أبو بكر معلما للصبيان في الجاهلية وفي الإسلام كان خياطا ولما ولي أمر المسلمين منعه الناس عن الخياطة فقال إني محتاج إلى القوت

8

541

فجعلوا له كل يوم ثلاثة دراهم من بيت المال والجواب أن يقال أولا من أعظم الظلم والبهتان أن ينكر الرجل ما تواتر به النقل وشاع بين الخاص والعام وامتلأت به الكتب كتب الحديث الصحاح والمساند والتفسير والفقه والكتب المصنفة في أخبارالقوم وفضائلهم ثم يدعى شيئا من المنقولات التي لا تعلم بمجرد قوله ولا ينقله بإسناد معروف ولا إلى كتاب يعرفه يوثق به ولا يذكر ما قاله فلو قدرنا أنه ناظر أجهل الخلق لأمكنه أن يقول له بل الذي ذكرت هو الكذب والذي قاله منازعوك هو الصدق فكيف تخبر عن أمر كان بلا حجة أصلا ولا نقل يعرف به ذلك ومن الذي نقل من الثقات ما ذكره عن أبي بكر ثم يقال أما إنفاق أبي بكر ماله فمتواتر منقول في الحديث الصحيح من وجوه كثيرة حتى قال ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر وقال إن أمن الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر وثبت عنه أنه اشترى المعذبين من ماله بلالا وعامر بن فهيرة اشترى سبعة أنفس وأما قول القائل إن أباه كان ينادي على مائدة عبد الله بن جدعان فهذا لم يذكر له إسنادا يعرف به صحته ولو ثبت لم يضر فإن هذا

8

542

كان في الجاهلية قبل الإسلام فإن ابن جدعان مات قبل الإسلام وأما في الإسلام فكان لأبي قحافة ما يعينه ولم يعرف قط أن أبا قحافة كان يسأل الناس وقد عاش أبو قحافة إلى أن مات أبو بكر وورث السدس فرده على أولاده لغناه عنه ومعلوم أنه لو كان محتاجا لكان الصديق يبره في هذه المدة فقد كان الصديق ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابة بعيدة وكان ممن تكلم في الإفك فحلف أبو بكر أن لا ينفق عليه فأنزل الله تعالى ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين إلى قوله غفور رحيم سورة النور فقال أبو بكر بلى والله أحب أن يغفر الله لي فأعاد عليه النفقة والحديث بذلك ثابت في الصحيحين وقد اشترى بماله سبعة من المعذبين في الله ولما هاجر مع النبي صلى الله عليه وسلم استصحب ماله فجاء أبو قحافة وقال لأهله ذهب أبو بكر بنفسه فهل ترك ماله عندكم أو أخذه قالت أسماء فقلت بل تركه ووضعت في الكوة شيئا وقلت هذا هو المال لتطيب نفسه أنه ترك ذلك لعياله ولم يطلب أبو قحافة منهم شيئا وهذا كله يدل على غناه

8

543

وقوله إن أبا بكر كان معلما للصبيان في الجاهلية فهذا من المنقول الذي لو كان صدقا لم يقدح فيه بل يدل على أنه كان عنده علم ومعرفة وكان جماعة من علماء المسلمين يؤدبون منهم أبو صالح صاحب الكلبي كان يعلم الصبيان وأبو عبد الرحمن السلمي وكان من خواص أصحاب علي وقال سفيان بن عينية كان الضحاك بن مزاحم وعبد الله بن الحارث يعلمان الصبيان فلا يأخذان أجرا ومنهم قيس بن سعد وعطاء بن أبي رباح وعبد الكريم أبو أميه وحسين المعلم وهو ابن ذكوان والقاسم بن عمير الهمداني وحبيب المعلم مولى معقل بن يسار ومنهم علقمة بن أبي علقمة وكان يروى عنه مالك بن أنس وكان له مكتب يعلم فيه ومنهم أبو عبيد القاسم بن سلام الإمام المجمع على إمامته وفضله فكيف إذا كان ذلك من الكذب المختلق بل لو كان الصديق قبل الإسلام من الأرذلين لم يقدح ذلك فيه فقد كان سعد وابن مسعود وصهيب وبلال وغيرهم من المستضعفين وطلب المشركون من النبي صلى الله عليه وسلم طردهم فنهاه الله عن ذلك وأنزل ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون

8

544

وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء إلى قوله أليس الله بأعلم بالشاكرين سورة الأنعام وقوله واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا سورة الكهف وقال في المستضعفين من المؤمنين إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون وما أرسلوا عليهم حافظين فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون إلى آخر السورة سورة المطففين وقال زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب سورة البقرة وقال ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون سورة الأعراف وقال وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار سورة ص وقال عن قوم نوح قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون سورة الشعراء

8

545

وقال تعالى فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي سورة هود وقال عن قوم صالح قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون سورة الأعراف وفي الصحيحين أن هرقل سأل أبا سفيان بن حرب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم قال بل ضعفاؤهم قال هم أتباع الرسل فإذا قدر أن الصديق كان من المستضعفين كعمار وصهيب وبلال لم يقدح ذلك في كمال أيمانه وتقواه كما لم يقدح في إيمان هؤلاء وتقواهم وأكمل الخلق عند الله أتقاهم ولكن كلام الرافضة من جنس كلام المشركين الجاهلية يتعصبون للنسب والآباء لا للدين ويعيبون الإنسان بما لا ينقض إيمانه وتقواه وكل هذا من فعل الجاهلية ولهذا كانت الجاهلية ظاهرة عليهم فهم يشبهون الكفار من وجوه خالفوا بها أهل الإيمان والإسلام وقوله إن الصذيق كان خياطا في الإسلام ولما ولى أمر المسلمين منعه الناس عن الخياطه كذب ظاهر يعرف كل أحد أنه كذب وإن كان لا غضاضة فيه لو

8

546

كان حقا فإن أبا بكر لم يكن خياطا وإنما كان تاجرا تارة يسافر في تجارته وتارة لا يسافر وقد سافر إلى الشام في تجارته في الإسلام والتجارة كانت أفضل مكاسب قريش وكان خيار أهل الأموال منهم أهل التجارة وكانت العرب تعرفهم بالتجارة ولما ولى أراد أن يتجر لعياله فمنعه المسلمون وقالوا هذا يشغلك عن مصالح المسلمين وكان عامة ملابسهم الأردية والأرز فكانت الخياطة فيهم قليلة جدا وقد كان بالمدينة خياط دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته وأما المهاجرون المشهورون فما أعلم فيهم خياطا مع أن الخياطة من أحسن الصناعات وأجلها وإنفاق أبي بكر في طاعة الله ورسوله هو من المتواتر الذي تعرفه العامة والخاصة وكان له مال قبل الإسلام وكان معظما في قريش محببا مؤلفا خبيرا بأنساب العرب وأيامهم وكانوا يأتونه لمقاصد التجارة ولعلمه وإحسانه ولهذا لما خرج من مكة قال له ابن الدغنة

8

547

مثلك لا يخرج ولا يخرج ولم يعلم أحد من قريش وغيرهم عاب أبا بكر بعيب ولا نقصه ولا استرذله كما كانوا يفعلون بضعفاء المؤمنين ولم يكن له عندهم عيب إلا إيمانه بالله ورسوله كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن قط به عيب عند قريش ولا نقص ولا يذمونه بشئ قط بل كان معظما عندهم بيتا ونسبا معروفا بمكارم الأخلاق والصدق والأمانة وكذلك صديقه الأكبر لم يكن له عيب عندهم من العيوب وابن الدغنة سيد القارة إحدى قبائل العرب كان معظما عند قريش يجرون من أجاره لعظمته عندهم وفي الصحيحين أن أبا بكر لما ابتلى المسلمون خرج مهاجرا إلى أرض الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة فقال أين تريد يا أبا بكر فقال أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي فقال ابن الدغنة فإن مثلك لا يخرج ولا يخرج إنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق فأنا لك جار فارجع واعبد ربك ببلدك فرجع وارتحل معه ابن الدغنة فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج أتخرجون رجلا يكسب

8

548

المعدوم ويصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق فلم يكذب قريش بجوار ابن الدغنة وقالوا لابن الدغنة مر أبا بكر فليعبد ربه في داره فليصل فيها وليقرأ ما شاء ولا يؤذنا بذلك ولا يستعلن به فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره ثم بدا له فابتنى مسجدا بفناء داره فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه وينظرون إليه وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن وأفزع ذلك أشراف قريش فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم إليهم فقالوا إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره فجاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره فأعلن بالصلاة والقراءة فيه وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا فانهه فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل وإن أبى إلا أن يعلن بذلك فسله أن يرد إليك ذمتك فإنا قد كرهنا أن نخفرك ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان قالت عائشة فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال قد علمت الذي عاقدت لك عليه فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترجع إلى ذمتي فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له فقال أبو بكر فإني أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله وذكر الحديث

8

549

فقد وصفه ابن الدغنة بحضرة أشراف قريش بمثل ما وصفت به خديجة النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه الوحي وقال لها لقد خشيت على عقلي فقالت له كلا والله لن يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتقرى الضيف وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق فهذه صفة النبي صلى الله عليه وسلم أفضل النبيين وصديقه أفضل الصديقين وفي الصحيحين عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر وقال إن عبدا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عنده فبكى أبو بكر وقال فديناك بآبائنا وأمهاتنا فكان النبي صلى الله عليه وسلم هو المخير وكان أبو بكر أعلمنا به فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تبك يا أبا بكر إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر وفي الصحيحين عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذا بطرف ثوبه وذكر الحديث إلى أن قال فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله بعثني

8

550

إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدقت وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركو لي صاحبي مرتين وروى البخاري عن ابن عباس قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه عاصبا رأسه بخرقة فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال ما من الناس أحدا من علي في ماله ونفسه من أبي بكر بن أبي قحافة ولو كنت متخذا خليلا فذكر تمامه وروى أحمد عن أبي معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر فبكى وقال وهل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله وروى الزهري عن سعيد بن المسيب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مال رجل من المسلمين أنفع لي من مال أبي بكر ومنه أعتق بلالا وكان يقضي في مال أبي بكر كما يقضي الرجل في مال نفسه

8

551

فصل وقوله كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة غنيا بمال خديجة ولم يحتج إلى الحرب والجواب أن إنفاق إبي بكر لم يكن نفقة على النبي صلى الله عليه وسلم في طعامه وكسوته فإن الله قد أغنى رسوله عن مال الخلق أجمعين بل كان معونة له على إقامة الإيمان فكان إنفاقه فيما يحبه الله ورسوله لا نفقة على نفس الرسول فاشترى المعذبين مثل بلال وعامر بن فهيرة وزنيرة وجماعة فصل وقوله وبعد الهجرة لم يكن لأبي بكر شيء ألبتة فهذا كذب ظاهر بل كان يعين النبي صلى الله عليه وسلم بماله وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة فجاء بماله كله وأصحاب الصفة كانوا فقراء فحث النبي صلى الله عليه وسلم على

8

552

طعمتهم فذهب بثلاثة كما في الصحيحين عن عبد الرحمن بن أبي بكر قال إن أصحاب الصفة كانوا ناسا فقراء وإن النبي صلى الله عليه وسلم قال مرة من كان طعام اثنين فليذهب بثالث ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس وسادس أو كما قال وإن أبا بكر جاء بثلاثة وانطلق نبي الله صلى الله عليه وسلم بعشرة وذكر الحديث وروى زيد بن أسلم عن أبيه قال قال عمر أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق ووافق ذلك مالا عندي فقلت اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما فجئت بنصف مالي فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما أبقيت لأهلك فقلت مثله قال وأتى أبو بكر بكل مال عنده فقال يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك فقال أبقيت لهم الله ورسوله فقلت لا أسابقك إلى شيء أبدا رواه أبو داود والترمذي وقال حديث صحيح

8

553

فصل وأما قوله ثم لو أنفق لوجب أن ينزل فيه قرآن كما أنزل في علي هل أتى سورة الإنسان والجواب أما نزول هل أتى في علي فمما اتفق أهل العلم بالحديث على أنه كذب موضوع وإنما يذكره من المفسرين من جرت عادته بذكر أشياء من الموضوعات والدليل الظاهر على أنه كذب أن سورة هل أتى مكية باتفاق الناس نزلت قبل الهجرة وقبل أن يتزوج علي بفاطمة ويولد الحسن والحسين وقد بسط الكلام على هذه القضية في غير موضع ولم ينزل قط قرآن في إنفاق علي بخصوصه لأنه لم يكن له مال بل كان قبل الهجرة في عيال النبي صلى الله عليه وسلم وبعد الهجرة كان أحيانا يؤجر نفسه كل دلو بتمرة ولما تزوج بفاطمة لم يكن له مهر إلا درعه وإنما أنفق على العرس ما حصل له من غزوة بدر

8

554

وفي الصحيحين عن علي رضي الله عنه قال كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر وأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم شارفا من الخمس فلما أردت أن أبتنى بفاطمة واعدت رجلا صواغا من بني قينقاع يرتحل معي فنأتي بإذخر أردت أن أبيعه من الصواغين فأستعين به في وليمة عرسي فبينا أنا أجمع لشارفي متاعا من الأقتاب والغرائر والحبال وشارفاى مناخان إلى جانب بيت رجل من الأنصار قال وحمزة يشرب في ذلك البيت وقينة تغنيه فقالت ألا يا حمز للشرف النواء

8

555

فثار إليها حمزة فاجتب أسنمتها وبقر خواصرها وذكر الحديث في البخاري وذلك قبل تحريم الخمر وأما الصديق رضي الله عنه فكل آية نزلت في مدح المنفقين في سبيل الله فهو أول المرادين بها من الأمة مثل قوله تعالى لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا سورة الحديد وأبو بكر أفضل هؤلاء وأولهم وكذلك قوله الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم سورة التوبة وقوله وسيجنبها الأتقى الذي يؤتى ماله يتزكى سورة الليل فذكر المفسرون مثل ابن جرير الطبري وعبد الرحمن بن أبي حاتم وغيرهما بالأسانيد عن عروة بن الزبير وعبد الله بن الزبير وسعيد ابن المسيب وغيرهم أنها نزلت في أبي بكر

8

556

فصل قال الرافضي وأما تقديمه في الصلاة فخطأ لأن بلالا لما أذن بالصلاة أمرت عائشة أن يقدم أبا بكر فلما أفاق رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع التكبير فقال من يصلي بالناس فقالوا أبو بكر فقال أخرجوني فخرج بين علي والعباس فنحاه عن القبلة وعزله عن الصلاة وتولى الصلاة والجواب أن هذا من الكذب المعلوم عند جمع أهل العلم بالحديث ويقال له أولا من ذكر ما نقلته بإسناد يوثق به وهل هذا

8

557

إلا في كتب من نقله مرسلا من الرافضة الذين هم من أكذب الناس وأجهلهم بأحوال الرسول مثل المفيد بن النعمان والكراجكي وأمثالهما من الذين هم من أبعد الناس عن معرفة حال الرسول وأقواله وأعماله ويقال ثانيا هذا كلام جاهل يظن أن أبا بكر لم يصل بهم إلا صلاة واحدة وأهل العلم يعلمون أنه لم يزل يصلي بهم حتى مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بإذنه واستخلافه له في الصلاة بعد أن راجعته عائشة وحفصة في ذلك وصلى بهم أياما متعددة وكان قد استخلفه في الصلاة قبل ذلك لما ذهب إلى بني عمرو ابن عوف ليصلح بيهم ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف في غيبته على الصلاة في غير سفر في حال غيبته وفي مرضه إلا أبا بكر ولكن عبد الرحمن بن عوف صلى بالمسلمين مرة صلاة الفجر في السفر عام تبوك لأن النبي بعد أن راجعته صلى الله عليه وسلم كان قد ذهب ليقضي حاجته فتأخر وقدم المسلمون عبد الرحمن ابن عوف فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم ومعه المغيرة ابن شعبة وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد توضأ ومسح على خفيه فأدرك معه ركعة وقضى ركعة وأعجبه ما فعلوه من صلاتهم

8

558

لما تأخر فهذا إقرار منه على تقديم عبد الرحمن وكان إذا سافر عن المدينة استخلف من يستخلفه يصلي بالمسلمين كما استخلف ابن أم مكتوم تارة وعليا تارة في الصلاة واستخلف غيرهما تارة فأما في حال غيبته ومرضه فلم يستخلف إلا أبا بكر لا عليا ولا غيره واستخلافه للصديق في الصلاة متواتر ثابت في الصحاح والسنن والمساند من غير وجه كما أخرج البخاري ومسلم وابن خزيمة وابن حبان وغيرهم من أهل الصحيح عن أبي موسى الأشعري قال مرض النبي صلى الله عليه وسلم فاشتد مرضه فقال مروا أبا بكر فليصل بالناس فقالت عائشة يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق متى يقم مقامك لا يستطيع أن يصلي بالناس فقال مري أبا بكر فليصل بالناس فإنكن صواحب يوسف فصلى بهم أبو بكر في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر البخاري فيه مراجعة عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات

8

559

وهذا الذي فيه من أن أبا بكر صلى بهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه إلى أن مات مما اتفق عليه العلماء بالنقل فإن النبي صلى الله عليه وسلم مرض أياما متعددة حتى قبضه الله إليه وفي تلك الأيام لم يكن يصلي بهم إلا أبو بكر وحجرته إلى جانب المسجد فيمتنع والحال هذه أن يكون قد أمر غيره بالصلاة فصلى أبو بكر بغير أمره تلك المدة ولا مراجعة أحد في ذلك والعباس وعلي وغيرهما كانوا يدخلون عليه بيته وقد خرج بينهما في بعض تلك الأيام وقد روى أن ابتداء مرضه كان يوم الخميس وتوفي بلا خلاف يوم الإثنين من الأسبوع الثاني فكان مدة مرضه فيما قيل اثنى عشر يوما وفي الصحيح عن عبيد الله بن عبد الله قال دخلت على عائشة فقلت لها ألا تحدثيني عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت بلى ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أصلى الناس قلنا لا وهم ينتظرونك يا رسول الله قال ضعوا لي ماء في المخضب ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمى عليه ثم أفاق فقال أصلى الناس فقلنا لا وهم ينتظرونك يا رسول الله قالت والناس عكوف في المسجد ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة قالت فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر يصلي بالناس فأتاه الرسول فقال إن رسول الله صلى الله

8

560

عليه وسلم يأمرك أن تصلي بالناس فقال أبو بكر وكان رجلا رقيقا يا عمر صلي بالناس فقال عمر أنت أحق بذلك قالت فصلى بهم أبو بكر رضي الله عنه تلك الأيام ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد من نفسه خفة فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر وأبو بكر يصلي بالناس فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يتأخر وقال لهما أجلساني إلى جنبه فأجلساه إلى جنب أبي بكر فكان أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد قال عبيد الله فدخلت على ابن عباس فقلت ألا أعرض عليك ما حدثتني به عائشة عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هات فعرضت عليه حديثها فما أنكر منه شيئا غير أنه قال أسمت لك الرجل الذي كان مع العباس قلت لا هو علي بن أبي طالب

8

561

فهذا الحديث الذي اتفقت فيه عائشة وابن عباس كلاهما يخبران بمرض النبي صلى الله عليه وسلم واستخلاف أبي بكر في الصلاة وأنه صلى بالناس قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم أياما وأنه لما خرج لصلاة الظهر أمره أن لا يتأخر بل يقيم مكانه وجلس النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنبه والناس يصلون بصلاة أبي بكر وأبو بكر يصلي بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والعلماء كلهم متفقون على تصديق هذا الحديث وتلقيه بالقبول وتفقهوا في مسائل فيه منها صلاة النبي صلى الله عليه وسلم قاعدا وأبو بكر قائم هو والناس هل كان من خصائصه أو كان ذلك ناسخا لما استفاض عنه من قوله وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون أو يجمع بين الأمرين ويحمل ذلك على ما إذا أبتدأ الصلاة قاعدا وهذا على ما إذا حصل القعود في أثنائها على ثلاثة أقوال للعلماء والأول قول مالك ومحمد بن الحسن والثاني قول أبي حنيفة والشافعي والثالث قول أحمد وحماد بن زيد والأوزاعي وغيرهما ممن يأمر المؤتمين بالقعود إذا قعد الإمام لمرض وتكلم العلماء فيما إذا استخلف الإمام الراتب خليفة ثم حضر الإمام هل يتم الصلاة بهم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه وفعله مرة أخرى

8

562

سنذكرها أم ذلك من خصائصه على قولين هما وجهان في مذهب أحمد وقد صدق ابن عباس عائشة فيما أخبرت به مع أنه كان بينهما بعض الشيء بسبب ما كان بينهما وبين علي ولذلك لم تسمه وابن عباس يميل إلى على ولايتهم عليه ومع هذا فقط صدقها في جميع ما قالت وسمى الرجل الآخر عليا فلم يكذبها ولم يخطئها في شيء مما روته وفي الصحيحين عن عائشة قالت لقد راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك وما حملني على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلا قام مقامه أبدا وإلا اني كنت أرى أنه لن يقوم مقامه أحد إلا تشاءم الناس به فأردت أن يعدل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر قال البخاري ورواه ابن عمر وأبو موسى وابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي الصحيحين عنها قالت لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بلال يؤذنه بالصلاة فقال مروا أبا بكر فليصل بالناس قالت فقلت يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى يقوم مقامك لا

8

563

يسمع الناس فلو أمرت عمر فقال مروا أبا بكر فليصل بالناس قالت فقلت لحفصة قولي له إن إبا بكر رجل أسيف وإنه متى يقوم مقامك لا يسمع الناس فلو أمرت عمر فقالت له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكن لأنتن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصل بالناس قالت فأمروا أبا بكر أن يصلي بالناس وفي رواية البخاري ففعلت حفصة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مه إنكن لأنتن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصل بالناس فقالت حفصة لعائشة ما كنت لأصيب منك خيرا ففي هذا أنها راجعته وأمرت حفصة بمراجعته وأن النبي صلى الله عليه وسلم لامهن على هذه المراودة وجعلها من المراودة على الباطل كمراودة صواحب يوسف ليوسف

8

564

فدل هذا على أن تقديم غير أبي بكر في الصلاة من الباطل الذي يذم من يراود عليه كما ذم النسوة على مراودة يوسف هذا مع أن أبا بكر قد قال لعمر يصلي فلم يتقدم عمر وقال أنت أحق بذلك فكان في هذا اعتراف عمر له أنه أحق بذلك منه كما اعترف له بأنه أحق بالخلافة منه ومن سائر الصحابة وأنه أفضلهم كما في البخاري عن عائشة لما ذكرت خطبة أبي بكر بالمدينة وقد تقدم ذلك قالت واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة فقالوا منا أمير ومنكم أمير فذهب إليهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وأبو عبيدة بن الجراح فذهب عمر يتكلم فأسكته أبو بكر وكان عمر يقول والله ما أردت بذلك إلا إني هيأت كلاما أعجبني خفت أن لا يبلغه أبو بكر ثم تكلم أبو بكر فتكلم أبلغ الناس فقال في كلامه نحن الأمراء وأنتم الوزراء فقال حباب بن المنذر لا نفعل منا أمير ومنكم أمير فقال أبو بكر ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء هم أوسط العرب دارا وأعرقهم أحسابا فبايعوا عمر أو أبا عبيدة بن الجراح فقال عمر بل نبايعك أنت فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه الناس فقال قائل منهم قتلتم سعد بن عبادة فقال عمر قتله الله

8

565

ففي هذا الخبر إخبار عمر بين المهاجرين والأنصار أن أبا بكر سيد المسلمين وخيرهم وأحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك علة مبايعته فقال بل نبايعك أنت فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبين بذلك أن المأمور به تولية الأفضل وأنت أفضلنا فنبايعك كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل من أحب الرجال إليك قال أبو بكر ولما قال لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا وهذا مما يقطع أهل العلم بالحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله وإن كان من ليس له مثل علمهم لم يسمعه أو سمعه ولا يعرف أصدق هو أم كذب فلكل علم رجال يقولون به وللحروب رجال يعرفون بها وللدواوين حساب وكتاب

8

566

وهؤلاء الثلاثة هم الذين عنتهم عائشة فيما رواه مسلم عن ابن أبي مليكة قال سمعت عائشة وسئلت من كان رسول الله مستخلفا لو استخلف قالت أبو بكر فقيل لها من بعد أبي بكر قال عمر قيل لها من بعد عمر قالت أبو عبيدة بن الجراح ثم انتهت إلى هذا والمقصود هنا أن استخلافه في الصلاة كان أياما متعددة كما اتفق عليه رواية الصحابة ورواه أهل الصحيح من حديث أبي موسى وابن عباس وعائشة وابن عمر وأنس ورواه البخاري من حديث ابن عمر وفيه قوله مروا أبا بكر فليصل بالناس ومراجعة عائشة له في هذه القصة وذكر المراجعة مرتين وفيه قوله مروه فليصل بالناس فإنكن صواحب يوسف ولم يزل يصلي بهم باتفاق الناس حتى مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رآهم النبي صلى الله عليه وسلم يصلون خلفه آخر صلاة في حياته وهي صلاة الفجر يوم الإثنين وسر بذلك وأعجبه

8

567

كما في الصحيحين عن أنس أن أبا بكر كان يصلي بهم في وجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه حتى إذا كان يوم الإثنين وهم صفوف في الصلاة كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة فنظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف ثم تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكا قال فبهتنا ونحن في الصلاة من الفرح بخروج النبي صلى الله عليه وسلم ونكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خارج للصلاة فأشار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده أن أتموا صلاتكم قال ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرخى الستر قال فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه ذلك وفي بعض طرق البخارى قال فهم الناس أن يفتتنوا في صلاتهم فرحا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر أن ذلك كان في صلاة

8

568

الفجر وفي صحيح مسلم عن أنس قال آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كشف الستارة يوم الإثنين وذكر القصة وفي الصحيحين عن أنس قال لم يخرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا فأقيمت الصلاة فذهب أبو بكر يتقدم فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم بالحجاب فرفعه فلما وضح لنا وجه النبي صلى الله عليه وسلم ما نظرنا منظرا قط أعجب ألينا من وجهه حين وضح لنا قال فأومأ نبي الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى أبي بكر أن يتقدم وأرخى نبي الله صلى الله عليه وسلم الحجاب فلم يقدر عليه حتى مات فقد أخبر أنس أن هذه الخرجة الثانية إلى باب الحجرة كانت بعد احتباسه ثلاثا وفي تلك الثلاث كان يصلي بهم أبو بكر كما كان يصلي بهم قبل خرجته الأولى التي خرج فيها بين علي والعباس وتلك كان

8

569

يصلي قبلها أياما فكل هذا ثابت في الصحيح كأنك تراه وفي حديث أنس أنه أومأ إلى أبي بكر أن يتقدم فيصلى بهم هذه الصلاة الآخرة التي هي آخر صلاة صلاها المسلمون في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وهنا باشره بالإشارة اليه إما في الصلاة وإما قبلها وفي أول الأمر أرسل إليه رسلا فأمروه بذلك ولم تكن عائشة هي المبلغة لأمره ولا قالت لأبيها إنه أمره كما زعم هؤلاء الرافضة المفترون فقول هؤلاء الكذابين إن بلالا لما أذن أمرته عائشة أن يقدم أبا بكر كذب واضح لم تأمره عائشة أن يقدم أبا بكر ولا تأمره بشيء ولا أخذ بلال ذلك عنها بل هو الذي آذنه بالصلاة وقال النبي صلى الله عليه وسلم لكل من حضره لبلال وغيره مروا أبا بكر فليصل بالناس فلم يخص عائشة بالخطاب ولا سمع ذلك بلال منها وقوله فلما أفاق سمع التكبير فقال من يصلي بالناس فقالوا أبو فكر فقال أخرجوني فهو كذب ظاهر فإنه قد ثبت بالنصوص المستفيضة التي اتفق أهل العلم بالحديث على صحتها أن أبا بكر صلى بهم أياما قبل خروجه كما صلى بهم أياما بعد خروجه وأنه لم يصل بهم في مرضه غيره ثم يقال من المعلوم المتواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم مرض

8

570

أياما متعددة عجز فيها عن الصلاة بالناس أياما فمن الذي كان يصلي بهم تلك الأيام غير أبي بكر ولم ينقل أحد قط لا صادق ولا كاذب أنه صلى بهم غير أبي بكر لا عمر ولا علي ولا غيرهما وقد صلوا جماعة فعلم أن المصلي بهم كان أبا بكر ومن الممتنع أن يكون الرسول لم يعلم ذلك ولم يستأذنه المسلمون فيه فإن مثل هذا ممتنع عادة وشرعا فعلم أن ذلك كان بإذنه كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة وثبت أنه روجع في ذلك وقيل له لو أمرت غير أبي بكر فلام من من راجعة وجعل ذلك من المنكر الذي أنكره لعلمه بأن المستحق لذلك هو أبو بكر لا غيره كما في الصحيحين عن عائشة قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ادعى لي أباك وأخاك حتى أكتب كتابا لأبي بكر فإني أخاف أن يتمنى متمن أو يقول قائل أنا أولى ويأبى الله ورسوله والمؤمنون إلا أبا بكر وفي البخاري عن القاسم بن محمد قال قالت عائشة وارأساه فقال النبي صلى الله عليه وسلم ذاك لو كان وأنا حي فأستغفر لك وأدعو لك فقالت عائشة واثلكتاه والله إني لأظنك تحب موتي فلو كان ذلك لظللت آخر يومك معرسا ببعض أزواجك فقال النبي صلى الله عليه وسلم وارأساه لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه وأعهد

8

571

أن يقول القائلون أو يتمنى الممتمنون ويدفع الله ويأبى المؤمنون وهذا الحديث الصحيح فيه همه بأن يكتب لأبي بكر كتابا بالخلافة لئلا يقول قائل أنا أولى ثم قال يأبي الله ذلك والمؤمنون فلما علم الرسول أن الله تعالى لا يختار إلا أبا بكر والمؤمنون لا يختارون إلا إياه اكتفى بذلك عن الكتاب فأبعد الله من لا يختار ما اختاره الله ورسوله والمؤمنون وقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مرتين في مرضه قال لعائشة ادعي لي أباك وأخاك وقال قبل ذلك لما اشتكت عائشة لقد هممت أن أكتب لأبي بكر كتابا ثم إنه عزم يوم الخميس في مرضه على الكتاب مرة أخرى كما في الصحيحين عن ابن عباس أنه قال يوم الخميس اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم الوجع فقال ائتوني بكتف أكتل لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع فقالوا ما شأنه هجر استفهموه فذهبوا يردون عليه فقال ذروني فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه فأمرهم بثلاث فقال أخرجوا اليهود من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم وسكت عن الثالثة أو قال فنسيتها

8

572

وفي رواية في الصحيحين قال وفي البيت رجال فيهم عمر فقال النبي صلى الله عليه وسلم هلموا أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده فقال بعضهم وفي رواية عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبكم كتاب الله فاختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول قربوا يكتب لكم ومنهم من يقول ما قال عمر ومنهم من يقول غير ذلك فلما أكثروا اللغط قال قوموا عني قال عبيد الله الراوي عن الزهري قال ابن عباس إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كتابه فحصل لهم شك هل قوله أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده هو مما أوجبه المرض أو هو الحق الذي يجب اتباعه وإذا حصل الشك لهم لم يحصل به المقصود فأمسك عنه وكان لرأفته بالأمة يحب أن يرفع الخلاف بينها ويدعو الله بذلك ولكن قدر الله قد مضى بأنه لا بد من الخلاف كما في الصحيح عنه أنه قال سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألته أن لا يسلط على أمتي عدوا من غيرهم

8

573

فيجتاحهم فأعطانيها وسألته أن لا يهلهكم بسنة عامة فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها ولهذا قال ابن عباس إن الرزية كل الزرية ما حال بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الكتاب فإن ذلك رزية في حق من شك في خلافة الصديق وقدح فيها إذ لو كان الكتاب الذي هم به أمضاه لكانت شبهة هذا المرتاب تزول بذلك ويقول خلافته ثبتت بالنص الصريح الجلي فلما لم يوجد هذا كان رزية في حقه من غير تفريط من الله ورسوله بل قد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين وبين الأدلة الكثيرة الدالة على أن الصديق أحق بالخلافة من غيره وأنه المقدم وليست هذه رزية في حق أهل التقوى الذين يهتدون بالقرآن وإنما كانت رزية في حق من في قلبه مرض كما كان نسخ ما نسخه الله وإنزل القرآن وانهزام المسلمين يوم احد وغير ذلك من مصائب الدنيا رزية في حق من في قلبه مرض قال تعالى فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله سورة آل عمران وإن كانت هذه الأمور في حق من هداه الله مما يزيدهم الله به علما وإيمانا

8

574

وهذا كوجود الشياطين من الجن والإنس يرفع الله به درجات أهل الإيمان بمخالفتهم ومجاهدتهم مع ما في وجودهم من الفتنة لمن أضلوه وأغووه وهذا كقوله تعالى وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا سورة المدثر وقوله وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه سورة البقرة وقول موسى إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء سورة الأعراف وقوله إنا مرسلو الناقة فتنة لهم سورة القمر وقوله وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم سورة الحج

8

575

فصل وقد تقدم التنبيه على أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد الأمة إلى خلافة الصديق ودلهم علها وبين لهم أنه أحق بها من غيره مثل ما أخرجاه في الصحيحين عن جبير بن مطعم أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فأمرها أن ترجع إليه فقالت يا رسول الله أرأيت إن جئت فلم أجدك كأنها تعني الموت قال فإن لم تجديني فأتي أبا بكر والرسول علم أن الله لا يختار غيره والمؤمنون لا يختارون غيره ولذلك قال يأبي الله والمؤمنون إلا أبا بكر فكان فيما دلهم به من الدلائل الشرعية وما علم بأن الله سيقدره من الخير الموافق لأمره ورضاه ما يحصل به تمام الحكمة في خلقه وأمره قدرا وشرعا وقد ذكرنا أن ما اختاره الله كان أفضل في حق الأمة من وجوه وأنهم إذا ولوا بعلمهم واختيارهم من علموا أنه الأحق بالولاية عند الله ورسوله كان في ذلك من المصالح الشرعية ما لا يحصل بدون ذلك وبيان الأحكام يحصل تارة بالنص الجلي المؤكده وتارة بالنص

8

576

الجلي المجرد وتارة بالنص الذي قد يعرض لبعض الناس فيه شبهة بحسب مشيئة الله وحكمته وذلك كله داخل في البلاغ المبين فإنه من ليس شرط البلاغ المبين أن لا يشكل على أحد فإن هذا لا ينضبط وأذهان الناس وأهواؤهم متفاوتة تفاوتا عظيما وفيهم من يبلغه العلم وفيهم من لا يبلغه إما لتفريطه وإما لعجزه وإنما على الرسول البلاغ المبين البيان الممكن وهذا ولله الحمد قد حصل منه صلى الله عليه وسلم فإنه بلغ البلاغ المبين وترك الأمة على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك وما ترك من شئ يقرب إلى الجنة إلا أمر الخلق به ولا من شئ يقربهم من النار إلا نهاهم عنه فجزاه الله عن أمته أفضل ما جزى نبيا عن أمته وأيضا فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر بالصلاة بالناس إذا غاب وإقراره إذا حضر قد كان في صحته قبل هذه المرة كما في الصحيحين عن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم فحانت الصلاة فجاء المؤذن إلى أبي بكر فقال أتصلي بالناس فأقيم قال نعم فصلى أبو بكر فجاء النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة فتخلص حتى وقف في الصلاة فصفق الناس وكان أبو بكر لا يلتفت في الصلاة فلما أكثر الناس من التصفيق التفت فرأى رسول الله صلى الله

8

577

عليه وسلم فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امكث مكانك فرفع أبو بكر يديه فحمد الله على ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بهم ثم انصرف فقال يا أبا بكر ما منعك أن تثبت إذ أمرتك فقال أبو بكر ما كان لأبن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مالي أراكم أكثرتم التصفيق من نابه شيء في صلاته فليسبح فإنه إذا سبح التفت إليه وإنما التصفيق للنساء وفي رواية فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرق الصفوف حتى قام عند الصف المقدم وفيها أن أبا بكر رجع القهقرى وفي رواية للبخاري فجاء بلال إلى أبي بكر فقال يا أبا بكر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حبس وقد حانت الصلاة فهل لك أن تؤم الناس فقال نعم إن شئت وفي رواية أيها الناس مالكم حين نابكم شيء في صلاتكم أخذتم في التصفيق إنما التصفيق للنساء من نابه شيء في صلاته فليقل سبحان الله فإنه لا يسمعه أحد يقول سبحان الله إلا التفت يا أبا بكر ما منعك أن تصلي بالناس حين أشرت إليك وفي رواية أن تلك الصلاة كانت صلاة العصر وأن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف بعد ما صلى الظهر وفيه فلما أوما إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن أمضه وأومأ بيده هكذا فلبث أبو بكر هنيهة يحمد الله على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مشى القهقري

8

578

وفي رواية أن أهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بالحجارة فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اذهبوا بنا نصلح بينهم وفي رواية فحضرت الصلاة ولم يأت النبي صلى الله عليه وسلم فأذن بالصلاة ولم يأت النبي صلى الله عليه وسلم فهذا الحديث من أصح حديث على وجه الأرض وهو مما اتفق أهل العلم بالحديث على صحته وتلقيه بالقبول وفيه أن أبا بكر أمهم في مغيب النبي صلى الله عليه وسلم لما حضرت صلاة العصر وهي الوسطى التي أمروا بالمحافظة عليها خصوصا وقد علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مشغولا ذهب إلى قباء ليصلح بين أهل قباء لما اقتتلوا وقد علموا من سنته أنه يأمرهم في مثل هذه الحال أن يقدموا أحدهم كما قدموا عبد الرحمن بن عوف في غزوة تبوك لصلاة الفجر لما أبطأ النبي صلى الله عليه وسلم حين ذهب هو والمغيرة لقضاء حاجته وكان عليه جبة من صوف وبلال هو المؤذن الذي هو أعلم بذلك من غيره فسأل أبا بكر أن يصلي بهم فصلى بهم لا سيما وقد أمرهم بتقديمه

8

579

ففي الصحيحين عن سهل بن سعد قال كان قتال بين بني عمرو بن عوف فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم ليصلح بينه بعد الظهر فقال لبلال إن حضرت الصلاة ولم آتك فمر أبا بكر فليصل بالناس وذكر الحديث ثم لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى إبا بكر أن يتم بهم الصلاة فسلك أبو بكر مسلك الأدب معه وعلم أن أمره أمر إكرام لا أمر إلزام فتأخر تأدبا معه لا معصية لأمره فإذا كان هو صلى الله عليه وسلم يقره في حال صحته وحضوره على إتمام الصلاة بالمسلمين التي شرع فيها ويصلي خلفه صلى الله عليه وسلم كما صلى الفجر خلف عبد الرحمن بن عوف في غزوة تبوك صلى إحدى الركعتين وقضى الأخرى فكيف يظن به أنه في مرضه وإذنه له في الصلاة بالناس حتى يخرج ليمنعه من إمامته بالناس فهذا ونحوه مما يبين أن حال الصديق عند الله وعند رسوله والمؤمنين في غاية المخالفة لما هي عند هؤلاء الرافضة المفترين الكذابين الذين هم ردء المنافقين وإخوان المرتدين والكافرين الذين يوالون أعداء الله ويعادون أولياءه ولا ريب أن أبا بكر وأعوانه وهم أشد الأمة جهادا لللكفار والمنافقين والمرتدين وهم الذين قال الله فيهم فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء سورة المائدة فأعوانه وأولياؤه خير الأمة وأفضلها وهذا أمر معلوم في السلف

8

580

والخلف فخيار المهاجرين والأنصار الذين كانوا يقدمونه في المحبة على غيره ويرعون حقه ويدفعون عنه من يؤذيه مثال ذلك أن أمراء الأنصار اثنان سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وسعد بن معاذ أفضلهما ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اهتز لموت سعد عرش الرحمن فرحا بقدوم روحه وحمله النبي صلى الله عليه وسلم على كاهله ولما حكم في بني قريظة بحكم لم تأخذه في الله لومة لائم قال له النبي صلى الله عليه وسلم لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات وقد عرف أنه وابن عمه أسيد بن حضير كانا من أعظم أنصار أبي بكر وابنته على أهل الإفك ولما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح كان أبو بكر رأس المهاجرين عن يمينه وأسيد بن حضير رأس الأنصار عن يساره فإن سعد بن معاذ كان قد توفي عقب الخندق بعد حكمه في بني قريظة وقال أسيد بن حضير لما نزلت آية التيمم ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر ما نزل ما تكرهينه إلا جعل الله لك فيه فرجا وجعل المسلمين فيه بركة

8

581

وعمر وأبو عبيدة وأمثالهما من خيار المهاجرين وكانا من أعظم أعوان الصديق وهؤلاء أفضل من سعد بن عبادة الذي تخلف عن بيعته وعن القيام على أهل الإفك وعزله عن الإمارة يوم فتح مكة وقد روي أن الجن قتله وإن كان مع ذلك من السابقين الأولين من أهل الجنة وكذلك عمر وعثمان أفضل من علي فإنه لم يكن له في قصة الإفك من نصرة الصديق وفي خلافة أبي بكر من القيام بطاعة الله ورسوله ومعاونته أبو بكر ما كان لغيره والله حكم عدل يجزي الناس بقدر أعمالهم وقد فضل الله النبيين بعضهم على بعض وفضل الرسل على غيرهم وأولو العزم أفضل من سائر الرسل وكذلك فضل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار على غيرهم وكلهم أولياء الله وكلهم في الجنة وقد رفع الله درجات بعضهم على بعض فكل من كان إلى الصديق أقرب من المهاجرين والأنصار كان أفضل فما زال خيار المسلمين مع الصديق قديما وحديثا وذلك لكمال نفسه وإيمانه وكان رضي الله عنه من أعظم المسلمين رعاية لحق قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته فإن كمال محبته للنبي صلى الله عليه وسلم أوجب سراية الحب لأهل بيته إذا كان رعاية

8

582

أهل بيته مما أمر الله ورسوله به وكان الصديق رضي الله عنه يقول ارقبوا محمدا في آل بيته رواه عنه البخاري وقال والله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي