Difa e Islam | الدفاع عن الإسلام | دفاع الإسلام |
تغيير اللغة:

البداء

البداء

     البداء في اللغة: الظهور، كما يُقال: بدا له سور المدينة، ويأتي بمعنى العلم بالشيء بعد أن لم يكن حاصلًا، ويُقال أيضًا: بدا له رأي؛ أي: نشأ له رأي جديد.
     ففي القاموس "بدا" وبَدوا، وبُدوا، وبَداءَة: ظهر، وبدا له في الأمر بَدوا وبَدَاء وبداة: نشأ له فيه رأي، فالبداء في اللغة ـ كما جاء في القاموس ـ له معنيان:
     الأول: الظهور والانكشاف، والثاني: نشأة الرأي الجديد، وكلا المعنيين ورد في القرآن.
فمن الأول قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284].
ومن الثاني قوله سبحانه: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف: 35].
    
     البداء موجود في عقائد اليهود كنتيجه لنسبهم النقائص لله عزوجل. جاء في التوراة: فلما رأي الله أن شر الإنسان زاد جداً في الأرض، وأن كل ميوله وأفكار قلبه دائماً شريرة، حزن الله وتأسف في قلبه لأنه صنع الإنسان على الأرض. فقال الله : امحو الإنسان الذي خلقته من على وجه الأرض، الناس مع الحيوانات والزواحف وطيور السماء، لأني حزنت أني خلقتهم[1].
     وقد استورد الشيعة هذه العقيدة بدافع الحاجة، إذ أن من أصولههم أن الإمام يعلم الغيب، فكانت أخبار أئمتهم ترِد ببشارة قريبة، أو نصر متوقع، أو ظهور للمهدي، فيتخلف الوعد، ولا يحصل المأمول، فيعتذر الإمام بأن الله قد بدا له شيء فغير أمره، أما الإمام فقد أخبر على نحو ما كان قبل البداء.
من ذلك ما رووه عن الباقر رحمه الله قال: يا ثابت، إن الله تعالى كان وقت هذا الأمر – أي ظهور المهدي - في السبعين، فلما قتل الحسين اشتد غضب الله على أهل الأرض فأخره إلى أربعين ومائة سنة، فحدثناكم فأذعتم الحديث، وكشفتم قناع الستر فأخره الله[2].
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال : كان هذا الامر – أي المهدوية - في فأخره الله ويفعل بعد في ذريتي ما يشاء[3].
وكذلك ما جاء في قصة إسماعيل ابن جعفر الصادق الذي توفي في حياة أبيه، وقد كان أبوه عينه على أنه الإمام من بعده، فنسبوا إلى جعفر رحمه الله أنه قال : ما بد الله بداء كما بدا له في إسماعيل ابني يقول : ما ظهر لله أمر كما ظهر له في إسماعيل ابني إذ اخترمه قبلي ليعلم بذلك أنه ليس بإمام بعدي[4].
     ولم يقبل بعض الشيعة بهذا التعليل وانكروا إمامة الكاظم وهم الإسماعيلية.
     وتكررت القصة ذاتها مع الإمام الجواد، فعن أبي هاشم الجعفري قال : كنت عند أبي الحسن عليه السلام بعد ما مضى ابنه أبو جعفر وإني لافكر في نفسي أريد أن أقول : كأنهما أعني أبا جعفر وأبا محمد في هذا الوقت كأبي الحسن موسى وإسماعيل ابني جعفر ابن محمد عليهم السلام وإن قصتهما كقصتهما ، إذ كان أبو محمد المرجى بعد أبي جعفر عليه السلام فأقبل علي أبو الحسن قبل أن أنطق فقال : نعم يا أبا هاشم بدا لله في أبي محمد بعد أبي جعفر ما لم يكن يعرف له ، كما بدا له في موسى بعد مضي إسماعيل[5].
     يقول شيخ الطائفة الشيعة الطوسي في أمثال هذه الأخبار : فالوجه في هذه الأخبار أن نقول - إن صحت - إنه لا يمتنع أن يكون الله تعالى قد وقت هذا الامر في الأوقات التي ذكرت ، فلما تجدد ما تجدد تغيرت المصلحة واقتضت تأخيره إلى وقت آخر ، وكذلك فيما بعد ، ويكون الوقت الأول ، وكل وقت يجوز أن يؤخر مشروطا ، بأن لا يتجدد ما يقتضي المصلحة تأخيره إلى أن يجئ الوقت الذي لا يغيره شئ فيكون محتوما . وعلى هذا يتأول ما روي في تأخير الاعمار عن أوقاتها والزيادة فيها عند الدعاء والصدقات وصلة الأرحام، وما روي في تنقيص الاعمار عن أوقاتها إلى ما قبله عند فعل الظلم وقطع الرحم وغير ذلك ، وهو تعالى وإن كان عالما بالامرين ، فلا يمتنع أن يكون أحدهما معلوما بشرط والآخر بلا شرط ، وهذه الجملة لا خلاف فيها بين أهل العدل . وعلى هذا يتأول أيضا ما روي من أخبارنا المتضمنة للفظ البداء ويبين أن معناها النسخ على ما يريده جميع أهل العدل فيما يجوز فيه النسخ ، أو تغير شروطها إن كان طريقها الخبر عن الكائنات ، لان البداء في اللغة هو الظهور ، فلا يمتنع أن يظهر لنا من أفعال الله تعالى ما كنا نظن خلافه ، أو نعلم ولا نعلم شرطه[6].
 
 
     يقول عالم الشيعة المرتضى : يمكن حمل ذلك على حقيقته ، بأن يقال : بدا له تعالى بمعنى أنّه ظهر له من الأمر ما لم يكن ظاهرا له ، وبدا له من النّهي ما لم يكن ظاهرا له ، لأنّ قبل وجود الأمر والنّهي لا يكونان ظاهرين مدركين ، وإنّما يعلم أنّه يأمر أو ينهى في المستقبل[7].
     ويقول ابن بابويه القمي الملقب عند الشيعة بالصدوق : يجب علينا أن نقر لله عز وجل بأن له البداء ، معناه أن له أن يبدأ بشئ من خلقه فيخلقه قبل شئ ثم يعدم ذلك الشئ ويبدأ بخلق غيره ، أو يأمر بأمر ثم ينهى عن مثله أو ينهى عن شئ ثم يأمر بمثل ما نهى عنه.. فمن أقر لله عز وجل بأن له أن يفعل ما يشاء ويعدم ما يشاء ويخلق مكانه ما يشاء ، ويقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء ، ويأمر بما شاء كيف شاء فقد أقر بالبداء.. والبداء ليس من ندامة ، وإنما هو ظهور أمر[8].
    ويقول الحر العاملي : ولا يخفى أن لفظ البداء هنا مجاز أو بالنسبة إلى الخلق لا إلى الله ، لاستحالة الجهل عليه والبداء قريب من معنى النسخ إلا أنه مخصوص بأحكام القضاء والقدر والله تعالى أعلم[9].
     ويقول العاملي البياضي : للبداء معنيان : بداء ندامة وهذا على الله تعالى محال ، لأن فيه ظهور حال الشيء بعد خفائه ، وبداء خلق ، ويعتبر بحسب المصالح ، وهذا من الله جايز واقع[10].
     ويقول المحقق الطوسي في الرد على الرازي محاولاً إنكار العقيدة من أصلها : أن الشيعة لا يقولون بالبداء وإنما القول بالبداء ما كان إلا في رواية رووها عن جعفر الصادق عليه السلام أنه جعل إسماعيل القائم مقامه فظهر من إسماعيل ما لم يرتضه منه فجعل القائم موسى ، فسئل عن ذلك فقال : بدا لله في أمر إسماعيل ، وهذه رواية وعندهم أن الخبر الواحد لا يوجب علماً ولا عملاً[11].
     وقد رد المجلسي على قول الطوسي هذا مستنكراً : وأعجب منه أنه أجاب المحقق الطوسي رحمه الله في نقد المحصل عن ذلك - لعدم إحاطته كثيرا بالاخبار - : بأنهم لا يقولون بالبداء ، وإنما القول به ما كان إلا في رواية رووها عن جعفر الصادق عليه السلام أنه جعل إسماعيل القائم مقامه بعده فظهر من إسماعيل ما لم يرتضه منه فجعل القائم مقامه موسى عليه السلام ، فسئل عن ذلك فقال : بدا لله في إسماعيل ، وهذه رواية وعندهم أن خبر الواحد لا يوجب علما ولا عملا[12].
 
     أقول : لا يخفى الإضطراب البين في هذه الأقوال، والإقرار المبطن بهذه العقيدة.
 
     وفي مصادر الشيعة الكثير من الروايات تؤكد هذا المعنى للبداء، من ذلك:
     عن أبي جعفر عليه السلام في قوله : " وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة " قال : كان في العلم والتقدير ثلثين ليلة ، ثم بدا لله فزاد عشرا فتم ميقات ربه للأول والاخر أربعين ليلة[13].
     وعن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام أنهما قالا : إن الناس لما كذبوا برسول الله صلى الله عليه وآله هم الله تبارك وتعالى بهلاك أهل الأرض إلا عليا فما سواه بقوله : " فتول عنهم فما أنت بملوم " ثم بدا له فرحم المؤمنين ، ثم قال لنبيه صلى الله عليه وآله : " وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين"[14].
 
     وقد عظم الشيعة هذه العقيدة ونسبوا في ذلك روايات إلى الأئمة منها:
عن أبي عبدالله : ما عبد الله بشئ مثل البداء. عظم الله بمثل البداء.
     وعنه أيضاً عليه السلام قال : ما عظم الله عز وجل بمثل البداء[15].
     وعن مالك الجهني قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : لو علم الناس ما في القول بالبداء من الاجر ما فتروا عن الكلام فيه .
     وعن مرازم بن حكيم قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : ما تنبأ نبي قط ، حتى يقر لله بخمس خصال : بالبداء والمشيئة والسجود والعبودية والطاعة .
     وعن الريان بن الصلت قال : سمعت الرضا عليه السلام يقول ما بعث الله نبيا قط إلا بتحريم الخمر وأن يقر لله بالبداء[16].
     وغيرها.
 
     ويُنكر أهل السنة والجماعه البداء ويعتبرونه كُفرًا صريحًا حيث أنه يستلزم نسب العلم بعد جهل والعجز لله وقال بهذا عدد من اهل العلم.
     يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : معلوم أن هذا من أعظم النقائص في حق الرب فإذا قالوا مع ذلك إن الأنبياء والأئمة لا يبدو لهم خلاف ما رأوا فقد جعلوهم لا يعلمون ما لم يكونوا يعلمونه في مثل هذا وقالوا بجواز ذلك في غيره[17].
     ويقول الغزالي : ولأجل قصور فهم الروافض عنه ارتكبوا البداء ونقلوا عن علي رضي الله عنه أنه كان لا يخبر عن الغيب مخافة أن يبدو له تعالى فيه فيغيره، وحكوا عن جعفر بن محمد أنه قال: ما بدا لله شيء كما بدا له إسماعيل أي في أمره بذبحه. وهذا هو الكفر الصريح ونسبة الإله تعالى إلى الجهل والتغيير[18].
     ويقول عبد القاهر البغدادي: وتكفير هؤلاء واجب في إجازتهم على الله البداء، وقولهم بأنه يريد شيئاً ثم يبدو له، وقد زعموا أنه إذا أمر بشيء ثم نسخه فإنما نسخه لأنه بدى له فيه. وما رأينا ولا سمعنا بنوع من الكفر إلا وجدنا شعبة منه في مذهب الروافض[19].
     ويفرق أهل السنة بين البداء وبين النسخ فالبداء التغيير في الأخبار التي بعلم الغيب بينما النسخ هو التغيير بالشرائع والاحكام رحمة من الله تعالى وتدرّج في الأحكام.
 
     وحاول الشيعة الدفاع عن أنفسهم في الرد على هذا الفهم لمسألة البداء رغم وضوح مخالفته للدين، ومن ردودهم:
     قول المفيد : والأصل في البداء هو الظهور، قال تعالى في سورة الزمر: " وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ " أي ظهر لهم من أفعال الله ما لم يكن في حسابهم وتقديرهم، وقال في السورة المذكورة: " وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم " أي ظهر لهم جزاء كسبهم وبان لهم... والمتحصل من ذلك ان البداء الذي لا نقول به هو بمعنى الظهور والإبانة، ونسبته إلى الله فيما لو قلنا بدا لله كذا أي ظهر من الله ما كان خافيا على جميع مخلوقاته ولم يكن في حسابهم[20].
     ويقول الكراجكي : ان المراد من البداء ان يظهر للناس خلاف ما توهموه، وينكشف لهم في - ما كانوا يعتقدون من دوام الأمر واستمراره، وسمي هذا النوع بالبداء لمشابهته لمن يأمر بالشيء أو يخبر به ثم ينهى عنه في وقته[21].
     ويقول المازندراني : البداء بالفتح والمد في اللغة ظهور الشيء بعد الخفاء وحصول العلم به بعد الجهل واتفقت الأمة على امتناع ذلك على الله سبحانه إلاّ من لا يعتد به ومن افترى ذلك على الإمامية فقد افترى كذباً ، والإمامية منه براء[22].
     يقول شرف الدين الموسوي : إنّ اللّه قد ينقص من الرزق وقد يزيد فيه، وكذا الأجل والصحّة والمرض والسعادة والشقاء، والمحن والمصائب والإيمان والكفر وسائر الأشياء كما يقتضيه قوله تعالى: (يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ)... هذا هو البداء الذي تقول به الشيعة، تجوّزوا في إطلاق البداء عليه بعلاقة المشابهة، لأنّ اللّه عزّ وجلّ أجرى كثيراً من الأشياء التي ذكرناها على خلاف ما كان يظنّه الناس فأوقعها مخالفة لما تقتضيه الأمارات والدلائل، وكان مآل الأُمور فيها مناقضاً لأوائلها، واللّه عز ّوجلّ هو العالم بمصيرها ومصير الأشياء كلّها، وعلمه بهذا كلّه قديم أزليّ، لكن لمّا كان تقديره لمصير الأُمور يخالف تقديره لأوائلها. كان تقدير المصير أمراً يشبه «البداء» فاستعار له بعض سلفنا الصالح هذا اللّفظ مجازاً، أو كأنّ الحكمة قد اقتضت يومئذ هذا التجوّز[23].
     ويقول محمد باقر الحكيم : ليس هناك فرق اساسي بينه وبين النسخ من حيث الفكرة وانما الفرق بينهما في الموضوع الذي يقع النسخ فيه أو البداء. فالازالة والتبديل اذا وقعا في التشريع سميناه نسخًا واذا وقعا في الامور الكونية من الخلق والرزق والصحة والمرض وغيرها سميناه بداء[24].
     ولم تخرج بقية ردود علمائهم عن هذا التأويل، وهو كما ترى لا يخلو من ضعف. ولعل ما يؤكد شذوذ الشيعة في هذا الإعتقاد ومخالفتهم لما عليه بقية المسلمين، هو الإنكار الوارد في كتب قدمائهم على هذه المسألة.
     يقول النوبختي (وهو من علماء الشيعة في القرن الثالث الهجري) : قال سليمان بن جريرلاصحابه بهذا السبب ان أئمة الرافضة وضعوا لشيعتهم مقالتين لا يظهرون معهما من ائمتهم على كذب ابدا وهما القول بالبداء واجازة التقية، فاما البداء فان ائمتهم لما احلوا انفسهم من شيعتهم محل الأنبياء من رعيتها في العلم فيما كان ويكون والأخبار بما يكون في غد وقالوا لشيعتهم انه سيكون في غد وفي غابر الايام كذا وكذا فان جاء ذلك الشيء على ما قالوا، قالوا لهم: الم نعلمكم أن هذا يكون فنحن نعلم من قبل الله عزو جل ما علمته الأنبياء وبيننا وبين الله عزو جل مثل تلك الاسباب التي علمت بها الأنبياء عن الله ما علمت، وأن لم يكن ذلك الشيء الذي قالوا أنه يكون على ما قالوا قالوا لشيعتهم بدا لله في ذلك بكونه[25].
     أقول : والذي يظهر من كل ما مر أن هذه العقيدة بنسختها اليهودية كانت منتشرة ومتداولة بين الشيعة أيام الأئمة رحمهم الله وكانت تنسب إليهم كما جاء في الروايات السابقة، الأمر الذي جعل أئمة آل البيت رحمهم الله يستكرونها ويكفروا قائلها.
     فعن منصور بن حازم قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام هل يكون اليوم شيء لم يكن في علم الله بالأمس ؟ قال : لا ، من قال هذا فأخزاه الله[26].
     وعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال : من زعم أن الله يبدو له في شيء اليوم لم يعلمه أمس فابرؤوا منه[27].
     وفي هذا يقول عالم الشيعة موسى الموسوي: نؤكد مرةً أخرى إلى غربلة كل الموروثات التي ورثناها من الماضي وأدخلت في العقيدة الشيعية سواء أكانت فيها انتقاص في حق الله تعالى أو في حق رسوله أو خلفائه أو أئمة الشيعة الذين هم أئمة المسلمين أيضاً وهنا نصل أيضاً إلى نتيجة بالغة الخطورة وهي أن الذين كانوا وراء الصراع بين الشيعة والتشيع لم يتورعوا في سبيل نياتهم وأهدافهم حتى من التطاول على القدرة الإلهية وصفاته كي يحققوا أهدافاً تتناقض مع أساس العقيدة والعقل والمنطق[28].
     أقول: حقاً ما عرفوا الله حق قدره، وهو القائل : وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [الأنعام:59]. وقوله تعالى: لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى [طه:52]. وقوله تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ [الحشر:22].
 
شبهة ورد: هل قال البخاري بالبداء؟
     جاء في صحيح البخاري : عن أبي هريرة‏ أنه سمع النبي ‏صلى الله عليه وسلم ‏يقول ‏ ‏إن ثلاثة في ‏‏بني إسرائيل ‏ ‏أبرص وأقرع وأعمى بدا لله عز وجل أن يبتليهم فبعث إليهم ملكا. القصة[29].
ردود العلماء:
     يقول الحافظ ابن حجر : ‏بِتخفيف الدال المهملة بغير همز أي سبق في عِلم اللَّه فأراد إظهاره، وليس المراد أنَه ظهر له بعد أن كان خافيا لأَن ذلك محال في حق اللَّه تعالى[30].
     ومن الردود أن لفظة : " بدا لله " من تصرفِ بعضِ الرواةِ ، لأنها جاءت في روايةِ مسلم : " أَرَادَ اللَّه أَنْ يَبْتَلِيهِمْ".[31] قال ابن حجر : وقد أخْرجه مسلم عن شيبان بن فرّوخ عن همّام بهذا الإسناد بلفظ " أراد اللَّه أن يبتليهم " , فلعل التغيير فيه من الرواة[32].
     ومن الردود أن معنى لفظة : " بدا لله " أي " قضى الله". قال ابن الأثير في " النهاية " عند مادة " بدا " : وفي حديث الأقرع والأبرص والأعمى ( بدا لله عز وجل أن يبتليهم ) أي قضى بذلك ، وهو معنى البداء ها هنا ، لأن القضاء سابق . والبداء استصواب شئ علم بعد أن لم يعلم ، وذلك على الله عز وجل غير جائز[33]. وما الحافظ ابن حجر إلى هذا الرأي.
     ومن الردود أيضاً أن ضبط الكلمة بالهمز " بدأ لله" أي اِبتدأ اللَّه أن يبتليهم. كما قال صاحب المطالع والخطابي[34]. وقال السندي : قوله : فإذا بدا لله . هكذا في النسخ " بدا " من البدو ، و" لله " جار ومجرور متعلق به ، أي ظهر له تعالى . قيل : وهو خطأ ، لأنه بمعنى ظهور شيء بعد أن لم يكن وهو محال في حقه تعالى ، إلا أن يُأوَّل بمعنى أراده ، والصواب بدأ لله ، على أن بدأ ، بالهمزة ، و" الله " فاعله ، أي : شرع الله[35].
 
     بقيت مسألة وهي الفرق بين البداء والنسخ.
     يقول ابن حزم رحمه الله : الفرق بينهما لائح، وهو أن البَداء أن يأمر بالأمر، والآمِر لا يدري ما يؤول إليه الحال، والنَّسخ: هو أن يأمر بالأمر والآمِر يدري أنه سيحيله في وقت كذا، ولا بد قد سبق ذلك في علمه وحتمه من قضائه، فلما كان هذان الوجهان معنيينِ متغايرين مختلفين، وجب ضرورة أن يعلق على كل واحد منها اسمٌ يعبَّر به عنه غيرُ اسم الآخر؛ ليقع التفاهم ويلوح الحق؛ فالبَداء ليس من صفات الباري تعالى، ولسنا نعني الباء والدال والألف، وإنما نعني المعنى الذي ذكرنا من أن يأمر بالأمر لا يدري ما عاقبته، فهذا مبعد من الله عز وجل، وسواء سموه نسخًا أو بَداءً أو ما أحبوا، وأما النَّسخ فمن صفات الله تعالى من جهة أفعاله كلها، وهو القضاء بالأمر قد علم أنه سيحيله بعد مدة معلومة عنده عز وجل، كما سبق في علمه تعالى[36].
     ويقول ابن الجوزي : فأما الفرق بين النسخ والبداء ، فذلك من وجهين :
الأول : أن النسخ : تغيير عبادة أُمر بها المكلَّف ، وقد علم الآمر حين الأمر أن لتكليف المكلف به غاية ينتهي الإيجاب إليها ثم يرتفع بنسخها. والبداء : أن ينتقل الأمر عن ما أمر به وأراده دائماً بأمر حادث ، لا بعلم سابق.
والثاني : أن سبب النسخ لا يُوجب إفساد الموجب لصحة الخطاب الأول، والبداء يكون سببه دالاً على إفساد الموجب لصحة الأمر الأول ، مثل : أن يأمره بعمل يقصد به مطلوباً ، فيتبين أن المطلوب لا يحصل بذلك الفعل ، فيبدو له ما يوجب الرجوع عنه ، وكلا الأمرين يدل على قصور في العلم ، والحق عزَّ وجلَّ منزَّهٌ عن ذلك[37].
ويقول النحاس : أن النسخ تحويل العباد من شيء قد كان حلالا فحرم أو كان حراما فيحلل أو كان مطلقا فيحظر أو كان محظورا فيطلق أو كان مباحا فيمنع أو ممنوعا فيباح إرادة الاصلاح للعباد. وقد علم الله جل ثناؤه العاقبة في ذلك وعلم وقت الأمر به أنه سينسخه الى ذلك الوقت فكان المطلق على الحقيقة غير المحظور. والصلاة كانت إلى بيت المقدس إلى وقت بعينه ثم حظرت فصيرت الى الكعبة. وكذا قوله ( إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ) قد علم عز وجل أنه إلى وقت بعينه ثم ينسخه في ذلك الوقت. وكذا تحريم السبت كان في وقت بعينه على قوم ثم نسخ وأمر قوم آخرون بإباحة العمل فيه. وكان الأول المنسوخ حكمة وصوابا ثم نسخ وأزيل بحكمة وصواب كما تزال الحياة بالموت وكما تنقل الأشياء. وكذلك لم يقع النسخ في الأخبار لما فيها من الصدق والكذب. وأما البداء فهو ترك ما عزم عليه كقولك فامض الى فلان ثم تقول لا تمض إليه فيبدو لك عن القول وهذا يلحق البشر لنقصانهم. وكذا إن قلت ازرع كذا في هذه السنة ثم قلت لا تفعل فهذا البداء. وان قلت يا فلان ازرع فقد علم أنك تريد مرة واحدة وكذا النسخ اذا أمر الله عز وجل ثناؤه بشيء في وقت نبي أو في وقت يتوقع فيه نبي فقد علم أنه حكمة وصواب إلى أن ينسخ. وقد نقل من الجماعة من لا يجوز عليهم الغلط نسخ شرائع الأنبياء عليهم‌السلام من لدن آدم عليه‌السلام إلى وقت نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم الذين نقلوا علامات الأنبياء عليهم‌السلام. وقد غلط جماعة في الفرق بين النسخ والبداء كما غلطوا في تأويل الأحاديث حملوها على النسخ أو على غير معناها[38].


[1]  سفر التكوين، الفصل السادس، فقرة: 5-7

[2] الغيبة، للطوسي، 263 ، الغيبة، للنعماني، 196 ، الكافي، للكليني، 1/ 368 ، بحار الأنوار، للمجلسي، 4/ 114، 120 ، 42/ 223 ، 52/ 105

[3]  الغيبة - الشيخ الطوسي 429 ، بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 4 / 114 ، 52 / 106

[4]  التوحيد - الشيخ الصدوق 336 ، كمال الدين وتمام النعمة - الشيخ الصدوق 69 ، الفصول المختارة - الشيخ المفيد 309 ، تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد 66 ، الغيبة - الشيخ الطوسي 82 ، 201 ، الصراط المستقيم - علي بن يونس العاملي النباطي البياضي - ج 2 / 273 ، بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 4 / 109 ، 37 / 13 ، 50 / 241 ، تفسير القرآن المجيد - الشيخ المفيد 455 ، تفسير نور الثقلين - الشيخ الحويزي - ج 4 / 420

[5]  الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 / 327 ، الوافي - الفيض الكاشاني - ج 2 / 388 ، الإرشاد - الشيخ المفيد - ج 2 / 319 ، مدينة المعاجز - السيد هاشم البحراني - ج 7 / 522

[6]  الغيبة - الشيخ الطوسي 429 ، بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 4 / 114 ، النجم الثاقب - ميرزا حسين النوري الطبرسي - ج 2 / 451 ، مختصر مفيد - السيد جعفر مرتضى العاملي - ج 3 / 17

[7]  العدة في أصول الفقه، للطوسي - ج 2 / 496 ، بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 4 / 125(ه‍) ، تفسير القمي - علي بن إبراهيم القمي - ج 1 / 38(ه‍) ، مختصر مفيد - السيد جعفر مرتضى العاملي - ج 3 / 18 ، مجمع البحرين - الشيخ فخر الدين الطريحي - ج 1 / 47

[8]  التوحيد - الشيخ الصدوق 335 ، بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 4 / 109 ، مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول - العلامة المجلسي - ج 2 / 127(ش) ، نور البراهين - السيد نعمة الله الجزائري - ج 2 / 237 ، الأصول الستة عشر من الأصول الأولية - تحقيق ضياء الدين المحمودي 196(ه‍) ، زبدة الأصول - السيد محمد صادق الروحاني - ج 1 / 236

[9]  الفصول المهمة في أصول الأئمة، للحر العاملي،1/ 224

[10]  الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم، لعلي بن يونس العاملي النباطي، 1/ 49

[11]  بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 4 / 123 ، شرح أصول الكافي - مولي محمد صالح المازندراني - ج 4 / 236(ه‍)

[12]  بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 4 / 123 ، شرح أصول الكافي - مولي محمد صالح المازندراني - ج 4 / 236(ه‍)

[13]  تفسير العياشي - محمد بن مسعود العياشي - ج 1 / 44 ، بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 13 / 227 ، البرهان في تفسير القرآن - السيد هاشم البحراني - ج 1 / 217 ، تفسير الميزان - السيد الطباطبائي - ج 1 / 190 ، النور المبين في قصص الأنبياء والمرسلين - السيد نعمة الله الجزائري 274 ، مختصر مفيد - السيد جعفر مرتضى العاملي - ج 3 / 16

[14]  الكافي - الشيخ الكليني - ج 8 / 103 ، الوافي - الفيض الكاشاني - ج 2 / 190 ، مناقب آل أبي طالب - ابن شهر آشوب - ج 1 / 292 ، بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 18 / 213 ، 38 / 232

[15]  التوحيد - الشيخ الصدوق 333 ، بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 4 / 107 ، نور البراهين - السيد نعمة الله الجزائري - ج 2 / 221

[16]  أنظر هذه الروايات : الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 / 146 ، الوافي - الفيض الكاشاني - ج 1 / 507 ، شرح أصول الكافي - مولي محمد صالح المازندراني - ج 4 / 240 ، الحاشية على أصول الكافي - محمد بن حيدر النائيني 475 ، روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه - محمد تقي المجلسي ( الأول ) - ج 3 / 435 ، بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 4 / 133 ، مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول - العلامة المجلسي - ج 2 / 123 ، تفسير نور الثقلين - الشيخ الحويزي - ج 2 / 516 ، تفسير كنز الدقائق وبحر الغرائب - الشيخ محمد بن محمد رضا القمي المشهدي - ج 6 / 472 ، تهذيب الأحكام - الشيخ الطوسي - ج 9 / 102 ، وسائل الشيعة ( آل البيت ) - الحر العاملي - ج 25 / 300 ، الغيبة - الشيخ الطوسي 430

[17]  منهاج السنة النبوية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، 2/ 395

[18]  المستصفى، للغزالي، 1/ 110

[19]  الفرق بين الفرق، للبغدادي ، 357

[20]  تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد 65 ، تفسير القرآن المجيد - الشيخ المفيد 454

[21]  دراسات في الحديث والمحدثين، لهاشم معروف الحسني، 223

[22]  شرح أصول الكافي، للمولى محمد صالح المازندراني، 4/ 236

[23]  أجوبة مسائل جار الله، لعبدالحسين شرف الدين الموسوي، 100

[24]  علوم القران، لمحمد باقر الحكيم، 163

[25] فرق الشيعة، للنوبختي، 62

[26]  الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 / 148 ، بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 4 / 89

[27]  الاعتقادات في دين الإمامية - الشيخ الصدوق 41 ، كمال الدين وتمام النعمة - الشيخ الصدوق 70 ، بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 4 / 111

[28]  الشيعة والتصحيح، لموسى الموسوي، 150

[29]  رواه البخاري، 3464

[30]  فتح الباري، لإبن حجر العسقلاني، 6/ 579

[31]  مسلم، 2964

[32]  فتح الباري، لإبن حجر العسقلاني، 6/ 579

[33]  النهاية في غريب الحديث والأثر - مجد الدين ابن الأثير - ج 1 / 109 ، لسان العرب - ابن منظور - ج 14 / 66

[34]  فتح الباري، لإبن حجر العسقلاني، 6/ 579

[35]  مسند الإمام أحمد، بتخريج الأرناؤوط، 32/ 424

[36]  الإحكام في أصول الأحكام: 4 / 471.

[37]  نواسخ القرآن، لإبن الجوزي، 15

[38]  الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، لأبي جعر النحاس، 11