صلح الحديبية
صلح الحديبية
مجمل القصة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج في السنة السادسة للهجرة يريد العمرة ولكن قريشاً طلبوا منه أن يرجع في هذه المرة على أن يتركوا له مكة في العام القادم ثلاثة أيام، وقد اشترطوا عليه شروطاً قاسية قبلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن بعض الصحابة لم يعجبهم هذا التصرف من النبي وعارضوه، منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي قال: ألست نبي الله حقاً؟ قال: بلى، قال عمر: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قال : فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً؟ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري، قال عمر: أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام؟ قال عمر: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به.
ولما فرغ رسول الله من كتاب الصلح قال لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا.ولم يمتثل لأمره منهم أحد، حتى نحر بدنة بيده، ودعا حالقه فحلق رأسه، فلما رأى أصحابه ذلك قاموا فنحروا وحلقوا.
قالوا: لا أعجب من تصرف هؤلاء الصحابة تجاه نبيهم، وهل يقبل عاقل قول القائلين بأن الصحابة كانوا يمتثلون أوامر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وينفذونها، فهذه الحادثة تكذبهم وقد قال تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً) [النساء : 65].
ردود العلماء على هذه الشبهة:
1- مراجعة عمر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في أمر الصلح، وكذلك تأخر الصحابة رضي الله عنهم في بداية الأمر عن النحر والحلق حتى نحر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحلق، كل هذا صحيح ثابت في الصحيحين.[1]
وعلى هذين الأمرين مدار الطعن على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا مطعن في شيء من هذا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا عمر ولا غيره من الصحابة الذين شهدوا الحديبية.
وبيان ذلك: أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان قد رأى في المنام أنه دخل مكة وطاف بالبيت فأخبر أصحابه بذلك وهو بالمدينة، فلما ساروا معه عام الحديبية لم يشك جماعة منهم أن هذه الرؤيا تتحقق هذا العام، فلما وقع أمر الصلح وفيه أن يرجعوا عامهم هذا، ثم يعودوا العام القادم شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم[2] فجعل عمر رضي الله عنه يسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويراجعه في الأمر، ليس عن شك في صدق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أو اعتراض عليه، لكن كان مستفصلاً عما كان متقرراً لديه، من أنهم سيدخلون مكة ويطوفون بالبيت. فعمر رضي الله عنه كان في هذا مجتهداً حمله على هذا شدته في الحق، وقوته في نصرة الدين، والغيرة عليه، مع ما كان قد عودهم عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المشورة وإبداء الرأي، امتثالاً لأمر الله تعالى: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ...) [آل عمران : 159]، وقد كان كثيراً ما يستشيرهم ويأخذ برأيهم في حوادث كثيرة يطول ذكرها.
يقول الفيض الكاشاني وهو من علماء الشيعة في قوله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ): في أمر الحرب وغيره، مما يصح أن يشاور فيه، استظهاراً برأيهم، وتطييباً لنفوسهم، وتمهيداً لسنة المشاورة للأمة عن النبي صلى الله عليه وسلم لا وحدة أوحش من العُجب، ولا مظاهرة أوثق من المشاورة. [3]
وفي تلك الحادثة أخذ النبي صلى الله عليه وسلم مشورة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في إرسال عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى أهل مكة للمفاوضة معهم.
فقد كان عمر رضي الله عنه يطمع أن يأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم برأيه في مناجزة قريش وقتالهم، ولهذا راجعه في ذلك، وراجع أبا بكر، فلما رأى اتفاقهما أمسك عن ذلك وترك رأيه، فعذره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما يعلم من حسن نيته وصدقه.
وإن مثل تلك المشاورة قد وقعت بين علي رضي الله عنه وشيعته، من أمثال حجر بن عدي في معركة صفين، حينما نهى علي رضي الله عنه جيشه عن لعن وسب معاوية رضي الله عنه وجيشه، وناقشه في هذه القضية حجر وغيره، ومع ذلك لم يطعن علي رضي الله عنه أو من جاء بعده على حجر بن عدي بسبب معارضته لأمر علي رضي الله عنه.
فعن عبد الله بن شريك قال : خرج حجر بن عدي ، وعمرو بن الحمق ، يظهران البراءة واللعن من أهل الشام ، فأرسل إليهما على : أن كفا عما يبلغني عنكما فأتياه فقالا : يا أمير المؤمنين ، ألسنا محقين ؟ قال : بلى . [ قالا : أو ليسوا مبطلين ؟ قال : بلى ] . قالا : فلم منعتنا من شتمهم ؟ قال : " كرهت لكم أن تكونوا لعانين شتامين ، تشتمون وتتبرؤون.[4]
وقد حصل معه رضي الله عنه لأمر النبي صلى الله عليه وسلم مثلما حصل في غزوة تبوك، حينما طلب منه النبي أن يمكث بالمدينة، كحال بعض الصحابة من أهل الأعذار، كابن أم مكتوم وغيره لأسباب معينة رآها النبي صلى الله عليه وسلم لكنه خرج ولحق بالنبي محاولاً أن يثنيه عن قراره ويأخذه معه للمعركة.
فعن سعد أن علياً عليه السلام خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى جاء ثنية الوداع وهويبكي ويقول: تخلفني مع الخوالف؟ فقال: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا النبوة؟.[5]
والرد على كل هذه التقولات على علي رضي الله عنه هو من مثل ما بيناه في حق عمر رضي الله عنه .. فالحق واحد، وإن تعددت صور الافتراءات.
2- أما توقف الصحابة رضي الله عنهم عن النحر والحلق حتى نحر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحلق، فليس معصية لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ذكر العلماء له عدة توجيهات كقولهم: كأنهم توقفوا لاحتمال أن يكون الأمر بذلك للندب، أو لرجاء نزول وحي بإبطال الصلح المذكور، أو تخصيصه بالإذن بدخولهم مكة ذلك العام لإتمام نسكهم، وسوّغ لهم ذلك لأنه كان زمان وقوع النسخ، أو أخروا الامتثال لاعتقادهم أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور، ويحتمل مجموع هذه الأمور لمجموعهم.[6]
وجاء في بعض الروايات أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لما رأى عدم امتثالهم، دخل على أم سلمة فذكر لها ذلك فقالت: يا رسول الله لا تكلمهم فإنهم قد دخلهم أمر عظيم مما أدخلت على نفسك من المشقة في أمر الصلح ورجوعهم بغير فتح[7]. فأشارت عليه كما جاء في رواية البخاري: أن اخرج ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا.[8]
قال ابن حجر رحمه الله: ويحتمل أنها فهمت عن الصحابة رضي الله عنهم أنه احتمل عندهم أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرهم بالتحلل أخذاً بالرخصة في حقهم، وأنه يستمر على الإحرام أخذاً بالعزيمة في حق نفسه، فأشارت عليه أن يتحلل لينتفي عنهم هذا الاحتمال، وعرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم صواب ما أشارت به ففعله ... ونظير هذا ما وقع لهم في غزوة الفتح من أمره لهم بالفطر في رمضان، فلما استمروا على الامتناع، تناول القدح فشرب، فلما رأوه شرب شربوا.[9] وهكذا لما رأوه قد تحلل أيقنوا أن هذا هو الأفضل في حقهم، فبادروا إليه.
3- ما بدر من الصحابة رضي الله عنهم يوم الحديبية كان بحضور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد كان الوحي ينزل عليه، فهل ذمهم الله بذلك؟ فإن الله لا يقر على باطل. وهل أنكر عليهم رسوله صلى الله عليه وآله وسلم؟
4- أن الله عزوجل قال في سورة الفتح التي أنزلها على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بعد رجوعه من الحديبية في طريقه إلى المدينة[10]:(لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) [الفتح :18-19]. وكان عدد أهل الحديبية الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم تحت الشجرة ألفاً وأربعمائة رجلٍ، كما ذكر جابر رضي الله عنه.[11]
وفي صحيح مسلم أن أم بشر سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا يدخل النار -إن شاء الله- من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها.[12]
فثبت بصريح الكتاب والسنة أن الله رضي عنهم، وأنزل السكينة في قلوبهم، وشهد لهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالجنة، والنجاة من النار، فالطعن فيهم بعد هذا تكذيب صريح لما دلت عليه النصوص، ورد على الله ورسوله، ولهذا لم يتوقف العلماء في تكفير من كفّر، أو فسق عامة الصحابة لمناقضته لصريح الكتاب والسنة.
5- ثبت في الصحيحين من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كتب علي بن أبي طالب رضي الله عنه الصلح بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين المشركين يوم الحديبية، فكتب: هذا ما كاتب عليه محمد رسول الله، فقالوا: لا تكتب رسول الله فلو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: امحه، فقال: ما أنا بالذي أمحاه، فمحاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيده.[13] وفي بعض الرويات أن علياً قال: والله لا أمحاه أبداً.[14]
فما ثبت عن علي رضي الله عنه هنا نظير ما ثبت عن عمر رضي الله عنه في مراجعته رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أمر الصلح، فإذا لم يكن في هذا مطعن على علي رضي الله عنه وهو الحق، لم يكن فيما ثبت عن عمر رضي الله عنه، فإن قيل: إنما منعه من محو كلمة (رسول الله) محبته لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتعظيمه، قلنا: وإنما حمل عمر على ما فعل نصرته لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإعزاز دينه.
[1] صحيح البخاري مع فتح الباري: كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد.. 5/329، 2731، 2732، وكتاب الجزية 6/281، 3182، وصحيح مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبية 3/1411، 1785، ومسند أحمد 3/486
[2] تاريخ الطبري 2/635، والبداية والنهاية لابن كثير 4/170
[3] التفسير الأصفى، للفيض الكاشاني، 1/179، التفسير الصافي، له أيضاً، 1/398
[4] وقعة صفين، لابن مزاحم المنقري، ١٠٣
[5] فضائل أهل البيت من كتاب فضائل الصحابة، لأحمد بن حنبل، ٩٤
[6] فتح الباري 5/347
[7] ذكره ابن حجر في فتح الباري 5/347
[8] صحيح البخاري رقم 2734
[9] فتح الباري 5/347
[10] انظر تفسير ابن كثير 4/182
[11] رواه مسلم برقم 1856
[12] رواه مسلم برقم 2496
[13] رواه البخاري برقم 2698، ومسلم برقم 1783
[14] رواه البخاري برقم 3184